إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول المولى الجليل – سُبحانه وتعالى – في مُحكَم التنزيل بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا ۩ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ۩ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ۩ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا ۩ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ۩ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الكريمات:
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ۩، روى الإمام الطبراني – رحمه الله تعالى – عن عبد الله بن عمر – رضيَ الله تعالى عنهما -، قال كنت في مجلس النبي – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – فجاء حرملة بن زيد – رضيَ الله عنه – وكان من المُنافِقين – أي قبلاً -، فقال يا رسول الله الإيمان ها هنا، وأشار إلى لسانه، والنفاق ها هنا، وأشار إلى قلبه أو إلى صدره، ولا يذكر الله إلا قليلاً، أي أن علائم النفاق – والعياذ بالله – قد توفَّرت وتحقَّقت في هذا الرجل، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، والذي أفهمه – والله تبارك وتعالى وحده عنده العلم والحُكم – من سكوته – عليه الصلاة وأفضل السلام – أنه كره فضيحته لنفسه، كان النبي – والله أعلم – يُفضِّل ألو جاءه على حدة وساره بالأمر، أما أن يفضح نفسه على رؤوس المُستمِعين والجلّس فهذا ما لم يستحبه النبي، ومن هنا سكوته كما أفهمه والله أعلم، فسكت عنه النبي ولم يرد إليه شيئاً، فردَّد قوله مِراراً، جعل يقول يا رسول الله الإيمان ها هنا، والنفاق ها هنا، ولا يذكر الله قليلاً، قال فأخذ النبي – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – بطرف لسانه وقال اللهم اجعل له لساناً صادقاً وقلباً شاكراً وارزقه حُبي وحُب مَن يُحِبني وصيِّر أمره إلى الخير، فيبدو أنها وقعت موقعها المُنتظَر والمُرتقَب، لا تُرَد له دعوة، بأبي هو وأمي، روحي وأرواح العالمين له الفدا، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، فتأثَّر الرجل وجاشت في نفسه آثار هذه الكلمات المُبارَكات النيّرات، فقال يا رسول الله إن لي إخواناً مُنافِقين مِن ورائي – أي إن من ورائي إخواناً مُنافِقين – كنت رأساً فيهم، أنا كنت قائداً والعياذ بالله، كنت قائداً ورأساً أو ضرساً – كما تقول العرب – فيهم، كنت ضرساً أو رأساً في هؤلاء المُنافِقين، أفلا أدلك عليهم؟ لأنهم خطيرون، فقال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – مَن جاءنا كما جئتنا استغفرنا له كما استغفرنا لك، نفعه الاستغفار مُباشَرةً، اجتث جذور النفاق من قلبه، بدعوة! لأنه جاء صادقاً وطالباً للتوبة، ومَن الذي دعا له؟ مَن قال فيه مولاه – سُبحانه وتعالى – وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ۩، لأن الله يرد استغفاره، لا يرد دعوته، لا يرد له طلِبة، من كرامته على ربه سُبحانه وتعالى، قال مَن جاءنا كما جئتنا استغفرنا له كما استغفرنا لك، ومَن أصر على ذنبه فالله أولى به، ولا نخرق على أحدٍ ستراً، قال ومَن أصر على ذنبه فالله – تبارك وتعالى – أولى به، ولا نخرق على أحدٍ ستراً، ونفعته دعوات المُصطفى صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، كيف لا؟ نظراته كانت تنفع، لمساته الحانية كانت ترفع، ودعواته بلا شك ترفع وتنفع!
قد روى الإمام ابن إسحاق في المغازي وابن سعد في الطبقات والإمام أبو القاسم البغوي – رحمة الله تعالى عليهم أجمعين، وهذا سياق البغوي -، يقول الصحابي شيبة بن عثمان الأوقص – رضيَ الله تعالى عنه – الآتي، وكان كافراً جلداً قد تعاظم كره النبي في نفسه، يُحدِّث عن نفسه ويقول جئته – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – يوم حُنين من ورائه وبيدي السيف، فدنوت منه، فلم يبق بيني وبين أن أتره بالسيف إلا أن أهوي بسيفي، فقط لو هوى به لقضى النبي، صلى الله عليه وسلم، قال فوضع بيني وبينه شهاب كالبرق، شهاب من نور أو من نار سريع، قال فرجعت القهقهرى فزعاً، قال فالتفت – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – إلىّ، وقال تعال يا شيبة، خاطبه باسمه! قال تعال يا شيبة، فجاء الرجل خائفاً، قال فوضع كفه الشريف بين ثديي، على صدري، قال فرفعت رأسي – دعا له طبعاً، دعا له وقال فرفعت رأسي – وهو أحب إلىّ من سمعي وبصري، بلمسة من رسول الله! صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، لمسة واحدة، ما أعظم بركته عليه الصلاة وأفضل السلام!
