الدرس السابع
تفسير سورة البقرة من الآية الخامسة والخمسين بعد المائتين إلى آخر السورة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، يا رب لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما تُحِب وترضى عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك، لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نظير له ولا مثال له، ونشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه، الله صل وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين المُجاهِدين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، علَّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، ربنا تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركوعنا وسجودنا ودعاءنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا، بلِّغنا مما يُرضيك آمالنا. اللهم آمين.
أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الإخوات الفاضلات:
۞ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ۞
تحدَّثنا أمس في أعقاب الحديث وأواخره حديثاً سريعاً عن آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله سُبحانه وتعالى، وبصدد هذه الآية أيها الإخوة يحسن أن نذكر الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مُسلِم رضيَ الله عنه بإسناده إلى أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم ورضيَ الله عن أصحابه أجمعين، أنه قال قام فينا رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – بأربع كلمات، ومعنى قام فينا بأربع كلمات أنه خطبنا خُطبةً من أربع جُمل، هذا معنى قم فينا بأربع كلمات، خطبنا خُطبةً من أربع جُمل، قال إن الله – تبارك وتعالى – لا ينام – لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ۩ – ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه – هذه الثانية -، يُرفَع إليه – هذه الثالثة – عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور – هذه الرابعة، وفي رواية النار – لو انكشف لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، وهذا حديث جليل جداً وعظيم جداً، عظيم الوقع! نسأل الله أن ينفعنا به، وأيضاً بصدد هذه الآية أيها الإخوة نُذكِّر بالحديث الذي ذكرنا نظيره ومثاله في دروس التفسير في هذا الشهر المُبارَك، هذا الحديث من رواية أسماء بنت يزيد بن السكن رضيَ الله عنها، قالت سمعت الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – يقول في هاتين الآيتين: اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۩ “آية الكرسي”، الم ۩ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۩ إن فيهما اسم الله الأعظم، ونحن ذكرنا أيها الإخوة والأخوات نظير هذا الحديث، لكن هناك قال المُصطفى – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن الاسم الأعظم في ماذا؟ في قوله – تبارك وتعالى – وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، “في البقرة”، الم ۩ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۩ “في أول آل عمران”، قال فيهما الاسم الأعظم، إلى غير ذلك والله – تبارك وتعالى – أعلم.
۞ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۞
لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۩، ذكرنا شيئاً بصدد هذه الآية الكريمة، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ۩، الآن ما هو الطاغوت؟ الطاغوت أيها الإخوة من الطُغيان، والطُغيان هو مُجاوَزة الحد في كل شيئ، كل شيئ جاوز حده يُقال إنه طغى، ولذلك الماء إذا تجاوز حده بطوفان أو بفيضٍ عام يُقال إنه طغى، قال – تبارك وتعالى – إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ۩، هكذا كل شيئ جاوز حده يُقال عنه إنه طغى، قال الفاروق عمر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – الجِبت السحر – بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ۩ في سورة النساء وستأتي معنا – والطاغوت الشيطان، والشجاعة والجُبن غرائز – أي أخلاق جِبلية – في الرجال، الشجاع يُقاتِل عمَن لا يعرف – لأنه شجاع، هذه غريزة، ينصر إنساناً ضعيفاً لا يعرفه وربما يُغامِر بمُهجته، يُغامِر بنفسه من أجل أن ينصر هذا الضعيف المُستضعَف – والجبان يفر مِن أمه، لأنه هكذا من الأصل، هذا قول عمر، واستحسن السادة المُفسِّرون هذا التفسير من الفاروق رضيَ الله عنه وأرضاه، أن الطاغوت هو الشيطان، لماذا؟ لأن الشيطان أيضاً هو كل عاتٍ ومُتمرِّد من الإنس والجن والحيوان، فهذا هو إذن، الطاغوت هو كل ما عُبِد من دون الله والعياذ بالله تبارك وتعالى، كل ما عُبِد من دون الله طاغوت.
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ ۩، إذن لابد من التخلية والتحلية، في الأول لابد من معنى سلبي، أن نكفر بجميع الآلهة، بجميع ما عُبِد ومَن عُبِد من دون الله تبارك وتعالى، فنُخلي أو نُخلّيَ قلوبنا وعقائدنا من شوائب الوثنية والشرك بكل ضروبها وبمُختلَف أشكالها وصنوفها، وبعد ذلك نتحلى بماذا؟ بعقيدة التوحيد، وهذا أيها الإخوة بالضبط وتماماً معنى لا إله إلا الله، لا معبود، لا مألوه، لا مُقدَّس، لا… لا… لا… لا… لا… إلا الله، لكن إعراب لا إله إلا الله صعبٌ جداً، موقع المُستثنى هنا والاستثناء صعب جداً، لا نُريد أن نخوض فيه، لكن المعنى واضح، لا معبود بحق إلا الله تبارك وتعالى.
وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ ۩، تعرفون معنى بِالْعُرْوَةِ ۩، الْوُثْقَىَ ۩ أي التي لا تنفصم، وأكَّدها بقوله لاَ انفِصَامَ لَهَا ۩، أكَّدها أيضاً بقوله لاَ انفِصَامَ لَهَا ۩، بم فُسِّرت أيها الإخوة هذه اللفظة: بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ ۩؟ قيل هي الإيمان، قيل هي الإسلام، قيل هي سبيل المُؤمِنين، قيل هي القرآن، وكل هذا قريب من قريب، الإسلام هو الإيمان، القرآن هو سبيل الإسلام، وسبيل المُؤمِنين هي الإيمان والإسلام، نفس الشيئ! هذا الاختلاف أيها الإخوة حتى لا نستطيع أن نقول إنه اختلاف تنوع، هذه أشياء مُتقارِبة جداً جداً.
أخرج الإمام أحمد والإمام البخاري ومُسلِم – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين، طبعاً الحديث إذا كان في المُسنَد وأخرجه البخاري ومُسلِم فحقه أيها الإخوة أن نبدأ تخريجه بمَن؟ بالمُتقدِّم وهو الإمام أحمد، نقول أخرج الإمام أحمد ثم البخاري ومُسلِم طبعاً، لأن أحمد يتقدَّم على البخاري، والبخاري يتقدَّم على مُسلِم، أحمد مُتوفى سنة مائتين وخمس وأربعين، البخاري مُتوفى سنة مائتين وست وخمسين، مُسلِم مُتوفى سنة مائتين وواحد وستين، وهكذا، أحمد إذن والبخاري ومُسلِم – عن رجل من التابعين – هو تابعي، وهم بعض العلماء وظنوا أنه في الصحابة – وهو قيس بن عُباد – قيس بن عبُاد وليس بن عبّاد، هكذا يُضبَط، على كل حال هو قيس بن عُباد الضبعي رضيَ الله عنه وأرضاه، هو تابعي جليل، من كبار وسطى التابعين، هو ليس من كبار التابعين، من أواسط التابعين لكن من كبارهم، لأنهم ينقسمون ثلاث طبقات، على كل حال قيس بن عُباد يقول الآتي – أنه يقول كنت يوماً في مسجد مع جماعة فجاء رجلٌ في وجهه أثرٌ من خشوع – ليس هذه السمراء العفطة، كعفطة الماعز، لا! هذه ليس لها علاقة بالخشوع، بالعكس! حتى ورد في بعض الأحاديث النهي عنها، النبي قال لا تُعلِبوا وجوهكم، أي لا تُشوِّهوا خِلقة الله تبارك وتعالى، بعض الناس يتعمَّل هذه تعملاً، يضع الثوم ويضع أشياء ويُحِب أن يسجد على أشياء خشنة والعياذ بالله، ليس لها علاقة بالخشوع هذه، ليس لها علاقة أبداً، الخشوع سيمة يعرفها المُتوسِّمون، هل هذا واضح يا إخواني؟ سيمة يعرفها مَن؟ أهل الإلهام، أهل الخشوع يعرفون ذلك سُبحان الله، هذه يُمكِن أن تُوجَد في ناس لا يظن بهم ذلك، لكن أهل التوسم أمرهم مُختلِف، إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم، قال تبارك وتعالى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ۩ في الحجر، وهكذا! على كلٍ قال في وجهه أثرٌ من خشوع -، فصلى ركعتين أوجز فيهما ثم انطلق، قال فاتبعته، حتى إذا دخل منزله دخلت معه – استأذن طبعاً ودخل -، حتى إذا تأنس – أي فهم أنني لا أُريد إلا الخير – قلت له يا عبد الله حين دخلت المسجد قال فيك الناس إن فيك أثراً من خشوع وأنهم يظنون أنك من أهل الجنة إن شاء الله – هكذا قالوا! نحسب أنه من أهل الجنة، شكل رباني، إنسان رباني، سُبحان الله! ستعلمون مَن هو بعد قليل، شكله رباني -، قال يا أخي لا تقولوا هكذا – نهاهم عن هذا القيل، قال يا أخي لا تقولوا هكذا، لأن هذا لا يعلمه إلا تبارك وتعالى – وسأقول لك لِمَ، لقد رأيت رؤيا على عهد رسول الله – إذن هو صحابي – عليه الصلاة وأفضل السلام وقصصتها عليه، رأيت كأني في روضة خضراء، يقول عون – أحد الرواة – ووصف من خضرتها وجمالها وسعتها، أي أنها روضة عجيبة، فوق الوصف، فوق أن يتناولها وصف، قال في روضة خضراء ووصف من خضرتها وجمالها وسعتها وما إلى ذلك، قال وفي وسط الروضة عمودٌ من حديد، أسفله في الأرض وأعلاه في السماء – عمود عجيب وطويل جداً -، وفي رأس العمود عُروة – عُقدة كبيرة هكذا، عُروة يُمكِن للإنسان أن يتمسك بها -، فقيل لي اصعد العمود، قلت لا أستطيع – هذا عمود حديد، كيف أصعده؟ لا يُوجَد درج، لا تُوجَد سلالم -، قيل اصعد، فجاء رجلٌ من خلفي وكشف ثوبي – جلباب، حتى يستطيع أن يتسلَّق طبعاً – فصعدت حتى تشبَّثت بالعُروة – وصلت إلى العُروة ومسكتها -، فقال لي عليه الصلاة وأفضل السلام – خير مَن عبَّر أو عبَر الرؤى الرسول طبعاً، معروف! هو سيد العابرين – الروضة هي روضة الإسلام والعمود هو عمود الإسلام – أي عمود الإيمان – والعُروة هي العُروة الوثقى، وستكون على الإسلام إلى أن تموت إن شاء الله تعالى، وكان ذلكم عبد الله بن سلَّام أو كما يقول بعض عبد الله بن سلَام، الحبر اليهودي الذي أسلم، الرسول بشَّره بذلك، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، فهذه هي العُروة الوثقى التي نرغب إلى الله – تبارك وتعالى – ونبتهل أن يجعلنا من المُمسِّكين والمُتمسِّكين بها إن شاء الله تبارك وتعالى، لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۩.
۞ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۞
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ ۩، أيها الإخوة – كما قلنا غير مرة – الولاية كلمة مصدرها وأرومتها تدور على معنى المحبة والنُصرة، تدور على معنى المحبة والنُصرة لكن لها معانٍ هي قريب مِن عشرين معنى، مَن أراد أن يستوفيها فليعد إلى كتاب العلّامة ابن الأثير الجزري صاحب جامع الأصول “النهاية في غريب الحديث والأثر”، ذكر جُملة طائلة منها، لكن تدور كل هذا المعاني على معنى ماذا؟ المحبة والنُصرة، إذن اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ ۩، علماً بأن وَلِيُّ ۩ أيها الإخوة من ناحية صرفية أصلها فعيل، إما بمعنى فاعل وإما بمعنى مفعول، أي بمعنى الناصر أو المنصور، هكذا! على كلٍ لا علينا الآن مِن هذا، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ ۩، يُحبِهم وينصرهم.
يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۩، ظُلمات ماذا؟ الشك والريب والحيرة والكفر والشرك والعياذ بالله، وفي كتاب الله العزيز أيها الإخوة دائماً الظُلمات تأتي مجموعة ودائماً يأتي النور مُنفرِداً.
الطُّرُقُ شَتَّى وَطُرُقُ الحَقِّ مُفْرَدَةٌ وَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الحَقِّ أَفرَادُ.
أليس كذلك؟ قال – تبارك وتعالى – وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ۩، لم يقل السبيل، هناك سبيل واحدة هي سبيل الله، وهناك على جنبتي هذه السبيل سُبل كثيرة جداً لا نهاية لها، ولا تزال دائماً تُفتجَر وتُبتكَر وتُبتدَع سُبل الكفر والزندقة والإلحاد والشك والريب، وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ۩، وهنا يقول مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۩، طريق الحق واحدة، وأما طريق الباطل مُتعدِّدة، لماذا؟ هل تعرفون لماذا؟ بالعقل أيضاً وبالمنطق لأن في وجود النور يُمكِن للإنسان أن يهتدي في طريقه مبدأً وغاية، يعرف أن المُنطلَق من هنا وأن هذه تتوسط وتلكم الغاية، يعرف فينطلق قاصداً عامداً، لا يضل ولا يتيه، لكن في غيبة النور ما الذي يحصل؟ كل يأخذ في سبيله ويظن أنه في سبيل قاصدة فتتعدَّد السُبل، فنسأل الله أن يُنوِّر قلوبنا وعقولنا وأن يُتمِم لنا نورنا في الدنيا والآخرة.
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ۩، هنا العكس طبعاً، يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۩، هذا واضح إن شاء الله.
۞ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۞
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ ۩، قال أَلَمْ تَرَ ۩، ماذا تفهمون من هذه الصيغة كعرب؟ أَلَمْ تَرَ ۩ يقول له، وطبعاً هذه الرؤية ليست رؤية بصرية، نفهم منها التعجيب، الله يقول له انظر إلى هذا، أمر عجيب يقول له، عجيب! رجل يُحاجِج في وجود الله، وقد كان نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، هذا نسبه، هو نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح لعنة الله تعالى عليه، أحد ملوك أربعة، قال مُجاهِد بن جبر – تَلميذ ابن عباس وأحد أحبار التفسير الكبار وهو من التابعين أو بالأحرى من كبار التابعين – ملك الدنيا بأسرها أربعة ملوك، اثنان كافران واثنان مُؤمِنان، فأما المُؤمِنان فسُليمان بن داود – عليهما الصلوات والتسليمات – وذو القرنين – العبد الصالح المذكور في سورة الكهف -، وأما الكافران فنمروذ بن كنعان والآخر نبوخذ نصر أو بختنصر كما يذكر المُفسِّرون على عادتهم، هذان أيضاً ملكان عظيمان بابليان طبعاً، فالصيغة فيها تعجيب، أمر عجيب! أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ ۩، أي جادل وخاصم ومارى، إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ۩، أي في وجود الله تبارك وتعالى، لم يقل في إلهه، قال فِي رَبِّهِ ۩، إذن هو يُنكِر حتى وجود الله – تبارك وتعالى – كما قال المُفسِّرون، انتبهوا فهذه مُهِمة جداً، هو لا يُنكِر فقط أن الله يُعبَد، هو يُنكِر أنه موجود.
أَنْ آتَاهُ ۩، هنا طبعاً أن وإن مُطرِد جداً في اللغة إذا وقعت موقع التعليل أن تُحذَف لامها، أي لأن، بمعنى لأجل أن الله آتاه المُلك الرجل دخله الغرور ودخله العُجب ونسيَ قدره ومقامه وظن أنه يتألَّه والعياذ بالله، هذا معناها، أي بسبب هذا المُلك العريض كفر الرجل، ابتُليَ فلم ينجح في الاختبار، كفر! أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ۩، أي بسبب هذا المُلك كفر.
إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ۩، الإمام السُدي – رحمة الله تعالى عليه – قال كانت هذه المُحاجَة وهذه المُناظَرة بينهما بعد أن خرج إبراهيم من النار، بعد النار هذه كانت، بعد أن أنقذه الله من النار كانت هذه المُحاجَة والله أعلم، إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ۩، معروف هذا، أي كيف يُحيي وكيف يُميت، قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۩، المشهور طبعاً أنه أتى برجلين قد حُكِمَ عليهم بالقتل أو بالموت، فقال هذا ينبغي أن يُقتَل وهذا ينبغي أن يُقتَل، هذا اقتلوه وهذا اتركوه، قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۩، هذا ضعيف، هذا التفسير مشهور جداً جداً لكنه ضعيف، الذي يتسق مع الآية ومع روح المُحاجَة أنه قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۩ من باب المُباهَتة ومن باب المُكابَرة، قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۩، هو يزعم أنه يُحيي هؤلاء البشر ويُحييهم، بمعنى أنه يُمكِن أن يقول لإبراهيم أنت تقول أن الله يُحييهم، أين هو الله؟ أرني كيف يُحييهم أصلاً؟ أين؟ أنا أفعل نفس الشيئ، هذا هو الصحيح، هذا الأقوى في التفسير، إبراهيم ماذا فعل؟ أخذ في سبيل أُخرى في النقاش، سبيل أبهته وقطعته وأفحمته، قَالَ إِبْرَاهِيمُ – جيد – فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ۩، جميل! بدِّل سُنة كونية، إذا كنت رباً تُدير هذا الكون وتُدبِّره بقدرتك – جميل جداً – إذن فدبِّر أمر الشمس واعكس حالها وسُنتها المعهودة مُنذ آلاف السنين، هي تُشرِق من جهة الشرق وتغرب في جهة الغرب، افعل العكس، فَبُهِتَ ۩، أُفحِم الرجل مُباشَرةً، لا تُوجَد حُجة، انقطعت حُجته، أليس كذلك؟ لو كان رباً لاستطاع، يُبدِّل دون مُشكِلة، الرسول – عليه الصلاة والسلام – طلب إليه القرشيون ما هو أصعب من ذلك، أن يشق القمر ودعا الله وانشق القمر، انشق! لأن هناك رباً، ومن هنا قيل في تعريف المُعجِزة ماذا؟ ما هي المُعجِزة؟ الكفّار لا يُؤتون مُعجِزات، مستحيل أن الله يُعطي الكافر مُعجِزة، أليس كذلك؟ بالعكس يُعطيهم – والعياذ بالله – السُخرية والهُزؤ والمكر، عكس المُعجِزة تماماً، مُسيلمة الكذّاب لما ادّعى النبوة قيل له محمد عنده مُعجِزات وآيات وكرامات، أرنا شيئاً، قال ماذا تُريدون؟ قالوا هذا إنسان عنده رمد، قال لا مُشكِلة، سأتفل في عينيه ومن ثم سيصير سليماً، تفل فعميَ الرجل، عميَ بالكامل! أي أنها كانت فضيحة، هذا معروف! تفل في عيني الرجل فعميَ، لكن الرسول جاءه قتادة وقد خرجت عينه من محجرها في أُحد، أتى بها إلى الرسول وهي في يده، انتهى! طبياً حتى مُستحيل، لا يُمكِن، في يده! فوضعها النبي مكانها وقال بسم الله، فعادت أحسن مما كانت وكانت أحسن من أختها، كان يرى بها بشكل أفضل، هذه هي الآيات، ولذلك المُعجِزة هي أمر خارق لمُعتاد البشر، أليس كذلك؟ مقرونٌ بالتحدي، سالمٌ من المُعارَضة، لا يستطيعون أن يُعارِضوه، سالمٌ من المُعارَضة، يقوم مقام قول الحق – تبارك وتعالى – صدق عبدي فيما أخبر عني، هذا معنى المُعجِزة، أرنا مُعجِزة يا نمروذ، الأنبياء عندهم معاجز، موسى ضرب البحر بعصاه، أليس كذلك؟ طبعاً نحن لا نُريد أن نتحدَّث كالشيخ الفلان والشيخ العلان الذين تأثَّروا بالاتجاهات العقلية الحديثة، هناك مَن قال هذا المد والجزر، مد وجزر ماذا يا أخي؟ بحر هذا، أكثر شيئاً أن يكون كالبحر الأحمر، مد وجزر كيف؟ هل جازوا البحر كله بالمد والجزر؟ هل جُزِر البحر؟ إلى أين جُزِر البحر إذن؟ ما الكلام الفارغ هذا؟ ثم إن لماذا ضربه بالعصا إذن؟ أليس كذلك؟ هل تكوَّنت ظاهرة المد بضربة العصا وحدث جزر بالبحر؟ والجزر إلى كم يكون؟ هل يكون إلى نصف كيلو؟ هذا بحر! كلام فارغ، مُعجِزة إلهية هذه بقدرة الله تبارك وتعالى، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۩.
۞ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۞
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ۩، مَن هو؟ قيل هو رجل من بني إسرائيل، والأرجح والأشيع عند العلماء والمُفسِّرين أنه عُزير عليه السلام، والقرية في أرجل أيضاً وأقوى الأقوال أنها بيت المقدس، ومر عليها بعد أن دثرت وتخرَّبت ودُمِّرت بسبب مَن؟ الملك البابلي نبوخر نصر – تعرفون ما وقع من السبي – حين دمَّرها وسبى الإسرائيلين إلى بابل معه، فمر عليها وقد تدمَّرت عن آخرها، وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ۩، ما معنى وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ۩؟ أي أن السقوف سقطت على الأرض، سقوفها سقطت على أرضها، هذا معنى وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ۩، فاستغرب! استغرب من هذه القرية بعد عمرانها وبعد الأُنس بها كيف صارت مأوىً للبوم والغربان هكذا تتناوح فيها الرياح، قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي ۩، أهذه يُمكِن أن تُحيا مرة أُخرى وتُعمَر من جديد؟ أَنَّىَ ۩، أي كيف؟ ومتى؟ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۩، الله أراد أن يُقيمه آية وأن يُقيم له آية، هو أصبح آية وأيضاً أقام الله له آية، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ۩، لا إله إلا الله، شيئ عجيب، مِائَةَ عَامٍ ۩، وكان ذلك صباحاً، حين مر عليها كان في الصباح، ثُمَّ بَعَثَهُ ۩، وكان ذلك قبل الغروب، وهو يظن أنه هذا اليوم فقط، يظن أنه نام نهاراً واحداً، في الصباح هو تساءل ثم ضُرِبَ عليه كأنه نائم لكنه أُميت، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ ۩، لم ينم مثل أصحاب الكهف، هم ناموا لكن هنا هو مات، أُميت مائة عام، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا ۩، ثم تذكَّر أن ذلك كان صباحاً والآن هو في الغروب فقال أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۩، رأى أن هذا أقل حتى من يوم، هذا معنى أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۩، قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ۩، هنا قد يقول لي أحدكم كيف قال الله له هذا؟ عن طريق ملك، هو نبي، أرسل الله له ملكاً، والملك هو الذي يُحادِثه، الله لم يُكلِّم هكذا إلا محمداً وموسى بالكلام المُباشِر، قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۩، كان معه عصير وكان معه عنب وكان معه تين كما يُقال، العصير مثلما هو، العنب لم يتعفَّن، التين لم يُنتِن، كل شيئ مثلما هو، نظر فوجد الطعام كما هو، غريب!
فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۩، الحمار أيها الإخوة استحال عظاماً بيضاً تلوح، عظام هكذا تلمع في حر الشمس، وموجودة في أماكن مُختلِفة بفعل الريح، عظمة هنا، عظمة هناك، وعظمة هناك، ليس في مكان واحد هيكل عظمي، مُتفرِّق! قال له انظر إليه، وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ۩، من النشز، ما النشز؟ الارتفاع، وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ ۩ في المُجادلة، لماذا انشُزُوا ۩؟ لكي يتوسَّع المجلس دائماً ماذا يفعل الناس في مُعتادهم؟ يقومون، يرتفعون ويضبطون المجلس من جديد ثم يجلسون، صحيح! هذا معنى وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا ۩، نُنشِزُهَا ۩ نرفعها بحيث يركب عظمٌ عظماً، يركب عظمٌ على عظمٍ، هذا معنى نُنشِزُهَا ۩، وفي قراءة أيضاً صحيحة نُنشِرها أو نَنشرها من النشور، أي نبعثها، بمعنى كيف نُحييها، إذن إما نَنشرها وإما نُنشِزُهَا ۩، وفعلاً نظر عُزير – عليه السلام – بعد أن أحياه الله فإذا بالعظام يركب بعضها بعضاً، وإذا بالملك يُخاطِبها أيتها العظام البالية اكتسي لحماً ودماً وعصباً، فبدأت تكتسي باللحم والدم والعصب أمام عينيه، شيئ غريب، آية من آيات الله تبارك وتعالى، وهو يعلم هذا، هو نبي فيعرف ذلك، لكن شيئ غريب أن ترى ذلك، الذي طلبه إبراهيم أعطاه الله لعُزير من غير طلب هكذا، أليس كذلك؟ أراه كيف يتم الإحياء على مرأه وعلى عينيه هكذا، صحيح!
ثم جاء الملك ونفخ في رأس الحمار بأمر الله فطبعاً دخلت الروح، فإذا به ينتفض وينهق، أي الحمار، وعاد عليه، شيئ عجيب، آية عجيبة، لا إله إلا الله! الآن عاد إلى قريته لكن بعد كم؟ بعد مائة سنة، عاد إلى بيته، طرق باب الدار فإذا بعجوز مُقعَدة، قالت له تفضَّل، لم تستطع أن تفتح الباب، وهي عمياء، دخل فوجد عجوزاً كبيرةً، حوالي مائة وعشرين سنة عمرها، فقال لها مَن أنتِ؟ قالت أنا فلانة الفلانية، أمة عُزير، حين ذهب هو قبل مائة سنة طبعاً – فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ۩ – كان عمرها كم؟ عشرين سنة، الآن عمرها كم؟ مائة وعشرين سنة، هو في نفس السن، أي كان ابن أربعين أو خمسين سنة والآن هو ابن أربعين أو خمسين سنة، الآن هو في نفس السن، يا ليت أينشتاين Einstein قرأ القصة هذه التي عندنا في القرآن الكريم لكي يتعجَّب، موجود لها أصل حتى في الكتاب المُقدَّس، قالت ومَن أنت؟ قال لها أنا عُزير، قالت تكذب، مُستحيل! عُزير من مائة سنة لم يره أحد، وأنا عائشة من مائة وعشرين سنة، من مائة سنة لم يسمع أحدٌ بخبره، قال لها يا فلانة أنا عُزير، ألا تعرفين صوتي؟ قالت لا، لست عُزيراً، أرني آية، كيف؟ كيف تُثبِت لي أنك عُزير؟ يُقال في بعض الروايات أنها كانت تعرف علامة بين كتفيه، علامة أو شيئ كشامة كبيرة هكذا، فتحسَّستها فإذا هي هي، ويُقال أشياء أُخرى كثيرة فلا نُطوِّل، المُهِم اعترفت وبكت، قالت له ولكن عُزير نبيٌ مُستجاب الدعوة، فإذا أدرت أن تُبرهِن على أنك عُزير حقاً – هذه العلامة يُمكِن أن تُوجَد في أكثر من شخص، هذا مُمكِن أحياناً – فادع الله لي أن يُقيمني فأنا مُقعَدة وأن يرد علىّ بصري، قال افعل، فرفع يديه ودعا له، فإذا بها قامت على رجليها وتُبصِر أحسن ما كانت تُبصِر، فجعلت تبكي وتُقبِّل يديه وخرجت به إلى محلة بعض الإسرائيليين، محلة هكذا، مثل شقة أو بيت كانوا يجلسون فيه، مَن كان فيه؟ أبناء عُزير وأبناء أبنائه، طبعاً أبناؤه كم أعمارهم؟ مَن تركه وعمره ثلاث سنوات الآن عمره مائة وثلاث سنوات، أحفاده – ما شاء الله – في السبعين وفي الثمانين، وكانوا جلوساً جميعاً، قالت لهم هذا عُزير، فقالوا لها أهبلتِ يا امرأة؟ ولا يعرفون مَن هي، قالت أنا فلانة الفلانية، قالوا تكذبين، قالت أنا وقد دعا لي بكذا وكذا، فقاموا وتحسَّسوا ما بين منكبيه وجعلوا يكبون عليه، أبوهم أصغر منهم ما شاء الله، جدهم أصغر منهم، أحفاده أصغر منه، آية من آيات الله عجيبة، وأرادوا أيضاً أن يُبرهِنوا حقيقة دعواه أكثر فقالوا له ولكن عُزير الذي نعرفه هو الوحيد الذي كان يحفظ التوراة عن ظهر قلبه، فإن كنت عُزيراً فاتل التوراة وقد فُقِدت، أيام نبوخذ نصر حتى التوراة فُقِدت، انتهت! فأملاها عليهم لا يخرم منها حرفاً واحداً من أولها إلى آخرها، فتأكَّدوا أنه عُزير عليه السلام، آية من آيات الله عجيبة، لا إله إلا الله!
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ۩، رأى الحمار ورأى الحياة، ماذا قال عُزير وهو نبي؟ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، وفي قراءة أُخرى فلما تبيَّن له قال – أي الله عز وجل على لسان الملك – اعلم إن الله على كل شيئ، أي بصيغة الأمر، ليس بصيغة أعلم أنا وإنما بصيغة الأمر: اعلم أنت، قال – أي الله وليس عُزير – اعلم أن الله على كل شيئٍ قدير، ولها وجه هذه القراءة، لها وجه!
۞ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۞ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۞
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ۩، الواو هنا معطوفة على ماذا؟ على أَوْ كَالَّذِي مَرَّ ۩، نفس الشيئ، وَإِذْ قَالَ ۩، أيها الإخوة حين تقرأون كلمة إذ دائماً كيف تُفسِّرونها؟ دائماً معناها واذكر إذ، اذكر يا محمد إذ وقع كذا وكذا، اذكر يا محمد لأصحابك إذ حدث كذا وكذا، هذا معنى إذ، كلما قرأتموها اعلموا أن هذا تفسيرها، قص عليهم يا محمد، احك لهم إذ وقع كذا وكذا، هذا معنى وَإِذْ ۩.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ – إبراهيم – بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۩، بعض المُتزندِقين أو بعض المائقين كما يُقال من الحمقى – من الموق – زعموا أن إبراهيم شك ووقع الشك في قلبه، هذا غير صحيح، النبي نفى الشك عن إبراهيم – عليه السلام – في حديث صحيح أيها الإخوة، لا مرية في صحته، أخرجه البخاري ومُسلِم وغيرهما عن أبي هُريرة رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۩، نحن أحق بالشك من إبراهيم، ويرحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ۩، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف – وفي رواية ولو طال لبثي في السجن ما طال لبث يوسف – لأجبت الداعي، معروفة قصة لوط وقصة يوسف، لكن ما معنى نحن أحق بالشك من إبراهيم؟ جُملة أيضاً مُشكِلة من رسول الله هذه، العلماء لهم مذاهب في تأويل هذا الشطر من هذا الحديث الجليل الصحيح، نحن أحق بالشك من إبراهيم بمعنى أنه لو شك إبراهيم حقاً وفعلاً لكنا نحن أولى بأن نشك من إبراهيم، فمثل إبراهيم لا يشك، وفي هذا تصريح بأن إبراهيم أفضل من محمد، قال العلماء قد يكون النبي قال هذا تواضعاً منه على طريقته – هو مُتواضِع، دائماً يتواضع – أو قد يكون قاله قبل أن يُوحى إليه أن أفضل من إبراهيم، وكان يظن أن إبراهيم هو أفضل الأنبياء قاطبةً، وفعلاً بعد محمد مَن هو الأفضل؟ إبراهيم مُباشَرةً، رقم اثنين، فالنبي قبل أن يُعلَم أنه أفضل من إبراهيم قال أن إبراهيم أفضل منه أو قاله تواضعاً، هذا أولاً، المذهب الثاني في تأويل كلمة نحن أحق بالشك من إبراهيم أيها الإخوة أن النبي – عليه السلام – ينفي الشك عن نفسه وعن إبراهيم، كيف؟ إذا أراد حيكمهم وفصيحهم وكبيرهم أن ينفي السوء عن رجل آخر من علية القوم وأشرافهم قيل فيه شيئ ماذا يقول للمُتقوِّل أو للمُتكلِّم أو للشانئ؟ يقول له مهما قلت من شيئ فقله في، إذا أنا كذّاب هو كذّاب، أليس كذلك؟ أو إذا هو كذّاب أنا كذّاب، فيُقال له لا، حاشاك، فيقول إذن هو ليس كذّاباً أيضاً، وهذا الكلام جيد قاله الحافظ ابن حجر في فتح الباري رحمة الله تعالى عليه، مهما قلت فيه من شيئ فقله في، فإذ برأتني فهو أيضاً بريء، بعضهم كالحافظ ابن كثير – رحمة الله عليه – قال معناها نحن أحق بالبحث عن اليقين، أي نحن أحق باليقين من إبراهيم، مذاهب كثيرة على كل حال، لكن الحد الأدنى الذي يجب أن نقف عنده وألا نعدوه أن إبراهيم لم يقع الشك في قلبه، بدليل أنه قال أَرِنِي كَيْفَ ۩، السؤال عن ماذا وقع إذن؟ عن الكيفية، إذن هو مُؤمِن بهذا، علماً بأن الإيمان بكيفيةٍ مُعيَّنة في الإحياء ليس من أصول الإيمان، هل هذا واضح؟ المطلوب أو القدر المطلوب أو النصاب – نصاب الإيمان في هذه القضية – أن تُوقِن وأن يقطع قلبك بماذا؟ بقدرة الله على الإحياء، هذا المطلوب، لكن كيف يُحيي شيئ آخر، ونحن نُؤمِن بأن الله لا يتعاجزه أن يُحيي الموتى بمليون مليون مليون طريقة، أليس كذلك؟ فهنا تُوجَد احتمالات قائمة العقل قد يتصوَّرها، مُمكِن بالطريقة الفلانية ومُمكِن كذا ومُمكِن كذا، لا نعرف! فإبراهيم يُريد أن يتحصَّل على طمأنينة قلبية بحيث لا يتخالجه شك في مُعترَك اعتراك هذه الخلفيات مما يجعل الشك يتخالجه، فهو يقول ماذا؟ أرني الكيفية الحقيقية التي تصطنعها يا رب العالمين في إحياء الموتى لكي يطمئن قلبي، هل فهمتم ما المُراد بالاطمئنان هنا؟ ليس الاطمئنان بأصل الإيمان في المسألة هذه، لا! هو مُطمئن طبعاً، ولذلك حتى حين أراه الله أو بعد أن أراه الله كيف يُحيي الموتى لم يزدد إيماناً بقدرة الله على الإحياء، لم يزدد أبداً، وإنما ما الذي حصل؟ حصل عنده الاطمئنان لكيفيةٍ مُعيَّنةٍ، أي بالكيفية الفلانية يحدث الإحياء، هذا هو، وهذا كلام سديد جداً جداً.
