الدرس الرابع
تفسير سورة البقرة من الآية السابعة والسبعين بعد المائة إلى الآية الثانية بعد المائتين
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، يا رب لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما تُحِب وترضى عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك، لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا ونبينا محمد بن عبد الله النبي الأمين الكريم وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُحسِنين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، علَّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، ربنا تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركعونا وسجودنا ودعاءنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا. اللهم آمين.
۞ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ۞
أيها الإخوة:
يقول المولى – عز شأنه – لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ۩، إذن اسم ليس هو الجُملة المُنسبِكة من أن المصدرية وما يليها، أي ليس توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب البر، وقدَّم الخبر على الاسم اعتناءً به، لأن هذا هو البر الحقيقي، لا ما تتوهَّمون أنتم، لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ۩، هذه الآية الكريمة لها علاقة بآية القبلة، أي آية تحويل القبلة، يُبيّن الله – تبارك وتعالى – أن المسألة ليست في استقبال أو تلك القبلة، إنما المسألة في طاعة الله تبارك وتعالى، في تحقيق الإيمان بالله قولاً وفعلاً، هذه هي المسألة، وما دام كله من عند الله – تبارك وتعالى – فلا حرج، استقبلنا القبلة الأولى بأمر الله وتنحينا عنها واستقبلنا البيت بأمر الله تبارك وتعالى، هذا معنى الآية، لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ۩، إذن هي في مسألة تحويل القبلة، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ۩، إذن قال الله وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ۩، وفي سورة الدهر أو الإنسان يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ۩ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ۩، قال عَلَىٰ حُبِّهِ ۩ أيضاً، هناك قال وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ ۩، وهنا قال وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ۩، ما معنى عَلَىٰ حُبِّهِ ۩؟ أي على حُبه للمال، ليس للنفقة، بالعكس هو يُنفِق وهو مُحِب للمال، النفس – وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۩ – هكذا في النحيزة، في الجِبلة، في الفطرة، في الغريزة، في أصل الخِلقة والتكوين فيها الشح، ولذلك أنت تُنفِق وأنت تُحِب المال لكن تُحِب الأجر أكثر، أنت تُحِب الأجر أكثر من حُبك للمال وهنا العقبة، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۩ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ۩ فَكُّ رَقَبَةٍ ۩ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ۩، العقبة أن تتغلَّب على نفسك، أن تقهر نفسك، أنت تتجاوز هذا الشح، يُوضِّح هذا المعنى قوله – تبارك وتعالى – في آل عمران لَن تَنَالُوا الْبِرَّ ۩، هنا قال لَّيْسَ الْبِرَّ ۩، هناك قال لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۩، أنت تُحِب هذا الشيئ، وطبيعة النفس أنها تضن به وتبخل وتشح، ولكنك تتغلَّب على النفس، وكما حدَّثتكم وتعلمون عبد الله بن عمر – رضيَ الله عنه وأرضاه – كان عنده جارية جميلة جداً وكان يُحِبها، كان مُستهاماً بها حُباً، لكنه حرَّرها وأعتقها لوجه الله تبارك وتعالى، عمر بن عبد العزيز – رضيَ الله عنه وأرضاه ورضيَ الله عنهم أجمعين والله وألحقنا الله بهم وأعاد علينا من بركاتهم – كانت أيضاً لزوجه فاطمة بنت عبد الملك بن مروان جارية حسنة جداً وهو يُحِبها، عمر يُحِبها جداً، لكن هي جارية زوجته، ممنوع أن يطأها، ممنوع أن يصل إليها، وكان يطلبها وهي تضن بها، تقول له لا، طبعاً لا تُريد أن تُشارِكها الجارية في زوجها، حتى كان في يوم من الأيام واستُخلِف عمر – كان والياً وصار خليفة – زيَّنتها أحسن زينة ودفعتها إليه، قالت له يا أمير المُؤمِنين قد كنت تشتهي وتُحِب هذه الجارية، قال نعم، قالت فهي لك، وهبت الجارية، فلما أراد أن يُصيب منها أغلق الباب عليها وتذكَّر هذه الآية: لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۩، الله أكبر، انظر إلى هذا، تريبة نفس، المسألة تتعلَّق بالمُجاهَدة طبعاً، هؤلاء ما سبقوا أيها الإخوة بالأماني، ما سبقونا بالأماني وبالكلام وإنما بالعمل، جارية يشتهيها سنوات طويلة حتى إذا صارت رهن إشارته وطوع أمره تذكَّر الآية فقال لها تصبَّري، اصبري! كانت تخلع ملابسها، ثم قال اذهبي فأنتِ حرة لوجه الله تبارك وتعالى، قالت يا أمير المُؤمِنين وأين حبك؟ ساءها ذلك، قال هو باقٍ على حاله، وظل – رضيَ الله عنه وأرضاه – يُحِبها ويذكرها إلى أن تُوفي، لكن أعتقها وتركها لوجه الله تبارك وتعالى، لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۩، ونحن الواحد منا لا يستطيع أحياناً أن يُنفِق دُريهمات يسيرة، صعب! لا يتغلَّب على نفسه في أشياء تافهة حقيرة، هذا معنى وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ۩، وأيضاً يُؤكِّده ويُؤيِّده ما في الصحيحين من قوله – عليه الصلاة وأفضل السلام – في خير الصدقة، لما سُئل عن أحسن الصدقة قال أن تُنفِق وأنت صحيحٌ شحيحٌ، وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۩، النفس لا تُريد أن تُعطي لكن أن تُنفِق أيضاً، تتغلَّب وتقهر النفس، قال أن تُنفِق وأنت صحيحٌ شحيحٌ تخشى الفقر وتأمل الغنى، هذه أحسن الصدقة، هذه أحسن النفقة، لماذا؟ مَن هو الصحيح الشحيح؟ القوي، لكن إذا شاخ الإنسان وانقطع أمله من الحياة وربما شارف على الموت بدأ يُنفِق ويقول لفلان كذا – يقول النبي – ولفلان كذا – يقول عليه السلام – وقد كان لفلان، ليس الآن، الشطارة ليست هكذا، البطولة حين كنت صحيحاً شحيحاً تخشى الفقر وتأمل الغنى، لأن وراءك عائلة كبيرة ومُستقبَل وجامعات للأبناء وللبنات، تُريد أن تبني فيلا وتُريد أن تفعل كذا وكذا، أشياء كثيرة! هنا الشطارة فأنفق.