يروي الإمام أحمد والإمام الطبراني – ورجال أحمد ثقات – عن حنظلة بن حذيم – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، يقول جاء بي جدي حذيم إلى رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – وكنت صغيراً، فقال يا رسول الله إن لي تسعة من الولد ذوي لحى، كلهم رجال قد طرت لحاهم وشواربهم، رجال بالغون راشدون! هذا أصغرهم، لكن هذا صغير، كان غُلاماً صغيراً، هذا أصغرهم، فادع له يا رسول الله، قال فوضع كفه الشريفة المُبارَكة على رأسي ودعا لي بالبركة، قال بارك الله فيك، يقول ذيال – راوي هذا الحديث – فكبر حنظلة بن حذيم، وتُوفيَ الرسول طبعاً، فكان حنظلة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، استمعوا إلى بركة رسول الله، ما أدومها! وما أبقاها! شيئ لا يكاد يُصدَّق، لكنه الحق بحمد الله تبارك وتعالى – يُؤتى بالرجل الوارم وجهه – ورم بسبب التهاب أو ربما بسبب شيئ آخر، ورم حتى خبيث أو حميد، ورم! الله أعلم ما سببه – أو بالشاة الوارم ضرعها – وهذه كانت عندهم أمراض مُستعصية خطيرة، أي هذا الورم، وربما هناك سرطانات طبعاً – فلا يزيد على أن يقول باسم الله على موضع كف رسول الله – يضع يده، أي الصحابي الجليل، على المكان الذي وضع الرسول، أي من ناصيته أو من رأسه، يده الشريفة عليه، هو يعلم أن نور يده وبركة لمسته الحانية لا تزال موجودة إلى اليوم، على رأسه، يقول باسم الله على موضع كف رسول الله، ويضع يده على ذلكم الموضع – ثم يضع يده على الموضع الوارم من شق الرجل أو من ضرع الشاة فيبرأ بإذن الله، وظل هكذا إلى أن توفاه الله، الله أكبر! ألهذه الدرجة؟ من لمسة! الله أكبر، الله أكبر، كيف لا وهو العبد المُصطفى، المحبوب، ذو الخلة، المُجتبى، صاحب الأنوار، الداعي اجعل لي في سمعي وفي بصري وفي لحمي وفي دمي وفي شعري وفي عظمي نوراً، اللهم أتمم لي نوري؟ صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.
هكذا يُقيم الله – تبارك وتعالى – برهاناً إثر برهان ودليلاً بعد دليل على قُرباه ونجواه وكرامته وشرفه وحيثيته ومحله السامي السامق المُنير بعد موته بدهور ودهور، إلى اليوم بركته لا تزال موجودة، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، شيئ عجيب! وبالمُناسَبة أنا وجدت أصحابه – صلى الله عليه وسلم ورضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم – فعلاً أفقه الخلق، طبعاً في كل شيئ هم أفقه الخلق، ولكن في هذه الموضوعات بالذات هم أفقه عباد الله، هم أدرى عباد الله ببركات رسول الله، يُخطئ مَن يود أو يُحِب أن يُصوِّرهم لنا على أنهم كانوا لا يرون كبير فرق بينهم وبين الرسول وهو مُجرَّد عبد لكن هو طبعاً أدخل في العبودية منهم وهم أيضاً عباد الرحمن، غير صحيح! كانوا دارين تماماً بأسراره وبأنواره وببركاته، وكانوا ينتجعونها ويتطلَّبونها ويتتبَّعونها في حياته وبعد وفاته.
فقد روى الإمام ابن سعد – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – في الطبقات الكُبرى عن عبد الله بن عمر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أنه كان يأتي إلى المنبر فيضع يده على موضع جلوس رسول الله ثم يمسح بها وجهه وبدنه، بعد وفاة رسول الله! يعلم أن بركته ونوره لا يزال موجوداً، هنا كان يجلس!
بلال بن رباح جاء من داريا – من الشام – وقد عافت نفسه المدينة، لم يستطع أن يسكن فيها بعد وفاته حبيبه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يبكي دائماً ولم يستطع، لم يستطع! فهاجر إلى الشام، إلى داريا! وبعد ذلك – المُهِم – أُرسِل في طلبه من آل بيت رسول الله، خاصة الحسنين، فأتى! فلما جاء المنبر كان يضع خده على الموضع الذي يُقدِّر أن الرسول وطئه بقدميه الشريفتين، يضع خده ويبكي، يتبرَّك! هنا وطئ النبي بقدميه الشريفتين، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.
ثابت البُناني – كما روى الإمام أحمد في مُسنَده، التابعي الجليل والولي الصالح الكبير، تَلميذ أنس بن مالك، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – كان يقول لأستاذه وشيخه أنس الآتي، كان يقول له أنس والله يا ثابت لأنت أحب إلىّ من بعض ولدي، لأنه طالب علم صادق، يُحِبه أكثر من بعض أبنائه، عنده إخلاص وصدق، من أولياء الله! ثابت البُناني أُعطيَ الصلاة في قبره، وقد رُوئيَ – بحمد الله – في كرامة عجيبة مُنقطِعة النظير، يُصلي بعد موته في قبره، من شدة ولهه بعبادة الله وذكره سُبحانه وتعالى، ثابت البُناني! قال ثابت البُناني قلت لشيخي وأستاذي أنس يا أنس هل مَسِستَ – يُقال مَسَّ يَمَسُ ومَسِستُ ومَسِستَ، وليس مَسَستُ – بكفك يد رسول الله؟ قال نعم، قال بالله أرِنيها أُقبِّلها، بما أنها مست يد الرسول أُريد أن أُقبِّلها، يأخذ من البركة! هذا ثابت البُناني.