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ ۩، لا يعنينا كما قال العلماء تحديد هذه الطيور، أي ما هي؟ غراب أو ماذا؟ هذا لا يعنينا، كائنات حية وينتهي الأمر، فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ۩، ما معنى فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ۩؟ قطِّعهن، فأخذهن فعلاً وذبحهن وقطَّعهن ومزَّقهن ونتف الريش ثم خلطهن في بعضهن البعض – الريش مع الدم مع الرجلين وإلى آخره، تخليط هكذا – ثم وزَّعهن على جبال، يُقال على أربعة أجبل – يُقال جبل وجبال وأجبل – أو سبعة أجبل، أي جبال، الله أعلم أربعة أو سبعة، على كل حال على أكثر من جبل، ثم أمرهن عن أمر الله أن يأتين، تعالي – مثلاً – أيتها الطيور، فسُبحان الله جعل كل ريش ينضم إلى ريشه، هناك ريش من الطير الفلاني وبقية الريش في الطير الفلاني، في الثالث – مثلاً – أو الرابع، وهكذا! فكل ريش ينضم على ريشه، ويأتي عنده الطير كاملاً إلا الرأس، فالرؤوس مع إبراهيم، فإذا أعطاه رأساً أُخرى يتأبى، يأبى! لا يرضى الطير، إذا أعطاه رأسه يركب عليه ويقف حياً أمام عينيه.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ۩، أصل العزة من ماذا أيها الإخوة؟ من المنعة والامتناع، الله مُمتنِع، لا يُمكِن لأحد ولا يُمكِن لشيئ أن يصل إليه تبارك وتعالى، لا يُمكِن لشيئ أن يخدشه وأن يخدش قدرته أو علمه أو حكمته، لا يُمكِن! لا يُمكِن لشيئ أن يُعجِزه، هذا معنى عزة الله، قادر على كل شيئ، وليس أحد من خلق الله قادر على أن يصل إليه بشيئ، أليس كذلك؟ هذه هي العزة، حَكِيمٌ ۩ في خلقه وفي شرعه، حَكِيمٌ ۩ في خلقه وفي أمره.
بعد ذلك قال مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۩، آية مشهورة، هذه الآية كان يُمكِن أن يقول بدلها – تبارك وتعالى – أن الذي يُنفِق يُضاعَف له عمله إلى سبعمائة ضعف، لكن بلا شك ترون أن هذا المثل أبلغ بكثير وأفعل، أدخل في التأثير في النفس الإنسانية من ماذا؟ مما لو قال فله سبعمائة ضعف، مثل مُعيَّن! لماذا؟ لأن هذا المثل فيه تصوير، ويُصوِّر بدقة أيها الإخوة معنى ماذا؟ الاستثمار والتربية، يُصوِّر بدقة معنى الاسثمار والتربية، أنت تعطي حسنة واحدة والله يُربيها لك، قال تعالى وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۩، ما معنى وَيُرْبِي ۩؟ قيل ويُنمي، وقيل ويُربّي، تخفيف يُربّي، يُربّي يُربي، كيف يُربّي؟ يُربّي كما تُربّي أنت ابنك، كما تُربّي فلوك أو مهرك قليلاً قليلاً، يسمن ويكبر ويكبر ويكبر، الله هكذا يُربّي لك الحسنة، أليس كذلك؟
في سُنن النسائي وعند الإمام مُسلِم في الصحيح أن رجلاً تصدَّق بناقة مخطومة، أي ما شاء الله هذه من أحسن ما يكون، ناقة جاهزة وحتى معها الخطام، أي الحبل الذي تُربَط فيه وتُزَم فيه موجود معها، قال هذه لله، فالنبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال له لتأتين – أي يا فلان – يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة، لماذا؟ لما في الصحيحين – في البخاري ومُسلِم – وغيرهما من رواية أبي هُريرة، قال – صلى الله عليه وسلم – الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعافٍ كثيرة، قال الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزيء به، إذن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، حتى يُوجَد تضعيف كثير، التضعيف لا يقف عند حدود السبعمائة كما عليه العلماء، حتى أكثر أحياناً – إن شاء الله – من سبعمائة، يزيد!
وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هُريرة قال – صلى الله عليه وسلم – مَن تصدَّق بعَدل تمرة أو بعِدل تمرة – وسوف نقول الفرق بينهما، ما الفرق؟ طبعاً يُقال لُغةً بمعنى عَدل الشيئ وعِدل الشيئ يعني مثله، وقيل لا، العَدل مثله من جنسه، والعِدل مثله من غير جنسه، الله أعلم، هناك خلافات بين علماء اللُغة الكبار – من مال طيب – في رواية في البخاري ولا يُرفَع أو لا يصعد إلى الله إلا الطيب، وفي رواية ولا يقبل الله إلا الطيب – أخذها الله – تبارك وتعالى – بيده ثم ربّاها له كما يُربّي أحدكم فلوه، ما الفلو هذا؟ المُهر بعد الفطام، المُهر – ابن الفرس – بعد أن يُفطَم الإنسان يكون مُهتَماً به لكي يصير بعد ذلك ربما للبيع وربما للجهاد، قال كما يُربّي أحدكم فلوه، هكذا! وأنت تصدَّقت بتمرة، يُمكِن أن تأتي يوم القيامة وهي جبل، فلله الحمد والمنّة، فهذا هو المثال، كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۩، إذن كم ؟ سبعمائة أصبحت، الحسنة بسبعمائة، لا إله إلا الله! وَاللَّهُ يُضَاعِفُ ۩، هذا معناها، التضعيف لا يقف عند سبعمائة، قال بعدها وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء ۩، بعض الناس يُمكِن أن يستمر التضعيف معهم، وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۩، واسع لا يقف في رحمته وفي عطائه وفي أنعامه وفي طوله عند حد مُحدَّد تبارك وتعالى.
۞ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۞
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى ۩، الأذى معروف، أن تسب السائل أو مَن تصدَّقت عليه أو تضربه أو تضرب في صدره أو تنتهره، هذا الأذى، والمنّ هو ماذا؟ الامتنان، تمنّ عليه بالعطية، أنا الذي أعطيتك يا كذا، أنا الذي فعلت كذا، اذكر فضلي عليك، اذكر كذا وكذا، وهذا من أسوأ ما يكون، ثواب الصدقة أيها الإخوة والأخوات لا يفي بماذا؟ بذنب المنّ، بسيئة المنّ، بالعكس! يصير المنّ أكبر من ثواب الصدقة فتهلك، وبعد ذلك تأتي – والعياذ بالله – في أسوأ حال، في صحيح مٌسلِم عن أبي ذر الغفاري قال: قال – صلى الله عليه وسلم – ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يُزكيهم ولهم عذابٌ أليمٌ، المنّان بما أعطى، أرأيت؟ يُمكِن أن تكون أعطيت صدقات ويا ويلك سوف تدخل جنهم بسبب هذه الصدقات لأنك تُعطي وتمنّ، تُعطي وتمنّ! لحم كتافه من خيري، هو كذا وكذا، هو يعرف وأنتم لا تعرفون، ما المّن هذا؟ أنت تُعطي لله، لا يُوجَد نظر ولا تُوجَد تزكية ويُوجَد عذاب أليم أيضاً، أي جهنم! قال المنّان بما أعطى، وهذا كان أولاً، ثانياً مَن؟ والمُسبِل إزاره، أي أهل الكبرياء، يلبس ثوباً لكي يتكبَّر به، وهذا ليس شرطاً، الآن يُمكِن أن يُسبِل أحدهم إزاره فيُعتبَر أهبل، لكن المُهِم ما هو الآن؟ الكبر، أليس كذلك؟ الآن يُمكِن أن تظهر عادة أو موضة مُعيَّنة تُفيد بأن الذي يكون إزاره إلى نصف رجليه – مثلاً – يكون مُتكبِّراً، هذا الكبر وهذه العنجهية، عنجهية نصف الكم هذا في الرجلين، مُمكِن! لا نعرف، المُهِم أن العبرة بالمقصود، المقصود الكبر والغطرسة على عباد الله، لذلك في الصحيح أن أبا بكر كان رجلاً خفيف العارضين – سيدنا أبو بكر الصديق كان خفيف العارضين – فكلما لبس ثوبه يسحل عنه فيُصبِح كالثوب المُسبَل، يجر رداءه، فقاله يا رسول الله هل أنا منهم؟ قال لست مِمَن يفعلها خُيلاء، قال له العبرة ليست بهذا، العبرة بالخُيلاء، إذا كان قصدك الخُيلاء فهذه مُصيبة طبعاً، لكن أبا بكر مُستحيل أن يقصد هذا، أبو بكر سيد المُتواضِعين بعد رسول الله، فهذا هو، والثالث مَن هو؟ انتبهوا يا معشر التجّار، والثالث المُنفِق سلعته بالحلف الكاذب، والله أحسن كذا وكذا، لن نقول أكثر من هذا، والله لا يُوجَد ما هو أحسن منه في السوق، والله كذا وكذا، إياك من والله هذه، إياك! بع من غير والله، وكُن صادقاً أيضاً، كُن صادقاً في البيع، هؤلاء ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يُزكيهم ولهم عذابٌ أليمٌ، وهذا في الصحيح، نسأل الله التوفيق والتسديد.
لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، قال وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ۩، ما معنى وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ۩؟ الخوف يكون من ماذا؟ مما يُستقبَل، أليس كذلك؟ إذن وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ۩ في الآخرة إن شاء الله تعالى، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩ على ماذا؟ على ما تركوا من الدنيا وزينتها وأولادهم وذُرياتهم، لا يُوجَد حزن على ما تركت ولا يُوجَد خوف مما تستقبل ويستقبلك إن شاء الله تبارك وتعالى.
۞ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ۞
قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ ۩: قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ۩ مثل ماذا؟ فتح الله عليك، رزقك ربنا ورزقنا إن شاء الله، دعوة أو كلمة طيبة، والله لو كان عندي لرضخت لك ولأعطيتك، ادع الله أن يُعطيني فأنا أُعطيك إن شاء الله، موعدة! تعده موعدة طيبة، وَمَغْفِرَةٌ ۩، لماذا قال وَمَغْفِرَةٌ ۩؟ للشحّاذ الذي أتى ومعه خنجر، شحّاذ وعيناه مُكحَّلتان كما يُقال، إذا لم تُعطه يُبهدِلك، يُمكِن أن يسبك، ألا تستحي الناس؟ تدّعي أنك كذا وكذا، لا أعطاكم الله يا بعداء، فيُمكِن أن تقول له أنت الآن أنه شحّاذ وتشتمه، لكن لا تفعل، الله قال هذا لا يهم، اغفر الله، الفقر أضر به قليلاً، أليس كذلك؟ أحياناً الفقر يكون أصعب من المرض، والإنسان الذي يكون مريضاً يكون خُلقه ضيقاً كما يُقال، أليس كذلك؟ المريض يكون خُلقه ضيقاً، لذلك الناس تعذر المريض ما لا تعذر الصحيح، تقول لا يهم فهو مريض، صحيح المرض يُضيِّق خُلق الإنسان والفقر أيضاً، الفقر يُضيِّق خُلق الإنسان، الإمام عليّ كان يقول عجبت لمَن لا يجد قوت يومه في بيته كيف لا يخرج شاهراً سيفه على الناس! قال أنا أتعجَّب من هذا، المفروض الإنسان الذي ليس عنده قوت يومه أن يخرج ويُذبِّح حتى في الناس، فالله ماذا يقول؟ انظر إلى الحكمة الإلهية في كلمة واحدة، قال وَمَغْفِرَةٌ ۩، تحمَّل منه، لو تطاول عليك ولو سب ولو لعن ولو دعا وما إلى ذلك لا يهم، قل له غفر الله لك، الله أعلم بالحال، اتركه!
خَيْرٌ ۩، أي أحسن، طبعاً كل خير وكل شر بمعنى ماذا؟ أشر وأخير، لكن هكذا للتسهيل يقولون خيرٌ وشرٌ، أي أخير وأشر، مُفاضَلة! خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۩، عرفنا ما الأذى، الأذى هو المنّ بالذات، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ۩، لماذا قال غَنِيٌّ ۩ هنا؟ هناك قال غَنِيٌّ حَمِيدٌ ۩، هنا قال غَنِيٌّ حَلِيمٌ ۩، لماذا قال غَنِيٌّ ۩؟ لا تتوهموا ولا تظنوا أنه بتشجيعكم وأنه بحثكم وندبكم إلى العطاء والصدقة أنه مُحتاج إلى صدقاتكم وأُعطياتكم، هو الغني عن العالمين أصلاً، وإنما كل مُراده – تبارك وتعالى – وغاية أمره في شرعه أن يُساوي بين الناس وأن يتواسى الناس، بحيث يواسي الغني الفقير، هذا الذي يُريده الله، وهذا لمصلحة الهيئة الاجتماعية، لا تظنوا أنه فعلاً يقترض منكم على وجه الحقيقة لأنه مُحتاج إلى أموالكم، كيف وهو الذي خلقها؟ كيف وهو الذي أنزلها من خزائن مُلكه تبارك وتعالى؟ مُستحيل، حَلِيمٌ ۩، يحلم ولا يُعاجِل بالعقوبة مَن تعدى أمره ومَن وقع في هذه المحظورات أو بعضها.
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ۞
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى ۩، تهديد هذا ووعيد، معناه أن فعلاً المنّ والأذى يُبطِل الصدقة، أليس كذلك؟ يُبطِل أجرها، فإذا ذهب بأجرها ماذا يبقى بعد ذلك؟ وزرها، وزر المنّ، وزر هذه الفعلة، أي وزر المنّ، يمنّ وعليه وزر، يمنَ وعليه أزر، ذهب أجر الصدقة، من زمن انتهى، من قبل سنوات! وهو الآن يعيش في وزر المنّ والعياذ بالله.
كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ ۩، ما معنى رِئَاء النَّاسِ ۩؟ من أجل أن يُري الناس، أنني أُعطي وأنني جواد وأنني كريم، هناك مِن الناس ما شاء الله مَن يشترط وضع رخامة على المسجد على نفقة المُحسِن الكبير، مُحسِن؟ وكبير؟ أيشهد لنفسه أيضاً ما شاء الله بالإحسان؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۩، مُحسِن أو غير مُحسِن، والكبير أيضاً! أي أنه مُحسِن عظيم، فلان ابن فلان الفلاني غفر الله وله وله وله، يا سلام على الرياء، جهل! هكذا الجهل يفعل أكثر من ذلك والله، لكن في المُقابِل هناك أُناس ما شاء الله لا يفعلون هذا، أنا سمعت عن بعض أمراء الخليج مثل ذلك، قال لي أخ في مركز ما شاء الله كبير ومُمتاز أن أميراً في الإمارات – كثَّر الله من أمثاله حقيقةً – قال أنا أتبرَّع – ولا أعرف يتبرَّع تقريباً بكم، أكثر من نصف المبلغ، ملايين الدولارات – لكن بشرط واحد، قالوا ما هو؟ قال ألا يعلم أحد باسمي، فأنا أفعل هذا لله، ولا يُكتَب في البروشور Brochure ولا في أي شيئ، لا أُريد أن يعرف أي أحد، أدفع لله فقط، قالوا مُمتاز، وهكذا دفع على هذا الشرط، هذا مُؤمِن عاقل، هذا عنده عقل كبير، أما الآخرون أصحاب الرئاء – أي الرياء – هؤلاء يقطعون نظرهم عن مُعامَلة الرب الجليل، ويجعلون كل النظر إلى مُعامَلة البشر الفقير – البشر الفقراء من أمثالهم – لقلة العقل.
وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ۩، ولو كان عنده إيمان حقيقي بالله واليوم الآخر لما قطع نظره عن مُعامَلة الرب لا إله إلا هو، وعنده الجزاء وعنده الوفاء، فضرب الله له مثلاً، قال فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ۩، صفوان كلمة مجموعة بالمُناسَبة، وقيل تأتي مُفرَدة، إذا كانت مجموعة فهي جمع ماذا؟ صفوانة، والصفوانة هي الحجر الأملس، أي الصفا، هي الصفا أو الحجر الأملس، وقيل صفوان يأتي مُفرَداً، ومعناه الحجر الأملس الصلد، كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ۩، حجر أملس صلد هكذا، عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ۩، ما الوابل؟ المطر الغزير، تخيَّل أنت صخرة صغيرة هكذا وعليها تراب ويأتي مطر غزير، في لحظة يذهب كل شيئ، يضمحل كل شيئ في لحظة، وكذلك تراب المُرائي، يذهب في لحظة، فهو يفعل من هنا ويُحبَط العمل من هنا، لماذا؟ لأن النية مدخولة، النية مدغولة من الأصل، فبسرعة يضمحل أجره، بسرعة يبطل ويحبط عمله، فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۩، أملساً، أي تركه أملساً، لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ۩.
