إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ۩ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
لعل الشارع الحكيم لم يُحرِّج ولم يُشدِّد في جريمةٍ من الجرائم بعد الشرك بالله – سبحانه وتعالى – ما حرَّج وشدَّد وثرَّب ودمدم وأنكر بخصوصِ جريمةِ القتل، أي قتل النفس المعصومة كما قال سبحانه وتعالى مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ ۩، لم يترك القرآن العظيم مساغاً لقتل النفس المعصومة سوى هذين المساغين: النفس بالنفس – القصاص أو يعفو صاحب الدم أو ولي القتيل – أو الفساد في الأرض، والفسادُ في الأرض حريٌ بأهل العلم والفقه وأهل الفهم والتأويل أن يحصروه في ما حصره فيه الله – سبحانه وتعالى – لا أن يتوسَّعوا فيه صيانةً للدماء المعصومة المصونة في أهبها، وما حصره فيه الله – سبحانه وتعالى – إليه الإشارة بل التصريح في قوله – تبارك وتعالى – في المائدة في آية الحرابة إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۩، فهذا هو السعي بالفسادِ في الأرض وهذه هى الحرابة، الذين يخرجون على المُجتمَع وعلى الأمة ويضربون بارها وفاجرها ويقطعون السبيل ويُخيفون الآمنين ويتغوَّلون الأموال وينتهبونها ويسفكون الماء المصونةَ المُحرَّمةَ المعصومة هؤلاء هم المُفسِدون في الأرض، أما النبي – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله – فقد صح عنه أنه لا لا يحل دم امريءٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث، النفس بالنفس – القصاص – والثيب الزاني والتارك لدينه المُفارِق للجماعة، وهذا يُحمَل على المُحارِب في فهمنا وفهم طائفة من العلماء، فهو يُحمَل على المُحارِب لأنه قال التارك لدينه المُفارِق للجماعة، ولذلك ورد في حديث عائشة – رضيَ الله تعالى عنها – عند النسائي أنها قالت ورجلٌ خرج مُحارِباً لله ورسوله، فهذا هو إذن، التارك لدينه المُفارِق للجماعة هو المُحارِب، أما أن يترك دينه ويقعد في حال سبيله لا يعتدي على أحد فالأرجح – هذا موضوع طويل وليس موضوع خُطبة اليوم – أنه يُترَك وما اختار لنفسه لأنه لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، ولكن الذي يرتَد ويصير مُحارِباَ هذا هو المُرتَد الذي يُقتَل وليس المُرتَد الذي يرتَد ويبقى سالماً مُسالِماً، فهذه هى المسألة، إذن تشديدٌ وتضييقٌ وتحوط في مسألة الدماء، لكنمن أسفٍ أن السادة الفقهاء لم يقفوا – وعظيمٌ أن أقول هذه الكلمة – عند حدود ما كان ينبغي أن يقفوا عنده من الكتابِ والسُنة وإنما توسَّعوا في الدماء ولذلك تاريخنا ينزف دماً، وطبعاً هذه الكلمة صادمة، وبعض الناس لا يُحِبون أن يسمعوا حتى مثل هذه الكلمات مُجرَّد السماع، ولكن سيأتيكم النبأ بالأدلة والبيّنات في تضاعيف الخُطبة بعد قليل، فهذا تاريخٌ نازف للأسف الشديد على المُستوى الطائفي وعلى المُستوى السياسي وعلى مُستوى الحكومات وعلى مُستوى الشعوب، فهو تاريخُ نازف ولا تزال هذه الأمة تنزف وهى موعودة بمزيد من شلالات الدم ومن حمامات الدم أنهاراً، لماذا؟ لأن العقلية الدينية – وأُحِب أن أكون واضحاً مع نفسي ومعكم ومع الحقائق والبيّنات – والعقلية الفقهية والعقلية المشائخية وعقلية العلماء لدينا عقلية تحتاج إلى ترميم بل تحتاج إلى إعادة تكوين بما يجعلها وفيةً لقواطع الكتاب والسُنة ومُتمشية مع حدود الله تبارك وتعالى، لكن الفقهاء توسَّعوا للأسف الشديد تحت ذريعة ماذا؟ وبإسم ماذا؟ أولاً تحت شريعة القتل بالتعزير، هذا أمر عجيب، هناك الحدود وهذه الحدود لا ينبغي لأحد أن يتعداها، ولذلك سُميت حدوداً، وأعظم ما يُوقَع من الحدود القتل، فهذا أعظم شيئ الذي لا استدراك له، وهذه العقوبة لا يُمكِن أن تُستدرَك، لأن استدراكها لا يكون إلا بإحياء الميت، وإحياء الميت مُحال على البشر، هذا في نطاق القدرة الإلهية لأن مَن مات انتهت حياته، فهذه عقوبة – أي القتل – لا استدراك لها، وهى أعظم العقوبات وقد رأينا كيف حصرها الكتاب والسُنة في أمور بأعيانها محدودة جداً، وقد يقول قائل وماذا عن البُغاة؟ القرآن لم يأمر بقتل البُغاة وإنما أمر بقتال البُغاة، وإمامنا أبو عبد الله الشافعي في الأم – رضوان الله عليه – قال وليس القتال من القتل بسبيل، فقد يأمر الله – تبارك وتعالى – بقتال أحد ولكن لا يأمر بقتله، ولذلك الإمام عليّ – عليه السلام أخذنا أو أخذت الأمة كما قال أيضاً الشافعي كيفية أو كيف سير في قتال البُغاة من هديه في قتال مَن بغى عليه – مُعاوية وأهل الشام والبُغاة عموماً – كان يأمر بأن لا يُتبَع المُولّي من البُغاة، إذا هرب يتركه، وكان لا يستبيح من أموالهم إلا ما قاتلوا به وعليه، أما سائر أموالهم فلا تُباح، وكان لا يأخذ أولادهم وذراريهم ونساءهم سبايا وأسرى، فهو لا يفعل هذا، ولذلك ليس القتال من القتل بسبيل كما قال أبو عبد الله الشافعي رضوان الله عليه، فانتبهوا لأن هذه المسألة مُختلِفة، ولذلك هذه المساغات – كما قلت – والموارد محصورةٌ جداً، لكن الفقهاء لم يُعجِبهم هذا ربما لأن السُلطة السياسية هى التي تُريد أن تتوسَّع في الدماء وأن تُعدِم مَن أطلع لها قرنه يُعارِض أو يُنقِّد عليها بنقود مُعيَّنة، فهذا قد ينتقد يا أخي لأن عنده نقود وعنده تحفظات لكن السُلطة السياسية تُريد أن تُريح منه وأن تستريح بقطع رأسه، فإذن لابد أن تبتدعوا معشر الفقهاء شيئاً جديداً فإذا نحن أمام بدعة خطيرة جداً، وخُطبة اليوم عن هذه البدعة الخطيرة، مَن تحدَّث عن البدعة فهذه هى البدعة: القتل بالتعزير، ولمَن؟ ستنظرون في أنحاء الخُطبة – إن شاء الله – كيف توسَّعوا في موارد وفي مصاديق ومناطات مَن يُقتَل تعزيراً، وعموماً للأسف المالكية هم أكثر مَن قالوا بهذا القول – يجوز القتل بالتعزير – وقال به بعض الحنابلة، وسأُفصِّل في هذا.
أما السادة الحنفية – رحمة الله على الجميع وغفر الله لنا ولهم وعفا عنهم وصفح وسامح – فنُسِبَ إليهم القتل سياسةً، لم يقولوا بالقتل بالتعزير، ممنوع عندهم أن يُقتَل بالتعزير، لأن ما هو التعزير لمَن لا يعرف – وإن شاء الله كلكم تعرفون وكلكن – طبعاً؟التعزير هى العقوبة التي لم يُحدِّدها الشارع الحكيم موكولة لنظر القاضي الذي يُسمى الحاكم – فانتبهوا إلى أن الحاكم هو القاضي، ففي اللغة الفقهية الحاكم ليس هو الـ Governor وإنما هو القاضي، ولذا معنى إذا اجتهد الحاكم أي القاضي وليس حاكم الدولة، وعلى كل حال هى موكولة لنظر الحاكم – والأصل ألا يُبلغ بالتعزير الحد، وهذا هو المشروع والمعقول، وإلا لماذا سُميَ هذا حداً وهذا غير حد؟ فالأصل ألا يُبلَغ بالتعزير الحد، ينبغي أن يكون دائماً تحت الحد – تحت أدنى الحدود – ولكن حين نبلغ به القتل يرتفع الضبط ويكثر الخبط بهذه الطريقة، وعلى كل حال هذا هو التعزير، فالحنفية لا يقولون بالقتل بالتعزير ولا الشافعية، لكن يقول به المالكية وبعض الحنابلة، وحتى لا أنسى أُحِب أن أقول أن من لطيف ما وقع بعد أن سنَّ الظاهر برقوق السُنة السيئة – السُلطان المملوكي المعروف للأسف الشديد سنَّ سُنةً سوءاً، وهى ترتيب الأئمة والقُضاة الحكّام على المذاهب الأربعة، قاضٍ مالكي وآخر حنفي وثالث شافعي ورابع حنبلي، ومن ثم فرَّق الأمة، وقد قيل إنه رُؤيَ في المنام فقيل ما فعل الله بك؟ قال عذَّبني عذاباً شديداً وقال لي بما فعلت من هذه الترتيب والتوظيف، فرَّقت أمة محمد بهذه الطائفية وبهذه المذهبية، أربعة قُضاة لماذا؟ – أن هؤلاء القُضاة على ما كان بينهم من تغاير ومن تحاسد ومن مُنافَسة شريفة وغير شريفة كانوا يُسنِدون في مسائل التعزير والنكال والعقاب بالتعزير الأمرَ إلى القاضي المالكي، فالحنفي يقول أنا مُتخلٍ ابعثوا به إلى المالكي، وكذا الشافعي والحنبلي، لماذا؟ لأنهم يعلمون أن المالكية هم الأكثر إيغالاً في النكال والتأديب الذي قد يصل إلى حد القتل في باب التعزير، وهذا أمرٌ عجيبٌ جداً، فهذا حرص أيضاً من القُضاة ومن فقهائنا وعلمائنا على التنكيل،مذاهبم لا تتسع لهذا فليتسع له القضاء المالكي لأن مذهبه واسعٌ في المسألة ويُبيح هذا، وهذا شيئ غريب، ما هذه المزاجية؟ هل هؤلاء هم أتباع محمد الذي أرسله الله رحمةً للعالمين بل ما أرسله إلا رحمة للعالمين وليس مُجرَّد أرسله؟ قال الله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩، هل هذا هو الحرص على الرحمة؟ هل هذا هدي محمد القائل ادرءوا الحدود بالشُبهات ما استطعتم فإن الإمام أن يُخطيء في العفو خيرٌ من أن يُخطيء في العقوبة؟ هل هذا دين محمد؟ هل هذا هدي محمد؟ هل هذا دين الرحمة؟ يقولون كلوا أمره إلى المالكي حتى يبلغ به أشد ما يُمكِن أن يُبلَغ به، وهذا حرص عجيب على الانتقام والتشفي من الناس – تحديداً من هؤلاء المحكوم في قضاياهم – وهو شيئٌ عجب!
