الدرس السابع عشر
تفسير سورة النساء من الآية الثالثة والأربعين إلى الآية الحادية والتسعين
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما يُحِب ربنا ويرضى، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأمين وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم علَّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً.
أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، سنُحاوِل بعون الله – تبارك وتعالى – وتوفيقه في هذه الليلة وفي ليلة غد – إن شاء الله – أن نُنهي سورة النساء، ولذلك لابد أن نسير بوتيرة أسرع إن شاء الله تبارك وتعالى.
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ۞
قال الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ۩، سبق شيئ أيها الإخوة بخصوص مثل هذه الآية، وقد علمنا لدى تفسير قوله – تبارك وتعالى – من سورة البقرة يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ۩ أن الخمر نزل فيها أربع آيات، وقد روى الإمام أحمد أن سيدنا عمر كان يقول دائماً اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، حتى حين نزلت هذه الآية أيضاً قال بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، ولم يقنع حتى نزلت التي في المائدة وستأتي في إبانها إن شاء الله تبارك وتعالى، وحين نزلت هذه الآية – لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ ۩ – روى الإمام أبو داود أن مُنادي رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان يُنادي في الناس ألا لا يقربن الصلاة سكران، ألا لا يقربن الصلاة سكران!
وروى الإمام مُسلِم والترمذي وأبو داود والنسائي – أي أهل السُنن إلا ابن ماجه – والإمام ابن أبي حاتم عن سعد بن أبي وقاص – رضيَ الله عنه وأرضاه – قال دعا رجل من الأنصار جماعة من الأنصار وجماعة من المُهاجِرين إلى مأدبة، أي حضَّر لهم طعاماً ودعاهم، وكان سعد ضمن المدعوين، يقول بعد أن أكلنا شربنا الخمر، طبعاً لم تُحرَّم الخمر آنذاك، قال شربنا الخمر حتى أخذت منا، فقلنا وفخرنا، أي بدأوا يفخرون، كل قبيلة وكل قوم يذكر مناقب قومه، فقام رجل من الأنصار فأخذ بلحي بعير – أي فك البعير العلوي أو السُفلي أخذه – وفزر به أنف سعد، ضربه في رأسه ففزر أنفه، فكان أنف سيدنا سعد بعد ذلك مفزوراً، يقول وذلك قبل أن يُنزَّل تحريم الخمر، وأنزل الله لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ ۩، يُقال بهذا السبب أنزل الله هذه الآية، والله – تبارك وتعالى – أعلم.
حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ۩، لأن السكران لا يدري ما يقول، وهذا حدٌ جيدٌ.
وَلاَ جُنُبًا ۩، أي لا تقربوا الصلاة جُنباً، ممنوع الجُنب أن يقرب المسجد، من باب أولى ممنوع أن يُصلي، إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ۩، ممنوع أن يدخل المسجد إلا عابر.
روى الأئمة عن يزيد بن أبي حبيب – يزيد بن أبي حبيب المصري وهو من أتباع التابعين – قال كان جماعة من الأنصار تفتح أبوابهم في المسجد، لهم خُوخات في المسجد النبوي، فكان أحدهم ربما أصابته جنابة وليس عنده ماء ويُريد أن يمر إلى الماء وليس له ممر إلا من المسجد، فأنزل الله وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ۩، لا تُوجَد مُشكِلة! حتى الحائض والنفساء يجوز لها أن تعبر المسجد عبوراً لحديث عائشة في الصحيحين إن حيضتك ليست في يدكِ، إلى آخره!
حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَائِطِ ۩، الغائط هو المكان السهل المُستوي، الأرض المُستوية السهلة تُسمى غائطاً، أي المُطمئن من الأرض، وكُنيَ به عما يخرج من الإنسان من باب المجاز العقلي.
أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء ۩، قرأ حمزة وخلف والكسائي أو لمستم وقرأ الباقون – أي بقية الثمانية – أَوْ لامَسْتُمُ ۩.
أو لمستم النساء – أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء ۩: كناية عن الجماع، وهكذا فسَّرها ابن عباس رضيَ الله عنه وأرضاه، السادة الشافعية قالوا لا، تعم اللمس كله، حتى اللمس العادي، هذا يُوجِب الوضوء، أي ينقض الوضوء، ولهم طريقة في الاستدلال قوية بالمُناسَبة، ليست ضعيفة، طريقة ذكية جداً، الإمام الشافعي عبَّر عنها في الجُزء الأول من الأم، فمَن أرادها فليعد إليها ثمة.
أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء ۩، لأن – باختصار هذا أقوى ما في الحُجة – لو كان اللمس بمعنى الجماع ما قال قبلها جُنُبًا ۩، استدلال ذكي جداً للإمام الشافعي فيها، فعودوا إلى الأم في الجُزء الأول إن شاء الله.
فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ ۩، التيمم هو القصد، تيمَّم فلان المكان أي قصده، تقول العرب تيمَّمك الله بحفظه، أي قصدك بحفظه، جعلك في عينه.
فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا ۩، اختُلِف في الصعيد، بعض المذاهب تقول الصعيد هو الأرض وكل شيئ من جنس الأرض، أي حتى الصخر الصفوان الذي ليس عليه غُبار يجوز – على مذهب مَن؟ على مذهب مثلاً الحنفية – أن نضربه وأن نتيمَّم، عند الشافعية قالوا لا، لابد أن يكون عليه غبار، وهذا الغبار يعلق باليدين بحيث يُمكِن نفضه بعد ذلك، وإلا لا يجوز، ودليل الشافعية فيه نوع من القوة، قد يرجح دليل الأحناف وغيرهم، لماذا؟ لما في صحيح مُسلِم وغيره، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فُضِّلت هذه الأمة على غيرها بثلاث خصال، قال جُعِلت – هذه الأولى – صفوفنا في صفوف الملائكة وجُعِلت – هذه الثانية – لنا الأرض مسجداً وجُعِلت – هذه الثالثة – تُربتها لنا طهوراً، قال تُربة! ذكر التُربة، من التُرب، هذا واضح! فهذا دليل قوي جداً لما في الصحيح.
على كل حال التيميم فيه خلاف، بعضهم يقول ضربتان وبعضهم يقول ضربة، وكلهم يستند إلى دليل قوي، الذين قالوا ضربة واحدة وهم السادة الحنابلة والمالكية عندهم دليل في الصحيح، أي دليل صحيح! قالوا ضربة واحدة يمسح بها وجهه ويديه إلى الرُسغين، أي إلى الكوع، طرَفُ الزَّنْد الذي يلي الإبهامَ اسمه الكوع، يُقال فلان لا يعرف كوعه من بوعه، فالكوع ليس الذي نعرفه، في العامية يُقال الكوع على عضو آخر بشكل غالط، الكوع هو طرَفُ الزَّنْد الذي يلي الإبهامَ، وأين البوع؟ إبهام الرجل، لذلك يُقال في التجهيل فلان جاهل ولا يعرف كوعه من بوعه، علماً بأن هذه المسألة أصبحت لُغوية الآن، أكثر الناس لا يعرفون ذلك وليسوا بجهلة، قديماً كان نعم لكن الآن لا، اللُغة العربية أصبحت ضعيفة، إذن قالوا ضربة واحدة يمسح بها وجهه ويديه إلى الكوعين، الآخرون قالوا ضربتان يمسح بهما الوجه واليدين إلى المِرفقين أو المَرفقين، فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ۩.
۞ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ۞
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ۩، فبئس ما اعتاضوا لأنفسهم والعياذ بالل، بئس ما اعتاضوا لأنفسهم! باعوا الهُدى وأخذوا الضلالة، هم اليهود والعياذ بالله، ويُحِبون للمُسلِمين أن يسيروا في مسارهم وأن يسلكوا مسلكهم، ساء ما يتمنون!
۞ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ۞
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ۩، واضحة.
۞ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ۞
مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۩، بالتأويل والعياذ بالله، بالتأويل الباطل وتحميله على غير محامله، وَيَقُولُونَ ۩، أي يا محمد، سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ۩، سَمِعْنَا۩ كلامك، سَمِعْنَا۩ ما جئت به، وَعَصَيْنَا ۩ والعياذ بالله، وَاسْمَعْ ۩، أي يا محمد، غَيْرَ مُسْمَعٍ ۩، أي اسمع يا مَن لا تمسع، هذا سب! سب وإقذاع واضحان، لعنة الله عليهم إلى يوم الدين.
وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ ۩، هذه فسَّرناها عند قوله – تبارك وتعالى – في البقرة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩، كانوا يقولون راعنا ويُوهِمون أنهم يُريدون أن يُرعيهم سمعهم، أي أن يُراعيهم بالانتباه، وهم يُريدون يا مَن به – والعياذ بالله – رعونة، لعنة الله تعالى عليهم، ولذلك نهى الله – تبارك وتعالى – عن استخدام هذه الكلمة، قال وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا ۩.
لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ ۩، أي تحريفاً، وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ۩ من هذا البطلان الذي تردوا فيه، وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ۩.
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ۞
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم ۩ وهو القرآن الكريم، وبيَّنا في الدروس السابقة كيف أن التوراة والإنجيل يُصدِّقان الكتاب وكيف أن الكتاب الحكيم يُصدِّقهما، مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ۩، قال مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا ۩، كيف يكون طمس الوجوه؟ الله قال نطمس على أبصارهم، طمسنا على أبصارهم! يكون بطمس البصر والعياذ بالله، وهو خطفه وأخذه بحيث يعمى الإنسان، فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ۩، أي نجعلها – والعياذ بالله – في القفا، نجعلها في القفا! وهذه صورة تمثيلية رائعة، لماذا؟ لحالهم أو لحالتهم، لأنهم – والعياذ بالله – تخوَّضوا وارتدوا وتردوا في مهاوي الباطل ورجعوا القهقرى وتركوا ما جاءهم به النبي المُحمَّد – عليه الصلاة وأفضل السلام – من صريح الحق وقد جاءهم بالحق من الحق، وقد جاءهم بالحق وهو القرآن من الحق تبارك وتعالى، فهذه صورة واضحة جداً.
فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ۩، ذكرنا قصة أصحاب السبت وكيف احتالوا على صيد الحيتان، وستأتي أيضاً مُفصَّلة في موضعها من سورة الأعراف.
هذه الآية كانت سبب إسلام العالم الكبير والبحر الجليل كعب الأحبار وهو يهودي يمني، هو عالم من علماء اليهودي يماني من الأحبار، هو يهودي يمني أو يماني، أي من اليمن! روى ابن جرير في تفسيره أنه قدم على المدينة المُنوَّرة في طريقه إلى بيت المقدس، فخرج له الفاروق عمر – في خلافة عمر – وقال له يا كعب أسلم يكن خيراً لك، فقال يا أمير المُؤمِنين ألم يُنزَّل عليكم في كتابكم مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۩؟ فقد حُمِّلنها، دعنا هكذا، قلوبنا مطموسة والعياذ بالله، تخيَّل! أي أنه يعرف أنه على باطل وأن الإسلام على الحق، لكنه قال له الأمر انتهى، القلوب مطموسة، فنحن قد حُمِّلناه، فاتركنا! فتركه عمر، فذهب الرجل يُواصِل سفرته إلى بيت المقدس حتى إذا كان بحمص من أرض الشام سمع رجلاً يقرأ بصوت محزون يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ۩، فخاف! آية عجيبة ونظمها عجيب وفيها تهديد شديد ووعيد أكيد، فقال أسلمت يا رب، آمنت يا رب، ثم ذهب إلى أهله في اليمن فأخذهم وعاد بهم إلى المدينة مُسلِمين، وهكذا! هذه قصة إيمان كعب الأحبار رحمه الله، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ۩.
۞ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ۞
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ۩، واضحة، وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ۩، هذه الآية عامة في كل الذنوب وأنها داخلة في حيز المغفرة مع المشيئة باستثناء الشرك، هناك آية عامة في كل الذنوب بما فيها الشرك لكن كيف؟ مع التوبة، أي إذا تاب من هذا الذنب، وهي قوله – تبارك وتعالى – قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۩ ولم يستثن، أعم آية في المغفرة وهي من أوكد الآيات هذه الآية، تليها هذه الآية وأشكالها، فهي فيها استثناء، الاستثناء فقط الشرك، ولذلك الذنوب الأُخرى – من قتل ومن زنا ومن… ومن… ومن… إلى آخره قد تُغفَر بالمشيئة، إذا شاء الله أن يغفرها، لكن ليس بالحتم، ليس بالحتم والأكيد أنه يغفرها لكل أحد، قد يغفرها لبعض ولا يغفرها لبعض، بحسب ما لهذا الأحد الذي تطاله مشيئة المغفرة من حسنات ماحية أو من سابقة أو من رسوخ قدم أو… أو… أو…. إلى آخره مما يعلمه الله تبارك وتعالى، أليس كذلك؟ وليس إنساناً له حسنات ماحية وله سابقة وله أفعال كثيرة طيبة كإنسان ليس له مثل ذلك، هذا لو أتى بكبيرة وهذا أتى بكبيرة يكون الأول أقرب إلى المغفرة، أليس كذلك؟ وهذا معروف ومُقرَّر لدى أهل السُنة والجماعة، والله تعالى أعلم.
۞ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ۞
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ ۩، هم اليهود والنصارى، كيف؟ حين قالوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۩، تزكية للنفس والعياذ بالله! وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ۩، هذه تزكيتهم لأنفسهم.
بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء ۩، هذا كذب، غير صحيح! الله هو الذي يحكم لأحد ويحكم على آخر، وليس الإنسان هو الذي يحكم من نفسه.
وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ۩، بيَّنا وجه هذه الآية وأمثالها أمس، وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ۩، وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ۩، لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۩، لا يُظلمون كذا، ما معناها؟ أي لا يظلمهم من عملهم الحسن ومن عملهم الطيب مثقال فتيل أو نقير أو قطمير أو ذرة، بل يُوفيهم هذا العمل على أتم وجه، ما معنى الفتيل؟ في كتاب الله هذه الألفاظ ثلاثة: النقير، القطمير، والفتيل.
الفتيل ما هو؟ تعرفون النواة، نواة الرُطب أو البلح، هذه النواة في مُنتصَفها يُوجَد ماذا؟ يُوجَد فتيل خفيف جداً مثل خيط، أليس كذلك؟ خيط ليفي أو قطني، هذا الخيط هو الفتيل، ينتهي في رأس النواة بنُقرة صغيرة مُدبَّبة اسمها النقير، نُقطة بيضاء هذه اسمها النقير، النواة ذاتها مُغلَّفة بغلاف شفاف – شفيف جداً، ليس كتيماً وإنما شفيف، وواضح أنه شفيف – اسمه القطمير، فسُبحان مَن هذا الكلام، فالنواة وحدها وُصِفَت بأوصاف دقيقة جداً جداً، الله ذكر الحب والنوى، أليس كذلك؟ وذكر الفتيل وذكر النقير وذكر القطمير، سُبحان مَن أنزل كتابه بهذه اللُغة العجيبة، لُغة وصّافة غريبة جداً جداً.
