الدرس الرابع والعشرون
تفسير سورة المائدة من الآية السادسة والتسعين إلى آخر السورة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحيم، علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً.
أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
نظراً لأننا اليوم تأخَّرنا قليلاً ولا نُريد هذه الليلة إن شاء الله – ليلة مُبارَكة، ليلة الخامس والعشرين – أن نُضيِّع جُزءاً كبيراً منها حتى في الدرس أو في العلم، فلا أدري هل تُودون – مثلاً – في ظرف نصف ساعة أن نُجيب عن بعض الأسئلة أو نُكمِل في نصف ساعة ما بقيَ من سورة المائدة؟ بقيَ منها أربع صفحات، إما أن نُكمِل التفسير وإما أن نُجيب عن بعض الأسئلة إلى الساعة العاشرة ثم ننطلق إن شاء الله تعالى، ماذا ترون أنسب: التكميل أم الإجابة عن الأسئلة؟ (ملحوظة) قال بعض الحضور تكميل دروس التفسير، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم سنضطر – إن شاء الله تبارك وتعالى – أن نختصر جداً، لأن بقيَ فقط نصف ساعة إن شاء الله.
۞ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ۞
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ۩، يقول الله – تبارك وتعالى – أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ۩، إذن قال أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ۩، هذا الخطاب للمُحرِمين، للذين أحرموا بالنُسك، تحدَّثنا أمس عن حُكم صيد البر، صيد البحر حلال، حلال لكل المُحرِمين، لماذا قال صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ۩؟ قيل صيده هو ما يُصاد حياً وَطَعَامُهُ ۩ ما يقذفه البحر ميتاً، أيضاً هذا حلال، مع أن الأحناف خالفوا في هذه المسألة، وقالوا ما قذفه البحر وطفا على وجهه يُعتبَر ميتة، ورأي الجمهور أن ميتة البحر في كل وجوهها حلال، حتى الذي يقذفه البحر ويطفو على وجهه، خلافاً للسادة الحنفية، وقيل صَيْدُ الْبَحْرِ ۩ هو الصيد الحي، أما وَطَعَامُهُ ۩ فهو الصيد بعد أن يُؤخَذ ويُجفَّف ويُملَّح ويُقدَّد، فهذا يُدعى طعاماً، هذا حلال وهذا حلال، فالصيد هو اللحم الطري وأما الطعام فهو الجاف الذي مُلِّح وقُدِّد، إذن فيها قولان! مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ۩، السيارة مَن هم إذن؟ هم في مُقابِلة راكبي البحر، فهذا الصيد وهذا الطعام حلال لراكبي البحر وحلال أيضاً للسيارة!
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ۩، هذه تقدَّمت أمس إن شاء الله تبارك وتعالى، وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ۩.
۞ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۞
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ۩، طبعاً الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ۩ بدل، هذا بدل! ما هي الكعبة؟ البيت الحرام، جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ ۩، طبعاً هذه الآية فيها كلام كثير، من أقوم التفاسير قول بعضهم الآتي، قالوا معنى أن الكعبة قيامٌ للناس أنها تقوم بحرمتها وشعائرها وقدسيتها مقام القائم بالأمر لمَن ليس بينهم وليس فيهم قائم بالأمر يرجعون إلى أمره ونهيه فتنضبط أحوالهم، فهذه الكعبة تقوم هذا المقام، لماذا؟ لأنها مُقدَّسة، أي كما هناك قدسية الحرم هناك قدسية الزمان، الأشهر الحُرم! لكن قدسية البيت أعظم عند العرب، وقد كان الموتور يرى قاتل أبيه أو قاتل أخيه يطوف بالحرم فيدعه، يتركه! لا يتعرَّض له، فكأن الكعبة بقدسيتها وجلالها وحُرماتها قامت مقام القائم بالأمر، قال وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ ۩، الآن وضح المعنى أيضاً، حتى الشهر الحرام أيضاً لأنه يحجز الناس بعضهم عن بعض ويُراعون حُرمة هذا الشهر فلا يكون منهم عدوان إزاء بعضهم البعض، وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ۩، الهدي هو ما يُهدى للبيت من البدن وغيرها، نفس الشيئ! هذا الهدي لا يتعرَّض له أحد، القلائد هو الهدي الذي يُقلَّد، يُعلَّم حتى يُعرَف أنه هديٌ، أي مُهداة للبيت فلا يتعرَّض له أحد أيضاً، كل هذا قام مقام القائم بالأمر، أي مثل حاكم أو مثل كبير أو مثل رئيس، يحجز بين الناس بعضهم وبعض، هذا من أقوم التفاسير، وهناك أقوال كثيرة في معنى كلمة قِيَامًا ۩.
۞ اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۞ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ۞ قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۞
اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ۩، واضحتان، قال – عز من قائل – بعد ذلك قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩، الآية واضحة أيضاً.
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ۞
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ۩، ما هذه الأشياء التي لم يُحبِّذ الله – تبارك وتعالى – أن يُسأل عنها؟ ما هي؟ هي الأسئلة التي تخرج مخرج الهزؤ والسخرية، قال ابن عباس كان بعضهم يسأل النبي كالمُستهزئ، يسأله في أشياء كثيرة، مثل أين بعيري؟ يكون قد أضل بعيري فيقول يا رسول الله أسألك مسأل، أين بعيري؟ ما هذا؟ هذا هزؤ، كيف يُقال أين بعيري وما إلى ذلك؟ النبي يُسأل في التشريع، في الحلال وفي الحرام وما إلى ذلك، وليس في أين بعيري! وقد قام النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يوماً موقفاً مُؤثِّراً جداً وجعل يقول سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيئ وأنا في مُقامي هذا إلا أجبتكم عنه، فقام رجل وقال يا رسول الله مَن أبي؟ وقد كان هذا يُزَن بأبيه، ما معنى يُزَن؟ يُرمى، يُقال إنه ليس ابن حلال، ليس ابن رِشْدة والعياذ بالله، هكذا! واسمه عبد الله هذا الصحابي، عبد الله بن حذافة! لكن الناس يقولون له هو ليس ابن حذافة، الله أعلم ابن مَن، وهكذا! وهذا كان يُؤثِّر عليه، هو غامر وسأل، مَن أبي؟ فالنبي قال أبوك حذافة، في روايات أن أحدهم سأل وقال يا رسول الله أين مُدخَلي؟ فقال النار، النبي قال اسألوني عن أي شيئ من أمور الدنيا والآخرة في هذه اللحظة، سأُجيبكم عن أي شيئ، فجعل الصحابة كلهم يتقنَّعون بأثوابهم ويبكون، ينشجون! يقول الراوي فنظرت هكذا ما وجدت أحداً إلا وقد تقنَّع – أي قنَّع رأسه – بثوبه ينشج، موقف مُؤثِّر جداً جداً! والنبي يُردِّد قوله، لم يكف عن أن يقول سلوني، سلوني، سلوني… اسألوا عن أي شيئ، أي شيئ! فتح كبير جداً، حتى قام عمر – رحمه الله – وقال كفى يا رسول، رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبك نبياً ورسولاً، كفى! نحن مُؤمِنون مُوقِنون ونعلم أنه يُوحى إليك وأنك كذا وكذا، كفى! أشفق عمر، خاف خوفاً شديداً، فأمسك النبي عليه الصلاة وأفضل السلام، ثم قال لم أر كاليوم في الخير والشر قط، لقد صُوِّرت لي الجنة والنار دون هذا الحائط، أي فُتِحَ عليه عالم الغيب، رزونة كبيرة من عالم الغيب! هذا يعني أنه رأى أهل الجنة ورأى أهل النار، ولذلك الذي سأله أين مُدخَلي؟ قال له النار، أنت من أهل النار قال له في لحظة واحدة، لا إله إلا الله! قطعاً في تلكم اللحظة النبي أيضاً عرف كل واحد منا وأين سيكون مُدخَله، نسأل الله أن يكون مُدخَلنا جميعاً الجنة بفضله ورحمته، فهذا الشيئ غير مُستحَب، والنبي كان يكره كثرة المسائل، يقول ابن عباس لا تُوجَد أمة أقل سؤالاً لنبيها من هذه الأمة، أمة مُؤدَّبة في العموم، الحمد لله! لم تسأل النبي كثيراً، ما سألته إلا اثنتي عشرة مسألة، قد يقول لي أحدكم كيف والأحاديث فيها مئات المسائل؟ لكن الحبر يقصد ثنتي عشرة مسألة وردت في كتاب الله، وَيَسْأَلُونَكَ… ۩ وَيَسْأَلُونَكَ… ۩ وَيَسْأَلُونَكَ… ۩ وَيَسْأَلُونَكَ… ۩، هن ثنتا عشرة مسألة، لكن في غير ذلك سألوه أيضاً، ولكن بتقصد، باقتصاد شديد، كانوا لا يحفونه المسألة أبداً، لا يُلِحون عليه! حتى أنهم كانوا أحياناً يرشون بعض الأعراب، الأعراب – كما تعرفون – غِلاظ، ليس عندهم الأدب واللياقة في التعامل مع رسول الله، فكانوا يُعطون الأعرابي رشوة ويقولون له اسأل الرسول في كذا وكذا، فيأتي الأعرابي ويسأل، لكن الصحابة لا يسألون تهيباً واحتراماً لرسول الله، ويعلمون أيضاً كراهته لكثرة المسائل، وقال ذروني ما تركتكم، إذا أنا لم أُبيِّن لكم شيئاً اتركوني، قال ذروني ما تركتكم، لماذا؟ رحمةً منه بالأمة، النبي كان يخاف أن يُسأل في شيئ لم يُحرَّم، فبسبب هذا السؤال ينزل التحريم، فيضيق الأمر على الأمة، وفي الصحيحين قال إن أعظم المُسلِمين جُرماً – وفي روايات في غير الصحيحين قال في المُسلِمين، أي أنه أجرم في الأمة، لكن هنا قال إن أعظم المُسلِمين جُرماً، مَن هو؟ – رجلٌ سأل في مسألةٍ فُحرِّمَت من أجل مسألته، والعياذ بالله هذا أعظم المُسلِمين جُرماً، ذنب عظيم جداً جداً، حُرِّم الشيئ من أجل مسألته، ولذلك النبي كان يقول ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك مَن قبلكم كثرة مسائلهم واختلافُهم على أنبيائهم، للأسف في بعض النُسخ قبل أيام وجدت خطأً، وهي نُسخ في الصحيح، ضبطها الطابع بشكل خاطئ وللأسف هذا من الجهل، كتب كثرة مسائلهم واختلافِهم، وهذا جهل غليظ جداً، نبَّهت عليه مرة في دروس التشريع، لا يُمكِن! لو كان كثرة مسائلهم واختلافِهم لكان معنى ذلك أن الاختلاف على الأنبياء جائز لكن الكثرة منه غير جائز، وهذا الكلام غير صحيح، الاختلاف – حتى لو اختلاف واحد – على الأنبياء ممنوع، كفر! إذن هي كثرة مسائلهم واختلافُهم وليس واختلافِهم، مضبوطة خطأً في الصحيح للأسف، هناك نُسخة مطبوعة من الصحيح مضبوطة فيها بالطريقة هذه، وهذه كارثة، جهل!
أيضاً حين قال النبي – عليه السلام – كما في السُنن إن الله قد فرض عليكم الحج فحُجوا أيها الناس قام أحدهم وقال يا رسول الله أفي كل عام؟ والنبي يُعرِض عنه، ثم قال يا رسول الله أفي كل عام؟ والنبي يُعرِض عنه، ثم قال يا رسول الله أفي كل عام؟ فقال لا، ولو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، فذروني ما تركتكم، ما هذا السؤال؟ نحن قلنا حجوا، انتهى الأمر، المفهوم مرة واحدة، ومن هنا استنبط العلماء أن الأمر لا يقتضي التكرار – مرة واحدة – إلا بقرائن، فهذا دليل، هذا الحديث دليل عند الأصوليين على أن الأمر لا يقتضي التكرار إلا بقرائن خارجية على الأمر ذاته، فهكذا قال النبي، وهكذا الأحاديث كثيرة في عدم استحبابه كثرة المسائل عليه السلام.
۞ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ ۞ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ۞ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ ۞
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ ۩، هذا تنديد بأهل الكتاب، سألوا في أشياء كثيرة ثم لم يخضعوا لشرع الله فيها، ثم قال مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ۩، هذه صفات لحيوانات في الجاهلية لن نُطوِّل فيها، هناك تفاسير جداً أيضاً وكلام واختلافات حتى عن ابن عباس نفسه، اختلافات! سواء من طريق عكرمة أو من طريق العوفي تختلف التفاسير عنه، لكن باختصار البحيرة هي أُنثى، بدنة تكون أُنثى يشقون أُذنها، وهكذا! السائبة نفس الشيئ، تُسيَّب للطاغوت والعياذ بالله، ممنوع إنسان يحلبها، ممنوع إنسان يركبها، ممنوع إنسان يأكلها، والوصيلة نفس الشيئ وفيها تفاسير كثيرة، أيضاً الوصيلة هي أُنثى، لماذا؟ المفروض أن هذه الأُنثى لو لم تأت مع أخٍ لها في بطن واحدة أن هذا الأخ كان يُذبَح للرجال، للذكور! وحرام على الإناث، فهم قالوا هذه وصلت أخاها، فيُترَك هو وهي، فتُسمى وصيلة، هذا تفسير! قال وَلاَ حَامٍ ۩، وهذا أيضاً فيه كلام كثير، قيل الفحل يكون مُعَداً للضراب، فإذا ضرب عدداً مُعيَّناً – تسع مرات أو عشرات – قيل حمي ظهره فيُترَك أيضاً، نفس الشيئ! يُسيَّب هكذا، ممنوع أن يُذبَح وممنوع كذا وكذا، أي أن هذه نوع من التشريعات الباطلة التي شرَّعوها من لدن أنفسهم، ما أنزل الله بها من سُلطان، كلام فارغ! من عندهم هكذا، يُحلِّلون ويُحرِّمون ويُسمونها أسماء.
قال وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۩، هذا كذب كله، غير صحيح! وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ۩، والآية التي بعدها واضحة: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ ۩.