السادة الحنفية نُسِبَ إليهم القتل بالسياسة، وهذا مذهبهم في الحقيقة وليس منحولاً عليهم كذباً، فمذهبهم القتلُ بالسياسة، أي القتلُ سياسةً، ولكن هذا توسّعٌ ظاهري، في الحقيقة الحنفية هم مع الجمهور وغير مُتوسِّعين، لماذا؟ لأنهم مثَّلوا لمذهب الحنفية بالقتل سياسةً بأنهم يرون القتل بالمُثقَّل وقالوا يُقتَل به سياسةً، يعني باللغة الأخرى تعزيراً وليس حداً، فهم لا يرون أن مَن قتل بالمُثقَّل يُقتَل قصاصاً، هذا رأي السادة الحنفية، وهذا جميل جداً، فما هو المُثقَّل؟ باختصار المُثقَّل هو الذي يُهلِك ويقتل الضحية والمجني عليه بثقله كصخرة كبيرة – مثلاً – وكعصا غليظة وكالدهس بالسيارة فكل هذا مُثقَّل، وكأن تردم إنساناً تحت ردم، فهذا قتل بمُثقَّل، ولكن لا ينفذ، أما القتل بالمُحدَّد فهو الذي ينفذ كخنجر وسكين وموسى وسيف وإلى آخره، فهذا مُحدَّد، وذاك مُقتَّل مُثقَّل باختصار، وعلى كل حال السادة الحنفية لا يرون أن قتل مَن قتل بالمُثقَّل من باب القصاص وإنما يرونه من باب السياسة، أي أنه يُقتَل سياسةً،ولكن الجمهور – الثلاثة – يرون أن القتل بالمُثقَّل عقوبة تستوجب القصاص، فقتل مَن قتل بمُثقَّل إنما هو من بابة القصاص لا من بابة التعزير ولا من بابة ما يُسميه السادة الحنفية السياسة، فالخلاف إذن لفظي، ثم إن السادة الحنفية أيضاً من باب قتلهم بالسياسة أو قتلهم سياسةً يقتلون اللوطة – والعياذ بالله – السدوميين، ونحن نُستحِب أن نُسميهم – كما قلنا هذا مرات من سنين – السدوميين لأن لا ينبغي أن تُنسَب هذه الفاحشة المُنتِنة إلى نبي عظيم، فهذ لا يجوز يا أخي، والنبي لم يقل هذا والله لم يقل هذا، فهذا فعل قوم لوط ومَن فعل فعل قوم لوط، فلا تقل لي مَن فعل فعل لوط فيُنسَب هذا إلى لوط، وهذه الجزئية من أقبح ما وقع فيه علماؤنا للأسف الشديد، ولكن نحن نُتابِعهم حتى فقط نُفهِم وإلا نقول مُستدرِكين السدومية، فبالنسبة لقتل السدوميين – الفاعل والمفعول به أو السالب والموجب كما يقولون الآن في علم النفس وفي علم الجنس – قالوا يُقتَلان سياسيةً، الحنفية قالوا ليس لدينا دليل نعتد به على قتل السدوميين حداً فإذن يُقتَلان سياسةً، لكن الجمهور قالوا بل يُقتَلان حداً ولدينا أحاديث مرفوعة وموقوفة، فالخلاف لفظي، وانحصر الأمر إذن في السادة المالكية – في جماهير المالكية – وطوائف من الحنابلة الذين أجازوا القتل تعزيراً وبلغوا بالتعزير حد القتل، وهذا شيئٌ مُخيف جداً، ولكن ليس هذا الذي يعنينا فهذا الموضوع فقهي طويل في الفقه المُقارَن، الذي يعنينا أنهم بإسم جواز القتل تعزيراً أجازوا قتل المُبتدِعة، وهذا هو الخطير في الأمر، فأُريد أن أنفذ من الآن من هذه الناحية والحيثية إلى موضوعي، مهَّدوا تمهيدات وقرَّروا أشياء للأسف الشديد فيها نزاع كما رأيتم، الأمة غير مُتفِقة على أن التعزير قد يبلغ حد القتل، فنحن تحدَّثنا عن جمهور المالكية وبعض الحنابلة وانتهينا أما موضوع الأحناف كشفنا عنه النقاب، والخلاف لفظي من السادة الحنفية – رحمة الله على الجميع – لكن للأسف الشديد طوائف من العلماء من غير المالكية رجَّحوا هذا الرأيَ وهذا القيل مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم – رحمة الله عليهما – حيث قالا يُمكِن أن يُقتَل المرء تعزيراً ونحن نُرجِّح وجهة النظر المالكية، وهذا شيئ مُخيف، ثم ذهبوا بعد ذلك إلى التفريع والتطبيق فقيل مِمَن يُقتَل ويجوز أن يُقتَل تعزيراً المُبتدِع، وهذه كارثة وداهية ما لها من واهية، والآن يصير النقاش ويتحرَّر النزاع في هذا المحل: مَن هو المُبتدِع؟ ما تعريفكم للمُبتدِع؟ إن أخذنا هذا بإطلاقه ستكون كارثة، لكن للأسف الأمة تقريباً أخذت طوائف كثيرة منها بهذا على إطلاقه، فما الذي حصل تاريخياً؟ باختصار الذي تكون له السُلطة والنفوذ حتى وإن لم يكن هو في سُدة الحُكم والسُلطة ولكن السُلطة في حالة اتفاق وهو في حالة موالاة لهذه السُلطة فإن السُلطة تُسعِده وتُعينه ومن ثم للأسف يسطو بأخصامه من المسلمين ويُعمِل فيهم السيف والتذبيح للأسف الشديد بإسم الدين، فأنا أتحدَّث الآن بإسم الدين لوجود قتل بإسم السياسة والحكم لكن هذا موضوع آخر وتاريخنا غير بريء فيه للأسف الشديد، وستسمعون اليوم عن مذابح مليونية في تاريخنا فانتبهوا، هناك مذابح مليونية وفي كتب تاريخنا المُعتمَدة للأسف الشديد بإسم السياسة، بإسم الدين لم تقع مذابح مليونية ولكن هناك مذابح ومجازر وأشياء فظيعة، وعودوا إن شئتم إلى مُعجَم ياقوت الحموي – مُعجَم البُلدان – إلى مادة الري، فبلدة الري بلدة مشهورة من بلاد فارس، وقد نقل ياقوت – رحمة الله عليه – عن الإمام الجغرافي الرحَّالة الإصطخري أنها كانت أعظم المُدن بعد بغداد، وهذا أمر عجيب، نيسابور أعظم منها مساحةً وتبعد عنها مائة وستين فرسخاً لكن هى أعظم منها كمدينة بالعمران وبالنهضة وبحركة المعاش، فهى أعظم المُدن وكان فيها رخاء وفيها جمال كما وصفها ياقوت الحموي وفيها تنوّع قضت عليه العصبية المذهبية والطائفية، يقول ياقوت الحموي مررت بها سنة إحدى وسبعين وستمائة هجرياً هارباً من التتار – 671 هـ في آخر القرن السابع الهجري – وانظروا إلى البلاء الذي حلَّ بهذه الأمة، بلاؤها بالصليبيين والتتر لا يفوقه إلا بلاؤها بأنفسها بسبب العصبية المذهبية وبسبب انغلاق العقول وبسبب جناية العلماء والأئمة على الجماهير بتعصبهم وتحزبهم ففرَّقوا الأمة بل فرَّقوا دين الله وبدَّدوا هذا الدين وهذا شيئٌ غريب – فوجدتها خرابة ولكن جدرانها قائمة – جدران هذه الخرابات قائمة مُزوَّقة بالأزرق وهى جميلة ولكنها خراب، فالمدينة خربة ولكن الجدران قائمة، ومعنى ذلك أن الخراب حديثُ عهدٍ، فهذه المدينة حديثة عهد بخرابها ودمارها – فسألت رجلاً من عقلائها قائلاً ما سبب هذا الخراب؟ فقال السبب ضعيف – أي السبب تافه كما نقول الآن – فلم يغزها التتر ولم يُدمِّرها المغول وإنما دمَّرتها العصبية المذهبية، ثم حكى لي – وهذه حقيقة طبعاً تاريخية – أن هذه المدينة العامرة الجميلة – أعظم المدن بعد بغداد على حد قول الإصطخري – كان فيها الشافعية وهم الأقل وفيها الحنفية وهم أكثر وفيها الشيعة الإمامية وهم السواد الأعظم – مُعظم سُكانها من الشيعة الإمامية – فوقعت العصبيةُ بين السُنةِ والشيعة – انظروا إلى كلمة وقعت العصبية، فمَن الذي حرَّكها؟ أنا أقول لكم مَن فعل هذا المشائخ والعلماء كما يحدث الآن، يُمكِن للمشائخ وللعلماء دائماً كما نفعل نحن ونُصِرّ على أن نفعل ونتعبَّد به الله أن يعملوا على توحيد الأمة، فأنا سُني وأبقى سُنياً وأنت شيعي وتبقى شيعياً ولكن نعمل على توحيد أمة لا إله إلا الله ولا نُريد أن نُطرِّق طريقاً لاحتراب هذه الأمة وتفجيرها من الداخل وذبح بعضها بعضاً، لا نُحِب هذا ولا نُريده ونراه جريمة – بربِ العالمين الذي رفع السماوات بغير عمد – من أعظم الجرائم، فأنا لا أدري كيف يُمكِن لعلماء ومشائخ وفقهاء أن يتقلَّدوا هذا في رقابهم أمام الله تبارك وتعالى، هل هو الجهل؟ هل هو الجنون؟ هل هو الطمع؟ هل هى الأجندات؟ هل هو الدفع؟ لا أدري ما الذي يحدث، هذا شيئٌ فظيع مُفظِع، كأنهم لم يقرأوا التاريخ، وفي الحقيقة أنا مُتأكِّد من أن مُعظمهم لا يقرأ التاريخ ولا يعرف التاريخ، فهؤلاء المشائخ والعلماء لم يقرأوا تاريخ أمتهم ولا يعرفون شيئاً وهم يظنون أن تاريخهم سمنة على عسل وقالوا فقط حين نُبغ هؤلاء النابغة من نوابت المُبتدِعة والضلّال اختلف الأمر واختل الميزان فعلينا أن نُطهِّر الأرض منهم وتعود الأرض إلى أهل الحق، وهذا كلام فارغ، فهؤلاء لم يقرأوا التاريخ، لأن هذه الحروب والمذابح جارية في تاريخك باستمرار يا أخي ويا شيخ ويا مولانا، تعلَّم يا أخي واقرأ بالله عليك، لا تتصدَّر قبل أن تفهم ولا تُعِد هذه الأمة إلى الويلات والنكبات والمصائب والثبور العظيم بالجهل والحزبية والعصبية وضيق الأفق والعطن وضيق منادح النظر، كيف يُقال طهِّروا الأرض منهم يعود الأمر إلينا؟ ما شاء الله وكأنه كان إليك دائماً على الهوينة، هذا غير صحيح، وعلى كل حال هو قال فوقعت العصبية، والسؤال مَن الذي حرَّكها؟ والجواب معروف – فتألَّب الحنفية والشافعية على الإمامية وتطاولت بينهم الحروب حتى أفنوهم – الإمامية كانوا السواد الأعظم – ولم يبق منهم أحدٌ يُعرَف، أحرقوا أسواقهم ومساجدهم وزواياهم ومحالهم ودورهم وخرَّبوها بالكامل، وهذه مذابح – Massacres – حقيقية وليست ضرباً بالعصي وبالأيدي، هذا ذبح كامل وإبادة كإبادة التتر والمغول، والآن السُني المُتعصِّب المُحترِق مبسوط جداً ويقول لك يذهبوا إلى الجحيم الشيعة الإمامية، لقد فنيَ الشيعة والآن سيتفرغ السُني للسُني، وأنا قلت لكم هذا مائة مرة بل مليون مرة، وهذا يحدث دائماً، ولا قدَّر الله أن يحدث لا أوله ولا آخره ولا أوله ولا ثانيه، قال ياقوت ثم وقعت العصبية بين الشافعية والحنفية، وقامت بينهم الحروب – بلغتنا والمذابح – والعجب أن في كل تلكم الحروب كان الظفر والنصر للشافعية على أنهم الأقل، فهم قلة ولكن يُنصَرن على الحنفية، وطبعاً أكيد سيقولون هذا بدعم من الله – تبارك وتعالى – لأننا على المذهب الحق، مذهب أبي عبد الله الشافعي ، ونحن أشاعره وهم أحناف ماتريدية، مع أنهما مذهب واحد تقريباً، وحدث نفس الشيئ وفعلوا بهم مثلما فعلوا جميعاً بالإمامية حتى لم يبق حنفيٌ واحد، دمَّروهم وذبحوهم من عند آخرهم، تفانى الأحناف في الري – المدينة العظيمة التي هى أعظم المُدن بعد بغداد – وكانت نكبة من النكبات، وهذا شيئ لا يكاد يُصدَّق، يقول ياقوت وبقي فقط في الري الشافعية في محلةٍ صغيرة لأنهم كانوا الأقل، فمن الناحية الديموغرافية السُكانية هم قلة، وخربت المدينة التي عمَّرها الله بالأحناف وبالإمامية وبهذا التنوع، لا يُوجَد أحناف ولا إمامية وبقيت للشافعية، وكما نقول اجلسوا فيها واستروحوا ما شاء الله، لكنها لن تنفعكم الآن لأنكم قلة، ولا تُدار الحياة بقلة ولا بلون واحد ولا بطعم واحد ولا برأي واحد ولا بسحنة واحدة، ليس كذلك أبداً، فلماذا القضاء على التنوع؟ قال ياقوت بقيت الشافعية في محلة صغيرة تُعرَف بمحلة الشافعية، ولذلك هؤلاء لا يشون ولا يؤذِنون بأنها مدينة عامرة، فالمدينة خراب، تدخلها وفيها الشافعية على أنها خراب، هذه مدينة خربانة مُدمَّرة، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، فهذه عظة لنا، لكن مَن اتعظ بهذه العظة؟ أعتقد لا أحد!
نعود إلى قضيتنا، يُمكِن الآن أن نُمعِن قليلاً حتى في هذه الحروب الطائفية والمذهبية للأسف الشديد والتي كانت – كما قلت لكم – مليونية، في آخر القرن الخامس عشر الميلادي وبداية السادس عشر برز رجل مجنون مُتألِّه – من المُؤكَّد أنه Schizophrenic، لأنه شخص غير طبيعي، هو Megalomaniac Person كما يقولون – مُتربِّب إسمه الشاه إسماعيل ابن الشيخ حيدر، من نسل القزل باش الذي عُرِف فيما بعد بالشاه إسماعيل الصفوي، هذا الرجل ادّعي – كان شاباً صغيراً في العقد الثالث من عمره، أي بعد العشرين لأنه مات عن سبع وثلاثين سنة، فحين مات وحين هلك كان عن سبع وثلاثين سنة بعد أن دمَّر العالم هذا – أنه دخل كهفاً فالتقى بالإمام المهدي – مهدي السادة الإمامية التقى به حياً يُرزَق، علماً بأن كان خارجاً في رحلة صيد – وأنه أمره وندبه إلى الخروج وإعلان الثورة والحرب على التركمان حكّام إيران والاستعلان بالمذهب الحق وهو مذهب الإمامية ومذهب أهل البيت، فهكذا زعم، وخرج هذا المجنون وبدأ في المذابح وبدأ في الحروب، كان يقتل المُخالِفين بشدة لا تعرف الهوادة ويتقرَّب إلى الله بذلك!
العلَّامة القاضي الشوكاني – محمد بن عليّ الشوكاني رحمة الله عليه – في كتابه البدر الطالع بمحاسن مَن بعد القرن السابع نقلاً عن قطب الدين الحنفي في الأعلام قال وقتل هذا الرجل ما لم يُسمَع بأن أحداً في جاهلية أو إسلام مِن قبلُ قتل مثله، قتل ألف ألف من النفوس البريئة، أي مليون لكي يمهِّد لمذهب أهل البيت، فهل هذا مذهب عليّ؟ هل هذا مذهب الصادق؟ هل هذا المذهب هو مذهب الذبح والمجازر يا إسماعيل؟ هل هكذا أمرك المهدي؟ أنت تكذب أصلاً، هذا كذب لأن الرجل كاد أن يدّعي الربوبية، علماً بأن تلاميذه ومجانينه كانوا يُعاملونه على أنه رب، يقول قطب الدين الحنفي كان مرةً على رأس جبل فسقط منديله في ماء – في الأسفل يُوجَد نهر أو وما إلى ذلك – فتتابع فوق ألف من أتباعه يرمون أنفسهم من فوق الجبل ليُعيدوا إليه المنديل، فهلك أكثر من ألف نفس بعد أن تحطَّموا وتكسَّروا، شيئ من الجنون، فهذا رب في شكل إنسان، أي حلَّ اللاهوت في الناسوت، هو لم يقل هذا هو بالحرف ولكن هكذا كان يُعامَل على أنه رب، وطبعاً مثل هذا المجنون بهذا الجنون المُنفلِت من عقاله من أتباعه يُمكِن أن يذبح العالم هذا وليس فقط السُنة بل العالم كله، فهذا ذبح من المُخالِفين له – أهل السُنة طبعاً – أكثر من ألف ألف أو زُهاء ألف ألف، أي مليون على يد هذا المُعثَّر سيء الذكر، علماً بأن الشيعة بالذات أو مذهب التشيع بعد إسماعيل الصفوي أخذ خطاً آخراً، وأنا أقول لكم الحقيقة ليس لأنني سُني أو مُتعصِّب – أنا لا أحد يتهمني بأنني مُتعصِّب ضد الشيعة أبداً – لكن أنا رجل أُريد التوفيق وأُريد التوحيد، ولكنني أحكي الحقائق المُرة سواء تعلَّقت بي كسُني وهذا لا يُعجب السُني وسواء تعلَّقت بإخواننا الإمامية وهذا لا يُعجب الإمامية، لكن أنا لا يُعنيني هذا، أنا رجل أُريد أن أكون باحثاً نزيهاً، أبحث عن الحق الذي يُرضي ضميري وأحاج به أمام ربي – إن شاء الله – غداً، وهذا الذي أفعله، وليغضب مَن يغضب وليرض مَن يرضى، لكن هذه هى الحقائق، ولذلك الشهيد عليّ شريعتي – شهيد الشاه المُجرِم رحمة الله تعالى عليه – عنده كتاب عظيم أدعوكم إلى قرائته إسمه التشيع العلوي والتشيع الصفوي، وغضب للأسف المُتشيّعون بالطريقة الصفوية من المراجع والعلماء على الدكتور الفيلسوف عليّ شريعتي من أجل هذا الكتاب وحكموا بكفره وأنه زنديق، فقالوا هذا زنديق وهذا دخيل وهذا وهابي، فقال أُتهَم بأنني وهابي وعند الوهابية يُقال هذا شيعي رافضي، ثم قال أنا ضعت بين الطائفتين المُتعصِّبتين، وهذا ما حدث للأسف الشديد، وفي الحقيقة لا هو وهابي ولا هو رافضي، هو مُفكِّر إسلامي شيعي حُر، عليّ شريعتي يترضّى على عمر ويعتبره في واحد من كتاباته نموذجاً للعدل، وهذا أغضبهم جداً، لكن يا أخي الرجل عقله حُر، وأبوه آية من آيات الله ومن حُجج الله، وكان عالماً كبيراً وهو تقي الدين شريعتي رحمة الله عليه، ولذا هو يُحِب الإنصاف فتفتَّحوا، إسلامكم – والله – أعظم من كل هذه العنوانات يا إخواني – يا شيعة ويا سُنة – لأن إسلامنا أعظم وأجل وأكرم، كأن الإنسان بدأ الآن ييأس – يُخامِره اليأس – من أن هذا الإسلام كما يُعرَض قادر أن يقود الأمة وأن يُحدِث نهضة، وصرنا يُخامِرنا خوفٌ شديد أنه سيُحدِث مذابح، وأنا أقول لإخواني الشيعة كما لإخواني السُنة فلنتق الله في أنفسنا، يجب أن نتقي الله في تركة محمد وأن نتقي الله في هذا الدين وفي كتاب هذا الدين، وهذه رسالة الخُطبة اليوم!