۞ انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا ۞
انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ ۩، بهذه التزكية الكاذبة، عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا ۩، كفى بالكذب على الله إثماً واضحاً صريحاً.
۞ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ۞
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ ۩، هم اليهود أيضاً، يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ۩، قلنا في درس سابق قال سيدنا عمر بن الخطاب الجبت هو السحر والطاغوت هو الشيطان، ثم تحدَّث عن الأخلاق وأنها غرائز، وسُئل جابر بن عبد الله الصاحب الجليل – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين – عن الطاغوت فقال الطاغوت هم الكُهان تتنزَّل أو تنزَّل عليهم الشياطين، هؤلاء هم الطواغيت! وقال الإمام مالك بن أنس – إمام المذهب وإمام دار الهجرة رضوان الله تعالى عليه – الطاغوت هو كل ما عُبِدَ من دون الله، أي شيئ عُبِدَ من دون الله هو طاغوت، وقد يكون الطاغوت بشرياً وقد يكون حجرياً وقد يكون معنوياً وقد يكون رمزياً وقد يكون مادياً وقد يكون مشهوداً وقد يكون غيبياً، كل ما عُبِدَ من دون الله هو طاغوت، فاليهود يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ۩.
قد تذكرون أننا ذات مرة في خُطبة قديمة قلنا إن اليهودية ديانة وثنية، للأسف عكس ما يقول بعض المشايخ وبعض العلماء ديانة توحيدية، القرآن صرَّح في مرات عديدة أن اليهود عُبّاد للشياطين، يعبدون الشياطين! وهذا موجود في توراتهم، والديانة اليهودية تُجوِّز التقريب – تقريب القرابين – لعزازيل، لإبليس والعياذ بالله! بل تزعم التوراة أن هارون كان يُقدِّم القرابين لعزازيل، وهم الآن في هذا العصر وراء عبادة الشياطين، هذه الديانة الجديدة! أليس كذلك؟ فصدق الله وكذب كل مَن لم يفهم كلام الله، اليهودية ليست ديانة توحيدية وهم ليسوا مُوحِّدين، هم عبّاد للشياطين، عبدوا الشياطين مع الله، والقرآن أكثر من مرة ذكر ذلك، (ملحوظة) استفسر أحد الحضور عن مقصود الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم وهل هو يقصد اليهودية الحقيقة أم لا، فقال له فضيلته لا، ليست اليهودية الحقيقية، أعوذ بالله! ولا المسيحية الحقيقية فيها شرك، نحن لا نتحدَّث عن الدين الأصلي، نتحدَّث عن الدين المُحرَّف، دين هؤلاء اليهود، كيف هو؟ دين مُحرَّف، والله هنا يصفهم بإنهم يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ۩ والعياذ بالله.
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۩، ما هو الطاغوت؟ الشيطان، الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۩، إذن فسَّر الطاغوت بالشيطان، هذا واضح جداً، فعلاً الطاغوت هو الشيطان وهو عُبِدَ من دون الله، واليهود عبدوه من دون الله، توراتهم تقول هذا، توراتهم! أنا رجعت إليها بنفسي، توراتهم تقول – إلى الآن هذا موجود في طقوس اليهودية – يجوز تقريب القرابين إلى عزازيل، عندهم موسم مُعيَّن لفعل هذا، إذن هي ليست ديانة توحيدية، دخلها الشرك على أشده والعياذ بالله.
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ۩، مثل هذا التركيب – وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ۩ – فيه لام تُفسَّر هنا بمعنى عن، أي يقولون عن أو في، يتكلَّمون عن الكفّار، يقولون هؤلاء الكفّار، عنهم! فــ لِلَّذِينَ ۩ ليس فيها لام بمعنى اللام الحقيقة، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ۩ في سورة الأحقاف، كيف وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا ۩؟ هم لم يتكلَّموا لهم وإنما قالوا عنهم، يتحدَّثون عن المُؤمِنين، يقولون هؤلاء لو كان هذا خير ما سبقونا إليه، فهنا اللام بمعنى عن، هنا نفس الشيئ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ۩ أي عن الذين كفروا أو فيهم إنهم أهدى من المُؤمِنين أتباع محمد سبيلاً.
سبب هذه الآية أن حُيي بن أخطب – لعنة الله عليه – اليهود الذي مات كافراً وأبو أم المُؤمِنين – أم المُؤمِنين عليها الرضوان والرحمة – صفية وكعب بن الأشرف – لعنة الله تعالى عليهما أجمعين – أتيا كفّار مكة في قريش، فقال لهم كفّار قريش أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، أينا خير وأهدى سبيلاً: نحن أو محمد؟ قالوا ما أنتم وما محمد؟ أي ما قصتكم؟ تكلَّما! قالا نحن نصل الأرحام ونسقي الماء مع اللبن ونفك العاني ونسقي الحجيج ونخدمهم، ومحمد صنبور قد قطع الأرحام، ما معنى صنبور؟ صنبور! في اللُغة العربية معناها النخلة الفذة المُنفرِدة عن جماعة النخل، تُسمى صنبوراً، ماذا يقصدون؟ شذ عن طريقتنا، نحن أُناس ما شاء الله جيدون وهذه طريقتنا، قالوا عندهم – ما شاء الله -صلة الأرحام وكذا وكذا من الأشياء المذكورة كذباً، ومحمد شذ عنا وقطع الأرحام، هم يعرفون أن كعباً أتى من المدينة ويعرف الرسول وحُيي يعرف الرسول، يعرفان طريقة محمد تماماً هما، قالوا لا، أنتم أهدى سبيلاً من محمد، يا عبّاد الأوثان أنتم أحسن، لعنة الله عليهم، انظر إلى أي درجة بلغ الإفك!
۞ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ۞
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ۩، طبعاً هم ملعونون بأكثر من سبب، لكن هذا السبب وحده – لو قام وحده – حقيقٌ بأن يجعل اللعنة بهم حائقة، وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ۩.
۞ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ۞
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ ۩، استفهام إنكاري أو استنكاري، هم ليس لهم، الله يقول ليس لهم نصيب من المُلك، لكن لو كان لهم فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ۩، جاءت النقير! النُقرة في آخر الفتيل والعياذ بالله، كناية عن ماذا؟ عن بُخلهم المُتمكِّن والعياذ بالله، بخل عجيب وشح مُدهِش.
۞ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ۞
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۩، بيَّن المولى الجليل – تبارك وتعالى – أن كفرهم بمحمد – صلوات ربي وتسليماته عليه – إنما مبعثه وسببه الحقيقي هو الحسد والعياذ بالله، أول ذنب عُصيَ به الله ما هو؟ الحسد، حين حسد إبليس آدم، واليهود كفروا بمحمد – والعياذ بالله – واستوجبوا اللعائن المُتتابِعة إلى يوم الدين أيضاً بالحسد، فالحسد من أعظم الذنوب وأخسها والعياذ بالله تبارك وتعالى، مُهلِك!
قال:
كلُّ العداوةِ قد تُرْجى مَوَدَّتُهَا إلاَّ عداوةَ من عَادَاكَ عن حَسَدِ.
فعلاً أي عداوة أُخرى – سوء تفاهم أو طمع وما إلى ذلك – مُمكِن أن تُرجى مودتها، لكن الحسد لا، الحاسد لا يرضى حتى – والعياذ بالله – تزول عنك النعمة، سواء كانت غنىً أو سُلطاناً أو علماً أو جمالاً أو محبةً في قلوب الخلق، حين تزول النعمة عنك وتُصبِح موضع شماتة والناس ترثي لك هو يرضى والعياذ بالله، فنعوذ بالله من شر حاسد إذا حسد، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ۩.
قال أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۩، المقصود بقوله النَّاسَ ۩ هنا مَن بالذات؟ محمد عليه السلام، وهذا جائز، إطلاق العام وإرادة الخاص، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ۩، الَّذِينَ قَالَ ۩ ما كانوا إلا واحداً، واحد الله سماه الناس، لكن قوله إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ۩ يُقصَد به قريش، صحيح! هذا جائز، فهذا خاص أُريد به عام.
قال تعالى فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ۩، ليس إبراهيم وحده، كما قال تعالى الله وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ۩، ما من نبي وما من رسول أُرسِل أو ابتُعِث بعد إبراهيم إلا وهو من ذُرية إبراهيم حتى سيدنا محمد، هو من ذُرية إسماعيل بن إبراهيم، أليس كذلك؟ فالله قال إذا كان ذلك كذلك فهذه النبوة والرسالة كثيرة جداً في ذُرية إبراهيم، هل آمنوا بكل الأنبياء الذين أتوا من إبراهيم؟ هل كانت قضية شخصية فعلاً مع محمد وأن محمداً من العرب وليس من نسل يعقوب ولذلك كفرنا به؟ الله يقول لا، لا تزال المسألة أكبر من هذا، المسألة الحقيقية اتباع الهوى – والعياذ بالله – والكفر بالله وبآياته، أكبر من ذلك!
قال وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ۩.
۞ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ۞
فَمِنْهُم ۩، من بني إسرائيل، من اليهود، مَّنْ آمَنَ بِهِ ۩، قيل مَّنْ آمَنَ بِهِ ۩ أي بهذا الاتياء، بهذا الاصطفاء الإلهي، وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ ۩، أي عن هذا الاتياء، وقال مُجاهِد بن جبر تَلميذ ابن عباس – كان أكبر مُفسِّر بعد ابن عباس، مُجاهِد هو الذي أخذ التفسير كله عن ابن عباس مرتين على الأقل، يقفه عند كل آية آية، مُجاهِد هذا، وطبعاً ابن عباس لا يأخذ في الآية خمس دقائق، يشرح فيها شرحاً طويلاً، يُعطي مُحاضَرة في كل آية، هو أخذ القرآن كله عن ابن عباس مرتين، ستة آلاف ونيف آية أخذها عن ابن عباس مرتين، قال أقفه عند كل آية آية واستفصله، ما هذه؟ وما هذا؟ علّامة كبير مُجاهِد بن جبر رحمة الله عليه، وصلتنا قطعة من تفسيره يسيرة طُبِعَت في مُجلَّدين – فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ ۩ أي بمحمد، وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ ۩ أي عن محمد، وهذا مُتوجِّه جداً أيضاً، صلى الله عليه وسل.
وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ۩، أي وكفى جهنمُ، الباء زائدة! أي وكفى جهنمُ سعيراً.
۞ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ۞
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ۩، يقول الحسن البِصري – قدَّس الله سر البِصري – تُنضِجهم في كل يوم سبعين ألف مرة، الله أكبر! سبعين ألف مرة، يشتوون وينتهون، وبعد ذلك من جديد تُنبَت لهم جلود جديدة ثم تحترق بالكامل، وهكذا سبعين ألف مرة، احص وقسِّم إذن هذا، شيئ مُخيف، لعنة الله عليهم.
قال لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ ۩، وهذه فيها إعجاز علمي طبي، أليس كذلك؟ لأن الجلد إذا احترق بالكامل آخر طبقات الإحساس لا يشعر بها الإنسان، أليس كذلك؟ لا يشعر، انتهى الأمر، لا يُوجَد أي شيئ، فالله يقول لا، سنُجدِّد لهم خلايا من جديد حتى يذوقوا العذاب، فيها إعجاز طبي عجيب.
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا ۩، أي مُمتنِعاً، حَكِيمًا ۩.
۞ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ۞
وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۩، الآية واضحة، لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۩، قلنا أيضاً في سورة البقرة – في أولها – هذه الأزواج المُطهَّرة مُطهَّرة مادياً ومعنوياً، مُطهَّرة من الحيض والنفاس والبصاق والغائط والبول والعرق القذر وكل هذه الأشياء، ومُطهَّرة من الأخلاق المرذولة والأخلاق السمجة، فأخلاقهن أحسن الأخلاق.
قال وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ۩، أي ظلاً عميقاً، في الدنيا أيها الإخوة ألا ترون أحياناً أن الظل لا يكون ظليلاً؟ أحياناً الظل لا يكون ظليلاً، كيف لا يكون ظليلاً؟ يستظل فيه الواحد منا وتكون الشمس لافحة، هذا لا ينفع، أليس كذلك؟ لأن الجو كله غير مُلائم، لكن حين يكون ظلاً ظليلاً تشعر فيه بالبرودة وبالاستبراد وبالراحة، هذا هو الظل الظليل، ظل عميق مُحيط من جميع النواحي، وفيه خاصة التظليل والإظلال، ليس مُجرَّد ظل أو صورة ظل أو رسم ظل كما في الدنيا في البلاد التي فيها شدة الحر وجفاف الهواء.
۞ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ۞
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ۩، هذه الآية من المشهورات أنها نزلت في قصة عثمان بن طلحة عام الفتح، وهذا مشهور جداً لدى كل الناس، العامة والخاصة، لماء جاء النبي – عليه السلام – وفتح عليه مكة – شرَّفها الله وكرَّمها وصانها وبرها – أخذ مفاتيح البيت أو الكعبة من عثمان بن طلحة، وقد كانت هذه المفاتيح معه مُنذ الجاهلية كابراً عن كابر، النبي قال له هاتها، هذه هي! يُوجَد فيها حق لأناس آخرين من أهل البيت أو الصحابة، المُهِم قال له هاتها وأخذها، ودخل النبي البيت، أي الكعبة، فخرج والمفاتيح بيده يقول إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ۩، نزلت عليه، نزلت في جوف الكعبة هذه الآية، ثم دعا بعثمان بن طلحة ودفع إليه المفاتيح.
قال ابن عباس وغيره وهي للبر والفاجر، أي أن هذه الآية نزلت على سبب خاص، قصة مخصوصة وهي قصة المفاتيح، لكنها معناها عام أم ليس عاماً؟ لا تقل لي أنا سوف أسرق شيئاً ولن أُعيده لأن هذه الآية في مفاتيح الكعبة فقط، لا! العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومن هنا قال ابن عباس هي للبر والفاجر، ما معنى البر والفاجر؟ فيها معنيان، أنا أفهم منها معنيين، بعضهم فهم منها معنىً واحداً، هي للبر والفاجر أي أمرٌ لكل بر وفاجر من أمة محمد، أي يا بر أد الأمانة ويا فاجر أيضاً أد الأمانة، الكل! وقيل – أنا أفهم هذا المعنى – للبر والفاجر أي تُؤدى الأمانة لصاحبها وإن كان فاجراً، من باب أولى وإن كان براً، لا تقل لي هذا فاجر وأُريد أن أغتال أمانته، لا! ممنوع أن تغتاله ويجب أن تُؤديها له، وهذا ربما يكون أقرب لمعنى كلام ابن عباس، بخلاف ما فسَّره بعض الحفّاظ كالحافظ ابن كثير، قال هي أمرٌ لكل بر وفاجر، أنا أرى أن الأرجح ليس هذا أيضاً، صحيح هذا يجوز لكن الأرجح أن تُؤدى الأمانة لكل بر وفاجر، هذا معناها! أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ۩، أي لكل بر وفاجر، هذا معنى كلام ابن عباس، والله أعلم.
إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۩، كما قلنا الموعظة تكون بماذا؟ بالأمر والنهي، بالوعد والوعيد، بالترغيب والترهيب، هذه هي الموعظة! إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ۩.
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ۞
قال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ۩، كما ترون هنا قال أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ۩، طاعة الرسول استقلالية، قال أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ۩، لم يقل أطيعوا الله والرسول وإنما قال أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ۩، لو قال أطيعوا الله والرسول لكان معنى هذا أن طاعة الرسول بالتبع لطاعة الله، فإذا خالف الرسول وحاشاه وكلا – اللهم غفراً – عن أمر الله فلا طاعة له، هذا مُستحيل، لا يُمكِن! أصلاً الله قال مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۩، الرسول أصلاً لا يُتصوَّر فيه أبداً – بتة – مُخالَفة الأمر الإلهي، أليس كذلك؟ هو كلامه أمر أصلاً، كلامه شرع لنا، فكيف يُخالِف؟ لذلك هنا جاءت طاعته أو الأمر بطاعته استقلالاً، قال أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ۩، وممنوع أن تبحث ثم تقول يا رسول الله قبل أن أُطيع أُريد أن أرى كلامك أو اجتهادك أو قولك وما إلى ذلك يتطابق مع الكتاب أو لا يتطابق، أعوذ بالله، ممنوع الكلام هذا، لكن ماذا قال بعد ذلك؟ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ۩، لم يقل وأطيعوا أولي الأمر، قال وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ۩، هذا يعني أن طاعتهم بالتبع أو بالاستقلال؟ بالتبع لطاعة الرسول وطاعة الله، فلا طاعة لهم في معصية الله ورسوله، إذا أمر ولي الأمر حاكماً كان أو عالماً بمعصية فلا يُطاع، لأن ولي الأمر طبعاً مُختَلف فيه كثيراً، وكلام العلماء يدور في النهاية على معنيين، أولياء الأمور هم العلماء والأمراء، لأن كلمة الحُكّام تُطلَق في اللُغة القديمة على القُضاة، انتبه! والقاضي طبعاً بلا شك هو عالم ومُجتهِد ومن أولياء الأمر وله أمر حتى أكثر من العالم العادي، لكن نحن نقول الأمراء، إذن العلماء والأمراء هم أولياء الأمور، بلا شك لهم ولاية على الناس، وولاية العلماء أقل من ولاية الأمراء بلا شك، هذا واضح، تلك أوسع، فهؤلاء طاعتهم لا تكون إلا في حدود طاعة الله.
عند الشيخين – أي في الصحيحين، في البخاري ومُسلِم – قال – صلى الله عليه وسلم – على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره – حتى لو لم تُحِب لابد أن تسمع وتُطيع لأميرك وتسمع وتُطيع لمَن له سُلطة شرعية عليك – إلا أن يُؤمَر بمعصية، فإن أُمرَ بمعصية فلا سمع ولا طاعة، إذا كانت معصية فلا، وهذا طبعاً فيه تفصيل، أحياناً لابد أن تُطيع حتى في بعض المعاصي الصغيرة، لماذا؟ لأن أحياناً التمرد وعدم الطاعة قد يترتَّب عليه معصية أكبر بكثير لتفريق شمل الأمة وشق عصا الطاعة ومن ثم تُصبِح هناك مشاكل وفتن، ممنوع! سنترك هذا حتى ندخل في موضوع فقهي طويل، هذا موضوع آخر.
هذه الآية نزلت أيضاً على سبب، وطبعاً القصة مذكورة في الصحيحين مُختصَرة جداً، في البخاري ومُسلِم قال ابن عباس بعث الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – عبد الله بن حُذافة بن قيس في سرية، هذا هو فقط، لم نفهم، نزلت فيهم هذه لكنها غير واضحة، عند غير البخاري السياق طويل جداً وواضح، السياق طويل وواضح! كيف؟ بعث الرسول سريةً – أي جماعة من الغُزاة والرسول ليس معهم، تُسمى سرية وجمعها سرايا – وأمَّر عليم واحداً من الأنصار – أنصاري وليس مُهاجِرياً – فلما كانوا بالطريق خالفوه في شيئ فوجد عليهم، ما معنى فوجد عليهم؟ فغضب عليهم، ومنه الموجدة، يُقال لك موجدة، عنده موجدة، معناها ماذا؟ غضب وحزن، أي عنده غضب وحزن، لكن الأصل هو الغضب، قال فوجد عليهم، أي موجدةً، فخلّاهم وفي مرحلة مُعيَّنة من السفر قال لهم أليس قد أمركم رسولكم صلى الله عليه وسلم – بطاعتي؟ قالوا اللهم بلى، قال جميل، اجمعوا لي حطباً، فجمعوا حطباً ثم أتى بنارٍ فأضرمها – أي أشعلها وأججها – في الحطب، ثم قال لهم لجوها، ادخلوا فيها، هيا! ما هذا؟ فهموا أن يفعلون، أرأيتم إلى أي درجة بلغت الطاعة؟ لأن هذا ولي أمر وهذا أمير رسول الله، والرسول قال لنا أطيعوه، فإذن سوف نُطيعه، قال هيا ادخلوا النار وسوف ندخل النار، ماذا نفعل والرسول قال لنا أطيعوه؟ فهموا أن يدخلوها، رضيَ الله عنهم وأرضاهم، أرأيتم كيف كانوا أصحاب محمد؟ أمة عظيمة جداً، لم ينتصر النبي بهم من فراغ، أُناس منضبطون، فهموا أن يدخلوها فقام لهم شابٌ منهم، شاب وليس حتى رجلاً كبيراً، يا قوم قال لهم، يا قوم تلبَّثوا وانتظروا، كيف تدخلونها وإنما فررتم إلى رسول الله من النار؟ أصلاً أنتم ذهبت إلى الرسول وهاجرتم وأسلمتم وما إلى ذلك بسبب الخوف من نار جهنم، كيف تدخلونها الآن هكذا؟ لا، فانتظروا حتى نأتي إلى رسول الله، حتى نقدم عليه، فإن أمر دخلنا وإلا نظرنا في أمرنا، قالوا والله هذا صح، هنا العقل ظهر ولم يدخلوا، وهنا اغتاظ الأمير، الأمير كان عصبياً قليلاً، المُهِم عادوا إلى رسول الله وقالوا له حصل كذا وكذا – القصة لن نحكيها – فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً، وهذه تُؤكِّد أيضاً الحديث الذي في الصحيحين، أن أي إنسان ينتحر يبقى في جهنم خالداً مُخلَّداً فيها أبداً، تُخوِّف هذه الجُملة، الانتحار شيئ خطير جداً، وهنا أيضاً النبي ماذا يقول؟ أبداً، لو دخلتموها – يقول – ما خرجتم منها أبداً، إنما السمع والطاعة في المعروف، النبي قال لهم هل في كل شيئ تسمعون؟ هل لو قال لكم اكفروا سوف تكفرون؟ هل لو قال لكم انتحروا سوف تنتحرون؟ لا يصح، إنما السمع والطاعة في المعروف، هذا الصحيح! وهذا كله مُضمَّن في هذا التعبير القرآني العالي الراقي: أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي ۩، أرأيت؟ حرف الواو هنا من غير أطيعوا أفهمنا كل هذه القصة، كلها! بعد ذلك قال وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ۩، يحتج بها بعض ملوك العرب اليوم وسلاطينهم ومشايخهم والمُصابين بالهبل، يقول الله أمر بطاعة أولي الأمر، ونقول لهم أيضاً الله لم يقل وأولي الأمر فيكم وإنما قال وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ۩، وفرق كبير بين وأولي الأمر فيكم وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ۩، هؤلاء أولوا أمر فينا، صحيح! كيف جاءوا؟ مَن أتى بهم؟ كيف قفزوا على الكرسي؟ لا نعرف، لكن هم أولياء أمور فينا، أمر واقع! فلا تقل لي نُطيعهم، لكنه قال وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ۩، إذن قال مِنكُمْ ۩، وهذه تُفهِم ماذا؟ أنهم مُختارون، نحن اخترناهم، نحن نصبناهم، ونحن وليناهم أمورنا، مِنكُمْ ۩ وليس فيكم، ففرق بين ولي أمر فينا وولي أمر منا، أرأيت؟ القرآن الدقيق، لكنهم يلعبون فيه ويستغلون جهل الناس بالعربية وجهل الناس بالتأويل.
قال فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ۩، اختلف العلماء في هذا الرد، أما في حالة رسول الله فسهل، أي الرد سهل، إذا وقع نزاع أو تخاصم في أي شيئ وفي أي حكم شرعي وفي أي مسألة دينية أو دنيوية ماذا يفعل الصحابة؟ مثل هذه القصة، يذهبون إلى الرسول ويقولون له يا رسول الله الأمر كذا وكذا، فإن كان عنده علم أفتى وقضى، وإن لم يكن عنده انتظر الوحي أو اجتهد رأيه على قول مَن قال بإن له أن يجتهد والمسألة معروفة في الأصول، صحيح! لكن بعد موت رسول الله كيف يكون الرد؟ إلى سُنته، أليس كذلك؟ وكيف يكون الرد إلى الله؟ إلى كتابه، أليس كذلك؟ الرسول تُوفيَ وقُبِضَ الآن، ماذا نفعل؟ نرد إلى الله بالرد إلى كتابه، ليس عندنا الآن علاقة مُباشَرة مع الله، كأن نسأل وينزل إلينا جبريل، لا يُوجَد الكلام هذا، انقطع الوحي، كيف نرد إلى الرسول؟ باستفتاء سُنته، ولذلك السُنة أيها الإخوة ما دامت محفوظة فكأن رسول الله بين ظهرانينا، كأنه موجود ويُفتينا – هذا صح سُبحان الله – في كل صغيرة وكبيرة، جزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته ورسولاً عن رسالته.
قال إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ۩، هذه الآية تُشعِر بأن الذي لا يرد إلى الله والرسول ولا يرضى بحُكم الله والرسول أن هناك غمزاً بل مغمزاً واسعاً في دينه، قال لأن الذي يُؤمِن بالله واليوم الآخر هو الذي يرد إلى الله والرسول ويُحكِّم دائماً الكتاب والسُنة، إذا حكَّم رأيه وآراء الرجال وتعالى على الكتاب والسُنة فهناك مغمز ومطعن واضح لائح في دينه واعتقاده، وسوف تأتي آية أوسع من هذه بكثير في المائدة.
ذَلِكَ خَيْرٌ ۩، هذا الرد، أي حسن، خير أخير، وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ۩، قلنا التأويل بمعنى ماذا يأتي في اللُغة القرآنية؟ العاقبة، أليس كذلك؟ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ ۩، هذه عاقبة رؤياي، العاقبة! أليس كذلك؟ إذن ذلك خيرٌ وأحسنُ عاقبةً، عاقبة هذا الرد ونتيجته ومآله ومصيره أفضل بكثير، من ماذا؟ من أن تركبوا أهواءكم وتُتابِعوا الرجال في آرائهم، ردوا إلى الكتاب والسُنة فهذا أحسنُ عاقبةً، لا تعني أحسن تفسيراً، انتبهوا! التأويل هنا ليس بمعنى التفسير وفهم الكلام وإنما بمعنى العاقبة.
قال مُجاهِد بن جبر ذلك خيرٌ وأحسنُ جزاءً، وهو قريب، لأن الجزاء عموماً يكون هو العاقبة، فهو قريب، أي هذا التفسير قريب.
۞ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا ۞ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ۞
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا ۩، هذه الآيات نزلت لماذا؟ هناك سببان مشهوران في سبب نزول هذه الآية والتي تليها والعياذ بالله، هذه في بعض المُنافِقين، قيل نزلت في رجل من الأنصار، على أساس أنه مُسلِم في الظاهر، لكن يُوجَد مغمز بلا شك في دينه، هذا الرجل وقع بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي هيا إلى محمد، اليهود راضٍ بقضاء الرسول، يقول له هيا إلى محمد، وماذا يقول له هذا المُسلِم الأنصاري؟ هيا إلى كعب بن الأشرف، أعوذ بالله يا أخي! اليهود يرضى أن يحتكم إلى رسولك وأنت تُريد أن تحتكم إلى رجل طاغوت من طواغيت اليهود – والعياذ بالله – وهو كعب بن الأشرف لعنة الله عليه! فالله أنزل هذه الآية، هذا الشيئ الآن الأمة كلها واقعة فيه إلا مَن رحم الله، انتبهوا! هذا خطر جداً جداً، الآن أمة محمد كلها إلا مَن رحم الله واقعة تحت طائلة هذه الآيات وأمثالها، لدينا كتاب وسُنة متروكة كالشريعة المنسوخة واتُخِذت وراءنا ظهرياً ونُحكِّم كلام الطواغيت، قانون فرنسي، قانون إنجليزي، قانون سويسري، قانون أمريكي، وهكذا! يُحلِّلون الزنا، يُحلِّلون الربا، يُحلِّلون الكلام الفارغ والخنا والعياذ بالله، نتحاكم إلى الطاغوت ونترك كلام الله، يا ويلنا! نسأل الله أن يُنقِذنا من هذا المُنكَر الأكبر، المُنكَر الأكبر الذي خيَّم على أمة محمد هو تحكيم غير شرع الله، أكبر مُنكَر أمة محمد كلها الآن آثمة بسببه والله العظيم! إثم عظيم، وقيل هذه الآية نزلت في أبي برزة الأسلمي، كان كاهناً يهودياً قبل أن يُسلِم، أبو برزة كان كاهناً يهودياً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه إليه، علماً بأن المُنافَرة هي الاختصام، يُقال لك المُنافَرة، تنافروا إلى الحاكم أو القاضي أي اختصموا إليه، فهو كان كاهناً يهودياً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون إليه فيه، فكان جماعة من المُنافِقين الذين أظهروا الإيمان فقط لحقن دمائهم وتحريز أموالهم وذممهم يذهبون إلى أبي برزة ويتقاضون إليه، فأنزل الله فيهم هذه الآية، أتذهبون إلى الطاغوت وتتركون محمداً – عليه السلام – والكتاب؟ ما هذا؟
وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ۩، أي بالطاغوت، والآية واضحة!
قال وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ ۩، إذن هنا صرَّح الله بأن مبعث هذا التحاكم والعدول عن الكتاب والسُنة هو النفاق الذي استقر في قلوبهم، إذن هم مُنافِقون، لا جرم أنهم مُنافِقون! قال رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ۩.