۞ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۞
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۩، ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ ۩ واضح، أي الاحتساب، لكن ما معنى وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۩؟ أي أنهم مُتثبِّتون مُتحقِّقون أن الوفاء والجزاء عند مَن؟ عند الله، ولا يطلبونهما إلا مِن الله، هذا معنى التثبيت، التحقق وتثبت النفس من هذا المعنى، وضرب لهم مثلاً آخر، قال كَمَثَلِ جَنَّةٍ ۩، أي بُستان، الجنة هي البُستان، بِرَبْوَةٍ ۩، الربوة هي المكان المُرتفِع، أَصَابَهَا وَابِلٌ ۩، كما قلنا الوابل هو المطر، فَآتَتْ أُكُلَهَا ۩، أي ثمرها، ضِعْفَيْنِ ۩، كيف ضِعْفَيْنِ ۩؟ قياساً إلى نظائرها، أي حدائق من أمثالها تُؤتي خمسين وسقاً مثلاً، هي آتت كم؟ مائة وسق، بالقياس إلى نظائرها، جنات بقية الناس – ما شاء الله – كلها تُعطي خمسين لكن الجنة هذه تُعطي مائة، يُوجَد تضعيف هنا، فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۩، حتى لو أصابها المطر اللين – اسمه الطل، المطر اللين اسمه الطل، أي الرذاذ كما نقول نحن، رذاذ خفيف – أيضاً ستُؤتي أُكلها وهي مُبارَكة ومُثمِرة إن شاء الله، ليس شرطاً أن يكون ضعفين لكن الأجر موجود، الأجر على كل الأحوال موجود موجود، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۩، هذه في حق مَن؟ المُتثبِّتين الصادقين المُحتسِبين أجرهم عند رب العالمين – تبارك وتعالى – وحده من دون الخلق أجمعين، ثم قال – تبارك وتعالى – مثلاً عجيباً.
۞ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ۞
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ۩، ماذا عن هذه الآية الكريمة؟ في الصحيح أيها الإخوة – في صحيح البخاري – عن عبد الله بن عباس قال جلس عمر بن الخطاب – كان أمير المُؤمِنين – في جماعة من أصحاب رسول الله وقال لهم بعد أن تلا هذه الآية – أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۩؟ الآية تعلمون فيمَن أُنزِلت؟ قال فيمَن حتى ولم يقل فيما، قال فيمَن، والمفروض أنها نزلت في شخص مُعيَّن أو في بشر مُعيَّن، في ناس مُعيَّنين، في أشخاص مُعيَّنين ذوي صفات مُعيَّنة، فقالوا الله أعلم، وسألهم مراراً فقالوا الله أعلم، فغضب وقال قولوا نعلم أو لا نعلم، الله أعلم؟ الله أعلم في كل شيئ، هل نحن نسأل لكي تقولوا الله أعلم؟ الله أعلم، في كل شيئ الله أعلم، قولوا أتعلمون أو لا تعلمون، هنا قد يقول لي أحدكم لماذا عمر شديد؟ لماذا يقول لهم هذا؟ هذه كلمة طيبة، ومَن قال لا أعلم فقد أفتى، لكن انتبهوا لابد أن نُدقِّق والحديث صحيح، لابد أن نُدقِّق، لماذا؟ والله أعلم يكون وقع في ظنه ووهمه أنهم يمتنعون عن الإدلاء بالجواب مهابةً له، يقولون الله أعلم، هم يعرفون أو بعضهم قد يعرف لكنهم يخافون ولذا غضب، لا تقولوا الله أعلم، قولوا! الذي يعلم يقول، قولوا نعلم أو لا نعلم، فقام ابن عباس وهو أصغرهم، قال يا أمير المُؤمِنين في نفسي منها شيئ، أي عندي بعض الشيئ فهل يُمكِن أن أتكلَّم؟ قال قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك، إذن الذي خاف منه عمر فعلاً وقع، أن بعضهم يعرف ولكن تهيباً يقولون الله أعلم، لا يُحِبون أن يتكلَّموا في حضرة عمر، قل لنا أنت الجواب وينتهي الأمر وتسكت، لا يُحِبون أن يتكلَّموا في حضرته، ابن عباس اجترأ قليلاً وقال في نفسي منها شيئ، قال قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك، قال هي مثل، قال عمر نعم، لمَن؟ قال لعمل، قال أي عمل؟ قليلاً قليلاً يُعطيه ابن عباس، لأنه خائف يُعطيه قطرة قطرة، نحن قلنا ذكرنا في الدرس الرابع أن ابن عباس في الصحيحين – في البخاري ومُسلِم – مكث سنة كاملة – عاماً أيها الإخوة – يتهمم بسؤال عمر في مسألة ولم يستطع أن يسأله تهيباً منه، سنة كاملة يُحِب أن يسأله ولا يقدر على أن يسأل، فطبعاً كيف يتكلَّم ويُفتي قدامه ويُفسِّر القرآن الكريم؟ مسألة غير سهلة، فقال له هي مثل، قال له نعم، لمَن؟ قال له لعمل، قال له أي عمل؟ قال له لرجل عمل عملاً طيباً أو عملاً صالحاً، حتى إذا كان في آخر عمره آتاه الشيطان فاستزله فأغرق عمله، هذا هو الحديث، والمعنى أن عمر أيَّده على ذلك، هذا هو الصحيح، إذن ما معنى هذه الآية؟ مثل لمَن أيها الإخوة؟ مثل لرجل يكون عمل عملاً طيباً، لأنه قال لكم جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ۩، أليس كذلك؟ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۩، أي أنه قدَّم أعمالاً طيبة كثيرة، هل فهمتم كيف المثل؟ قدَّم أعمالاً طيبة كثيرة، لكن المُشكِلة أيها الإخوة أين؟ ولم يقل وله ذُرية ضعفاء وأصابه الكبر، ماذا قال؟ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء ۩، الكبر في الأول، هذا يعني أن ذُريته كانوا أطفالاً صغاراً، كانوا وُلداً صغاراً، وهو كبير السن، ما الذي حدث هنا؟ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۩، بادت واضمحلت ومحلت بالكامل، ما الذي حصل الآن؟ ليس عنده مُلك غيرها، لا يُوجَد! هذا كل ما عنده، أي هذه الجنة، انتهى كل شيئ، وأطفاله صغار لا يستطيعون أن يعودوا عليه بخير، وهو كبير مُتهدِّم لا يستطيع أن يغرسها مرةً أُخرى ويزدرعها، غير قادر، انتهى! لأنه كبير، مثال مُعبِّر ومثؤثِّر جداً، ولذلك أمثال القرآن إذا فُهِمَت تُؤثِّر تأثيراً بالغاً، لكن وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ۩، لابد أن يكون عند الإنسان علم ويتدبَّر، لذلك ألَّف بعض العلماء كُتباً بحيالها في أمثال القرآن فقط، يشرحونها ويتكلَّمون عنها باستفاضة، جيد جداً أن تُقرأ، فهذا هو.
إذن هو في مثل هذه السن لكبر سنه وعلوها وتهدمه وضعف أن يغرسها من جديد أو أن يزدرعها كرةً أُخرى، وأطفاله الصغار لا يستطيعون أن يعودوا عليه بعارفة، صغار! أطفال صغار، أي لحم كما يُقال، أعمارهم تصل إلى سبع سنوات وخمس سنوات وتسع سنوات وعشر سنوات، لا ينفع، إذن ما معنى هذا؟ ما النتيجة؟ أنه ضاع، انتهى كل شيئ، هذا مثل لمَن؟ لرجل – والعياذ بالله – يختم عمله بخاتمة سيئة، يأتيه الشيطان – كما قال ابن عباس – يستزله فيُغرِق عمله، يُضيِّع له كل شيئ، فيُلافي أو يأتي الله – تبارك وتعالى – يوم القيامة وليس عنده عمل صالح فيستعتب، ما معنى يستعتب؟ يطلب العتب من الله، أي يطلب أن يرضى الله عنه، وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ ۩، لا يُمكِن! ليس عنده عمل صالح فيستعب به، أي يترضى به الله، يا رب على الأقل عندي هذا الشيئ، الله سوف يقول له احترق، كل شيئ احترق، مثل الجنة التي احترقت عن آخرها، ليس عندك شيئ يقول له، كل عملك مُحبَط، لا إله إلا الله! وليس عنده أي شفعاء أو أحماء أو أوداء ينفعونه بشيئ، مثل الأطفال الصغار هؤلاء، لا ينفع أحدهم، فهذا مثال مُؤثِّر جداً، قال كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ۩، أي في الدنيا والآخرة، هذا هو المعنى.
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ۞
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ ۩، أي تقصدوا، ومنها التيمم، أي القصد، لا تقصدوا ولا تعمدوا إلى خبيث أموالكم وهو رذله، رذل المال هو خبيثه، إنسان عنده بُستان فبدل أن يُعطي التمر والبُسر الجيد يُعطي الحشف، الحشف البالي كما يُقال، غير جيد هذا، روى أبو داود والنسائي عن عوف بن مالك قال رأيت النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – وبيده عصا أو محجن يطعن في قنو حشف، لماذا؟ وهذه الآية ماذا قال عنها ابن جرير بإسناده؟ روى ابن جرير بإسناده عن البراء بن عازب، قال نزلت في الأنصار، هذه الآية نزلت في الأنصار، لماذا؟ كان أحدهم يأتيه بصدقته فيُعلِّقها على حبلٍ بين أُسطوانتي المسجد – مسجد الرسول، كانوا يضعون صدقات هناك، كل واحد يضع وحده، مَن يُحِب يضع -، فكان ربما أدخل في البُسر شيئاً من حشف، يظن أن ذلكم يغيب على الله تبارك وتعالى، أتُخادِع الله أنت؟ يضع هذا مع هذا وتسير الأمور، فأنزل الله هذه الآية في أمثال هؤلاء، وهذا طبعاً من عدم تمام العلم وحُسن النظر للنفس في الآخرة، فالمُهِم في حديث عوف بن مالك كان النبي يطعن بالمحجن أو العصا في هذا القنو من الحشف البالي التعبان هذا، ويقول أما إن صاحب هذه الصدقة كان يستطيع أن يتصدَّق بأحسن منها، أما إنه سيأكل يوم القيامة حشفاً، إذا قدَّمت حشفاً سوف تأخذ حشفاً، طبعاً يوم القيامة لا يُوجَد بُسر وحشف وما إلى ذلك، إذن ماذا يُوجَد؟ حسنات وسيئات وجنة ونار، حتى لما تدخل الجنة سوف تدخل في المنازل الدنيا، الله لن يُضاعِف لك الثواب كثيراً، قدَّمت حشفاً أنت، فربنا ضرب هذا المثال ليقول لنا لا ترضوا لي ما لا ترضونه لأنفسكم.
قال وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ۩، قال الحبر ابن عباس لو كان لك يا ابن آدم الحق على إنسان – والصدقة حق الله أم ليست حق الله؟ هي حق الله – وأعطاك إياه من الرذل – من رذل ماله – هل ترضى به؟ سوف تقول له لا، لا آخذ هذا، أعطني من أجود ما عندك، أليس كذلك؟ فإذن أنت رضيت لنفسك بما لم ترض بمثله لله تبارك وتعالى، الله يربأ بك، يربأ ويُعيذك أن تكون من هؤلاء، قال وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ۩، ما معنى تُغْمِضُواْ فِيهِ ۩،؟ أي تغضوا الطرف، تُحاوِلون أن تتعالوا وتقولوا نعم نأخذه، لكن في الحالة العادية أنتم لا تأخذونه، تأبون أن تأخذوه، وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ ۩، نفس الشيئ، غَنِيٌّ ۩، هو لا يحتاج، وهذا التشجيع والتحفيز ليس لأنه يحتاج، لكن للمعنى الذي ذكرنا، حَمِيدٌ ۩، ما معنى حَمِيدٌ ۩؟ يحمد أصحاب الصدقات وأصحاب العطايا الجيدة الحسنة ويُضاعِف لهم.
۞ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۞
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء ۩، مع وعده إياكم الفقر – والعياذ بالله تبارك وتعالى – يأمر بالفحشاء، لماذا يعدنا الفقر؟ لماذا؟ ما سر علاقة هذه الآية بالآية التي سبقت؟ لكي نُمسِك ما بأيدينا، لا تُعط، لا تُعط حتى لا تُفلِس فيما بعد، ماذا ستترك لأولادك ولزوجتك؟ عندك مشروع وعندك كذا، يظل يحكي لك كلاماً مثل هذا، هذا من وسوسة الشياطين، يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ۩، هذا هو فعلاً، وهذا موجود في المُسلِمين بالمُناسَبة، أمس الحمد لله – نُبشِّركم – تقريباً جمعنا للإخوة في بافاريا أكثر من أربعة آلاف يورو، الحمد لله، لكن أنا رأيت بعيني – لم أحص ولم أرد أن أرى هذا – رجلاً رمى هكذا ألفاً – خمسائة وخمسائة – أو ألفاً وخمسمائة – رجل واحد – فقلت سُبحان الله، كيف يتفاوت البشر؟ هناك رجل يُعطي ألف وخمسمائة وهناك أُناس لا يُعطون أي شيئ، لا يُعطون حتى عشرين يورو، سُبحان الله! كل هذا عند الله، رجل يُتاجِر مع الله ورجل لا يُحِب أن يُتاجِر مع الله ولا يهمه هذا، يُتاجِر فقط في الدنيا للأسف، فالمُهِم قال ماذا؟ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ۩، لكي تُمسِكوا ما بأيديكم وتبخلوا وتكزوا، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث المشهور إن للشيطان لمةً بابن آدم وإن للملك لمةً بابن آدم، فلمة الشيطان إيعادٌ بالشر وتكذيبٌ بالحق، إذا أطاف بك الشيطان – يُقال طاف وأطاف به – وجاءك ليُوسوِس لك بماذا يُوسوِس لك؟ بالشر، سوف يحدث لك وكذا، سوف تموت، سوف يقع لك حادث، ماذا سترتك لأولادك إذا حدث لك كذا؟ ماذا سيحدث لو وقع لك كذا؟ ماذا سيحدث لو سُجِنت يا مسكين؟ ماذا سيحدث لو غرقت أموالك أو حرقت؟ ماذا سيحدث لو خسرت تجارتك؟ ماذا سيحدث لو وقع كذا وكذا؟ خمسون ألف شيئ لكي يجعلك تبخل، أرأيت؟ هذا كله إيعاد بالشر طبعاً وفقر وتكذيبٌ بالحق، وحتى في هذه الأبواب هناك حق، أن الرزق بيد الله، أن الرزق مقسوم، أن الذي يُتاجِر مع الله دائماً هو الرابح، أن الذي يُعطي الله سيُخلِف عليه، أليس هذا حق؟ يجعلك تُكذِّب به وتتشكك فيه، هذا هو، فلمة الشيطان – والعياذ بالله – إيعادٌ – أي وعد، فهو يعدك – بالشر وتكذيبٌ بالحق، ولمة الملك إيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحق، فمَن وجده ذلك فليعلم أنه من عند الله وليحمد الله – إذا عنده هذه النفسية وما شاء الله يقول لك أُعطي وربنا سوف يتكفَّل ولا يهمني شيئ، كالغني الذي حدَّثتكم عنه في الدرس الرابع، أليس كذلك؟ الذي تبرَّع أول مرة بكل أمواله ثم فتح الله عليه فتوح الأغنياء المُتموِّلين، عنده يقين الرجل، الملك يطيف به كثيراً ما شاء الله، عنده ملك رحيم يعينه على البر وعلى الخير، اللهم اجعلنا مثله، هكذا! – ومَن وجد الأُخرى فليستعذ بالله من الشيطان، يفهم أن هذا من الشيطان الرجيم، فهذه لمة الشيطان وهذه لمة الملك، وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۩.
۞ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ۞
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۩، الحكمة هنا يُمكِن أن تُفسَّر بالسياق، لا يُمكِن أن نُفسِّرها بالسُنة النبوية هنا، مُستحيل، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ ۩ بمعنى ماذا؟ الفهم في الدين، سداد في الفهم والقول والرأي في الدين على عمومه ويدخل فيه معانٍ كثيرة جداً جداً جداً، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ۩، الذين لهم عقول وأفهام يفهمون عن الله – تبارك وتعالى – كلامه ومقاصده.
۞ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ۞
وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ ۩، يوم القيامة طبعاً، مِنْ أَنصَارٍ ۩.
