الدرس السادس عشر
تفسير سورة النساء من الآية الرابعة والثلاثين إلى الآية الثانية والأربعين
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، يا رب لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما تُحِب وترضى، لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خيرُ الفاتحين، علَّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً. اللهم آمين.
۞ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَالَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ۞
أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، يقول الله – تبارك وتعالى – الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۩، القوامة هنا أيها الإخوة هي قوامة الرعاية والمسؤولية والتدبير، وليست قوامة الاستبداد والإلغاء، ليست قوامة الاستبداد بالرأي والإلغاء وإنما قوامة الرعاية والتدبير والمُشارَكة.
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء ۩ بماذا؟ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ۩، إذن أيها الإخوة هذه الآية ناطقة أن أفضلية الرجال على النساء هي قضية فطرية، لكن الألف واللام في كلمتي الرجال والنساء ليستا لاستغراق الجنس، ليستا للجنس وإنما للماهية، فالرجل من حيث الماهية أفضل من المرأة بلا شك، وهذا لا يمنع أن يكون مِن النساء مَن هن أفضل مِن بعض الرجال، موجود! فهي ليست للجنس إنما للماهية، ماهية الرجل أفضل من ماهية المرأة، لكن بعض النساء أفضل من بعض الرجال وهذا مُشاهَد ضرورةً وحساً، لا يُنكَر، هذا مُشاهَد، فالآية ليس فيها تناقض مع الواقع.
إذن التفضيل الأول هو تفضيل الفطرة، والتفضيل الثاني هو تفضيل النفقة، وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۩، لأن الذي يتعب ويكدح والنفقة معصوبة بجبينه هو الرجل وليس المرأة، قد يقول بعض الناس الآن يتساءلون: فما بال المرأة ها هي في العصر الحديث صارت تُنفِق؟ نقول أصلاً هذا الوضع وضع شاذ وليس صحيحاً، هذا الوضع الذي فرضته وأملته الحضارة الغربية وضع يدفعون أعباءه وثمنه باهظاً جداً، ليس صحيحاً أن تُغادِر المرأة بيتها من حيث الأصل وتُشارِك الرجل في كل الميادين ويُترَك البيت بعد ذلك خراباً، بحيث يتولى تربية الأطفال والصغار المُؤسَّسات الاجتماعية الأُخرى التي لا يُمكِن أن تقوم مقام الأم والأمومة، مُستحيل! هذا الوضع شاذ أصلاً، فلا يُطلَب منا كمُسلِمين أن نُعدِّل الشرع الإلهي والكلم العلوي لكي يتواءم مع وضع الشرع نفسه لا يراه جديراً بالاحترام، الوضع هذا نفسه لابد أن يتغيَّر، ولذلك الصحيح أن دين الله – تبارك وتعالى – هو دين تدبير لا دين تبرير، غير صحيح أن يأتي العلماء والمُفكِّرون وقادة الفكر الإسلامي لكي يُبرِّروا كل وضع مُستحدَث وكل وضع جديد بلي أعناق الآيات ولي الأحكام الشرعية وأحياناً تجاوز الأحكام الشرعية والعياذ بالله تبارك وتعالى، هذا ينتهي بأخرة إلى ماذا؟ إلى نسخ أكثر الأحكام الشرعية، إلى جعلها شريعةً منسوخةً، إلى أن نُخليها وراءنا ظهرياً والعياذ بالله تبارك وتعالى، فبعد مائة أو مائتي سنة لا يبقى من هذا الشرع شيئ، غير صحيح! الشرع جاء للتدبير، لتدبير وعلاج أحوال الناس وليس لتبريرها، وهو غير مسؤول عن كل إفراط وتفريط وعن كل تقصير وغلو وقع بسبب الابتعاد عنه، أي عن هذا الشرع الكريم، هذه هي القضية!
وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۩، ثم قال فَالصَّالِحَاتُ ۩ أي من المُؤمِنات اللائي صلحت سرائرهن وعلانيتهن، قَانِتَاتٌ ۩ قال ابن عباس وغير واحد أي مُطيعات لأزواجهن، لأن من معاني القنوت الطاعة والتخشع، أي مُطيعة لزوجها، وفي الحديث الذي أخرجه أبو عيسى الترمذي – رحمة الله تعالى عليه – قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لو كانت آمراً أحداً أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها وذلك لعظم حقه عليها، وفي حديث أذكره من قديم – المُهِم رواه الإمام الحاكم في المُستدرَك – يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – والذي نفسي بيده لو كان بدنه قرحةً من رأسه إلى قدمه ثم أقبلت ولحستها – أي صديد كله وجاءت هي ونظَّفت هذا الصديد بلسانها – ما قضت حقه عليها، الرجل له حقٌ عظيمٌ على المرأة، وكما قلنا هناك تفضيل بسبب الفطرة وهناك تفضيل بسبب التعب والشقاء لتحصيل النفقة، قال – تبارك وتعالى – فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ ۩، أرأيتم؟ هذه قضية فطرية القرآن يعرضها، يعرض لها على أنها قضية فطرية وينبغي أن تبقى هكذا، حتى أبونا – وهو آدم – الله يقول له يا آدم انتبه واحذر وحاذر من هذا اللعين – أي إبليس – لأنه قد يستزلك وقد يضلك فيُخرِك من الجنة فَتَشْقَىٰ ۩، لم يقل فتشقيا، لماذا؟ لأن الشقاء معصوب بجبين الرجل، الرجل هو الذي ينبغي أن يشقى وأن يتعب لكي يُوفِّر النفقة، لم يقل فتشقيا، وبعد ذلك نأتي نتفلسف بين يدي الله تبارك وتعالى، لا! الحضارة، التطور، والأمور تغيَّرت! تطور تدهور، ليس كل تغير هو تقدم، ليس كل تغير هو تطور أيضاً، هناك تغيرات هي تدهور وتدهور حقيقي.
الغرب هذا يستطيع أن يفخر بأشياء كثيرة، لكنه بالحري وبالقطع وباليقين لا يستطيع بتةً أن يفخر بنظامه الاجتماعي، بوضع الأسرة فيه، وبطبيعة العلاقة بين الجنسين، لا يستطيع أن يفخر! لأنه – كما قلت – يدفع الثمن باهظاً كل ساعة، ها نحن قد عشنا في الغرب ونعيش، في الحقيقة الموت خيرٌ من أن يعيش الإنسان حياة كهذه، الموت! بطن الأرض خيرٌ من أن يعيش حياة – أكرمكم الله – كالكلاب الضالة، يعيشون حياة كالكلاب الضالة، الأزواج والأولاد، البنات والبنين، كالكلاب الضالة! حياة من أبشع ما يكون، وهم يجأرون بالشكوى والصراخ، لكن طبيعة النظام الرأسمالي وطبيعة النظام التصنيعي هذا لا يسمح بتغيير هذا الوضع، غير مسموح! وأصلاً في البداية الأولى – وهذا موضوع طويل تحدَّثنا فيه أعتقد في أكثر من خُطبة – الذي جعل هذا النظام الاجتماعي يتشوَّه هذا التشوّه ويأخذ هذه الشِكلة الفاسدة والشِكلة الشاذة هو ماذا؟ هو التطور الصناعي الذي انبثق وُوجِدَ هنا في أوروبا، هذا هو! لضرورات اقتصادية وليس بناءً على خلفيات فلسفية وأن بعض الفلاسفة والمُفكِّرين وأصحاب الثقافة رأوا أن الأفضل أن يعيش الجنسان حياتهما على هذه الطريقة، لا! لضرورات رأسمالية اقتصادية، وفقد الإنسان كل شيئ، فقد الإنسان سعادته، فالأفضل لنا كمُسلِمين أن نعرف قيمة هذا الكنز الإلهي المعنوي الذي وُرِّثناه عن رسول الله وأصحابه وأن نسير على ضوئه وعلى أضوائه وعلى هُداه، لا أن نأخذ في طريق تقليد هؤلاء التقليد الجاهل غير المُتحفِّظ.
قال فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ ۩، ما معنى حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ ۩؟ تحفظ زوجها في غيبته، فتحفظه في نفسها – في عِرضها وشرفها – وفي ماله، وفي صحيح مُسلِم الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة، إن نظر إليها – هكذا بهذا اللفظ، عندنا لفظ غيره وهو إن نظرت إليها، لكن هنا في مُسلِم إن نظر إليها – سرته وإن أمرها – وفي رواية أُخرى لغير مُسلِم وإن أقسم عليها، لكن هنا قال وإن أمرها – أطاعته وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله، لا تُبذِّر ماله ولا تُفرِّط قيد أنملة في شرفها وعِرضها المرأة المُسلِمة، ولذلك المرأة المُسلِمة بوازع داخلي – ليس برادع قانوني وإنما بوازع داخلي – كالرجل المُسلِم سواء بسواء هنا، وبالمُناسَبة يغيظني جداً ويُحنِقني أن بعض الناس وخاصة الرجال الذكور يتحاملون على النساء، إذا سمعوا قصة عن امرأة فاجرة وما إلى ذلك يقولون النساء لا أمان لهن، فأغضب من هذا جداً حقيقةً، أقول المرأة – وخاصة المرأة المُسلِمة – كالرجل، كما في الرجل يُوجَد أعفاء ويُوجَد داعرون – والعياذ بالله – يُوجَد في النساء عفيفات تقيات، يُمكِن أن تُضحي الواحدة منهن بحياتها مائة مرة على أن تُمَس بسوء، موجود هذا وهناك قصص قصيرة، وفيهن أيضاً فاجرات والعياذ بالله، كالرجال! موجود هذا في الرجال وموجود هذا في النساء، ولعل الفساد في الرجل أكثر منه في النساء حقيقةً، فهذا التحامل لا يجوز، هذا التحامل وتشويه صورة المُسلِمات وأن النساء كذا وكذا لا يجوز، لا نتحدَّث بصيغة التعميم ولا حتى عن الرجال، الله – عز وجل – لا يُحِب هذا، بل قال العلّامة التاج السُبكي – رحمة الله عليه – في طبقاته – طبقات الشافعية الكُبرى – يُخشى على مَن تقلَّد أمثال هذه الكلمات العظام – والعياذ بالله – أن يُبعَث يوم القيامة وقد اغتاب هذه الفئة – مثلاً – كلها، أي مَن قال – مثلاً – النساء يُمكِن يوم القيامة أن تُحاسِبه النساء المُسلِمات كلهن على أنه اغتابهن، يتفضَّل إذن! يأتي بمليارات الذنوب لكي يُطلِق البعيد لسانه سائباً هكذا من غير تدقيق، كأن يقول النساء فاجرات والنساء كذا وكذا، ما هذا الكلام الفارغ؟ ما هذا؟ وكذلك الحال مع مَن يقول الرجال كذا وكذا، في صحيح مُسلِم مَن قال هلك الناس فهو أهلكهم، الذي يقول الناس كلهم فاسدون أو الناس خونة أو الناس ليس فيهم صالح هو أفسد واحد وهو أخون واحد وهو أكذب واحد، النبي يقول هذا، هذا ليس كلامنا، وهذا صحيح، هل تعرفون لماذا؟ لأن المُسلِم الصالح التقي الذي ليس بخوّان ولا بأثيم ولا بفاجر ولا بداعر ولا بكذا وكذا أكثر صُحبته وأكثر معارفه وأكثر خِلصانه الذين يستخلصهم من بين الناس هم الناس الطيبون، على شاكلته! ولذلك هو حسن الظن بالناس، وإذا سمع بعض القصص العجيبة يقشعر بدنه، ويقول عجيب! هل في الناس مَن يفعل هذا؟ لماذا؟ لأنه لا يعرف من الناس إلا الطيبين الذين هم على شاكلته، لكن إذا وجدت المُسلِم يقول الناس كلهم كذا وكذا وكذا – يصمهم ويعيبهم ويشينهم – فاعلم أنه منهم، هو أصلاً معيوب، هو معطوب، هو مُشان والعياذ بالله، وطبعاً هو على مدار الأربع والعشرين ساعة يجلس فقط ليسمع من هؤلاء الفاسدين من أمثاله، لأن لا علاقة له ولا صُحبة إلا مع هؤلاء.
تعرفون القصة المأثورة عن سيدنا عمر حين جاء رجل من بلد لعلها مصر أو الشام، المُهِم سأله كيف وجدت؟ قال ما شاء الله يا أمير المُؤمِنين، بلدة كلها دين، كلها إسلام وتُقى، مساجد وصلاة وقرآن وعلماء وحلق للذكر، ما شاء الله! ثم جاء رجل آخر فسأله، فقال أعوذ بالله، ما هذه البلدة الفاسدة؟ الفجور والفسق وشرب الخمر والحانات والتحرش بالنساء والفتن، فالرجل تعجَّب! وعمر يقول لهذا صدقت ويقول لهذا صدقت، قالوا له يا أمير المُؤمِنين كيف تُصدِّق هذا وكيف تُصدِّق هذا؟ الكلام مُتناقِض! قال نعم، قال هذا وقع على مَن هم أمثاله وهذا بحث عن مَن هم أمثاله وأشكاله، كل واحد يبحث عن مَن هو مثله طبعاً، ولذلك في الحديث الذي أعتقد رواه ابن ماجه – إن شاء الله هو هكذا – قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – والذي نفسي بيده لو جاء رجل مُنافِق إلى حلقة فيها تسعة وتسعون مُؤمِناً ومُنافِق واحد لودعهم جميعاً – أي لتركهم – ولجاء حتى يجلس إلى أخيه، بالفراسة هكذا! أي بفراسة المُنافِقين، وهي ليست فراسة وإنما راحة نفسية، لا يرتاح للمُؤمِنين طبعاً، المُنافِق لا يرتاح لإنسان تقي، ويقول لك أنا لا أرتاح له، طبعاً لا ترتاح له، كيف ترتاح له؟ أنت مُشرِّق وهو مُغرِّب، شتان بين مُشرِّق ومُغرِّب! أين السُهى من شمس الضُحى؟ طبعاً يُوجَد فرق كبير جداً بينك وبينه، وهو أيضاً لا يرتاح لك، المُؤمِن لا يرتاح للمُنافِق الكذّاب، لا يرتاح له! وما شاء الله تجد أحياناً بعض المُنافِقين أو ضِعاف الإيمان يُحكِّم قلبه على أنه دليل شرعي، يقول يا أخي لا يرتاح، قلب ماذا؟ هل عندك قلب الأولياء؟ هل عندك قلب قطب من أقطاب الله؟ هل قلبك كقلب أصحاب محمد عليه السلام؟ استح على نفسك، ينبغي على الإنسان أن يعرف قدره وأن يستحي من الله تبارك وتعالى، صلاة الصبح لا يُصليها ثم يأتي ويقول قلبي حدَّثني، قلبك ماذا؟ قلبك فاجر أسود والعياذ بالله، قلب مُنافِق! ولا تستحي، تدّعي أنك من أهل الله ومن الناس الذين عندهم قلب معمور بذكر الله فيُرجِّح بترجيحه، أعوذ بالله! نعوذ بالله من العمى، قال قلبي لا يرتاح ويتكلَّم في أولياء الله أحياناً، يتكلَّم في بعض العلماء وفي بعض الدُعاة ويقول قلبي لا يرتاح، قلبك ماذا؟ استح، اذهب وصل الصبح في وقتها وليس في الساعة التاسعة أو الساعة العاشرة ثم تقول قلبي لا يرتاح، لا يُمكِن! هذا من العمى، هذه من الأشياء التي تدل أن الإنسان معمي البصيرة – والعياذ بالله – ومطموس على قلبه وهو لا يدري، الذي يقول قلبي يكون رجلاً من أهل الله ومن أهل الكرامات ومن أهل أولياء الله، ولا يقولها كلما هب ودب، لا يُمكِن! تجد أنه لا يقولها طيلة عمره إلا خمس أو ست مرات، في عمره كله! يقولها في أشياء مُعيَّنة وهي تعم مصالح المُسلِمين، لا يُقيِّم الأفراد ولايقول هذا قلبي لا يرتاح له وقلبي قال لي هذا وهذا مُنافِق وهذا كذا وكذا، ما هذا يا أخي؟ اتق الله! اتق الله في نفسك أولاً، اتق الله في نفسك، مَن قال هلك الناس فهو أهلكُهم، ورُويَت فهو أهلَكهم، أي كان سبباً في إهلاكهم، والأولى أفصح طبعاً وأوجه، على كلٍ هذا ولو كان في حلقة تسعة وتسعون مُنافِقاً ومُؤمِن واحد لجاء المُؤمِن ودعهم جميعاً حتى يجلس إلى أخيه المُؤمِن، حُدِّث النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – عن امرأة جاءت المدينة زائرة – هي ليست من أهل المدينة، ليست أنصارية – وكانت تُضحِك الناس، امرأة فيها دُعابة، فيها ظَرف، يُسمى الظَرف! فيها ظَرف ودُعابة، فجاءت – سُبحان الله – إلى المدينة – مدينة كبيرة فيها آلاف الآلاف – ولم تختر إلا امرأةً كانت تُضحِك الناس وفيها دُعابة، نفس الشخصية! ارتاحت إلى هذه الإنسانة من بين كل أهل المدينة، رأتها وارتاحت لها، فحُدِّث النبي عنها، قالوا له يا رسول الله هذه قصته كذا وكذا، فقال سُبحان الله الأرواح جنودٌ مُجنَّدة.