الإمام أحمد أيضاً يروي في المُسنَد عن عبد الرحمن بن رزين التابعي – أحد التابعين -، يقول كنت في رُفقة لي – جماعة من التابعين – ونحن نقصد بيت الله الحرام، شرَّفه الله وزاده هيبة وجلالاً، حج! قال فمررنا على الربدة، البلدة المشهورة التي نُفيَ إليها سيدنا أبو ذر، قريبة من الشام، قرية مشهورة! قال فمررنا على الربدة، فقيل لنا إن بالربدة سلمة بن الأكوع صاحب رسول الله، صاحب هذا، رأى الرسول! قال فعرجنا عليه، بما أنه صحابي لابد أن نتبرَّك، طلب البركة! هو طلب البركة، قال فأتينا عليه فسلَّمنا عليه وسلَّم علينا، ثم سألناه فقال بايعت رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – بكفي هذه، وأخرج لنا كفه، كفه ضخمة يقول عبد الرحمن بن رزين، وأخرج لنا كفه، يقول كفة ضخمة، كبيرة! ماذا يقول عبد الرحمن بن رزين؟ قال فأقبلنا كلنا على كفيه جميعاً – ليس على الكف التي فقط مس بها الرسول – نُقبِّلهما، جعل كل الوفد يُقبِّلون اليدين الكريمتين، لأن إحدى هاتين اليدين مست كف رسول الله، بايعت يد رسول الله، قال فأقبلنا كلنا على كفيه أو يديه جميعاً نُقبِّلهما، يطلبون البركة، ما أفقههم! رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم، ما أفقههم!
ونعود إلى موضوعنا، إنه موضوع الخُطبة السابقة أيضاً، دعواته المُستجَبات، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم ما دامت الأرض والسماوات، يقول عمران بن حُصين – الصحابي الجليل والولي الصالح، كان من أولياء أصحاب رسول الله وكلهم أولياء، عمران بن حُصين كان يسمع سلام الملائكة كما في صحيح مُسلِم، صحابي جليل وولي كبير شريف، والحديث رواه الإمام البيهقي في الدلائل – أقبلت فاطمة – عليها السلام، الزهراء رضيَ الله تعالى عنه وأرضاها – وقد أصفر وجهها من شدة الجوع إلى أبيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمران كان موجوداً ثمة، فلما رآها النبي تأثَّر، حزن عليها، أيحدث لها هذا من شدة الجوع؟ هل بنت سيد العالمين تجوع؟ نعم، والناس يشبعون من خير أبيها وخير الله الذي ساقه إليهم بفضل أبيها وببركة أبيها، ألم أجدكم – يقول النبي – عالةً فأغناكم الله بي؟ به – صلى الله عليه وسلم – وببركته، نعم! إي والله، من بركاته! فحزن النبي، قال فقال لها هلمي يا بُنية، هلمي يا ابنتي، فأقبلت، قال ففرَّج أصابعه – أصابع كفه الشريفة – ووضعها موضع القلادة من صدرها، ها هنا! وقال داعياً اللهم مُشبِع الجاعة ورافع الوضيعة ارفع فاطمة بنت محمد عليهما السلام، قال فرأيت الصُفرة قد زايلت وجهها، ذهب الصفار في نفس اللحظة بإذن الله تعالى، قال فرأيت الصُفرة قد زايلت وجهها، ولقيتها بعد فسألتها، فقالت يا عمران ما جُعت بعد، بعد تلك اللمسة وبعد تلك الدعوة لم أجع، عليها السلام! وهو الذي دعا لزوجها – كما رواه البيهقي وغيره – عليّ بن طالب، عليه السلام وكرَّمه الله وجهه، دعا له أن يُذهِب الله عنه الحر والبرد، فكان يلبس الثوب الثخين في الصيف ويلبس الثوب الشفيف الرقيق في الشتاء، لا يجد لا حراً ولا برداً، يلبس ثياب الصيف في الشتاء وثياب الشتاء في الصيف، لا يجد لا حراً ولا برداً.
وفي الصحيحين الحديث المشهور جداً في قصة خيبر وفتح خيبر، قال أين عليّ؟ طبعاً يقول عمر كلنا استشرفنا لها، كلنا يُريد أن يُعطى الراية، لأن النبي الصادق المصدوق قال – صلى الله عليه وسلم – لأُعطين الراية غداً رجلاً يُحِب الله ورسوله، ويُحِبه الله ورسوله، يفتح الله عليه، عمر قال طبعاً كلنا استشرفنا إلى هذه الكرامة، كرامة عظيمة! شهادة من رسول الله أنه يُحِب الله ورسوله، والله ورسوله أيضاً يُحِبناه، الله أكبر! كلنا يُريد أن يُعطاها، فقال النبي أين عليّ؟ إنه عليّ إذن، والحديث في البخاري ومُسلِم، أين عليّ؟ قيل يا رسول الله به وجع، قال ما وجعه؟ قالوا يشتكي عينيه، بهما الرمد! فأرسل إليه، فأُوتيَ به يُهادي بين رجلين، لا يستطيع أن يمشي، لا يرى شيئاً، فأجلسه بين يديه الشريفتين وبصق في عينيه، ودعا له فقام كأن لم يكن به وجع، كل شيئ انتهى في الحال، وأعطاه الراية، إلى آخر الحديث، عجبٌ! شيئ عجيب، عجبٌ!