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۞
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۩، لماذا أَنفُسَكُمْ ۩ منصوبة؟ على الإغراء، أي منصوبة على الإغراء، عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۩، المعنى الأصلي للآية واضح جداً، هذه الآية لا تعني ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر كما قد يفهم بعض الناس، بالعكس! لماذا؟ لأن من مُقوِّمات ومن تمام الهداية أن تقوم بالأمر والنهي، أي لا يُمكِن أن تكون مُهتدياً وأنت لا تأمر ولا تنهى، أليس كذلك؟ أنت مُقصِّر في الدين، وترك الأمر والنهي فيه تغليظ شديد جداً في الكتاب والسُنة، ولذلك – كما قلت أمس – أبو إسحاق الشاطبي وابن تيمية قالا من تمام الهداية أن تكون قوّاماً بالأمر بالمعروف وقوّاماً بالنهي عن المناكر، هذا من الهداية أيضاً، قد يقول أحدكم لا، الله قال إذا اهتديت في نفسك فاترك العالمين حتى لو ضلوا، وهذا غير صحيح! هذه الآية كالتسلية، هي كالتسلية للمُؤمِنين الذين استفرغوا أو يستفرغون الوسع في التبيان والهداية والدعوة، فربما لا تحدث الإجابة كما يرجونها وكما يُؤمِّلونها فيحزنون ويغتمون، فالله كأنه سلاهم، كما سلى النبي في آيات أُخرى كثيرة جداً، فقال عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۩، أي بعد أن دعوتموهم وبيَّنتهم لهم، انتهى! إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ۩، النبي كم مرة قيل له إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ۩، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ۩، فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۩! آيات كثيرة بنفس المعنى، لكن بعد البلاغ وبعد الأمر وبعد النهي، ولذلك هذه الآية ينبغي أن تُفهَم جيداً قطعاً للاشتباه، يروي الإمام أحمد في المُسنَد وأصحاب السُنن الأربعة – أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه – عن قيس بن أبي حازم الآتي، وقيس بن أبي جازم ليس صحابياً، هو مُخضرَم – عاش أيام النبي – وكان يُمكِن أن يكون صحابياً، لكن هو من الكوفة ولم يتيسَّر له أن يلقى النبي، وهناك كثيرون هكذا، إذا قرأتم في علم الرجال كلمة مُخضرَم فهذا يعني أنه عاش أيام الرسول لكنه تابعي، فهذا يُسمى المُخضرَم، وقيس هذا مُخضرَم، وهو تقريباً الذي يُقال فيه إنه تُسنى له أن يروي عن العشرة، له رواية – ما شاء الله – عن العشرة المُبشَّرين بالجنة، عن عشرتهم! هذا هو، قيس بن أبي حازم، يقول قيس بن أبي حازم سمعت أبا بكر – هذا واحد من العشرة، أعني أبا بكر الصديق – يقول في خُطبةٍ له أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية تأوَّلونها – أي تتأوَّلونها – على غير تأويلها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۩، قال أنتم لا تفهمونها، تُفسِّرونها خطأ! أبو بكر يُعلِّم الناس ويُزيل الشُبهة، قال وإني سمعت الرسول – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا علي يديه أوشك الله أن يعمهم بعقابٍ من عنده، فهو قال أنتم لا تفهمون الآية، لا تُحاوِلوا أن تستشهدوا بها غلطاً، الآية لا تقول اتركوا الأمر واتركوا النهي، لا تقول هذا، بالعكس! النبي قال إذا رأى الناس الظالم – والعياذ بالله – أو الفاسق أو المُسرِف ولم يأخذوا على يديه كانت العقوبة عامة، كما قال تعالى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ۩، لا تُصيب الظالمين خاصة، بل تُصيب الظالمين والمُصلِحين الذين قصَّروا في الأمر والنهي، فهذا موقف أبي بكر الصديق وهو من أحسن الناس فهماً في كتاب الله، لكن يُشكِل على هذا الموقف أو على هذا الفهم – وهذه كلها اجتهادات – حديث آخر، حديث آخر أيضاً رواه أصحاب السُنن إلا النسائي – أي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، النسائي لم يروه – عن أبي ثعلبة الخشني، علماً بأننا ذكرناه غير مرة، أبو ثعلبة الخشني صحابي جليل اختُلِف في اسمه كثيراً، أقوال كثيرة في ما اسمه، المشهور أن اسمه جرثوم بن ناشر، اسم غريب! اسمه واسم أبيه غريبان، جرثوم بن ناشر هو أبو ثعلبة الخشني، رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين، جاء رجل وسأل أبا ثعلبة في هذه الآية، اسمه أبو أُمية الشعباني، قال له يا أبا ثعلبة ماذا عن هذه الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۩؟ ما هذه الآية؟ غريبة! أي أنها عكس الأمر والنهي، قال له على الخبير سقطت، أي أنك أتيت وسألت أحسن مَن يفهمها، أنا قال له، لماذا؟ قال سألت النبي – صلى الله عليه وسلم – عن هذه الآية، قال له أنا شخصياً سألته أيضاً، أي ارتبت فيها، لكن ارتبت في المعنى طبعاً، ليس في الآية وما إلى ذلك وإنما في المعنى! قال فقال لي مُروا بالمعروف وانهوا عن المُنكَر – النبي قال هذا، هذا الأصل وهذه القاعدة – حتى إذا رأيتم شُحاً مُطاعاً وهوىً مُتبَعاً ودنيا مُؤثَرة وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه فعليكم بخاصة أنفسكم، لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۩ فإن من ورائكم أياماً الصبر فيها كقبضٍ على الجمر، للعامل منهم أجر خمسين منكم، في رواية – قال ابن المُبارَك فزادني أحد الرواة – قيل يا رسول الله منهم أو منا؟ أي يُمكِن أن يكون سبق لسان والنبي لم ينتبه وغفل، قال بل منكم أنتم، وفي رواية بزيادة فإنكم تجدون على الخير أعواناً ولا يجدون على الخير أعواناً، وهذا الحديث فيه مسألتان مُشكِلتان لابد من تبيانهما على الوجه إن شاء الله تعالى.
المسألة الأولى كالآتي، ظاهر شطر الحديث الأول يتعارض مع حديث أبي بكر الصديق، حديث قيس بن أبي حازم! أليس كذلك؟ ظاهره يتعارض، لكن – مثلما قلت أمس – ماذا يقول النبي؟ كما قلنا أمس لا يُمكِن – بحمد الله تبارك وتعالى – أن الأمة يغلب عليها هذا الشيئ، الهوى المُتبَع والشُح المُطاع وما إلى ذلك، النبي يقول إذا، إذا هذا وجدتموه فنعم، هذا الشيئ – كما قلت أيضاً أمس – يُمكِن أن يغلب على أفراد، على فرقة، على طائفة، على أُناس مُعيَّنين، فاتركهم لكن لا تقل غلب على الأمة كذا وكذا فأنا أنفض يدي من أمة محمد وأجلس في بيتي، هذا كلام باطل وغير صحيح، ومَن قال هلك الناس فهو أهلكهم، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين – أليس كذلك؟ – على الحق، أي قائمين، مُستحيل! وفي الحديث الصحيح أيضاً – هو حديث ما يُرِد الله به خيراً يُفقهه في الدين، هو في الصحيح من حديث مُعاوية بن أبي سُفيان – قال النبي وإنما أنا قاسم والله يُعطي ولن تزال هذه الأمة قائمةً بأمر الله حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، لا يضرهم مَن خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، أحاديث كثيرة في ذلك! فلا يُمكِن أن تقول أمة محمد فسدت أو كلها غلب عليها الهوى والشُح والدنيا مُؤثَرة وما إلى ذلك، هذا غير صحيح! هذا يغلب على أشخاص ويُمكِن أن يغلب على طوائف أو على أحزاب أو على فرق مُعيَّنة، ويُمكِن أن يغلب على أصحاب هوى وبدعة في الدين، مُمكِن! لكن لا تقولوا غلب على الناس، ولو كل داعية وكل عالم ما شاء الله أخذ بهذا المنطق لما رأينا هذه الصحوة المُبارَكة ولا ما رأينا هذه الردة الحميدة إلى دين الله، غير صحيح الكلام هذا! لذلك تبقى القاعدة والأصل، الأمر والنهي! وإن رأينا غلبة هذه المعاني على أفراد أو طوائف قليلة أو واحد من الناس فنعم ننزع يدنا منه، نُعلِن اليأس منه، جائز! عندنا عُذر، لا نقول ينبغي أن ندعوه حتى الممات، لا طبعاً! لا نستفرغ كل الطاقة في دعوة واحد أو فرقة مُبتدِعة – مثلاً – أو طائفة من الناس مرذولة التفكير – مثلاً – أو مُهوَّسة بأهوائها، هكذا الجمع!
في آخر الحديث موضوع أن من أمة محمد مَن قد يُعطى أجر خمسين من الصحابة إذا عمل بمثل عمل الصحابة، وهذه هي المسألة الثانية، فكيف هذا؟ هذا يتناقض مع أحاديث أُخرى صحيحة، النبي يقول دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحدٍ ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه، أي لو أنفق الصحابي مُداً لكان أفضل، هل تعرفون كم يُساوي المُد؟ أربعمائة وثلاثين ملليلتر، أقل من نصف لتر، شعير! أي حفة شعير يُنفِقها الصحابي أحسن مما لو أنفق الواحد منا جبلاً ذهباً، أجره عند الله أعظم منك، فكيف هذا؟ وهذه أحاديث صحيحة، أحاديث المُد هذه وما إلى ذلك أحاديث صحيحة، فتتناقض مع هذا الحديث، في أمة محمد مَن هم ليسوا صحابة – إن شاء الله في زماننا هذا مثلاً أو في أمثال هذا الزمان – وأجر العامل منهم بأجر خمسين من الصحابة، فكيف يُمكِن الجمع بين هذه الأحاديث؟ طبعاً أيها الإخوة والأخوات هناك علم كامل اسمه علم تأويل مُختلِف – اسم فاعل، مُختلِف وليس مُختلَف – الأحاديث، أحاديث ظاهرها الاختلاف لكنها ليست كذلك، كما في القرآن الكريم، أليس كذلك؟ تجد آية ضد آية، والعلماء يُبيِّنون لنا وجه الجمع بينهما، كذلك في الأحاديث، يُوجَد علم تأويل مُختلِف الأحاديث، أحاديث ظاهرها التناقض أو ظاهرها التخالف والتباين فيأتي العلماء يُبيِّنون لنا وجه الجمع بينهم، هناك كُتب مُؤلَّفة في هذا الشيئ، هناك كتاب لابن قُتيبة، لكن أعظم كتاب – موسوعة ما شاء الله، تراث كبير جداً جداً جداً – كتاب يقع في خمسة عشر مُجلَّداً، كله في تأويل مُشكِل الأحاديث، للعلّامة الحنفي أبي جعفر الطحاوي رحمة الله عليه، شيئ عجيب! أعجب حين أقرأ فيه، مُستحيل! ما صُنِّف في تاريخ الإسلام مثل هذا الكتاب ولا أحسب أن الله يخلق مَن سيُصنِّف مثله، من يوم الطحاوي إلى الآن لم يُوجَد إنسان صنَّف مثله، مُستحيل! موسوعة خارقة، غريبة جداً جداً، استوعب كل الأحاديث، لا يُوجَد حديث يخطر على بالك يتناقض مع حديث إلا وتجده في هذه الموسوعة المُكوَّنة من خمسة عشر مُجلَّداً، فرضيَ الله عن الطحاوي وأرضاه، فهذه الأشياء سهلة على العلماء وكلها موجود بحمد الله تبارك وتعالى، كل هذه الأشياء موجودة! وهذا من شدة عنوهم بعلم السُنة وبحديث رسول الله – صلوات ربي وتسليماته عليه – طمعاً في الأجر الجزيل الذي ادخره الله – تبارك وتعالى – لمَن قام بالعناية بحديث المُحمَّد المُصطفى عليه السلام، نضَّر الله امرأً وفي رواية وجه امرئٍ سمع مقالتي فأداها كما سمعها، وهؤلاء فعلوا ما هو أكثر من هذا، لم يقتصر الأمر على أنهم سمعوها فقط وأدوها بل ودافعوا عنها ودفعوا الإشكالات والإيرادات وحافظوا على قدسية سُنة الرسول عليه الصلاة وأفضل السلام، فوجه الجمع هكذا: من أعمال الصحابة أعمالٌ لا يُلحَقون فيها، مُستحيل! إلى أن تقوم الساعة، مثل تمهيد المِلة، تأسيس الإسلام، الذب عن البيضة الأولى، أليس كذلك؟ نُصرة المُصطفى عليه الصلاة وأفضل السلام، موقعة بدر، وأمثال هذه الأشياء، هذه لا يُلحَقون فيها، لا تطمع! لماذا؟ لأن لا يُوجَد مطمع أن يقع لك مثلها، أليس كذلك؟ الإسلام تمهَّد وانتهى الأمر، أنت الآن تخدم ديناً مُمهَّداً، أليس كذلك؟ تخدم ديناً مُؤسَّساً، مَن الذي مُهَّده؟ مَن الذي مهَّد للمِلة؟ مَن الذي أسَّس للإسلام؟ مَن الذي حمى الحوزة وذب عن البيضة الأولى في المدينة؟ مَن الذي دافع عن هذه الدولة الصغيرة وقتها؟ مَن؟ مَن؟ مَن؟ مَن؟ الصحابة! لذلك هذه أعمال لا يُلحَقون فيها، وهذه الأعمال فعلاً نفاقاتهم فيها وجهادهم وقيامهم وقعودهم في أمر الله – تبارك وتعالى – أفضل فعلاً من جبال الذهب يُنفِقها أمثالنا، انتهى! لا يُوجَد مطمع، لكن هناك أعمال أُخرى اتفق للصحابة أن يعملوها ويتفق لأمثالنا أن نعملها من تقوى الله، من العفة، من الجهاد أحياناً في مواقع أُخرى وليس الجهاد في المعركة فقط، ولذلك ربنا قال الذين سبقوا ليسوا كالذين لحقوا، حتى من الصحابة، انتهى! الإنسان الذي أسلم عام الفتح ليس كالذي قبل الفتح، الله قال لَا يَسْتَوِي ۩، أليس كذلك؟ والذي أسلم قبل الفتح سنة ست أو سنة سبع أو سنة كذا وكذا ليس كالذي أسلم في مكة، وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ۩، هؤلاء غير! كلها مراتب، حتى بين الصحابة أنفسهم، ليس بين الصحابة وبيننا وإنما بين الصحابة أنفسهم – هم بذواتهم – أيضاً، هذا هو! فهناك أعمال كثيرة، الآن – مثلاً – نقول رجل صحابي يعف عن المحارم – عف عن امرأة – ورجل منا الآن في أوروبا هنا يعف، الذي يعيش في أوروبا أجره مثل أجر الصحابي خمسين مرة، لا يُوجَد شك في الكلام هذا، لماذا؟ لأن ما معنى أنه يعف وقتها؟ هو يعف وأصلاً لم تكن هناك مُغريات، لم يكن هناك تبرج، أليس كذلك؟ لم يكن هناك جمال خارق كالذي نراه في أوروبا هنا، والمُجتمَع كله عفيف أصلاً، وكل الظروف تُسهِّل العفة، والغريب أن الإنسان فعلاً يزني، لذلك حدها ليس فيه رحمة، إما مائة جلدة أو قتل بالحجر إذا كان مُتزوِّجاً، لا تُوجَد رحمة! أليس كذلك؟ ربنا وهو أرحم الراحمين – هو الرب عز وجل – قال الثيب عقوبته أن يُقتَل بالحجر حتى يموت، لأنه يستأهل هذا، المُجتمَع يُعين على العفة وأنت ترتكب هذه الفاحشة! لكن هنا – والعياذ بالله – العكس تماماً، فمَن استعف فعلاً وأثبت أنه عفيف هذا أجره عند الله مثل خمسين ضعف أجر عفة صحابي عف عن الزنا، ولك أن تقيس على هذا أعمال أُخرى كثيرة، وهكذا! فيُمكِن بهذه الطريقة أن نجمع بين الأحاديث، لكن ليس على العموم، ابن عبد البر رحمة الله عليه – الفقيه المالكي الكبير والمُحدِّث الجليل – كان جريئاً في هذه المسألة، وله رأي اعتبروا أنه تفرَّد به، هو كان يستند إلى هذا الحديث وإلى أمثاله أيضاً وأشكاله ويقول عموم الصحابة أفضل من عموم أمة محمد التالين – بلا شك – لكن قد يُوجَد في خصوص أمة محمد مِمَن ليسوا بصحابة مَن هو أفضل مِن بعض الصحابة، ليس من الصحابة هكذا بشكل عام وإنما من بعضهم، وأنا أرتاح إلى هذا الرأي جداً، لا أعرف لماذا لكنني أرتاح له، اعتبره رأياً منطقياً ودينياً وفيه عدل أصلاً، هناك صحابي – سُبحان الله هو أصلاً لم يختر أن يكون صحابياً، ربنا أسعده وعاش في زمان النبي – رأى النبي لساعة أو ساعتين وأسلم عام الفتح، يُعتبَر صحابياً هذا، بتعريف الفقهاء يُعتبَر صحابياً، أسلم عام الفتح تحت وهج السيف، يُقال هذا صحابي وبصراحة لم يعمل شيئاً كبيراً للإسلام، كان إنساناً عادياً وربما حتى احتقب بعض الذنوب، أنا هذا لا أُقارِنه بعمر بن عبد العزيز، مُستحيل! عمر بن عبد العزيز أكيد أفضل من هذا عند الله – تبارك وتعالى – وأكرم عند الله – تبارك وتعالى – أيضاً، أنا هذه قناعتي وأقولها هكذا، وطبعاً هناك أُناس ينزعجون من الكلام هذا، هذه قناعتي وأتعبَّد الله بهذا الشيئ، عمر بن عبد العزيز أفضل من مُعاوية بن أبي سُفيان، مُعاوية صحابي لكن لا أقيس مُعاوية حقيقةً بعمر بن عبد العزيز، هذه قناعتي! مع أننا سمعنا وقرأنا كلاماً لعبد الله بن المُبارَك لما سألوه في المسألة هذه، وهذا إذا صح عن ابن المُبارَك! سألوه مَن أفضل: مُعاوية بن أبي سُفيان أو عمر بن عبد العزيز؟ قال للغبار الذي دخل في أنف فرس مُعاوية حين جاهد مع رسول الله أفضل من ملء الأرض أو من كذا وكذا مرة من أمثال عمر بن عبد العزيز، وأنا غير مُقتنِع بالكلام هذا، وهذا إذا صح عن ابن المُبارَك، هذا اجتهاد للإمام إذا صح عنه، لكن عمر مكانته في قلوب الأمة – سُبحان الله – وفي قلوب الصالحين أكبر من مكانة مُعاوية، والذي فعله للإسلام كثير جداً ومعروف، لا داعٍ لأن نُذكِّر به، وهكذا! هذا موجود، فيُمكِن أن يُوجَد في بعض أفراد الأمة يا أخي مَن هم أفضل مِن بعض الصحابة، ليس مِن الصحابة هكذا بالمُطلَق! لكن الصحابة بالمُطلَق أفضل مِن كل مَن تلاهم بلا شك، هذا اجتهاد ابن عبد البر، والله – تبارك وتعالى – أعلم بالحقيقة.
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۩، الآية واضحة.
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ ۞ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ۞ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ۞
نأتي الآن إلى أصعب آية في كتاب الله، أصعب آية! هذه الآية طلبها ابن العربي لسنوات، يقول لا زلت أبحث عنها مُنذ أيام الطلب، أي من أيام وأنا طالب عالم! هو مكث سنوات طالباً للعلم، سنوات عديدة، عقود! قال لم أفهمها جيداً، لم أقدر على فهمها وأطلب تفسيرها باستمرار، أسأل هذا وأُناقِش هذا وما إلى ذلك، أصعب آية وأكثر آية مُشكِلة في كتاب الله، وأكيد مَن قرأها فيكم – كلكم تقرأون القرآن وخاصة في رمضان – تقريباً لم يفهم منها شيئاً، لا تكاد تُفهَم، سُبحان الله! قال الإمام الزجاج – النحوي الكبير – هي أكثر آيات القرآن إشكالاً في تركيبها، حتى أن بعض العلماء المُتفننين قال لو ضربنا وجوه الاحتمال للمعاني فيها لخرجت بالمئين، يُمكِن أن يخرج لك في النهاية مئات التفسيرات، مئات! ولا تُوجَد آية أكثر في وجوه احتمالات معانيها منها إلا آية السحر، تلك لها فوق المليون وقليل، شيئ غريب جداً جداً، تقريباً مليون ومائتين وستين ألف أو شيئ كهذا، تلك شيئ مُخيف، لكن تلك مفهومة، أما هذا التركيب نفسه غير مفهوم، وسوف نرى كيف، فنسأل الله أن يُعيننا وأن يُيسِّر لنا، وأنا مُتأكِّد أن الواحد منا سيجد صعوبة حتى لو قرأها في التفاسير، اقرأ التفاسير القديمة وسوف تجد أيضاً أن هذا صعب جداً إلا أن يفتح الله عليك، لن تفهم! سوف تقرأ ولن تفهم أي شيئ، أنا قرأت عشرات التفاسير قديماً – سنوات وأنا أطلبها أيضاً – ولم أفهمها إلا حين شاء الله فهمتها، سُبحان الله! قبل ذلك لم تُفهَم، تقرأ يا أخي التفسير ولا تفهم شيئاً، لأن يبدو أن حتى بعض المُفسِّرين يكتب وهو لا يفهم بالضبط السر، ينقل كلاماً فقط، ينقل بعضهم عن بعض، فهذه الآية مُعقَّدة جداً!
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ ۩، هذه نصف المُشكِلة، التي بعدها: فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ۩، ما هذا؟ ما معنى مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ ۩؟ غير مفهوم بالمرة! قال مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ۩، والثالثة والأخيرة: ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ۩، ما قصة الآيات هذه؟
أولاً نُريد أن نُبسِّطها وسترون كيف، سنحكي المعنى المفهوم من هذه الآيات الثلاث حتى يُصبِح الأمر – إن شاء الله – ميسوراً، وبعد ذلك نبدأ نُفسِّر الكلمات الغريبة والتراكيب العجيبة جداً هذه، (ملحوظة) أشار أحد الحضور إلى انتهاء النصف ساعة المُخصَّصة لدرس اليوم لكن الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم اضطر إلى إكمال التفسير، قائلاً هذه الآيات الثلاث من سورة المائدة تقول باختصار هذه الآيات إذا كان المُسلِم أو المُؤمِن في سفر – في سفر وليس في حضر، إذا كان في حضر فلن يُوجَد أي إشكال – وحضره الموت – كيف يحضر الموت؟ بحضور مُقدِّماته، كأن يمرض مرضاً يُشفي منه أو يظن أنه يُشفي منه على الموت، أي يُشرِف على الموت، يعرف أنه سيموت – ولا يجد مُسلِمين يستشهدهما، ما معنى يستشهدهما هنا؟ هذا أيضاً من المُعقَّدات، كلمة الشهادة هذه لها خمسة عشر معنىً في اللُغة القرآنية، لا تظن أن الشهادة تعني الشهادة التي نعرفها فقط، يُوجَد تقريباً خمسة عشر معنىً لها، أي للشهادة، شيئ غريب! من ضمنها الحُكم حتى ومن ضمنها الوصية، هنا بمعنى الوصية، أي يُوصي لهما، يستشهدهما ليس بمعنى أنهما شاهدان وهو يقول لهما اشهدوا لي، لا! وصية هنا، وهذا من ضمن التعقيد في الآية، فيُوصي إليهما، ما معنى يُوصي إليهما؟ يكتب وصية أو يتلفَّظ – يُشافِههما – بوصيته، أي وصيتي كذا وكذا، أموالي وتركتي وما معي هذا افعلا فيه كذا وكذا، اذهبا إلى أهلي وقولا لهما كذا وكذا، هذا معناها! هذا إذا لم يجد مُسلِمين يُوصي إليهما، والقرآن عبَّر عنها بالشهادة هنا، لكن هي ليست شهادة، هي وصية، انتبهوا! فيُمكِن – الله رخَّص له في ماذا؟ – أن يُوصي إلى كافرين، والمقصود أيضاً بسياق الآية وذوقها وفهم مقاصد الشرع: من أهل الكتاب، ليس حتى الكفّار الوثنيين، هكذا! هذا ما رجَّحه أذكياء المُفسِّرين، لا علينا من هذا، المُهِم أنهما من الكفّار، فيُمكِن أن يُوصي إلى اثنين كافرين، ما المُشكِلة في ذلك؟ هذا الكافر ليس عدلاً، أليس كذلك؟ لماذا؟ لأن الله قال اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ۩، فاشترط العدالة في الوصيين – عبَّر عنهما بالشاهدين – إذا كان مُسلِمين، فهذا يدل على أن هذه العدالة المطلوبة عدالة الدين، ليست عدالة الأخلاق العادية أو عدالة المروءة وإنما العدالة الدينية، والعدالة الدينية لا طماعية أصلاً في تواخيها في كافر، لا يُوجَد الكلام هذا، كلام فارغ! غير موجود، الكافر – اليهودي أو النصراني أو المُلحِد – مُستحيل أن نتوخى فيه عدالة دينية، ولذلك لم يشترط الله هذه العدالة في الآخرين، قال أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ۩، لم يقل عدلين، لم يقل هذا وسكت، أرأيت؟ دقة! في الأولى قال ذَوَا عَدْلٍ – أي عدلين – مِّنكُمْ ۩، لأن هذين لا يُتوخى فيهما العدل أو العدالة فهما مظنة الخيانة والغلول، يُمكِن أن يغلوا من هذه التركة، يُمكِن أن يُحرِّفوا في الوصية، يُمكِن كذا وكذا، لذلك الله قال إذا حصل عندكم ريبٌ – شكٌ – فاحبسوهما، ما معنى أحبسوهما؟ أوقفوهما، ليس معنى أن تحبس أحدهما أن تضعه في السجن، انتبه! فأحبسوهما بمعنى أوقفوهما، قال تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاةِ ۩، أي صلاة؟ صلاة العصر في الأرجح، وهذا قول أكثر المُفسِّرين، بعتضهم قال أي صلاة، بعضهم قال الظهر والعصر كالحسن البِصري، لكن الأرجح أنها صلاة العصر، والنبي فعل ذلك بعد صلاة العصر، لماذا؟ سنرى، يُقال وقت العصر هذا هو وقت دعاء عند أهل الأديان، عند اليهود والنصارى أيضاً، فيتحرَّجون فيه من الكذب، ولذلك هو مُناسِب، وأيضاً بالنسبة للمُسلِمين وقت العصر وقت التقاء ملائكة الليل بملائكة النهار، فهو وقت شريف جداً وجليل، ويبدو أن الكذب فيه قد يتسبَّب في مُعاجَلة الله الكاذب بعقوبة، لأن وقت مُقدَّس هذا، كريم جداً! وهو وقت صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى، وهو وقت فراغ الناس أيضاً من أعمالهم ومعائشهم، اشتغلوا وأنهوا أعمالهم ويُريدون أن يرتاحوا الآن قبل المغرب، أليس كذلك؟ وهكذا! أي أن صلاة العصر لها مزايا كثيرة، لذا يُحبَس – أي يُوقَف – هذان الوصيان بعد الصلاة، أي بعد صلاة العصر، ونستحلفهما الآن، نستحلفهما! نقول لهما عليكما أن تُقسِما هذا القسم المُغلَّظ، أُقسِم بالله العظيم هكذا يجب أن يقول الواحد منهما، ثم بعضهم قال يُشترَط حتى أن يقول هذه العبارة: لاَ نَشْتَرِي بِهِ – ما المقصود بــ بِهِ ۩؟ هذا هو، قيل بالقسم وقيل بما وُصينا به، أي بالوصية ومضمون الوصية، هناك قولان أيضاً – ثَمَنًا ۩.
لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ۩، كيف وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ۩؟ يُمكِن أن يكون هذا التحريف أو التغيير لصالح مشهود أو مُقسَم لأجله، أي مشهود له أو مُقسَم لأجله، قال حتى هذا إذا كان من أقربائنا وأودائنا وأحبابنا نحن لن نعتاض بالثمن القليل، لأن أي شيئ يُدفَع في الدنيا سيُعتبَر ثمناً قليلاً بإزاء تحريف الوصية والكذب في القسم، أليس كذلك؟ هو ثمن قليل وبخس وحقير!
وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ ۩، قال بعضهم هذه أكثر تعبيراً وأكثر بلاغةً مما لو قال إنا إذا لآثمون، لماذا؟ قال إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ ۩ فكأنهم أصبحوا مشمولين في جُملة الأثمة والعياذ بالله، أي مع جيش الملاعين، هم منهم!
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا ۩، هذه المُشكِلة! كيف اسْتَحَقَّا إِثْمًا ۩؟ قيل استحقاق الإثم يكون بالكذب، بالتزوير، بالتغيير، وبأي شيئ! هذه واضحة، فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا ۩، ما معنى فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا ۩؟ نأتي باثنين، مَن هما هذان الاثنان؟ هذا أيضاً فيه خلاف كثير، وسنرى هذا الآن، مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ ۩، هذا أصعب شيئ في الآيات هذه، قال مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ ۩، وهذه قراءة حفص عن عاصم، أي في رواية حفص عن عاصم، عاصم بن أبي النجود طبعاً رحمة الله عليه، في قراءة الجمهور من الذين استحق عليهم الأولين، قالوا الأولين! هناك قال ماذا؟ الأَوْلَيَانِ ۩، أيضاً في قراءة حفص وجماعة قليلين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ ۩، وقراءة البقية – جمهور القرئة – من الذين استُحِق، استُحِق بالبناء للمفعول وهذه القراءة قراءة الجمهور، جمهور القراء قالوا استُحِق، أي من الذين استُحِق عليهم الأَوْلَيَانِ ۩، من الذين استُحِق عليهم الأولين، مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ ۩، مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ۩ الأولين، هذه هي! فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ ۩، سوف نرى المعنى، نُريد أن نُفسِّر هذه بالضبط، وقبل أن نُفسِّرها نُريد أن نأتي بسبب النزول، وحتى سبب النزول مُختلَف فيه جداً، عندنا روايات كثيرة تزيد وتربو على عشر الروايات، ما الرواية الصحيحة؟ هذه أم هذه أم هذه أم هذه؟ شيئ غريب! من أمثلها هذه الرواية، سنأتي برواية قصيرة، فهي من أمثل الروايات التي هي واقعة النزول، أي واقعة نزول هذه الآيات الجليلات، وهو ما أخرجه الإمام ابن جرير وابن أبي حاتم والإمام البيهقي والإمام البخاري في تاريخه، للأسف وجدت في بعض تفاسير ابن العربي أنه قال البخاري كأنه في الصحيح، لكنه ليس في الصحيحين، لا تجد هذه في رواية في الصحيح، هي البخاري في التاريخ، كتاب تاريخ البخاري – عند التاريخ الكبير والتاريخ الصغير – وهو في الرجال، هذا فيه الضعيف وفيه الكذا والكذا، فيه كل شيئ! ليس كالصحيح الخاص به، فهذا ليس له قيمة كبيرة، هذا ليس في الصحيح، البخاري في تاريخه وابن جرير وابن أبي حاتم والإمام البيهقي وغيرهم، رُويَ باختصار الآتي أن اثنين من النصارى، هم لم يذكروا أنهما كانا من النصارى، وهذا يجعلك لا تفهم حتى الحديث، لكن مروي في روايات أُخرى أنهما كانا نصرانيين، الأول هو تميم الداري، وأنتم تسمعون به، تميم الداري صار صحابياً بعد ذلك، هذا صار صحابياً بعد أن كان نصرانياً، فهو كان من النصارى وكان السبب في حديث الجساسة، أليس كذلك؟ لما ركب كذا وانكسرت بهم السفينة وإلى آخره، هذا هو تميم الداري، حديث فاطمة بنت قيس – الشعبي عن فاطمة بنت قيس عن رسول الله – التي سمعت الرسول يحكي الكلام هذا، فهذا تميم الداري، والثاني رجل آخر أيضاً نصراني، كان معه رجل نصراني آخر! المُهِم خرجا في سفر وكان معهما زميل لهما أو قيل مُسلِم، هذا المُسلِم حضره الموت في الصحراء ولم يجد مُسلِمين يستشهدهم، فلم يجد إلا تميماً وصاحبه النصراني، أي لم يجد إلا هذين النصرانيين، وهذا الرجل من بني سهم – عربي من بني سهم – فأوصى إليهما! قال وصيتي كذا وكذا وكذا وهذه تركتي التي معي، كان معه أشياء وما إلى ذلك، قال خذا هذه الأشياء – وصية – وأعطوها للأهل، فجاءا وأعطيا أهله الأشياء، ففتحوا المتاع فوجدوا شيئاً ناقصاً يعرفون أنه من متاع أبيهم أو مُورِّثهم، وهو جامٌ من فضة مُموَّه بالذهب، أي أن له قيمة عند العرب، فقالوا لا وشكوهما إلى رسول الله، فالنبي استقسمهما، أي طلب منهما القسم، قال أتحلفان؟ قالا نحلف، أتى بهما النبي بعد صلاة العصر وأوقفهما واستحلفهما فحلفا، قالا لم نأخذ أي شيئ ولا نعرف أي شيئ أبداً، نحن أدينا كل ما عندنا، بعد ذلك وُجِدَ – في رواية أُخرى – أن هذا الجام كان بمكة في يد رجل، نفس الجام! شكله معروف، فسألوهم فقالوا اشتريناه من تميم الداري وصاحبه فلان الفلاني، الآن تُوجَد رواية ثانية أوسع من هذه، فيها زيادة! لن أذكرها كلها، المُهِم أننا نُريد أن نفهم فقط الفحوى، لأنها طويلة جداً، ثلاثة أضعاف هذه الراوية! لما وُجِدَ هذا الشيئ سُئل تميم الداري وصاحبه فقالا نعم، نحن قد كتمنا – صحيح – لأننا اشتريناه منه، قالا نحن اشترينا الجام هذا، وخشينا حين ذكرنا ذلك أن نُكذِّب نفوسنا، كأن يُقال لا، هذا غير صحيح، ونحن اشتريناه، وهذا ليس فيه شيئ، ونزلت الآيات، فلما أسلم تميم بعد ذلك كان يقول صدق رسول الله، لقد أخذناه، أي أننا كنا سرّاقين، أخذناه وكتمنا وكذبنا وقلنا اشترينا، وهذا كله لم يحصل، نحن فعلاً أخذناه سرقة هكذا، غلناه من تركة الرجل، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعترف بعد ذلك فنزلت الآية على هذه الواقعة باختصار هكذا، نزلت الآية على هذه الواقعة! ما المُشكِلة الآن؟ المُشكِلة إذا وُجِدَ هذا المتاع أو هذا الشيئ الذي اتُهِمَ به هذان الوصيان ماذا يكون موقف الورثة؟ موقف الورثة أنهم يُقدِّمون اثنين منهم، أي من الورثة، وقيل من أقرب الورثة إلى الميت، وقيل هذا معنى الأَوْلَيَانِ ۩، أي من أولى الورثة بالمُورِّث، ولا يزال هناك تفسير آخر غير هذا سوف نراه أيضاً، فيتقدَّم هذان اللذان هما من أقرب الورثة للمُورِّث ويُقسِمان، بماذا يُقسِمان؟ يُقسِمان أن الحق معهما وأن هذين كاذبين، هذا واضح! لكن ما معنى مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ ۩؟ هذا غير مفهوم، كيف اسْتَحَقَّ ۩؟ ومفتاح الفهم هو مسألة لُغوية بسيطة، للأسف هذه التي غفل أكثر المُفسِّرين عن ذكرها، لا أعرف هل فهموها أم لا، لكن هذه التي جعلتنا لا نفهم أي شيئ، ويشكو منها المُفسِّرون أنفسهم، يقولون لا نفهم، وهي كلمة اسْتَحَقَّ ۩، اسْتَحَقَّ ۩ هنا ليس معناها طلب الحق أبداً، اسْتَحَقَّ ۩ معناها جنى وأجرم، انتبهوا! يُقال استحق فلانٌ، فعل لازم هكذا! استحق فلانٌ أي جنى وأجرم، ويُقال استحق فلانٌ على فلانٍ، تتعدى بعلى، بمعنى جنى عليه وأجرم في حقه، استحق فلانٌ على فلانٍ أي جنى عليه وأجرم في حقه، ولذلك عُديت بماذا هي؟ عُديت بعلى، مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ ۩، ومَن هما الأَوْلَيَانِ ۩ الآن؟ الأَوْلَيَانِ ۩ – انتبهوا – على هذا التفسير هما الوصيان اللذان خانا، وهذا تفسير مَن؟ الفخر الرازي، هكذا فهمها، قال أنا هكذا أفهمها، والتفسير الذي ذكرته قبل قليل لم يعتمده الفخر الرازي، وبالمُناسَبة الفخر – رحمة الله عليه – أطال النفس جداً في تفسير هذه الآية، وهذا يُعتبَر مرجعاً، هذا الفخر الرازي! ثم بعد ذلك عندنا من الذين أطالوا النفس الإمام الآلوسي في روح المعاني، لأنه مُتأخِّر وجمّاع، يُجمِّع كل ما قيل، فأطال النفس فيها جداً! لأنها مُعقَّدة جداً، فالفخر الرازي قال هذا معناها، اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ ۩ أي من الذين جنى وأجرم عليهم – أي في حقهم – هذان الوصيان، وهذا معنى الأَوْلَيَانِ ۩، أي أول مُقابِل آخر، فقال هذا معنى الأَوْلَيَانِ ۩!
إذن آخران من أهل الميت يقومان مقام مَن؟ ومن أين هذان الآخران؟ الله قال من أين هذان؟ ليسا من الشارع، مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ ۩، الأَوْلَيَانِ ۩ أجرما في حق مَن؟ وجنيا على مَن؟ على الورثة، على أهل الوصي – أي صاحب الوصية – أو على أهل المُوصي، هذا هو! فالله يقول من هؤلاء الناس – أي من أهل الميت – يقوم اثنان يُقسِمان أن الحق معهما وأن هذين الوصيين كذبان، أرأيتم؟ أصبحت واضحة!
الآن يُوجَد تفسير آخر، قال فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ ۩، قال الأَوْلَيَانِ ۩ هذه ما هي؟ مُبتدأ، وخبرها ما هو؟ فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا ۩ وقُدِّم هذا الخبر وأُخِّر المُبتدأ لمزيد العناية بالخبر المُقدَّم، كيف إذن؟ ماذا يصير معنى الآية؟ يصير معناها كالآتي، إِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا ۩، على مَن؟ على أهل الميت، فهنا قال الأَوْلَيَانِ ۩ – وهما اثنان من أهل الميت – يقومان مقامهما، فهما أولى مَن يقوم بذلك، وهذا التفسير عجيب، الأول أوضح قليلاً!
فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا ۩، وهل هي شهادة هنا إذن؟ لا، قسم هنا، أليس كذلك؟ لا تُوجَد شهادة، كيف تشهد على شيئ؟ هي ليست شهادة، هما لا يريا شيئاً، وإنما يُقسِمان مُقابِل قسم اللذين جنيا، وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ۩.
ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا ۩، ما معنى ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا ۩؟ أقرب إلى أن يُؤدوا الشهادة، أي إلى أن يُصوِّروا الواقعة كما هي دون حيف أو زيادة أو نقصان، على وجهها! أَوْ يَخَافُواْ ۩، أي أدنى أن يخافوا أيضاً، هذا أقربهم إلى خوفهم، لماذا قال ذَلِكَ ۩؟ الإشارة بــ ذَلِكَ ۩ إلى ماذا؟ إلى الحُكم الشرعي الذي رُتِّب على الهيئة التي رأيناها، أي كيف الله رتَّب الحُكم وما إلى ذلك، قال هذه هي الطريقة الصحيحة التي أردتها بحكمتي أنا العليم الحكيم، قال هذا الحُكم العجيب الغريب بهذه الطريقة كلها يُحقِّق هذه المصلحة، يُحقِّق المقصود! ما هو هذا المقصود؟ ما هذه المصلحة؟ قال هذا يجعل أقرب إلى تحقيق أن يُؤدوا الشهادة على وجهها، وأقرب إلى أن يخافوا، يجعلهم أقرب من الخوف، أي يجعلهم يخافون باختصار، يخافون! أقرب إلى الخوف أي يخافون، يخافون من ماذا؟ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ۩، كما رأينا كيف تُرَد الأيمان، يقوم آخران ويُقسِمان مُقابِل قسمهما، وفي النهاية يتضح أنهما كاذبان في النهاية، قد يقول لي أحدكم هذا غريب، فهل الحق هنا لابد أن يثبت للورثة؟ نعم، لابد أن يثبت للورثة، في هذه الحالة الشرع يُثبِت الحق لمَن؟ يُثبِت الحق للورثة، يُوجَد شيئ في الشريعة يُشابِه هذا، ما هو؟ أكيد سمعتم به مرة أو أكثر، ما هو؟ القسامة، هل تعرفون ما معنى القسامة؟ تُوجَد القسامة حين يُوجَد رجل مقتول في محلة قوم أو بين ناس ولا يُعرَف مَن قاتله، لا يُوجَد في صحراء، إذا كان في صحراء ولا يُوجَد أحد فلن تُوجَد قسامة، على عكس إذا وُجِد بين قوم – في قرية أو في محلة أو في أي شيئ – وبعد ذلك اتُهِمَ به أُناس على العموم، هذا أولاً، كأن يُقال يُمكِن – والله – أن يكون هؤلاء الجماعة كذا وكذا، لماذا؟ الآن – مثلاً – بلُغة عصرنا القسامة لها مظاهر، يُمكِن مثلاً – وهذا اجتهاد فقهي سليم، فقهياً اجتهاد سليم جداً – أن يكون من حزب مُعيَّن، ويُوجَد في محلة فيها أُناس كثيرون من الحزب الآخر، فيغلب على الظن أن قتلته قد يكونون من الحزب المُخالِف، لكن لا يُوجَد عندنا قطع، أليس كذلك؟ هذا يُسمى اللوث، ما اللوث؟ أقل حتى من القرينة، القرينة ضعيفة! عندنا الدليل، عندنا القرينة، وعندنا اللوث، اللوث هو قرينة ضعيفة، بسيطة جداً، نستأنس بها، لكن الشارع لم يُهدِرها، لأنه مُتشوِّف إلى حفظ الدماء، الشارع مُتشوِّف إلى حفظ حيوات الناس ودمائهم، وهكذا! المُهِم نُريد أن نرى الحقيقة، وقد تظن أنت في بعض الناس دون أن تمتلك أي دليل، فهؤلاء الذين وُجِدَ بينهم هذا القتيل إما أن يكون عددهم خمسين فأكثر أو أقل من خمسين، إذا كانوا خمسين فأكثر فيجب أن يُقسِم منهم خمسون رجلاً أنهم ما قتلوه ولا يعلمون مَن قتله، وإذا أقسموا بهذه الطريقة وأهله يقولون لا ونحن نظن أنهم هم فتجب ديته، في هذه الحالة على مَن؟ على بيت مال المُسلِمين، له دية! لا نُهدِر دمه، وإذا لم يُقسِموا لزمتهم هم الدية، لكن لا يُوجَد قصاص، لأن غير معروف إلى الآن مَن القاتل، وإذا كانوا أقل من خمسين يتكرَّر اليمين، أي إذا كانوا خمسة وعشرين فكل واحد منهم يحلف اليمين مرتين، شيئ يُخوِّف! يقول أُقسِم بالله العظيم لا قتلته ولا أعلم قاتله، أُقسِم بالله العظيم لا قتلته ولا أعلم قاتله، يحلف مرتين! وهكذا يتكرَّر اليمين بحسب عددهم، القسامة موضوع طويل وهو موضوع فقهي يُمكِن أن تجده في أي كتاب، موجود بكثرة! لكن قريب من هذا أن أهل الميت أيضاً لهم الحق – أرأيت؟ – في أمثال هذه الأحوال، ولذلك تجد بعض المُفسِّرين الذين فسَّروا هذه الآية يُعطوك كلمة غير مفهومة لك، مثل تفسير ابن كثير! يقول لك وقريبٌ من هذا اللوث، فتقول ما اللوث؟ لا تفهم المعنى، شبَّه هذه بهذه.