حدَّثني أحد أغنياء المُسلِمين – بارك الله فيه وكثَّر من أمثاله ووسَّع الله عليه – لكن ليس هنا وإنما في بلدة أُخرى، قال لي أتعرف ما هو بعض سر غناي؟ قلت لا، قال بحمد الله حين بدأت التجارة بدأت صعلوكاً، أبيع هذه الأشياء التي كنت أبيعها على طاولة أنا وزوجتي في البرد الشديد – تحت الصفر – في ألمانيا، في البرد الشديد قال، وأربح – قال – فرنكات يسيرة كل يوم، هكذا بدأت! قال وبعد ذلك فتح الله ووسَّع ووسَّع ووسَّع حتى صار لدي تقريباً ربع مليون مارك، وهي أكبر ثروة في حياتي تأثَّلتها أو تموَّلتها، قال وفي يوم من الأيام جاء إخوة يُريدون أن يُنشئوا مسجداً، وقالوا نُريد تبرّعات، مائتان وخمسون ألفاً، ربع مليون مارك هي أول ثروته وأعظم ثروته، ربع مليون! فقالوا يا فلان لو تبرَّعت، فوعدتهم خيراً، قال ثم أقبلت على نفسي أؤامرها: أتبرع أم لا؟ والشيطان يقول له لا، لا تتبرَّع، لماذا؟ قال لأنني كنت قد وعدت زوجي – أي زوجتي – مُنذ سنوات أن نشتري فيلا، وقد عاينا الفيلا – قال – وطارت بها، استُطيرت بها فرحاً، علماً بأن استُطير مبني للمجهول، استُطير وليس استطار، قال استُطيرت بها فرحاً، أي زوجته، طبعاً! قال وجعلت أُؤامر نفسي والشيطان يقول لا، فقلت والله لأغلبنك، قلت كيف؟ قال تبرَّعت بها كلها، الله أكبر يا أخي، طبعاً هذه شطارة، هذا الرجل بلا لحية، ليس عنده لحية وليس شيخاً وليس حافظاً لكتاب الله وليس مُجوِّداً وليس كذا وكذا أبداً، ولا يعظ على المنابر، إنسان عادي بسيط جداً جداً، مِن أكثر مَن رأيت بساطة وتلقائية وعفوية، لكن مُؤمِن، هذا الإيمان، هذه البطولة، أليس كذلك؟ ليست في المشيخة والعلم والعمائم واللحى والمنابر، لا! البطولة هنا، هذه البطولة، هذا الإيمان، هذا الإسلام، هذه رجولة المُسلِم، ليس بكثرة العلم والحُجج وما إلى ذلك أبداً، يعرف أشياء مُعيَّنة ووقر الإيمان في قلبه، عنده يقين كبير كالجبال الذي يتبرَّع بكل ثروته بعد أن وعد زوجه ما وعد كما تعلمون، شيئ غير طبيعي هذا، رضيَ الله عنه وأرضاه والله، ختم الله له بالسعادة.
فهذا يُذكِّرنا بأسلافنا الصالحين، أمة محمد أمة خيّرة، لا يزال فيها أمثال هؤلاء الخيّرين والحمد لله، لكن كثَّر الله من أمثالهم، شيئ عجيب! قال وبعد ذلك فتح الله فتوحاً أشد من الأول بكثير، قال أنا الآن يا أخي – والله – لا أعرف كيف أُلملِم المال، مصانع – مصانع عنده – وأشياء كثيرة، قال لا أعرف والله كيف، لا أعرف! قال ودائماً أُعطي، والشيطان يخافني قال، قال يعرف طريقتي، طريقتي حين يأتي موضوع الصدقة والنفقة إذا وسوس لي أدفع كل ما عندي، إلا الأموال طبعاً غير المنقولة، المصانع وما إلى ذلك تبقى، لكن الأموال السائلة – قال – أدفعها كلها، قال فعلتها أكثر من مرة بحمد الله تبارك وتعالى، قال إذا وسوس لي فأنا أغيظه حتى لا يُوسوِس لي أبداً بعد ذلك، لكن هو يُوسوِس فأنا أدفع كل ما عندي فأخسئه، ما شاء الله عنده مُجاهَدة حقيقية، وبعد ذلك قال عندي – بفضل الله – تجربة، قال تجربتي مع الله أكَّدت لي بالبرهان القاطع الحسي المعيش أن الله فعلاً كما قال، مَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ۩، أي والله، كل واحد فيكم أنا مُتأكِّد رأى مصداق هذه الآية في حياته، والله لا تُنفِق نفقة إلا أخلف الله عليك خيراً منها، أليس كذلك؟ هو لا يحتاج تبارك وتعالى، لكن هذا اختبار لنا، نسأل الله التثبيت طبعاً.
وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ۩، إذن هذا معنى عَلَى حُبِّهِ ۩، ذَوِي الْقُرْبَى ۩، أي ذوي قُرباه، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – الصدقة على الغريب صدقةٌ وعلى القريب صدقةٌ وصلةٌ، أي الصدقة على الغريب لها أجر وعلى القريب لها كم؟ أجران، أجر الصدقة وأجر الصلة، صلة الرحم! وفي الصحيحين استأذنت زينب – زينب مَن؟ أي الزيانب؟ زوجة أو زوج عبد الله بن مسعود – وأرأت أن تسأل الرسول هذا السؤال، ابن مسعود رجل لا يستطيع أن يعمل وهو قد فرَّغ نفسه للعلم والدرس، وهذه المرأة كان عندها مال، فتُريد أن تسأل الرسول هل يجوز لها أن تُنفِق من زكاتها ومن نفقتها على زوجها وعلى أبنائها من زوجها ابن مسعود أم لا يجوز للمرأة؟ طبعاً هناك تشريع لكنها لم تكن تعرف هذا الحكم، وهيبةً لرسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – لم تستطع أن تُواجِه مُباشَرةً بهذا السؤال، وجدت على بابه بلالاً، فقالت له يا بلال لو دخلت على رسول الله وسألته هذا السؤال، احترام! لم يكن من السهل أن تأتي وتسأل الرسول، في الصحيحين ابن عباس – حبر الأمة – كان يُؤامر نفسه في أن يسأل أمير المُؤمِنين عمر سؤالاً سنة كاملة، قال سنة ولم أستطع أن أسأله، انظر إلى أي مدى بلغ الاحترام، سنة وهو يقول نفسه هل أسأل أم لا؟ حتى ذات مرة كان معه في حجة وذهب عمر يتبرَّز – أي يقضي حاجته – ثم رجع فسأله، قال فسألت، قال له أُريد أن أسألك هذا السؤال من سنة، قال له لا يا ابن أخي، لا تفعل، إن كان عندك سؤال فسله، فإن كان عندي جواب أجبتك، لماذا لا تسأل؟ لا يُوجَد حياء في العلم، اسأل! لكن الهيبة، هيبة الصالحين وهيبة الأولياء وهيبة أهل العلم، فكيف بالرسول عليه الصلاة وأفضل السلام؟ فزينب لم تستطع، فقالت لبلال ادخل، أنت عندك علاقة أقوى معه فادخل واسأله، فقال له يا رسول الله إن زينب بالباب وتسأل، قال أي الزيانب؟ هي أرادت أن تُبهِم اسمها، ربما من باب أيضاً الاحتياط للأجر، مُمكِن! كان عندهم أنظار عجيبة جداً في مُحاسَبة النفس – الصحابة والصحابيات – حتى لا يعلم أحد، حتى الرسول! المُهِم قال زوجة ابن مسعود، تقول زينب ووجدت أيضاً امرأة أُخرى من الأنصار حاجتها مثل حاجتي، نفس القصة! تُريد أن تسأل عن نفقتها على زوجها وأبنائها من زوجها، المُهِم سُئل الرسول السؤال فقال نعم، قل لها ولها أجران، ولها أجران: أجر الصدقة وأجر الصلة، وصلت أبناءها وزوجها، لها أجران، فجائز!