دخل الشاه إسماعيل الصفوي بغداد، دخل بغداد قبل هلاكه بنحو عشرين سنة، فماذا فعل؟ أول ما أظهر سب الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، فهل هذا دينك؟ هل هذا – ما شاء الله – مُفيد للأمة؟ على المنابر لعنهم وسبهم، وبعد ذلك أول ما دخل أيضاً نبش – أي أمر بنبش – قبر الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، فلماذا؟ ما مُشكِلتك يا إسماعيل مع أبي حنيفة؟ أتعلم كيف مات أبو حنيفة؟ سوف نقول لكن بعد أن نُكمِل، نبش قبره – هذا نبش للقبور – ودفن مكان الإمام الأعظم كلباً أسود بأمر أميري وقال مَن أحب أن يقضي حاجته فليقضها في قبر أبي حنيفة، وطبعاً الحسين – علم الشهداء وسيد شباب أهل الجنة عليه السلام – كم مرة نُبِش قبره أيضاً من سُنية مُتعصِّبة كالمُتوكِّل – وقبل مائة وخمسين سنة – وسُوّيَ بالأرض؟ هذا حدث قبر الحسين عليه السلام، هذه عقلية المسلمين، لا يمنعهم من الظلم إلا العجز، كما قال أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي – رحمة الله تعالى عليه – المُعاصِر لإمام الحرمين الجويني – عاصر محنة الجويني وابن الفرات وأبي سهل وعبد الكريم أبو القاسم القشيري المعروف بالقشيري، فهو شاهد محنتهم وعاش معهم لأنه كان مُعاصِراً لهم أو كان عصرياً لهم، وأبو الوفاء بن عقيل قال كلمة عظيمة علماً بأنه صاحب الفنون الذي قيل يقع في ثمانمائة مُجلَّد، وأقل ما قيل أنه يقع في ثلاثمائة مُجلَّد، فهو علَّامة كبير وموسوعة حية في شكل إنسان – إني تأمّلت في الخلق فرأيت أنه لا يمنعهم من الظلم إلا العجز، لا أقول العامة – قال لا أتحدَّث عن عامة المسلمين – بل العلماء، أقول هذا حتى لا يُعتَب على عدنان إبراهيم كأن يُقال أنت تنبذ علماءنا وتغمز قناة علمائنا، فهذه هى الحقائق يا أخي، لا تقل لي تنبذ أو تغمز، أنا لا أُحِب هذه الكلمات، قل الحقائق وفقط، ما عُدنا نعبأ بهذه الألفاظ الشاعرية الخالية الجوفاء، فهذا ابن عقيل الذي يقول أنا لا أتحدَّث عن العامة، فالعامة معروفون ما شاء الله عليهم، العامة لا يستجيبون للاعتدال، درس التاريخ وعلم الاجتماع الديني وعلم الاجتماع الثقافي يقول العامة عموماً تُحِب الغلو والتطرّف، صدِّقوني هذا معروف فهو ليس كلامي، واسبروه واختبروه في التاريخ، العامة لا يُحِبون مَن يعتدل ويُحِب موقف الاعتدال ويُحِب موقف التوحيد وتأليف القلوب، وإنما يُحِبون التطرّف ومَن يقول زنادقة وكفّار، الله أكبر شنوا عليهم الغارة، ومن ثم العامة تحتشد بالملايين وراء هؤلاء المجانين، وأنا أقول لهم هؤلاء يقودونكم إلى جهنم وبئس المصير والعياذ بالله تعالى، لكن هذه هى العامة، فنحن لا نعتب على العامة – العامة من العمى كما قال ابن خلدون – ولكن نعتب على العلماء وعلى القادة وعلى مَن يزعمون أن الله – تبارك وتعالى – استوثق منهم أن يُبيّنوا، أي بيان؟ أهو بيان تذبحون به أمة محمد وتُفرِّقون به هذه الأمة؟ قال النبي لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، وأنتم تعملون على شرعنة وقوننة وتسويغ وتبرير المذابح، فاتقوا الله في هذه الأمة، اتقوا الله وتحرَّروا قليلاً من أطماعكم ومن الأجندات المكتوبة والمدفوعة والمحسوبة والمرسومة، إلى متى هذا؟ وعلى كل حال يقول ابن عقيل أنا لا أتحدَّث عن العامة بل عن العلماء، فإني رأيت الحنابلة – وهو حنبلي لكن من إنصافه وجراته في قول الحق بدأ بطائفته، وأنا أطلب من السُني أن ينتقد السُنة بالذات ثم يُثني بالشيعة، وأطلب من الشيعي أن يبدأ ينتقد الشيعة بالذات ثم يُثني بالسُنة، فهذا هو العدل وهذه هى الجراة والجسارة، ليس شجاعةً ولا بطولة أن سُنياً ينتقد الشيعة وأن شيعياً ينتقد السُنة، هذه ليست بطولة، لكن البطولة في أن تنتقد أخطاءك أولاً ثم تُثني بأخطاء غيرك، ولذلك نُطالِب نحن أن يُوجَد في دواوين إخوتنا الشيعة مَن ينتقد أيضاً غلو الشيعة وتطرّف الشيعة ومذابح الشيعة كما نفعل نحن بين أهلنا وأحبابنا من السُنة، فهكذا هو العدل – كانت أيديهم باسطة في أيام ابن يونس – الوزير الحنبلي – فتألَّبوا على الشافعية وآذوهم أشد الأذى حتى ما يُمكِّنهم من الجهرِ بالبسملة في الصلاة والقنوت في الفجر وهما من مسائل الخلاف، يا أخي اتركني أعبد ربي كما انتحلت وكما أتقلَّد، أنا تقلَّدت المذهب الشافعي فاتركني يا أخي أجهر بالبسملة، ما المُشكِلة؟ أُريد أن أقنت في الفجر، لكنهم قالوا هذا ممنوع، فمنعوا الحنابلة هذا بقوة السُلطة وابن يونس فعل هذا بقوة السُلطة وأرهقوا الشافعية عنتاً وساموهم الذل ومنعوهم من الجهر بهذه السُنن البسيطة الميسورة التي هى من مسائل الخلاف، ثم أدال الله من دولتهم ودالت دولة الأشاعرة – أي جاءت النوبة للأشاعرة، يُقال دالت دولته إذا قامت وقويت، بعكس أدال منه التي هى بمعنى ذهبت – في أيام نظام المُلك السلجوقي وزير ألب أرسلان – وهذا كان مع الشافعية ومع الأشاعرة وحدث نفس الشيئ – فتسلَّط الشافعية على الحنابلة تسلّط الولاة والسلاطين و آذوهم وسعوا بهم عند السُلطان من خلال الوشيات والكتائب – هذه التقارير ليست ابنة اليوم ولم تُولَد في القرن العشرين والحادي والعشرين مثل تقارير للمُخابَرات، بل هى موجودة من قديم وخاصة بين المُتعصِّبين مذهبياً، حيث وُجِدَت السعايات والوشيات،يقول ابن عقيل نبذوهم بالتجسيم، أي قيل أنهم مُجسِّمة ويعبدون الصنم ويعبدون كذا وكذا لأنهم ليسوا مُوحِّدين، وهذا كان تطريقاً للقول بكفرهم لإخراج الحنابلة من الملة، وهذه كارثة طبعاً، ثم قال مُستتلياً فتأمَّلت في حال الفريقين جميعاً فرأيتهم كالأجناد – أبعد الناس عن العدل والإنصاف والعلم مَن هم؟ العسكر، العسكر لا تُوجَد عقول عندهم، هذه العقول مُظلِمة، فقط يأتي الواحد منهم الأمر بالقتل فيقتل حتى لو أباه وأهله، وهذا شيئ كالجنون، علماً بأن هذه الشخصية منزوعة الإنسانية، ولابد على البشرية حين تنضج وليس فقط على مسلمي البشرية بعد ألف سنة أو ألفين سنة أو عشرة آلاف سنة أن تصل إلى يوم تُلغي فيه هذه المُؤسَّسة أصلاً، فمُؤسَّسة العمل العسكري غير إنسانية، تنزع إنسانية الإنسان بإسم الوطن وبإسم كذا وكذا، وهذا كله كلام فارغ، فالواحد قد يقتل أهله ويذبح أهله، بالأمس يُحافِظون على الثورة واليوم يذبحون دون أي مُشكِلة، الواحد منهم عبدٌ لكل مَن أمر، عبدٌ لمَن في دَسْت الحُكم وسُدة السُلطة – يصولون في دولتهم – ما دام عندهم قوة يصولون بالظلم والقهر ويلزمون المساجد في بطالتهم – ولما يُدير الله من دولتهم وتزول دولتهم – ماذا يفعلون؟ – يُرخون اللحى ويفتحون المصاحف – مثل وزراء الدول العربية – ما شاء الله – في الحكومات البائدة من الذين يفتحون الآن في الزنانزين والسجون المصاحف، يُريدون أن يغرونا عن أنفسنا، وفي الأدبيات الإسلامية يقولون لك تكبيرة حارس، هو حارس ويُكبِّر ما شاء الله لأنه مُحافِظ على الصلاة في وقتها، وهذا كله كلام فارغ – ويلزمون المساجد في بطالتهم,