۞ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ۞
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۩، ما المُراد بقوله أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ ۩؟ بشؤم هذا الفعل، ابتلاهم الله ببلية أو قرعهم بطارقة تبارك وتعالى، ثُمَّ جَاؤُوكَ ۩، بعد ذلك جاؤوك يا محمد، يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ۩، وما ذهابنا إلى هذا الطاغوت اليهودي إلا من باب تأليف القلوب واستمالتها واستلانتها للإسلام، هذه كانت حُجتهم، هذا معنى الآية كما قال المُفسِّرون، نحن يا رسول الله ليس قصدنا أن نأخذ بحكمهم ونترك الشريعة، لكننا فعلنا ذلك لكي نتألَّفهم، من باب الاحترام نُنزِلهم منازلهم، ولعل قلوبهم تلين ونستميلهم إلى دينك الحق، كذب! الله قال هذا كذب وهؤلاء كذّابون، كذّابون ومُنافِقون، ذهبوا لأنهم عدلوا حقيقةً عن الكتاب والسُنة.
۞ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا ۞
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ۩ الله يقول، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ۩، ما معنى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ۩؟ لا تُعنِّفهم، لا تقتلهم، ولا تُقِم عليهم حداً ولا عقوبةً، اتركهم! اتركهم هملاً وَقُلْ سَلامٌ ۩ كما في سورة أُخرى، وَعِظْهُمْ ۩، لكن خوِّفهم وأؤمرهم وانههم، وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ ۩، هذه غير واضحة، كيف وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ ۩؟ أي قل لهم فيما بينك وبينهم، لا تفضحهم على رؤوس الناس ولا تُعطهم أهمية، بينك وبينهم قال لهم تعالوا، أنا أعرفكم، والله قال فيكم كذا وكذا، الأحسن لكم أن تتركوا الطريق هذه، هذا الأحسن لكم وإلا يا بعداء نهايتكم سوداء.
وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ ۩، أي بينك وبينهم، قَوْلاً بَلِيغًا ۩، ما معنى بَلِيغًا ۩؟ أي بالغاً، أي واصلاً، أي يصل إلى مجامع القلب وسويدائه، لأنه قول من الرسول، وقول حافزه وباعثه هو الصدق والإخلاص فقط، النُصح للأمة! هذا القول البليغ.
۞ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ۞
ثم قال – تبارك وتعالى – وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۩، كيف إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۩؟ أي لا يُطيعه مَن أطاعه إلا بتوفيق الله ونوره وتبصيره، لأن كل الرسل يُبعَثون ومنهم مَن يُطيعه بعضٌ ويكفر به بعضٌ ومنهم مَن لم يُطعه أحد، النبي قال هذا، أليس كذلك؟ لم يُوجَد رسول أطاعته كل الأمة إلا ما قيل من يونس، بعد القصة هذه فآمنت القرية كلها، مائة ألف أو يزيدون، لكن حتى سيدنا محمد لم تُطِعه كل أمة الدعوة، أليس كذلك؟ أطاعه أنفار كثيرون وكفر به بعضٌ أيضاً، فالله يقول لم يُطِعه مَن أطاعه إلا بإذني، إلا بتوفيقي! أنا أُوفِّق الناس الصالحين الذين أعلم الخير في قلوبهم إلى طاعة رسولي ونبيي، هذا معنى بِإِذْنِ اللَّهِ ۩، كما قال في سورة آل عمران وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۩، كيف تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۩؟ بتوفيق الله وتيسيره، هو الذي يسَّر لكم أن تعلوا عليهم وتتغلَّبوا وتذبحوهم، هذا معنى بِإِذْنِ اللَّهِ ۩.
وَلَوْ أَنَّهُمْ ۩، أي هؤلاء المُنافِقون، إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ۩، بالفعل الذي ذُكِر وبغيره، جَاؤُوكَ ۩، أي يا محمد، فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ۩، هذه آية عظيمة جداً جداً في كتاب الله، هذه آية عظيمة جداً! ابن مسعود قال هناك خمس آيات في النساء ما أُحِب أن لي بها حُمر النعم، هذه الآية الخامسة، كنت نسيتها – في الدرس الرابع عشر – والآن تذكرتها، هذه الآية الخامسة!
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ۩، وهذه الآية فيها سبب نزول ذكرناه مرة في خُطبة قديمة عند الإمام الطبراني على ما أذكر، رجل كان من المُنافِقين – هو كان مُنافِقاً – وبعد ذلك – سُبحان الله – هداه الله وجاء إلى النبي وقال له يا رسول الإيمان ها هنا والنفاق ها هنا، هذا مُؤمِن “اللسان” لكن هذا مُنافِق”القلب”، هو يعرف نفسه، هو يعرف بأن هناك شيئاً غير طبيعي، يشعر أن هذا الإسلام دين حق وأن هذا النبي حق لكنه غير قادر على أن يُؤمِن، مُعثَّر – سُبحان الله – المسكين، والرجل عنده شيئ من خير، وبالمُناسَبة – كما قلنا مرة ونبَّهنا وأتينا بأدلة كثيرة – يُمكِن أن يكون في الإنسان إيمان ونفاق، أليس كذلك؟ يُمكِن أن يكون فيه كفر وإيمان، أي أشياء من خصائص الكفّار وليس كفراً بالعقائد، كما قال – تبارك وتعالى – هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإيمان ۩، هذا يعني أن هناك كفراً وأن هناك إيماناً، انتبهوا! هذه الآية مُخيفة، أي آية آل عمران! أي أن الإنسان يُمكِن أن ينطوي أحياناً على كفر وعلى إيمان أو على إيمان وعلى نفاق ولا يكون مُؤمِناً خالصاً، فلابد أن تُفتِّش نفسك، خلِّص حالك لكي تصير مُؤمِناً حقيقياً، ليس فيك حظ للنفاق ولا للكفر قسم من فؤادك إن شاء الله تعالى، نسأل الله كذلك.
فقال له يا رسول الله الإيمان ها هنا والنفاق ها هنا، ماذا أفعل؟ فالنبي دعا له، وضع يده على قلبه ودعا له، فالرجل – سُبحان الله – شعر بالإيمان وقد أُشرِبه قلبه، قال له يا رسول الله إن لي إخواناً من خلفي، نفس الشيئ! نحن نعرف هذا ونحن كلنا شلة أو عصابة بنفس الوضعية هذه، قال له مَن أتاني وفعل مثلما فعلت دعوت له واستغفرت الله له، ومَن بقيَ – لا يُريد أن يأتي – فلا أكشف على أحدٍ ستره، أي لا نفضح الناس، فليظل المُنافِق مُنافِقاً، لا تحك عنهم قال له النبي، لا تحك! الذي يأتي مثلك ويستغفر – أهلاً وسهلاً – سندعو له وما إلى ذلك، ومَن لا يأتي سيظل في عمهه وفي ضلالته ولا نكشف على أحدٍ ستره، صلى الله على مُعلِّم الناس الخير، انظر إلى أي درجة عنده حُب الستر ولو على المُنافِقين، لا نُريد أن نفضح الناس نحن، دعوهم! انظروا إلى هذه الآية، فهي تُفسِّر الوضع هذا، قال وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ۩.
۞ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ۞
ثم قال فَلاَ وَرَبِّكَ ۩، وهذا وعيدٌ شديدٌ وتهديدٌ أكيدٌ، قال فَلاَ وَرَبِّكَ ۩، الله يُقسِم من فوق سبع سماوات، لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ۩، إذا اشتجروا – أي قامت مُشكِلة أو سوء تفاهم أو اختصام أو أي شيئ – فلن يُوجَد إيمان – الله نفى هذا الإيمان أو كماله – إلا أن ياتوا ويتحاكموا إلى الله ورسوله ويرضوا بحُكم الله ورسوله ولا يجدوا في أنفسهم غضاضة من حُكم الله ورسوله، الله الذي يحكم يا أخي، هل يُوجَد مَن هو أعدل منه؟ هل يُوجَد مَن هو أصدق منه حديثاً وقيلاً؟ والرسول يحكم!
في البخاري عن عُروة بن الزُبير قال اختصم الزُبير – أي أبوه، الزُبير هو ابن عمة الرسول، ابن صفية، أليس كذلك؟ زوج أسماء وابن عمة الرسول، حواري رسول الله، هذا الزُبير بن العوّام – مع رجل من الأنصار في شراج الحرة، ما معنى شراج الحرة أو شروج الحرى؟ ماء صغير أتى من حرة المدينة، هذا عنده بُستان هنا وهذا عنده بُستان تحته، وهذا يمر على مَن؟ يمر على الزُبير في الأول، فاختصما! قال الأول لابد أن تُعطيني كذا والآخر قال أنت لا تُعطيني كذا، أنت تحفظ الماء عندك ثم تُنفِّذه لي، فما هذا؟ هكذا اختصموا، هو يُريد الماء على عجل، أي أن يُعطيه مُباشَرةً، والمفروض أن الزُبير يسقي في الأول بالماء وهو أصلاً شراج صغير، فقال الرسول يا زُبير اسق ثم أرسل الماء إلى جارك، قال له يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ انظر إلى هذا، صلى الله عليه وسلم، كم تحمَّل! والله العظيم نحن لم نتلق ما تلق الرسول ونحن بشر ضعاف، كثير جداً من الناس آذوه، سُبحان الله! حتى من أصحابه يا أخي، حتى من الأنصار، ما هذه البهادل؟ يا أخي رسول هذا، كيف يهون عليك أن تحكي الكلام هذا؟ لكن هذا ما حصل، مُعثَّر المسكين، قال له يا رسول الله أن كان – أي لأنه ومن أجل – ابن عمتك؟ هل لأنه ابن عمتك انحزت له وحابيته؟ قال له أن كان ابن عمتك؟ فتلوَّن وجه رسول الله، أحمر على أصفر! انزعج النبي جداً جداً، قال له يا زُبير اسق واحبس الماء حتى يبلغ الجدر – الماء لابد أن تستوعي حقك كاملاً منه – ثم أرسله إلى جارك، يقول واستوعى رسول الله للزُبير حقه في صريح الحُكم لما أحفظه الأنصاري، ما معنى واستوعى حقه؟ أي أخذ حقه الكامل، النبي في الأول حكم ولم يُعجِبه حُكمه، وقد كان أمر لهما بأمرٍ فيه لهما سعة، في الأول النبي قام بعمل Compromise، أي قام بحل وسط كما يُسمونه، حل وسط! خُذ شيئاً من الماء ثم أرسله له، لا تأخذ حقك بنسبة مائة في المائة يا زُبير وإنما خُذ سبعين في المائة أو ستين في المائة وبعد ذلك أعط جارك، فقال له هل هذا لأنه ابن عمتك؟ فقال له ما دام الأمر كذلك حق الزُبير – لأنه قبلك – أن يسقي بالكامل وأن يبلغ الماء إلى حد مُعيَّن – حتى يبلغ الجدر – وبعد ذلك من حقك أن تأخذ الماء، الآن سنقضي بمُر الحق، هل تُريد مُر الحق؟ هذا مُر الحق، هذا اسمه مُر الحق، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۩، في الأول النبي قام بعمل نوع من الصلح والـ Compromise، أي قام بحل وسط، لكن هذا لم يُعجِبه واتهم النبي بالمُحاباة، قال واستوعى النبي للزُبير حقه في صريح الحُكم لما أحفظه الأنصاري وقد كان أمر لهما بأمرٍ لهما فيه سعة، قال الزُبير فما أرى هذه الآية إلا نزلت في ذلك، أي بهذا السبب، فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ۩.
هناك رواية أُخرى ضعيفة، رجل اختصم مع رجل آخر من المُسلِمين، وأكيد هذا كان مُنافِقاً، فقال هيا نذهب عند الرسول، احتكما إلى الرسول وما إلى ذلك، فقال لا، لا أرضى إلا بحُكم أبي بكر، هذا يلعب! ألا ترضى بحُكم الرسول؟ فذهب عند أبي بكر والرجل الآخر المسكين يُريد حقه، أبو بكر لا يدري القصة، فقال له كذا وكذا، فقال لا، لا أرضى إلا بحُكم عمر، حتى أبي بكر لا يعجبني رأيه، وأبو بكر طبعاً سأل فقيل له الأمر كذا وكذا، فقال حُكمي مثل حُكم الرسول، ولا أُخالِف عنه أبداً، نفس الشيئ! قال فلنرى حُكم عُمر، عُمر قال ما الأمر؟ فقال له كنا عند الرسول وحصل كذا وكذا، فقال له جيد، انتظر قليلاً، دخل وأتى بالسيف وضرب رأسه، قتله على المحل، عرف أنه كافر وزنديق، قتله وهو يستأهل إذا صح الكلام هذا، لكن في النفس منه شيئ، لأنه من رواية ابن أبي حاتم.
على كل حال قال ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا ۩، ما هو الحرج؟ الضيق، أي من غير ضيق، لا تتضايق ولا تزعل، هذا حُكم الله ورسوله فارض به، مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ۩.
۞ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ۞
قال – عز من قائل – وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ۩، هذه الآية عجيبة ولها تفسيران، التفسير الأول أن تأخذها على وجهها، لو طلبنا منهم هذه الأشياء ما فعلها إلا أنفار قليلون منهم، والتفسير الثاني أنهم يفعلون هذا أصلاً والعياذ بالله، هؤلاء الكفّار من اليهود وغيرهم يقتلون أنفسهم ويسبون أنفسهم بالباطل ويُخرِجون أنفسهم من ديارهم كما في سورة البقرة، أليس كذلك؟ آية الميثاق أيضاً فيها هذا، من مواثيق بني إسرائيل، الله يقول بلغ بهم العناد والمُعاكَسة – كل شيئ يُعاكِسون فيه ويُناكِدون فيه ويُناقِضون فيه – أننا لو طلبنا منهم أن يقتل بعضهم بعضاً وأن يُخرِجوا بعضهم بعضاً لقالوا لا لن نفعل وسنُسالِم بعضنا ونصير من أحسن ما يكون و”صافٍ يا لبن” كما يُقال، ما هذه القصة؟ القصة أنهم في حرب حقيقية مع الله، عناد! يُمارِسون العناد لمُراد الله – تبارك وتعالى – ولشرع الله ولأمر الله والعياذ بالله منهم، الله يقول هذه هي طريقتهم.
ولما نزلت هذه الآية ماذا قال أبو بكر؟ قال والله لو طُلِب منا – ليست منا هذه – ذلك لبدأت بأهلي ونفسي، ويُوجَد رجل آخر أيضاً لما سمع هذه الآية – قيل هو أبو بكر وقيل عمر وقيل غير ذلك، المُهِم قاله لكنه غير مذكور، لما سمع هذه الآية ماذا قال؟ – قال والله لو طلب الله منا ذلك وكلَّفناه لفعلنا لا نتردد، مُباشَرةً! ونسأل الله العافية قال، الله – إن شاء الله – لن يطلب منا هذا، لكن لو طلب لفعلنا، سوف نقتل أنفسنا وأهلينا ونفعل أي شيئ يطلبه، فذُكِر ذلك للنبي فقال للإيمان في قلوب رجال من أمتي أثبت من الجبال الرواسي، قال هؤلاء المُؤِمنون، فعلاً الواحد منهم يقول الذي يُريده الله سوف أفعله، إذا قال لي اقتل أهلك فسوف أقتلهم، إذا قال لي اقتل نفسك فسوف أقتل نفسي، سأفعل ما يُريد لو طلب مني، لكن – إن شاء الله – لن يطلب قال، نسأل الله العافية قال، وهذا هو فعلاً، لذا دائماً أقول لكم نسأل الله ألا يبتلينا، نسأل الله ألا يمتحننا، يا رب! امتحان الله صعب.