هذا معنى ذَوِي الْقُرْبَى ۩، وَالْيَتَامَى ۩، الذين فقدوا كاسبهم، الذين فقدوا عائلهم، طبعاً قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا يُتم بعد الحُلم، الإنسان يبقى يتيماً – يُسمى يتيماً – إلى أن يبلغ الحُلم، وإلا كلنا أيتام! كل إنسان سيفقد أباه! إذا لم يكن فقده، فالإنسان يُدعى يتيماً إلى سن الحُلم فقط، فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا ۩، انتهى الأمر، أصبح رجلاً هذا، لا يُقال إنه يتيم، ابن ست عشرة سنة أو سبع عشرة سنة لا يُقال إنه يتيم، كيف يكون يتيماً؟ انتهى! الطفل الصغير فقط إلى ما دون الحُلم، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا يُتم بعد الحُلم، عليه الصلاة وأفضل السلام.
وَالْمَسَاكِينَ ۩، مَن هو المسكين؟ المسكين كما قال النبي في الصحيحين: ليس المسكين الذي ترده اللُقمة واللُقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً يُغنيه – إنسان فقير هو في الحقيقة، ليس عنده شيئ – ولا يُؤبه له – أي لا يُدرى به فيُتصدَّق عليه، أي أنه يتعفَّف، إنسان عفيف لا يسأل فضلاً عن أن يُلحِف، لا يسأل أصلاً، ويظهر للناس بمظهر المُغتني، بمظهر المُتكفي، لكن هو في الحقيقة ليس عنده ما يُغنيه، مسكين لا يملك النصاب، فقير هو في الحقيقة – المسكين – لكنه يتعفَّف ويتستَّر ويتكتَّم حاله ولا يشكو الله إلى عباده، هذا المسكين، فهو بهذا الاعتبار أحوج من الفقير، بهذا الاعتبار! لأن هذا قد يُضر به الفقر وقد تضر به وبأهله الخصاصة، لأنه غير معروف، لا يُفطَن له كما في رواية أُخرى، والله أعلم.
وَابْنَ السَّبِيلِ ۩، مَن هو ابن السبيل؟ هو المُسافِر الذي انقطعت به النفقة، فقد ماله أو سُرِقَ ماله أو نفد ماله وإلى آخره، هذا يُعتبَر ابن السبيل، أيضاً الضيف يدخل في ابن السبيل، الضيف يدخل في ابن السبيل! أيضاً المُقيم الذي يُريد أن يُسافِر من بين ظهرانينا لسبب شرعي كالعلم أو لأي سبب من الأسباب وليس عنده النفقة يُعتبَر أيضاً ابن السبيل، إذن ثلاثة أصناف: المُسافِر القادم الوافد الذي نفدت نفقته وانقطع به سبب المال، الضيف أيضاً الذي يحل على أي مُسلِم، الضيف من ابن السبيل، يُعتبَر من أبناء السبيل، أيضاً المُقيم الذي يُريد أن ينفر من بين ظهرانينا لسبب شرعي في سفره وليس عنده المؤنة أو المئونة، فهذا يُعطى وهو داخل أيضاً في ابن السبيل.
وَالسَّائِلِينَ ۩، هذا معروف، السائلون هم عكس مَن؟ المساكين إذن، أليس كذلك؟ السائل هو فقير لكن يمد يده، يتكفف، أي يمد يده، يتكفف تعني يمد كفه، هذا معنى يتكفف، يمد كفه للناس، يقول أعطوني، هذا السائل!
وَفِي الرِّقَابِ ۩، ما معنى وَفِي الرِّقَابِ ۩؟ معنيان، طبعاً سنعود إلى هذه الآية بتفصيل أكثر إسهاباً في تفسير آية الصدقات من سورة التوبة إن شاء الله، وَفِي الرِّقَابِ ۩، الرقاب قسمان: العبيد والإماء يُشترون فيُعتقون، هذا يُعتبَر في الرقاب، وأيضاً العبيد والإماء المُكاتَبون والمُكاتَبات، وكما قلنا يُقال مُكاتَب ومُكاتِب، لأنها مُفاعَلة فيجوز فيها البناء للفاعل والبناء للمفعول، المُكاتَبون والمُكاتَبات أو المُكاتِبون والمُكاتِبات، وشرحنا هذا قبل أيام، أي عبد يشتري حريته من سيده بمال، يقول له أنا أُعطيك – مثلاً – كذا وكذا ديناراً في ثلاث سنوات أو في أربع سنوات أو في خمسة أشهر – بحسب الاتفاق – حتى إذا وفيت بكل النجوم أصبحت حراً، اسمها المُكاتَبة هذه، والله في حبَّب في ذلك، فأيضاً لو أنت ساعدت مُكاتَباً ليس عنده ما يدفع النجوم أو ليس عنده ما يدفع كل نجومه يُعتبَر هذا أيضاً من النفقة التي يتبرَّر بها المُؤمِن، التي يتبَّر تعني يطلب بها البر وأن يصير من أهل البر والإحسان إن شاء الله.
وَأَقَامَ الصَّلاةَ ۩، كما قلنا إقامة الصلاة هي أداؤها بشرائطها وأركانها وخشوعها وفي وقتها وبالصفة المرضية عند الله وإلى آخره، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ۩، العهد معروف، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء ۩، هذا التركيب يتكرَّر كثيراً: فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء ۩، كثيراً جداً! ما هي البأساء؟ وما هي الضراء؟ البأساء الفقر، الضراء المرض وما شاكل، إذن البأساء ما هي؟ الفقر، الضراء المرض وما شابه من المرض، هذه البأساء وهذه الضراء، وَحِينَ الْبَأْسِ ۩، أي ساعة الحرب والقتال ولقاء القرن، لقاء العدو! إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مُلاقٍ قرنه، أي عدوه، خصمه في الحرب، هذا هو، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ ۩، لابد من الصبر، لكن هنا كل هذه الصفات مرفوعة إلا ما ذُكِرَ في وصف الصبر، قال وَالصَّابِرِينَ ۩، وحقها أن يقول ماذا؟ والصابرون في البأساء والضراء وحين البأس، لكنه قال ماذا؟ وَالصَّابِرِينَ ۩، يُسمى في اللُغة هذا ماذا؟ كسر إعراب، يُوجَد كسر إعراب هنا، لماذا كسر الأعراب هذا؟ بعض الأغبياء البُله يقولون يُروى عن عائشة وعن عثمان أنها كانت تقول إن في القرآن لحناً ستُقيمه العرب بألسنتها، كلام فارغ، أستغفر الله العظيم، القرآن مُتواتِر يا أخي، كيف يُقال لحناً؟ قالوا هناك أخطاء مُعيَّنة لما كُتِب، لما كُتِب أم لما حُفِظ؟ كلام فارغ، القرآن أصلاً لم يُعتمَد في يوم من الأيام بشكل أولي على كتابته، كان الاعتماد دائماً على حفظه، ولذا أشهر أسمائه القرآن قبل الكتاب، أليس كذلك؟ لأنه يُقرأ، يُقرأ على ظهر الغيب ويُحفَظ على ظهور قلوب التُلاة والقَرأة، على قلوب القَرأة والتُلاة، فهذا غير صحيح، إذن هذا كسر للإعراب، لماذا؟ هذا منصوب على المدح، منصوب على المدح أو ما يُسمى منصوب على الاختصاص، فكأن الله قال وأخص وأمدح الصابرين في البأساء والضراء، هذا معنى إعراب الآية، منصوب على الاختصاص أو منصوب على المدح، هل هذا واضح؟ هذا هو، إذن الصبر له قيمة خطيرة وله شرف كبير، بالذات الصبر!