أما البركة في الأرزاق فالأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تُذكَر وأشهر مَن أن تُحصَر، أي أشهر مَن أن تُحصَر وأكثر من ان تُذكَر في هذا المقام، لكن نجتزئ بالقليل إن شاء الله تعالى، عروة البارقي – الصحابي رضوان الله عليه – يقول أتيت النبي فدعا لي أن يُبارِك الله لي، قال فكنت أظن ألو رفعت حجراً أو لو تاجرت في التراب لرُزِقت، حتى في التراب! النبي دعا لي، النبي دعا لي بالبركة في الرزق، كما دعا لعبد الرحمن بن عوف، الصحابي المليونير بلُغة عصرنا، وكان فقيراً، كان إنساناً عادياً، يقول أنس – كما أخرجاه في الصحيحين، أي البخاري ومُسلِم – دعا النبي لعبد الرحمن بن عوف أن يُبارَك له، فقط اللهم بارك له قال، اللهم بارك له! فكان عبد الرحمن مجدوداً، أي كان صحب حظ، كان مجدوداً في الرزق، في البيع، وفي الشراء، يقول كنت أظن أنني لو حرَّكت حجراً – يقول ابن عوف – لوجدت تحته ذهباً وفضةً، شيئ عجيب! يربح الملايين، وهو الذي تصدَّق بقافلة فيها سبعمائة بعير، تصدَّق بأحلاسها وبما عليها وحتى بعقلها، تصدَّق بها كلها لوجه الله تبارك وتعالى، سبعمائة بعير! شيئ عجيب، هذه تمون أهل المدينة وربما لأشهر، تصدَّق بها كلها لوجه الله تبارك وتعالى، وحين توفاه الله – تبارك وتعالى – ترك تركة من الذهب ما قُسِمت إلا بالفؤوس، بالمعاويل! أي ملايين، وترك ثلاثاً من الزوجات وقيل أربعاً، اختُلِف في ذلك، قيل طلَّق الرابعة في مرض وفاته، رضوان الله عليه، الله أعلم! ترك ثلاثاً أو أربعاً من الزوجات، أصابت كل واحدة ثمانين ألف دينار ذهبية، هذا الثمن لأن عنده أولاداً، الثمن للواحدة قُدِّر بثمانين ألف دينار ذهبية، هذا لكل واحدة، أموال هائلة ببركة دعاء النبي، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.
دعا النبي لأبي عقيل، يقول فكان جدي عبد الله بن هشام يخرج بي إلى السوق، يتبرَّك به، لأن النبي دعا لهذا الغُلام الصغير، فكان يخرج به جده إلى السوق ليشتري الطعام، قال فيلقانا عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزُبير – رضيَ الله عنهما – فيقولان أشركنا، نُريد نحن أن نُتاجِر معك ونشتري معك أي شيئ، لأن النبي دعا لك، النبي دعا لهذا الغلام فأشركنا، قال فيُشرِكهم جدي فنربح جميعاً، يقول الراوي فربما أصاب الراحلة، فبعث بها وبما عليها إلى البيت، كما هي! ربح عجيب جداً جداً.
ضباعة بنت الزُبير – هذا بن عبد المُطلب طبعاً وليس ابن العوام، ضباعة بنت الزُبير بن عبد المُطلب – كانت تحت المقداد، أي زوجته، يُقال كانت تحته، أي زوجته، كانت زوجته! المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد بن الأسود، هو نفسه! كانت تحت المقداد، قالت – وطبعاً كانت حاله ضنكاً، أي شديدة، لم يكن عنده شيئ من مال المسكين، كان فقيراً – فخرج يوماً إلى خربته، لم يكن عنده بُستان، كان عنده خربة، مكان لا فيه شجر ولا فيه ماء ولا فيه ظل ولا فيه ثمر، خربة! الناس عنده بساتين وهو عنده خربة، خرج المسكين إلى خربته وجلس هكذا، فإذا بجرذ – أي فأر كبير أو عرس – يخرج من جُحر ويسحب ديناراً، استغرب! جُرذ ويخرج بدينار! شيئ عجيب،أخرجه من الأرض فأخذه، عاد الجُرذ وسحب ديناراً آخر، وهكذا حتى سحب سبعة عشر ديناراً، الرجل أدرك أن من وراء هذا الأمر سراً، فأخذها وأتى بها النبي، لم يستحلها لنفسه، شيئ غريب جداً! فسأله النبي سؤالاً، وانظروا إلى السؤال، قال يا مقداد هل أتبعت يدك الجُحر؟ أي هل أدخلت يدك في الجُحر؟ قلت كلا يا رسول الله، فاستحسن ذلك، إذن السياق حسن جيد، ثم قال له صدقةٌ تصدَّق الله بها عليك، بارك الله لك فيها، تقول ضباعة بنت الزُبير بن عبد المُطلب فما فنيَ آخرها – الدينار السابع عشر آخر واحد – حتى كان للمقداد غرائر الورق في البيوت، الغرائر جمع الغرارة، وهي الكيس الكبير، كما نقول كيس الخيش هذا الذي فيه خط أحمر، الغرارة هي الكيس، فهذه أكياس أو غرائر، أكياس! أكياس من الورق، ما هو الورق؟ الفضة، أكياس من الفضة، أي ملايين! ببركة ماذا؟ دعوة النبي في هاته السبعة العشر الدينار، غرائر الورق!