قال وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ۩، أي لإيمانهم.
۞ وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ۞
وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ۩، قيل هي الجنة.
۞ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ۞
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ۩، طبعاً الهداية والصراط المُستقيم يكونان في الدنيا وفي الآخرة، أليس كذلك؟ حتى في الجنة هناك هداية، أليس كذلك؟ والهداية تتعدى بنفسها وتتعدى باللام وتتعدى بإلى، وفي كل مقام يصير لها معنى.
۞ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ۞
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ۩، هؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم، المُنعَم عليهم، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ۩، مَن هم؟ هم هؤلاء، الله فسَّرها هنا، أي فسَّر آية الفاتحة في هذه الآية من سورة النساء وهي آية عظيمة جداً، من أروع آيات كتاب الله! لماذا؟ سوف نرى.
أولاً رُويَ أن رجلاً من أصحاب رسول الله – قيل هو ثوبان مولاه وقيل غيره، لم يُصرَّح باسمه – رآه النبي ذات يوم محزوناً – الرواية هذه لم يُصرَّح فيها بالاسم، قال رجل من أصحاب رسول الله رآه النبي محزوناً – فقال له يا فلان ما لي أراك محزوناً؟ قال يا رسول الله شيئ فكَّرت فيه، أي خطر في بالي، أخطرته في نفسي، قال ما هو؟ قال قلت أنت الآن بيننا – بين ظهرانينا – نغدو عليك ونروح وننظر إلى وجهك ونسمع كلامك وغداً تُرفَع في النبيين – أي في زُمرة الأنبياء في عليين، في أعلى الفراديس – فلا نصل إليك، فهذا الذي أحزنني، فسكت النبي ولم يقض له بشيئ، لم يتكلَّم، لم يرجع إليه بأي كلام، فأنزل الله الآية فبشَّره به، قال له تعال واسمع، اسمع هذه الآية، أتُريد أن تكون معي؟ لابد أن تُطيع الله والرسول، امش كما أمشي أنا وسوف تكون معي إن شاء الله تبارك وتعالى، الله أكبر! عظيمة جداً إذن، فيها بُشرى كبيرة.
في صحيح مُسلِم عن ربيعة بن كعب الأسلمي – تعرفون هذا الحديث وهو مشهور جداً – قال كنت أبيت عند رسول الله عليه الصلاة وأفضل السلام – هذا في الصحيح، في مُسلِم، وهذا ربيعة بن كعب الأسلمي – فأتيته بوضوئي وحاجة، فقال لي يا ربيعة سل، أي اسأل ما تُريده، اطلب مني وتمن، قال له سل، هكذا بصيغة مُختصَرة، قلت يا رسول الله أسألك مُرافَقتك في الجنة، أي أُريد أن أكون معك في الجنة، هو كان يُحِب الرسول كثيراً، هو كان ينام عند بيته، حين يخرج النبي يقول له هذا الوضوء وهذا السواك وهذا كذا وكذا، فقط هو يُريد أن يقوم بأي خدمة، سهران على راحة رسول الله، ولم يكن وحده هكذا، فأنس كان هكذا وابن مسعود وأبو هُريرة وبلال وغيرهم، كثيرون كانوا هكذا، هناك مَن كان خادماً للحذاء، فقط يأخذ حذاء النبي، هناك مَن كان يهتم بالسواك، هناك مَن يهتم بشيئ آخر، فقط يُريد راحته، وفي المُقابِل – كما رأيتم – يُوجَد أُناس يقولون له اعدل وهذا ابن عمتك وما إلى ذلك، فهذا موجود وهذا موجود، ولا نقول أن الصحابة كانوا هكذا، أعوذ بالله! فقال له سل، فقال له يا رسول الله أسألك مُرافَقتك في الجنة، قال له أوغير ذلك؟ قال له هو ذاك، قال له فأعني على نفسك بكثرة السجود، هذا لفظ مُسلِم، قال له أوغير ذلك؟ أي هل يُوجَد شيئ ثانٍ أو أي حاجة ثانية تُريدها؟ هل هناك أُمنية أُخرى أو أي شيئ؟ قال له هو ذاك، أي ما قلته لك، أُريد فقط أن أكون معك في الجنة، قال له فأعني على نفسك بكثرة السجود، لماذا؟ لأن محمداً نفسه – عليه الصلاة وأفضل السلام – الله قال له وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ۩، أنت أيضاً يا محمد لكي تعلو في الجنان وتقترب من الرحمن لابد أن تسجد كثيراً، لابد أن تُصلي كثيراً يا محمد، وأنت لكي تكون مع محمد – عليه السلام – لابد أن تُصلي كثيراً أيضاً، لا يُمكِن أن تكون معه – عليه الصلاة وأفضل السلام – وأنت لا تُصلي كثيراً، لابد أن تُصلي كثيراً، قال له أعني على نفسك بكثرة السجود، لابد من الصلاة الكثيرة، قال يَا مَرْيَمُ – ألم يصطفها الله وأراد أن يُخرِج منها عيسى؟ ماذا قال لها؟ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ۩، لابد أن تُصلي كثيراً، لابد من الصلاة والعبادة، القلب الأبيض وحده لا ينفع والنية الصالحة وحدها لا تنفع، لابد من العبادة، العبادة وحدها تُجوهِر الإنسان، تُعطيك أشياء جديدة لا تُؤخَذ بالفكر، انتبه! أليس كذلك؟ ولذلك أنا أعتبر من قلة العقل الاهتمام بالفكر على حساب العبادة، بعض الناس يظن هكذا مثل الفيلسوف المُسلِم روجيه جارودي Roger Garaudy ومَن مثله، هو يُصلي وهو رجل فاضل، نسأل الله له حُسن الختام، لكن المسكين يقول أحياناً في بعض كُتبه أن العبادة الحقيقية هي الفكر، حين تُفكِّر يكون هذا أحسن من الحركات والصلاة، وهذا يعني أن المسكين لا يزال لا يفهم الإسلام، لا يا أخي، هذه ليست حركات، هذه باب ومعراج كبير لله تبارك وتعالى، ويُفتَح عليك فيها فتوحات غريبة، أحسن لك من الفلسفة ومن الفكر ومن كل شيئ، وهذا كان سر نبوغ وعبقرية علمائنا الأقدمين، عندهم فهوم وأشياء غريبة وغير عادية، خوارق كانوا فعلاً، كانوا أُناساً خارقين، حين نقرأ عنهم نجد أنهم فعلاً كانوا أناساً خارقين، غير طبيعيين مُطلَقاً، غير عاديين! لماذا إذن؟ بسر العبادة والربانية والتأله، كانوا أُناساً ربانيين، كانوا في عبادة غير عادية، وهكذا! أحدهم كان يقوم الليلة كلها بآية، وهذا لا يتعلَّق بواحد أو اثنين، قرأنا هذا عن عشرات منهم، عشرات! نقرأ في تراجمهم أن الواحد منهم كان يقوم الليلة – سبع أو ثماني ساعات – بآية، آية واحدة طيلة الليل يُردِّدها، لو هذه الآية انقطعت معانيها وفتوحها عنه أكان يُردِّدها؟ فأنا مُتأكِّد أن على مدى ثماني ساعات فتوح الآيات لا تنقطع، كلما قرأها أعطته صور جديدة، أعطته إيحاءات جديدة، وأعطته معانٍ جديدة، ومن هنا كان علمهم الواسع الغزير، بحار مُتلاطِمة كانت عندهم، رجل مثل الإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – ماذا يقول؟ يقول لو أعلم أنه تُطوى لي وسادة – أي سر لا ينكشف للناس حتى لا تحدث فتنة – لأوقرت لكم من معنى بالباء في بِسْمِ اللّهِ ۩ سبعين بعيراً، أف! ما هذا؟ فهذه ليست علوم كالتي عندنا، هذه علوم إلهية، علوم إلهية غريبة يا أخي! ابن عباس كان يقول والله لو ضاع لي عقال بعير – الحبل الذي أربط به بعيري – لوجدته في كتاب الله، كيف إذن؟ ما هذا؟ ما القصة هذه؟ شيئ لا يُفهَم، فتوح! هذه هي، اللهم افتح علين فتوح العارفين بك أو شيئاً من ذلك يا رب العالمين.
قال وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ۩، إذن هذه هي، وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ۩.
روى الإمام أحمد أن رجلاً قال يا رسول الله – وهذا إسناده جيد قوي، وجهالة الصحابي لا تضر، هذا عن رجل منهم وهذا لا يهمنا، كل الصحابة عدول – شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الخمس وصُمت رمضان وأديت زكاة مالي – ولم يذكر الحج فلعله لم يكن مفروضاً، لأن الحج فُرِض في سنة ست، فهو لم يذكر الحج، ذكر الأركان الأربعة ولم يذكر الحج – فما لي عند الله؟ أي ما جزائي؟ فالنبي قال مَن فعل هذا كان معي في الجنة كهاتين، وجمع بين أُصبعيه، هكذا قال أنا معه في الجنة، أي مَن يفعل هذا بإخلاص وصدق، الشهادتان، الصلاة، الصيام، الزكاة، والحج طبعاً أكيد بعد ذلك، يفعل كل هذا بنسبة مائة في المائة ويبتعد عن الذنوب والكبائر، النبي قال مَن فعل هذا كان معي في الجنة كهاتين إلا أن يعق والديه، إذا كان يعق والديه فلا، لا يكون معي، لا! النبي استثنى هنا، قال إلا أن يعق والديه.
هناك أحاديث كثيرة في هذه الآية، أيضاً نختم بحديث وهو حديث لطيف جداً في الصحيحين – في البخاري ومُسلِم – عن أم المُؤمِنين عائشة، قالت كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول – كان يُحدِّثهم – إنه ما مرض نبيٌ – أي مرض الموت – حتى يُخيَّر بين الدنيا والآخرة، كل الأنبياء حين يمرض الواحد منهم مرض الموت ومرض الوداع هذا في الدنيا الله يُخيِّره، تُريد أن تُخلَّد أم تُريد الرفيق الأعلى؟ فهي سمعت الكلام هذا وكانت تفهمه من النبي، قالت فلما كان في مرضه الذي تُوفيَ فيه اشتكى وأصابته بُحةٌ شديدة، أي صوته راح، بُحَ صوت النبي! قالت فسمعته يقول اللهم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، قالت فعلمت أنه خُيّر، عرفت أنه سيموت، لأنه قالها، خيَّره الملك، قال له ماذا تُريد؟ قال له أنا أُريد أكون معه هؤلاء، وهذا في الصحيحين، أي في البخاري ومُسلِم، وهذا الحديث أيها الإخوة الأفاضل والأخوات يُفسِّر لكم معنى الحديث الآخر الذي في الصحيحين لما قال اللهم في الرفيق الأعلى ثلاثاً، اللهم في الرفيق الأعلى، اللهم في الرفيق الأعلى، اللهم في الرفيق الأعلى! ما معنى اللهم في الرفيق الأعلى وحسن أولئك رفيقاً؟ أي مع هؤلاء في عليين، مع النبيين والصدّقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، قال اللهم في الرفيق الأعلى، أي مع هؤلاء، في زُمرتهم وفي جماعتهم، هل هذا واضح إن شاء الله؟
۞ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ۞
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ۩، اللهم أفضل علينا يا صاحب الأفضال الواسعة.
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا ۞
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ ۩، احذروا! فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا ۩، ما معنى فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ ۩؟ انفروا فرقاً فرقاً، سرايا سرايا، مجموعات مجموعات، جمع ثبة، وقد تُجمَع على ثوبين، وبعد ذلك هي من المُلحَقات عند كثيرين بجمع المُذكَّر السالم، ثوبون وثوبين، أهلون وأهلين، ثبة وثوبين وثوبون، وعضة وعضون وعضين، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ۩، وهكذا!
فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ ۩، جمع ثبة، أي جماعات، انفروا جماعات جماعات، أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا ۩، أي عسكر واحد، كل أهل المدينة ينفرون مرة واحدة، المُهِم ما هو؟ ما هو المُهِم؟ الجهاد، تواصل الجهاد، لا يقف نفس الجهاد، يستمر نفس الجهاد في الأمة، سواء في حروب كُبرى فيُحشَد لها الأمة كُلها أو في حروب صُغرى وسرايا هكذا جُزئية.
۞ وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا ۞
وَإِنَّ مِنكُمْ ۩، قال هناك مُنافِقون بحسب المعنى، أي وإن منكم مُنافِقين، لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ ۩، ما معنى لَّيُبَطِّئَنَّ ۩؟ معنيان، قيل يتباطأ في نفسه عن الجهاد ويُبطّئ غيره وهذا أوجه، وقيل يتباطأ عن الجهاد، لكن انظر إلى قوله لَّيُبَطِّئَنَّ ۩، فهي على وزن يُفعِّلن، وهي تُوحي بماذا؟ بتبطيئه غيره، هذا واضح! فهذا أوجه، أي هذا التفسير أوجه، فهو يتباطأ في نفسه ويُبطّئ غيره، مثل مَن؟ مثل عبد الله بن أُبي بن سلول لعنة الله تعالى عليه، هو لا يُريد أن يذهب ويُجلِس الناس معه، يقول لهم لماذا تذهبون وما إلى ذلك، هذه هي طريقته.
قال فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ ۩، أي من ماذا؟ من هزيمة أو جراحة أو قرح ولم يُكتَب لكم النصر والظفر والغنيمة، قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ ۩، الله أنعم عليه، يشمت في المُسلِمين، يشمت في الرسول والصحابة، يقول إن الله أنعم عليه، إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا ۩، أي شاهداً، لم أشهد هذه المعركة، لم أكن معهم، الله ألهمني يا أخي، قلبي قال لي هذا والحمد لله، علماً بأن هذا موجود الآن، لماذا أنا أقول هذا؟ لأن الكثير الآن من المُسلِمين المُعاصِرين عندهم نفس الطريقة، يقول الواحد منهم والله قلبي يا أخي فلم أذهب، مسكين أنت! هؤلاء الذين ابتُلوا – إن شاء الله – الله رفعهم درجات في الجنة – بإذن الله تعالى – لكن أنت ضاع عليك هذا، أتقول قلبك قال لك؟ دعه يقول لك.