هذا ظلمٌ شديد، وما دام ذكرنا المذابح المليونية فلنأت إلى مذابح المُرابِطين – أي التي جرت في حق المُرابِطين طبعاً – وهى مذابح المُوحِّدين في المُرابِطين، وكلنا تقريباً سمعنا بالكتاب العظيم الذي كتب الله له السعد والقبول الشفا بتعريف حقوق المُصطفى – صلى الله عليه وآله وسلم – للإمام القاضي أبي الفضل عياض اليحصُبي أو اليحصَبي أو اليحصِبي – كله صحيح – المُتوفى سنة أربع وأربعين وخمسمائة، صاحب الشفا وصاحب إكمال المعلم للمازري والمدارك والغُنية في شيوخه ومشارق الأنوار في غريب الموطأ والصحيحين، هذا العلَّامة الإمام شيخ الإسلام الحافظ الفقيه اللغوي أبو الفضل عياض السبتي اليحصبي الأندلسي صاحب الشفا وكفى، وعلى كل حال كل الأمة تعرف الشفا، وهذا الكتاب شُرِح واختُصِرَ وكذا أكثر من ستين مرة، كتب الله له القبول وفيه يُعرِّف برسول الله، أي أنه من كتب الشمائل، ولكن لو تعرفون كيف مات عياض، العامة كلها تعرف كتاب الشفا ولكن لا يعرفون أن عياض مات ميتةً تُوجِع القلب وتُقرِّح العين، فكيف مات؟ لماذا يُقتَل الإمام؟ هذا شيخ الإسلام والعلَّامة العظيم الذي قضى حياته في العلم والفُتية والقضاء والتوله والعبادة، فلماذا يُتهَم بالزندقة؟ لماذا يُتهَم بأنه يهودي؟ هل عياض يهودي؟ لماذا؟ قالوا لك لأنه يوم السبت لا يظهر للناس، هو قال لهم أنا ألزم بيتي – أُلازِم بيتي – لكي أُؤلِّف لأن ليس عندي أي وقت، فقالوا لك هو يهودي، فلماذا تُخفي هذا؟ ما شاء الله على هذه الأمة، ما هذا الحس الذي عندها؟ ما هذا الحس العادل؟ مُباشَرةً تبنذ العلماء المُخالِفين بسبب الخلاف في المذهب والفتوى والطائفة، جعلوها أدياناً كأنها ليست من دين الإسلام، وعلى كل حال سأتحدَّث باختصار لأن للأسف بدأ الوقت يتدارك ويُدرِكنا!
أنتم تعرفون دولة المُرابِطين التي من أعلامها ابن تاشفين – الإمام العظيم والقائد الكبير – وابنه عليّ بن يوسف بن تاشفين وأمثال هؤلاء، فهذه هى دولة المُرابِطين، وسبحان الله دولة المُرابِطين كتب الله – تبارك وتعالى – لها نهاية على يد رجل إسمه محمد بن تومرت – ذو أصل بربري – عفا الله عنه وسامحه، فهو ادّعى أنه المهدي وقال أنا المهدي المعلوم والإمام المعصوم، فهكذا كان يكتب في المُكاتَبات الرسمية قائلاً من الإمام المعصوم والمهدي المعلوم، محمد بن تومرت صاحب المُرشِدة، وهذا الرجل تأثَّر بالمالكية وبالشافعية وبالمذهب الأشعري وقال المذهب الأشعري هو المذهب الحق، والمذهب الآخر – مذهب دولة المُرابِطين – مذهب المُجسِّمة الكفرة المُرتَدين، أي أننا دخلنا في التكفير، وأنتم تذكرون خُطبتي بين التكفير والقتل خُطوة، فالآن الحديث ليس عن القتل وإنما عن مذبحة مليونية، فاقرأوا تاريخكم، اقرأوا – كما أقول لكم دائماً – ولا تغتربوا بمَن يقول لكم يُغريكم بالقراءة، ما معنى أُغريكم بالقراءة؟ هل أُغريكم بالجهل؟ طبعاً أُغريكم بالقراءة، ومع ذلك يُؤخّذ هذا علىّ أنني أُغري الناس بالقراءة – هذا شيئ عجيب – لأنهم لا يحصل لهم التلصص إلا في الجهل وإلا في ظلمات الجهل ولا يتم إنفاق أفكارهم إلا في حندس الجهل طبعاً، فاقرأوا واقرأوا حتى تعرفوا ماذا حدث وماذا يحدث وماذا يُرسَم أن يحدث الآن في هذه الفترة العصيبة من حياة الأمة الحرجة جداً، وعلى كل حال الرجل اعتصم بزعامة روحية وقال أنا زعيم روحي وأنا أب روحي للمُوحِّدين، أما القيادة العسكرية فهى لأخص أصحابه وخواصه وهو عبد المُؤمِن بن عليّ رحمة الله عليه وعفا عنه، قال له اذهب وقاتل هؤلاء المُرتَدين، وبدأت المذابح يا حبيبي، بدأت يا أخي يا مسلم في سلا وفي وهران، وعاصمة المُرابِطين ما هى؟ مراكش، فجاءوا إلى العاصمة مراكش وذبحوا كل مَن فيها من الرجال، هؤلاء مسلمون قائمون صائمون حفَّاظ لكتاب الله وهم عامة مُسالِمون فلماذا يُذبَحون؟ قالوا هم مُرتَدون لأنهم على عقيدة أحمد، وأحمد عقيدته عقيدة تجسيمية كافرة زنديقة، ونحن المُوحِّدون، ثم قال لهم نحن الذين بشَّر بنا رسول الله، فابن تومرت مُدّعي المهدية قال نحن المُبشَّر بنا، ولا يزال الأمر فيكم إلى يوم القيامة، وهذا كذب طبعاً لأن في عهد خلفائه تبدَّل كل شيئ، ما معنى ولا يزال الأمر فيكم إلى يوم القيامة؟ هؤلاء يضحكون على الناس يا أخي ويأكلون بعقول الناس حلاوة كما نقول بالعامية، وهذا شيئ غير معقول، المُهِم هو أنهم أبادوا الرجال من عند آخرهم وأخذوا الأطفال والنساء أسرى، فهل يُؤسَر المسلمون؟ هل يُمكِن لمسلم يأسر مسلماً؟ هل يقع مسلم في أسر مسلم؟ هذا غير معقول يا أخي، لكن هذا هو تاريخنا وهذه من نكباتنا وهذه مصائبنا، مصائب التعصب والجنون المذهبي والطائفي والجنون الأيدولوجي، فهذا أيدولوجيا ليس أكثر، لكن الدين للإنسان، الدين جاء للإنسان فإذا أصبح لعنة على الإنسان ومذبحة تُدار عليه وعلى جسده تهرس لحمه وعظمه وتسنزف دمه فهذا ….ماذا أقول؟ أنتم تعرفون النتيجة، كيف سيُفكِّر الناس وخاصة في زمن حُر كالذي نحن فيه؟ ولم يكتفوا فقط بقتل كل مَن في مراكش عاصمة المُرابِطين بل دمَّروا المدينة أيضاً من عند آخرها، لماذا؟ قالوا مدينة نجسة، وهذه أول مرة تسمعون فيها هذا، هل المُدن تنجس؟ قالوا مدينة نجسة، لكن النبي استقبل نصارى نجران في مسجده وسمح لهم أن يُصلوا إلى بيت المقدس في مسجده، وفي اليوم التالي أمر بكل شيئ وتنظيف المسجد وبقايا الأكل والشرب، وقال ليس على الأرض منهم شيئ أو من نجاستهم شيئ، فالإنسان لا ينجس بذاته، النجاسة معنوية، ووالمكان لا ينجس من باب أولى، وإلا كيف ينجس المكان؟ هذا كلام فارغ، وسيدنا عمر أراد أن يُصلي في كنيسة القيامة، أليس كذلك؟ وبعد ذلك ترك الصلاة خشية أن يغلبوا عليها وإلا كان سوف يُصلي، قال النبي جُعِلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، من الخمس اللاتي أوتيهن صلى الله عليه وسلم، لكنهم قالوا هذه مدينة نجسة، فدمَّرها المُوحِّدون تدميراً بما فيها المساجد وقالوا لأنها نجسة، كان فيها مُجسِّمة ملاحدة زنادقة!