ولذلك – أيها الإخ الكريم، أيتها الأخت الفاضلة – إذا أردت معياراً لا يُخطيء تُريد أن تُعيِّر به نفسك وتطمئن بعض طمأنينة على نفسك فانظر مَن تُخالِل، إذا كنت لا تُصادِق ولا تُخالِل ولا ترتاح إلا لأولياء الله – الناس الصالحين الذكّارين البكّائين الخشّاعين الذين لا يغتابون، لا ينمون، لا يكذبون، لا يُحِبون الدنيا، ولا يتحدَّثون حديث النساء وحديث الشهوات وحديث الباطل وحديث الكلام الفارغ – فاعلم – إن شاء الله – أنك على خير، إن شاء الله! اطمئن قليلاً، أما إذا كنت ترى نفسك العكس، أصدقاؤك وخلانك على العكس، فلابد أن تدق ناقوس الخطر وتعلم أنك في خطر حقيقي وأنك من هؤلاء شئت أم أبيت، المرء على دين خليله فلينظر أحدكم مَن يُخالِل، على طريقته!
قال حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَالَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ۩، ما أصل النشوز؟ ذكرناه في دروس التفسير، هو الارتفاع، أليس كذلك؟ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا ۩، الارتفاع! لأن مبدأ العصيان والتأبي إنما يأتي من جهة أحد الزوجين لقاء الآخر أو إزاء الآخر بسبب الترفع النفساني، أي يرى نفسه أعلى منه، الزوجة – مثلاً – زوجها يكون عاملاً، المسكين ليس عنده شهادة، وهي مُتعلِّمة جامعية فتترفَّع عليه، أو يكون قبيحاً دميماً وهي جميلة جداً – مثلاً – ومنظور إليها وإلى حُسنها، فتترفَّع عليها بجمالها، أو يكون – مثلاً – من طبقة اجتماعية أدنى وهي من طبقة اجتماعية أعلى، هي من علية القوم فتترفَّع بحسبها ونسبها، وهلم جرة! أو يكون فقيراً وتكون غنية، وإلى آخره! فهي تترفَّع، فإذا ترفَّعت الزوجة على زوجها بالحري أنها لا تُطيعه، أليس كذلك؟ كيف تُطيعه؟ هي تراه أصغر منها وأحقر منها، فتبدأ دائماً تُكسِّر أوامره، لا تسمع كلامه، تتجاوز عن مراضيه وتقع في مساخطه، وهكذا! هذا أصل النشوز، هذا هو، الترفع!
وَالَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ۩، أي ترفعهن وتأبيهن وعصيانهن، فَعِظُوهُنَّ ۩، الموعظة دائماً تكون بالترغيب والترهيب، بالأمر والنهي، لابد من الترغيب والترهيب! وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ۩، ولم يقل واهجروا المضاجع، قال وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ۩، قال ابن عباس وغير واحد يُضاجِعها، ليس يُجامِعها وإنما يُضاجِعها، ما معنى الضجع؟ ينام معها في لحاف واحد، المُضاجَعة أن ينام الإنسان مع آخر على سرير واحد، الإنسان يُمكِن أن يُضاجِع صديقه، ما معنى هذا؟ ينامان على سرير واحد، هذا هو المعنى، يضطجع هذا ويضطجع هذا، هذا معنى المُضاجَعة، انتبهوا! لكنها تُستخدَم كناية عن الجماع، هذه كناية! المُضاجَعة هي النوم، واحد ينام بجانب واحد فيُسمى ضاجعه، يقول ابن عباس يُضاجِعها ولا يُجامَعها – الجماع لا! تنام معها في السرير أو في التخت – ويُوليها ظهره، حين تضطجع إلى جانبها أعطها ظهرك، هذا معناها! لكن لا تهجر الغُرفة كلها مثل بعض الرجال حين يحرد الواحد منهم، هذا أسلوب النساء، غلط! وبالمُناسَبة هذا يُنقِص من قدر الرجل في عين المرأة، انتبه! هناك أشياء لا تليق بالرجال كأن يحرد الواحد منهم، زعل المسكين فذهب ونام في المطبخ على الكرسي وما إلى ذلك أو نام في غرفة الصالون، لا يصح هذا! وبعد ذلك هي سوف تعتقد أنك صغير وأنك هيّن، لا! أنت رجل نام في غُرفة النوم لكن لا تُكلِّمها ولا تُجامِعها، وهذا طبعاً يحز في نفس المرأة، لأن المرأة تُدِل أكثر ما تُدِل بجمالها، أليس كذلك؟ بسُلطان جمالها وبفتنتها، فأنت كأنك تقول هذا الشيئ حتى لا يُساوي عندي شروى نقير، تهجرها أسبوعاً أو أسبوعين أو ثلاثة، النبي كان يهجر أزواجه أكثر من ذلك، هجرهن شهراً كاملاً، أليس كذلك؟ في موضوع المغافير هذا، وقد ذكرناه عدة مرات، وذلك لما تآمرت حفصة وعائشة – على الصحيح – عليه، هناك أُناس أدخلوا أم سلمة في الموضوع، لكن الصحيح أن حفصة وعائشة، مذكور في الصحيحين طبعاً أن هناك أُخريات، لكن الصحيح بعد الترجيح أنهما حفصة وعائشة، فالمُهِم النبي أقسم أن يهجرهن شهراً كاملاً، وفعلاً غاب عنهن شهراً كاملاً، لكن بعد تسعة وعشرين يوماً جاء النبي إلى عائشة، فقالت له يا رسول الله أنت قلت شهر، هي طبعاً مُشتاقة إليه شوقاً شديداً جداً، لكن لا تُريد ألا يحنث في يمينه، فقالت له يا رسول الله أنت قلت شهراً، قال نعم، الشهر يكون تسعة وعشرين، وهذا كان تسعة وعشرين، انتهى يا عائشة، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، قال نعم، الشهر يكون تسعة وعشرين، وهذا في الصحيحين، أخرجه البخاري ومُسلِم، أنا أعرف أنه شهر قال له، الشهر انتهى ودخل الشهر الثاني، فهو هجر حفصة وعائشة شهراً كاملاً، وبعد ذلك سوف نرى أن في يوم من الأيام أن هناك دعاية خرجت تقول أنه طلَّق نساءه، لأنه هجرهن وفعلاً صار يبات وحده فقالوا طلَّق نساءه، وهذه قصة كبيرة سوف نحكيها اليوم!
إذن الهجر يكون في المضجع وليس هجراً للمضجع، لم يقل واهجروا مضاجعهن، قال وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ۩، أي أنك وإياها تكون في مضجع واحد – في سرير واحد أو في تخت واحد – لكن من غير أن تنام معها، تُوليها ظهرك، هذا الهجر المطلوب!
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۩، هكذا بالإطلاق! هل هذا الضرب على إطلاقه أم مُقيَّد؟ مُقيَّد، الصحيح أنه مُقيَّد أيها الإخوة، مُقيَّد بما أخرجه مُسلِم في صحيحه، قال – صلى الله عليه وسلم – ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم مَن تكرهونه، فإن هن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مُبرِّح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، هذا من حديث خُطبة الوداع – أي خُطبة حُجة الوداع – في صحيح مُسلِم وفي غيره، انتبهوا! ما معنى ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم مَن تكرهونه؟ أي ممنوع أن تستضيف في البيت أي إنسان أنت لا تُحِبه، ليس معناها الزنا، أعوذ بالله! الزنا مُصيبة أكبر من هذا بكثير طبعاً، فالنبي هنا لا يتحدَّث عن الزنا، انتبهوا! فهناك مَن يفهم مِن الحديث أن النبي يتحدَّث عن الزنا، ممنوع أن تُدخِل في البيت حتى أباها وحتى أخاها أو أي واحد من قراباتها إذا أنت لا تُحِبه، إذا قلت لها – مثلاً – ممنوع على أبيك أن يدخل البيت – يُمكِن أن تصليه وتزوريه كل يوم والثاني دون أي مُشكِلة، لكن بيتي لا، لأن أباكِ أنا أخذت عليه كذا وكذا، ممنوع! لا أُريد – فهذا يكون ممنوعاً، ممنوع أن يدخل – مثلاً – أخوكِ أو خالكِ أو أي واحد، وطبعاً إذا كان ابن عمها أو ابن خالها فهذا بالحري ألا يدخل في خلوة، ممنوع شرعاً! وهذا معروف في كل الأحوال طبعاً، لكن الحديث عن المحارم مثلاً، حتى من المحارم أو حتى أي امرأة، كأن تقول ممنوع أن تدخل عمتكِ مثلاً، العمة ممنوع أن تدخل هنا، خالتكِ ممنوع أن تراكِ هنا، أختكِ ممنوع أن تأتي في بيتي هنا، ممنوع إذن، انتهى الأمر! ممنوع ولا تستطيع أن تُدخِل حتى أختها إلا بإذن زوجها، فإذ هي فعلت وكسَّرت أمرك وأدخلت مَن تكره أنت فلك أن تضربها – النبي قال – لكن ضرباً غير مُبرِّح، ولذلك رُويَ من غير وجه عن ابن عباس وغيره أيضاً في هذه الآية أنهم قالوا وَاضْرِبُوهُنَّ ۩ ضرباً غير مُبرِّح، هذه قراءة تفسير يُسمونها، هذه ليست قراءة قرآنية لكنها قراءة تفسير كما يُسمونها، وَاضْرِبُوهُنَّ ۩ ضرباً غير مُبرِّح! قال الحسن البِصري – قدَّس الله سره – ضرباً غير مُؤثِّر، لا يكون له أثر، لا يكسر، لا ينفخ، لا يُخرِج أي لون أسواد أو أزرق، هناك أُناس يضربون بالبوكس Box، هناك أُناس يضربون بالحديد والعياذ بالله، أنا أعرف رجالاً في غزة يضربون بالحديد، والله بالحديد يضربون، أُقسِم بالله! ويُكسِّرون المرأة، تتكسَّر! ما هذا؟ أتضرب بهيمة أنت؟ لذلك النبي ثبت عنه أنه نهى أن يضرب الرجل زوجته أو زوجه ضرب البهيمة، قال ثم هو يُضاجِعها، وهذا من محال الإعراب التي فيها خلاف كثير! قال ثم هو يُضاجِعها، ما إعراب هذا؟ قصة طويلة! على كل حال قال ثم هو يُضاجِعها، أي والحال أنه يُضاجِعها في الليل أو يحتاج إلى مُضاجَعتها ولابد له من ذلك، إذا كنت تحتاج إلى ذلك وتعرف ذلك فلِمَ تضربها في النهار ضرب البهيمة؟ هل هذا يجوز؟ أتضرب إنسانة ضرب بهيمة ثم تُضاجِعها في الليل؟ غير لائق حتى بك وبكرامتك وبإنسانيتك، أليس كذلك؟ بإنسانيتك غير لائق، الإنسان الكريم والرجل الحُر الأبي الكريم لا يفعل هذا، أنا أقول لكم بالمُناسَبة أحكام شرع الله في عمومها ليست مُنزَّلة ولا مُهيَّاة للطبقة النادرة المُستخلَصة من الناس – أي الناس الأولياء من الكبار وما إلى ذلك – ولا إلى الطبقة السافلة الدُنيا من الناس، هي للوسط من الناس، ودين الله دين الوسط! وأي إنسان مُتوسِّط في أخلاقه، في سلوكه، وفي كرامته – سُبحان الله – تنطبق عليه أحكام شرع الله أحسن انطباق، هناك إناس يقولون – مثلاً – الشرع أعطى الرجل حق الطلاق لكنه لم يُعط المرأة حق الخلع، ليس حقاً لها، لماذا؟ لأن هذا في النهاية مشروط برضا الزوج، لا يُمكِن إذا الزوج أبى أن يُخالِع، وقصة مصر وشيخ الأزهر في تلك الأيام معروفة، هذه القصة لماذا؟ أرادوا أن يجعلوا الخُلع مُلزِماً، إذا المرأة أرادت أن تُخالِع فهذا يُلزِم الرجل، والشريعة لا تقول بذلك، الشريعة لا تقول إنه مُلزِم، افرض أنني لا أُريد أن أُخالِع يا أخي، ما المُشكِلة؟ فأنا أقول لا، بالعكس! التصور السليم لطبيعة هذا التشريع الكريم الحنيف تحل المُشكِلة، كيف؟ المُشكِلة أصلاً تربوية، الآن بعض الناس يحسب أننا لو قننا بعض الأحكام ينصلح حال المُجتمَع، والله لا ينصلح أبداً، لا ينصلح حال المُجتمَع إلا بماذا؟ إلا بتربية الأفراد تربية إسلامية ربانية قرآنية حقيقية كما فعل الرسول بأصحابه وإخوانه، تربية حقيقية بحيث بعد ذلك يقوم الوازع الداخلي عند الرجل والمرأة وعند الكبير والصغير لدى تطبيق أحكام الله ولدى الاحتكام إلى شرع الله تبارك وتعالى، مثلاً – سأضرب مثالاً عن موضوع الخُلع وموضوع آخر – النبي – عليه السلام – يقول البيّنة على مَن ادّعى واليمين على مَن أنكر، هنا قد يقول لي أحدكم ما هذه القاعدة؟ وهذه الكلمة بالمُناسَبة جاهلية، أي كانت في الجاهلية، والنبي أخذها كما هي وأصبحت حديثاً وهي قاعدة فقهية لأنها صحيحة، البيّنة – أي الشهادة – على مَن ادّعى واليمين على مَن أنكر، أي المُدعى عليه الحق يحلف، هنا قد يقول لي أحدكم ما هذه القاعدة؟ هذه غير مُناسَبة، بالعكس! لأن أسهل شيئاً على مُغتالي الحقوق أن يحلفوا، فنحن نقول هذا الكلام ليس للناس الذين مثلنا في هذا العصر التعبان حقيقةً، لا! هذا للمُجتمَع المُسلِم، المُجتمَع بشكل عام رُبيَ على القرآن تربية مُتوسِّطة على الأقل، ليس مُجتمَعاً مُنسلِخاً من دينه، تربية فيديو Video وتلفزيونات Televisions بصراحة ثم يقول أحدهم نُريد أن نُطبِّق الشرع، أتُطبِّق على هؤلاء؟ لا يصح! والله فعلاً لا يصح، لابد أن تُربي في الأول، كيف تُطبِّق عليهم هذا؟ لا ينفع، ولذلك تخيَّل الآن لو أن هناك فعلاً دولة فيها مثل هؤلاء الحُثالات من الناس وأردنا أن نُطبِّق الشرع، سوف ترى ما الذي سيحدث، ربما واحد مثلي أو واحد مثلك غداً يمشي بدون يد، لماذا؟ لن يشهد عليه اثنان وإنما أربعة وربما يكونوا بلحى أنه سرق وأنهم رأوه، ضاعت يده! يُمكِن أن يقوموا بأي قصة طبعاً، يُمكِن أن يشهد أربعون أيضاً ومن المساجد على واحد بأنه زنى ويقولون نحن رأيناه وهو يزني، فتضيع المرأة ويضيع الرجل، يموتان! أليس كذلك؟ لأن لا تُوجَد تقوى، لا يُوجَد خوف من الله عز وجل، فالمسألة تُخوِّف!