۞ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّه لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ۞
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّه ۩، ما الفضل؟ النصر والغنيمة بالذات، أكثر شيئ يطمعون فيه الغنيمة، الأموال! لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ۩، هذه الآية غير واضحة فانتبهوا! كيف يكون الفوز العظيم؟ بأن يُضرَب لي بسهم، أي يضربون لي نصيباً في الغنيمة، كأن يُقال لي خُذ لك رأسين من الغنم أو خُذ لك شيئ من الذهب، لكن غير المفهوم في الآية ما هو؟ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ۩، هذا التركيب هنا غير واضح لكنه سهل، انتبهوا! هل تعرفون ما معناه؟ هو يزعم أصلاً أنه من المُسلِمين، أليس كذلك؟ هذا المُنافِق عموماً يزعم أنه من المُسلِمين، أليس كذلك؟ فهو حين تُصيبكم هذه النعمة من الله بالنصر والظفر ومُغانَمة غنائم الكفّار ماذا يقول؟ يا ليتني كنت مع هؤلاء الناس، أتقول مع هؤلاء الناس؟ كأنك لست منهم، الآن صرَّح اللسان بما في القلب من مكنون، تتكلَّم بطريقة كأنك فعلاً لست من جماعتنا، لأنك مُنافِق، أليس كذلك؟ الآن هناك أُناس علمانيون مُنافِقون لا يعرف الواحد منهم أنه مُنافِق، لا يفهمون المعلومات الشرعية هذه، مُنافِقون! يقول الواحد منهم هؤلاء المُسلِمون كذا وكذا، لا سلَّمك الله، وأنت مِن مَن يا حبيبي؟ أنت تقول إنك مُسلِم لكنك تتكلَّم بطريقة المُنافِقين، هل أنت لست منا؟ وصح يتكلَّم عنا بصيغة الغائب دائماً، يقول هؤلاء المُسلِمون وهذه الأمة التي كذا وكذا وأولئك الذين كذا وكذا، دائماً دائماً! كأن الرجل ليس منا، القضية في أنه لا يعتبر نفسه منا لأنه مُنافِق، ولو صارت هناك فعلاً دولة إسلامية وعز وشرف وانتصرنا على الأمريكان واليهود ماذا سوف يقول؟ نحن الأمة الإسلامية، صرت الآن منا يا مُنافِق! أمس كنت تقول هؤلاء، أرأيت؟ كنت تقول القوم، يا قوم! ماذا كان شعار المُنافِقين حتى في حروب الردة؟ ماذا كان شعار المُرتَدين؟ صاحبكم – يقولون – هذا، صاحبكم! أي أنه ليس صاحباً لكم، أرأيت؟ نفس القضية! فأسلوب المُنافِقين في القيل وفي الكلام وفي التعبير يُؤكِّد أنهم مُنافِقون وأنهم لا يعدون أنفسهم أصلاً من أتباع محمد ومن أصحابه ومن هذه الأمة، فيتكلَّمون بطريقة فعلاً تكشف عن مكنونهم، كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ۩، كأنه ليس واحداً منكم، لأنه فعلاً ليس واحداً منكم وإن ادّعى ذلك نفاقاً لإحراز ماله وعصمة مُهجته، أي روحه، هذا معنى الآية، هل صار معنى الآية الآن واضحاً إن شاء الله؟
۞ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ۞
ثم قال تعالى يُحرِّض نبيه على أن يُحرِّض أمته فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ ۩، أنزل هذا الكلام على نبيه تحريضاً لنا، وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ ۩، نفس الشيئ دائماً، إما الشهادة وإما النصر، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ۩.
۞ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ۞
وَمَا لَكُمْ ۩، أيضاً هذا استحثاث وتحريض، لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ ۩، إذن هذه الآية وأمثالها تُؤكِّد أنه ليس من الشرك في شيئ وليس من الكفر في شيئ أن يكون أيضاً من الحوافز والبواعث ومن أهداف الجهاد تحرير الأوطان وتحرير الناس وحماية الأعراض والمُقدَّسات، هناك مَن يقول لا، هذا شرك، كلمة الله هي العُليا، ماذا تقصد بكلمة الله هي العُليا؟ هل أنت تفهم الدين؟ كلمة الله لا تكون عُليا والمُسلِمون مُستذَلون، كلمة الله كيف تكون عُليا وأعراض المُسلِمين مُباحة ودماؤهم مُرخَصة ومُقدَّساتهم مُدنَّسة؟ هل أنت تفهم معنى الدين يا أخي؟ هل يُوجَد شيئ اسمه كلمة الله وحده هكذا؟ كلمة الله هذه مظاهرها أن يكون للمُسلِمين دولة، أن يكون لهم صولة، أن تُحرَّز أموالهم، أن تُعصَم دماؤهم، أن تُطهَّر مُقدَّساتهم، أن تُرفَع راياتهم، وأن ترغم أنوف أعدائهم، هكذا تكون كلمة الله هي العُليا، هذا معنى الكلام، لكن لُغة التشديد هذه التي يستخدمها بعض الإسلاميين تُؤدي إلى مصائب، تُؤدي إلى كوارث فكرية وعملية ودعوية، هذا هو معناها، فالله قال فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ ۩، هذا ليس شركاً، ولم يقل ثم المُستضعَفين، نفس الشيئ! لأن في النهاية سبيل الله ما هي؟ هي سبيل المُستضعَفين والمساكين وما إلى ذلك، هذه هي، أليس كذلك؟ هذه هي، الله لا يصل أحد إلى ضره فيضره، أي لكي تنصر الله نفسه، لا! أنت تنصر الله بنُصرة مَن؟ عباده وأمته، نُصرة دينه ونُصرة مُقدَّساته، هذه هي النُصرة لله، هكذا نفهم الدين!
روى البخاري عن ابن عباس قال كنت أنا وأمي من المُستضعَفين، لماذا؟ لأن ابن عباس وأمه كان في مكة، وهما من المُسلِمين ومن المُستضعَفين، غير قادرين على أن يُهاجِرا، المسكينان غير قادرين على أن يذهبا إلى هناك، وهذا إلى السنة الثامنة.
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ ۩، مكة، الظَّالِمِ ۩، وصفه بقوله الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ۩.
۞ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ۞
الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ۩، هذه كما قلنا، فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ ۩، واضحة أيضاً وليس فيها شيئ، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ۩، جميلة هذه، أي لا تخافوا، إذا كنتم معي وقاتلتم في سبيلي فسوف أمكر لكم وأمكر بعدوكم، وسوف أُخذِّل عنكم وأخذل عدوكم، وقال ماذا؟ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ۩، ليس أي كيد، هذا ليس كيد شارون Sharon، هذا كيد الشيطان نفسه، كَانَ ضَعِيفًا ۩، لكن متى؟ حين تعرف الأمة طريق الجهاد والعز فعلاً، حين يكون عندها استعداد أن تُضحي وأن تُناضِل، ومن أجل ماذا؟ من أجل دينها وباسم دينها، أي أن تحرير الأرض والأوطان والمُقدَّسات باسم الدين، ليس برايات أُخرى، مثل القومية والوطنية والشرف والنخوة والعربية والأنا وما إلى ذلك، هذا كلام فارغ ذهب مع امرئ القيس، مع محمد لا يُوجَد هذا الكلام الفارغ، انتهى هذا من قديم، انتهى هذا وذهب مع امرئ القيس، هذا غير موجود عندنا، نُريد النصر من عند الله، هذا هو، إذا أردت النصر من عند الله فلا تذهب إليه بشريعة امرئ القيس وتأبط شراً والشنفرى ثم تقول إنك تُريد النصر، لن يُعطيك النصر، اذهب واجعل عفلقاً يُعطيك النصر.
۞ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ۞
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ۩، ما سبب هذه؟ سببها – كما قال ابن عباس – أن عبد الرحمن بن عوف – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – جاء في جماعة من أصحابه إلى الرسول في مكة، وقال يا رسول الله – في مكة هذا، قبل الهجرة – كنا ونحن مُشرِكون في عز ومنعة – أي أننا حين كنا مُشرِكين كنا أعزاء يا أخي، عندنا أهلينا وعندنا العصبة وعندنا كذا وكذا – فلما صرنا مُسلِمين لحقنا الذل، أي ما المطلب؟ دعنا نُقاتِل، جاء ابن عوف والجماعة التي كانت معه من أجل القاتل، يُريدون أن يُقاتِلوا وأن يرفعوا السيوف، أهكذا نُقتَل ونُستباح وما إلى ذلك من غير أن نُدافِع عن أنفسنا؟ فالنبي قال لا تُقاتِلوا القوم واعفوا فإنما أُمِرت بالعفو، النبي قال لابد من العفو، إلى الآن العفو، الله يقول لابد من العفو، ممنوع غير هذا، ممنوع! يقول ابن عباس فلما حوَّلهم الله إلى المدينة – أي نقلهم – ونزل الإذن بالقتال كفوا، قالوا لا، ليس الآن، هذا ليس وقته، لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ۩، ما معنى لَوْلا أَخَّرْتَنَا ۩؟ لولا أجَّلت فرض الجهاد، انتبهوا! ليس أن تُؤجِّلنا نحن، الإنسان لا يُؤجَّل، أنت لا تُؤجَّل، فيها مجاز! لَوْلا أَخَّرْتَنَا ۩ أي لولا أخَّرت فرض الجهاد علينا، فهو عبَّر عن هذا بقوله لَوْلا أَخَّرْتَنَا ۩، لَوْلا أَخَّرْتَنَا ۩ أي أجَّلت إلى مُدة قريبة أو بعيدة فرض الجهاد علينا، لأن في الجهاد سفك الدماء ويُتم الأبناء وتأيم النساء، وهذا شيئ كبير، فنجعله فيما بعد، هذا أحسن لنا، فليكن هذا بعد سنة أو سنتين، الله قال أرأيتم؟ التمني شيئ والامتحان دائماً شيئ، التمني دائماً في الواسع، كل واحد – ما شاء الله – يتمنى، قال:
وَإذا ما خَلا الجَبَانُ بأرْضٍ طَلَبَ الطّعْنَ وَحدَهُ وَالنّزَالا.
يقول هيا وما إلى ذلك وحين يأتي النزال يخاف ويكع، إلا مَن ثبَّت الله، فهؤلاء إذن كانوا جماعة من الصحابة – جماعة من الصحابة وليس كل الصحابة – في مكة، قالوا نُريد كذا وكذا وكذا، ولما صار الجهاد كعوا، الله قال لهم في الأول كونوا كما أنتم، صلوا وزكوا وبعد ذلك سوف نرى، لما صار الجهاد إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ ۩، أي في الحرب، كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ۩، واضحة!
۞ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ۞
أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ ۩، ليس التأخر عن الجهاد والمُناضَلة والكفاح بزائد في العمر، أليس كذلك؟ لا يمد الإنسان مدداً في عمره أبداً، ولا الإقدام يُقرِّب الأجل، أي لا الإحجام يُؤخِّر الأجل ولا الإقدام يُقرِّب الأجل، لا الإحجام ولا الإقدام، نفس الشيئ! قعدت أو ذهبت أجلك هو أجلك، عقيدة قوية بالمُناسَبة هذه، هذه هي سر جهاد المُسلِمين الأوائل.
هل ترون الآن هذه العقيدة عند المُسلِمين ثابتة؟ أنا أشك في ذلك، أعني عند عموم المُسلِمين، أشك في ذلك مليون مرة، ولذلك يخافون حتى من ظلهم، تجد العوام المُسلِمين جُبناء بشكل غير عادي، العوام! بعضهم يقول إنه يحتمي في الحائط ويُريد الستر ويطلب من غيره أن يسكت وأن يُخبئ رأسه، يقول له اسكت وابحث عن عيشك وما إلى ذلك، من كل شيئ يخافون، يخاف الواحد منهم من ظله، لأن ليس عنده عقيدة أن الإقدام أو الإحجام لا يُقرِّب ولا يُؤخِّر، اعمل الذي عليك وأجرك على الله، لا تخف! كما قلنا أمس عن الحسن البِصري وغيره، احك كلمة الحق، لكن العوام ليس عندهم عقيدة، يخافون! يقول الواحد منهم لا يا أخي، هل أذهب بنفسي إلى داهية؟ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۩، هذه التي يحفظونها من كتاب الله، وتحدَّثنا عنها قبل ذلك، واليوم سوف نرى أيضاً آية مثلها، فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ ، فهي في نفس المعنى!
قال وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۩، يأتي الموت، الموت لا يمنعه لا حجّاب ولا منعة ولا زادة ولا حرّاس، وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ ۩، من ماذا؟ من نصر أو ولد أو عام، عام ماذا؟ عام مطر، ينزل المطر وتأتي الزروع والثمار أو ينتصرون وأولادهم يكونون بخير وكل شيئ يكون جيداً، ماذا يقولون؟ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۩، الحمد لله، والله دينك جيد يا محمد ومُمتاز، هؤلاء مُنافِقون، وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ۩، أي ينهزمون، يموت بعض أولادهم أو بعض أقربائهم ويُصابون بسنة، أي بجدب، ماذا يقولون؟ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ ۩، أي هذا بشؤم دينك، كل الذي أتى إلينا بسببك، هذه المشاكل التي أتيت إلينا بسبب أفكارك ودينك ووحيك، فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ ۩، نفس سلوك بني إسرائيل، علماً بأن الآية الأخيرة التي أتيت بها من الأعراف، هذا نفس معنى آية الأعراف، كان هكذا كفّار بني إسرائيل، فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ ۩ ماذا يقولون؟ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ ۩، هذه الله خصنا بها، هذه من عند الله حُباً فينا، وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ۩ – كما قلنا من… من… من…. إلى آخره، أي نقص – ماذا يفعلون؟ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ ۩، يا أخي ما أشأم موسى هذا ودينه يقولون، أف! هؤلاء اليهود لعنة الله عليهم، وهؤلاء المُنافِقون يفعلون نفس الشيئ، مع الحسنة يقولون هذا جيد، دينك جيد، مع السيئة يقولون هذه من عندك أنت يا محمد، أي بسببك هذه، بماذا رد الله عليهم؟ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۩، لم يقل قل كلٌ من الله، انتبهوا! يُوجَد فرق بين من و: مِّنْ عِندِ ۩ أيضاً، القرآن دقيق جداً جداً، هناك أُناس يعتبرون أن هذه الآية مُتناقِضة، لكن عقلهم هو المُتناقِض، هذه آية دقيقة جداً، إعجاز! علماً بأن فيها مبحث فلسفي، لن نتعرَّض له لكن يُوجَد مبحث فلسفي دقيق في القضاء والقدر وهو غريب، بسبب هاتين الكلمتين: من و: مِّنْ عِندِ ۩، عجيب! يُمكِن بعد ذلك أن نرجع – إن شاء الله – له، فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ۩، فأشبهوا الدواب والبهائم والعجماوات.