ولذلك يا أحبابي أنا أعلم كما تعلمون أن أكثر ما يُهِم الناس وأكثر ما يُقلقِلهم وأكثر ما يُزلزِلهم وأكثر ما يُمتحَن به إيمانهم هو المال والرزق، فلا تخافوا، لا تخافوا وليكن عند الواحد منكم ومنكن يقيناً بالله تبارك وتعالى، الرزق بالبركة وليس بكثرة العد، لا والله! بالبركة، إذا بارك الله لك في القليل آض وصار القليل كثيراً كثيراً كثيراً، وإذا محق الله بركة الكثير آض قليلاً قليلاً قليلاً، انتبهوا! الرزق بالبركة وليس بالعد، عندي مليون أو عشرون مليوناً أو حتى مليار، لا! والله بالبركة يا إخواني، بالبركة! نسأل الله أن يُبارِك لنا في كل ما خوَّلنا وأنعم به علينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، اللهم آمين.
أيضاً من بركته – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – أيها الإخوة والأخوات البركة في النسل، في الولد! هناك الحديث الجميل الجليل الذي يرويه أنس بن مالك، وهو مُخرَّج في البخاري وفي غيره، حديث صحيح! يقول أنس مرض ابن لأبي طلحة، وأبو طلحة كان زوج أم أنس، أي أم سُليم، أم سيدنا أنس، تزوَّجها أبو طلحة، الصاحبي الفارس الكبير، فكان ربيباً له، كان أنس ربيباً لأبي طلحة، لذلك يروي أشياء كثيرة من شؤون أبي طلحة، أشياء كثيرة! منها حديث الخمر، وهكذا، يقول مرض ابن لأبي طلحة، فخرج أبو طلحة وتوفى الله الولد وأبو طلحة خارجٌ، أي في الخارج، وأبو طلحة خارجٌ توفى الله الولد، فلما عاد في المساء سأل أمي – أم سُليم -، قال لها يا أم سُليم ما فعل الغُلام؟ وقد نحته هيَ وهيَّأت شيئاً آخر مكانه، أي كأنه هو، ووضعت الجُثة في مكان بحيث لا يراها أبوه، وضعت شيئاً مكانه، قالت له لقد سكنت نفسه، وإني لأرجو أن يكون قد ارتاح، وفي رواية هو أسكن ما كان، في رواية بلفظ هو أسكن ما كان، فصدَّق الرجل، هي عرَّضت له في الكلام، وإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب كما في حديث ابن عباس، عرَّضت! لم تكذب هي، لكن عرَّضت له، فعلاً سكنت نفسه وارتاح، ولم يجر عليه القلم، هو غُلام صحيح، رضيع ربما، بلا شك ارتاح، وهو أسكن ما كان، هذه حقيقة، لكن هو أخذ بظاهر القول ففرح، وكانت قد هيَّأت نفسها وأخذت زينتها فأصابها، أي أتى أهله، ثم نام، فلما أصبح اغتسل وأراد أن يُصلي الصبح جماعة خلف رسول الله، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، فلما أن أراد أن يخرج قالت له أم سُليم يا أبا طلحة أرأيت لو أن رجلاً أعارك عاريةً ثم استعاد إياها – أي استرجعها، أخذ وديعته أو عاريته – أكنت تجزع؟ قال كلا، قال فإن الله – تبارك وتعالى – قد أعارك ابننا، وإنه قد استرجعه، الله أكبر! ما هذه المرأة؟ ما هذا العقل؟ ما هذا الإيمان؟ ما هذا اليقين؟ ما هذا الحلم؟ وما هذا العلم؟ ألا رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها، امرأة عظيمة جداً يا أخي! هؤلاء هن تَلميذات محمد، هذا معنى أن تكون تَلميذاً لرسول الله، وهذا معنى أن تكوني مُسلِمة حقيقية، مثل هذا اليقين ومثل هذا العقل! ولماذا تهيَّأت له؟ هل عندها إقبال على هذا الشيئ؟ يستحيل! ولكن هي بوفور عقلها أراد أن يُعوِّضها الله خيراً بصبرها ويقينها، وقد أصابت ما أرادت، رضوان الله تعالى عنهم أجمعين، فقال إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩، لم يُثنِه هذا عن السير إلى المسجد، لم يجلس ينوح كالنساء – ولكن لا كهذه المرأة، هذه جنس آخر من النساء – أبداً، إنما تابع مسيره إلى المسجد، وصلى الصُبح جماعة خلف الأبر الأطهر وميمون النقيبة، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، ثم قال يا رسول الله قد حدث كذا وكذا وكذا، في رواية قال له يا أبا طلحة أصبت أهلك؟ سأله النبي أصبت أهلك الليلة؟ قال فقلت نعم يا رسول الله، فقال بارك الله لكما في ليلتكما، الله أكبر، دعوة ويا لها من دعوة! بارك الله لكما في ليلتكما، أبو طلحة نفسه يقول فحملت ثم رُزِقنا بولد، ذكر! فأتيت النبي – صلى الله عليه وسلم – به، أخذه إلى النبي! قال فحنَّكه، أي لاك تمرة هكذا حتى انماعت في فمه ثم حنَّكه بريقه الشريف المخلوط بهذه التمرة المنماعة، ثم وضع يده الشريفة على رأسه ودعا له، فشب أحسن شبوب، ولم يكن ناشئٌ في الأنصار أفضل منه، وكان موضع كف رسول الله من رأسه كالغُرة، يلتمع هكذا، فيه نور! الكل يرى نوراً عجيباً في وجهه، لأن النبي وضع يده على غُرته، على رأسه!