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ۩، واضحة.
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۞
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۩، سبب هذه الآية أيها الإخوة والأخوات أن اليهود – بني النضير وقريظة – كان بينهم مُقاتَلات – كما قلنا أمس – في الجاهلية، وكانت الدولة لبني النضير، كانت الدولة في معركة كُبرى لبني النضير فقتلوا وسبوا وأخذوا من قريظة، فكانوا بعد ذلك إذا قُتِلَ من بني النضير قتيل والقاتل كان من قريظة لا يرضون إلا بقتله، وإذا رضوا بالفدية فهي مائتا وسق من التمار، مائتا وسق! هذا مكيال كبير، ستون صاعاً، الوسق ستون صاعاً! إذا رضوا بالفدية فهي مائتا وسق، لكن إذا كان القاتل من النضير – أي من بني النضير – والمقتول من قريظة لا يرضون بأن يدفعوا القاتل منهم لكي يُقتَص منه، يقولون لا، ابننا لا يُقتَل، نَقتل ولا نُقتَل، نَقتل ولا يُقتَص منا، إذا أردتم الفدية فهي مائة وسق فقط، هذا نوع من الظلم، قوة واستقدار كما يُقال، أي أنهم مُتعزِّزون مثل أمريكا اليوم بالضبط ومثل كل المُستكبِرين، كأنهم يقولون نحن عندنا معيار – Standard – خاص، عندنا قوانين خاصة، وأنتم يا حثالة البشر ويا بقية – Rest – ويا رابش لكم أحكام أُخرى والعياذ بالله، هذا من أسباب غضب الله، الله قال لا، فلا تكونوا كهؤلاء الجاهلين وكهؤلاء المُبدِّلين الذين حرَّفوا وكفروا بآيات الله وشرعه أبداً، وإنما لابد أن يُتطلَّب العدل في القصاص، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۩، وهذا معنى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى ۩، مثلاً لو قتل حرٌ أنثى ألا يُقتَل بها؟ يُقتَل، لكن لماذا قال هكذا: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى ۩؟ بمعنى أنه يجب أن تتوخى العدالة، كان بعض العرب أيضاً في الجاهلية – ليست حتى اليهود وإنما العرب – إذا قُتِل منهم رجل يقتلون به أكثر من رجل، يقولون لا، هذا الرجل من أعيان قومنا فلا نقتل به رجلاً، نقتل به رجالاً، الله قال لا، واحد بواحد وأُنثى بأُنثى، هذا هو المعنى.
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ۩، ما هو العفو هنا؟ بالمُناسَبة هنا الآية هذه في أي نوعي القتل؟ العمد طبعاً وهذا واضح، حين تقول القصاص فإن القصاص يكون في العمد، هل هذا واضح؟ الخطأ ليس فيه قصاص، هناك دية معروفة في سورة النساء، تقريباً في الآية الثانية والتسعين، لكن العمد هوالذي فيه القصاص، إذن هذه في القتل العمد، هل هذا واضح أيها الإخوة؟ آية البقرة في القتل العمد، الله يقول فَمَنْ عُفِيَ ۩، إذن ما هو العفو هنا؟ أخذ الدية، التنازل عن القصاص وأخذ الدية، وهذه من خصائص هذه الأمة المرحومة، أهل التوراة والإنجيل لم يكن عندهم ذلك، كان هناك القصاص أو تعفو بدون أي مُقابِل، لكن لم يكن هناك دية، وكانت تحرم عليهم الديات، فأطعمها الله هذه الأمة، وهذا طبعاً حل وسط، لأن الإنسان أن يعفو بلا شيئ صعب جداً، وقد لا يقع العفو، أليس كذلك؟ فيكثر القصاص حتى يُصبِح أنه قاعدة بلا استثناء، والله لا يُريد هذا، بالعكس الله يحثنا ويُحرِّك هممنا إلى العفو، دائماً وَأَنْ تَعْفُوا ۩ أفضل طبعاً، العفو دائماً أفضل وأحسن، حتى أن النبي – عليه السلام – في حديث ذكرته وشرحته بنوع من الإسهاب في درس سبتي قال في صحيح مُسلِم للرجل الذي أخذ بقاتل أخيه وكان قد أُوثِق بحبلٍ وذهب به لكي يقتص منه والنبي رغَّب في العفو ثم إنه عفا عنه، فقال النبي أما إنه لو قتله لكان مثله، لماذا وهذا قصاص؟ تكلَّمنا فيه كلاماً طويلاً، بعض الناس يقولون ما الحديث الغريب هذا؟ لماذا يا أخي؟ هذا من حقه، صحيح هذا من حقه لكن النبي يقصد معنىً آخر، النبي لا يُحِب أن نجعل القاعدة التي لا تُستثنى هي القصاص دائماً وشفاء الغيظ، لا! يُرغِّب في العفو، العفو أحسن وخير عند الله بكثير جداً، يُوجَد كلام طويل في المسألة هذه.