۞ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ۞
إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ ۩، أخير، إذن أي الأمرين أفضل: إظهار الصدقات أو إخفاؤها؟ إخفاؤها بنص الآية، إن أخفيتها فهو خير، وقلنا خير هذه صيغة ماذا؟ تفضيل، أي فهو أخير لكم، أحسن! كأنه قال أحسن، فهو أحسن لكم، لكن هذا أيها الإخوة من حيث الأصل، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الذي خرَّجاه في الصحيحين من رواية أبي هُريرة سبعة يظلهم الله في ظله، وفي آخرهم ورجلٌ تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، لا زوجته ولا ابنه ولا صديقه ولا شيخه ولا أي أحد يعرف، والناس يقولون والله هذا بخيل، لا نرى أنه يتصدَّق، وهو يفرح، يقول الحمد لله، يقولون عني بخيل، هذا مُمتاز، الله وحده الذي يعرف ماذا أفعل، وهذا أيها الإخوة يُثبِّت الإيمان في القلب بشكل غير عادي، بعض الناس يتململ إذا فعل شيئاً – والله يعرفه يا أخي ويُعطيك فيه لذة الإيمان – ورأى أن الناس تفتخر لأن الناس ما شاء الله عندهم هذا الشيئ، يقول الواحد منهم والله الحمد لله أنا أعطيت كذا وكذا، تعوَّدوا على هذا، تعوَّدوا على هذا وسيهلكون دون أن يدروا المساكين، هذا بسبب الجهل في الدين، يقول أنا الحمد لله تصدَّقت في هذا اليوم – والله – بمائتين يورور بفضل الله، كلما قالوا لي أعطنا أُعطي، لا أتأخَّر والحمد لله، والله يخلف علىّ، يا رجل ما هذا؟ أنت جاهل، اسكت! تُضيِّع أجرك وأنت لا تدري يا أخي، جهل هذا، جهل غليظ جداً، وهذا المسكين الذي أعطى ولم يتكلَّم يتململ، يُصبِح هذا صعباً عليه، كلكم تعطون؟ الشيطان يقول له قل، قل أنك أعطيت ألفين، ومن ثم يقول فيضيع الأجر، ينقص الأجر مثل العدّاد، سوف تظل تقول حتى يُصبِح صفراً في النهاية، ويبدأ بالناقص Minus فيما بعد عليك، أليس كذلك؟ سوف تمنّ بشيئ فعلته وانتهى أجره من زمن، لكن لا تهتم بالناس، بالعكس ينبغي أن تكون سعيداً أكثر إذا قالوا هذا بخيل ولا يُعطي، يُقال لك يا رجل الله أعطاك وأنت تُمسِك يدك فتقول لا يهم، سيفتح الله علىّ وإن شاء الله سأعطي فيما بعد، وأنت تُعطي أكثر منهم، هذا الصحيح، هذا هو، وهذا هو الإيمان، وهنا تشعر بعظمة الإيمان في قلبك كالجبل ما شاء الله، والله يُعيطك شيئاً في الداخل لا يُوصَف ولا يُقادر بإذن الله تعالى.
تعرفون قصة زين العابدين، زين العابدين كان يُبخَّل، ابن الحُسين، ابن الإمام عليّ، أي ابن رسول الله، الإمام زين العابدين اسمه زين العابدين، فعلاً من كثرة عبادته، كان يُصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، كل يوم وليلة! شيئاً عجيباً كان عليه السلام، ولكن الناس ماذا يقولون؟ مُمتاز وفيصح وكل شيئ لكنه بخيل قالوا، فيه صفة واحدة تشنأه وهي أنه بخيل، وهو كان يفرح بهذا، يقول بخيل، صح بخيل، لما تُوفيَ علم الناس أنه ليس بالبخيل، كان يكفل من حُر ماله مائة أُسرة من أُسر المدينة، ولا يعرف أحد هذا، حتى أبناؤه – الإمام الباقر وغيره – لا يعرفون، لا يعرف أحد من أبنائه أن أباهم كان يكفل مائة أُسرة، لكن بعد أن تُوفيَ وغسَّلوه وجدوا مثل الأخدودين في ظهره من حمل الأجربة في الليل، يظنون أنه يذهب إلى المسجد لكي يُقيم الليل لكن هو كان يتخفى ويتبردع ويُعطي ما يحمله على ظهره لمائة بيت، كل ليلة يُعطيهم طعاماً وشراباً وما إلى ذلك باستمرار، وعاش ومات ويُقال عنه هو البخيل، لكن لا يهم، هذا هو الإيمان، أرأيتم؟ مُكتفٍ بالله هو، لا يهتم بالناس، ماذا تُعطي الناس؟ لا نُريد شيئاً من الناس، اللهم أقدرنا على ذلك أو على بعضه يا رب العالمين.
على كل حال إذن أيها الإخوة من حيث الأصل النبي – عليه السلام – يقول الجاهر – أي المُجاهِر – بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمُسِر بالقرآن كالمُسِر بالصدقة، ومَن الأفضل طبعاً؟ المُسِر، لا تُوجَد مُشكِلة، هذا من حيث الأصل، لكن أحياناً لاعتبارات ودواعٍ مُعيَّنة مع حُسن النية وحُسن القصد – إن شاء الله تبارك وتعالى – مُمكِن يكون إظهار الصدقة أفضل، أحياناً! كيف؟ أنا سأقول لكم مثالاً وهو مثال واقعي، هناك – ما شاء الله – أغنياء ونحن نحتاج إلى أموالهم، أليس كذلك؟ نحتاج أن نُربّيهم، أليس كذلك؟ نُربّي في الواحد منهم الإيمان والتقوى، نحتاج أن نُعمِّر لهم آخرتهم، لأنهم مساكين لا يعلمون، هم أساتذة كبار جداً مُتخصِّصون في عُمران الدنيا، يعرف الواحد منهم كيف يأتي بالمال من الحائط كما يُقال، إذا لمس الحائط أتى بالمال منه، فهم تجّار كبار يعرفون هذا، عندهم هذه القدرة، جيد! هذا أستاذ في عُمران الدنيا، نحن نُريد أن نُحاوِل أن نُعمِّر له آخرته إن شاء الله، نُريد أن نُنقِذه من نفسه، نُريد أن نُكبِّر له أُفقه الديني، وهو لم يدرس هذا ولا يعرفه، مسكين! وغني آخر مُسلِم واعٍ فاهم، من أهلم العلم والحكمة، ماذا يفعل وهو غني مثله؟ يأتي أمامه ويتبرَّع، هذه عشرة آلاف يورو أو هذه مائة ألف يورو للمشروع الفلاني، طبعاً هؤلاء ما الذي يُحرِّكهم؟ النخوة الجاهلية، الحمية الجاهلية، الحكاية تتعلَّق بالكرم، الحكاية تتعلَّق بالجود، الحكاية تتعلَّق بعدم الاهتمام بالمال، فيقول أنا سأدفع مائة وخمسين، أي أنه يُزوِّد، وليس الله في نيته بالمرة هو، سأُعطي مائة وخمسين ألف، جيد! هات المائة والخمسين ألف فنحن نحتاجهم الآن، نأخذهم منه، وبعد ذلك هذا سوف يكون مدخلاً للعطاء، يده فُرِدَت قليلاً، أليس كذلك؟ بدأت تُعطي، كان يُعطي قبل ذلك للمسارح والمُغنيات والرقّاصات، والآن بدأ يُعطي للمشاريع الإسلامية، جيد ومُمتاز، بعد ذلك نبدأ نُسمِعه المواعظ في أجر المُتصدِّقين وأجر مَن أعطى لله وكذا وكذا، ونُسمعه دروساً مثل هذه في الرياء والنفاق وإحباط العمل، ومن ثم سوف يقول لا، ما دمت سأعطي في كل الحالات – بدأ يفهم – سأُعطي وأُتاجِر مع الله، وبالتالي نستدرجه – إن شاء الله – إلى الخير خُطوة خُطوة، ويُؤجَر المرء رغم أنفه – إن شاء الله – كما قال الرسول، فهو أحياناً يُؤجَر رُغم أنفه، فمثل هذه الاعتبارات هامة، هذا الغني الذي أعطى لكي يُشجِّع إخوانه الكازين من الأغنياء فقط بهذه النية – إن شاء الله – يكون إعطاؤه الصدقة وإظهاره للصدقة أحسن من أخفائها، أليس كذلك؟ حسب النية، المسألة تتوقَّف على النية، لكن تحتاج إلى مُحاسَبة شديدة وتنقير شديد للنفس.
۞ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ۞
لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء ۩، سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس – رحمة الله عليه – قال كان أصحاب محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام – يتحرَّجون أن يرضخوا لأقاربهم من المُشرِكين، ما معنى يتحرجون أن يرضخوا؟ يتحرجون أن يُعطوا ويُنفِقوا، يقولون أنُنفِق على أقاربنا من المُشرِكين؟ مُشرِكون وكفّار هؤلاء، فأنزل الله تعالى لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ ۩، أنتم تُنفِقون والنية معروفة عند الله، أنفقوا وأعطوا حتى قراباتكم من المُشرِكين الله قال، لا بأس! وهذا المعنى صحيح، في البخاري – في كتاب الهبة من صحيح البخاري – باب الهدية للمُشرِكين، معروف هذا، وأيضاً في كتاب الهبة من صحيح البخاري وفي مُسلِم أيضاً – حديث في الصحيحين – عن أسماء بنت أبي بكر الصديق – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما – قالت يا رسول الله إن أمي جاءتني – في المدينة، يُقال بعد الحُديبية، وطبعاً هذا بعد الحُديبية، جاءت زائرة – وهي راغبة، اختُلِف في تفسير راغبة، قيل راغبة عن دين قومها وراغبة في الإسلام، لكن هذا ضعيف جداً جداً، وقيل راغبة أي في النول والعطاء، أي طامعة في بعض المال، تُريد شيئاً المسكينة، يبدو أنها افتقرت، قالت إن أمي جاءتني وهي راغبة، أفأُعطيها؟هنا قد يقول لي أحدكم كيف لا تُعطي أمها وهي ابنة أبي بكر؟ أمها كانت مُشرِكة وهي قُتيلة وقيل قَيلة وقيل قَتلة بنت عبد العُزى، واختُلِفَ في إسلامها، تعرفون أن سيدنا أبا بكر تزوَّج أربع نساء، ثنتين في الجاهلية وثنتين في الإسلام، تزوَّج قُتيلة هذه وتزوَّج أم رومان وتزوَّج أسماء بنت عُميس بعد جعفر بن أبي طالب وتزوَّج السيدة حبيبة بنت خارجة التي ولدت له السيدة أم كلثوم وهي تابعية لأنها لم تر الرسول بل وُلِدَت بعد وفاة أبيها أبي بكر، وأبو بكر تنبأ بها، ولما أراد أن يقسم التركة بحسب القرآن والسُنة ماذا قال؟ قال للسيدة عائشة إنما هما أخواكِ وأختاكِ، لأن هو عنده ثلاث أبناء: عبد الله، عبد الرحمن، ومحمد، عبد الله مات في السنة الحادية عشرة في خلافة أبي بكر، ظل مَن؟ عبد الرحمن ومحمد، أليس كذلك؟ قال وأختاكِ، وأبو بكر كان عنده ثلاث بنات، أليس كذلك؟ عائشة، أسماء، وأم كلثوم، لكن حينها أم كلثوم لم تكن موجودة، فقالت له يا أبتِ، تقول أخواكِ وأُختاكِ! أخواي أعرفهما، فمَن هما أختاي وليس ثمة إلا أسماء؟ قال ذات بطن بنت خارجة، ما معنى ذات بطن بنت خارجة؟ حبل بنت خارجة، اللي في بطنها هذا، مَن بنت خارجة؟ حبيبة هذه، حبيبة بنت خارجة هي حامل وإن شاء الله – قال لها – سوف تُنجِب بنتاً، كان يعرف هذا، الله ألهمه هذا الشيئ، هذا من إلهام الله، وفعلاً ولدت بعد وفاته وأنجبت السيدة أم كلثوم، المُهِم القصة أن قُتيلة بنت عبد العُزى زوجة أبي بكر وهي أم أسماء بالمُناسَبة، إذن هل أسماء أخت عائشة الشقيقة؟ لا، أختها لأبيها، أليس كذلك؟ أسماء بنت قُتيلة، وعائشة بنت مَن؟ بنت أم رومان، على كل حال قالت أفأُعطيها؟ أفأصلها؟ قال نعم، صلي أمكِ، إذن النبي رخَّص – والحديث في الصحيحين – للمُسلِمة أن تصل قريبتها أو أمها الكافرة، هذا المعنى مُتفَق عليه – إن شاء الله تعالى – من حيث الأصل أيضاً، فالله قال ماذا؟ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ ۩، لكن قال أيضاً وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ ۩، هذه جُملة خبرية، الله يُخبِر ويقول كل شيئ تنفقونه أنتم تبتغون به وجه الله، هذه مدح للمُؤمِنين، هذه مدح للمُتثبِّتين، مدح لأصحاب الإخلاص والصدق، تقول الآية من شأن المُؤمِن أنه لا يقصد بالنفقة إلا وجه الله، آية بليغة هذه فانتبه، آية وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ ۩ آية شرطية أو اشتراطية، أليس كذلك؟ لكن هنا ماذا يقول؟ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ ۩، أي والذي تُنفِقونه أنتم ما تُنفِقونه إلا ابتغاء وجه الله، مدح كبير للمُؤمِنين هذه!
۞ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ۞
لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۩، مَن هم الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۩؟ المُهاجِرون الذين تركوا دورهم وأرضهم وأموالهم بمكة وأتوا المدينة ولا شيئ لهم، الله سماهم ماذا؟ الفقراء المُحصَرين في سبيل الله.
لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ ۩، ما هو الضرب في الأرض؟ السفر، في النساء وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا ۩، الضرب في الأرض هو ماذا؟ السفر.
يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ ۩، ما هو التعفف؟ التعفف هو التجمل في المظهر وفي السلوك والأفعال وعدم إظهار شُبهة الفقر، حين تراه تقول يا أخي مُستحيل، هل هذا فقير؟ ما شاء الله يلبس جيداً وهو مُهندَم في هيئته، أهذا فقير؟ مستور بثوبه، وفي البيت ربما لا يجد خبزاً لكي يأكله، هناك أُناس أعفاء، قال ماذا؟ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ۩، أتاكم قولي في السيمة، أليس كذلك؟ إذن السيمة ليست مسألة ظاهرية، وإلا كيف حسبهم الجاهل أغنياء؟ ليست مسألة ظاهرية السيمة، مسألة باطنية يعرفها أهل الله – تبارك وتعالى – الذين عندهم قدرة على الإلهام والتفرس، إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم، حين يراه يقول لا، أشعر أن هذا الرجل المسكين ينطوي على فقر وإن كان ظاهره الغنى، وحين يذهب يتفقده يجد أن باطنه – والعياذ بالله – باطناً أزرى به، أجهد الفقر.
قال تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۩، ما هو الإلحاف؟ الإلحاح، أليس كذلك؟ الإلحاح، أي لا يُلِحون في المسألة، وهنا قد يقول لي أحدكم هذا يعني أنهم يسألون إذن، لكن لا، الأصل هنا لا يسألون الناس أصلاً، هذا باب من البلاغة عجيب جداً ونادر جداً، لن نشرحه وقد شرحناه في مرات عديدة، لكن المعنى الصحيح أنهم لا يسألون الناس أصلاً، الله قال لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۩، لأن الإنسان إذا اعتاد أن يسأل قد يُلحِف، ماء وجهه كما يُقال يغور بعد فترة فيتبلَّد، والنبي لم يكن يُحِب لأصحابه كثرة المسألة أو حتى المسألة من غير حاجة أو من غير ضرورة، روى الإمام أحمد وغيره عن أبي سعيد الخُدري قال سرَّحتني أمي إلى رسول الله – عليه السلام – لأسأله، أي قالت له اذهب واسأله، فقراء ليس عندهم الكثير، قال فقدت له في الطريق، أي جلست في الطريق لكي أسأله، فلما رآني استقبلني وقال مَن يستغني يُغنِه الله، انظر إلى هذا يا أخي، وحي! سُبحان الله وحي، كيف عرف؟ يعرف أنه يُريد مالاً، فالنبي علَّمه وقال له مَن يستغني يُغنه الله، وأبو سعيد من صغار الصحابة كما تعرفون، ولذلك رُدَّ في أُحد، استصغروه! وطبعاً لأبيه صُحبة، هذا معروف، مَن هو أبوه؟ مالك بن سنان، أبو سعيد هو سعد بن مالك بن سنان، وأخته الفارعة أو الفُريعة، على كلٍ استُصغِر في أُحد فرده النبي، كان صغيراً، من صغار الصحابة، فقال له مَن يستغني يُغنِه الله، ومَن يستكفي يكفِه الله، ومَن يستعفي يُعفِه الله، ومَن سأل وعنده مقدار أوقية فقد ألحف، النبي أعطاه حد الإلحاف، إذا عندك مقدار أوقية وسألت فهذا يعني أنك ألحفت في المسألة والإلحاف غير جيد، قال فقلت لنفسي – لم يتكلَّم معه أبداً، يسمع فقط، سُبحان الله وحي – ناقة الياقوتة أكثر من أُوقية ولم أسأل، قال عندي ناقة اسمها الياقوتة وهذه أكيد أكثر من أُوقية، هيا عُد إلى بيتك يا أبا سعيد، عليه الرضوان والرحمة، كانوا حسّاسين، عندهم حسّاسية بالغة جداً، يُوجَد أدب، أدب! يفهمونها وهي طائرة كما يقولون، ثم أنه طبَّق مُباشَرةً، النبي لا يُحِب الإلحاف ولذا لن نُلحِف، لأن عندنا ياقوتة، وياقوتة هذه أكثر من أُوقية، ناقة! قال فقلت في نفسي ناقة الياقوتة أكثر من أُوقية ولم أسأل، قال لم أسأله وانطلقت، أي ذهبت، عليه الرضوان والرحمة.