يقول سُفيان الثوري – وهذا في الصحيح أيضاً، في البخاري – سمعت بعض الأنصار من أهل المدينة يقول ولقد رأيت بعد سبعة أبناء لأبي طلحة – من أم سُليم، أم أنس – كلهم قد قرأ القرآن، هكذا! هكذا بالصبر، بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، سهل أن نقول اجعلنا من أئمة المُتقين وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ۩، لكن صعب أن نتوفَّر على الشروط، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ۩، فبالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.
أما أولئكم الذين دعا عليهم النبي لشؤمهم وسوء نقائبهم – والعياذ بالله – فكالذي روى مُسلِم في صحيح عن سلمة بن الأكوع وذُكِر قريباً – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال أكل رجل عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو في مجلس رسول الله بالشمال والعياذ بالله، الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، أترضى أن تكون شيطاناً؟ النبي لا يُحِب هذا، يأكل بشماله والعياذ بالله، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم – كُل بيمينك، قال لا أستطيع، قال لا استطعت، ما منعه إلا الكبر، فلم يرفعها إلى فيه بعد، شُلت يمينه، لم يستطع أن يرفع يمينه حتى مات، النبي يأمرك بالخير، يأمرك بالبر، بالطهر، وبالبركة لك في رزقك حتى، وهذا نوع من شُكر النعمة، أن تتناولها بما يُحِبه الله تبارك وتعالى، ليس كالشياطين! قال لا أستطيع واستكبر، ربما كان عالية سنه، أي كان كبير السن، وربما كان من وجهاء قومه وأعيان الناس، فاستكبر! كيف النبي يأمرني أمام الناس؟ قال لا أستطيع، قال لا استطعت، ما منعه إلا الكبر.
يا إخواني هناك نصيحة ذهبية لنفسي أولاً ولنا جميعاً إن شاء الله تعالى، أعظم ما يُتوصَّل – وهذا مُقرَّر ومُمهَّد للجميع لكن نغفل عنه جميعاً – به إلى الله بل هو أشمل وأعم وأجمع ما يُتوصَّل به إلى الله أن تستحضر دائماً عبوديتك للحق، لا إله إلا هو! ما معنى هذا؟ معنى هذا مَن يكون عبداً للحق – لا إله إلا هو – لا يستكبر ولا يستحيي ولا يستنكف أن يأخذ بالحق إذا لاح له الحق بدليله، أليس كذلك؟ ولو من لسان فاجر، ولو على لسان كافر! لماذا؟ لأنني أنا عبد الحق ولست عبد نفسي، أنا عبد الله، وهذا الحق يرضاه الله، أنا سأرضاه، فلا يُمكِن أن تستكبر لأنك أعلم أو لأنك أغنى أو لأنك أجمل أو لأنك أقوى أو أكثر سُلطاناً أو أكثر عُدةً وعتاداً وعديداً، لا! مُستحيل، أنت عبد لله، وشأن العبد أن يُسارِع في كل ما يرضاه مولاه، إياك أن تُثبِت لنفسك صفةً مع العبودية بإزاء الحق، لا إله إلا هو! أنت بإزاء الحق مُجرَّد عبد، انتهى! إياك أن تتعامل مع الله وأنت تقول يا ربي نعم أنا عبدك العالم، أنت لست شيئاً، أنت عبده فقط، لا تقل أنا عبدك الغني، كلا! هو الغني، أنت عبده فقط، لا تقل أنا عبدك الذي جاهد فيك، لست كذلك! أنت عبده فقط، بإزاء الربوبية تنمحق كل الأوصاف، هل فهمت؟ فتحقَّق بالعبودية، كُن عبداً دائماً، افهم أنك عبد يا أخي، لماذا تستكبر؟ لماذا تستنكف؟ لماذا ترى نفسك؟ لست كذلك! وإذا أردت أن يُحقِّقك هو – لا إله إلا هو – بشرف أن تكون لك العبودية الحقة له فالتزم أنت آداب العبودية بإزائه، لا إله إلا هو! لا تغترن لا بمال، لا بعلم، لا بقوة، ولا بسُلطان، سأبقى عبداً.