إذن العفو ما هو باختصار هنا؟ أخذ الدية، العفو هو ماذا؟ التنازل عن القصاص وأخذ الدية، هذا معنى العفو هنا، فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ ۩، انظروا إلى الملحظ العجيب هنا، قال مِنْ أَخِيهِ ۩، سماهما أخوين مع أن بينهما دماً، لماذا؟ ما دلالة هذه الكلمة؟ أن أُخوة الدين أقوى من أُخوة الدم، لا تنسى هذا حتى لو قتل البعيد أحد أقرابائك، حتى لو قتل أباك أو أخاك الأبعد يبقى أخاً لك في الدين، وهذه أُخوة لا تنقصم عُراها، فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۩، هل فهمتم ما هذا الشيئ الذي عُفيَ؟ الشيئ الذي عُفيَ ما هو؟ الدم، لا يُوجَد قصاص قال له، لا يُوجَد قصاص وهات الدية يرحمك الله، هل هذا جيد؟ هذا العفو، الله قال ماذا؟ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء ۩، إذن كلا الطرفين طُلِبا بشيئين مُختلِفين، فَاتِّبَاعٌ ۩، ما معنى اتباع؟ مُطالَبة، صاحب الدية يُطالِب بالمعروف، لا يقل نحن عفونا عن الدم وهاتوا لنا الدية فأنتم كذا وكذا، لا يقول هذا، بِالْمَعْرُوفِ ۩، لا تُوجَد مُشكِلة وسوف يُعطونك الدية إن شاء الله، وأنظرهم قليلاً ويسِّر عليهم، لعل القوم فقراء ولعلهم غلابة كما يُقال، طبعاً الدية تدفعها العاقلة، تدفعها عصبة الرجل كما تعلمون، الدية على العاقلة، أي عصبة الرجل، ما معنى العصبة؟ أقرباؤه من جهة الأب، ذكور لا تتخلَّلهم إناث، شرحنا هذا في دروس الميراث قديماً، فهذا معنى العاقلة، العصبة! الله قال فَاتِّبَاعٌ ۩، إذن الذي عفا وأراد أن يأخذ الدين يُطالِب بماذا؟ بِالْمَعْرُوفِ ۩، والآخر يُطالَب بماذا؟ أن يُؤدي ما عليه وما لزمه – أي المُستحَق عليه، أن يُؤدي المُستحَق عليه من الدية – أيضاً بإحسان، يؤدي أيضاً ولا يُطامِل وما إلى ذلك، إذن طالب الله الطرفين بشيئين مُختلِفين، هذا معنى فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۩.
ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۩، أعتقد وضح وبان لكم وجه قوله – تبارك وتعالى – تَخْفِيفٌ ۩، تَخْفِيفٌ ۩ لماذا؟ لأن الشرائع السابقة لم يكن فيها هذا، فالله قال نُريد أن نُخفِّف، نُريد أن ننسخ هذا الحُكم إلى ما هو أخف وأرفق بالمُكلَّفين منه، والله – تبارك وتعالى – أعلم.
فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩، واضح طبعاً، يأخذ الدية ثم يكر فيقتل، هذا عدوان، والله قال له فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩.
۞ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۞
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ۩، هذه الآية من العجب العاجب في كتاب الله، وقد تكلَّم فيها أصحاب البيان والفصاحة كلاماً طويلاً مُسهَباً، وهذا أيضاً مما يُبنى للمجهول، لا نقول هنا مُسهِباً وإنما مُسهَباً، أُسهَبَ وليس أَسهَبَ، وهي أبلغ بكثير من الكلمة السائرة القتل أنفى للقتل على كلٍ.
۞ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ۞
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ۩، الموت هو الفاعل، إِن تَرَكَ خَيْرًا ۩، ما المقصود بالخير هنا؟ المال، سمى الله المال خيراً، وهذا يعكس ويُترجِم نظرة الإسلام المُتوازِنة جداً والواقعية لخيرات الدنيا ومنافعها وأعراضها، لم يُسم المال دائماً – مثلاً – شراً أو فتنة، بالعكس يُسميه في أكثر من موضع خيراً، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ۩، قال إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ۩، أي أن ترك مالاً، فالمال خير، المال بحد ذاته المفروض أن يكون خيراً، على أقل التقديرات هو مُحايد، فيكون خيراً وشراً باعتبار ما تُوظِّفه فيه. إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ۩، معروف! هذه الآية بلا خلاف من الآيات المنسوخات، هذه الآية منسوخة، نسختها آيات الميراث أو المواريث طبعاً، لماذا؟ النبي قال إن الله قد أعطى كل ذي حقٍ حقه ألا لا وصية لوارث، لا تستطيع أن تأخذ من الجهتين: من جهة الميراث أو الخلفية ومن جهة الوصية، ممنوع! في الأول قبل أن تُقسَّم المواريث وتُحدَّد الأنصباء من لدن الله – تبارك وتعالى – الله أوجب ماذا؟ الوصية على مَن ترك مِن ورائه مالاً لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۩، وصية بِالْمَعْرُوفِ ۩ طبعاً، لا يُجحِف فيها، ولكن بعد أن نزلت آيات المواريث النبي قال ماذا؟ لا وصية لوارث، فالوارث ليس له حق في ماذا؟ في الوصية، تبقى الوصية لمَن إذن؟ لغير الورثة من الأقرباء – هناك أقرباء طبعاً لا يرثون، أليس كذلك؟ كثيرون! من الأقرباء لا يرثون – أو الأباعد والأغارب، وكذلك الأصدقاء والجيران وأي واحد، أي مُسلِم! والنبي في الحديث الصحيح عن ابن عمر قال لا يحل لرجلٍ يُؤمِن بالله واليوم الآخر أن يبيت يوماً وليلة – وفي روايات ثلاثة أيام – ووصيته ليست مكتوبة، أي تحت رأسه، اكتب دائماً وصيتك في المال وفي غير المال، الوصية العامة اكتبها، لا تغفل عن وصيتك واستحضر الموت كل ليلة، أعاننا الله على ذلك، إذن هذه الآية منسوخة، حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ۩.
۞ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۞
فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ ۩، أي هذا الحُكم الشرعي، فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ۩، حتى لو تُلوعِب بالوصية فقد وقع أجر المُوصي على مَن؟ على الله تبارك وتعالى، وحار ورجع المُبدِّل اللاعب بالوصية بالإثم والغضب من الله، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۩.
۞ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۞
فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ۩، وإذا تجانف المُوصي في وصيته وتعدى الحدود الشرعية فهنا لو جاء طرف ثالث وعدَّل هذه الوصية بحيث يُصيب بتعديلها المقصد الشرعي ومقصد المُوصي فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ۩، وأصل هذه المسألة في الصحيحين أيضاً، عن سعد بن أبي وقاص – رضيَ الله عنه وأرضاه – أنه قال يا رسول الله إني تركت – أي سأترك – من ورائي مالاً – عنده مال – وليس لي مَن يرثني إلا ابنة – عندي بنت واحدة فقط – أفأوصي بثُلثي مالي؟ أي بسبعين في المائة، أُريد أن أكتب وصية لغير ابنتي، لأنه يعتبر أن ما لابنته مفروغ منه لكن الوصية هذه فيها أجر أكبر، قال النبي لا، ثُلثا المال لا، قال أفأوصي بشطر مالي؟ أي بخمسين في المائة، نصف مالي! قال لا، قال أفأوصي بثُلث مالي؟ قال نعم، الثُلث! والثُلث كثير، إنك أن تذر – كما نبَّهت ليس إن الشرطية، كيف تكون إن؟ وإنما أن، أن مصدرية – ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم – أي تتركهم من خلفك ومن ورائك بعد موتك – عالةً يتكففون الناس، قال له اترك لهم ما يُقيمهم وما يُمكِنهم أن يستقبلوا به حياتهم وأعباء الحياة، فأكثر شيئاً – قال له – الثُلث، أكثر شيئاً الثُلث، والثُلث كثير، هذا هو والله أعلم.