الإمام القاضي عياض – أبو الفضل عياض صاحب الشفا رحمة الله تعالى عليه – كان في سبتة آنذاك، وهو في البداية هادن المُوحِّدين وعمل لهم قاضياً ومُفتياً قليلاً، ولكن حين رأى المذابح في سلا وفي وهران وفي مراكش ورأى هذا الدمار الكامل قال مُستحيل أن تنجو حتى سبتة وأنا أعرف هؤلاء، هذا تعصّب مجنون مُنفلِت، فأرسل إلى يحيى بن غانية – آخر زعماء وقادة المُرابِطين – وقال له تعال، أي أنه يدعوه إلى سبتة ولذلك لكي يُسلِمها أو يُسلِّمها إليه ثم ينطلق بعد ذلك في تحرير ربما المُدن من هؤلاء المُوحِّدين مُنفلِتي العقال!
قد يقول لي أحدكم لماذا يا أخي أنت مُتعصِّب؟ لكن أنا لست مُتعصِّباً، أنا في الجُملة شافعي وأشعري، والمُوحِّدون أشاعرة ولكن لا يُعجِبني التعصب، وأعلم أن المُوحِّدين لهم يد على الإسلام ولكن أنا عندي نظر خاص في هذه اليد وأمثال هذه اليد، هم وحَّدوا المغرب العربي كله مع الأندلس في أعظم دولة مغربية عرفها التاريخ، فالمُوحِّدون فعلوا هذا وأعرف هذا وقد قرأته في التاريخ لكن الثمن باهظ جداً جداً جداً، والثمن لا يُجيزه الدين، هذا ذبح للمسلمين يا أخي، أنت تذبح المُصلين الركّع السجّد، فلماذا؟ في أي دين وبأي كتاب أم بأي سُنةٍ تفعل هذا؟ وهذا الذي لا نُريده ولا يُمكِن أن نُصادِق عليه بإسم أنهم فتحوا فتوح وخاضوا معارك مع الصليبيين أو مع النصارى في الأندلس وغيرها، فنحن نعترف بهذا ولكن هذا لا يُبرِّر القتل والذبح على أيدي المُوحِّدين، فهذا الذي نقوله، ونحن منطقنا واضح مع الكل على سواء بفضل الله تبارك وتعالى، للأسف يبدو أن الزعيم المُرابِطي ابن غانية راث قليلاً على أهل سبتة ووصل الخبر عبر الجواسيس والعيون إلى المُوحِّدين فانهالت جيوش كثيفة على سبتة وحاصروها واقتحموها فخرج لهم قبل الاقتحام القاضي عياض – انظروا العلَّامة المُؤمِن الصادق الذي لا يُتاجِر بدماء الناس أبداً – وقال أنا السبب – يُريد أن يحمي أهله وأهل سبتة – وأنا المسؤول الأوحد عن كل ما جرى وأنا الذي راسلت ابن غانية،فقالوا أنت؟ قال أنا، خذوني واتركوا الناس، فحملوه إلى عبد المُؤمِن في مراكش العاصمة، فعفا عنه وصفح عبد المُؤمِن، قال له سوف نعفو عنك، لأنه رأى فيه الصدق والإخلاص، فهو اعترف وقال أنا فعلت هذا لما رأيتكم فعلتم كذا وكذا وكذا فخفتكم على قومي وعلى سبتة، فقال له سوف أعفو وأصفح شريطة أن تكتب كتاباً يُسيَّر إلى الآفاق تُقِرّ فيه بمهدية محمد بن تومرت – تعترف أنه هو المهدي الموعود على لسان رسول رب العالمين – وبمعصوميته – أنه إمام معصوم لا يُخطيء – لكنه رفض، قال أما هذه فلا، وهذا أمر عجيب، هل تقول لا يا عياض وأنت تعرف المصير؟ هو يعرف المصير ويعرف أنه سوف يُقتَل شر قتلة لكنه قال أما هذه فلا، لا أخون ضميري ولا أخون العلم الذي أنفقت زهرة شبابي وكهولتي وشيخوختي فيه وفي خدمته ولا أخون التاريخ ولا أخون أمة الإسلام ولا أُضلِّل الناس عن علم لكي أحفظ مُهجتي ورقبتي وأنجو بدمي، لن أقبل أن تعفو عني في سبيل أن أقول هذا، أنا لا أعتقد أنه مهدي ولا أعتقد أنه معصوم، فتناوشته الرماح، يا لهم ضربوه بقطع رأسه ضربة واحدة وإنما قتلوه بالرماح، تناوشته الرماح حتى مُزِّقَ الإمامُ الجليل إرباً إرباً وقطعاً قطعاً، وهذا – كما قلت لكم – شيئ يُبكي ويُقرِّح الأجفان ويُصيب بالكُباد والمُرار، ثم لموا أشلاءه وجمعوا أشلاءه على هيئة قطع من لحم، وهذا أسلوب وحشي، أين إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة؟ أين هذا يا أخي؟ اعتبره شاةً، اعتبر إمام المسلمين وحافظ الإسلام وشيخ الإسلام شاةً واذبحه بضربة واحدة تُحسِن فيها، لكنهم أبوا إلا أن يفعلوا هذا بالرماح حتى مُزِّق وتهرَّأ، وجُمِعَت أشلاؤه في كيس أو في وعاء ثم لم يُغسَّل ولم يُصل عليه ولم يُدفَن في مقابر المسلمين على أنه كافر زنديق خارج من الملة، فهل عياض كافر زنديق؟ هذا الإمام عياض صاحب الشفا وشيخ الإسلام والحافظ الفقيه العلَّامة، هذاشيئ يُبكي وشيئ لا يُصدَّق، هذا حدث من مسلمين، من المُوحِّدين أصحاب الدولة العظيمة المُوحِّدية الذي وحَّدوا المغرب كله في أعظم دولة مغربية، فنحن نعلم أنهم فعلوا هذا، ودفنوه في أرض لم يُعرَف أين هو، ثم أقطعوا هذه الأرض التي دُفِنَ فيها عياض للنصارى نكايةً فأقاموا كنيسةً وبنوا دوراً لهم، فالآن صار مدفون في محلة النصارى وكأنه ليس مسلماً، وعام ثنتي عشرة وسبعمائة – بعد زُهاء قرن ونصف، لأن متى استُشهِد هو؟ خمسمائة وأربع وأربعين أو سنة أربع وأربعون وخمسمائة – وجد المسلمون في الدولة المرينية مكان قبره أنهم أقاموا عليه قبةً عظيمة صارت تُزار من كل مكان وظل الناس شهوراً يبكون ويُصلون عليه رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، المُهِم: يقول المُؤرِّخون ضحايا المُوحِّدين في حروبهم للمُرابِطين بلغت ألف ألف، مرة أُخرى ألف ألف، ليس إسماعيل الصفوي وحده مَن قتل ألف ألف، المُوحِّدون أيضاً فعلوا هذا، ذبحوا في المغرب العربي من أعدائهم المسلمين المُرابِطين ألف ألف، أي مليون، وأقول هذا حتى لا نظل نتبجَّح فقط ونحن في حالة نشوة جاهلة بهذا، هذه النشوة الجاهلة وهذه سكرة الجهل نحن – والحمد لله – برءاء منها، يقول أحدهم أوروبا فيها حروب دينية مات فيها ملايين كما يقول فولتير Voltaire لكن نحن – الحمد لله – ضحايانا مُجرَّد أفراد آحاد أو عشرات أو مئات، وهذا غير صحيح، أنت لا تعرف التاريخ يا حبيبي، والذين عرفوا التاريخ لا يقولون هذا على المنابر، ممنوع أن يُقال هذا لأنه سيُظلِم التاريخ أمامك وسيسود ظنك في التاريخ، لكن هذه هى الحقائق، فلماذا نذكرها؟ حتى لا نُكرِّرها، يقول جورج سانتايانا George Santayana كل مَن لا يفقه التاريخ مكتوبٌ عليه أن يُعيد مآسيه، وهل أمتنا اليوم مكتوب عليها بجهلها أن تُعيد مآسي تاريخها؟