النبي كان دائماً يُؤكِّد هذا المفهوم سلوكياً، كان يجلس كما يجلس العبيد، العبيد أو الأرقاء الذين يُباعون ويُشترون، فيُقال له يا رسول الله لِمَ تجلس هذه الجِلسة؟ هذه اسمها اسم هيئة الآن، هذه اسمها الجِلسة، لماذا تجلس جِلسة العبيد؟ فيقول إنما أنا عبد، أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد، أُحِب أن أتحقَّق بهذا، أُحِب دائماً أن أُؤكِّد عبوديتي لله، فلا يستكبر عبد، يستكبر مَن يظن نفسه سيداً، وهو في الحقيقة عبد نفسه والشيطان سيده، الآن ليس سيدك الله، الشيطان سيدك، انتبه! بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ۩، ولذلك النبي دعا عليه، وفي البيهقي أنه رأى سُبيعة الأسلمية – صحابية كريمة – تأكل بشمالها، فقال أخذها داء غزة، كان الطاعون قد أتى على بلاد الشام، فسُبحان الله كان يمكث فترات طويلة، فمرت المسكينة بعد فترة بغزة فأصابها الطاعون فماتت، أصابتها دعوة النبي! النبي قال لماذا؟ لماذا تأكل بشمالها؟ أخذها داء غزة، فماتت في غزة بالطاعون، من دعوته صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، شيئ عجيب!
بعث بكتابه الشهير إلى كسرى وبعث بكتاب آخر إلى قيصر الروم، فأما قيصر فوضعه، ويُقال وضعه حتى في قصبة هكذا وكرَّمه، وقال النبي أما هؤلاء فتبقى لهم بقية، هؤلاء الروم لا يُستأصلون هكذا بسهولة، ستبقى لهم بقية، سيكون لهم دولات ودورات، وأما كسرى فمزَّقه واستحمق، لعنة الله عليه، فقال النبي مزَّقهم الله كل مُمزَّق، إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، كان آخر كسرى، الله أكبر! أي حتى تُثَل عروش ويُدال من ممالك وتهوي إمبراطوريات بدعوته؟ نعم، هذا هو، هذا الذي كان، وهذا طبعاً ما لا يفهمه أي مُؤلِّف أو أي مُؤرِّخ مادي، لا! المُؤرِّخون الماديون لا يستطيعون أن يُصادِقوا على شيئ من هذا، أما نحن المِليين – أعني المِليين – فنُؤمِن بهذا، وهو يقيننا بإذن الله تبارك وتعالى، بالعكس! رسول الله في يقيننا لو دعا على السماوات والأرض لاستجاب الله، إي والله، نعم! مَن رجح إيمانه بإيمان الأمة جميعها هو عند الله أكرم من الخلق جميعاً، لذلك لو دعا لباه الله في الخلق جميعاً، لكنه لا يدعو إلا بخير، قال أما هؤلاء فتبقى لهم بقية، وأما هؤلاء فيُمزَّقون كل مُمزَّق، إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، كان آخر كسرى، لعنة الله تعالى عليه، كان آخر كسرى والعياذ بالله، هكذا!
هناك دعوات كان يُعلِّمها الناس ويرون بها السعد، يرون الفلاح قبل الصباح بدعواته الكريمات، بعضنا الآن مديون، أي مدين، عليه ديون، يقول أبو سعيد الخُدري – رضيَ الله عنه وأرضاه – فيما أخرجه الإمام أبو داود في سُننه دخل النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – المسجد، فرأى رجلاً من الأنصار يُقال له أبو أمامة جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة – انتبهوا! هذا لم يكن مألوفاً أيام النبي، أن نجلس في غير وقت الصلاة في المسجد، في غير وقت الصلاة هناك زراعة، هناك تجارة، هناك صناعة، وهناك علم، لم يكن هناك أي جلوس في المساجد هكذا للتبطل والتعطل، ما هذا؟ لم يكن معروفاً، انتبهوا – فقال له يا أبو أمامة ما الذي أجلسك في المسجد في غير وقت الصلاة؟ الناس كلها في معائشها! فقال يا رسول الله ديونٌ وهمومٌ لازمتني، قال أفلأُعلِّمك كلمات إذا أنت دعوت بها أذهب الله همك وقضى عنك دينك؟ قال بلى يا رسول الله، قال قل إذا أصبحت وإذا أمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجُبن والبُخل، وأعوذ بك من ضلع الدين وغلبة الرجال، يقول فقلتها فأذهب الله همي وقضى عني ديني، مُباشَرةً!