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۞ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۞ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۞
طبعاً آيات الصيام واضحة إن شاء الله، لكن سنتحدَّث بشيئ سريع جداً، هذه الآيات خاصة قوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۩ ما معناها؟ ما معنى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ۩؟ مذهبان في تفسيرها، جماعة من الصحابة طبعاً ومَن أتى بعدهم فهموا أن معنى الآية الذين يستطيعون أن يصوموا ولا يُريدون أن يصوموا لسببٍ أو لآخر – يستطيعون وليسوا مرضى وليسوا ضعافاً وليسوا شيوخاً علت أسنانهم وإنما لا يُحِبون أن يصوموا، عندهم أسباب – قال الله في حقه لا بأس، يُمكِن أن يُفطِروا وأن يُطعِموا، أن يُخرِجوا الفدية، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۩، وهذا مروي عن البراء وعن مُعاذ بن جبل وعن كثيرين من الصحابة حقيقةً، مروي! هل هذا واضح؟ وبعد ذلك ما الذي حصل؟ هل هذا إلى اليوم؟ طبعاً لا كما تعلمون، نُسِخَ بقوله – تبارك وتعالى – فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۩، فكانت عزمةً، كان أمر حتمٍ وإيجاب، كانت عزمةً! الله قال لا يُوجَد هذا الترخص، انتهى هذا، تُوجَد رُخص أُخرى وهي المرض والسفر، لكن إذا كنت تستطيع وتُطيق ممنوع، هذا هو المذهب الأول، هل هذا واضح؟ هذا هو المذهب الأول.
المذهب الثاني مذهب عبد الله بن عباس ويُروى مثله عن ابن مسعود وهو اختيار الإمام البخاري، لو قرأتم في الصحيح – البخاري بوَّب في هذه المسألة – لوجدتم أن هذا اختياره، هو يقول بهذا الشيئ، وهو قول قوي، ابن عباس كان يقول الآية ليست منسوخة، لا يُوجَد ناسخ ومنسوخ، الآيات كلها مُحكَمة، كلها مُحكَمة! وكان يقرأ ابن عباس – وهكذا بوَّب البخاري في ترجمة الباب – وعلى الذين يُطوَّقونه فدية طعام مسكين، ما معنى يُطوَّقونه؟ يستطيعون الصوم نعم ولكن بجهد ومشقة شديدين، بصعوبة بالغة! أي أن هذا ليس إنساناً عادياً، هذا معنى يُطوِّقونه، وهذا وجيه لُغةً، هذا يتوجَّه لُغةً على وجهٍ صحيحٍ جداً، لماذا؟ لأنه لا يُقال أنا أُطيق حمل الورقة، ما معنى أنا أُطيق حمل الورقة؟ لا يُقال هذا، لُغةً لانقول هذا، نقول فلان يُطيق هذا الأمر، يُطيقه لما يكون الأمر أمراً ثقيلاً وشديداً، هل له به طوق؟ نقول نعم يُطيقه، لكن لا نقول أُطيق حمل الورقة أو أُطيق حمل القلم أو أُطيق حمل النعل، لا يُقال هذا، أليس كذلك؟ فإذن كلمة حتى الإطاقة هذه ويُطيق أو يُطوَّق – قراءة ابن عباس بغض النظر عن أي شيئ – أصل المادة فيها يدل على ماذا؟ على مُكابَدة الشيئ، أنك تفعله بمُكابَدة، بصعوبة، بجهد، فهذا مثل ابن عباس، قال لا يُمكِن هذا، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما إلا بمشقة شديدة فيُفطِران ويُطعِمان، قال هذا هو المذهب، وهو كلام وجيه جدا – إن شاء الله تعالى – والله أعلم، إذن مذهبنا في هذه الآيات.
قلنا كيف معنى أن القرآن أُنزِل في رمضان والله أعلم، وَبَيِّنَاتٍ ۩، ما معنى وَبَيِّنَاتٍ ۩؟ جمع بيِّنة، لماذا سُميت بيِّنة؟ من اللُغة العربية واضح لماذا سُميت بيِّنة، البيِّنة هي الحُجة الواضحة لمَن كان له عقل أو لُب، فالحمد لله الله أنزل ماذا؟ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ۩، لكن قال فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۩، صحيح! مَن كان عنده علم ووعي وعقل ويقرأ حُجج الله يجدها بيِّنة واضحة، واضحة فلا تحتاج إلى أن نشغب عليها أو أن نمتري فيها أبداً، واضحة! الله قال وَبَيِّنَاتٍ ۩، كلام بيِّن واضح، من البيان والإبانة، أي الوضوح.
وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ۩، كل هذا واضح، وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩، عدة ماذا؟ عدة الشهر، أي رمضان، سواء كان تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين يوماً، وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ۩، من هنا أخذ العلماء مشروعية التكبير في الفطر، هل هذا واضح؟ أيضاً هناك التكبير في الأضحى وله آيات أُخرى، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩.
۞ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۞
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩، تكلَّمنا في الموعظة شيئاً سريعاً حولها، لكن شرط ذلك أن تستجيب أنت أولاً لله من بعد الإيمان، أليس كذلك؟ استجب له يستجب لك، أليس كذلك؟ لبه يُلبِك، إذا أردت أن يُلبيك الله في دعائك فعليك أنت أولاً أن تُلبي الله – تبارك وتعالى – فيما طلب.