بقيَ خمس دقائق من الوقت أُحِب أن أقول فقط أن العقلية الإسلامية السائدة اليوم للأسف الشديد في الوسط السُني مثلاً تحتاج إلى إعادة نظر، وأنا أتحدَّث الآن عن أهلي وعن جماعتي، السُنة – وأنا من هذه الغزية – في قطاع كبير منها يُسيطر عليها فكر شيخ الإسلام ابن تيمية، وسأكون واضحاً معكم باختصار في خمس دقائق، ابن تيمية – رحمه الله وعفا الله عنه وسامحه – حين يتكلَّم نظرياً في جزء من تنظيره جيد، في موضوع التكفير والتفسيق والكلام الذي أخذه الدكتور محمد عمارة وألَّف فيه كُتيباً جيد جداً، فابن تيمية ليس من المُتطرِّفين في موضوع التكفير والتفسيق وعنده كلام مُستجاد من أحسن ما يكون ككلام العلماء المُعتدِلين الكبار في الأمة وله نظراء من قبل ومن بعد بفضل الله، ولكن في جزء آخر من التنظير أسوأ ما يكون، وسأكون صريحاً وشجاعاً وأقول أنه أسوأ ما يكون، مثلاً حين يتحدَّث عن المُبتدِعة يقول لك المُبتدِعة – مع أن أحدهم قد يكون اجتهد وأخطأ في اجتهاده بتأوول، فهو مُجتهِد ومن أصحاب الاجتهاد – يُعادَون في دين الله – أي نحن نُعاديهم – ويُعاقَبون وقد يصل عقابهم إلى القتل، مع اعترافه بأن هذا المبُتدِع قد يكون مُجتهِداً، فهو يقول مع أن هذا المُبتدِع الذي أحكم بقتله قد يكون مُجتهِداً وأخطأ في اجتهاده لكنه يُقتَل، كأنه يقول هذا أحسن لكي نُريح منه ونُطهِّر الوضع، فيُصبِح الوضع نظيفاً لأهل السُنة على طريقة ابن تيمية، وهذا شيئ مُخيف وتقشعر له الأبدان، وطبعاً هذا ليس موضع التفصيل، هذا يحتاج إلى مُحاضَرة مُطوَّلة نأتي فيها بالنقول من مظانها من كتب شيخ الإسلام ونقول لكم ماذا قال بالضبط، ثم أنه قال بعد ذلك هذه العقوبة تُوقَع مع القدرة عليها، فإن لم يُقدَر عليها تأدّينا أو تنزَّلنا إلى أشياء دون هذه العقوبة، مثل ماذا؟ التشهير به وفضيحته بين الناس وهجره لأن لا غيبة له كما قال الحسن البصري، وتخيَّل أنت عالماً مسلماً قد يكون شيعياً أو قد يكون زيدياً أو قد يكون سُنياً وأنت تراه مُبتِدعاً ويحدث معه هذا، والآن مُعظم علماء الأزهر الكبار عند هذا الاتجاه مُبتدِعة طبعاً، فهميقولون بالتوسّل وبأمور مثل هذه، وكل هذه بدع وقد تُكفِّر عند بعضهم، وهذا شيئ غريب يا أخي، لكنه قال لا بد أن تُشهِّر به ولابد أن تفضحه ولابد أن تغتابه ولا غيبة له، ما شاء الله على هذا، هل هذه عصمة المُؤمِن؟ هل هذه حُرمة عِرض المُؤمِن؟ هذا ابن تميمية الذي يُنظِّر لهذا بشكل واضح ويحث على هذا وهذا كان أولاً، ثانياً قال ويُمنَع من الزكاة والفيء – هذا حرمان ومُحارَبة في رزقه – حتى يتوب، وهذا أمر عجيب يا أخي، أنا عندي رأيي وعندي اجتهادي لكنه قال لك لن نُعطيك من الزكاة ولا من الغنائم ولا من الوظائف، ليس لك أي مُرتَّب في الدولة حتى تموت من العطش والجوع أو تتوب عن بدعتك، ثم قال الحبس والقتل إن أمكن أو إن لزم الأمر، أي أننا نقتل هذا المُبتدِع، وقال أن السلف علَّمونا هذا، فأين هذا يا شيخ الإسلام؟ حين يتحدَّث عن السلف يتحدَّث عن شيئ شبه مُقدَّس في لغة ابن تيمية، فهو يقول لك السلف الصالح علَّمونا هذا، مَن سلفك؟ للأسف قال لك الجعد بن درهم أليس قد قُتِل؟ هذا الجعد بن درهم الخبيث أستاذ الجهم بن صفوان الخبيث الآخر الذي قُتِل في حروبه ضد بني أُمية سنة مائة وثمانية وعشرين للهجرة، فهذا أستاذه – الجعد بن درهم – وأنتم تعرفون الجهم والجهمية، لكن ما نعرفه أيضاً أن الجعد بن درهم – رحمة الله عليه، وأنا أترحم عليه من على المنبر – كان أستاذاً لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ولذلك كان يُقال لهذا الخليفة الأموية مروان الجعدي، فكيف استحال زنديقاً؟ هذه لعبة السياسة وعلماء الدين، لكن ابن تيمية يقول السلف الصالح فعلوا هذا حين قتلوا الجعد بن درهم، فمَن هم سلف ابن تيمية في قتل الجعد بن درهم؟ ولماذا قُتِل الجعد؟ سأختم بهذا لأن الوقت أدركنا للأسف الشديد، قال لكروى الإمام البخاري – رضوان الله عليه – في كتابه أفعال العباد بسنده أن خالد بن عبد الله القسري – أحد ولاة بني أمية، وخالد بن عبد القسري قال فيه الإمام محمد زاهد الكوثري رحمة الله عليه تاريخ خالد وصمة عار في تاريخ الإسلام، لأنه كان بطَّاشاً سفَّاكاً للدماء، أي أنه مُنحَل العُقدة وقد رُميَ بالزندقة، ولجرير أشعار يهجوه فيه، فهو اتُهِمَ بالزندقة وبنى كنيسة عظيمة جداً لأمه تتعبَّد فيها لأنها كانت نصرانية، والآن صار من السلف الصالحين وعند ابن تيمية حُجة، فخالد بن عبد الله قسري مُجرِم، والحمد لله كما فعل فُعِلَ به – أتى يوم عيد أضحى بالجعد بن درهم وكان قد ارتبطه إلى جانب المنبر كما يُربَط الخروف وبعد أن فرغ من خُطبته قال أيها الناس ضحّوا تقبّل الله ضحاياكم فإني مُضحٍ بالجعد بن درهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يُكلِّم موسى تكليماً، لعنة الله عليه، فنزل وذبحه عند المنبر كما يُذبَح الخروف ثم تركه.
هذا ابن تيمية يقول لك عنه أنه قدوة لنا وأنه من السلف الصالح، هل هذا سلفك يا ابن تيمية؟ وابن القيم يمدح خالد بن عبد الله القسري ويمدح هذا القربان الذي تُقرِّب به إلى الله، فأنا أقول هذا حتى تعرفوا كيف تتسمَّم أفكار شبابنا لأنهم لا يفهمون شيئاً، يقول الجعد أخذ عقيدته عن اليهود عن سند مَعيَّن، يصل في الأخير إلى لبيد بن الأعصم الذي سحر النبي، وهذا كلام فارغ، هذا الكلام لا سند له ولا يصح بالمرة، مُحقِّق سير أعلام النبلاء رفض هذا الكلام وقال هذا لا يُوجَد عليه سند، وهذا من الدس عليه لتبرير قتله بهذه الطريقة الوحشية، لأنهم يقولون عنه أنه من تلاميذ اليهود، والرجل المسكين مسلم وتقي، والآن قد يستنكر أحدهم كلمة تقي ويقول نحن عرفنا أنك أشعري يا عدنان إبراهيم وأنت أيضاً زنديق تستحق القتل، لكن أنا أقول لكم والوقت قد ضاق للأسف أن مقالة الجعد بن درهم التي قُتِل لأجلها هى عقيدة السادة الأشعرية، أي يقول بها المالكية كلهم والشافعية كلهم، وهذه عقيدة الماتريدية، يقول بها الأحناف، وهى عقيدة الزيدية في اليمن وعقيدة المُعتزِلة، نعم هى ليست عقيدة أحمد ولكنها عقيدة كل هؤلاء، إذن ينبغي على طريقة ابن تيمية ومَن وافقه أن يُذبَح كل هؤلاء، وفي الحقيقة خالد بن عبد الله القسري ذُبِح بعد قليل، لكن لن أشرح لكم كيف هذا لأن الوقت ضاق للأسف الشديد، فمن المُمكِن أن نُكمِل بعد صلاة العصر، لكن خالد بن عبد الله القسري ذُبِح أيضاً، الوليد بن يزيد بن عبد الملك سيَّره وأمر به إلى يوسف بن عمرو أبو الحجَّاج بن يوسف – وهذا مُجرِم بطَّاش كابنه بعد ذلك والعياذ بالله، حسبك من شرٍ سماعه – فأخذه وأتى به إلى الكوفة ووضع على قدميه أعواداً ثم وقف عليها رجال فتكسَّرت قدماه وساقاه ثم قُتِل شر قتلة بعد أن صُدِرَت كل أمواله، ابن تيمية نفسه – رحمة الله عليه وعفا الله عنه وسامحه – بهذه الطريقة في مُعامَلة المُبتدِعة والمُخالِفين لقيَ نفس المصير ومات في السجن، لأن العلماء الذين لهم سُلطة من الأحناف والمالكية والشوافع رأوا أنه مُبتدِع وبعضهم رأى أنه كافر،
العلاء البخاري وهو من أعظم العقول الحنفية الأصولية قال مَن سمى ابن تيمية شيخ الإسلام فهو كافر، فليس فقط ابن تيمية الذي يُعَد كافراً بل والذي يُسميه شيخ الإسلام هو كافر أيضاً، وهذا هو التعصّب، فهل نرضى بهذا؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم اهدنا فيمَن هديت وعافنا فيمَن عافيت تولّنا فيمَن توليت، اللهم اهدنا إلهنا ومولانا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مُستقيم، اللهم هب لنا نوراً نرى به الحق ونُميِّز به بين الحق والباطل وبين النور والظلام، وهب لنا شجاعةً نصدع بها بكلمة الحق وهب لنا صبراً نثبت به في وجه أعداء الحق ومُناوئيه إلهنا ومولانا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقم الصلاة.