فهذه الأحكام الشرعية ليست لمُجتمَع من الحُثالة ومُجتمَع من السفلة ومُجتمَع مُتفلِّت، شبه مُرتَد عن شرع الله، لا! لمُجتمَع رُبي على الدين، ولذلك انظروا إلى القرآن المكي، لم يكن قرآناً تشريعياً، كله تربية وعقيدة وأخلاق! أليس كذلك؟ وذلك في كم؟ ثلاث عشرة سنة، ولما استوى الإيمان على سوقه في قلوبهم ونزل في جذر قلوبهم ونقلهم الله وحوَّلهم إلى المدينة المُنوَّرة – على صاحبها أفضل الصلوات والتسليمات – بدأ ينزل التشريع وشيئاً فشيئاً، ورأيتم كيف نزل، لم ينزل مرة واحدة، فلكي يُحرَّم الخمر اقتضى الأمر تسع عشرة سنة، بعد تسع عشرة سنة تأذَّن الله بتحريم الخمر، لأنه يعرف أنهم الآن مُتهيّئون لأن يتقبَّلوا حُكم أن الخمر ممنوعة، لو أن الله حرَّمها قبل ذلك – صدِّقوني – على الصحابة لرفضوا، عائشة قالت – وهذا في صحيح البخاري – لو حرَّمها لأول الأمر لقالوا لا ندع شرب الخُمر أبداً، أي سوف نشربها! عائشة قالت هذا، وهذا الكلام صحيح طبعاً، فالآن هناك مُسلِمون أو إسلاميون مثلنا عندهم نوع من الفنتازيا Fantasy ونوع من الخيال ونوع من الهوام الديني، يظن الواحد منهم أن كل الناس مثله إذا هو تقي وإنسان طيب، يقول غداً سوف نُطبِّق الشريعة والناس كلها سوف تسير على الشريعة وسوف نُنشئ مُجتمَعاً كالمُجتمَع العُمري، غير صحيح! سوف تظهر لك مشاكل لا أول لها من آخر، ولذلك لابد أن نبدأ الآن، الآن نحن في مرحلة الدعوة، علينا أن نستفرغ الوسع قدر المُستطاع في الدعوة، في التربية، في ربط الناس بالقرآن، في تنمية مشاعر الرقابة الداخلية، مشاعر الإحسان، ومشاعر الإيمان الحقيقية، وهذا يحتاج إلى جحافل من العلماء، ليس واحداً أو اثنين وما إلى ذلك وإنما جحافل، نحتاج هذا في كل مكان، للأسف هناك جحافل من العلماء الآن لكن علماء ليسوا بعلماء، ألقاب وليسوا علماء، نحتاج علمانيين ربانيين، الواحد منهم عنده العلم الشرعي وعنده العمل الحقيقي وعنده سعة في العلم وسعة في النظر مع الخشية والتقوى والرقابة، فعلاً إنسان يكون من أهل الله تبارك وتعالى.
تسمعون بالإمام عطاء رحمة الله تعالى عليه، تَلميذ ابن عباس، عطاء بن أبي رباح وليس الخراساني، هناك اثنان، هناك عطاءان! هذا عطاء بن أبي رباح، هناك قصة مُفيدة، مَن الذي يحكي هذه القصة؟ يحكيها عطاء الخراساني، أي العطاءان! يحكيها عن عطاء بن أبي رباح، قال ذهبنا معه نزور الخليفة هشام بن عبد الملك، قال هشام حين عرف أن هذا عطاء قال افسحوا له على عجل، ومَن هذا؟ هل تعرفون مَن هو عطاء بن أبي رباح؟ رجل زنجي، كان عبداً زنجياً، مولى! نشأ وهو عبداً وبعد ذلك سيدته لما رأت من تقواه ومن حُسن أخلاقه – ما شاء الله – أعتقه، قالت له اذهب، وكان يُحِب العلم وتلقى العلم على ابن عباس وعلى أنس وعلى فلان وعلان، قالت له اذهب وكمِّل علمك وما إلى ذلك، أعتقته! عبد زنجي، كان في ظهره أشبه بالحدبة وكانت رجله فيها شبه العرج، شعره مُفلفَل، أنفه أفطس، وعيناه كان فيها عيب أيضاً، حالته غريبة الرجل هذا، لكن هذا كان من أعلم الناس، أبو حنيفة قال ما رأيت رجلاً أفضل من عطاء، لم أر مَن هو أفضل منه قال، لم أر أي عالم أو أي صالح أفضل من هذا الرجل، شيئ عجيب! يلبس قميصاً دائماً، ليس عنده لباس العلماء وما إلى ذلك، يلبس قميص ويلبس طاقية مثل هذه – قلنسوة – دائماً تلصق برأسه، من أسوأ الأنواع، من أبخس الأنواع، هذا هو فقط! هذه قضيته، هذا كان عالم المُسلِمين في عصره، ولي الله في عصره، ذهب إلى هشام، وهشام يقول له هنا، ها هنا، ها هنا، ها هنا يا شيخ، ظل يُقرِّبه! الخليفة ظل يُقرِّبه حتى أجلسه إلى جانبه ورُكبته إلى رُكبته، يتبارك به، تعال تعال قال له، الخلفاء كانوا يتباركون به، جلس فقال له يا شيخنا ماذا تُريد؟ هل من حاجة؟ قال له نعم، وبدأ يذكر له الحاجات، سوف نذكرها في مرة مُقبِلة إن شاء الله، ذكر له الحاجات، حاجات أهل المدينة، حاجات أهل الذمة، حاجات الجنود في الثغور، كلها حاجات للمُسلِمين، قال له هل من حاجة لك؟ قال له لا حاجة لي، بارك الله فيك، قال له هل هناك أي شيئ آخر نفعله لك ومُباشَرةً؟ اكتب يا كاتب – يقول له – وما يُريده افعله، قم برفع المظالم وافعل كل شيئ، فهو له جلالة حتى عند الخلفاء وعند السلاطين، لأنه إنساني تقي وعالم ورباني، لا يفتح دكاناً باسم الدين، لا يُريد مالاً، لا يُريد منصباً، لا يُريد وزارة أوقاف، لا يُريد شيئاً أبداً، لا يُريد كل هذه الأشياء أبداً، وبعد ذلك خرج فهشام قال لأحدهم تعال، خُذ هذا الكيس – كيس فيه ألف دينار ذهبية – وأعطه للشيخ، قال له يا شيخ، يا شيخ هذه هدية أمير المُؤمِنين، قال له هيهات هيهات، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، اذهب وارجع، ما هذا؟ أموال! هيهات هيهات قال له، أي بعيد وبعيد جداً أن تنالوا هذا مني، لا آخذ منكم أي شيئ، هيهات هيهات، يقول عطاء والله لقد دخل – ومن أين أتى هو؟ من الحجاز إلى الشام، أي سفر طويل جداً، يستغرق عدة أيام – وخرج وما شرب عندهم شربة ماء، لم يرض أن يأخذ ماء من عندهم، لأنه يعرف أنهم ظلمة، لكنه قال كلمته وسُمِعَت كلمته!
نحن نحتاج أيها الإخوة أن نُربي أنفسنا وأبناءنا وأجيالنا على أمثال هذه القدى، على أمثال هذه الأُسى، على أمثال هذه النماذج المُشرِّفة، لا على الأمثال المهزولة الحقيرة التي تُبغِّض الناس في الإسلام من بعض علماء المُسلِمين الآن، أليس كذلك؟ والله تُبغِّض الناس في الدين، نحن الإسلاميون والمُسلِمون أحياناً نكره هذا الإسلام الذي يُمثِّله هؤلاء، ليس الإسلام الحقيقي، هذا الذي يُمثِّله أمثال هؤلاء نحن نشمئز منه وتقشعر جلودنا منه ونتقزَّز منه! إسلام النفاق والملق والرياء، إسلام الدكاكين وإسلام الشراك والفخاخ، يرمي هكذا مصيدة لكي يصيد بها الدنيا باسم الدين، ثم إنك ماذا تُريد؟ هل تُريد من رئيس علماني الآن – ليس إسلامي حتى، مثل علان وفلان، هؤلاء علمانيون، ليسوا كهشام بن عبد الملك ومُعاوية، هؤلاء علمانيون – أن يحترم عالماً من أجل عمامته ومن أجل لحيته وهذا العالم يتملَّق ويُقبِّل الأيدي والأرجل؟ لا يُمكِن أن يحترمه، لا يُمكِن! بالعكس هو يراه عبداً له ويبدأ يأمره، يقول له نُريد فتاوى كذا وكذا وكذا، فصِّل! أنا أقول وأنت تُفصِّل، أليس كذلك؟ ويبدأ يُفصِّل رُغماً عنه، رُغماً عنه لابد أن يُفصِّل، يُقال له فصِّل فتاوى على قد كذا وكذا ويُفصِّل، ومن هنا نرى حتى التناقض في فتواهم، مرة هذا الشيئ حرام ومرة يصير حلالاً، مرة ممنوع وكذا وكذا مع اليهود ومرة يصير حلالاً طيباً مع اليهود، ما هذا يا أخي؟ هل أنت كل يوم تتقلَّب؟ لأن بحسب الآمر الكبير ما يأمر يُفصِّل، فنسأل الله العصمة والتسديد.
فإذن هذا الشرع لأوساط الناس الذين رُبوا تربية إسلامية حقيقية، ليس لكل مَن هب ودب!
قال فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ۩، إذا المرأة كانت في طوع زوجها ولا تعصيه ولا تُخالِف عن أمره ممنوع أن يضربها، ممنوع أن يُهاجِرها، انتهى! وليُعامِلها بالإحسان، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ۩.
۞ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ۞
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا ۩، انتبهوا! الله – تبارك وتعالى – الآن ذكر حالتين، الحالة الأولى نشوز المرأة والحالة الثانية نشوز من الطرفين، يُمكِن أن يكون النشوز منها ومنه، أي أن الحياة ربما أصبحت لا تُحتمَل أو لا تُطاق أو فيها إشكالات بسبب مُشترَك من الطرفين وليس فقط من طرف المرأة، ولذلك قال ماذا؟ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا ۩.
فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا ۩، رجلاً صالحاً حليماً حكيماً من أهل الزوج، ومثله من أهل الزوجة، يقول ابن عباس كما أخرج الطبري وغيره – رحمة الله عليهم رحمة واسعة – فإن رأيا – أي إن رأيا هذان الحكيمان والرجلان الصالحان – أن يجمعا – أي بينهما – أو يُفرِّقا فأمرهما جائز في الجمع والتفريق، وإن رأيا أن يجمعا بينهما ورضيَ أحدهما وأبى الآخر فمات أحدهما فالذي رضيَ يرث من الذي كره والذي كره لا يرث من الذي رضيَ، هذا كلام مَن؟ ابن عباس، هذا هو بشكل عام.
طبعاً أيها الإخوة هذه الآية فيها أحكام فقهية كثيرة، لكن سنتحدَّث باختصار، لخَّصها الإمام العلّامة الكبير ابن عبد البر – رحمة الله عليه – في الاستذكار، في كتابه العظيم والموسوعة الفقهية والحديثية الكبيرة الاستذكار قال في سطرين أجمع العلماء على أن قول أحد الحكمين إذا خالف الآخر فلا يُعتَد بقول واحد منهما، أي يُوجَد خلاف ولا يُوجَد إجماع بين الاثنين فلا نعتد، لا نستطيع أن نقول قول هذا أحسن من هذا، انتهى! لابد أن يتفق الاثنان على شيئ واحد، هذا أولاً، ثانياً وإن اجتمع رأيهما على أن يجمعا – أي لابد أن يبقى الزوجان في الحياة الزوجية، لا يُوجَد تفريق ولا يُوجَد تطليق – نفذ قولهما من غير توكيل، ليس شرطاً أن يُوكِّل الزوج أو تُوكِّل الزوجة، من غير توكيل! وإن اجتمعا على أن يُفرِّقا – يُوجَد تطليق، يُطلِّقان المرأة على الزوج، اسمه تطليق على، يُطلِّقانها على الزوج، أي على رُغمه – اختُلِفَ فيه، فبعضهم قال لابد من توكيل، وبعضهم قال حتى من غير توكيل ينفذ أمرهما، ورأي الجمهور هو النفاذ، ينفذ من غير توكيل.
هذا مُختصَر خلاف المذاهب كلها وهو خلاف مُوسَّع جداً، تقرأ فيه عشرات الصفحات في كُتب الفقه، لخَّصه ابن عبد البر – ما شاء الله – في سطرين، رحمة الله تعالى عليه وجزاه خيراً.
قال إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۩، هذه الآية فيها تأكيد للحديث الذي صار أشبه بالقاعدة، إنما الأعمال بالنيات، الله قال إِن يُرِيدَا ۩، إذا كان لديهما إرادة الإصلاح حقيقةً، لم يذهبا من أجل الاستعراض، هناك مَن يذهب على أساس أنه كبير العائلة، فالرجل يذهب من أجل ذلك وهذا لا ينفع، اذهب بنية خالصة لله أن تُؤلِّف بين هذين الزوجين، إذا كانت هذه النية مُتوفِّرة لدى كلٍ من الحكمين – إن شاء الله – الله يُوفِّق بينهما، ومن هنا يُؤثَر عن سيدنا عمر أنه بعث حكمين فرجعا ولم يُصلِحا فعلاهما بالدرة، لماذا؟ نحن فعلنا ما علينا، ما القصة؟ قال يا كاذبان قال تعالى إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا ۩، ما أردتما الإصلاح، لو كانت هناك نية خالصة لأصلحتما، الله قال يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۩، فانظروا إلى حجم قدرة النية، النية عندها قدرة اختراقية غير عادية!
أقول لك أنت حتى حين تنصح لأخيك المُسلِم بأي نصيحة – صدِّقني – إذا كانت نيتك لله وكانت النية خالصة لله لابد أن ينفعه الله بها عاجلاً أو آجلاً، ليس شرطاً مُباشَرةً وحتى النبي لم يستجيبوا له مُباشَرةً، أليس كذلك؟ إذا كان هو مُسلِماً – ليس كافراً طبعاً – ومن أهل الخير – إن شاء الله تعالى – وأنت نصحت لله – ليس لأي شيئٍ آخر – ستقع هذه النصيحة منه موقعاً اليوم أو غداً أو بعد خمسن سنين وسوف ينتفع بها بإذن الله تعالى، وإذا كانت نصيحتك ليست لله – في القلب ليست لله – لن ينتفع به، ولو أتيت له بكل كلام الصالحين – قال الحسن وقال فلان علان – لن ينفع، حتى لو أتيت له بخُطبة طويلة عريضة وبشعر وقصص وما إلى ذلك لن ينفع، لأن هذا ليس لله، النية! إنما الأعمال بالنيات، نسأل الله النية الصالحة، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ۩.
۞ وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا ۞
وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۩، هذا المعنى تكرَّر كثيراً جداً في سورة لقمان وفي سورة البقرة – في ميثاق بني إسرائيل – وياتي دائماً في سورة كثيرة، مُباشَرةً يُوصي الله بعد عبادته وتوحيده وإفراده بالوحدانية بماذا؟ بالوالدين، فهما أعظم الخلق حقاً على المرء بعد ربه، والجنة تحت أقدام الأمهات كما في الخبر.
وَبِذِي الْقُرْبَى ۩، هذا معروف وواضح، وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ۩، ما معنى وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ۩؟ الجار الذي له قرابة، هو جار لكنه قريب، تُوجَد بينك وبينه صلة نسبية دموية، النبي قال الجيران ثلاثة، جار له ثلاثة حقوق وجار له حقان وجار له حق واحد، فأما الذي له ثلاثة حقوق فجارٌ مُسلِمٌ وقريبٌ، له حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة، ثم نقِّص فالحكاية سهلة وأكمِل الحديث.
قال وَالْجَارِ الْجُنُبِ ۩، ما معنى وَالْجَارِ الْجُنُبِ ۩؟ قيل هو الجار الذي ليس بينك وبينه قرابة، أليس كذلك؟ هو ليس قريبك، وقيل الجار الجنب هو الذي يُصاحِبك في السفر، (ملحوظة) قال أحد الحضور إن الجار الجنب هو الزوجة، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا، ليس الزوجة، لم يقل أحد إنه الزوجة، ثم استتلى قائلاً الصاحب بالجنب قيل هو الزوجة، لكن الجار الجنب قيل هو الصاحب في السفر، الذي يُصاحِبك في السفر فيُعتبَر جاراً لك، يُروى عن مُجاهِد هذا، أنه الصاحب والرفيق في السفر.
أخرج ابن جرير في تفسيره أن النبي عليه الصلاة وأفضل السلام – صلوا عليه – خرج مرةً في سفر مع صاحبٍ له، أي مع واحد من أصحابه وأتباعه في سفر، فدخل النبي غيضة – الغيضة مثل حوش مُلتَف الأشجار والأغصان، يُسمى غيضة – فقطع قضيبين، أي عصاتين! قضيباً قائماً – هذا مُستوٍ وجيد – وآخر معوجاً، فأعطى المُستقيم لصاحبه، قال له يا رسول الله كنت أولى به، قال له تُعطيني المُستقيم وتأخذ أنت المعوج! قال له حق الصاحب وإن صاحبه ساعة من النهار، انظر يا أخي إلى الأخلاق العالية، قال له أنت صاحبي، نحن نسافر معاً.
بالمُناسَبة أُريد أن أحكي لكم شيئاً بالتجربة أنا وجدته من نفسي، كل إنسان تهيأ له أن يُسافِر مع ناس في حج أو في عُمرة أو في غيرهما، سُبحان الله العظيم رحلة السفر – خاصة الطويلة التي تستمر لأيام وليس لساعة أو ساعتين في قطار – دائماً تترك عندك انطباعات، أجمل وأرقى هذه الانطباعات تتعلَّق ببعض الناس الذين فعلاً أحسنوا صُحبة إخوانهم في السفر ولا تنساهم! تصير لهم مكانة غير عادية، هل تعرفون لماذا؟ لأن أخلاق المُؤمِن الحقيقية متى يبدو ويظهر جوهرها؟ في النوائب والمصائب والمحن وفي السفر، في السفر – سُبحان الله – تظهر، ورأينا العكس أيضاً، سُبحان الله السفر مدرسة، فهو يُعلِّم!