۞ مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ۞
مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ ۩، فسَّرنا الحسنة، فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ۩، كان عبد الله بن عباس وأُبي بن كعب وعبد الله بن مسعود – وناهيكم بهم قرئةً ومُفسِّرين ومُترجِمين لكتاب الله هؤلاء الثلاثة، أُبي ما شاء الله وابن مسعود وابن عباس، الله أكبر! هؤلاء قرآنيون، أي الثلاثة القرآنيون – يقرأون: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ونحن كتبناها عليك أو وأنا كتبتها عليك، كل هذا بقدر في النهاية، وما يخرج الإنسان عند حدود قدر الله تبارك وتعالى، لكن قدر الله يكتب الأشياء ويخطها ويرسمها بأسبابها، أليس كذلك؟ أي يكتب أن هذا الآن – مثلاً – سننقصه من ماله أو ولده أو سنُسلِّط الداء أو الذل أو كذا وكذا بشؤم ذنبه، لأن هو أذنب، قام بذنب اختياري، ونُريد أن نُعاقِبه به مثلاً، هذا هو! هذا القدر، وليس أنه سيُصيبك سيُصيبك، نعم سيُصيبك سيُصيبك لكن بشؤم ذنبك، فقال تعالى مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۩، أي من فضل الله – تبارك وتعالى – وبتقديره، وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ۩، قال العلماء المُفسِّرون – عامة المُفسِّرين – الخطاب للنبي والمُراد أمته، انتبهوا! النبي ليس عنده سيئات، فهذا خطاب للنبي هكذا لكن مَن المُخاطَب الحقيقي؟ مَن المُراد بالخطاب؟ الأمة، قال له يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ۩، النبي لم يُطلِّق، نحن مَن نُطلِّق، قال له يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ۩ لكن الخطاب لكم أنتم، انتبهوا! وصِّل لهم وقل لهم يا محمد، لا يُخاطِبهم وإنما يُخاطِبه هو لكي يقول لهم.
وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ۩، أي بذنوبكم، بشؤم ما كسبت أيديكم، وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ۩.
۞ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۞
مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۩، إذن قال مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ ۩، والنبي قال مَن أطاعني فقد أطاع الله ومَن عصاني فقد عصى الله، ومَن أطاع أميري فقد أطاعني ومَن عصى أميري فقد عصى الله، حديث صحيح! طاعة الرسول من طاعة الله، هذا هو طبعاً.
۞ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ۞
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ ۩، يقول هؤلاء المُنافِقون طَاعَةٌ ۩، ما معنى طَاعَةٌ ۩؟ أي يُبرِزون لك الطاعة، يقولون سمعاً وطاعة يا رسول الله، نحن برسم الخدمة كما يُقال بالعامية، أنت أؤمر ونحن سنُنفِّذ، هم يقولون هذا لكنهم كذبة، فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ ۩، أي خرجوا وبدأوا يتبادلون الحديث الإفك بينهم، بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ۩، أي غير الطاعة، يقولون كلاماً مُخالِفاً تماماً، وكله يُعتبَر مُناكَدة لكلام رسول الله وأمره ونهيه والعياذ بالله، قال تعالى وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ۩، فهو لم يكتف بالتعبير بالعلم – لم يقل والله يعلم فقط – لأن هذا أوكد، أنا أعلم وهذا حتى مكتوب وسوف يُجابَهون ويُواجَهون به يوم القيامة، أي هؤلاء المُنافِقون الكذّابون، مكتوب ولن يضيع، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ۩، كما قلنا هناك لا تُعاقِبهم، لا تُعنِّفهم، ولا عليك منهم، اكتف بالله فيهم، أي لا عليك منهم واكتف بالله فيهم، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۩، صحيح! وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ۩.
۞ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ۞
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ۩، تدبر القرآن هو عصمة ومردعة عن النفاق، حتى لو واحد عنده شك وقرأ كتاب الله بعقل – بعقل ذكي وذهن مُتفتِّح مُتيقِّظ – وبدأ يُفكِّر فيه يعصمه من الوقوع في النفاق أو يردعه عن مُتابَعة النفاق مسيرة المُنافِقين، القرآن نفسه هذا أكبر داعية للإيمان، لكن هم ليس عندهم تدبر والعياذ بالله، هم مأخوذون عن أنفسهم!
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ ۩، أي مُختَلقاً مصنوعاً، لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ۩، أي تناقضات، آية تُناقِض أُخرى، لكن القرآن كله طبق واحد في البلاغة والإعجاز والمُصادَقة، كله يُصادِق بعضه على بعض ويُصدِّق بعضه بعضاً.
۞ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ۞
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ۩، أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ ۩ أي فيما يتعلَّق بالشؤون السلمية، أي شيئ في الأحوال المدنية العادية، أَوِ الْخَوْفِ ۩ أي ما يتعلَّق بالشؤون العسكرية مثل الحرب والجهاد والقتال، هذا هو! أي أمر يتعلَّق سواء بالسلم أو بالحرب الله يقول.
أَذَاعُواْ بِهِ ۩، فهم المذاييع، والله لا يُحِب العبد المذياع، ما المُراد بالمذاييع؟ حين يسمعون إشاعة مُباشَرةً كل البلد تسمع بها، وهذه طريقة المُنافِقين، انتبهوا! الواحد فينا حتى لكي يبرأ من النفاق حين يسمع إذاعة أو إشاعة عن أي إنسان أو عن أي جماعة وما إلى ذلك لا يُسارِع إلى نقلها ويرفع التليفون المُتحرِّك لكي ينشرها وما إلى ذلك، غير صحيح! هذه صفة المُنافِق، انتبه! استنبط الشيئ من قُعره أو قَعره قليلاً قليلاً، إذا عندك مصلحة للإسلام ابدأ ابحث، إذا لم تكن هناك مصلحة عف على الموضوع كله وسكِّره، ماذا تُريد منه؟ كلام فارغ، أما إذا كان يخص الأمة – هو موضوع يخص الأمة ولا يخص الأشخاص – فنعم، حاول أن تأخذ الأخبار من قعورها، حاول أن تسبرها من بواطنها، حاول أن تستخرجها كما يُستخرَج الماء من باطن الأرض البعيدة السحيقة، يَسْتَنبِطُونَهُ ۩، وهذا يحتاج إلى وقت، أليس كذلك؟ ولابد أن تسأل المُختَصين الإخصائيين الذي عندهم علاقة بالموضوع، هذه صفة المُؤمِن المُتثبِّت.
هناك مثال مُشرِّف جداً وقع حين انطلقت إشاعة تطليق النبي لزوجاته، وذلك حين تآمرت الزوجات عليه وغلَّبوه وقالوا نُريد الدنيا ونُريد الأكل والشرب ولا تُعجِبنا هذه الحياة، بعد ذلك خيَّرهن النبي، الله قال له خيِّرهن بين الدنيا والآخرة، والنبي خيَّرهن – علماً بأننا ذكرنا الحديث – وبدأ بعائشة، أليس كذلك؟ وكانت فرحانة جداً بهذا الشيئ، على كل حال شاع في الناس أن النبي طلَّق أزواجه وجعل بعضهم يبكي، بعض الصحابة المساكين جلسوا عند باب النبي وجعلوا يبكون، كانوا يشعرون بالحزن ولم يقدروا على أن يُفاتِحوا النبي في هذا الموضوع، والنبي كان غضبان فعلاً وزعلان وكان يجلس في غُرفته ولا يتكلَّم ولا يسمح لأحد بأن يدخل عليه، فروى البخاري ومُسلِم ان عمر جاء وأراد أن يدخل عليه، يُريد أن يعرف ما هذه القصة وقد سمع بها، قالوا له هل سمعت؟ هل دريت؟ فقال لهم بماذا؟ فقالوا النبي طلَّق أزواجه، قال مهلاً، انتظروا قليلاً، كيف طلَّق أزواجه؟ يُمكِن أن نسأله، فهو موجود، لماذا نقعد ونقول الإشاعات؟ ذهب إلى النبي واستأذن، أعتقد أن أسامة كان موجوداً فقال له قل له عمر فلم يرد عليه النبي، فقال له لم يرد علىّ، بعد قليل قال له قل له ثانية، قال قلت له يا عمر ولم يرد على، النبي كان ساكتاً، فسكت عمر ثم قال له قل له عمر، يُريد أن يدخل لكي يعرف، عمر عنده الحق لأنه يُريد أن يعرف الحقيقة، هذا ليس فضولاً لأن المُسلِمين تكلَّموا عن الموضوع وهناك أُناس يشعرون بالحزن وهناك أناس شمتوا، أي كانوا شامتين، قالوا لقد طلَّق نسوانه وما إلى ذلك، وسوف ترون هذا، أكيد لو كان هناك طلاق لقال المُنافِقون هذا الذي يقول لنا خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله طلَّقهن كلهن مرة واحدة، كيف هو خيركم لأهله إذن؟ فهؤلاء مُنافِقون ويشمتون في كل شيئ، هذا معروف! صار عندنا خبرات معهم في كتاب الله، فعمر يُريد أن يقطع دابر هذه الإشاعة، يُريد أن يعرف الحقيقة، يُريد أن يستنبط الخبر من أصله، من قعره! الحديث طويل لكنه جميل وفيه فوائد وأشياء عن بيت النبي ووصف بيت النبي، لكن على كل حال عمر فهم أن النبي لم يُطلِّق، قال له أطلَّقت زوجاتك؟ فقال له النبي لم أُطلِّق، فخرج وقال لهم النبي لم يُطلِّق أزواجه، فقالوا الله أكبر، وارتج المسجد من التكبير، كبَّروا وفروحوا، فهذا مثال جيد على هذه الآية وفي معناها، قال وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ ۩.
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ ۩، أي إلى المُختَصين الذين لهم علاقة بالقضية، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۩، من استنباط الماء واستخراج الماء من القعر، من الأرض السحيقة البعيدة، لأن الأخبار أيضاً استخراجها أحياناً يتطلَّب حذقاً ومهارةً ودأباً وطول روح كما يُقال، أي طول نفس، لكي تعرف بالضبط ما أصل الخبر وما أصل القضية تحتاج إلى وقت، فالعملية ليست سهلة، لكن الإشاعة عملية سهلة جداً والكل يقوم بها، النساء والرجال!
وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ۩، باتباع هؤلاء المذاييع المُنافِقين المُرجِفين، الله سماهم المُرجِفين، وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ۩، هل تعرف كيف يكون الإرجاف؟ بالإشاعات، الإرجاف يحدث بالإشاعات، كأن يُقال حدث كذا وكذا وحصل كذا وكذا ومن ثم يدخل الناس في بعضهم “كما يُقال” ولا يعرفون الحق من الباطل، هل انتصروا؟ هل هُزِموا؟ هل قُتِل الرسول؟ هل لم يُقتَل الرسول؟ إرجاف! مَن هم المُرجِفون؟ المُنافِقون، دائماً هذه طريقتهم، فالإرجاف بالإشاعات.
۞ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ۞
قال – تبارك وتعالى – فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ۩، يستحثه على القتال، وقال له لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ ۩، حتى لو لم يُقاتِل واحد معك قاتل برأسك وبحيالك، وحدك قاتل، الجهاد ضروري!
البراء بن عازب قيل له يا صاحب رسول الله أرأيت رجلاً لو ألقى بنفسه على مائة رجل – أي بنسبة مائة في المائة هو هالك هالك، هذا واحد على مائة، سوف يُمزِّعونه، سوف يُقطِّعونه إرباً إرباً – أكان مُهلِكاً نفسه كما قال تعالى وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۩؟ ما الأمر؟ أفتنا في القصة هذه، أفتنا في القضية هذه! هو ميت بنسبة مائة في المائة! وبالمُناسَبة هذا الحديث – وهو حديث صحيح – أصلٌ في الحُكم في المسائل الحديثة الاستشهادية وغيرها الآن، هذا الحديث أصل فيها، هذا معروف! ونُريد أن نرى بماذا أفتى فيها الصحابي الجليل البراء بن عازب، رجل ذهب إلى مائة، فهو ميت ميت! الموت هنا أكيد بنسبة مائة في المائة، لا يُمكِن غير ذلك، مُستحيل! لم يحدث أن واحداً هجم على مائة ونجا، سوف يموت سوف يموت طبعاً، هذا واحد على مائة، فماذا إذن؟ هل هذا أهلك نفسه وقد قال الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۩؟ قال لا، قال الله لرسوله – قال القرآن أفتى بهذا – فقاتل في سبيل الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ ۩، قاتل حتى لو كنت وحدك، اهجم على جيش كامل إذن، هكذا الآية تقول، وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۩، مَن يُحَب أن يُقاتِل معك نقول له يا حيهلاً، مَن لا يُحِب نقول له مع السلامة، نسأل الله الهداية له، لكن إنت قاتل وحدك، قال البراء بن عازب وإنما قال وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۩ تلك في النفقة، وفسَّرناها لكم في البقرة، قال آية وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۩ ليست في القتال كما فهمتموها وإنما في النفقة، كيف في النفقة؟ بالذات في النفقة في الجهاد، فكانت التهلكة كما قال أبو أيوب الأنصاري في ماذا؟ في القعود في الأرض والزرع وترك الإنفاق في الجهاد والغزو، هذه هي التهلكة، عكس ما يفهم الناس الآية، وها هو البراء بن عازب صادق على قول مَن أيضاً؟ أبي أيوب، قال تلك في النفقة وهذه في القتال، أتسأل عن القتال؟ الله يقول لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۩، أي شجِّعهم على القتال، حرِّك عزائمهم واستفزهم.
في بدر وقف النبي عليه السلام – بأبي وأمي وروحي وأرواح العالمين له الفدا – وقال لهم ماذا؟ قوموا قال لهم، كان يُسوي الصفوف وقال لهم قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، أحسن من هذه الدنيا ومن ضيق الدنيا، هيا قوموا! فتشجَّعوا، أي الصحابة.
في معركة أُحد عمرو بن الجموح وهو أعرج ماذا فعل؟ هو شيخ أعرج كبير وله أولاد – ما شاء الله – أبطال وأسود وضراغمة، قالوا له نحن نكفيك، قال لهم لا، كيف تكفوني؟ هل أنتم أحرص على الجنة مني؟ أُريد أن أذهب وأجاهِد، وهو أعرج ذهب، وما شاء الله قاتل وقُتِل شهيداً، الكل كان يذهب، فهذا ذهب وهو عنده أصلاً رُخصة شرعية بنص كتاب الله، لكنه لا يُريدها، قال لا، حتى لو عندي رُخصة أُريد أن أذهب، إذا مت سوف يكون هذا أحسن لي، ما علاقتي بأولادي هؤلاء؟ هكذا كانوا!
قال عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ۩، بمَ تكون هذه الترجية “أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ۩“؟ بالتحريض على القتال، بإشاعة روح الجهاد، بهذه الطريقة – الله قال له – يُمكِن – إن شاء الله – أن يُكَف بأس الكافرين، حين يكون عند الأمة روح الجهاد، روحانية ونفسية الجهاد والدفع والعز، وطبعاً التنكيل ما هو؟ ما هو التنكيل “ وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ۩“؟ كما قلنا التنكيل ومنه النكال هي العقوبة التي إذا أحلت بأحد نكل غيره عن أن يفعل فعله وأن يدخل مُدخَله، يخاف! يقول لا، ما دام صار لهم هذا فالأحسن ألا نفعل مثلهم وإلا سوف تُباد خضراؤنا ونُجتَث من أصولنا، هذا معنى التنكيل، نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى ۩.