إذن قال ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ۩.
۞ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ۞
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا ۩، هذه الآية مُخيفة جداً، لماذا؟ يقول المُفسِّرون كمُجاهِد وغيره من الفزع لن يعرف الأنبياء كيف يُجيبون، كل نبي يعرف نفسه ويعرف بماذا أُجيب وهل آمنوا به أم هل كفروا، لكن لشدة الأهوال يوم القيامة حتى النبي لا يعرف، إذا سأله الله يقول لا علم لي، لا أعرف يا رب، أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ۩، لا إله إلا الله! من شدة الخوف وهو نبي، فلا يظن أي واحد فينا أنه يوم القيامة سوف يكون بعقله وبشخصيته وبقوته وأنه سوف يأتي ويتفلسف أمام الله ويتكلَّم، لا يُمكِن! يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۩، مثل ساعة الموت، انتبهوا يا إخواني! كيف هو الموت؟ كيف هي فتنة مُنكَر ونكير؟ كيف هي يوم القيامة؟ ماذا عن كل الفتن؟ نفس الشيئ! والله العظيم لا هو بالعقل، لا بالذكاء، ولا باللسان! الله يُجري على لسانك ما يُريده هو، ما يعرف أنك تستحقه، ما تقدر أن تقوله على استحقاق يُعطيك إياه وإلا لن نقدر، فهذا معنى يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۩، وإن قيل هي عند الموت، على كل حال قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ۩.
۞ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ۞
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ۩، أي اذكر إِذْ قَالَ اللَّهُ ۩ أو حين قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ۩.
اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ ۩، ما النعمة التي على والدته؟ أنها صديقة ومُصطفاة على نساء العالمين وأنها مُطهَّرة وأن الله أخرج من رحمها هذا الإنسان العظيم وهذا النبي الكريم – عليهما الصوات والتسليمات – وأنه به برأها من تُهمة الزنا، أنطقه صبياً وبرأها من تُهمة الزنا وصارت صدّيقة ومُقدَّسة عليها السلام.
إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۩، وهو جبريل عليه السلام، تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ۩، هذه الآية احتج بها مَن قال عيىسى أُوتيَ النبوة وهو صغير، هذا يعني أنه حتى من أيام ما كان عمره خمس أو ست سنين كان نبياً ويعظ الناس، تصوَّروا! قال تُكَلِّمُ النَّاسَ ۩، لماذا؟ كيف احتجوا بها إذن؟ قد يقول أحدكم ليس فيها وجه حُجة، قال تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ۩، وانظر إلى قوله تُكَلِّمُ ۩، لم يقل كلَّمت وإنما قال تُكَلِّمُ ۩، هذا يعني أن المسألة فيها استمرارية، لم يتكلَّم مرة واحدة وسكت، تكلَّم وظل يتكلَّم، ظل وهو صغير يُكلِّم الناس، لكن هذا ليس الكلام العادي، حُمِلَت هنا أو ضُمِّن الفعل كلَّم معنى دعا، تدعو الناس إلى الله فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ۩، لماذا؟ لو كان المقصود الكلام العادي فلا معنى لأن يُقال وَكَهْلاً ۩، نحن حتى من الكهول ونُكلِّم الناس أيضاً، هل هذه نعمة كبيرة؟ حتى نحن كهول ونُكلِّم بعضنا البعض، فالمقصود ليس الكلام هنا، إذن هذا ضُمِّن الكلام والتكليم معنى الدعوة، فيصير معنى الآية تدعو الناس إلى الله – نبياً ورسولاً، ليس المقصود بالداعية أنه حتى عالم، فهو يدعو بصفة وعنوان النبوة – فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ۩، وهنا يصير لــ وَكَهْلاً ۩ معنى، أليس كذلك؟ لكن أيضاً يُوجَد اجتهاد آخر، علماً بأنني ذكرته في أكثر من مرة، ما هو؟ أنا أقول يُمكِن أن تقول وَكَهْلاً ۩ احتراس أو احتراز، يُسمى هذا الاحتراس أو الاحتراز، تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ۩: آية من آيات الله، آية قدرية كونية عجيبة، لماذا يقول وَكَهْلاً ۩؟ إذا قلنا الكلام بمعنى الكلام فعلاً كما هو فلماذا يقول وَكَهْلاً ۩؟ احتراز من أن يقول بعضهم هذا الطفل ممسوس أو به جن حين كلَّم الناس، وهنا قد يقول لي أحدكم ما علاقة وَكَهْلاً ۩؟ لها علاقة طبعاً، لأن في العادة مثل ظواهر الخارقة لا تُعمَّر، كأن يتكلَّم طفل صغير ويقوم بعمل حركات مثل هذه وما إلى ذلك، بعد ذلك يموت بسرعة، يُعتبَر ظاهرة غير طبيعية، وهذا يحصل! أنا أعرف قصة حقيقية في الخليل – في خليل الرحمن – حدَّثني بها رجل هو ابن هذه العائلة، وهذه عائلة من الصالحين، حتى هذا الشاب كان صديقاً لي، سُبحان الله يُوجَد سر يا أخي، شاب يدرس الهندسة وهو شاب مُبارَك ومزوح فيه سر، إذا دعا عليك أو دعا لك بأي شيئ – ما شاء الله – يتحقَّق، (ملحوظة) قال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لأحد الحضور إنه أبو عرقوب يا أبا الريحان، شاب مُبارَك! تشعر أن فيه سر، هذا واضح، ما شاء الله رجل مُبارَك، والعائلة كلها – ما شاء الله – أولياء لله، آباؤه وأعمامه وأجداده كانوا كذلك، كل العائلة! فحدَّثني بقصة عن ولد وُلِد لهم وذكر فعلاً كيف كان هذا الولد – والعياذ بالله – غير طبيعي، قال عمتي – هو ابن عمته – كانت تنظر إليه لأن جده – أي جد هذا الولد – قال لها انتبهي هذا ليس ابننا، هذا – والعياذ بالله – من العالم الآخر، قالت كيف؟ هذا ابني! قال ليس هو، انتبهي، فرقبته هي، طفل عمر خمسة أشهر أو ستة أشهر، أي طفل صغير! تضعه في الغرفة فيبكي – طفل عادي – وما إلى ذلك، كانت تنظر إليه من خارج الباب وإذا به يرقص ويقفز من مكان إلى مكان كالشيطان – والعياذ بالله – ويتكلَّم، يتكلَّم بكلام عجيب ويُهدِّد، فخافت خوفاً شديداً، تخيَّلوا! فقال لها هذا نضع له شعير في بيضة، فإذا أكله مات، ضعي له هذه البيضة يتلهى بها، إذا ذهبتِ سيأكلها وسوف يموت، ففعلت ذلك! فأخذ البيضة وفتحها، هي كنت ترى هذا، قالت فقال يضعون لي الشعير ويُريدون قتلي الملاعين! وأنا أعرف كل شيئ، لكن فعلاً مات بعد ذلك، مات ولا يُعرَف مَن الذي مات، انتهى! فهذه الظواهر معروف عند الناس أنها لا تُعمَّر، مثل طفل ينطق ويتكلَّم لأنه ممسوس أو فيه شيئ من الجن، هذا لا يُعمَّر، لا يظل بين الناس، يذهب إلى رحمة الله عز وجل، والناس تُفتَن بعد ذلك، هناك دجّال واحد – ليس دجّالاً كل يوم – سوف يأتينا في آخر الزمان، لعنة الله عليه ولا جعلنا نراه، يُوجَد دجّال واحد وليس دجّالين بالطريقة التي نراها، لكن هذا لم يحدث مع عيسى – عليه السلام – حتى لا يُقال إنه كان كذلك، أي لا يُقال إنه طفل ربما سكنه الشيطان، دخل فيه وتكلَّم على لسانه والعياذ بالله كالممسوسين الذين نراهم، أنا لا أتوسَّع ولا أُحِب التوسع في قضايا الجن ومَن يركبونه ولا أُؤمِن بأكثرها، أُؤمِن بأن أكثرها قضايا نفسية سيكولوجية بحتة، لكن بعضها لا أستطيع أن أُنكِرها، نوع من المس والتخبط حقيقي وغريب، ومن أغرب الحالات أن تجد شاباً – مثلاً – أو طفلة صغيرة يصل عمرها إلى ثماني سنوات تبدأ تلهج بلُغة هي في حياتها لم تسمعها، تلهج بها بشكل مُمتاز Perfectly، أي مثل ابن هذه اللُغة الذي يُسمونه بالــ Native speaker، أي المُتحدِّث الأصلي، تتحدَّث مثل الــ Native speaker! كيف هذا إذن؟ فسِّر لي إياها، اجعل فرويد Freud واجعل علم النفس واجعل كل علماء الدنيا يُفسِّرون المسألة هذه، طفلة عربية – مثلاً – في مُعسكَر عندنا يصل عمرها إلى ست سنوات تتكلَّم بالعبري بشكل كامل أو بالألماني بشكل كامل حين تُركَب وتُمَس، واضح أن الذي استعار لسانها هو الشيطان والعياذ بالله، وبالمُناسَبة هذه ظاهرة خطيرة، وإخبار بالمُغيبات! حدث شيئ مثل هذا ولا أعرف أقلته لكم أم لا – (ملحوظة) قال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لأحد الحضور يا أبا الريحان هذا في بيروكا – مع شاب سوداني ذات مرة، وقلت لكم أنا لا أُؤمِن بأكثر هذه الأشياء وأنا مُتشدِّد فيها وأُكذِّب أكثرها، لكن هذه مسألة غريبة، شاب سوداني أيضاً كان ممسوساً هكذا وقالوا نأتي له بالأخ عدنان لكي يُعالِجه وما إلى ذلك، المُهِم أنهم – والله – ذهبوا سراً، هو مُلحِد وأبوه رئيس حزب كبير في السودان، حزب ماركسي! وهو مُلحِد كأبيه، فهم ذهبوا سراً وحين دخلت عليه ضحك، الآخرون خافوا، فقلت ماذا؟ قالوا هو قال ذهبوا بالسيارة الحمراء لكي يأتوا بالشيخ عدنان، وضحك! قال أنا سأُري الشيخ عدنان هذا ماذا سأفعل، طبعاً لأن معه شيطان يعرف ما حصل، وحدث ما هو أغرب من ذلك – هذا الشيئ الغريب – ولا أعرف هل أبو الريحان كان معنا أم لا، لكن هذا أغرب شيئ، هذا الرجل جعله الله منّة وكرامة لكثير من أصدقائه المُسلِمين، لماذا؟ يقول لأحدهم أنت عندك – مثلاً – امتحان في الطب الباطني – يدرس الطب – فهل تُريد الامتحان؟ إذا كان الامتحان مكتوباً – إذا كتبه البروفيسور Professor – فسوف أُحضِره لك، وفعلاً يأتيهم بالأسئلة، فكانوا يحصلون على العلامات الكاملة، نجَّح الكثير منهم، جماعة كبيرة نجحت في أشياء كثيرة بسببه، فالمُهِم أنهم رأوا منه ظواهر خارقة، شيئ عجيب، لا يُكذَّب! شيئ مُخيف، وكان يحدث معه كل ليلة أشياء لطيفة لكن لن نحكيها، فهذه ظاهرة حقيقية، فلا يقل لي أحد سوف أُنكِرها بسبب السيكولوجي Psychology والتحليل النفسي وفرويد Freud واللاشعور وقد انفجر كذا وكذا وما إلى ذلك، هذا كله كلام فارغ، في اللحظة هذه كله كلام فارغ، في حالات أُخرى مُمكِن، في هذه الحالات لا، فهذا الشيئ موجود، وهو دليل على أن الشياطين موجودة، فالجان موجودون وأحياناً يتصلون بنا، يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ ۩، تعرفون هذا! قالوا: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ۩، طبعاً هذا نوع من التمتع، تمتع الإنسي بالجني والجني بالإنسي، يُيسِّر له أشياء مُعيَّنة ويفعل له أشياء مُعيَّنة، أليس كذلك؟ في بيروكا هذه نفسها – والعياذ بالله – حُدِّثنا عن رجل كبير – شيخ كبير بوسنوي مُسلِم – وعن فتاة كان عمرها تقريباً سبع وعشرين سنة، جميلة جداً وتعمل مُدرِّسة، وهذا شيخ كبير، أكثر من سبعين سنة عمره، أي أنه مهكع – كما يُقال – وكُهنة، أحب الفتاة وكان عنده علاقة مع الجن، مُباشَرةً بعد أيام فقط حين رآها ورأته وافقت أن تتزوَّج منه، وهي كانت ترفض الرجال الشباب الذين كانوا من أحسن ما يكون، سحرها مُباشَرةً! هذا الشيئ موجود، فالله احتراساً واحترازاً من أن يُقال هذا الصبي الصغير – عيسى ابن مريم – مسكون بالجن وما إلى ذلك قال تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ۩، وسوف تُعمَّر وتعيش ويرى الناس أنك صاحب منطق ونبوة وعقل ووعي، ليس ظاهرة مسيخة أو ظاهرة غريبة ستنتهي بعد أيام، لا! إذن مُمكِن أن يُقال أيضاً هذا التفسير.
وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ۩، هذه أيضاً فسَّرناها قبل ذلك، وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ۩، فقط فيها إضافة جديدة هنا هذه الآية، مُهِمة جداً هذه الإضافة، وهي ماذا؟ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ۩، هذا فيه إشارة إلى أن صنع التماثيل والأصنام الأصل فيه الحُرمة، حتى في الأمم السابقة، انتبه! لأنه قال له بِإِذْنِي ۩، هذا يعني حُرمانية أن تصنع تمثالاً، حرام! لكن الله قال له أذنت لك أن تصنع التمثال هذا بِإِذْنِي ۩، فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۩، حتى حين تنفخ فيه لكي تدب فيه الحياة أيضاً يكون ذلك بِإِذْنِي ۩، وأنت تُحييه بِإِذْنِي ۩ وبقدرتي، لكن الإذن الأول هو المُهِم بالنسبة لنا هنا، وهو ماذا؟ ممنوع أن تُضاهي خلق الله وتصنع تمثالاً بيدك على شِكلة أي كائن حي، ممنوع! والله لم يأذن لك بذلك، لذلك هنا الله قال ماذا؟ هذه حالة استثنائية وأنا أذنت لعبدي وروحي عيسى بذلك، أذنت له أن يصننع التمثال وأذنت له أن ينفخ ويُحييه بِإِذْنِي ۩.
وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۩، فسَّرناها قبل ذلك، الأكمه هو الذي يُولَد ضريراً، وهذه أبلغ من الذي أضر بعد ذلك، أليس كذلك؟ فرق بين إنسان كان يرى وأضر وبين الذي يُولَد ضريراً، هذا يعني أن الجهاز نفسه غير مُكتمَل، الشبكية ربما تكون غير مُكتمِلة، وبعد ذلك يجعله يرى، سُبحان الله، شيئ غير عادي هذا، بعد عشرين أو ثلاثين سنة يرى، شيئ غريب!
وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ۩، تُحيي الموتى، قيل كان يُحيي الموتى قريبي الدفن، وقيل لا، الله لم يقل هذا بصراحة، الله قال وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى ۩، وانظر إلى قوله تُخْرِجُ ۩، فلكمة تُخْرِجُ ۩ هذه فيها – سُبحان الله – أيضاً إشارة هامة، فعلاً كأنهم ذهبوا في أعماق الأرض، أليس كذلك؟ بلوا، أرموا، جيَّفوا، من أشهر أو سنين هم كذلك، يُخاطِب الواحد منهم بإذن الله – تبارك وتعالى – فيُكسَى هذا العظم لحماً وبعد ذلك تدب الروح ويخرج يمشي، وقيل كان يخرج مع أهله، يرجع فيأكل معهم ويتعشى معهم، أي هذا الميت، آيات غريبة! ومن هنا – سُبحان الله – فُتِن الناس في عيسى عليه السلام، هناك أُناس فُتِنوا فيه لأن هناك آيات غريبة جداً جداً، وبالمُناسَبة حدَّثتكم مرة بقصة تتعلَّق بهذا الموضوع ولطيف أن أُحدِّثكم بها الآن، بعض الناس لا يستوعب هذه الأشياء، دعوه! كل إنسان يستوعب بحسب إيمانه وبحسب يقينه، طبعاً النبي – عليه السلام – أحيا الموتى وهذا معروف، لم يحدث هذا لمرة أو مرتين بل حدث كثيراً، وأنا ألقيت درساً في مسجد الهداية قديماً في رمضان أيضاً عن هذا، ذكرت ربما أربع أو خمس أحاديث في القضايا هذه بأسانيد وتخريجات فيُمكِن أن يُرجَع إليها، لكن أمة محمد أيضاً فيها شيئ كهذا، أولياء أمة محمد فيهم مَن أقدرهم الله على ذلك أيضاً كرامة لهم، لكن ليس مثل عيسى وما إلى ذلك، أي يُحيي الميت للحظات – مثلاً – أو لساعة أو لنصف ساعة وبعد ذلك يرجع يموت بإذن الله، هذا موجود! ومعروف عن أولياء كثيرين هذا الشيئ، لكن هذه القصة غريبة جداً ولن أنساها إلى أن أموت، لماذا؟ أنا سمعتها من رجل أديب ودارس للفلسفة، وهو رجل عراقي كبير من آل عبود، لكن أنا نسيت اسمه، المُهِم هذا لماذا التقيت به؟ التقيت به لأنه ماركسي أيضاً يعيش في برلين، ونحن كنا في نيش في يوغوسلافيا، فهو ماركسي ويُذيع هذا الفكر، ابن أخته قال له أنا سآتيك بشاب هنا يُناقِشك ويُفحِمك، قال شاب؟ فذهبت إليه، ذهبت إليه وفعلاً الرجل ماركسي وهو رجل كبير في السن، وكان كاتباً وأديباً وما إلى ذلك، فجعلت أُناقِشه فلسفياً في الديالكتيك وما إلى ذلك فأُفحِم بفضل الله تبارك وتعالى، بعد ساعات من النقاش أُفحِم بالكامل، ولما أُفحِم أخذه حال ديني، بدأ – سُبحان الله – ينتعش الإيمان عنده، بدأ يتذكَّر أشياء وبدأ يندم ويشعر بالخزي، كيف كان مُلحِداً؟ كيف نسيَ دينه؟ وقال لي بمعنى الكلام إذا جاز للناس كلهم أن يُلحِدوا فأنا ينبغي لي ألا أُلحِد، فقلت الحمد لله وفرحت به جداً جداً، قلت له لماذا؟ قال لماذا؟! قال عمي أنا – أخو والدي – اسمه الشيخ القطب – كان قطباً من أقطاب أولياء الله عز وجل – كاظم عبود، يعرفه كل أولياء العراق الذين كانوا في عصره، كلهم يعرفونه! ويدينون له بالإجلال والاحترام التام، لأنه خطير، ولي خطير جداً، عجيب! ما سُمِع بمثله، قلت له ما قصته؟ قال لي معروفة، كل الناس يعرفونها، معروفة هذه القصة ومُتواتِرة، فقلت له كيف؟ حدِّثني عن عمي رحمة الله عليه، قال لي هذا كان رجلاً مُتزهِّداً غير مُتزوِّج، ترك الدنيا ومَن فيها، لم يكن كالمشايخ النصابين الذين يفتحون زوايا ويأخذون من الناس أموالهم، لا يُريد هذا، الرجل عنده غُرفة فقط يسكن فيها، يُؤدي فيها الصلوات والذكر، ليل نهار في ذكر الله تبارك وتعالى، رجل مُتألِّه، مُنقطِع للعبادة بالكامل، قال أخوه – وهو أبي – قال له ممنوع أن تدخل علىّ دون إذن، إياك أن تفتح الباب دون أن آذن لك، وإلا يحدث شيئ غير جيد، لا يُريد طبعاً أن يُصيبه مكروه، لأنه قد يفقد عقله، يُمكِن أن يُجَن، فالمُهِم في مرة من المرات دخل أخوه عليه، فعلاً فصُعِق وحملوه من عنده، قال له أنا نبَّهتك، وفي ثاني مرة سوف يكون الأمر أصعب من ذلك، لماذا؟ رأى الغرفة كلها نور، وهو ليس عنده سراج، هو لا يطلب سراجاً، ليس عنده لا سراج ولا أي شيئ، رأى الغرفة كلها مُنوَّرة بنور غريب جداً، كأن القمر فيها! ورأى كل شيئ في جسم أخيه يُسبِّح بحمد الله، كأن مليون لسان تنطق، فصُعِقَ المسكين، لم يستطع أن يتحمَّل، أُغشيَ عليه مُباشَرةً، تخيَّلوا! شيئ غريب، شيئ غير عادي، فالمُهِم هذه كانت كرامة بسيطة، أغرب كرامة له هي هذه، ما هي؟ قُتِل شاب من قبيلة – قبيلة كبيرة – واتُهِم بهذا الشاب شاب كان نديداً له من قبيلة أُخرى، وبين القبيلتين عداوة قديمة، اتُهِم شاب كان بينهما مُشاحَنات وضغناء وأشياء مثل هذه، فقيل أكيد هذا هو القاتل، وكادت تقع ملحمة بين القبيلتين، سوف يذهب فيها الآلاف طبعاً، وأنتم تعرفون العرب والأعراب البدو هؤلاء، مُشكِلة كبيرة! المُهِم تدخلت من هنا جهات ومن هنا جهات وما إلى ذلك، ولم يعرفوا شيئاً، فأحد الناس الطيبين الله ألهمه، قال لهم يا جماعة الشيخ الولي القطب كاظم عبود موجود، هذا رجل من أهل الله عز وجل، يُمكِن أن يطلب هذا الله أو يدعو أو يستخير ويُمكِن أن يرى في الرؤيا ما الذي حصل، قال نقول له الموضوع، فجاءوا إليه، قال لهم أنا لا أخرج ولا أترك عُزلتي ولا أُريد شيئاً، فقالوا له يا شيخنا هذه ستحقن بها دماء المُسلِمين وما إلى ذلك، فأقنعوه فقال لا تُوجَد مُشكِلة، قالوا كيف؟ قال سوف ترون، هل الميت دفنتموه؟ قالوا لا، لم يُدفَن إلى الآن، قال لا تدفنوه وسوف ترون! الليلة المغرب – بعد صلاة المغرب إن شاء الله وبعد أناأُصلي وما إلى ذلك – سأخرج ولا أُريد أي كلام، لا أُريد أن يأتي إلىّ أي إنسان لكي يُقبِّل ما يدي وما إلى ذلك، اتركوني! لا أُريد أي أحد، لا أُحِب هذا، فقط سآتي إلى الخيمة وأنتم سوف ترون وسوف تسمعون وتعرفون مَن الذي قتل وينتهي كل شيئ، قالوا على بركة الله، جاءت النساء – يقول لي ابن أخيه هذا – والأطفال ووقفوا سماطين – صف في جهة وصف في الجهة الأُخرى – في ظلام الليل، وخرج الشيخ رحمة الله تعالى عليه، والناس ينظرون إليه بهيبة وجلال كبير، فجاء إلى الميت ورأسه محزوزة بالكامل، أي شبه مقطوعة إلا قليلاً، فوضع يده وسمى باسم الله، وقال له بمعنى الكلام يا فلان بأمر الله وقدرته وإذنه قُم حياً، فقام الولد مُباشَرةً وجلس، الناس صُعِقَت! قال له مَن الذي قتلك؟ احك لنا، قال قتلني أبناء عمي، أرأيتم؟ اتضح أن المُجرِمين من نفس القبيلة، مثل قصة البقرة، سُبحان الله! فلان وفلان كنت معهما في رحلة قنص وصيد في المكان الفلاني، قال فلان قيَّدني وأوثقني وفلان ذبحني بالخنجر، قال له عُد كما كنت، فعاد ميتاً! الناس تبكي وتصرخ، لا إله إلا الله! الناس صُعِقَت وجدت، صار عندهم حالة جد، طبعاً غير مُمكِن يا أخي هذا، انظر إلى أين بلغت كرامة أمة محمد، هؤلاء أتباع رسول الله، هذا هو طبعاً! وكما قلنا في دروس رمضان عدة مرات على قدر ما تتقرَّب من الله الله يُكرِمك ويُعطيك، ماذا أعني؟ يُوجَد فرق طبعاً بين هذا الإنسان الذي قال له قُم بإذن الله وقام وبين إنسان آخر حين يضع يده عليك ويقول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ يشفيك من مرض عُضال، أليس كذلك؟ من ميجرين Migraine أو من سرطان أحياناً، يقول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ ويقرأ سبع مرات فتعود ولا شيئ فيك، ما هذا؟ والطب كله يعجز، كل البروفيسورات Professors وكل الدنيا تعجز، لكنه حين يده يضعها عليك فقط ويقرأ عليك سبع مرات ويدعو لك ترجع سليماً بإذن الله تبارك وتعالى، أليست هذه خارقة؟ لكن هذه أقل من الذي أحيا الموتى، لو ظل هذا الولي الصالح الذي عنده يد مُبارَكة ماشياً – بإذن الله تعالى – ماذا سوف يحدث؟ يُمكِن أن يصل إلى هذه المواصل أو قريب منها، خزائن الله مليئة لكل العباد وموجودة، لكن نحن المُقصِّرون، نحن لا نهتم، أليس كذلك؟ ذات مرة تحدَّثت عن هذا في خُطبة وشبَّهته بإنسان أمامه النهر أو أمامه البحر فيذهب ويأخذ الماء بالفنجان، أليس كذلك؟ يأخذ بالفنجان الماء ويعود إلى بيته، مسكين! أنت أمامك نهر، أبالفنجان تأخذ؟ نحن مثل هذا، عندنا قدرة أن تغرف من رحمة الله بالمكيال الأوفى بإذن الله تبارك وتعالى، والله العظيم! كل يوم وكل ليلة كم نستطيع! لكن للأسف نبخس أنفسنا ونظلم أنفسنا، أليس كذلك؟ نُدسيها بالمعصية وبضعف الهمة وبالتحذلق، هناك أُناس ما شاء الله يقول الواحد منهم هذه خُرافات يا أخي، فلتكن خُرافات، جيد! فلتكُن خرافات وكُن أنت على عقلك إن شاء الله وسوف نرى كيف ستموت وماذا حصَّلت من كرامة الله ومن تأييد الله بعد ذلك، أليس كذلك؟ فنسأل الله أن يجذبنا إليه جذبة – والله – تُنسينا سواه تبارك وتعالى – وأن يرحمنا برحمته الواسعة في هذه الليلة المُبارَكة. اللهم آمين.
وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ۩، هذه متى؟ حين رفعه تبارك وتعالى، كيف كف بني إسرائيل عنه؟ لأنهم ائتمروا على قتله – والعياذ بالله – فالله رفعه وتوفاه إليه، وكما قلنا الصحيح الراجح أنه توفاه روحاً وبدناً، وهو هناك مع الملائكة يُسبِّح.
۞ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُواْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ۞
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُواْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ۩، كيف أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ ۩؟ وحي إلهام، لأن الحواريين ليسوا أنبياء، أليس كذلك؟ فكيف أوحى إليهم؟ مثلما أوحى إلى أم موسى وليست بنبية على المشهور، إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ ۩، وحي إلهام! وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ۩، هل النحل نبي؟ هذا وحي إلهام، أليس كذلك؟ هم يُسمونه غريزة، أنا أُسميه إلهام، فالله يُلهِم الحيوانات، الله يُلهِم حتى الجماد، أي أنه يأمر الجماد، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ۩، ويُوحي إلى الملائكة والملائكة ليسوا أنبياء، إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ ۩، يُوحي إلى البشر العاديين، فيُمكِن أن يكون الله أوحى لكن ليس وحي رسالة – لا تقل أنا نبي – وإنما وحي إلهام، يقذف شيئاً في قلبك وما إلى ذلك، قد يقول لي أحدكم هل هذا موجود؟ موجود، إي وربي موجود، انتبه ولا تُخالِف, أنت لا تقدر أن تُخالِف أصلاً، حين يأتيك وحي إلهي أنت لا تقدر أن تُخالِفه، كيف إذن؟ يصير عندك إلهام قوي جداً جداً جداً أن الآن في هذه اللحظة لا ينبغي أن تمشي، سوف يقع حادث الآن هنا، يأتيك إلهام قوي يقول لك لا تمش، وفعلاً لا تمشي ويقع حادث أمامك، فتقول الحمد لله، لا إله إلا الله! أليس كذلك؟ يأتيك إلهام قوي جداً جداً جداً أن في هذه اللحظة لا ينبغي أن تفتح الباب، يقف شيطان يقف هناك، ثم يمر الشيطان من أمامك وتراه في شكل كلب أو في شكل قط أسود وما إلى ذلك، لو كنت مررت لضربك، أرأيت؟ هذه أشياء خطيرة وتحدث مع أناس كثيرة، مع الناس الصالحين أو الناس المُسلِمين العاديين، فيأتيك إلهام قوي جداً جداً، تشعر بأنه ينبغي أن تقول كذا وكذا وكذا، وتكون كلماتك هذه سبب نجاتك مثلاً، وهناك أشياء أغرب من هذا تحدث، لكن على قدر إيمانك أيضاً، وأحياناً يحدث هذا لإنسان غير مُؤمِن بشكل كبير، لكن الله – عز وجل – يُعطيه هذه الإلهامات لمصلحته، أي لمصلحة هذا العبد، هذا وحي إلهام، وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُواْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ۩.
۞ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۞
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء ۩، هم اقترحوا بعد ذلك هذا، لأنهم كانوا فقراء، لم يكن هذا للتعجيز، كانوا فقراء ويحتاجون الأكل والشرب، المساكين لم يكن عندهم أي شيئ، فقالوا هل يقدر ربك أن يُنزِّل علينا مائدة من السماء لأنني نُريد أن نأكل؟ فماذا قال لهم عيسى؟ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ ۩.
قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۩، ما معناها؟ أي اتقوا الله وتوكَّلوا على الله في طلب الرزق، ما هكذا تُطلَب الأرزاق حتى وإن كنتم في مخمصة وفي مسغبة، اذهبوا واحتالوا، امتاروا لأنفسكم، لا تقولوا نُريد أن يُنزِّل الله مائدة وما إلى ذلك، فقالوا لا وأصروا، نحن نُريدها، نحن نُريدها لأننا جائعون ونُريدها لتكون آية أيضاً.
۞ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ۞
قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا ۩، هذا هو المعنى، نحن مُحتاجون قالوا، أرأيتم كيف؟ المُفسِّرون لا يأتون بشيئ من عندهم، كل شيئ في القرآن، لما قالوا كانوا فقراء ومُحتاجين لم يكن هذا تبريراً للحواريين، القرآن يقول هذا! قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا ۩، نحن فقراء وجائعون، نُريد أن نأكل، نحن نحتاج الشيئ هذا، هذا أول مقصد، وهو الأكل منها لفقرنا، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا ۩، ماذا يقصدون بــ وَتَطْمَئِنَّ ۩؟ أنك رسول حقاً من عند الله وأنك مُؤيَّد وأن الله يُجيبك وأنك كريم عليه وله بك عناية، وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا ۩، أي في كل ما أُرسِلت به، وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ۩، كيف وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ۩؟ نكون على المائدة من الشاهدين، نشهد أنها آية رأيناها وأكلنا منها وأن الله أيَّدك بها، ومن ثم سنبدأ نُدافِع بعين قوية عنك وعن رسالتك، هذا معنى الآية!
۞ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ۞
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً ۩، كيف تَكُونُ لَنَا عِيداً ۩؟ أي ذكرى تُقدَّس، هذا معناها! العيد من العَوْد، لكن معروف لماذا أصبح كذلك، لأن إذا كسرنا العين لا تصير العِوْد، فحوَّلنا الواو إلى الياء لتكون أسهل، تصير العيد بدل العِوْد، فهذه هي، العيد من العَوْد، ما العَوْد؟ مرة بعد مرة، ولذلك سُميَ العيد عيداً لأنه يعود كل سنة، أعاده الله علينا نقول، أليس كذلك؟ يعو ويرجع، فقال تَكُونُ لَنَا عِيداً ۩، ما معنى تَكُونُ لَنَا عِيداً ۩؟ ذكرى نتآثرها نحن وأتباعنا إلى يوم القيامة، ونظل نُقدِّسك ونشكرك على هذه العطية، سوف نقول يوم المائدة باستمرار! مثلما قال الله: يَوْمَ الْفُرْقَانِ ۩، قال اذكروا الشيئ هذا واشكروه يوم الفرقان، ودائماً لابد أن نتذكَّره وخاصة في رمضان، نتحدَّث عن الفرقان وبدر، نقول يا رب لك الحمد على نُصرة الإسلام، فهذا مثل هذا!
لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ ۩، كما قلنا الآية: البرهان أو المُعجِزة، وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ۩.
۞ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ۞
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۩، لا إله إلا الله! انظر إلى هذا، أجاب أيضاً عز وجل، لأنه موجود، ويُريد أن يُثبِت لهم أن عيسى كان نبياً، هذا ليس أي كلام، وهو ليس ساحراً، الله موجود وقال سأُنزِلها، وكيف أنزلها؟ رأوها نازلة من السماء، لم يحدث أنهم قاموا فوجدوا مائدة ومن ثم قد يجلسون ويتفلسفون، فيقولون لعل أحدهم أتى بها ولعل ولعل، لا! هم رأوها تنزل من السماء، في روايات نزلت بها سبعة ملائكة ورأوها، رأوها تماماً وهي تنزل، وليس مُستحيلاً أن يرى بعض الصالحين الملائكة، أليس كذلك؟ وفي الحديث الموجود في الصحيح النبي قال لأُسيد بن حُضير ماذا؟ ماذا قال له؟ قال له والذي نفسي بيده لو ظللت تقرأ لنزلت الملائكة ولصافحن الناس في الطرقات لا تبرح، يا أخي ضاع علينا هذا، يا للخسارة! لكن هذه حكمة ربنا، هذا الحديث في البخاري، حديث صحيح! أُسيد بن حُضير كان يقرأ قرآناً كريماً ليلة الجُمعة – اختُلِف في السورة لكن المُهِم أنه كان يقرأ – ورأى مثل الظُلة أو مثل نجفة كبيرة جداً نازلة من السماء فخاف، حين رأى الشيئ هذا خاف، خاف على ابنه يحيى وما إلى ذلك فدخل وتوقَّف عن القراءة، وفي الصباح ذهب إلى رسول الله لكي يقول له ما حصل، والنبي في رواية غريبة – هذه تُخوِّف، هو حين رآه أحب أن يحكي لكن النبي ماذا قال له؟ – قال له اقرأ ابن حُضير، اقرأ ابن حُضير! كأن النبي يستحضر الموقف أمامه الآن ويراه، يرى أُسيد بن حُضير وما حصل معه، قال له اقرأ ابن حُضير، اقرأ ابن حُضير! النبي يرى كل شيئ أمامه، يرى القصة التي حدثت أمس أمام عينه الآن، وما معنى اقرأ ابن حُضير؟ كان المفروض أن تستمر في القراءة لكنك قطعتها، قال له اقرأ ابن حُضير، اقرأ ابن حُضير! بعد ذلك كلَّمه، قال له حدث معي كذا وكذا، قال له تلك الملائكة يا ابن حُضير نزلت لتلاوتك، لأنه كان يقرأ بقلب مُخلِص، بإخلاص كان يقرأ! والله يا أخي إذا قرأت فقط في بيتك – أهم شيئ أن يكون هذا في بيتك وليس مع الناس، مع الناس يكون صعباً – واستحضرت هذه العظمة لاختلف الأمر، وخاصة في هذه الأوقات الشريفة – رمضان الآن – وفي هذه الليالي المُبارَكة، استحضر عظمة الوقت وعظمة هذا الكلام وعظمة المُتكلِّم – تبارك وتعالى – واقرأ فعلاً بقلب تائب، القلب لو لم يكن تائباً وكان فيه إصرار على ذنب صغيرة – والله – لن ترى النور، انتبه! ربنا طريقه صعب، قد تقول أنا جيد وأُريد كذا وكذا وأُريد ليلة القدر لكن عندي ذنب مُعيَّن، لو عندك ذنب بسيط حتى لو كان ظاهرياً أو باطنياً – هناك ذنوب باطنية مثل الحسد والغش أو الحقد وما إلى ذلك – لن ينفعك كل هذا عند الله، مُستحيل! الذنب البسيط يحجبك عن الله بالكامل، لن يُعطيك الله نوره، لن يفتح لك أبوابه، ألا تُريد فضله؟ اعمل بأمره تبارك وتعالى، نازل وتقوى على نفسك، النفس الشيطانية الخبيثة هذه! إذا كنت تعيش بالطريقة هذه فيُمكِن أحياناً أن تقرأ فعلاً وأن تشعر شعوراً – كما قلنا قبل قليل – إلهامياً رُغماً عنك، تشعر أن الملائكة موجودة الآن وتخاف أحياناً، تخاف أن تبرز لك، تستحضرها تماماً وتشعر بحضورها وبقدسيتها، تأتيك أشياء غريبة! فهذا ليس مُستحيلاً، يحصل! يُمكِن أن يحصل لكل واحد فيكم لكن إذا أخذ بأسباب الأمر.
تعرفون من إخوانكم الذين كانوا معنا في هذه الجماعة المُبارَكة أخ فاضل – لن أتحدَّث عنه أمامه فهو ليس هنا والحمد لله، هو أخ فاضل وتحدَّثت عنه ربما مرة – لن أنساه طيلة حياتي، هو من ليبيا – أخ ليبي – وهو رجل فاضل وراكز ورزين، وأنا كنت أتوسَّم فيه الصلاح، المُهِم ذات مرة في رمضان حدَّثني بشيئ وقال لي أنت الوحيد الذي تعرف هذا وأرجو ألا تقول لأحد، وفعلاً لم أقل لأحد مَن هو، هذا الرجل رأى ليلة القدر هو وامرأته وابنته، رأوا النور، رأوه هنا في فيينا، ليس في مكة والمدينة وإنما هنا، تخيَّلوا! قال لي أنا وزوجتي وابنتي رأيناه، وحدثت لنا حالة عجيبة، من السقف نزل، وصاروا في عالم من النور!
أنا أعرف سيدة – أعرفها جيداً كما أعرفكم – حدث له نفس الشيئ، في ليلة – كانت ليلة قدر – كانت مضطجعة على ظهرها وتُسبِّح، قالت وفجأة – هي حتى غاب عنها إدراكها ولم تفهم المسكينة ما الذي حدث حتى استفاقت، الحكاية كلها استغرقت ثوانٍ أو دقائق، لا أعرف بالتحديد كم الوقت لكن الوقت كان قصيراً جداً – لم أعد أرى شيئاً، النور عم كل شيئ، الدنيا مثل بياض الثلج من فوق وتحت! وخلق كثيرون كلهم بياض في بياض، مَن هؤلاء؟ ملائكة، قالت جاءوا أيضاً وفي نعش أبيض وضعوني وحملوني، قالت وأنا لا أفهم شيئاً، ما هذا؟ أين أنا؟ مُطمئنة نعم – لم أخف – لكن لا أفهم شيئاً، ما الذي يحدث؟ أين أنا؟ فجأة وجدت أنها ليست مع أولادها ولا مع زوجها، في عالم آخر! قالت تذكَّرت وقلت ليلة القدر، ليلة القدر! وإذا أنا في مكاني، ذهب كل شيئ، لم تدع للأسف، قالت إنها إلى اليوم تتحسَّر، إلى اليوم – قالت – وأنا أتحسَّر، يا ليتني دعوت أن يرزقني الله الجنة بغير حساب، لكن ضاع عليها هذا، تخيَّلوا!