سيدنا عمر لما رأى رجلاً يشهد في آخر ماذا قال؟ كانت هناك قصة طويلة، لكن المُهِم أنه قال مَن يشهد؟ فقال واحد أنا أشهد له، والله – قال – هذا تقي، من أحسن ومن خيرة عباد الله، فقال له سيدنا عمر هل تعرفه؟ قال له أعرفه، قال له هل أنت جاره في السكن؟ قال له لا، قال له هل اقترضت منه؟ قال له لا، أي هل بينكما مُعامَلات مالية؟ فقال لا، قال له هل سافرت معه؟ قال له لا، قال له لعلك رأيته في المسجد يقرأ القرآن ويقول برأسه هكذا، أي يتمايل! قال له نعم، قال له إذن ما عرفته، قال له أنت أهبل، اذهب واسكت، أنت لا تفهم شيئاً قال له، قال له أنت رأيته في المسجد يقرأ القرآن ويقول برأسه هكذا، أي يتمايل! فظننت أنه ما شاء الله تقي.
انظر إلى سيدنا عمر، حكيم يا أخي، حكيم! هذه حكمة، هناك أناس يظنون أن الإيمان والتقوى والصلاح يجعلونك أهبل، لا! يُمكِن أن تكون من أولياء الله الكبار جداً جداً لكنك لا تُخدَع، لست أهبل أنت وتفهم كل شيئ، تفهم مَن يضحك عليك ومَن يُريد أن يخدعك ومَن يُنافِقك ومَن يحلف لك الأيمان كذباً، تفهم كل شيئ بإذن الله تعالى، وأنت من أطيب الناس سريرة ومن أحسن الناس قلباً لكن عندك من الذكاء ومن البصيرة الإلهية ما يجعلك لا تُخدَع بأمثال هؤلاء، وسيدنا عمر هو الذي قال – رفعها راية – لست بالخب لكن الخب لا يخدعني، قال أنا لست مُخادِعاً ولست ثعلباً لكن الثعلب لا يقدر علىّ فأنا أفهمه، أرأيت؟ وهو ولي، من أكبر أولياء هذه الأمة، الشيطان يخاف منه!
فعمر – عليه الرضوان والرحمة – عنده مقاييس، ما هي؟ الجيرة، تعرفه حين تُجاوِره سنة أو سنتين، تعرفه وتظهر حقيقته لك جيداً، أو في السفر بالذات، في السفر رأينا أشياء عجيبة، رأينا من بعض إخواننا – ما شاء الله – الشيئ الطيب، ووالله دائماً أتذكَّرهم وأدعو لهم بالخير، شيئ عجيب! هناك مَن يخدم إخوانه، رأينا مِن إخواننا – قد يكون هنا معي في المسجد إن شاء الله ولا أراه، حتى لا يكون هذا مدح في وجهه – والله مَن يغسل تقريباً عن أقدام إخوانه، يأتي بالدهون وبالأشياء ويُدلِّك لهم ليُذهب آلالامهم، والله! والرجل طبيب وليس إنساناً بسيطاً، فهو مُتعلِّم ويفعل هذا من باب التواضع، ورجل آخر يجعل أمواله كلها لإخوانه، أكل وما إلى ذلك، باستمرار باستمرار باستمرار! يُريد أن يخدمهم أي خدمة، هذا الإسلام، هذه الرجولة، هذه البطولة، هذه الشهامة، ورأينا آخرين – سُبحان الله – على العكس من هذا، دائماً الرجل – ما شاء الله – يتصرَّف كأنه لا يزال في فيينا في عظمته وجلاله، يُعطي أوامر وانتقادات فقط، هذا لا يُعجِبني، ولماذا هذا لا؟ ولماذا كذا وكذا؟ ولماذا لا تفعلون هذا؟ وعند أقل شيئاً ينفجر انفجاراً شديداً، عصبية وغضب وما إلى ذلك، ما هذا الحج؟ وما هذه الصُحبة يا أخي؟ ففوجئنا بهذا، أنا شخصياً فُوجئت، أُقسِم بالله! وفُوجئنا أن هذا الشخص المسكين بعد الحادثة هذه ما عُدنا نرى وجهه هنا، وكنت أظنه من الناس الصالحين، خجل من نفسه وهو عنده الحق في أن يخجل، أنت في امتحان سفر، هذا ليس امتحان جهاد، أين أنت من يا أخي الصحابة والتابعين؟ وتعرفون قصة التسعة الذين كانوا في المعركة وكانوا يُنزَعون، الدم يسيل والواحد منهم يُريد قطرة ماء فقط، لكنه يقول لا، أخي الذي إلى جانبي أحوج إليه مني، اسق أخي في الأول، الله أكبر! وهكذا مع الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع، يُقال تسعة، حين وصل إلى التاسع قال لا، عُد إلى أخي فهو أحوج، رجع إلى الأول فوجده ميتاً، وكذلك الحال مع الثاني والثالث والرابع وهكذا، التسعة ماتوا! بهذه الأخلاق وبهذا الإيمان، شيئ عجيب! بماذا تصفه هذا؟ هذا غير موجود الآن، هذه كأنها أساطير الآن، هذه أساطير! الأمم كلها ليس عندها شيئ تشرف به مثل هذه القصص، ولذلك الله فتح العالمين، فتح عليهم الدُنى، ليس بالكلام وليس بالمظاهر، هذا الإيمان الحقيقي، اللهم حقِّقنا ببعض ذلك، لأن كل هذا صعب، فالله قال ماذا؟ وَالْجَارِ الْجُنُبِ ۩، قيل هو الصاحب في السفر وقيل هو جارك، جارك نعم لكن ليس بينك وبينه قرابة.
حقوق الجار كثيرة جداً جداً، لن نُطوِّل بذكر أحاديث معروفة لديكم، لكن هناك حديث في الصحيحين مشهور لنا جميعاً، ما زال جبريل يُوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُورِّثه، ما معنى سيُورِّثه؟ أي سيجعل له نصيباً من تركتي، مثل أقربائي سيصير، مثل عصبتي ومثل أولاد عمي ومثل أبنائي وما إلى ذلك، مثلما يأخذ أولادي وأولاد عمي مني يُمكِن أن يأخذ جاري أيضاً من تركتي حين أموت، أي من شدة ما أكَّد جبريل حق الجار ومن شدة ما عُنيَ بها الشارع الحكيم، أي الله تبارك وتعالى، قال حتى ظننت أنه سيُورِّثه، يجعل له نصيباً في تركتي وفي ميراثي، وروى أحمد وغيره خير الأصحاب خيرهم لصاحبه، وهناك حديث مُعاذ المشهور الآخر، قال ما تحاب اثنان في الله إلا كان أحبهما إلى الله أحبهما لصاحبه، إذا كنت تُحِب أخيك أكثر مما يُحِبك فالله يُحِبك أكثر منه، تخيَّل! وهذا في معناه خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره، الأحاديث كثيرة جداً جداً في الجار، أمس ذكرنا الحديث الذي في الصحيحين لما سأل عن الزنا وقال لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بحليلة جاره، لعظم حق الجار، أن تزني مع عشر نساء أسهل عند الله – أي هذا الذنب – من أن تزني بحليلة جارك والعياذ بالله تبارك وتعالى، هذا من عظم حق أيضاً، ويُوجَد حديث عند أحمد فيه نفس الشيئ، يشهد له ما في الصحيحين، فلا نُطوِّل أيضاً بذكره.
وأما حد الجيرة فاختُلِف فيه، كان أبو بكر وعمر وهما خليفتان يُنادي كل واحد منهما في خلافته في الناس، هو يُريد أن يُفهِّم الناس هذه الأخلاق، ماذا يقول لهم؟ الجار إلى أربعين داراً، أربعون من هنا وأربعون من هنا وأربعون من هنا وأربعون من هنا، من الأربع جهات، تخيَّل! أربعون في أربعة يُساوي مائة وستون، أي مائة وستون دار، كل هؤلاء جيرانك، وهذا الكلام – سُبحان الله – كنا نسمعه من آبائنا ومن الناس العوام وله أصل في الشرع، الجار إلى أربعين داراً، تخيَّل!
وقال بعض الصحابة – ولعله يُروى عن أبي بكر الصديق أيضاً – الجار حيث ينقطع الصوت، حين تُنادي قائلاً يا ناس، يا هووووووووه، أينما يبلغ الصوت يكون مَن في المحل جارك، كم دار يبلغها الصوت؟ أربعين داراً أو ثلاثين داراً أو عشرين داراً، المُهِم حيث ينقطع النداء، ناد بأعلى صوتك، مَن آخر واحد سوف يسمعك؟ آخر واحد سوف يسمعك هو جار لك، وهذا معقول أكثر أيضاً، هل تعرف لماذا؟ لأن لو حصل أي شيئ – نشب حريق أو هجم لص – وقلت أغيثوني يا عباد الله، يا جيراني، يا ناس، يأتي إليك مَن؟ مَن سمعك، فمَن سمعك هو جارك ومن ثم له حق عليك، أليس كذلك؟ وأنت لك حق النُصرة عليه والإغاثة، وها هو أغاثك، ما دام أغاثك إذن هو له عليك أيضاً حقوق، هذا منطقي جداً، حيث انقطع النداء! أرأيت؟ فلسفة شرعية عجيبة وغريبة من عند الصحابة، الله – سُبحان الله – يُلهِمهم، يُعطون أشياء من عند الله، رضيَ الله عنهم وأرضاهم.
قال وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ۩، وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ۩ قيل هو أيضاً الرفيق في السفر، وقريب أن يكون هو الصاحب بالجنب، وقيل هو الزوجة، ففيها تفسيران!
وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۩، روى الإمام النسائي في الكُبرى – الكُبرى هذه يُقال طُبِعَت قبل سنوات، لكن أنا إلى الآن لم أحصل على نُسخة منها للأسف، السُنن المطبوعة بيننا وشرحها السيوطي وغيره هي السُنن الصُغرى بالمُناسَبة، لذلك حين تجد حديثاً يقول لك رواه النسائي ولا تجده في السُنن المطبوعة لا تقل إنهم كذبوا، لا! التي عندنا هي الصُغرى، هناك أحاديث كثيرة غير موجودة فيها، النُسخة الأُخرى اسمها السُنن الكُبرى، أكبر وأوسع فعلاً من السُنن المطبوعة للنسائي، على كل حال روى النسائي رحمة الله عليه في السُنن الكُبرى الآتي – أن أحد الصحابة قال كان النبي في مرض موته الذي مات فيه يُوصي ويقول الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، فجعل يُردِّدها حتى ما يفيض بها لسانه! أي أصبحت لا تخرج بسهولة، يقول بصوت مُنخفِض الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى قضى عليه الصلاة وأفضل السلام، انتبهوا فهناك مسألتان مُخيفتان، قال الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، النبي مات وهو يقول الصلاة الصلاة!
حدَّثتكم ذات مرة بقصة – موعظة جيدة – عن أخ في الله من سوريا، (ملحوظة) أشار الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم إلى أن أحد الحضور في المسجد زار هذا الرجل، ثم استتلى قائلاً هذا الرجل أخ في الله، الآن لم أره مُنذ تقريباً ثنتي عشرة سنة، أُحِبه حُباً جماً لصلاحه وتقواه وصدقه في حديثه، شيئ عجيب! يتورَّع جداً في الحكاية وفي الكلام، يقول لعله يكون هذا أو هذا، عجيب! يخشى أن يقع في الكذب، ورأى الرسول مرات ومرات – ما شاء الله – في المنام، فنسأل الله أن يفتح عليه وأن يزيده أيضاً وعلينا جميعاً، رجل صالح! له قريب – ابن عم أبيه – كان لا يُصلي، والقصة حقيقية تماماً، ابن عم أبيه كان لا يُصلي وكان مُسرِفاً على نفسه، ويبدو أن الرجل لم يكن مُنضبِطاً كما يُقال للأسف الشديد، المُهِم ماذا حصل مع هذا الرجل؟ نام ذات مرة في وقت العصر – أي مساءً، نام مساءً – فلما قام قام بحالة غريبة عجيبة، كأنما حُرِقَ بالنار، محروق كله! كالزفت، كالقار، كله! ولا يتكلَّم، فدهش أهله دهشاً عجيباً جداً، ما هذا؟ من أين؟ كيف؟ ما الذي حصل؟ هذا حدث له وهو في فراشه، لم يتكلَّم الرجل، فقط دموعه تنزل، يُسبِل دموعه ويُرسِلها ولا يتكلَّم، ظل هكذا في أول يوم وثاني يوم وثالث يوم، يقول أخونا مُصطفى عند صلاة العصر نطق، قال لهم إن عشت سوف أُحدِّثكم – أي سوف أقول لكم ما الذي حصل معي في المنام وقد قام محروقاً – وإن مِت أقول لكم صلوا، ومات من ساعته! نسأل الله أن يغفر له، إذن ما الذي حصل معه؟ حُرِق في الرؤيا وقام محروقاً، قصة من أعجب ما يكون، أنا أُصدِّق هذا الشيئ، لأن الذي حدَّثني صادق بحمد الله تبارك وتعالى، من أصدق إخواني الذين رأيتهم في حياتي الأخ مُصطفى هذا حفظه الله، شيئ عجيب! الصلاة ليست لعباً، الصلاة! النبي قال الصلاة الصلاة، كما قلت لإخواني مرة في درس هنا لا يقل لي أحدكم أنا جيد وقلبي أبيض وأنا كذا وكذا، هذا لن ينفع، لن يكون قلبك أكثر بياضاً من عيسى – عليه السلام – الذي يُحيي الموتى، أليس كذلك؟ وعيسى ماذا يقول؟ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ۩، تخيَّل! عيسى الله قال له انتبه يا نبيي ويا روحي ويا كلمتي، إياك وترك الصلاة، ما دمت حياً لابد أن تُصلي، انتبه ولا تترك الصلاة، هذا يعني أن الصلاة خطيرة، أخطر مما نتخيَّل، أليس كذلك؟ ولذلك بصراحة يجب أن نغضب أيها الإخوة – نغضب لله تبارك وتعالى – إذا سمعنا أحمق وأبله من الناس يُسأل عن رجل فيقول ماذا؟ ما أحسنه! ما أظرفه! ما أجمله! لكنه لا يُصلي، يا أخي أنت أظرف منه ما شاء الله، ما أسوأه! ما أحقره! وما أسوأك أنت أيضاً، ما دام هو لا يُصلي لا خير فيه، لا نمدحه بكلمة، هو من أسوأ عباد الله، وقل له هذا، قل له إذا كنت لا تُصلي أنت هالك يا مسكين، ولو مت لذهبت إلى الجحيم ربما، لا يُمكِن! لا حظ في الإسلام لمَن لا صلاة له.
وما ملكت أيمانكم النبي قال أيضاً، النبي كان يقول استوصوا بالضعيفين، مَن هما الضعيفان؟ المرأة والعبد، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۩، ضعيف المسكين هذا، هو تحت رحمتك، جعلك الله مُسلَّطاً عليه ومُستحوِذاً على ما ملك وعلى رقبته، فاتق الله فيه.
سيدنا أبو ذر الغفاري رآه ذات مرة أحد الناس يمشي وعليه ثوب وعلى عبده ثوب، ومن نفس النوعية! لكن هذا داخلي وهذا خارجي، فقال له يا صاحب رسول الله لو جعلت هذا على هذا لكان حُلة، أي لو لبستهما معاً لكان هذا أحسن لك وأوجه بك، لماذا فرَّقتهما عليك وعلى عبدك؟ قال له تعال أُحدِّثك بالذي حصل، ألبس عبده مثله! قال له سببت رجلاً يوماً – مُصرِّح به أيضاً في روايات في الصحيح أنه بلال بن رباح، أي سيدنا بلال – فعيَّرته بأمه – مُصرَّح أيضاً به في رواية أُخرى في الصحيح أنه قال له يا ابن السوداء، أي أمك سوداء، يا زنجي! قال فعيَّرته بأمه – فبلغ ذلك الرسول فقال يا أبا ذر إنك امرؤٌ فيك جاهلية.