۞ مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا ۞
مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا ۩، في الصحيحين قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – اشفعوا تُؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء، النبي يُحِب الشفاعة، ما معنى الشفاعة؟ أن تذهب وتتدخَّل من أجل مصلحة واحد، تذهب بوجهك أو بجاهك أو بعلمك أو بحُب الناس لك، كأن تقول لأحدهم سامحه وأعطه هذا القرض، أنظره في كذا وكذا، إلى آخره! أي شيئ وأي مصلحة لأخيك المُسلِم اذهب واشفع له فيها، لماذا سُميت شفاعة؟ لأنك ضممت رأيك إلى رأيه، أليس كذلك؟ وضممت أُمنيتك إلى أُمنيته، هو يُريد أن يتزوَّج – مثلاً – من عائلة فلان، وفلان هذا يخاف أن يُعطيه ما يُريد، قال أنا غير مُطمئن له، فاذهب أنت واشفع له، قال له لا، بالعكس! خير الرجال هو، هو إنسان مُمتاز وكذا وكذا، فأنت ضممت رأيك، صار الرأي رأيين، هذا الشفع، فيُمكِن أن يُوافِق الآخر وهذا جيد، وبالمُناسَبة الشفاعة في كل الأمور الخيّرة أجرها عظيم عند الله، النبي قال اشفعوا تُؤجروا، أي أجراً كبيراً، هذا في كل شيئ، مثل رجل يُحِب أن يأخذ من آخر قرضاً وهو لا يُريد أن يُعطيه لأنه يخاف منه، فقل له لا، أعطه فهو إنسان أمين وأنا أعرفه وأشهد له إن شاء الله، ومن ثم تكون شفعت ولك الأجر، أو رجل قال لمَن أقرضه أن موعد السداد حل، في حين أن الآخر ليس عنده ما يدفعه، فقل له يا أخي أنظره، فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ۩، عندك الأجر، عندك أجر صدقة وما إلى ذلك، فهذه شفاعة، وهكذا في كل الأمور، اشفعوا تُؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء.
قال مُجاهِد بن جبر نزلت هذه الآية في شفاعات الناس فيما بين بعضهم البعض، أي مثل هذا، في الدَين والزواج والطلاق والصلاح وبقية الأشياء، هذه كلها تُعتبَر شفاعات، طيب جداً هذا، الله يُحِب هذا الشيئ.
النبي نفسه كان يشتغل أحياناً شفيعاً، أليس كذلك؟ وتعرفون قصة مُغيث وبَريرة، أليس كذلك؟ مُغيث استشفع عند النبي، قال له اشفع لي إليها، وهذه قالت له ماذا؟ كانت تفهم جيداً، كانت عبدة أصبحت الآن حُرة، أي عتيقة، كانت أمة أو عبدة لكنها تفهم جيداً، كيف؟ قالت له يا رسول آمرٌ أو شافعٌ؟ قال لها شافعٌ، قالت له فإن قلبي لا يهواه، قالت له لو هذا أمر لن أقدر على الرفض أما لو هذه شفاعة فالشفاعة يُمكِن أن أردها، ما الشفاعة؟ هذه مُجرَّد شفاعة، وساطة خير وإصلاح!
قال مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا ۩، الكفل يُقال في الخير وفي الشر، انتبهوا! لا تقولوا الكفل في الشر فقط لأن هنا قال سَيِّئَةً ۩، لا! يُقال الكفل في الخير وفي الشر، الله قال يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ۩ في سورة الحديد، فالكفل يُقال في الخير وفي الشر، لكن يبدو أنه إذا ذُكِر مُقابِل النصيب فالأنسب أن يكون في الشر والآخر في الخير، لكن من حيث الأصل يكون في الخير وفي الشر لمكان آية الحديد.
قال وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا ۩، إذن تُوجَد شفاعة سيئة، تذهب وتشفع شفاعة سيئة، كأن تقول هل ستُعطي هذا كذا وكذا؟ كيف تُعطيه؟ أعوذ بالله منه، هذا كذا وكذا، فهذه شفاعة لكنها سيئة ما شاء الله، هذا يعني أنك شفعت لرأيت مَن مثلك، أكيد هناك أُناس آخرون أيضاً دخلوا على الخط وأنت – ما شاء الله – كنت معهم وقطعت على أخيك المُسلِم، يا ويلك! لك أيضاً نصيب من هذه الشفاعة السيئة.
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا ۩، فيها ثلاثة تفسيرات، قيل عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا ۩ أي حفيظاً وقيل حسيباً وقيل شهيداً، الله أعلم، المعاني مُتقارِبة!
۞ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ۞
وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ۩، المُماثًلة في رد التحية فرضٌ والزيادة – الإرباء عليها – مندوبٌ وطرح السلام سُنةٌ ورده فرضٌ.
روى أحمد وغيره من أهل السُنن عن عمران بن حصين – وهذا حديث صحيح، لم يروه ابن ماجه فقط من أهل السُنن – قال جاء ورجل وقال السلام عليك يا رسول الله وجلس، فرد النبي عليه السلام وقال عشرة، ما المُراد بعشرة؟ عشر حسنات، قال ثم جاء آخر وقال السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وجلس، فرد النبي وقال عشرون، ثم جاء رجل آخر – أي ثالث – وقال السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته وجلس، فرد النبي وقال ثلاثون، كلما زدت كان أفضل، طبعاً آخر شيئ ما هو؟ ورحمة الله وبركاته، لا يُوجَد ورضوانه وما إلى ذلك، هذا هبل موجود عند بعض الناس، أتُؤلِّف من عندك أنت في الدين؟ يقول بعض الناس وروضوانه ومغفرته وما إلى ذلك، يا أخي هل تُؤلِّفون في الدين أنتم؟ لا يُمكِن! هذا دين، انتهى الأمر، هل سنجلس إلى الصباح نرد على السلامات؟ هل ستُؤلِّف أنت وتأتي بعشر كلمات إضافية؟ لا يصح الكلام هذا، انتهى الأمر، في الدين نقول هذا فقط، قال فمَن سلَّم وبلغ غاية السلام رُدَّ عليه بمثله، أليس كذلك؟ أحياناً غضباً عنك سوف ترد بالمثل، لن تقدر على أن تزيد، لماذا؟ في حق مَن؟ قال العلماء في حق مَن بلغ غاية السلام، أي ماذا قال؟ قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا بلغ الغاية وأنت لا تستطيع أن تُوفي على الغاية، أي لا تستطيع الآن أن تزيد وأن تُربي على الغاية، فسوف تقول له وعليكم السلام ورحمة وبركاته، هل هذا واضح؟ هناك آداب كثيرة للسلام معروفة ومطروقة فلا نُريد أن نقولها.
۞ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ۞
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ۩، اللام هنا مُوطئة للقسم، وقوله اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ۩ يصير قسماً وخبراً، يُخبِر! بماذا يُخبِر الله تبارك وتعالى؟ يُخبِر عن وحدانيته طبعاً وأنه سيجمع الخلق في صعيد واحد في يوم الدينونة والحساب، قال إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ۩، أي لا شك فيه، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ۩.
۞ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ۞
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ ۩، ما معنى فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ۩؟ الله يتساءل، يقول ما لكم انقسمتم فرقتين؟ منكم أُناس يقولون هكذا وأُناس يقولون بالقول المُعاكِس، لماذا؟ لماذا لا يتوحَّد رأيكم في المُنافِقين؟
سبب هذه الآية على ما في الصحيح عن ابن عباس – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – أن عبد الله بن أُبي بن سلول – لعنة الله عليه – في أُحد انخذل بجماعة من الجيش – قلنا كانوا ثلاثمائة – وعادوا إلى المدينة، فاختلف الصحابة فيهم بعد ذلك، منهم مَن قال يُقتَلون – لابد أن نقتلهم هؤلاء، هؤلاء زنادقة وكفرة ومُنافِقون وخذلونا ومن ثم يُقتَلون – ومنهم مَن قال لا يُقتَلون، فأنزل الله الآية، فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ۩، لماذا اختلفتم؟ وذُكِرَ ذلك للنبي، قيل له يا رسول الله اختلفنا، أُناس قالوا نقتلهم وأُناس قالوا لا نقتلهم! فماذا قال النبي؟ قال هي طيبة، قال لهم نحن في المدينة، نحن لسنا في أي مكان، قال نحن وإياهم في المدينة، المدينة تجمعنا، قال هي طيبة، تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد، قال لهم لا تخافوا إن شاء الله، هؤلاء المُنافِقون تلقائياً – بإذن الله تبارك وتعالى – مع الزمان ومع الأيام ومع الشهور سوف لن يحتملوا البقاء في المدينة، سوف تنفيهم المدينة، وهناك أحاديث بالمُناسَبة كثيرة في أن المدينة – واسمها طيبة – فعلاً تنفي المُنافِقين، تنفي الخبث، لا تحتمل! لا يقدرون على أن يقعدوا فيها، سُبحان الله! والأحاديث كثيرة وموجودة في البخاري وغيره، فهذا هو معناها.
وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم ۩، ما معنى أَرْكَسَهُم ۩؟ قال ابن عباس أوقعهم وردهم، رده في الشيئ وأوقعه فيه فيُقال أركسه فيه، قال أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ ۩، أي بسبب المعصية واتباع الباطل والعدل بالباطل بإزاء الحق والعياذ بالله!
أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ۩، الآية واضحة.
۞ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ۞
وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ ۩، يُحِبون ذلك، يُحِبون لو أن الصحابة كلهم كفروا – والعياذ بالله – لكي يكونوا سواء، أي أنتم وإياهم سواء، كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء ۩، قال تعالى فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء ۩، لا تُوجَد محبة ونُصرة – ممنوع – بينكم وبينهم، حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ۩، ما معنى فَخُذُوهُمْ ۩؟ أي أسرى، وَاقْتُلُوهُمْ ۩ معناها واضح، انتبهوا! ليس خذوهم لتقتلوهم، لأن يُوجَد عطف هنا، قال فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ ۩، إذن أمران هما، فَخُذُوهُمْ ۩ أي أسرى، قيِّدوهم أو أوثقوهم أسرى، وَاقْتُلُوهُمْ ۩ أي بعضهم يُؤسَر وبعضهم يُقتَل، حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ۩.
۞ إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ۞ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ۞
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۩، هنا استثنى الله – تبارك وتعالى – من وجوب مُقاتَلة هؤلاء وعدم مُوالاتهم صنفين من الناس، ثم عقَّب بصنف ثالث مُرافِق ليس له حُكم الصنفين، انتبهوا! علماً بأننا سوف نختم بهاتين الآيتين ثم – إن شاء الله ننطلق اليوم، مَن هو الصنف الأول؟ قال إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۩، ما هو الميثاق؟ العهد، هُدنة أو ذمة، مثل الذي حدث في الحُديبية، أليس كذلك؟ أنتم تعرفون أن أيامها كانت هناك هُدنة، في صحيح البخاري فكان مَن أحب أن يدخل في حلف قريش وحزبها كان له ذلك، ومَن أحب أن يدخل في حلف محمد وعهده ونُصرته كان له ذلك، فإذا إنسان – الله يقول – أو جماعة من الناس انحازوا وانكفوا إلى جماعة بينكم وبينهم ذمة أو عهد فلهم حُكم أهل الذمة والعهد، نفس الشيئ! كما تُعامِلون هؤلاء عامِلوا مَن انحاز إليهم وكان معهم، هل فهمتم الآية؟ هذا معنى إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۩، هناك قسم ثالث أيضاً مُستثنى، قال أَوْ جَاؤُوكُمْ ۩، أي أو قومٌ جاؤوكم، إِلاَّ الَّذِينَ ۩ أي أوالذين إذا جاؤوكم، انتبهوا! قال أَوْ جَاؤُوكُمْ ۩، ليس نفس القسم وإنما قسم آخر، قال أَوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ۩، أي ضاقت، عندهم الحصر والضيق، يجدون الحرج أو الحريجة في نفوسهم، أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ ۩، هؤلاء كالمُسلِمين المُستضعَفين الذين كانوا في مكة، مثل بعض بني هاشم ومنهم أو على رأسهم مَن؟ عم الرسول العباس، وهذا يُقال كان مُسلماً، كان في الداخل مُسلِماً، يُقال هذا، اختُلِف في ذلك لكن المُهِم أنه على كل حال خرج مُكرَهاً يوم بدر ولم يكن يُحِب أن يُقاتِل الرسول، وفي نفس الوقت لم يكن يُحِب أن يُقاتِل مع الرسول قومه، فهو لا لنا ولا علينا، كان يُحِب أن يكون مُحايداً، أي على الحياد، لكنه لم يقدر، لم يقدر وخرج، ولذلك النبي لم يأمر بقتله، نهى عن قتله وأمر بأسره، وكانت عاقبته خيراً بحمد الله تبارك وتعالى، أليس كذلك؟ كانت عاقبة العباس خيراً بفضل الله تبارك وتعالى، الله قال هذا هو، مثل هؤلاء الذي يُحرَجون من قتالكم أو قتال قومهم ويُحِبون أن يكونوا على الحياد اتركوهم، وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ۩، ما معنى وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ۩؟ هادنوكم ووادعوكم وسالموكم، فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ۩، ممنوع مُقاتَلتهم فضلاً عن قتلهم، ممنوع أن تُقاتِلوهم فضلاً عن أن تقتلوهم، أصبحت الآية واضحة!
الآن عندنا فريق ثالث، في الظاهر هو كهذين الفريقين وفي الحقيقة هو ليس منهما بسبيل، فريق من المُنافِقين الكذّابين الأفاقين، قال سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ ۩، يلعبون على الحبلين أو بالبيضة والحجر كما يقولون، يأتون عندكم ويُعطونكم وجهاً ولساناً، ويذهبون إلى الكفّار ويُعطونهم وجهاً ولساناً آخر، وقلوبهم مع مَن؟ مع الكفّار، كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيهَا ۩، قال السُدي الفتنة هي الكفر، الشرك! هذا هو طبعاً، كلما عادوا إلى الكفّار فعلاً يرجعون ويُواقِعون الكفر، وأُشرِبت قلوبهم الكفر والشرك والعياذ بالله، هم كفّار على الحقيقة لكنهم مُنافِقون، يُنافِقون والعياذ بالله، لكن هؤلاء ليسوا كذلك، ولذا سنرى أن عندهم حُكم آخر.
إذن قال سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ ۩، نفس الشيئ! فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ ۩، أي ألا يُقاتِلون، فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ ۩، ائسروا منهم مَن شئتم واقتلوا مَن تيسَّر، حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ۩، أي حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ۩ كما قال في الأولى، وَأُوْلَئِكُمْ ۩، أي قال هذه الفرقة بالذات أو هذا الصنف من الناس، جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ۩، هؤلاء يُقاتَلون ويُؤسَرون ويُقتَلون، لأنهم مُنافِقون كذبة، ليسوا من الصنفين الأولين، والله – تبارك وتعالى – أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، الحمد لله وكفى وصلاةً على عباده الذين اصطفى.
أضف تعليق