وفي الصحيحين أيضاً عن حكيم بن حزام – تعرفونه، قريب خديجة هذا الذي أهداه زيد بن حارثة، وهذا رجل مُعمَّر، عاش في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين سنة، وهو واحد من ثلاثة عاشوا كذلك، ثلاثة في الإسلام عاشوا مائة وعشرين سنة، ستين في الجاهلية وستين في الإسلام، هذا منهم، حكيم بن حزام صحابي جليل ورجل نبيل – أنه قال طلبت من رسول الله فأعطاني، أي من الفيء والغنائم وما إلى ذلك، قال ثم طلبت منه فأعطاني، ثم طلبت منه فأعطاني، قال ثم قال لي يا حكيم إن هذا المال حُلوة خضرة ومَن أخذه بغير شرف – وفي رواية بغير استشراف نفس لم يُبارَك له فيه، إذا أتاك هكذا – الله بعث لك إياه والنبي قال لك خُذ – فخُذ ولا شيئ عليك، لا شيئ عليك فيه، إلى آخر الحديث، الحديث طويل لكن المُهِم والعجيب أن حكيم بن حزام لما نهاه النبي عن المسألة قال والله يا رسول الله لا أرزأ أحداً بعدك، رزأه تعني نقصه، أي لن آخذ بعد ذلك من أي واحد أي شيئ، تُوفيَ رسول الله – ذهب إلى ربه حميداً مجيداً – وجاء أبو بكر لكي يعطيه نصيبه في القسمة الشهرية – عنده راتب شهري مثل كل المُسلِمين – فقال لا، لا أُريد لا حاجة لي، فقال له يا حكيم احتمل، هذا نصيبك، فقال له لا أُريد، لا أُريد أن آخذ هذا الشيئ، انتهى! لا أُريد، عندي ما يكفيني، ولم يأخذ! جاء عمر بن الخطاب وقال له يا حكيم كذا وكذا، فقال له لا، قال له يا حكيم كذا وكذا، قال له لا، لا أُريد، ومات ولم يأخذ أي شيئ، من مرة واحدة وبكلمة واحدة قالها النبي انتهى كل شيئ، أرأيتم كيف انتصر النبي؟ هؤلاء رجال يا أخي غريبين جداً كانوا، رجال ندرة، الآن هناك مَن يقول يا ليتني كنت في زمان النبي، لو كنت في زمانه لكنت صعلوكاً، كيف تقول يا ليتني كنت في زمان النبي؟ نحن نغتر بأنفسنا، يقول الواحد منا والله يا ليتني كنت في زمان النبي لفعلت كذا وكذا، لكنك لن تفعل شيئاً، اسكت واحمد ربك أنك في زمان جورج بوش George Bush، اتق الله وجاهد، جاهد في سبيل دينك وانصر أُمتك، أليس كذلك؟ أنت في زمن أبي جهل القرن العشرين، جاهد وقف ودافع عن دينك لآخر رمق إن شاء الله تعالى، أليس كذلك؟ هذا هو على كل حال.
۞ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۞
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، هذه كلها واضحة إن شاء الله تعالى، سنُحاوِل أن نختم البقرة اليوم في ربع ساعة قادمة.
۞ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۞
آية الربا، الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۩، ما معنى لاَ يَقُومُونَ ۩؟ أي لا يأتون يوم القيامة، هذا معنى لاَ يَقُومُونَ ۩، لا يأتون يوم القيامة إلا كالذي يتخبَّطه الشيطان من المس، مَن هو هذا؟ المخنوق المصروع، كيف تكون حالته؟ شيئ عجيب، ويرمي بالزبد ويختبط ويلتبط كما يُقال اختباط والتباط، هكذا! ولذلك يُبعَث المُرابي يومالقيامة كالمجنون يُخنَق، ابن عباس يقول يُبعَث كالمجنون يُخنَق، كالذي يركبه جن أو شيطان ويكون مختوقاً والعياذ بالله، وضعه سيئ جداً جداً، نعوذ بالله من هذا.
روى ابن ماجة عن أبي هُريرة قال: قال – صلى الله عليه وسلم – الربا سبعون حوباً – ما هو الحوب؟ الإثم، ويقصد النبي الباب من الإثم، أي أن الربا سبعون باباً من الإثم والعياذ بالله – أيسرها كأن ينكح الرجل أمه، الربا خطير جداً جداً جداً، أيسرها – أقل باب منها – كأن ينكح الرجل أمه والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۩، انظر إلى أي مدى بلغت المُباهَتة، قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۩، لو قالوا الربا مثل البيع لكانت هذه نصف مُصيبة، لكن هم ماذا قالوا؟ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۩، كأن الربا هو الأصل وكأنه حلال زلال وهو سبيل الاستثمار والاتجار، قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۩، ولم يقولوا الربا مثل البيع، شيئ عجيب! فرد الله عليهم بقوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۩، ليس الربا من البيع بسبيل، سبيل البيع شيئ وسبيل الربا سبيل أُخرى، شيئ مُختلِف تماماً.
قال تعالى فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ ۩، الموعظة من الله ما هي؟ الأمر والنهي، الوعد والوعيد، فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ ۩، أي أمسك وترك، فَلَهُ مَا سَلَفَ ۩، ما معنى فَلَهُ مَا سَلَفَ ۩؟ كل ما أخذه من الربا في الجاهلية وأكله وتموَّله لن نتكلَّم فيه، الله قال عفا عما سلف، لكن الآن بعد أن نزل النص وحرَّم الله الربا ممنوع، هنا قد يقول لي أحدكم هذا في الجاهلية، الآن في الإسلام رجل كان يتعامل بالربا ونزلت الآية هل له الحق أن يأخذ الربا لآخر مرة؟ لا، ممنوع، انتهى! ولذلك أيها الإخوة التي ستلي بعد قليل نزلت على هذا السبب، جماعة من الأنصار في المدينة المُنوَّرة اختلفوا، وقد كانوا يتعاطون بالربا ولبعضهم على بعض دينٌ بالربا، فقالوا أعطونا أموالنا بالربا، وبعد ذلك سوف نلتزم، فقالوا لا، لقد جاء الإسلام بتحريم الربا، والله لا ندفع الربا إلى أحد، لا! لماذا نُعطي الحرام هذا؟ فاختصموا إلى رسول الله، فأنزل الله ماذا؟ الآية التي ستأتي بعد قليل، ممنوع، لا يُمكِن! تأخذ دينك ولا يزيد فلساً واحداً، لكن في الجاهلية الأمر مُختلِف، ولذلك قالوا هنا يُمكِن أن نأخذ فتوى، مثل الذي وقع لأخينا يوسف إسلام، هذا الرجل كان يأكل من حرام طبعاً بحسب دينه – لأنه كان نصرانياً طبعاً – من الغناء والموسيقى والكلام الفارغ هذا وتموَّل أموالاً كثيرة ثم أسلم، ما الفتوى إذن في أمواله؟ الصحيح أنها حلال زلال وتبقى له، لا تُوجَد أي مُشكِلة لهذه الآية وهي في الربا وليس في الكسب من الغناء، أسوأ شيئاً الربا، وهو الذنب الوحيد الذي آذن الله مُرتكِبه ومُتعاطيه بماذا؟ بالحرب، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۩، أي أنه ذنب عجيب.
إذن هذا معنى فَلَهُ مَا سَلَفَ ۩، وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ ۩، أي إلى الربا، فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۩.
۞ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ۞
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۩، ما معنى يَمْحَقُ ۩؟ يُبيد ويُهلِك، قيل في الدنيا، وفي الحديث عن ابن مسعود مرفوعاً قال – صلى الله عليه وسلم – الربا وإن كثر فعاقبته إلى قُل، قال الربا وإن كثر فعاقبته – أي مصيره ومآله ومرجعه، إلى ماذا؟ – إلى قُل، محق والعياذ بالله، دمار فعلاً، عاقبته دمار الربا، حتى على مُستوى الدول، الدول العُظمى مثل أمريكا وغيرها تُصاب كل فترة وفترة بكساد، كساد – Depression – كبير، يٌسمونه الكساد العظيم، وقع في الثلاثينيات، بسبب الربا، والآن هي أصلاً في حالة كساد حقيقي بسبب الربا، وهو خلل ليس هيكلياً، هو خلل بنيوي – Structural – حقيقي، لماذا؟ لأن هذا النظام الربوي بنيوياً هو فاشل، دمار! الله تأذَّن بالحرب، قال يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۩، ما معنى وَيُرْبِي ۩؟ ويُنمّي – كما قلنا – أو ويُربّي كما في الحديث عن أبي هُريرة في الصحيحين، وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ۩، أثيم في القول والفعل، كفّار في القلب، قلبه كفور ولسانه وفعله أثيم والعياذ بالله، هذا معنى الآية.
۞ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۞
ثم مدح الذين آمنوا فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، هذه واضحة.
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۞
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۩، هذه نزلت فيمَن حدَّثناكم عنهم من الأنصار.
۞ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ۞
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۩، قال ابن عباس يُؤتى بالمُرابي يوم القيامة ويُقال له قُم خُذ السلاح وهلم إلى الحرب، تعال حارب ربك، والله قال سوف أؤذنك بحرب، كما يُروى عنه أعتقد من طريق العوفي – أي ابن عباس – رواية اُخرى، أنه قال – عليه الرضوان والرحمة – لولي الأمر – أي الخليفة أو الوالي أو أمير المُؤمِنين – أن يعظ مَن يتعامل بالربا – أي ينهاهم ويزدجرهم – فإن لم يفعلوا كان له قتلهم، فكأنه أراد أن يحد فيه حداً، لكن اتفاق الأمة وإجماع الأمة على أنه ليس في الربا حد، ليس في الربا في حد لكن ولي الأمر له أن يُعزِّر، له أن يُغرِّب، له أن يُصادِر الأموال، له أن يسجن، جائز! كل هذا في باب التعزير، لكن لا يُوجَد حد عند العلماء في الربا والله أعلم.
وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ۩، وإن تُبتم لكم فقط الدين الذي أعطيتموه وأقرضتموه، لا يزيد ولا ينقص، لاَ تَظْلِمُونَ ۩ بأخذ زيادة عليه من أموال المُستقرِضين، وَلاَ تُظْلَمُونَ ۩ بماذا؟ بأن تضعوا دينكم مُضطَرين، أما إذا أردتم أن تضعوا الدين أو بعض الدين عن طواعية وسماحة فالآية التالية تُفصِّل في هذا.
۞ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۞
قال وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ۩، مَن هو؟ المدين، أي المُستقرِض، المدين وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ۩، أي في حالة شديدة، لا يستطيع أن يدفع، فَنَظِرَةٌ ۩، ما معنى فَنَظِرَةٌ ۩؟ عليك بالإنظار، أنظِره، أخِّره، فهو غير قادر، وهذا يكون متى؟ إذا حل الدين، اليوم – مثلاً – الواحد من نوفمبر أو الأول من نوفمبر موعد الدين، حل الدين، تقول له الدين حل اليوم، هات الدين، فيقول والله يا أخي ليس عندي، والله مُعسِر، أنا في ضيق وفي شدة وفي حاجة، فالله رغَّبنا وندبنا إلى الإنظار، إلى التأخير، يقول لك أخِّره، قل بعد شهرين إن شاء الله، سوف يفتح الله عليك وتُعطيني، هذا محبوب عند الله.
روى الإمام ابن جرير وغيره عن محمد بن كعب القرظي – التابعي الجليل رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة – عن أبي قتادة الأنصاري – اسمه الحارث ويُعرَف بكُنيته، صحابي جليل معروف، لم يشهد بدراً وشهد أُحداً، فأبو قتادة صحابي جليل – أنه كان له دين على أحد الناس – أقرضه ديناً – وكلما أراد أن يستقضيه دينه تغيَّب عنه، يذهب إليه فيقولون والله ليس موجوداً، يسأل عنه فيُقال ليس موجوداً، يُقال خرج أو في سفر وما إلى ذلك، حتى إذا كان في آخر مرة خرج أحد أبنائه ويبدو أنه لم يُوص، قال له أين أبوك؟ قال بالبيت، فدعا به: يا فلان يا فلان قد أُخبِرت أنك ها هنا، أخرج، أي قال لهم قال لي ابنك أنك هنا، فخرج، قال ما الذي يُغيِّبك عني؟ انظروا إلى الأدب وحُسن الطلب، لم يقل له أنت يا رجل كذا وكذا، انظروا إلى هذه الكلمة الفصيحة الجميلة، قال له ما الذي يُغيِّبك عني؟ أي لماذا تغيب عني؟ قال له، قال ما الذي يُغيِّبك عني؟ فقال له والله يا أخي إني لفي شدة، قال له آلله إنك لمُعسِر؟ فقال له والله إني لمُعسِر، فبكى أبو قتادة، انظروا إلى الصحابة، كما قلنا أمس قلوب رحيمة، تربية! تربية نبوية عالية جداً جداً، بكى له! المسكين كان يتخبأ مني ويهرب لأنه في شدة، فبكى وقال لقد سمعت رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – يقول مَن فرَّج عن مُسلِم كُربةً في الدنيا فرَّج الله عنه يوم القيامة، والمعنى ما هو؟ أنه حط عنه دين، قال له اذهب وسامحك الله، ما دام الأمر كذلك أنا وضعت عنك الدين، إِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ ۩، أي تتصدَّقوا، أي بالدين، قل له خُذه لك، انتهى الأمر، وهبته لك، هذا أفضل بكثير، خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩.
يروي سُليمان بن بُريدة بن الحُصيب – بعض الناس يقول الخُصيب لكن هو الحُصيب، وبُريدة بن الحُصيب هو صحابي جليل – عن أبيه طبعاً بُريدة أنه سمع النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يقول مَن أنظر مُعسِراً كان له مثله صدقة، قال كان له مثله – أي مثل الدين – صدقة، قال ثم سمعته بعد – بُريدة يقول سمعت الرسول مرة ثانية، ماذا يقول؟ – مَن أنظر مُعسِراً كان له مثلاه صدقة، قال فقلت يا رسول الله سمعتك تقول مَن أنظر مُعسِراً كان له مثله صدقة، لك مائة يورو – مثلاً – دين وأنظرت أحدهم، قلت له سأتركك شهرين إضافيين، يُكتَب لك أنك تصدَّقت عليه بمائة يورو صدقة، صدقة! تُكتَب لك صدقة، بعد ذلك مرة ثانية قلت كان له مثلاه صدقة، فهو يُريد أن يستفسر، هل أنت نسيت أم ماذا؟ ما الذي حدث؟ هل له مثل أم مثلان؟ فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان له مثله صدقة قبل أن يحل الدين، ما معنى يحل الدين؟ يأتي وقت تقاضيه وسداده، أنت أخذت مني ديناً واتفقنا في الواحد من نوفمبر أن تُؤديه، الآن الواحد من نوفمبر، لكن قبل الواحد من نوفمبر أنا لم أُحاوِل أن أُضيِّق عليه وتركته، لأن موعدنا في الواحد من نوفمبر، لكن من حقي أن أطلبه قبل الواحد من نوفمبر، أليس كذلك؟ يُمكِن أن أقول لك أعطني، إذا عندك أعطني بالله عليك فأنا حتى مُحتاج، لكن إذا تركتك أكثر من مرة هذا سيعني أن الدين نفسه صدقة، هل فهمتم ما معناه؟ وهذا موجود في حديث آخر لن نُطوِّل بذكره، الدين نفسه – حين تُعطي الدين هكذا – له أجر صدقة، وفي رواية له نصف صدقة عن ابن مسعود كما أذكر لكن تحتاج إلى مُراجَعة، قال – عليه السلام – وبعد أن يحل يكون له مثلاه صدقة، أتى الواحد من نوفمبر وليس عنده ما يدفعه، فقلت له سأتركك شهرين إضافيين، سوف يكون لك الضعفان، ليس الضعف وإنما الضعفان، فالضعف هو نفسه، أي سوف يكون لك مائتان في المائة صدقة، وهكذا سُبحان الله.