أيها الإخوة كم في، كم فيكم، كم فينا من جاهلية؟ والله كثير، والله فينا من الجاهلية كثير، والله العظيم! ولابد أن يُحاسِب كل واحد فينا نفسه، لابد أن يرى ما فيه من جاهلية، أي شيئ يتناقض مع الإسلام ارفضه، لا تقل لي أخذته من أبي، أخذته من العادات، العادات العربية الأصيلة والأفكار يا أخي وما إلى ذلك، أنت جاهل، فيك جاهلية، طبِّق الإسلام قدر ما تستطيع، وإذا فيك جاهلية قل في جاهلية وأسأل الله أن يُعينني لكي أتخلَّص منها، انظر إلى هذه المسألة البسيطة، الآن – مثلاً – لو أحدنا عيَّر أخاه بشيئ – قال له اذهب يا كذا ويا كذا وعيَّره – تكون هذه جاهلية أم لا؟ جاهلية، فيك جاهلية إذن، إذا رأيت أنك أحسن واحد وعيَّرت أي واحد من المُسلِمين فأنت فيك جاهلية، يجب أن تفهم هذا وتستغفر الله وتعرف أن إيمانك ناقص وإسلامك ناقص، فيك جاهلية شئت أم أبيت، إذا رأيت واحداً – مثلاً – أمامك وفي قلبك ضحكت وقلت الحمد لله فالله جعلني أحسن منه، أنا أحلى منه ولوني كذا وكذا، فهذا يعني أن فيك جاهلية، الله لا ينظر إلى لونك ولا إلى منخارك ولا إلى هذه المعايير الجاهلية، الله ينظر إلى القلب، ينظر إلى الصلاح هنا، أليس كذلك؟ فلا تظن أنك أحسن من أي واحد من عباد الله، وإلا تكون فيك جاهلية، معاييرك إبليسية جاهلية، ليست مُحمَّدية رحمانية، أليس كذلك؟ قال له إنك امرؤٌ فيك جاهلية، وفي رواية أُخرى ماذا قال له؟ قال له طف الصاع يا أبا ذر، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى، هذا في رواية أُخرى، فهو قال له إنك امرؤٌ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمَن كان أخوه تحت يده فليُطعِمه مما يطعم وليُلبِسه مما يلبس، ولا تُكلِّفوهم ما لا يُطيقون، وإذا كلَّفتموهم فأعينوهم.
انظر إلى العجيب في هذا الحديث، هذا الحديث في الصحيحين، أي في البخاري ومُسلِم، النبي يقول إخوانكم خولكم، كيف إخوانكم خوالكم؟ الآن هل أخوك من أمك وأبيك هو عبدك؟ هل أخوك هو عبدك؟ النبي ماذا يقول؟ إخوانكم عبيدكم، كيف هذا؟ العكس هو الصحيح، أليس كذلك؟ عبيدكم إخوانكم، خولكم إخوانكم، لكن النبي يعرف ماذا يقول ويُريد أن يُعلِّمنا، كأنه يقول الأخوة الحقيقية الني يجب أن تُعنوا بها وأن تعتبروها هي أخوتكم لهؤلاء العبيد، ومن هنا قدَّم الخبر على المُبتدأ، أرأيت؟ هذا هو طبعاً، أنت حين تأخذ الكلام بالظاهر لن يكون لهذا الحديث معنى، إخوانكم خولكم! أي هل أخي من أمي وأبي هو عبدي؟ هل كل واحد عنده أخ سوف يكون أخوه عبده؟ ليس هذا ما يُريد النبي أن يقوله، هو يقول خولكم إخوانكم، لكنه قدَّم إخوانكم فقال إخوانكم خولكم للعنو الزائد بهذه الأخوة وأنها يجب أن تكون مرصودة بكل اعتبار وبكل احترام وتقدير، أرأيت؟ والخول جمع خائل، ويُطلَق على الأمة وعلى العبد كليهما، أي على الذكر والأُنثى، اسمه خائل والجمع خول، أي عبيدكم وإماؤكم هم إخوانكم، هذا هو القصد، إخوانكم خولكم!
فمَن كان أخوه – لم يقل فمَن كان خائله تحت يده، لم يقل فمَن كان خائله، إذن ماذا قال؟ فمَن كان أخوه، يُريد أن يُؤكِّد أنه فعلاً أخوك، انتبه! أخوك أخوك – تحت يده فليُطعِمه مما يطعم وليُلبِسه مما يلبس، ولا تُكلِّفوهم ما لا يُطيقون، وإذا كلَّفتموهم فأعينوهم.
مثلما تطعم تُطعِمه، مثلما تشرب تُشرِّبه، مثلما تلبس تُلبِّسه، ومنا هنا انظر إلى سيدنا أبي ذر الغفاري وما فعله مع عبده، الله أكبر!
في الصحيحين – في البخاري ومُسلِم – يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يُجلِسه فليُناوِله لقمةً أو لقمتين أو أُكلةً – أُكلة بالضم وليس أَكلةً – أو أُكلتين، فإنه إنما وليَ حره وعلاجه، ما معنى الكلام هذا؟ يقول إذا جاء خدّامك – سواء كان خدّاماً أو عبداً، هم كان الخدم عندهم عبيداً، والآن يُوجَد خدّام فقط، هناك خدّامون حقيقيون، أليس كذلك؟ – أو عبدك أو أمتك بالطعام – بالأكل – وأردت أن تُجلِسه لكي يأكل معك فهذا أحسن وأحسن طبعاً، هكذا قال النبي، هذا أحسن شيئ، إذا لم تُرِد أن يجلس لكي يأكل معك لاعتبارات أُخرى وهو – مثلاً – مشغول – عندهم عمل في المطبخ أو أي شيئ آخر – فلا تدعه يذهب هكذا، ماذا قال النبي؟ فليُناوِله لقمةً أو لقمتين – من أجل أن تُطيِّب نفس هذا المسكين – أو أُكلة أو أُكلتين، فإنه إنما وليَ حره – حر ماذا؟ الطعام، هو الذي نفخ في الطعام وطبخه وما إلى ذلك، تبهدل المسكين – وعلاجه، العلاج هو التدبير، أي دبَّره، طبخة وضبطه وبهَّره وما إلى ذلك، هذا هو المقصود، انظر إلى مدى الرحمة!
النبي ذات مرة رأى رجلاً مجذوماً، فيه جُذام، أي تتساقط أطرافه، وهذا مرض مُعدٍ وخطير، حقير المرض هذا! ولم يكن له أي نوع حتى من الدواء، خطير جداً! والنبي قال فر من المجذوم فرارك من الأسد، النبي قال هذا! ومع ذلك جاء هذا المجذوم وأراد النبي أن يجبر خاطره، قال له تعال، أخذ يده ووضعها في القصعة، وضعها في القصعة وقال له كُل، بسم الله، ثقةً بالله وتوكلاً على الله، سوف آكل معك أيضاً، جبر بخاطره، أرأيت كيف؟ كُن رحيماً بالناس، كُن مُتواضِعاً قريباً، وخاصة للضعفاء، كلما رأيت رجلاً ضعيفاً كُن هكذا.
النبي – عليه السلام – كان يُلبي دعوة الفقراء والضعفاء، حين يأتي رجل فقير ويدعوه يُلبي الدعوة، يركب على حمارته ويذهب إلى هذا الفقير الضعيف، ذات مرة لبى دعوة رجل دعاه على فصوص ملح، للأسف ليس عنده شيئ إلا الملح والماء، أخذ الفصوص وشرب الماء ودعا له بخير، ففرح هذا الفقير، أرأيت هذه العظمة؟ هذه هي الأخلاق، والناس الربانيون عندهم من أخلاق رسول الله، أليس كذلك؟ هناك أُناس إذا الواحد منهم دعاه رجل رسمي أو رجل مُهِم يجري إليه جرياً، ذات مرة رأيت رجلاً – احتقرته، لا تزعلوا مني، طبعاً هو لا يعرف لكن الله عز وجل هو الذي يعرف – يقول أن أُناساً رسميين دعوه وأخذ ورقة للذكرى، قلت عقلك ناقص، ذكرى ماذا يا أخي؟ فرح بشدة لأن هؤلاء دعوه فأخذ الورقة ووضعها معه، سوف يبروِزها، سوف يُعلِّقها في الدار، يا أخي ما هذا؟ المُسلِم أجل من هذا، أنت أكرم يا مُسلِم من هذا، أنت أكرم يا أخي من هذا، أنا أُحِب – والله العظيم – من المُسلِم بالذات – أي مُسلِم خاصة لو كان يعرف من نفسه أنه مُستقيم والحمد لله وأن ليس له في اللف والدوران وكان رجلاً من رجال الله – أن يرى نفسه أكبر من أكبر ملك في الدنيا، هكذا! وأنا أقول لك إذا لم تر نفسك أكبر من ملوك الدنيا فأنت مُسلِم ناقص، إيمانك ناقص وفيه عبث، ولا تقل هذا غرور وعُجب، لا! كيف أكون مغروراً وأنا أتواضع لأقل مُسلِم ومُستعِد حتى أن أُقبِّل يديه؟ فلا، لست مغروراً، لكنني أتكبَّر وأرى أنني أجل بكثير من أهل الدنيا أياً كانوا، أليس كذلك؟ قادة، زعماء، سياسيون، وأغنياء عندهم ملايين، والله العظيم أراهم تحت قدمي، هكذا المُسلِم ينبغي أن يرى الآخرين، وترى أنك تحت أقدام أولياء الله من أهل العلم والعمل، وتُقبِّل أيديهم وأرجلهم، هذا المُسلِم! هل هناك تناقضات؟ لا تُوجَد تناقضات، هذه الشخصية الربانية، أليس كذلك؟ لكن لا تكن مُسلِماً وتقياً وطيباً وترتجف أمام أهل الدنيا يا أخي وتتضعضع لهم، والنبي قال مَن تضعضع لغنيٍ لأجل غناه ذهب ثُلثا دينه، إذن اتضح أن هذا ليس كلامي في النهاية، أتكلَّم وأظن أن هذا الكلام من رأسي لكن اتضح أنه كلام الرسول، هذا هو المعنى، إذا رأيت نفسك صغيراً وحقيراً نوعاً ما أمام رجل غني فهذا يعني أن سبعين في المائة من إسلامك ذهب وانمحى، أف! أي أنك اقتربت من الكفر، أليس كذلك؟ صار كحكاية هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ۩، ثلاثون في المائة المُتبقي عندك، انتهى!
هناك مَن يتضعضع لرجل مسؤول أو لرجل عنده سُلطة، لا تتضعضع يا أخي، أنت مُسلِم، أنت مُحمَّدي، أنت قائدك محمد فقط – عليه السلام – وأتباع محمد وليس أهل الدنيا، والله لا نرى لهم أي اعتبار – أُقسِم بالله – أبداً، وأعلى منهم أنت وأشمخ منهم، أليس كذلك؟ يجب أن تكون هكذا، الصحابة كانوا هكذا، ونحن يجب أن نُحيي هذه الأخلاق فينا، ولتُسم غروراً ولتُسم كبراً وتمرداً، هو هذا الذي نُريده، نحن نحتاج هذا، نحن نحتاجه! لا نحتاج الذلة لأعداء الله والعزة لأولياء الله يا إخواننا، ولذلك لا يُوجَد نصر، الله قال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ۩، مَن الذين يُحِبهم الله؟ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ۩، الكافر تكون أمامه عزيزاً، تجعله يرى أنه لا شيئ بالنسبة إليك، تجعله يحتقر نفسه أمامك، وأنت تكون إنساناً غلبان وفقيراً، لكنك تريه عزةً وترفعاً غير عادي، وبالمُناسَبة الله سيُلقي هيبتك في قلبك، أليس كذلك؟ هذا هو طبعاً، تُهاب حين تكون من رجال الله وإن كنت فقيراً وترتدي مُرقَّعة، والله العظيم! يا أخواني كان عندنا شيخ في مُعسكَرنا في النُصيرات – رحمة الله عليه وقدَّس الله سره الكريم – كان من أولياء الله الكبار، اسمه الشيخ عبد الوهّاب، رجل عجيب، بماذا أُحدِّثكم عنه؟ شيئ عجيب عجيب، هو رجل أُمي، هل تعرفون ماذا كان يعمل؟ يكسح القمامة من الشوارع، أي كان كاسحاً للقمامة، أي أنه زبّال، كان الناس يتمنون أن يقتربوا منه وأن يتكلَّموا معه بكلمة لكنهم لا يقدرون بسبب الهيبة، مُحاط بهيبة الله، كان رجلاً قرآنياً ومن أولياء الله، هو كان ولياً وأبوه كان ولياً كبيراً جداً، فهو كان لدينا هناك ولا يستطيع أحد أن يقترب منه، أشهر وأنا أُؤامِر نفسي على أن آتي إليه وأتقرَّب لكي أسأله سؤالاً، أُريد أن أسمع صوته وأن أتكلَّم معه، لم يكن يتكلَّم، أشهر! وبعد ذلك الله أعطاني القدرة فذهبت إليه وتكلَّمت معه، وبعد أن تكلَّمت معه لنصف ساعة أو ساعة وجدت نفسي في حالة غريبة جداً، كنت أرتجف وما إلى ذلك، حصلت لي حالة غير عادية قسماً بالله، هيبة! هو كنّاس ولا تقدر أن تحتقره، مُستحيل! ترى نفسك صفراً بجانبه، لماذا؟ لأنه من أهل الله، كساه الله بالهيبة، كساه الله بالجلال، أليس كذلك؟ المُنافِقون من أصحاب القلوب المريضة حين يرون أولياء الله مثل هذا الرجل يقولون ما هذا؟ هذا يبدو أن عنده كبر، لا نقدر على أن نتكلَّم معه، وهذا غير صحيح، أنت أمامه ضعيف ومحقور لأن الله كساه بالجلال.
ابن مولانا أحمد الفاروقي السرهندي – قدَّس الله سره – هو الشيخ المعصومي، والشيخ الفاروقي السرهندي هو مُجدِّد الألف الثاني في الإسلام، كان قطباً كبيراً في الولاية والصلاح والعرفان، كان عالماً شرعياً خطير رحمة الله عليه، شيئ عجيب الرجل هذا، وهذا الرجل – حكيت عنه ذات مرة في خُطبة – كان السبب في إعادة الإسلام إلى شبه القارة الهندية بعدما كفر “أكبر”، هو الذي أعاد الإسلام ومن سجنه، كان مسجوناً! أعاد الإسلام إلى القارة الهندية كلها، هذا القطب الكبير والعارف بالله السرهندي قدَّس الله سره، ابنه الشيخ المعصومي، ذات مرة كان واقفاً فقال أحد المُنافِقين في نفسه ما بال هذا الشيخ به كبر؟ فطُولِع الشيخ بسره فقال له عزة الأولياء يا جاهل، هذا الرجل كان يتكلَّم بهذا في قلبه، فنظر إليه وقال عزة الأولياء يا جاهل، لأن له هيبة الولي، أليس كذلك؟
هناك قصة عن الحسن البِصري والحجّاج تتعلَّق بهذا الموضوع، أنتم تعرفون الحجّاج، الحجّاج بن يوسف معروف طبعاً والآن هناك تمثيلية عنه ما شاء الله، يُريدون أن يُظهِروه بمظهر البطل، الحجّاج الفاسق المُجرِم الناتن، الحجّاج هذا بنى قصراً في واسط، وواسط مدينة بين الكوفة والبَصرة، فبني فيها قصر قيل ندر مثاله، سنوات والناس يبنونه من أموال الأمة طبعاً، وبعد ذلك دعا الناس الكُبراء والصُغراء والعُلماء لكي يروا هذا القصر، قصر الحجّاج! أتى الناس وكان فيمَن بادر إلى المجيء مَن؟ الإمام تقي الدين الحسن البِصري، تعرفون الحسن البِصري، ربيب مَن هذا؟ أم سلمة زوجة الرسول، كانت تُرضِّعه، رضع منها فهو ابن أم سلمة بالرضاع، وتَلميذ عليّ، وتَلميذ أبي موسى، وتَلميذ ابن مسعود، وتَلميذ ابن عباس، وتَلميذ أنس، تَلميذ كبار الصحابة، شخص غريب الحسن البِصري قدَّس الله سره الكريم، فكان فيمَن بادر وجاء، انظر إلى العلماء الربانيين الآن، جاء والناس رأوا القصر فقالوا أنه قصر غريب عجيب، الردهات والدهاليز والقباب والزينة والزخارف وما إلى ذلك، فحكى موعظة غريبة جداً جداً وسمى فيها الحجّاج بأخبث الأخبثين، قال أخبث الأخبثين هذا فعل مثل فعل فرعون وهامان وقارون، وقال فيه الكثير من الكلام، الناس خافوا حتى أن رجلاً أشفق عليه فقال له يا أبا سعيد أمسك، أمسك – قال له – يرحمك الله، أي سوف، ذهبت بنفسك إلى داهية! أتحكي هذا عن الحجّاج؟ والحجّاج جُن جنونه وجمع الناس إليه في النهاية وبدأ يسب فيهم ويشتم، يا أعداء أنفسكم – يقول لهم – أما كان منكم يقوم إلى شيخ السوء هذا ويمنعه مما قال أو من بعض ما قال؟ والله لأسقينكم من دمه، سوف أُريكم ماذا سوف أفعل – قال لهم – في شيخكم هذا، هيا ابعثوا به، وقال يا سيّاف تعال وهات النطع، علماً بان النطع تُضبَط بستة وجوه أيضاً، مثل نَطْع ونِطْع وإلى آخره، المُهِم النطع ما هي؟ قطعة جلد كبيرة يضعونها تحت المحكوم عليه بالإعدام، يضربون الرأس فينزل الدم عليه، تُخوِّف هذه الكلمة، النطع! دائماً حين يُقال هات النطع يعني هذا أن هناك قتلاً، قال له هات النطع ووقف السيّاف والناس قلوبها بلغت الحناجر، لأن الإمام تقي الدين كل الناس كانوا يُحِبونه ويتبرَّكون به ويتقرَّبون من خلاله إلى الله عز وجل، فجاء – أتى الحرّاس به – ودخل، حين دخل تمتم بكلمات لم يسمعها أحد وبعد ذلك نظر إلى الحجّاج، الحجّاج قال له يا تقي الدين، اجلس هنا، اجلس هنا، تعال تعال، كيف الحال؟ كيف أنتم؟ كيف كذا وكذا؟ وبدأ يسأله في مسائل الدين والحسن يُجاوِبه، قال له والله أنتم يا تقي الدين جمال هذه البلاد، أنتم – ما شاء الله – لا يُوجَد مشايخ مثلكم، أنتم شيخ المُسلِمين، لا تنسنا من صالح دعائكم، هل من شيئ؟ هل تُريد أي شيئ؟ والناس لا تُصدِّق ما يحدث، غير مُمكِن الذي يحصل هذا، ما هذا؟ يتذلل له ويسأله ويتعلَّم منه أيضاً فضلاً عن أنه يُعطيه الألقاب، وانصرف راشداً بعدما أنهى المجلس، لحق به أحدهم وقال له يا إمامنا لقد رأيت عجباً، قال له ما العجب؟ قال له هذا الرجل كان يتميَّز من الغيظ عليك وقد أقسم ليسقينا من دمائك، فما الذي حصل؟ لقد رأيتك تمتمت بكلمات، فماذا قلت؟ قال له نعم، قلت يا وليي عند كل نعمة ويا مُغيثي في كل كُربة سألتك بعزتك وجلالك أن تجعل غضبه برداً وسلاماً علىّ كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، كلمات قالها ولي الله! هذا رجل من أولياء الله، مُباشَرةً الله يقول له لبيك عبدي، ليس كالواحد منا يدعو فيقول له الله اذهب، آلآن تدعوني؟ اذهب، أمس كنت تعصيني، الصلاة لا تُصليها ومع ذلك تدعوني؟ اذهب، يطردك! وعنده – تبارك وتعالى – الحق في أن يطردك، لكن هذا وليه، في لحظة مثل هذه يقول له تعال ولأنصرنك، مُباشَرةً فُتِحَت السماء وتُقبِّلت الدعوة، قال له هذا هو، فالأسد هذا انقلب إلى نعجة، أي الحجّاج، صار شاة وديعة أو حملاً، والرجل دخل مُكرَّماً وخرج مُعزَّزاً، وهكذا إذا كنا مع الله حقاً، ولو قُطِعَ رأسه لكان في الشهداء، مثل سعيد بن جُبير، لن نقدر على أن نقول أنه أحسن، لكن الله بما أراد لسعيد من الكرامة قضى شهيداً، أليس كذلك؟ ومات الحجّاج وهو ملعون إلى يوم الدين والعياذ بالله، هذا كله بأمر الله تبارك وتعالى، نسأل الله حُسن الختام.