تتمة الخطبة
بالنسبة لموضوع الجعد بن درهم لا يُوجَد مسلم ولا يُوجَد أحد من أهل القبلة يُنكِر ما ورد في كتاب الله، قال الله وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ۩ وقال أيضاً وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ۩، فمَن يُنكِره؟ الجعد قطعاً لم يُنكِره كما قال علماؤنا، هذا كذب على الرجل،ولكنه تأوَّله وقال الخُلة بالمعنى الحادث الواقع بين البشر لا تليق بالله وهى الالتذاذ بمنافع المحبوب، فهذا معنى لا يليق بالله، وفسَّرها – أيفسَّر الخُلة – بلازم من لوازمها، ما هو لازم الخُلة؟ أنت إذا أحببت إنساناً يلزم منه أمور، كأن تُحسِن إليه وأن ترجو له كل إحسان وأن تتوصَّل إلى الإحسان إليه بكل سبب، أليس كذلك؟ هذا من لوازم الخُلة ومن لوازم المحبة، فلا يُمكِن أن تدّعي محبتي ثم تُؤذيني، أليس كذلك؟ هذا جميل جداً، فقال المقصود بأن الله اتخذ إبراهيم خليلاً – علماً بأنه يُؤمِن بالآية ويتلوها كما هى – أنه أراد بها أعلى درجات الإحسان من النبوة والرسالة ورفعة ذكره في الدنيا والآخرة وإلى آخره وعدم إخزائه، فهذا هو وهذه الطريقة جميلة جداً جداً، وهذه طريقة الأشاعرة والماتريدية والمُعتزِلة والزيدية في التفسير، فما المانع إذن؟ نحن كنا نُفسِّرها كما فسَّرت مائة مرة في دروس التفسير آية إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً ۩، كيف لَا يَسْتَحْيِي ۩؟ هل الله ليس عنده حياء؟ إذا قلت هذا تكفر، وإنما نقول أننا نُفسِّر الحياء هنا بلازم من لوازمه، ومنفي الحياء بمنفي اللازم، لماذا؟ لأن مَن استحيى من شيئ تركه، أنت حين تستحي من أن تُدخِّن أمام الناس لن تُدخِن، وحين تستحي أن تُفطِر في رمضان لن تُفطِر، فهذا هو، إذن لازم الحياء – أي مُقتضى الحياء وما يلزم من الحياء – ما هو؟ الترك، ومنفي الحياء منفي اللازم، فيكون المعنى إن الله لا يترك أن يضرب مثلاً ولو بالبعوضة، وهذا التفسير جميل، وأنا فسَّرت هذا مع العلماء الذين فسَّروه كالزمخشري وغيره لأنه مقبول، فلماذا لم يُقبَل من الجعد وقيل زنديق ويُكذِّب الله؟ قالوا يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، لكنكم كذبتم يا بني أمية، هؤلاء يكذبون على العلماء والدُعاة والناس الربانيين، وهذا شيئ لا يُصدَّق، ثم أن الجعد بن درهم تحدَّث بعد ذلك عن آية وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ۩، الأشاعرة والمُعتزِلة والزيدية والماتريدية قالوا يستحيل أن الله القديم الأزلي – لا إله إلا هو – الذي لم يزل أن تحل به الحوادث، ولذلك قال أنا أفهم كيف كلَّم الله موسى وذلك عن طريق أنه خلق هذا الصوت في الشجرة، فموسى سمع من الشجرة هذا الكلام – يا موسى إني انا الله وكذا كذا كذا كذا – فقط، مع أن هذا المخلوق لمَن مخلوق؟ مخلوق لله وعلى مُراد الله بالمعنى الذي أراد الله، فقط هذا هو، فالله خلقه في الشجرة، ومن ثم لا تقل هذا صوت الله – أستغفر الله العظيم – وحرف من الله سمعه موسى بأذنه كما يعتقد ابن تيمية ويُدافِع عنه في الكتاب الكبير التسعينية، وهذا رأي جماهير أهل السُنة والجماعة، ومن أجل هذا قُتِل الجعد بن درهم، أرأيتم ما حدث؟ ومع ذلك يُسوَّق إلينا هذا الجرم على أن السلف فعلوه وقتلوا به هذا المُجرِم الذي أنكر كلام الله، وهذا كذب ولا يجوز هكذا أن نظلم الناس أحياءاً وأمواتاً، الإنصاف الإنصاف يا إخواني، وعلى كل حال هذا كان أولاً.
ثانياً ابن تيمية – كما قلت لكم – جميلٌ جداً حين يُنظِّر في الاحتياط في موضوع التفسيق والتكفير، فكلامه – رحمة الله عليه – من أجمل ما يكون هنا، لكنه سيءٌ جداً حين يُبرِّر القتل بالبدعة، فما هى البدعة يا ابن تيمية؟ انظروا إلى حُجة الإسلام الغزالي، هذا بالنسبة لي طبقٌ مُختلِف عن ابن تيمية، العقل والعقلية وما إلى ذلك شيئ مُختلِف تماماً، فماذا يقول أبو حامد في الإحياء؟ يقول بعبارة واحدة مهما أنكرت على المُعتزِلي في قوله ليس الشر من الله أنكر عليك المُعتزِلة في قولك الشر من الله وكذلك في موضوع أن الله يُرى، فهو يُنكِر عليك قولك أن الله يُرى في الآخرة وأنت تُنكِر عليه أنه ينفي الرؤية، وكلٌ منكما مُحِقٌ عند نفسه مُبتدِعٌ عند صاحبه، أي أن المسائل نسبية، وهذه المسائل أقر ابن تيمية أنه لا يُكفَّر بسببها بل لا يُفسَّق بسببها بل لا يُضلَّل بسببها بل لا يُوصَف مَن أتى به بأنه عاصٍ وخاصة أنه من أهل الاجتهاد، وهذه الخلافات تقع بين الأمة المُوحِّدة وأنتم تعرفون مَن الذي يُكفَّر، وهو الذي يُنكِر معلوماً من الدين بالضروة، أي المسائل ضرورية، لكن المسائل الخلافية التي افترقت فيها الأمة لا يُكفَّر فيها ولا يُضلَّل، لكن ابن تيمية استجاز مع المُخالِف أن يُبدَّع، فقال سنُبدِّعه، لكن بعد ذلك ماذا بنيت على هذا؟ أبو حامد قال لك أنت تُبدِّعه لأنه عندك مُبتدِع لكن هو عند نفسه مُحِق، وأنت عنده مُبتدِع لكن أنت في نفسك مُحِق، ولذلك ابن تيمية دخل السجن – رحمة الله عليه وعفا الله عنه – ومات فيه بسبب أنه عند علماء الشوافع والأحناف والمالكية مُبتدِع كبير في دين الله، ولذلك أصبح الحكم للقوة، فالذي عنده قوة يُنفِّذ هذه الأفكار الخطيرة، ولكي أُوضِّح لكم هذا أُحِب أن أقول أن الجهم بن صفوان قُتِل في الحرب على الأمويين، وقُتِل الجعد بن درهم وقُتِل غيلان الدمشقي القدري الذي كان صديقاً لعمر بن عبد العزيز وكان رجلاً صالحاً أمَّراً بالمعروف لكنه قُتِل أيضاً بإسم البدعة، وهؤلاء كلهم أصول الجهمية والنفي، فما الذي حصل بعد ذلك؟ الذي حصل في أيام بني العباس أن أحمد بن نصر الخزاعي قُتِل، وأحمد بن حنبل أُهينَ وضُرِبَ وسُجِن، وفلان وعلان حدث معهم هذا كما تعرفون القصة، لكن هل تعرفون لماذا؟ لأنهم لا يقولون بعقيدة الجهمية في القرآن، الآن أصبح هناك سطوة للاعتقاد الجهمي، وبالاعتقاد الجهمي صار الناس يُقتَلون، بالأمس كان يُقتَل الجهمية والآن حدث تبادل أدوار، ضحية الأمس جلَّاد اليوم، وجلَّاد الأمس ضحية اليوم وهكذا، فإلى متى سنبقى في هذه اللعنة؟ للأسف ابن تيمية في القرن الثامن الهجري – أنا أعرف أن هذا القرن كان قرن الانحطاط، فالقرن الثامن قرن مُنحَط، هو قرن انحطاط وتراجع، إنه العصر المملوكي الذي فيه خواء في الفكر وما إلى ذلك – لم يكن بدعاً من عصره، انعكس عليه للأسف انحطاط هذا العصر، بدل أن يستوعب درس التاريخ ويقول لا يا إخواني يجب أن نُبقي المساحة فقط للحوار والمُناظَرة فيتغافر المسلمون ويُقال اللهم اغفر لي واللهم اغفر لأخي ونتحاور لجأ إلى منطق السجن والسيف وقال الذي بيده قوة لابد من أن يُطبِّق الحق الذي يراه!
أختم حتى لا أُطيل عليكم وأُصدِّع أدمغتكم لكن هذه معلومات هامة وهذه طريقة مُهِمة، الشيخ جمال الدين القاسمي – هذا من أبدع ما يكون رحمة الله عليه – قال أنا لا أُسميهم المُبتدِعة – حتى التسمية فيها تحيز – وينبغي أن نُسميهم المُبدَّعين، فيُقال عن أحدهم المُبدَّع؟ إذن مَن هو المُبدَّع؟ الذي يُرمى بالبدعة وهو عند نفسه ليس مُبتدِعاً، فأنت تراني مُبتدِعاً وأنا عند نفسي مُحِق وهكذا، ولذا قال نٌسميها التبديع ويُقال عن أحدهم أنه مُبدَّع وانتهينا، وهذه هى المسألة الأولى.
والمسألة الثانية كان من رواة الصحيحين للبخاري ومسلم فضلاً عن غير الصحيحين مَن كانوا من هؤلاء المبدَّعين وهم بالمئين، وأنا أعني ما أقول فهؤلاء بالمئات، هذا جهمي وهذا قدري وهذا مُعطِّل وهذا شيعي وهذا زيدي وهذا إباضي وهذا خوارجي أو خارجي، فهناك المئات من رواة الصحيحين على هذا النحو، والآن السؤال: لو كانت هذه البدعة تجعل صاحبها فاسقاً أو ضالاً أو عاصياً أو غير ذلك فضلاً عن أن قتله يجوز في دين الله هل يجوز للبخاري ومسلم أن يملأ كتابيهما اللذين أرادا أن يكونا حُجةً بينهما وبين الله – تبارك وتعالى – بروايات هؤلاء الفسقة الضلّال الذين يجب في دين قتلهم؟ هذا كلام مُتناقِض وغير مفهوم، هذا غير مفهوم بالمرة لكن للأسف هذا كلام بعض العلماء وفي جُملتهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، فهو قال لك هو مُجتهِد وأخطأ في اجتهاده وقد يكون له عُذر عند الله ولكن أنا في الدُنيا قد أقتله، إذا كان لا ينقطع شره وشر بدعته إلا بالقتل نقتله ونُريح منه، وهذا كلام خطير جداً جداً، فانظروا الآن إلى هذه الجُملة الختامية وإلى الذين يحملون فكر شيخ الإسلام إلى الآن في القرن الحادي والعشرين ويحملون هذه الأفكار إذا صارت لهم اليوم أو غداً دولة ماذا سيفعلون بمشائخ المسلمين الآخرين؟ ماذا سيفعلون – مثلاً – بالأزهريين وبالمالكية وبالشافعية؟ ماذا سيفعلون؟ إذا طبَّقوا فكر شيخ الإسلام تماماً كما هو سوف تعرفون النتيجة.
ارفع النداء والحمد لله رب العالمين.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (23/12/2011)
أضف تعليق