يروي البيهقي عن أم المُؤمِنين عائشة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، تقول دخل علىّ أبو بكر الصدّيق – أبوها رضوان الله تعالى عليها، صدّيق الامة الأكبر دخل عليها – فقلت له سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول كلمات لو كان على أحد مثل أُحد ذهباً دينٌ – أي لو كان عليه دينٌ كأُحد ذهباً، أي دين بمقدار أُحد من الذهب، دين كبير جداً، مليارات أو ملايين – وقالها لقضى الله عنه دينه، ما هي يا أم المُؤمِنين؟ أبو بكر سألها ما هي؟ هي سمعت هذا من النبي! قالت قال قولي اللهم فارجَ الهم، كاشفَ الغم، مُجيبَ دعوة المُضطَرين، رحمنَ الدنيا والآخرة ورحيمهمَا – على النداء، كله منصوب، فارجَ، كاشفَ، إلى آخره -، أنت ترحمني رحمةً من عندك – هكذا أنت ترحمني، تقرير! والمُراد منه الدعاء طبعاً، تقرير لأن هذه حقيقة، حقيقة واقعة، لا مرية فيها، أنت ترحمني رحمةً من عندك – تُغنيني بها عن رحمة مَن سواك، يقول أبو بكر فكان علىّ ذنابة من دين – أي أقساط من دين – وكنت للدين كارهاً، فقلتها فلم ألبث حتى رزقني الله فائدةً قضيت بها ديني، مُباشَرةً ببركة هاته الكلمات!
تقول عائشة وكان لأسماء أختي علىّ ديني، وكنت أستحي أن أنظر في وجهها – انظر إلى أي درجة بلغت الكرامة، لا يُوجَد استغلال للإخوة والمحبة، كل شيئ في مكانه، الهدية هدية والدين دين، انتبهوا! هكذا هي مقاطع الحقوق، ليس كاليوم، تجد مَن يُحِبك مثلاً وينفحك شيئاً لكنك تُريد أن تغتال كل مَن عنده، فإن منعك صار لا يسوى، ما هذا؟ نحن نعيش بالباطل، ليس هذا الحق، تُوجَد مقاطع للحقوق، هذه أختها، قالت وكنت أستحي أن أنظر في وجهها، من أجل هذا الدين -، فقلتها فلم ألبث إلا يسيراً حتى عاد الله علىّ بفائدة غير ميراث – قالت – ولا صدقة وقضيت ديني.
يأتيه – كما روى الإمام ابن السُني في عمل اليوم والليلة – زيد بن ثابت يشكو إليه الأرق، أنه لا ينام، قال يا زيد إذا أخذت مضجعك فقل اللهم غارت النجوم، وهدأت العيون، وأنت حي قيوم، لا تأخذك سنة ولا نوم، يا حي يا قيوم أهدئ ليلي وأنم عيني، تنام إن شاء الله تعالى، مَن أُصيب بالأرق ليقل هذا، لا يأخذ الحبوب والكلام الفارغ! هذا دعاء من قلب مُؤمِن صادق، يذهب الأرق بإذن الله تعالى.
وأخيراً – أدركنا الوقت – يقول عبد الله بن عباس – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين، وهذه ستُوفِّر عليكم ألف وخمسمائة يوور – تلا النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قوله تعالى قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ ۩ – إلى آخر الآية من سورة الإسراء، في آخر الإسراء – ثم قال هي أمان من السرقة، لو عندك مال أو عندك بيت أو عندك سيارة جديدة وتخاف من السرقة قل هذه الآية إن شاء الله، قلها في الصباح وقلها في المساء، دائماً! قلها في الليل حين تنام، يقول عبد الله بن عباس عن رجل من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم، لكنه لم ينم، لم يأته النوم – جاءه لص وفتح عليه الباب، وهو كان يراه ويجعل نفسه نائماً، فأخذ ما في الدار – أخذ ما في حومة الدار – ووضعه في كيس يُسمى الكارة، وضع كل شيئ في هذه الكارة! وهو كان فاتحاً للباب، فلما جاء إلى الباب ليخرج وجده مُغلَقاً، هو والحائط كانا شيئاً واحداً، استغرب الرجل، عجيب! فوضعها فإذا بالباب مفتوح، فحملها فإذا بالباب مُغلَق، ثلاث مرات! فقال له الصاحب الجليل يا عبد الله ضعها وامش، اذهب إلى حال سبيلك، وهو يضحك! فإني قد حصنت بيتي.
هل فهمتم لماذا الآن وفَّرت ألف وخمسمائة يورو؟ لا نحتاج حتى إلى Alarm system إن شاء الله، مَن قال هذا بيقين بعون الله يُحصِّن نفسه، وأنا أعلم مِن عباد الله الصالحين مَن يُحصِّن أهله وبيته بهذه التحصينات وقد رأى العجب، رأى شيئاً مُشابِهاً لهذا تماماً، أخبر اللص – وهذه قصة حقيقية، سمعتها مِمَن وقعت له، أخبر اللص بنفسه، هو أخبر وفضح نفسه – بأنه رأى الحائط إلى السماء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسَلَّم تسليماً كثيراً.
اللهم اهدنا إلى أحسن الأعمال والأخلاق، لا يهدي إلى أحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله بين يديك والشر ليس إليك، إنا بك وإليك.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم في هذا المُقام الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا أطلقته، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه بفضلك ومنّك، إلهنا ومولانا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(30/11/2007)
أضف تعليق