تعرفون الإمام النووي قدَّس الله سره، النووي صاحب الأذكار ورياض الصالحين وشرح مُسلِم، النووي شيخ الإسلام وشيخ مشائخ المُسلِمين قدَّس الله سره، هذا الإمام كان عمره ست سنوات وأبوه كان رجلاً صالحاً عابداً أيضاً، في ليلة قدر قام النووي يصرخ قائلاً النور النور! لا أرى شيئاً يا أبتِ، كل شيئ نور، فجعل أبوه يبكي، والولد لا يزال يصرخ، قال الصبي الصغير رآها ونحن لم نرها، هو رآها وهم لم يروا شيئاً، كان عمره ست سنوات قدَّس الله سره، فموجود هذا يا إخواني، نسأل الله – عز وجل – أن يُعطينا وألا يحرمنا من فضله تبارك وتعالى، فهؤلاء رأوا الملائكة، وأيضاً لكي أُطمئنكم أعرف رجلاً صالحاً – أعرفه شخصياً وهو رجل فعلاً صالح، ما شاء الله عليه! أحسبه كذلك والله حسيبه – قال لي إنه ذات مرة كان جالساً في مجلس وفيه أُناس كثيرون، كان مجلس قرآن! قال وفجأة هكذا وإذا به يرى – سُبحان الله العظيم – كائنات مُجنَّحة، قال وجوه لم أر أجمل منها في حياتي، لا تمل أن تنظر فقط فيها، مُستحيل! ليست كالجمال البشري، شيئ – قال – لا يُوصَف، وعلمت أنهم ملائكة قال، وبدأوا يكتبون أسماء الجالسين، عندهم صحف نورانية يكتبون فيها، يبدأون بالأقرب فالأقرب، أي يبدأون بالأقرب من الشيخ، قال أنا أراهم والناس لا ترى حتى ارتحلوا عليه السلام، فهذا موجود، هذه الأمة فيها خير، فيها أُناس صالحين والحمد لله، وهم موجودن إلى يوم القيامة، حتى يأتي أمر الله، نسأل الله أن يُلحِقنا بهم وأن يجعلنا منهم، هذه البطولة، هذه الشطارة! أن يكون عندك أمل وهمة لكي تصير من هؤلاء الناس، أليس كذلك؟ وبعد ذلك حين تصل هذا الموصل لن تحتاج إلى أن تتفلسف ولن تقول أُريد برهاناً أو أُريد آيةً أو عندي شك أو ما معنى هذا، أنت ستصير من أهل الإيمان الكامل بإذن الله تعالى، أليس كذلك؟ كل هذه المسائل ستصير عندك يقيناً، يقيناً حقيقياً!
المُهِم نزلت المائدة عليهم، يقول ابن عباس فيها سبعة حيتان – أي سبع سمكات كبار، ليس حوت حوت Wal، لا! كلمة حوت تُقال للسمكة الكبيرة، والسمكة الصغيرة أيضاً يُقال لها حوت، مثل اللغة الليبية يقولون الحوت بمعنى السمكة وهذا صحيح، في اللُغة العربية صحيح هذا – وسبعة أرغفة، نزلت بها سبعة ملائكة، يأكلون منها ما شاءوا، لا تنتهي بإذن الله، تأكل من السمك – هذا سمك الجنة – ولا ينتهي، تأكل تأكل تأكل تأكل ولا ينتهي السمك بإذن الله تعالى، تخيَّل! ما هذا؟ لماذا ارتفعت إذن؟ غير موجودة إلى اليوم عند النصارى، ما المُشكِلة؟ بعضهم قالوا قد سرقوا منها، هؤلاء هاربون من بني إسرائيل! أخذوا بعض السمك وقالوا نخشى أن تفنى، حتى لا تنتهي فيما بعد ولا تأتي غداً، يا أخي سُبحان الله! الله أنزلها عليكم من السماء ورأيتموها، أتشكون في الله؟ ما هذا؟ لأن لا يُوجَد إيمان كامل عند هؤلاء المساكين، إيمانهم قصير، فسرق أحدهم منها وقال نخشى أن تفنى، ألا تعود غداً، فرُفِعت! الله رفعها، لن تظل باقية، قال لهم انتهى.
قال يأكل منها أولهم وآخرهم، أي مهما كان عددهم – كم يكونون – يأتون ويأكلون ثم يأتي آخرون ويأكلون، نفس الشيئ! وهذا الشيئ طبعاً مثله حدث لسيدنا محمد، أليس كذلك؟ النبي في مرات كثيرة حدث معه هذا، وهناك أحاديث كثيرة منها أحاديث في الصحيحين، في البخاري ومُسلِم! في مرات كثيرة يضع يده على الصحن ويقرأ وما إلى ذلك ثم يقول لهم هيا كلوا، تفضَّلوا! يأكلون ولا ينقص الأكل، مائة أكلوا في مرة، وقال جابر لو كانوا ألف وخمسمائة لأكلوا جميعاً ولم ينقص، أليس كذلك؟ وهذا حدث للرسول من أيام مكة، مُنذ الأيام التي تنبّأ فيها النبي وهو عنده هذه أشياء، عنده مُنذ الأيام التي كان فيها في مكة، أليس كذلك؟ مُنذ بداية دعوته لقومه! الله قال له وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ۩، أتى بهم وأتى بأعمامه – أبي لهب وحمزة والعباس وكلهم – وأخذ صحناً وقرأ عليه فأخذوا يأكلون يأكلون يأكلون ولا ينتهي الطعام، ثم أتى أولادهم وما إلى ذلك، فقال الخبيث أبو لهب له سحرتهم يا محمد، قال لهم اتقوا سحر هذا الرجل، لا يسحرنكم عند دينكم، لعنة الله عليه! يا أخي هذه كرامة، فهذه إذن موجودة!
المُهِم قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ۩، كيف لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ۩؟ على القاعدة أيضاً، أحداً من عالمي زمانكم، ليس في الكل إلى يوم الدين، لا! من عالمي زمانكم، لماذا؟ لأن الله قال إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ۩، إذن أشد الناس عذاباً مَن هم سيكونون؟ المُنافِقون، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ۩، فرعون أشد العذاب! ولذلك هؤلاء – الأصناف الثلاثة – هم الأشد عذاباً، ويُمكِن أن يُجمَع بينهم، قال عبد الله بن عمرو بن العاص أشد الناس عذاباً ثلاثة: فرعون وآله – وأتى بالآية من سورة غافر، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ۩، هذا واضح! أَشَدَّ ۩ الله يقول – والمُنافِقون – يقول عبد الله بن عمرو، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ۩، يبدو أنهم الأشد أيضاً – وأصحاب المائدة، فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ۩، لكن كيف نُؤلِّف بينها؟ كل واحد بحسب عالمي زمانه، أي أنه أشد عالمي زمانه عذاباً، أليس كذلك؟ لا تقل هذا أشد وهذا أشد وهذا أشد فإذن مَن الأشد بالمُطلَق؟ وطبعاً هذا لا يمتنع أن يكون هناك مَن هو الأشد بالمُطلَق، مَن هو؟ الله أعلم، قد يكون فرعون وقد يكون غيره، لا نعرف! لكن فرعون الأكفر، ادّعى الإلهية، ادّعى الربوبية، ذنبه أخطر من ذنب هؤلاء، أليس كذلك؟ فقد يكون الأشد، كما نقول – مثلاً – مريم سيدة نساء العالمين، خديجة سيدة نساء عالميها، وفاطمة سيدة نساء عالميها، لكن مَن السيدة بالإطلاق على كل عالمي الأزمان؟ الله أعلم، وهكذا! فيها مباحث كثيرة هذه.
۞ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ۞
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۩، هذه الآية واضحة، قَالَ سُبْحَانَكَ ۩، قال أبو هُريرة قال – صلى الله عليه وسلم – لُقِّن عيسى ابن مريم حُجته، نحن رأينا قبل قليل أن النبي يُسأل ما أجابك قومك؟ فيقول لا علم لي، لا يقدر أن يعرف النبي مع الخوف ومع الفزع، لكن عيسى هنا الله يسأله سؤالاً مُخيفاً، وهو تقريع لمَن؟ لأتباعه، للتبّاع الكفرة الكذبة، يقول له أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۩، أف! سؤال مُخيف هذا، فيه عدوان على صلاحيات الله، على الوحدانية! فلم يقل لا علم لي وما إلى ذلك، ماذا قال النبي؟ لُقِّن عيسى ابن مريم حُجته، الله ثبَّته وأعطاه الحُجة، انظر إلى الحُجة الغريبة، قَالَ سُبْحَانَكَ ۩، بدأ بالتنزيه، مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۩، هذا ليس لأي خلق الحق فيه، إِن كُنتُ قُلْتُهُ – أو نويته – فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۩، لماذا إذن؟ هذا معنى الكلام! إِن كُنتُ قُلْتُهُ ۩ بلساني أو أضمرته في ضميري فأنت تعلم ذلك، لماذا؟ قال له تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ۩، لم يقل له ما في لساني، فصار في الآية حذف، أرأيت كيف هو الإيجاز القرآني؟ أي إِن كُنتُ قُلْتُهُ – أو أضمرته – فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ۩، وهنا قد يقول لي أحدكم لماذا لم يقل تعلم ما نطق به لساني؟ هذا أي واحد يعرفه حتى وليس فقط ربنا عز وجل، فيقول له أنت المُتفرِّد بالعلم الحقيقي، وما غاب عن البشر أجمعين والخلق طراً أنت تعلمه، وهو غيب الضمائر، أليس كذلك؟ ومكنونات السرائر تعلمها ولا تغيب عنك، أرأيت؟ حُجة قوية، عليه السلام، وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ۩.
۞ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۞ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۞
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۩، ما معنى شَهِيدًا ۩؟ معنى شَهِيدًا ۩ أُراقِبهم وأرى أعمالهم وتوحيدهم وصحة دينهم ومسلكهم، ولم يكن هناك خطأ منهم في التوحيد، لكن بعد أن مت يبدو حدث تغيير، النبي – عليه السلام – قام بهذه الآية ليلة كاملة يُردِّدها ويبكي، النبي عليه السلام – نبينا محمد عليه السلام – ليلة كاملة يقرأ هذه الآية، يُردِّدها ويبكي! يقول وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۩، إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩، النبي يُردِّد هاتين الآيتين ويبكي، ليلة كاملة! من خشيته وفور شفقته – عليه السلام – على أمته، جزاه الله عنا خير ما جزة نبياً عن أمته ورسالته.
في الأحاديث الصحيحة – في البخاري ومُسلِم ومُوطأ مالك وغيرها كثير – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال ليُؤخذن أناسٌ يوم القيامة عن أمتي ذات الشمال، وفي رواية يُؤخذون عن حوض الرسول، يُؤخذون عن حوضه! وفي رواية يُوخَذ بهم ذات الشمال، والعياذ بالله من أمته! فيقول يا رب أصحابي، وفي روايه أصحابي أصحابي، وفي رواية أُصيحابي أُصيحابي، كناية عن أنهم كانوا عدداً قليلاً – إن شاء الله – وليس كثيراً أو عن أنهم كانوا من صغار الصحابة، أي ليس لهم مكانة هائلة، إما كناية عن أنهم كانوا من صغار الصحابة – صغار المكانة – أو عن تقليل عددهم بمعنى أنهم لم يكونوا كثيراً والحمد لله، قليل من أصحابه الذي يعرفهم، إذن فيقول أُصيحابي أُصيحابي، فيُقال إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مُرتَدين على أعقابهم، والعياذ بالله! وفي رواية إنهم لم يزالوا مُرتَدين مُذ فارقتهم، أنتم مت وهم مُباشَرةً غيَّروا وبدَّلوا في دينك، في رواية فأقول سُحقاً سُحقاً، أي ما دام غيَّروا وبدَّلوا فليذهبوا إلى ستين داهية، وفي رواية فأقول كما قال العبد الصالح – مَن العبد الصالح هنا؟ عيسى عليه السلام – إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩، لم يقل فإنك أنت الغفور، استحيا من الله أن يُعرِّض بطلب المغفرة مع أنه يُريدها لقومه ولأمته لكن من ذنب هو الشرك والعياذ بالله، ذنب كبير هذا! فقال له وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩، الْعَزِيزُ ۩ المُمتنِع، الْحَكِيمُ ۩ أي لك الحكمة في كل شيئ، في التعذيب وما إلى ذلك، لك الحكمة!
۞ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۞
قَالَ اللَّهُ ۩، ما معنى قَالَ اللَّهُ ۩؟ أجاب الله عيسى، هذا ما يحكيه عيسى – هذا كله كلام عيسى، هذه حُجة عيسى التي لُقِّنها عليه السلام – والله أجابه، قال له جواباً، هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۩، اللهم اجعلنا من الصادقين يا الله بأسمائك الحُسنى وصفاتك العُلا يا الله، لا إله إلا أنت. اللهم آمين.
هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ ۩، قيل المُوحِّدين هنا، الصَّادِقِينَ ۩ لا يُراد بها الصدق في الكلام والمُعامَلة وإنما الصدق في الدين والتوحيد، إنسان عاش ومات على التوحيد الحقيقي، ليس عنده أي شائبة شرك – بإذن الله تبارك وتعالى – ولا شائبة إلحاد ولا شائبة كفر بالله عز وجل، إيمان حقيقي راسخ إن شاء الله، فالله قال هذا اليوم الذي ينفع فيه المُوحِّدين توحيدهم إذا فسَّرناها.
هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۩، الآية واضحة.
۞ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۞
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، أيضاً واضحة، لكن هذا الختام جيد جداً – سُبحان الله – ومُناسِب للسياق كله، آخر شيئ! انظر إلى هذا، بعد عيسى والإلحاد والتثليث وما إلى ذلك قال لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ۩، أليس كذلك؟ كم مرة تكرَّرت في هذه السورة قصة عيسى وتكفير الذين ثلَّثوا وتكفير الذين ألَّهوه؟ في موضعين، وهذا أيضاً موضع ثالث، عدة مرات في هذه السورة بالذات، سورة المائدة! اسمها سورة المائدة بسبب قصة أصحاب المائدة، لكن الختام ما هو؟ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، لا عيسى ولا غيره، الكل مملوك ومخلوق لله، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، قادر على تعذيب الجميع وعلى تنعيم البعض وتعذيب البعض وما إلى ذلك، كل هذا في ملك الله، كله مخلوق، ليس له أي شيئ مع الله تبارك وتعالى، لا أحد! لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ۩، لا عيسى ولا محمد ولا أي واحد، الأمر كله لله من قبل ومن بعد، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ۩، وبداية السورة ما هي؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۩، العهود! وأعظم العهود ما هو؟ عهد التوحيد وعهد المُحافَظة على التوحيد وعدم الوقوع في الشرك، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ۩، أليس كذلك؟ وَأَنِ اعْبُدُونِي ۩، أعظم العهود هذا هو، فالسورة بدأت بالعهود بشكل عام وهذا أعظم العهود، وخُتِمت بهذا الشيئ، فنسأل الله – تبارك وتعالى – حُسن الختام لنا ولجميع إخواننا المُسلِمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله.
أضف تعليق