في صحيح البخاري ومُسلِم وفي مُسنَد أحمد بن حنبل عن أبي مسعود – ليس ابن مسعود وإنما أبو مسعود، اسمه أبو مسعود الأنصاري – قال: قال – صلى الله عليه وسلم – يُؤتى اللهُ يوم القيامة بعبدٍ من عبيده، فيُوقَف بين يديه فيقول له يا عبدي ماذا عملت في الدنيا من عملٍ لي؟ فيقول يا رب ما عملت لك في الدنيا من خيرٍ قط، أي مُفلِس أنا، ماحٍ، لا شيئ، عارف نفسي قال له، لا شيئ، فيُعيد عليه القول ثلاث مرات، وفي كل ذلكم ماذا يقول؟ نفس الشيئ، والله ما عملت أي شيئ، ما عملت لك في الدنيا من خيرٍ قط، ليس عندي حسنة واحدة، عارف نفسي، مُفلِس ومسكين والله، لكن هذا الحديث عظيم، عظيم في الرحمة، هذا الحديث أيها الإخوة بُشرى لكل مُذنِب، بُشرى لكل عاصٍ – إن شاء الله – إذا أراد أن يتوب توبةً نصوحة، لا يُوجَد ذنب ولا يُوجَد تقاصير يتعاظم الله أن يغفره إن شاء الله تبارك وتعالى، ربنا أرحم من هذا، ورضيَ الله عن ابن مسعود حين قال – سيدنا عبد الله بن مسعود قال – أبشروا وأمِّلوا فوالله ليغفرن الكريم مغفرةً لا تخطر على قلب بشر، وفي الحديث الصحيح لو رأى العباد رحمة الله لما آيس مُذنِبٌ – أو قال كافرٌ – من رحمته، ولو رأوا عذابه لما تأمَّل أحد في رحمة الله، هذه المُشكِلة، حين ترى الرحمة تقول مُستحيل، الكل – إن شاء الله – في الجنة، حين ترى العذاب والنقمة تقول لن ينجو أحد، الكل سيهلك، فتخوِّف الحكاية، المسألة فيها خطر، نسأل الله عفوه ورحمته ومغفرته تبارك وتعالى، ثم يقول – هذا الرجل – يا رب – تذكَّر شيئاً فقال ربما ينفعني – لقد كان لي فضل مال – أنت أفضلت علىّ ببعض المال – وكنت أُبايع الناس – أي أنا رجل تاجر، آخذ وأعطي في التجارة – وكنت أُبايعهم على الجواز – ما معنى على الجواز؟ أي التجاوز، أنا أتجاوز، أنا رجل مُتسامِح – فكنت أُيسِّر على المُوسِر وأُنظِر المُعسِر، حتى الذي عنده أقول له عليك مائة لكن هات تسعين وسهَّل الله عليك، أي أنه يتساهل، مُتسامِح الرجل، فهو يتجاوز عن بعض حقه، قال الله – تبارك وتعالى – لإن كنت أنت تُيسِّر فأنا أولى وأحق بأن أُيسِّر، اذهب فادخل الجنة، الله أكبر! لكن هو مُسلِم فانتبهوا، هو مُسلِم وليس كافراً، مُسلِم ولم يُصل ولم يصم ولم يفعل أي شيئ، لكن الرجل ماذا كان يفعل؟ سُبحان الله العظيم يُيسِّر في التجارة على الناس، الدين المُعامَلة، أرأيتم؟ الأمر لا يقتصر فقط على الصلاة والصيام، أهم شيئ المُعامَلة – أهم شيئ المُعامَلة في الدين – طبعاً بعد الصلاة والصيام، اللهم صل على سيدنا محمد.
۞ وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ۞
وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ۩، الصحيح أيها الإخوة من أقوال كثيرة أن هذه الآية آخر آية نزلت في كتاب الله، طبعاً هناك قول بأنها آية الدين التي سنأتي عليها الآن وهي أطول آية في كتاب الله، قالوا آخر آية آية الدين، عن سعيد بن جُبير – تابعي – قال أحدث آية عهداً بالعرش آية الدين، إذن ما قصده؟ أنها آخر آية، وهناك قول أنها الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ۩، وليس بالقوي، هذا قول ضعيف بالمُناسَبة، ليس من الأقوال القوية، مع أنه عند الناس هو الصحيح الراجح، لكنه من الأقوال الضعيفة، وأقواها وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ۩، مُناسَبة أن تكون آخر آية في كتاب الله وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ۩، لا إله إلا الله، ثم جاءت آية الدين، إن شاء الله نشرحها سريعاً أيها الإخوة.
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۞
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ۩، إذن واضح من نص الآية إذا كان هناك تبايع وليست المسألة بالأجل ليس شرطاً أن نكتب، لكن مطلوب هنا ماذا؟ أن نُشهِد، وأيضاً سنقول فيها كلام أيضاً هذه، فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۩، ما معنى بِالْعَدْلِ ۩؟ لايزيد ولا ينقص، يكتب ما لهذا على هذا كما هو دون زيادة أو نقصان وتحيف، وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ بِالْعَدْلِ ۩، لماذا؟ لأن هذا من الفضل الذي آتاه الله، أنت تعرف أن تكتب وأنا لا أعرف فاكتب لي، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الشهير في الصدقات على كل سُلامى قال له ماذا؟ أو أن تصنع لأخرق، إذا كان هناك إنسان لا يعرف ساعده، والأخرق هو الإنسان الذي لا يعرف مهنة أو حرفة، الإنسان الذي لا يكتب أخرق، أخرق لا تعني أنه أهبل، غير صحيح، الذي لا يعرف الكتابة نٌسميه أخرق، فتسمع له وتكتب له، فهذه صدقة، وهذا معنى وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ بِالْعَدْلِ ۩، فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ۩، مَن هو الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ۩؟ قال عَلَيْهِ ۩ وليس له، الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ۩ هو المدين، والذي له الحق هو الدائن، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۩، كيف سيكون البخس هنا؟ ما معنى وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۩؟ أي لا ينقص منه شيئاً، إذا كان عليك – مثلاً – خمسمائة وخمسة وسبعون وكذا سنت اكتب خمسمائة وخمسة وسبعين ثم ضع فاصلة وقل كذا سنت، اكتب كما هو بالضبط، لا تنقص منه شيئاً، فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ۩، أي المدين، سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ ۩، سَفِيهًا ۩: معروف ما معنى السفه، السفيه – مثلاً – المحجور عليه، الإنسان إذا كان لا يستطيع أن يُدبِّر ماله قد يكون سفيهاً وقد يكون أبعد من ذلك، أَوْ ضَعِيفًا ۩: مَن هو الضعيف؟ المجنون والصغير، والصغير يدخل في السفيه أيضاً، أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ ۩: لمرض أو لحُبسة أو لعيٍ أو لخرس، والأرجح أن تكون لخرس، والآية – ذكرنا هذا عدة مرات – فيها ملحظ غريب جداً، قال أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ ۩، بالإضعام، أليس كذلك؟ بالضغم، أي بالإضعام، لأن الأخرس إذا أراد أن يتكلَّم يُبين – بعض الخرسان يُبينون – بعض الحروف لكن مُنضغِمة في بعضها، فالله عبَّر عنها بماذا؟ بقوله يُمِلَّ ۩، بعد ذلك لم يقل فليُمِل، ماذا قال؟ قال فَلْيُمْلِلْ ۩، لأن الذي يتكلَّم رجل عادي ليس عنده مُشكِلة مع الحروف، أرأيت؟ هذا تصوير للحالة بشكل غير عادي، وهذا غير معروف في بلاغة العرب، هذه بلاغة كتاب الله تبارك وتعالى، مما يُؤكِّد أنها في الأخرس، قال أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ ۩، أي صاحب المنطق والفصاحة، وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۩، واضحة، وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۩، لماذا الشهادة؟ الشهادة أيها الإخوة أقوم بأداء الدين وأثبت إن شاء الله تبارك وتعالى، وهنا قد يقول لي أحدكم هناك كتابة، لكن حين تكون الشهادة معها يكون هذا أحسن وسوف نرى لماذا، الله سيذكر السبب مُعلِّلاً بعد قليل، فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ۩، واضح أن شهادة الاثنتين بشهادة الرجل، لماذا اثنتان؟ قال لأن من طبعهما النسيان في هذه الحالات، قال من أجل إن إحداهن إذا ضلت – نسيت – الأُخرى تُذكِّرها، تقول لها لا، بل الأمر كان كذا وكذا وكيت وكيت، وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ۩، اختُلِف فيها، ما معنى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ۩؟ التحمل أو الأداء أو التحمل والأدء معاً؟ ما معنى التحمل؟ تحمل الشهادة ما معناه؟ يُقال لك تعال يا أخي عبد الله اشهد – اشهد علينا أو اشهد لنا – في هذه القضية، فتقول ما علاقتي بهذا؟ لماذا أشهد وتُورِّطوني في موضوعكم؟ الله قال لا، لماذا يا أخي؟ تعال وتفضَّل لتشهد، احتاجوا إليك جماعة مثلما احتاجوا إلى كاتب، فالله قال إذا دُعيت لتشهد اشهد، وهذه حُجة عند الجمهور – جمهور الفقهاء أيها الإخوة – أن تحمل الشهادة فرض كفاية، لكنه فرض فانتبهوا، فرض كفاية، لا يُمكِن أن يكون فرض عين، لكنه فرض، لقوله وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء ۩، نهى عنها، والأصل في النهي التحريم، يصير هذا حراماً، حين نقول لا نشهد باستمرار سوف نُصبِح بعيدين من توثيق الديون والحقوق، فهذا يعني أن الشهادة فرض كفاية، ما معنى تحمل الشهادة؟ أن تشهد، أي أن تحملها، عكس التحمل ما هو؟ ما الذي يُقابِله؟ الأداء، أن تُؤدي الشهادة، حين يحدث اختصام ومُنافَرة تقول أنا – والله – أشهد فيهم بكذا وكذا، صار كذا وكذا، هذا اسمه الأداء، هل هذا واضح؟ فالعلماء اختلفوا، قوله وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ۩ للتحمل أو للأداء؟ ولا يخفاكم أنها تحتمل كل الوجوه، منهم مَن قال للتحمل، ومنهم مَن قال للإداء، ورُشِّح هذا القول بماذا؟ أن قوله وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء ۩ حقيقة في أنهم قد أدوا الشهداء، أي أنهم تحمَّلوها، سماهم شهداء، كان يقدر على أن يقول ولا يأب الناس من الشهادة أو لا يأب امرؤ من الشهادة إذا دُعيَ، لكنه قال وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء ۩، هذا يعني أنه شهد وأنهى شهادته، وهذا قول قوي لكن أيضاً يُوجَد رد عليه بلاغي، لا تُوجَد مُشكِلة فهناك رد، لكن هذا موجود وهذا موجود، وعن أبي مِجلَز – تابعي جليل – ومُجاهِد بن جبر قالا هي في الاثنين، لكن كيف؟ قالا – أي مُجاهِد بن جبر وأبو مِجلَز، هكذا ضبطها – إذا دُعيَ ليشهد نُدِبَ له ذلك – أي مُستحَب، فيها أجر -، وإذا دُعيَ ليُؤدي الشهادة وجب عليه ذلك، فإذا كتمت تكون وقعت في ذنب، بل قال ابن عباس الشاهد بالزور أتى كبيرة من الكبائر، وكاتم شهادة الحق أتى كبيرة من الكبائر، حين أقول لك تعال أد – تعال أد الشهادة فأنت سمعت وعرفت كذا وكذا – فتقول لا، ليس لي علاقة بهذا تكون كشاهد الزور والعياذ بالله، أنت مثل شاهد الزور، لأنك ضيَّعت الحق، أليس كذلك؟ لأن المخرج واحد، صحيح المدخل مُختلِف – مدخل شهادة الزور وكتمان شهادة الحق مُختلِف – لكن المخرج واحد أم ليس واحداً؟ واحد، ما هو المخرج؟ أي ما الغاية والنتيجة؟ تضييع الحقوق، بشهادة الزور أضعت حقه، وحين كتمت شهادة الحق أيضاً أضعت حقه، نفس الشيئ، فهذا من فهم ابن عباس، هذا من دقيق فهم الحبر البحر رضيَ الله عنه وأرضاه.
وَلاَ تَسْأَمُوْا ۩، ولا تملوا، أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ۩، هذا واضح طبعاً، ذَلِكُمْ ۩، هذا الحكم كله في الكتابة والإشهاد، كل ما سبق – انتبهوا – وليس فقط عدم السأم، أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۩، يُحقِّق العدل أكثر، له مدخلية أكثر في تحقيق العدل، وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ۩، كيف يكون وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ۩؟ ما معنى وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ۩؟ كيف يكون وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ۩؟ الكتابة الآن أقوم للشهادة، إذا كتبنا الدين صغيراً كان أو كبيراً فشك أحد الشاهدين أو كلاهما رجعا إلى ماذا؟ إلى المكتوب، فاستوثقا من شهاتهما، يتذكران ويقولان نعم هذا صحيح هذا معنى وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ۩، إذن ماهو الذي أقوم للشهادة؟ صارت الآن الكتابة، الكتابة أقوم لأداء الشهادة، وَأَدْنَى ۩، أقرب إلى عدم الارتياب والشك، وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ ۩، وإذا وقع ثمة ريب أو شك صغير أو كبير ماذا نفعل؟ نعود إلى الكتابة وإلى الشهادة، فالأمر نستوثق منه ويستوثق له من جهتيه، أي من كلتا جهتيه، إِلاَّ أَن تَكُونَ ۩، استثنى، تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا ۩، لكن الله ندب إلى ماذا؟ إلى الإشهاد، قال وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۩، وهذا مندوب وليس واجباً، وقيل منسوخ بالآية التي تلي، هذه كلها آية واحدة اسمها آية الدين وهي أطول آية في كتاب الله في أطول سورة في كتاب الله وهي سورة البقرة، ودلالة ذلك واضحة جداً، أن الإسلام معني عنواً شديداً بماذا؟ بتأمين مصالح الناس المادية وتأمين معاشهم وحياتهم، مُهتَم جداً!
وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ۩، واضح هذا، فسَّرنا أمس كيف تكون المُضارَة، لا يضار لا الكاتب ولا الشهيد، وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۩، معنى فُسُوقٌ بِكُمْ ۩ أي كائن بكم، مُتمكِّن منكم والعياذ بالله، هذا يعني – والعياذ بالله – أن المُضارَة في الكتابة أو في الشهادة بابٌ كبيرٌ من أبواب الفسق والعصيان والعياذ بالله، وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۩، صحيح لم يقل واتقوا الله يُعلِّمكم الله لكن النظم نفسه مُشعِر بأن التقوى سبيل العلم، واضح هذا، بعض الناس تفهيق وقال لا، لم يقل الله واتقوا الله يُعلِّمكم الله، قال وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۩، إذن ماذا تعمل في قوله تعالى إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ۩؟ أليس كذلك؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ۩، ما معنى هذه؟ هذه هي، الآيات كلها بسبيل واحدة، فالتقوى أيها الإخوة سبيل لاحبة وعريضة من سُبل التحصيل العلم الإلهي إن شاء الله تعالى، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۩.
۞ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ۞
وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ۩، أي رهن مقبوضة، مَن الذي يقبضها؟ الذي له الحق، أي الدائن، أليس كذلك؟ وهذا يُؤكِّد أن الرهن لا تُلزِم إلا بالقبض وليس بالوعد، لابد أن تُقبَض لتُلزِم، وهذا مبحث فقهي طويل، فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا ۩، هذه نسخت كل ما سبق من وجوب الإشهاد عند مَن قال به – والأصل أو الأصح كما قلنا أنه مندوب – ومن وجوب الكتابة عند مَن قال بها وإلا بعض الفقهاء يقول الكتابة ليست واجبة إنما هي إرشاد، والأمر للإرشاد وليس للإيجاب أصولياً، الله أعلم، فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ۩، في أحمد والنسائي وغيرهما قال – عليه السلام – على اليد ما أخذت حتى تُؤديه، كل يد أخذت شيئاً يجب أن تُعيده، هذا معناها، فهذا معنى قوله – تبارك وتعالى – فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ۩.
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ ۩، فاجرٌ قال العلماء، قَلْبُهُ ۩، أي فاجر قلبه والعياذ بالله، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ۩.
۞ لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۞ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ۞ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ۞
هذه الآيات الجميلة العجيبة هي القوافل، ما معنى أنها القوافل؟ آخر سورة البقرة، خواتيم البقرة ثلاث آيات، وأهمهما الآيتان الآخرتان، الآيتان الآخرتان: آمَنَ الرَّسُولُ ۩ ….، لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ ۩ ….، في الصحيح قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن قرأ الآيتين الآخرتين من سورة البقرة في ليلة كفتاه، قبل أن تنام اقرأ آخر آيتين: آمَنَ الرَّسُولُ ۩ ….، لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ ۩ ….، سوف تكفيانك – إن شاء الله – من شر الإنس والجن ومن شر كل ذي شر ومن كل طارق إلا طارقاً يطرق بخير، آيتان عظيمتان، وقد روى ابن أبي حاتم والإمام الحاكم في المُستدرَك وقال صحيح على شرطهما ولم يُخرِّجا عن ابن عباس – ذكرناه في أول الدرس بحمد الله – أن النبي – عليه السلام – كان جالساً ومعه جبريل إذ سُمِعَ نقيض – صوت دَب كما نقول – فنظر جبريل إلى السماء – رفع رأسه – وقال يا محمد هذا بابٌ فُتِحَ في السماء لم يُفتَح من قبل قط ونزل منه ملك، وأتى الرسول وقال يا محمد قد أُنزِل عليك اليوم وأُتيت نورين لم يُؤتهما نبيٌ قبلك: الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، ما قرأت بحرف منهما إلا أُوتيته، أي أجره، أجره وجزاؤه وذُخره ونوره إن شاء الله تبارك وتعالى، فهاتان آياتان خطيرتان جداً، وسوف نرى هذا.
لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۩، جواب الشرط، فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، لما نزلت هذه الآية أيها الإخوة – هناك أحاديث لن يتسع الوقت لتخريجها لكنها صحيحة، في الصحيحين وفي غيرهما – عن ابن عباس – هذا ليس في الصحيح وإنما عند ابن جرير في تفسيره – غمت هذه الآية – كما قال – أصحاب محمد غماً شديداً وغاظتهم غيظاً شديداً، وفي الصحيحين أنها لما نزلت أتوا الرسول ثم جثوا على الركب – كالمُتوسِّلين المُستجِرين بالله من غضب الله ومن شديد حسابه وتدقيقه وتنقيره – وقالوا يا رسول الله قد كُلِّفنا من الأعمال ما نُطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة – هكذا ذكروها: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، نحن قومنا بهذا ونقوم به -، وقد أنزل الله عليك هذه الآية وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۩، وأنتم في خطر مشيئته فيغفر أو يُعذِّب، أف! شيئ مُخيف، حتى الذي في النفس؟ حتى حديث النفس؟ ويا رسول الله – قالوا – فإننا لا نُطيق، هذا لا، لا يُحتمَل، صعب جداً، سوف تُهلِكنا الآية هذه، شعروا بالهلكة وفعلاً هذا شيئ مُخيف، لا إله إلا الله، امتحان! الله يمتحن أمة محمد، فقال النبي أتُريدون أن تكونوا كأهل الكتابين تقولون سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ۩؟ قولوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ۩، سلِّموا لله، فقالوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ۩، فلما قالها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله – تبارك وتعالى – قوله آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ۩، فلما قالوها أنزل لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۩، ثم قالوا رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۩، قال نعم في مُسلِم، مَن الذي قال نعم؟ الله، ما المُراد بنعم؟ فعلت، هو هذا، لن أُؤاخِذكم، لن أُؤخِذكم بما نسيتم أو أخطأتم، وفي رواية أُخرى عن ابن عباس قال الله قد فعلت، لا إله إلا الله، رحمة كبيرة بعد تخويف، بعد آية تُخوِّف، قطعت الأمل حقيقةً، رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۩، اللهم آمين، قال الله قد فعلت، رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۩، اللهم آمين، قال الله نعم وفي رواية أُخرى قال الله قد فعلت، رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۩، قال الله قد فعلت، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ۩، قال الله قد فعلت، لا إله إلا الله، ما هذا؟ ما هذا العطاء؟ ما هذا الجود؟ ما هذا الكرم بعد الترهيب والتخويف؟ آية مُخيفة جداً، ولذلك أشفق الصحابة، يقول مُجاهِد بن جبر أتيت أستاذي عبد الله بن عباس وقلت له يا أبا العباس كنت عند عبد الله بن عمر – الصحابي العلّامة الكبير، هذا أحد العبادلة الأربعة – فتلا آية من كتاب الله وجعل يبكي، أي صار يبكي وأشفق منها إشفاقاً شديداً، قال أية آية؟ ابن عباس هذا خطير، مُفسِّر وفيلسوف القرآن، قال له أين هي؟ أية آية؟ سوف نُفهِّمك نحن ما القصة، سوف نرى لماذا يبكي ونرى ما القصة، قال قلت وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ، قال نعم، هذه الآية حين أُنزِلت – كما قلت لكم – غمت أصحاب محمد غماً شديداً وغاظت غيظاً شديداً، وساق حديثاً قريباً مما في الصحيحين، ليس شرطاً أن نُطوِّل بذكره، وهكذا! فهي رحمة من الله كبيرة، لا إله إلا الله وله الحمد والمنّة على كل الأحوال تبارك وتعالى، ولذلك في الصحيحين أيها الإخوة بل رواه الجماعة بحمد الله – مَن الجماعة؟ أي البخاري ومُسلِم وأصحاب السُنن الأربعة، اسمهم الجماعة – عن أبي هُريرة قال: قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – إن الله تجاوز لي عن أُمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم يتكلَّموا أو يعملوا، ما دمت لم تجعله كلاماً أو عملاً وظل حديث نفس لن تكون هناك مُشكِلة، إذن رُفِعَ عنا ماذا؟ حديث النفس بحمد الله، وأمس حدَّثناكم أيضاً بحديث ابن عباس وابن عمر – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – لما قال له ابن عباس يا عبد الله بن عمرو ما هي أرجى آية في كتاب الله عندك؟ أو أي آية في كتاب الله عندك أرجى؟ قال له ماذا؟ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۩، آية الزُمر، وسأله عبد الله بن عمرو وعندك ما هي؟ قال له وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۩، آية ماذا؟ إبراهيم، أتى بها من أولها، لماذا؟ قال ذاك فيما يعظ به الشيطان فيما بين المرء ونفسه، يُوسوِس به، الله وضعه عنا، لن يُحاسِبنا عليه إن شاء الله، إذن حديث النفس – إن شاء الله – موضوع عن هذه الأمة المرحومة بحمد الله تبارك وتعالى.
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۩، هذه واضحة، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ۩، كل هذا واضح إن شاء الله، ما معنى لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۩؟ أي لا نُؤمِن ببعض ونكفر ببعض، قال – تبارك وتعالى – في سورة الإسراء إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ – كيف يكون التفريق؟ – نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ۩ أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً…. ۩، كيف يحدث التفريق بين الله والرسل؟ لأن كل الرسل من عند الله، حين تقول لي أنا أُؤمِن بهذا وأُكذِّب هذا إذن أنت كفرت حتى بالله، أليس كذلك؟ كذَّبت الله في بعض الأمر.
لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ۩، واضح، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۩: لَهَا مَا كَسَبَتْ ۩ من الخير، وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۩ من الشر، رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۩، النسيان والخطأ واضحان، رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۩، ما هو الإصر؟ ما الفرق بين الإصر وبين مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۩؟ الإصر أيها الإخوة هو التكليف الثقيل الشاق الذي يُستطاع، نستطيعه صحيح لكنه سيكون شاقاً، كالآصار التي كانت على أهل الكتابين والأغلالِ التي كانت عليهم، ورفعها الله ببركة مَن؟ النبي الخاتم المُحمَّد العدنان – عليه الصلاة وأفضل السلام إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين – كما في سورة الأعراف، الآية معروفة، فهي رُفِعت، فقالوا حتى الآصار هذه لا نُريدها، نستطيعها لكنها ثقيلة، سوف تكون ثقيلة علينا، وفي الآية التي بعدها ماذا قالوا؟ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۩، هذه أصعب من الآصار والأغلال، أشياء لا نستطيعها سواء في التكاليف الشرعية أو سواء في الأمور القدرية من البلايا والأمراض والمحن والأسقام والأوجاع والهزائم وأمثال هذه الأشياء، لا! إذا كانت فوق طاقتنا فنحن نسألك ونستعيذ بك في دفعها وفي زودها عنا، ثم قالوا وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۩، ثلاث كلمات عجيبة غريبة، فعلاً هذه آيات لم يُؤتها نبي من قبل، لمحمد هاتين الآيتين، ولذلك هما آيتان كافيتان، فيهما الغناء كل الغناء، وَاعْفُ عَنَّا ۩: قال السادة المُفسِّرون أي فيما بيننا وبينك، وَاغْفِرْ لَنَا ۩: فيما بيننا وبين عبادك، فاستره علينا ولا تفضحنا، وَارْحَمْنَا ۩: فيما نستقبل من أمورنا، بمعنى احفظنا واعصمنا في بقية حياتنا، ولذلك قال أحد السادة العافين كل امرئٍ أو كل مُسلِم يحتاج إلى ربه في ثلاثة أمور، أن يعفو عنه فيما بينه وبينه وأن يستر عليه فيما بينه وبين عباده وأن يحفظه في بقية مُهلته، وهذا كله مُلخَّص في ثلاث كلمات قرآنيات: اعف، اغفر، وارحم. اللهم آمين.
أَنتَ مَوْلانَا ۩، أنت ناصرنا، فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ۩. اللهم آمين.
أيها الإخوة:
الحمد لله رب العالمين الذي منّ عليها بتفسير ما تيسَّر من هذه السورة الكريمة، من هذه السورة العظيمة، وهي من أجل سور القرآن إن لم تكن أجلها، فهي من أجلها وكما قلنا فيها ألف أمر وألف نهي وألف خبر، وفي الحديث أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – بعث بعثاً – أي جماعة أو سارية لم يكن فيها النبي – وأراد أن يُؤمِّر عليهم – وانظروا إلى طريقة النبي في التأمير، ليست كاليوم يدخل فيها اعتبارات سياسية واعتبارات كذا وكذا، هناك طرق مُختلِفة عند النبي وعنده معايير مُعيَّنة – فاستقرأهم ما معهم من القرآن – ما معنى فاستقرأهم؟ قال لكل واحد منهم قل لي ما عندك؟ – حتى أتى على فتىً هو أحدثهم سناً – شاب كان أصغرهم، ربما كان في الخامسة عشر أو السادسة عشر من عمره، المُهِم أنه كان أصغر واحد فيهم، وفيهم أشراف – فقال يا رسول الله معي كذا وكذا ومعي سورة البقرة، قال معك البقرة؟ – أُعجِب النبي بهذا، النبي معك؟ تحفظها وتعرفها؟ – قال نعم معي، قال اذهب فأنت أميرهم، أي إذا كان معك البقرة فأنت الأمير وأنت أصغرهم سناً، أنت الأمير، أرأيتم كيف؟ ليس كاليوم يأتينا حتى في الفضائيات أُناس مُهندَمون وما إلى ذلك والواحد منهم لا يستطيع أن يتكلَّم كلمتين قسماً بالله، والله قبل أيام سمعت رجلاً والله – أُقسِم بالله – يتلو الآيات بالمعنى، يقول كما قال بما معناه، لماذا هذا يظهر ويتكلَّم في الدين وفي الإسلام؟ غني، عنده كذا، له في الدولة كذا، ومن ثم يُظهِرونهم، وهناك علماء وأولياء وأُناس – ما شاء الله – مُباركون، اظهرهم يا أخي ودعهم يتكلَّموا لكي يُعلِّموا الناس، لا! ممنوع، هذا من أجل غناه نُقدِّم ونُؤخِّر، للأسف الشديد! لكن النبي قال له إذا كان عندك البقرة وهم ليس عندهم مثلك فأنت أميرهم، قال له اذهب فأنت أميرهم، فقال رجلٌ من أشرافهم يا رسول الله، والله ما منعني أن آخذ البقرة – أي أتعلَّمها وأتحفَّظها – إلا خشية ألا أعمل بما فيها، أي أنني أخاف، أخاف ألا أُطبِّقها، تعلَّمون أن في الصحيح وأصله في المُوطأ – في مُوطأ مالك – أن ابن عمر ويُروى عن عمر – وغير بعيد أن يكون وقع من عمر وابن عمر – أنهما مكثا في تعلم البقرة وأخذها – هل تعرفون كم؟ – ثمان سنوات، ثمان سنوات وهما يتعلَّمان، وهنا قد يقول أحدكم أنا أحفظها في شهر، وأنا أحفظها في ساعة لكن هل هذه الشطارة؟ الأمر لا يتعلَّق بأن تحفظها وتقولها وأنت غير فاهم، تأخذ البقرة وتتفقَّه فيها، تعرفون أن البقرة لو فسَّرناها حق تفسيرها مُمكِن أن تُغني عن تفسير كتاب الله كله، فيها تقريباً أمهات الأحكام الشرعية، أليس كذلك؟ وأمهات العقائد، شيئ عجيب، سورة جامعة فعلاً، جامعة معنا، رجل مثل الفاروق وعبد الله بن عمر مكث ثمان سنوات، وبعد أن أخذها في ثمان سنوات ماذا فعل؟ نحر جزوراً شكراً لله، أرأيتم كيف؟ ماذا يقول الإمام أبو عبد الله – ابن الحاج – العبدري الفاسي في كتابه العظيم المُدخَل إلى تنمية الأعمال الصالحات بتصحيح النيات في أربع مُجلَّدات؟ يقول يا عباد الله، يقول يا لله – العجب – هذا والله من البلاء الذي ابتُلينا به، قال واليوم طفل كتّاب يحفظ كتاب الله وهو ابن ست سنين، قال بلاء، ابتُلينا بالشيئ هذا ونظن أننا شاطرون لأننا نحفظ، حفظ ولا عمل، أليس كذلك؟ حفظ ولا فهم، القضية ليست في أن تحفظ فقط، كيف تحفظ به؟ خُذ القرآن واعمل به، ادع إليه، أنعش به الحياة، أنعش به الدين، أنعش به الحق، هذا القرآن، الأمر لا يقتصر على التجويد والترتيب وتحسين الصوت والتنغيم والحفلات والصيحات التي تقول الله يا مولانا، الله! في الترمذي – والعياذ بالله – النبي تحدَّث عن أُناس – عنا والله يا أخي، موجود هذا في زماننا – في آخر الزمان يُقدِّمون الرجل يقرأ بهم وليس بأقرأهم، وإنما – والعياذ بالله – لأنه يتغنى بالقرآن، قال يتخذونه مزامير، يتغني ويقرأ بالمقامات السيكا والبيكا، تجد مُقرئين في الدول العربية يقول الواحد منهم أنا أفتخر بأنني أقرأ القرآن بالسيكا والبيكا والصبا والنهاوند، لا أعرف كل هذا الكلام الفارغ، فهو يفتخر لأنهم يُعلِّمونهم هذا في المعاهد الدينية فيقرأ القرآن بأنغام الموسيقى، هل هذا الذي يفهمه من القرآن الكريم؟ ويخر عليه أصم أعمى، لم يقرأ تفسيره ولا يفهم تفسيره ولا يعرف ناسخاً ولا منسوخاً ولا أسباب نزول ولا مُحكَماً ولا مُتشابِهاً ولا أمثال ولا مواعظ ولا يعرف شيئاً، شيخ بعمة لكن لا يعرف شيئاً المسكين، ما هذه المُصيبة؟ ابن الحاج قال هذا من البلاء الذي ابتُليت به أمة محمد، ست سنوات ويحفظ كتاب الله كله ويفرح في نفسه به، لا! عمر مكث ثمان سنوات في البقرة وحدها، ابن عمر ثمان سنوات في البقرة وحدها، لأن هذا علم وعمل وتفتيش وتنقير وتحقق، وهذا الشريف من أصحاب رسول الله في الحديث هذا كان خائفاً، قال أنا لم أُحِب أن آخذها لأنها كبيرة، مائتان وست وثمانون آية، وقال أنه خاف من ألا يعمل به، فبماذا أجابه النبي؟ قال لا، خُذوا القرآن – النبي قال – واقرأوه، فمَن قرأ القرآن وقام به – ماذا يقصد بقام به؟ أي في الليل، انتبهوا فليس المُراد العمل به، لأن ما شاء الله مَن يُريد أن يقوم الليل به يُريد أن يعمل فعلاً به في كل شيئ، أليس كذلك؟ صعب أن يُعطيك الله قيام الليل وفضيلة قيام الليل وتكون أنت من المُفرِّطين، صعب جداً جداً جداً، قال سُفيان الثوري حُرِمت قيام الليل شهرين بذنبٍ أذنبته، شهران لم يقدر فيهما على قيام الليل سُفيان الثوري وهو إمام، كان يبول الدم خشية الله، سُفيان الثوري حُرِم قيام الليل شهرين بذنب، وقيام الليل الله لا يُعطيه لأي واحد، يُعطيه لأحبابه ولخلصانه – فمثله كمثل جرابٍ يفوح مسكاً – جراب فيه مسك ويفوح مسكاً – ومثل الذي قرأ القرآن وجعله تحت رأسه أو توسَّده – ذُكِر للنبي رجل فقال ذاك لا يتوسَّد القرآن، مدحه أم ذمه؟ مدحه، قالوا له فلان الفلاني فقال ذاك لا يتوسَّد القرآن، أي قال أنا أعرف أن هذا الرجل ما شاء الله طيلة الليل يقوم على رجليه ويتغنى بالقرآن الكريم، لا يتوسَّد القرآن، لا يجعله وسادة ينام عليه، هذا هو المعنى، فهو لا ينام عليه، المُهِم قال ومثل الذي قرأ القرآن وجعله تحت رأسه أو توسَّده أو شيئ بهذا المعنى – فمثله كمثل جرابٍ فيه مسك أُوكيَ على المسك، ما معنى أُوكيَ؟ ارتبط، ربطوه، لكن في الداخل يُوجَد ماذا أيضاً؟ مسك، رجل عنده القرآن ويحفظ – ما شاء الله – وما إلى ذلك لكنه غير قادر على قيام الليل، لكن – الحمد لله – حين تسأله وتضربه يخرج لك علم، حين تُريد آية يُعطيك إياها، حين تطلب تفسيرها يقوله لك، أليس كذلك؟ يا حسرةً على إنسان ضيَّع عمره ولم يأخذ بحظه من كتاب الله تبارك وتعالى، وليس تلاوةً وحفظاً فقط وإنما فهماً أيضاً وتفسيراً وتفنناً فيعرف كل شيئ فيه، ابن مسعود كان يقول والله – هذه موعظة – ما من آية في كتاب الله إلا وأعلم متى نزلت وأين نزلت وفيما أُنزِلت، يفتخر! كل آية قال، كل شيئ أعرفه، كل شيئ في كتاب الله قال، يفتخر بهذا الشيئ، هذا من فضل الله عليه، فهذه هي البقرة، النبي قال له ماذا؟ اذهب فأنت أميرهم.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُفقِّهنا في الدين وأن يُعلِّمنا التأويل وأن يتقبَّل منا قولنا وفعلنا وعملنا، اللهم اجعل أعمالنا خيراً من أقوالنا، واجعل أقوالنا صالحة مُسدَّدة راشدة يا رب العالمين، واجعل بواطننا خيراً من ظواهرنا، واجعل بواطننا صالحةً راشدةً مُسدَّدةً يا رب العالمين، أعنا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وشكر الله لكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى عليكم وبركاته.
أضف تعليق