قال – تبارك وتعالى – إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا ۩، ما الفرق بين الاختيار والفخر؟ مَن هو المُختال؟ مَن هو الفخور؟ المُختال هو الذي يرى نفسه في نفسه على أنه خيرٌ من عباد الله، أي أنه مُعجَب بنفسه في الداخل، الاختيال إذن شيئ داخلي في الأصل، والفخور هو الذي يُعدِّد مزاياه، أنا – والله – عندي كذا وكذا، أنا بالنسبة إلى المال كذا وكذا، بالنسبة إلى حسبي ونسبي وأهلي كذا وكذا، بالنسبة إلى علمي عندي شهادات كذا وكذا، ما هذا يا أخي؟ لماذا تُعدِّد؟ ما هذا؟ لأنه – قال العلماء – يُعدِّد النعم ولا يشكرها، هل تعرفون لماذا؟ لو كان من أهل شكر النعم لما عدَّدها، أليس كذلك؟ لأن الذي يُيسِّره الله لشكر نعمه – تبارك وتعالى – يذوب في مشهد المُنعِم عن مشاهد النعم، انتهى! لا ينظر إلى النعم، ما هذه النعم؟ أشياء حقيرة يراها، أليس كذلك؟ يرى مَن دائماً؟ المُنعِم تبارك وتعالى، فلا يُمكِن أن يفعل هذا، ومَن رأى المُنعِم لا يُمكِن أن يختال وأن يفخر على الناس قائلاً أنا وأنا، لأنه يعلم أنه ليس بشيئ، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۩، مالك وعلمك وحسبك ونسبك وذكاؤك وكل شيئ – والله – من عند الله، وحدَّثتكم في دروس الله يا إخواني عن أن الإنسان يُمكِن في لحظة واحدة أن يفتقر، أليس كذلك؟ يُمكِن في لحظة واحدة أن يُجَن، أنت تفرح بعقلك وحافظتك وذكائك وما إلى ذلك، يُمكِن أن تُجَن في لحظة، هذا يحدث معنا – سُبحان الله – دائماً في القرآن، أنا أرى هذا في الآيات، اليوم – مثلاً – سورة الأنعام غلطت مرتين، سورة الأنعام حفظتها وأنا طفل صغير بحمد الله تبارك وتعالى، وهي من أحفظ السور عندي، كلمات لم أُخطيء فيها طيلة حياتي لكنني أخطأت اليوم، انتهى! تُؤخَذ منك كأنها غير موجودة في لحظة، فأقول سُبحان الله، يُمكِن أن يأخذ ربنا كل شيئ مرة واحدة، ليس كلمة وإنما كل شيئ، تنسى أنت كل شيئ في لحظة، وفعلاً هناك أُناس نسوا القرآن كله، والنبي قال مَن حفظ آية أو سورة ثم نسيها لقيَ الله يوم القيامة أجذم والعياذ بالله، انتبه! (ملحوظة) سأل أحد الحضور هل هذا يتعلَّق بالحفظ؟ فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم نعم، هذا عن مَن يحفظها وينساها، لماذا نسيتها؟ هل كنت في الجهاد؟ إذا كنت في الجهاد فأهلاً وسهلاً قال العلماء، لكن إذا نسيتها هكذا لأنك – كما قلنا – تُشاهِد الأفلام والتلفزيون Television وتشرب الدخان فلا، أنت أجذم يوم القيامة، انتبه! يُمكِن هذا، هناك أُناس نسوا القرآن كله.
هناك عالم شامي من سوريا حيٌ يُرزَق – وهو عالم فاضل، كثَّر الله من أمثاله والله، رجل فاضل بكّاء، من أهل الخشية – قال أنا أعرف رجلاً كان من أهل القرآن، كان في حلب الشهباء لدينا يحفظ كتاب الله، قال الآن الفاتحة تقريباً يتغلَّط فيه، سُلِب القرآن كله! ربنا قال له أنت يا بعيد أحقر وأنجس من أن أجعل كتابي قاراً في جوفك، هاته! خسارة فيك، نسيه كله، كل القرآن نساه وهذه كارثة، فلا تُعجَب بنفسك، لا تقل هذا بعلمي وحفظي ومالي ونسبي وجمالي وقوتي، كل هذا يُمكِن أن يُزايلك في قصة واحدة، أليس كذلك؟
وأنتم تعرفون قصة عُروة بن الزُبير، عُروة بن الزُبير دعاه الخليفة الوليد بن عبد الملك، وأنتم تعرفون عُروة، هو تابعي جليل، ليس صحابياً وإنما تابعياً، وهو ابن أخت عائشة، ابن أسماء، ذهب مع ابنه – أكبر أبنائه – وهو عالم ورجل صالح، دخل ابنه الإسطبل لكي يرى الصافنات الجياد الخاصة بالخليفة، فرمحته إحداها رمحة قوية فقتلته على المحل، فقالوا لأبيه فقال إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩، انتهى! احتسب ابنه عند الله، اللهم إني أمسيت وأُمه عنه راضيين، اللهم فارض عنه، أكثر شيئ قال، كنت راضياً عنه، كان ولداً مرضياً، وأنا أسألك فقط أن ترضى عنه، الله أكبر! ثاني يوم مُباشَرةً ظهرت الآكلة، أي Gangrene، يُسمونها العرب الغرغرينة، ظهرت الآكلة في رجل مَن؟ عُروة، الوليد انزعج، قال هذا أتينا به ضيفاً عندنا، كيف تحدث له هذه المصائب في قصرنا؟ ما هذا الشؤم؟ انزعج ودعا بأكبر الأطباء، أكابر الأطباء قال لهم توسَّلوا بكل حيلة واصطنعوا كل سبب لعلاجه، لابد من هذا، جاءوا وقالوا لا يا أمير المُؤمِنين، لابد من قطعها وإلا سرى الخمج هذا في جسمه فمات، لابد أن تُقطَع، فقالوا له فقال نعم تُقطَع، سلَّم لأمر الله تبارك وتعالى، قالوا نُعطيك المُسكِر – تسكر فقط لنصف ساعة – حتى ننشر العظم، في الأول هناك مبضع يُقطَع به اللحم ثم يُنشَر العظم بالمنشار، قال أعوذ بالله وحاشا لله أن أستعين بما حرَّم الله على العافية، أي على الصحة، لا! لا أُريد هذا، قالوا له فلنُعطيك إذن المُرقِد، وهو شيئ مثل البنج، وهذا كان نباتاً، هناك حبوب مُعيَّنة فعلاً عندها أثر البنج، سُبحان الله! ومن ثم يتبنَّج الإنسان، لا يسكر وإنما يتبنَّج، فقال لا والله، لا أرضى بأن أغفل أو أن انقطع عن ذكر الله في ألمٍ أرجو ذُخره وأجره واحتسابه عند الله، بالعكس! أنا أُريد أن أتألَّم، أنا أُحِب أن أتألَّم، لكي أشعر بها حين تُقطَع فيكون الألم شديداً وأحتسبه، أقول له يا رب هذا عندك، اكتبه لي، لا تُضع إياه، ما هذا؟ ما هؤلاء البشر؟ ما هؤلاء الناس؟ شيئ عجيب! وفعلاً بعد ذلك مد رجله وإذا برجال أشداء أقوياء، قال مَن هؤلاء؟ قالوا هؤلاء لكي يُمسِكوك حتى لا تند منك حركة فربما أضرت بك، فقال لا، لا حاجة لي، أستعين بالذكر والتهليل والتكبير إن شاء الله، ذكر الله! أتوا بالمبضع – المبضع هو الجرّاح – فقطعوا اللحم وهو يُكبِّر ويُهلِّل، كان هذا سهلاً إلى حدٍ ما عليه، ثم أتوا بالمنشار، فجعلوا ينشرون وهو يُكبِّر ويُهلِّل، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر! حتى قطعوا رجله فأُغميَ عليه، وهذه الإغماءة الوحيدة التي جعلته يترك جُزءه أو ورده من كتاب الله، كان يقرأ كل يوم ربع القرآن الكريم، أي حوالي سبعة أجزاء، وذلك في النهار، وفي الليل يقوم بها في صلاة القيام عن حفظ وعن ظهر قلب، كل يوم هذا! طيلة حياته ما ترك هذا إلى أن لقيَ الله إلا في ذلك اليوم، لأن المسكين أُغميَ عليه تقريباً بقية النهار، وبعد ذلك لما قام قال ائتوني بالرجل، أخذوا الرجل وأعطوه إياها، قال الحمد لله، يعلم الله الذي أمشاني عليكِ أنني ما مشيت بكِ إلى حرامٍ قط، الحمد لله رب العالمين، قال أنا فخور، ولإن كان لي أربعة أطراف فلقد أبقى الله لي ثلاثة وأخذ واحدة فله الحمد والشكر الجزيل، ولقد كان لي أربعة أبناء وأخذ واحداً وأبقى لي ثلاثة فله الحمد والشكر الجزيل، أكبر كلمة قالها عن رجله ما هي؟ هل تعرف ما هي أكبر كلمة؟ أكبر شيئ – كنوع من السخط وهو لم يسخط – أنه قال لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا ۩، جئنا في هذا السفر ومات الوليد الكبير وقُطِعت الرجل فتعبنا قليلاً، هذا هو فقط، غير هذا لم يقل!
في ثاني يوم – انظر إلى ربك، نسأل الله ألا يبتلينا، والله العظيم يا إخواني! نسأل الله ألا يمتحننا، امتحان الله صعب جداً – جاء رجل من بني عبس في جماعة من بني عبس إلى الخليفة، أي الوليد، والعبسي هذا كان ضريراً فسأله الخليفة ما الذي كفَّ بصرك؟ كيف كُفَّ البصر؟ قال له قصتي قصة عجيبة يا أمير المُؤمِنين، قال له احك، قال له كنت أكثر بني عبس ولداً ومالاً وعزاً، كان عندي الجمال والخرفان وما إلى ذلك، كان عندي الشيئ العجيب، وكان عندي أولاد كثيرون، أي خلَّفت الكثير، قال فنزلت يوماً في عدوة الوادي فطرقنا سيلٌ لم نره مثله من قبل قط، سيل مثل الطوفان، فأخذ المال والولد – الكل غرق! امرأته وأولاده وأحفاده وما إلى ذلك ماتوا، الكل مات – ولم يُبِق الله – تبارك وتعالى – لي إلا بعيراً صعباً وطفلاً صغيراً، أي أنه طفل رضيع، قال وكان البعير صعباً، يند دائماً، أي يتفلَّت، قال فهرب فذهبت في أثره، فسمعت صرخة الصبي فنظرت فإذا بالصبي في فم الذئب، فعُدت فكان قد قضى، مات لأنه أكله، ذهب المسكين، بقيَ عنده من كل هذه الدنيا – الأولاده والمال وما إلى ذلك – العبير، قال ذهبت – رجع إلى البعير – فرمحني في جبهتي فهشمها ففقدت بصري، فأصبحت وأنا لا مال ولا ولد ولا عز، تعجَّب الوليد هذا، سُبحان الله! ما هذه القصة العجيبة؟ قصة حقيقية هذه، ليست قصة خيالية وإنما قصة حقيقية، قال ابعثوا إلى عُروة بن الزُبير ليعلم أن في المُسلِمين مَن هم أعظم بلاءً منه، ما أصابه يُعتبَر خفيفاً، فيا إخواني دائماً دائماً فكِّروا في المُستقبل، لا يقل أحدكم عندي امرأة وأولاد وأنا مبسوط، والله العظيم أنت لا تعرف شيئاً، امتحان الباقي يقطع التباقي، لا تعرف! في لحظة يُمكِن أن ينقلب كل شيئ، نسأل الله أن يختم لنا بالحُسنى في الدنيا والآخرة وأن يجعلنا شكّارين ذكّارين وأن يُوزِعنا شكر نعمه وأنعامه كلها، لأن دائماً قيد النعمة الشكر، إذا أردت أن يُبقي لك الله النعمة ولا تُسلَبها فماذا تفعل؟ اشكر، اشكر النعمة، انتبه! كل نعمة اشكرها، فكِّر في كل نعمة، ما هذه الأنعام؟ كثيرة جداً جداً، اشكر كل نعمة، حتى بصرك اشكر نعمته، النبي كان يُحِب البصر والسمع كثيراً، كان يقول واجعلهما الوارث مني، أي أموت ويظلان حيين يريان ويسمعان، هذا هو المعنى، انظر إلى المُبالَغة، يقول واجعلهما الوارث مني، أي حتى بعد أن أموت يظل بصري وسمعي يشتغلان، أي أريدهما إلى آخر لحظة يا رب، هذا هو طبعاً، أليس كذلك؟ البصر والسمع مُهِمان، كيف تُريدهما إذن؟ لا تنظر إلا إلى ما أباح لك الشرع، لا تنظر إلى ما حرَّم الله، وإذا وقعت منك نظرة على أي شيئ – في صورة أو في تلفزيون television أو في الشارع – غض البصر مُباشَرةً، لا تنظر! استح من الله، اعلم أنه يراك، والسمع كذلك، لا تسمع غيبةً، لا تسمع نميمةً، لا تسمع تجديفاً في حق الله وفي حق الدين، لا تسمع سُخريةً وهزؤاً، لا تسمع الكلام الفارغ، اسمع فقط الذكر والكلام الطيب، أليس كذلك؟ ما عدا ذلك لا، فيظل لك سمعك وبصرك، وهكذا كل بقية النعمة، والله – تبارك وتعالى – أعلم.
۞ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ۞
اللهم صل على سيدنا محمد، إذن هذا هو المُختال وهذا هو الفخور، ثم وصفهم بالبخل، قال الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ – والعياذ بالله – وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۩، البخل أعم من أن يكون بالمال، لذا فسَّر بعضهم هذه الآية بأنها في بني إسرائيل الذين كتموا العلم، وهذا جائز لكن الآية أعم من ذلك، ليست فقط في العلم، فهي في العلم وفي المال وفي كل شيئ، وفي الفضل حتى وفي الجاه، يُمكِن أن يبخل إنسان بجاهه أو يبخل بسُلطانه، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – وأي داء أدوى من البخل؟ النبي قال شر الأدواء أو شر الأمراض ما هو؟ مرض البخل، وربنا – تبارك وتعالى – في حديث قُدسي ماذا قال؟ قال إن هذا دين ارتضيته لنفسي وارتضيته لعبادي الصالحين، ولا يصلح له إلا الكرم وسماحة النفوس، سُبحان الله! هذا الدين مُؤسَّس على الكرم والنفوس السمحة المعطاءة في كل شيئ، في العلم وفي المال وفي كذا وكذا، إلى آخره! والنبي قال ماذا؟ أكرم الأكرمين الله، ثم مَن؟ ثم هو، قال الله ثم أنا، ثم مَن؟ عالم علَّمه الله فعلَّم الناس من عنده، قال هذا أكرم واحد، وأبخل واحد مَن عنده علم ويكتمه عن الناس، هذا أبخل واحد، وبعد ذلك يأتي المال!
روى أبو داود قال – صلى الله عليه وسلم – إياكم والشح أو قال إياكم والبخل، فإن البخل أهلك مَن كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا، البخل أمرهم بقطيعة الأرحام، انظروا إلى هذا، بالمُناسَبة تسع وتسعون في المائة من قطيعة الأرحام بين الأقرباء والأنسباء بسبب المال، أليس كذلك؟ حين يُوجَد الشح والبخل يحدث القطع بسبب المال، سُبحان الله العظيم! وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ۩.
۞ وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قَرِينًا ۞
وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ ۩، ما معنى رِئَاء النَّاسِ ۩؟ لأجل مُراءة الناس، لأجل أن الناس يرون فقط، الواحد منهم لا يُنفِق لوجه الله، لن نُطوِّل فيها وتعرفون الحديث الذي في مُسلِم عن أبي هُريرة وهو حديث صحيح، أول مَن تُسعَّر بهم نار جهنم يوم القيامة مَن؟ مَن هم؟ عالم ورجل جواد كريم ورجل مُجاهِد، أليس كذلك؟ هؤلاء أول أُناس يدخلون نار جهنم، نحن نُريد منهم الآن مَن؟ الجواد الكريم، يُؤتى به فيُعرِّفه الله نعمه عليه – أعطيتك كذا وكذا وكذا يا عبدي، فيقول نعم نعم يارب – فيعرفها، فيقول فماذا عملت بها؟ فيقول يا رب أنفقت في سبيلك، أي أنا كنت أُنفِق وأُعطي المساجد والمدارس والعلماء وما إلى ذلك، فيقول كذبت، بل فعلت ذلك ليُقال جواد وقد قيل، أنت عملت هذا رِئَاء النَّاسِ ۩ وليس لي، فيُؤمَر به فيُسحَب على وجهه فيُكَب في نار جهنم، نسأل الله العافية والمُعافاة.
قال طبعاً وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ ۩ والعياذ بالله، هذا يعني أن هذه الآية مُخيفة، الرياء نفسه فيه شُبهة شرك، هذا صحيح! وفي حديث مُعاذ المشهور اليسير من الرياء شرك، لأن المُؤمِن الذي يُؤمِن بالله وبالحساب من الصعب جداً أن يبني عمله على مُلاحَظة الخلق وأن يقطع عمله عن مُعامَلة الحق، أليس كذلك؟ هذا صعب جداً، بالعكس! هو يفعل العكس تماماً، يبني مُعامَلاته – كل مُعامَلاته وكل أعماله – على مُلاحَظة الحق ويقطع نظره من الخلق، لا يهتم بالخلق، لذلك الله هنا ماذا قال؟ قال وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ ۩، من أجل ذلك حياتهم كلها رياء وكلها نفاق.
وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قَرِينًا ۩، واضحة!
۞ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيمًا ۞
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ۩، لكان خيراً لهم في الدنيا والآخرة، وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيمًا ۩، بنواياهم!
۞ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ۞
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۩، يا الله! قال مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۩، كيف لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۩؟ أي من عملك، وهنا واضح أن المقصود العمل الصالح طبعاً، لأنه قال وَإِن تَكُ حَسَنَةً ۩، أي أكثر من ذرة، الحسنة فيها ذرات كثيرة، قال لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۩، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ۩، وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ۩، ما معنى هذه الآيات كلها؟ ما معناها؟ لا يُظلَمون جزاء هذه الأعمال الصغيرة الصغيرة بل يُوفونها يوم القيامة على أتم ما يكون، هذا معنى الآيات هذه، هذا معنى وَلَا يُظْلَمُونَ ۩ كذا وكذا وكذا وكذا.
أيها الإخوة:
قال أبو عثمان النهدي – هذا من كبار التابعين، هذا من أول طبقة، التابعون خمسة طبقات، أليس كذلك؟ هذا من أول طبقة التي اسمها كبار التابعين، هو من كبار التابعين، اسمه أبو عثمان النهدي قدَّس الله سره، رجل فاضل جداً، اسمه عبد الرحمن بن مل مُثلَّثة الميم، أي عبد الرحمن بن مُل، عبد الرحمن بن مَل، وعبد الرحمن بن مِل، كلها صحيحة! اسمه أبو عثمان النهدي وهو معروف بكُنيته – ما كان أحد أكثر مُجالَسة لأبي هُريرة صاحب رسول الله مني، قال أعرفه أنا، صحبته لفترة طويلة وأخذت منه الحديث، قال أعرفه أنا! فقدم البَصرة حاجاً قبلي وقدمت بعده فلم أُدرِك، قيل ذهباً حاجاً، قال أُريد أن ألتقي به، فقالوا سافر وذهب إلى الحج، قال ورأيت الناس يأثرون عنه حديثاً يزعم أنه سمعه من رسول الله، طبعاً كلمة زعم تُقال في الحق وفي الباطل، النبي قال زعم جبريل كذا وكذا، انتبهوا! فزعم لا تعني أن الكلام كاذب، لا! زعم تُقال في الحق وتُقال في الباطل، قال ورأيت الناس يأثرون عنه حديثاً يزعم أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا قال؟ قال – صلى الله عليه وسلم – إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة، تضعيف! أرأيتم التضعيف؟ أرأيتم مقدار التضعيف؟ الحسنة بعشر أمثالها، وهناك سبعون وسبعمائة وأضعاف كثيرة، إلى أين يُمكِن أن تصل؟ إلى مليون، ليس سبعمائة وإنما مليون، هكذا قال لهم أبو هُريرة، قال لهم النبي قال الله يجزي – أي يُضاعِف – بالحسنة ألف ألف حسنة، فقلت لهم ويحكم، ما أحدٌ أكثر مُجالَسة لأبي هُريرة مني ولا أعلم به مني، وما سمعته يُحدِّث بهذا الحديث عن رسول الله، من أين هذا؟ قالوا هو قال ذلك، وطبعاً قال هذا جماعة من الفضلاء وليس واحداً أو اثنين، فالموضوع تواتر عن أبي هُريرة أنه حدَّث، قال فلحقت به في الحج أن ألقاه في هذا الحديث، أرأيتم كيف كانوا التابعين وكيف كانوا الصالحين؟ أين نحن منهم؟ نحن أفٍ لنا وتُفٍ، والله العظيم! والله أفٍ لنا وتُفٍ مليون مرة، من أجل حديث قال هيا بنا، سوف نركب وسوف نذهب إلى بلاد الحجاز، سوف أبحث عنه لكي أسأله عن هذا الحديث، لأنه فرح به جداً، إذا فعلاً الله يُعطي بالحسنة مليون حسنة فسوف ننجو إن شاء الله تعالى، اللهم اجعلنا من الناجين، فقط تُتقبَّل منا حسنة، إن شاء الله كل واحد فينا يقدر أن يفعل حسنة – إن شاء الله مُتقبَّلة، مُتأكِّد من هذا، ليس عندي شك، لماذا؟ لا تفعلها أمامنا، افعلها بينك وبين ربك، أليس كذلك؟ تعال هنا وسوف تجد صندوقاً اسمه فلسطين، تعال دون أن يراك أحد في أي ليلة أو في أي يوم وأخرج ألف يورو أو مائة يورو، ضعها واذهب فقط، انتهى! هذه سوف تأتيك بالملايين يوم القيامة، ملايين من الحسنات، ولا تحك هذا لأي بني آدم، بنسبة مائة في المائة هي مُتقبَّلة إن شاء الله، أليس كذلك؟ فعلتها له – عز وجل – وسوف يتقبَّلها، انتبه! لكن التي بيننا هذه لا نعرف هل يتقبَّلها الله أم لا، الله أعلم! هو – إن شاء الله – أدرى، نحن لا نعرف، الله أعلم! فالحديث فيه بشارة عظيمة، الحسنة بمليون! قال فلقيته فقلت يا أبا هُريرة إن إخواني وأحبائي بالبَصرة يُحدِّثون عنك أنك قلت كذا وكذا وكذا، قال بل والله – قال له هل أنت تستغرب من مليون؟ – سمعته – صلى الله عليه وسلم – يقول إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة، أي يُعطي اثنين مليون، قال له أنا سمعت هذا أيضاً، سمعت هذا وسمعت هذا، هذا هو طبعاً، لأن هناك تضعيفاً، ألم يقل سبعمائة؟ وهناك قال مليون، وهنا قال اثنان مليون، وأنا مُتأكِّد لا يزال هناك ما هو أكثر من هذا إن شاء الله، ليس له حد، لأنه ماذا قال؟ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩، وما معنى بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩؟ لا يُوجَد حد تضعيف، يُمكِن أن يُعطيك المليارات، الصبر نصف الإيمان، الصبر!
لذلك الصوم أيضاً أجره بغير حساب، أليس كذلك؟ قال في الصحيحين كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۩، أليس كذلك؟ قال الله تعالى إلا الصيام – استثناه الله – فإنه لي وأنا أجزي به، ليس داخلاً في قانون التضعيف المعروف هذا، لماذا إذن؟ فهمنا الآن لماذا، لأنه صبر! قال – صلى الله عليه وسلم – الصيام – رواه ابن ماجه – نصف الصبر، فغدا الصيام رُبع الدين، أليس كذلك؟ لأن الدين نصفان: صبر وشكر، وهذا هو الصبر، نصفه ماذا؟ الصيام، نصف النصف رُبع، فرُبع الدين كله الصيام، أرأيتم؟ ويُوفي الصابر أجره من غير حساب، يا إخواني هذا الدين من عند الله، صدِّقوني! لو كانت الأحاديث هذه من عند الرسول لابد أن تتناقض، والله من عند الله، سُبحان الله العظيم، مُستحيل! النبي كان يتكلَّم عبر ثلاث وعشرين سنة، كل كلامه أحاديث، أليس كذلك؟ ولم يتناقض مرة، الأحاديث الصحيحة حين تُفسِّرها تجد دائماً لها وجه صحيح في التأويل فتستغرب، فهو الذي قال لهم ذات مرة الصيام نصف الصبر، وحين تأتي الآية تجد كل هذا مُتناسِقاً مُتكامِلاً ويُصدِّق بعضه بعضاً، أليس كذلك؟ كله من عند الله، ونحن الواحد فينا حين يُدرِّس يُمكِن أن يتناقض مع نفسه، أليس كذلك؟ هذا هو! ويعتبر هذا تطوراً فكرياً، لأنه بعد فترة غير رأيه وهذا جيد، مضبوط هذا وهو علامة خير، لكن الرسول ليس عنده هذه الأشياء، لأن هناك الوحي، لا يُوجَد تطور وحيوي.
قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۩، في حديث الشفاعة في الصحيحين – تعرفونه وهو حديث أبي سعيد الخُدري، حديث الشفاعة الطويل في صفحتين، من أعظم الأحاديث وأجلها، وحكى بعضهم فيه التواتر المعنوي – ثم يقول رب العزة والجلال – تبارك وتعالى – ارجعوا للشافعين فأخرجوا مَن وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، أليس كذلك؟ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۩، انتبهوا! في لفظ في الصحيحين أيضاً عن أبي سعيد – من رواية أبي سعيد – ماذا يقول عليه السلام؟ ارجعوا فمَن وجدتم في قلبه مثقال أدنى أدنى أدنى ذرة من إيمان – ثلاث مرات! أدنى أدنى أدنى ذرة من إيمان – فأخرجوه، أي أدخلوه الجنة، يقول – عليه السلام – فيُخرِجون خلقاً كثيراً، قال – صلى الله عليه وسلم – وإن شئتم فاقرأوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ – النبي استشهد بالآية هذه – وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ۩، اللهم أعطنا من فضلك وأفضل علينا يا كريم يا وهّاب، هذا هو! قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ۩، التضعيف معروف!
روى الإمام أبو داود الطيالسي – ليس أبا داود السجستاني وإنما الطيالسي صاحب المُسنَد، فهو عنده مُسنَد – قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۩، فأما المُؤمِن فيُعطى بها في الدنيا – أي يُرزَق، يُعطى رزقاً – ويُجزى بها في الآخرة – أي حسنة واحدة تعملها وكنت مُؤمِناً فسوف يُعطيك الله في الدنيا بها رزقاً، مثل علم أو مال أو قبول أو أي شيئ، كل هذا اسمه رزق، رزق هذا! وفي الآخرة سوف تُجزى بها أيضاً – وأما الكافر فيُطعَم بها في الدنيا – يُعطيه الله السيارات والأموال والملابس والشهادت والعلم وما إلى ذلك، أليس كذلك؟ في الدنيا – ثم ليس له يوم القيامة عند الله من شيئ، كل هذا في الدنيا! أي أن الكافر لو فعل حتى شيئاً جيداً فإن الله سيشكر فعله لكن في الدنيا فقط، لأنك قد تقول لي الكافر يفعل أشياء جيدة، ها هو يُعطي إخواننا في البوسنة ويبعث أحياناً إلى فلسطين ويُعطي الفقراء والأيتام، هذا موجود، هناك كفّار يفعلون أشياء تشعر أنها طيبة، أليس كذلك؟ يُساعِدون الناس، فالله لا يكفر حتى هذا الشيئ، يشكره! لكن أين يشكره؟ فقط في الدنيا، انظر إلى العدالة الإلهية، أنت فعلت هذا يا كافر، هل تُؤمِن بي؟ لا، هل تُؤمِن بالآخرة وبالجنة وبالنار؟ سوف أُعطيك على قدر إيمانك، إيمانك فقط في الدنيا وتُريد الدنيا فُخذ الدنيا، فعلت خيراً وسوف أُعطيك خيراً دنيوياً، لكن في الآخرة ليس لك عندي أي شيئ، فالحمد لله على نعمة الإيمان، إذن المُؤمِن عنده أو لديه الحظان، الله يُعطيك الرزق في الدنيا وفي الآخرة تُجزى بالحسنة، لا إله إلا الله! قال وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ۩.
۞ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا ۞
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ۩، أي عليهم، وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۩ في سورة النحل، هنا قال فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ۩.
في الصحيح عن ابن مسعود – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال: قال لي رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – يا ابن مسعود اقرأ علىّ القرآن، قلت يا رسول الله أقرأ وعليك أُنزِل؟ قال نعم، إني أُحِب أن أسمعه من غيري، اقرأ فأنا أُحِب أنا أسمعه، طبعاً النبي كان يُحِب القرآن كثيراً يا أخي، قال فقرأت عليه النساء حتى أتيت إلى هذه الآية – هذه هي! هذه رقم واحد وأربعون – فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ – قال الله يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ۩، هذا هو الشهيد، أي نبيهم، موسى أو عيسى أو أي واحد، نفس الشيئ – وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا ۩، مَن هم؟ المُسلِمون، قال فلما بلغت هذه الآية فإذا به يقول حسبك الآن، أي الآن كفاية، قال فنظرت فإذا عيناه تذرفان، بكى النبي! كان مُتأثِّراً جداً، لأنه موقف مُساءلة، النبي شهيد علينا وأيضاً النبي مُشفِق علينا، كيف سنكون نحن؟ ماذا سنفعل بعده؟ هل سنستمر على هديه؟ هل سنضل؟ كان يخاف علينا كثيرا، أمتي أمتي! هذا الذي كان يُحزِنه دائماً، وادّخر دعوته المُستجابة لنا.
۞ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ۞
بقيَ لدينا آية إن شاء الله – أدركنا الوقت للأسف – فنُكمِلها ونُنهي الدرس إن شاء الله، يقول يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ ۩، هذا أين؟ ما المقصود بقوله يَوْمَئِذٍ ۩؟ يوم القيامة، في هذه الساعة العجيبة كل واحد كافر سوف يتمنى من الخزي والذل والهون الذي هو فيه لو ابتلعته الأرض، لو ساخت به الأرض وانتهى وفنيَ بالكامل.
وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ۩، ما معنى وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ۩؟ يُمكِن أن تكون حالية ويُمكِن أن تكون مُستأنَفة، المعنى وهم في ذلك اليوم لا يستطيعون أن يكذبوا على الله، ذل وخزي وهون ومُساءلة ومُحاقَقة، ولن يستطيعوا إلا قول الحق، غصباً عنهم سوف يحكون الحق، لا يُمكِن غير هذا، وَقَالَ صَوَابًا ۩، لابد من الصواب، لكن هذه الآية فيها مُشكِلة، انتبهوا! هذا الحديث احفظوه وهو حديث ذكي ومُهِم جداً، أخرجه الإمام الجليل عبد الرزّاق الصنعاني رحمة الله عليه رحمة واسعة، تعرفون عبد الرزّاق صاحب المُصنَّف، ومُصنَّفه مطبوع بحمد الله تبارك وتعالى، كتاب كبير! أحد عشر مُجلَّداً في الأحاديث، عبد الرزّاق الصنعاني أخرج عن سعيد بن جُبير – التابعي الجليل والشهيد، شهيد الحجّاج – أنه قال جاء رجل إلى عبد الله بن عباس – حبر الأمة – وقال له يا أبا العباس إني أقرأ كتاب الله – تبارك وتعالى – فأجد في نفسي شيئاً، قال له ماذا تجد؟ أهو الشك؟ قال له لا ليس بالشك، ولكن الاختلاف، أي هناك آيات تتخالف، آية تقول شيئاً وآية تقول شيئاً آخر، فما هذا؟ كأن هناك تناقضاً! قال له لا أشك في أنه كلام الله – ليس عندي أي شك – ولكن الاختلاف، وقد قال تعالى في هذه السورة وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ۩، الله نفى الاختلاف، لكن في الواقع بعض الناس بحسب عقله ونظره وسداد رأيه يرى الاختلاف في القرآن، قال له فماذا وجدت من ذلك؟ أي قل لي، دعنا نرى! هذا ابن عباس، هنيئاً له، وقع مع ابن عباس، ليس عنده مُشكِلة ابن عباس مع أي آية أو أي سؤال، هو الترجمان للقرآن الكريم، قال له أعطني ما عندك، ما الذي أشكل عليك؟ قال له وجدت الله – تبارك وتعالى – يقول ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ۩، فقد كذَّبوا وكتموا، وقال في النساء وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ۩، كيف هذا إذن؟ الله يقول هنا أنهم لا يقدرون على الكتمان، البعداء كانوا مُشرِكين وسوف يقولون كنا مُشرِكين، لكن في الأنعام – اليوم قرأناها في الصلاة – ماذا قالوا؟ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ۩، ما معنى لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ۩؟ لم تكن حُجتهم، وقال عطاء بن أبي رباح – اليوم ذكرنا عطاء، أليس كذلك؟ – ثم لم تكن بليتهم إذ ابتُلوا، مُشكِلتهم – قال – هذه هي، ثم لم تكن بليتهم إذ ابتُلوا، إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا – يُقسِمون – مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ۩، لم نكن يا رب مُشرِكين، نحن كنا مُوحِّدين، وهم مُشرِكون طبعاً، يقول هذا الرجل المُتناقِض في فهمه فقد كذبوا وكتموا، والله هنا يقول ماذا؟ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ۩، كيف إذن؟ في الحقيقة الظاهر أن هناك خلافاً، أليس كذلك؟ فانظروا إلى الحبر البحر الذي هو مصداق دعوة رسول الله، النبي دعا له، هو دعوة رسول الله، سُبحان الله! كيف مُباشَرةً أعطاه الجواب وهو مُقنِع جداً؟ ماذا قال له؟ قال له يا عبد الله إن الكفّار والمُشرِكين يوم القيامة إذا رأوا الله – سُبحانه وتعالى – وقد غفر للمُسلِمين ولا يغفر إلا لمُوحِّد ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره إلا ما كان من الشرك طمعوا فادّعوا أنهم لم يكونوا مُشرِكين، رجاء أن يغفر لهم – أي يكذبون! يقولون يا رب لم نكن كذلك -، فإذا رأى الله منهم ذلك ختم على أفواههم وأنطق أعضاءهم، أي تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩، يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ۩.
فهم دقيق يا أخي، فهم عجيب! هذا يعني أن ابن عباس استعان الآن بثلاث آيات لكي يُوضِّح لك كيفية المشهد، أنت أمام مشهد تصويري حقيقي بمراحل، في المرحلة الأولى ابن عباس فهَّمنا أن ربنا – عز وجل – يُحاقِق ويُحاسِب المُسلِمين فيغفر لهم، هل أنتم مُسلِمون ومُوحِّدون؟ فيغفر الكبائر وأشياء كثيرة جداً إن شاء أن يغفر، ولا يتعاظمه أي ذنب، بعض المُوحِّدين يكون قتل ويغفر له ربنا حتى القتل، لكن ليس هذا للكل، انتبهوا! هذا ليس للكل وإنما لبعضهم، الله سوف يقول له أنت أذنبت وسوف نغفر لك لأسباب أُخرى، بعضهم يكون زنى أو يكون سرق وما إلى ذلك، هل أنت مُوحِّد؟ هيا اغفروا له وخذوه إلى الجنة، فالكفّار إذا رأوا ذلك الآن ماذا يفعلون؟ وطبعاً المشهد الأول هذا من أين أخذه ابن عباس؟ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۩، وهذا معنى كلامي أنه ليس للكل، فهذا إذا شاء الله، هذا كلام قرآني، سوف يغفر الله لأناس قتلت وعربدت وفعلت أشياء غريبة لكنهم من المُوحِّدين، لِمَن يَشَاءُ ۩، هو يُريد أن يغفر لهم، وهناك أحاديث صحيحة مُتواتِرة في هذا المعنى، مُتواتِرة! فهو يغفر لهم، الكفّار يرون ذلك فيقولون ما هي العقبة الوحيدة عندنا؟ الشرك، فهيا نكذب ونزعم أننا ما كنا مُشرِكين، نعم عملنا كذا وكذا لكننا لم نكن مُشرِكين، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ۩، لكن هل هذه الكذبة تجوز على الله؟ هي أصلاً لا تجوز على الكتبة الحافظين، أليس كذلك؟ لا تجوز على الناس المُؤمِنين الذين عاصروهم، لا تجوز على نبيهم الذي كفروا به وربما قتلوه وطردوه، ما هذا؟ هذه كذبة واضحة، كذبة بلقاء كما يُقال، ككذبة المنبر، معروفة! فحين إذن الله أعطاهم الفرصة ليكذبوا، وعندنا آيات كثيرة تُؤكِّد أنهم يكذبون يوم القيامة، في مواقف مُعيَّنة سوف يكذبون، يحلفون لله عز وجل كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ۩، الله قال يأتون ويحلفون كذباً، يقولون يا رب يا رب، والله قال هم كذّابون وأنا أعرفهم، والآن المشهد الثالث ما هو؟ الله سوف يقول انتهى الأمر، هل أنتم تقولون هذا؟ هذا اللسان كذب، في الدنيا والآن يكذب، يقولله اسكت يا لسان، يسكت اللسان، ويقول انطقي يا أعضاء، السمع والبصر والجلود والأيدي والأرجل كما قرأنا اليوم في سورة فصلت أيضاً! وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ۩، أي ليس بمزاجنا، الكل بدأ يتكلَّم وحده، فهذا اللسان عرف أنه تورَّط، المشهد الرابع الآن ما هو؟ يودون الآن حين انتهى كل شيئ وثبتت عليهم التُهمة أن تُسوى بهم الأرض، يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ – في اللحظة هذه يودون أن يُعدَموا، وطبعاً هذا أفضل لهم من العذاب – وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ۩، لا يقدرون، انتهى الأمر، لأن الأعضاء تنطق.
والله كلام مُتناسِق – بحمد الله – ويُصدِّق بعضه بعضاً، ولذلك أيها الإخوة الأفاضل والأخوات – أختم بهذه النصيحة وغداً ربما نأتي إليها – إذا أراد أحدكم أن يفتح الله – تبارك وتعالى – عليك في فهم هذا الكتاب العزيز والكلام القديم والذكر الحكيم فعليك ألا تدخل مدخل البطّالين الذين يضربون القرآن بعضه ببعض ويتحذلقون، يُقال القرآن فيه تناقضات، يا أخي هذه كلمة كبيرة لا يقولها مُسلِم، انتبه! يقولها يهودي أو نصراني أو زنديق أو مُلحِد أو شيوعي نعم لكن أنت كمُسلِم إياك أن تُنطِق لسانك بكلمة مثل هذه، كُن مُتواضِعاً وكُن إنساناً يعرف قدر نفسه، قل والله يُوجَد شيئ لم أفهمه بعقلي القاصر.
ومَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ يَجدْ مُرّاً بهِ المَاءَ الزُّلالا.
أليس كذلك؟ العلة من القابل لا من الفاعل، العلة فيك! إذا كان مُخك صغيراً قليلاً قل أنا غير قادر على أن أفهم، فعلِّموني يا عباد الله، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ۩، لكن لا تُحاوِل أن تتحذلق ثم تأتي وتقول القرآن فيه تناقضات، هذا – والعياذ بالله – قد يكون شُبهة كفر، انتبه! لأنك قد تُكذِّب الله، الله قال ماذا؟ أن هذا القرآن ليس فيه أي خلاف، أليس كذلك؟ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ۩، ليس فيه هذا لأنه من عند الله وليس مُختَلقاً، وأنت تقول فيه اختلاف، تكفر وأنت لا تدري ولا تنتبه إلى نفسك وإلى ما تقول، فلا تقل هذا، كُن مُتواضِعاً أمام الله.
يقول عبد الله بن عمرو الآتي، الحديث أخرجه أحمد عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده، هل تحفظون هذا السند؟ هذا السند من مظان الحسن، مشهور جداً جداً، والإمام أحمد في المُسنَد أخرج عنه مئات الأحاديث، مئات! بعض مئات بهذا السند: عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده، مَن هو أبوه؟ ومَن هو جده؟ عمرو بن شُعيب عن أبيه محمد عن أبيه عبد الله بن عمرو بن العاص، هو هذا، إذن عن عمرو عن شُعيب عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، إذن هذا الحديث مِن رواية مَن؟ عبد الله بن عمرو، لكن بهذا السند، قال مجلس حضرته مع رسول الله أنا وأخي ما أُحِب أن لي به حُمر النعم، وذلك أننا أتينا يوماً على مشيخة من أصحاب رسول الله وقد جلسوا وجاه بابه، أي باب أحد أمهات المُؤمِنين، كانوا يجلسون مع بعضهم ويتكلَّمون، خاضوا في كتاب الله، أي في تفسيره، وانظر إلى أي درجة بلغ الأدب، قال فكرهنا أن نُفرِّق بينهم، كأناس يجلسون في حلقة فتأتي أنت وتدس نفسك بينهم وتُزعِجهم، قال فجلسنا على مبعدة، انظر إلى الأدب! تركناهم يجلسون كما هم وجلسنا بعيداً، وأحسن لهم أنهم جلسوا هكذا، ربك أكرمهم بأدبهم، انظر إلى الأدب، الأدب عقيبته حميدة، لأنهم كانوا مُؤدَّبين فلم يأتهم الغضب النبوي، قال فخاضوا في كتاب الله وتكلَّموا فيه وجعل بعضهم يُماري بعضاً، كأن يُقال لا ليست هكذا الآية، لا ليس هذا معناها، لا فهذا تفسيرها، لا ليس هكذا، ما الذي يُفهِمك؟ كما يحدث الآن! الآن نحن عندنا أفكار وأحزاب وجماعات وتنظيمات كلها تستند إلى كتاب الله، يقول الواحد منهم الله قال هذا فيقول آخر الله لم يقل هذا وأنت لا تفهم، مُشكِلة كبيرة هذه، انتبهوا فهذا من أسباب النقمة التي نحن فيها الآن، قال فخرج النبي – عليه السلام – عليهم وهم كذلك مُغضَباً حتى احمر وجهه وجعل يحثو التراب عليهم، غضب شديد جداً، رماهم بالتراب على وجوههم، يا قوم قال لهم، مهلاً يا قومي، إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وبضربهم الكُتب بعضها ببعض، إن هذا القرآن لم ينزل ليُكذِّب بعضه بعضاً، إنما أُنزِل ليُصدِّق بعضه بعضاً، فما فهمتم منه فاعملوا وما جهلتهم منه فكلوه إلى عالمه، تواضعوا وقولوا الله أعلم، هذا معنى قوله فكلوه إلى عالمه، لا تتفلسفوا، لا تقولوا هناك تناقضات وأنت لا تفهم وأنا الله فتح علىّ وما إلى ذلك، هذا الأسلوب غير جيد بالذات مع كتاب الله تبارك وتعالى، واقرأوا القرآن ما اجتمعت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا، حديث صحيح آخر أيضاً! إذا كنا نقرأ ونُفسِّر وما إلى ذلك وكانت قلوبنا مُجتمِعة ونشعر بالخشوع والفهم والفائدة فأهلاً وسهلاً، إذا صار هناك خلاف ومراء – كأن يقوم أحدهم ويقول أنت لا تفهم يا شيخ، ما قصدك؟ أنت تفتري على الله – فقولوا السلام عليكم وعودوا إلى بيوتكم، أرأيتم؟ النبي لا يُحِب هذا الشيئ أبداً، وهو شيئ خطير، والأمة إنما اختلفت بهذا السبب.
لذلك أيها الإخوة يُوجَد شيئ يُزعِجني ذكرته – أعوذ بالله من كلمة أنا – عدة مرات في دروس التفسير في رمضان، هذا يُزعِجني فعلاً حقيقةً، ولي الحق أن أنزعج، والله العظيم! ليس تحاملاً مني وليس مُبالَغةً، مُزعِج جداً جداً أن يتصدَّر للكلام في كتاب الله رجال لا خبرة لهم لا بالنحو ولا بالصرف ولا بالبلاغة ولا بالأحاديث ولا بالتخريج ولا بكلام المُفسِّرين ولا قرأوا التفسير ولا عندهم للأسف قدرة حتى أن يقرأوا كتاب الله بالأحكام، نراهم في التلفزيون Television يومياً هؤلاء، يتكلَّمون في التفسير، ويقرأ الواحد منهم الآية وهي أمامه، يضعونها له على البروجيكتور Projector – الكشّاف الضوئي – ومع ذلك يقرأها بشكل غالط، كل يوم يغلط في آية، كل يوم! حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۩، نسأل الله أن يُنقِذ أمة محمد – والله العظيم – من هذا الغُثاء، هذا اسمه غُثاء في النهاية.
طبعاً يُمكِن أن تكون هناك نوايا حسنة، لكن النية الحسنة لا تُبرِّر أبداً العمل السيئ، وأمة محمد فيها خير والحمد لله، أليس كذلك؟ لماذا يخرج جاهل ويتصدَّر يا أخي؟ هناك علماء، هناك أُناس أفاضل، هناك أساتذة في التفسير، هناك أناس قضى الواحد منهم خمسين خمسين سنة في العلم وفي درس كتاب الله، حين يتكلَّم تجد أنك أمام بحر علم، لماذا لا يتكلَّم هؤلاء يا أخي؟ هؤلاء موجودن في الأزهر وغير الأزهر، موجودون! علماء بحق حقيقةً، هؤلاء موجودن ما شاء الله، الواحد منهم يقدر – ما شاء الله – أن يتكلَّم في كل آية، يا أخي هذا موجود، لكن هناك غُثاء، الأمة فيها غُثاء.
(ملحوظة) قال أحد الحضور لا يسمحون لهم، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم عفواً، الآن لن ندخل في المراء، أنا أُريد أن أحكي لك فقط نُقطة واحدة وأُريد أن أختم بها، فضيلة الدكتور البوطي جاء إلى هنا وهو عالم كبير وعلّامة، ها هي كتبه ما شاء الله، موجودة عندنا، رجل مشهود له في العالم الإسلامي كله، كم واحداً حضر له؟ (ملحوظة) ذكر أحد الحضور أن العدد كان قليلاً للأسف الشديد، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم هذا لكي تعرف أن الأمة فيها غُثاء، لا تقل لي أنهم لا يسمحون، يسمحون أو لا يسمحون ليست قضينا، دائماً ما نضع هذا المشجب على السُلطان، الأمة أو الجماهر أو الناس بشكل عام فيها غُثاء للأسف الشديد، فنحن نستعين – لن ندخل في تحليلات اجتماعية وفلسفية – بالله على هذا الغُثاء، نسأل الله أن يرفع هذا الغُثاء، نسأل الله أن يُفهِّم أمة محمد وأن يأخذ بأيديها، أليس كذلك؟ وأن يرفع مُستواها العلمي والفقهي والفكري لكي تصير فعلاً أمة تستأهل أن تفهم كتاب ربها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أضف تعليق