۞ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ۞
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ ۩، ما هو الرفثفي الأصل؟ هو الجماع، الرفث هو الجماع ويُطلَق على وسائل ومُقدِّمات الجماع من الكلام الذي له علاقة بهذا الفعل، اسمه الرفث، الله يقول أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ ۩، هنا قد يقول لي أحدكم هذا حلال، لكن لا، في الدور من أدوار الصيام أيضاً كما في حديث البراء – وهذا الصحيح – كان الصائم من المُسلِمين إذا أفطر – أي عند غروب الشمس مع المغرب – ثم صلى العشاء أو نام قبل أن يُصلي العشاء – إذن أمران: إذا أفطر وبقيَ جالساً وصلى العشاء أو نام قبل أن يُصلي العشاء، إذن من بعد العشاء إلى ثاني يوم المغرب – ممنوع أن يأكل أو يشرب أو يأتي النساء، انتهى! حتى الأكل والشرب انتهى، لا يُوجَد هذا ولا يُوجَد سحور، هذا كان صعباً، والوقت – وقت الإصابة من الأهل وإصابة الطعام والشراب – كم مقداره؟ من المغرب إلى العشاء فقط، ماذا لو نام قبل العشاء؟ نفس الشيئ، إذا نام قبل العشاء وقام بعد العشاء ذهب عليه كل شيئ، انتهى الأمر، شديد هذا، فالذي حصل كما في الحديث المشهور أن هناك رجلاً من الأنصار اسمه قيس بن صرمة الأنصاري، هذا الرجل كان يعمل في أرضه أو في أرض بيده، أي أنه رجل فلاح، وعمل عامة يومه المسكين، وتعرفون أن الأرض فيها حرارة وشدة وما إلى ذلك، وحين جاء المغرب قال لزوجته – فقراء كانوا بؤساء – هل عندك من طعام؟ قالت لا، ولكن سأطلب لك، سأذهب وأطلب من الجيران وأشحذ شيئاً، مسكينان ليسا عندهما شيئ، فقراء كانوا، أصحاب رسول الله هؤلاء، والنبي لم يخف عليهم، كان يقول لهم أنتم هكذا أفضل وخير منكم إذا فُتِحَت عليكم الدنيا، هكذا أنتم أفضل، وفعلاً – سُبحان الله – فُتِحَت الدنيا وبدأت الفتن والمشاكل، هكذا – قال لهم – أنتم أحسن وأقرب إلى الله عز وجل، المُهِم ذهبت تطلب له الطعام من إحدى جاراتها، فلما عادت وجدته قد نام قبل العشاء، فقالت خيبةً لك، خيَّبك الله يا بعيد، نمت؟ خيبةً لك، فالمسكين لم يقم إلا بعد العشاء، فأصبح طبعاً صائماً وذهب إلى الشغل فلما انتصف النهار غُشيَ عليه، وقع من التعب، أُجهِد جهداً شديداً، صيام يومين وليلة وعمل أيضاً! المسكين يعمل، لابد أن يعمل، كاسب الرجل وكادح، فأُغشيَ عليه، فنُقِلَ أمره إلى رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – فأنزل الله هذه الآية.
طبعاً الله قال هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۩، أي هن فراشٌ لكم وأنتم فراشٌ لهن، تُصيبون منهن كما يتمتعن بكم، هذا المعنى والآية واضحة طبعاً، عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ ۩، بعض الصحابة كانوا يختانون أنفسهم، بمعنى ماذا؟ أنهم يُصيبون من نسائهم ثم يندمون، لا يقدرون! يغلط الواحد منهم بعد العشاء وينام مع زوجته! وكان منهم مَن؟ عمر بن الخطاب، هذا اتفق لسيدنا عمر وهو عمر، انظر إلى الإنسان، يظل إنساناً، غير معصوم، عنده الضعف البشري، فكان منهم سيدنا الفاروق عمر – قدَّس الله سره الكريم – وذكر ذلك للرسول، قال له هلكت أنا، فعلت كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآية تخفيفاً وترخيصاً، فلله الحمد والمنة، الله قال لكم أن تأكلوا من المغرب إلى الصبح، هذا معنى الجُملة التي أتت بعدها.
فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۩، ما المقصود بقوله مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۩؟ ما المقصود بهذه الجُملة الموصولة: مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۩؟ الذي كتب الله لكم، ما هو؟ قيل هذه الرُخصة، هذه الرُخصة التي كتبها الله، ولأنه لم يقل كتب الله عليكم لم يصر فيها معنى العزمة، قال كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۩، أي أنها أصبحت رُخصة، هل فهمتم؟ ليس دائماً كلمة كتب كما تظنون، كلمة كتب وحدها بمعنى الفرض والعزيمة، لكن يُحدَّد المعنى بحسب ما تتعدى به، إذا تعدت بإلى صارت بمعنى الترخيص، إذا تعدت بعلى صارت بمعنى الفرض والحتم، وهنا تعدت بماذا؟ قال كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۩، لم يقل كتب الله عليكم، فهي رُخصة، وقيل الذُرية، أي الولد، وفُسِّرت هكذا في آثار كثيرة، وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۩: الولد، هل الله يُريد أن يقول هذا؟ طبعاً، الله يهتم بهذا كثيراً جداً، أي أن المقصد الأساس من الزواج هو ماذا؟ الذرية وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، النبي كان يُحِب هذا وكان يقول تزوَّجوا أو تكاثروا فإني مُباهٍ بكم الأمم يوم القيامة، وفي الصحيحين يقول جابر ثم لقيني الرسول – المُهِم حديث طويل وهذه قطعة من الحديث – فقال يا جابر بلغني أنك تزوَّجت؟ قلت نعم، قال وما تزوَّجت: بكراً أم ثيباً؟ فقلت بل ثيباً يا رسول الله، قال أين أنتِ من البكر ولِعابها؟ ما معنى لِعابها؟ ليس اللُعاب، المُراد بلِعابها المُلاعَبة، اللَعاب مصدر لَعِبَ، وليس اللُعاب، اللُعاب بالضم وهو لُعاب الفم، قال أين أنتِ من البكر ولِعابها؟ وفي لفظٍ آخر قال هلا بكراً تُلاعِبها وتُلاعِبك؟ وهكذا! فذكر له أن أباه قد تُوفيَ وترك له أخواتٍ تسعاً وفي رواية سبعاً، فهو يُريد امرأة ثيباً، انظر إلى هذا، حازم! رجل حازم ما شاء الله وغير إناني، شخص يشعر فعلاً بالمسئولية على وجهها، لو أخذ امرأةً بكراً صغيرةً لن تهتم بأخواته الصغار الأيتام، لكنه أخذ امرأةً ثيباً، وهذا فيه نوع من الامتنان، منّة أنه أخذ ثيباً مُطلَّقةً أو أرملةً، ثم إن عندها خبرة في الحياة وربما حتى عندها أولاد هي وعافست حياة الأسرة وإلى آخره، فتستطيع أن تُحسِن مشطهن والعنو بهن، فالنبي دعا له بالبركة، وإلى آخره، حديث طويل وجميل جداً، فيه أشياء غريبة مثل قصة حماره ونكز النبي، لطيف هذا الحديث، المُهِم ما العبرة فيه؟ النبي قال له في رواية يا جابر – أنت الليلة ذاهب إلى زوجتك – الكيسَ الكيسَ، يا جابر الكيسَ الكيسَ، هذه العبرة ولذلك أنا سُقت هذا الحديث، يا جابر الكيسَ الكيسَ، ما معنى الكيسَ الكيسَ؟ هذا منصوب على الإغراء، عليك بالكيسِ عليك بالكيسِ، قيل هو الولد، أي الولدَ الولدَ، إذن ماذا يقصد؟ عليك أن تُجامِع جيداً حتى يرزقك – إن شاء الله – الولد، نُريد أولاد، هذا هو المعنى، لذلك فُسِّر الكيسَ بالولد، قال يا جابر الكيسَ الكيسَ، هنا وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۩: الولد.
وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۩، يُقال هذه الكلمة – مِنَ الْفَجْرِ ۩ – نزلت بعد، في الأول الله قال ماذا؟ الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فكان جماعة – جماعة وليس واحداً، ليس عدي بن حاتم فقط كما في الصحيحين، وغير عادي، جماعة – من أكثر من صحابي ماذا يفعلون؟ يأتون بحبلين، أي خيطين كبيرين ثخينين، واحد أبيض وواحد أسود ويربطانهما، الواحد كان يربط الحبلين في رجليه ثم ينظر، يقول والله لا أراهما، وحين يراهما يقول الآن لن نأكل، وهكذا! لكن الله لا يقصد ذلك، ووقع مثل هذا لإنسان أريب وحليم ورجل كان من السادة وهو عدي بن حاتم الطائي، سيد ابن سيد، فعل هذا، وضع تحت وسداته أيضاً خيطين وكان ينظر إليهما، يقوم من النوم وينظر، وذكر ذلك للنبي فقال له النبي إنك لعريض الوساد، طبعاً فسَّرها بعضهم – وهذا غلط – بالبلادة، بمعنى أنك بليد، أعوذ بالله! الناس لا يُجابِه أحداً أصلاً بما يكره، ليس من عادته أن يجبه أحداً بما يكره، أيقول لسيد ابن سيد أنت بليد؟ وبالعكس هو الذي قال له ما يُفِرك؟ يا عدي ما يُفِرك؟ أي كان يقول له لماذا أنت لا تُسلِم؟ إلى أين أن تفر؟ تعال وأسلم، ولما أسلم فرح النبي به جداً، فهو سيد ابن سيد، على كل حال لم يقل له أنت بليد، وما معنى عريض الوساد؟ يُفسِّرها القول الآخر في راوية في الصحيحين أيضاً: إنك لعريض القفا، إن كان الخيط الأبيض والخيط الأسود تحت وسادك، لا قال له، ليس هذا المعنى، إنما هو بياض النهار وسواد الليل، قال له الله يقصد هذا، سواد الليل وبياض النهار وليس الخيطين وما إلى ذلك، فأنزل الله للبيان قوله مِنَ الْفَجْرِ ۩، حتى لا تشتبه عليهم هذه الآية، وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ ۩، الْخَيْطُ ۩: النهار، بياض النهار، مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۩، والنبي كان يُعلِّمهم كيف هذا، يقول لهم وليس الفجر الذي هكذا، ذاك الفجر المُستطيل، اسمه الفجر الكاذب، ولكن الذي يقول هكذا، ويُشاوِر بيديه النبي، وطبعاً هذا موضع من مواضع كثيرة جداً جداً يُستخدَم فيها فعل قال للدلالة على الفعل وليس على القول باللسان، يقول: يقول، الفجر يقول، كيف الفجر يقول؟ أي يفعل، ينفجر هكذا، وهذا كثير في اللُغة وهو من فصيح اللُغة، فقال بيده فأقامه، في حديث موسى والخضر في الصحيحين فقال بيده، كيف قال بيده؟ أي صنع وفعل، وهذا من هذه المواضع على كلٍ، وإنما الذي يقول – وشاور النبي – هكذا، قال هذا هو الفجر، ينتشر ويكون فجراً صادقاً، لكن ذاك مثل ذنب السرحان، مثل ذنب الثعلب، ينتشر طولاً هكذا ثم يختفي، وهذا صحيح، وترجع الحلكة شديدة جداً جداً، وبعد ذلك ينفجر الصادق، وكيف ينفجر؟ أُفقياً، هذا هو، ويبدأ بياض النهار.
ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۩، ما المقصود بقوله اللَّيْلِ ۩ هنا؟ المغرب، فُسِّر بغروب الشمس، قال – عليه السلام – في حديث أيضاً في الصحيحين إذا أدبر النهار من ها هنا وأقبل الليل من ها هنا – يُشير إلى الشرق والغرب – فقد أفطر الصائم، لأنه كان ذات مرة في سفر وقال لأحد أصحابه اجدح لي، ما معنى اجدح لي؟ اخلط لي التمر بالماء وما إلى ذلك، الجدح اسمه، قال له اجدح لي، قال له يا رسول الله الشمس، كيف أجدح لك والشمس طالعة؟ يُريد أن يُعلِّمنا النبي، النبي يعرف طبعاً، ثم قال لي اجدح لي، هيا نفطر، يا رسول الله الشمس، بعد قليل قال له اجدح لي، وهذا في الصحيحين، في البخاري ومُسلِم أيضاً، قال يا رسول الله قد غابت الشمس، قال إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم، وهكذا! عليه الصلاة وأفضل السلام، ما أحسن تعليمه! وما أجمل تعليمه! تعليم غريب عجيب.
وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۩، أيضاً هذه الآية نزلت على سبب، السبب أن جماعة من الصحابة كانوا يعتكفون في رمضان – خاصة في رمضان طبعاً وهذا في غير رمضان، نفس الشيئ! أحكام الاعتكاف واحدة، كانوا يعتكفون -، فماذا كانوا يفعلون؟ إذا خرجوا من مُعتكَفهم – أي المسجد – ومروا على أهلهم أصابوا من أهلهم بالليل طبعاً، إذا كان في رمضان مُستحيل أن يحدث هذا في النهار، فالله قال لهم لا، في مُدة الاعتكاف ممنوع هذا، إذا أنت اعتكفت خمس ليال ممنوع أن تُصيب أهلك حتى لو خرجت من المسجد لحاجة في البيت، ممنوع! فطبعاً عملوا بذلك، وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۩.
تِلْكَ ۩، الإشارة بــ تِلْكَ ۩ لماذا؟ لكل ما سبق من الأحكام، عزائم الصيام ورُخصه وفضائله وتخفيفه وكل ما سبق، قال كل هذه حُدُودُ اللَّهِ ۩، أي التي حدها الله وبيَّنها وشرعها بنفسه لا إله إلا هو، فَلاَ تَقْرَبُوهَا ۩، أي فلا تعتدوها، معنى فَلاَ تَقْرَبُوهَا ۩ فلا تعتدوها، لأن القُربان مُقدِّمة الاعتداء، أليس كذلك؟ فهذا أبلغ في النهي عنها، لأنه نهى عن مُقارَبتها وليس عن مُواقَعتها، وهذا أبلغ من المُواقَعة.
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ۩، هذه واضحة.
۞ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ۞
وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ۩، هذه الآية نزلت في مَن؟ في أصحاب الرُشا، تعرفون الرِشوة، نزلت في أصحاب الرُشا، الرجل يكون مُبطِلاً وهو يعلم أن لأخيه حقاً عنده وهو يُنكِر هذا الحق ويتنافرا، أي يتخاصما إلى القاضي، الْحُكَّامِ ۩ جمع حاكم، والحاكم هو القاضي فانتبهوا، في اللُغة القرآنية وفي اللُغة الشرعية الحاكم ليس بمعنى الحاكم في اللُغة السياسية الآن، هذا غير وارد لا في الكتاب ولا في السُنة، لا نُسميه حاكماً، ماذا نُسميه؟ ولي أمر، نُسميه ولي الأمر، لكن كلمة حاكم تعني قاضياً، وإذا اجتهد الحاكم فأصاب له أجران وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجرٌ، في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو، هذا الحديث في مَن؟ في القُضاة، وأصحاب الأحكام هم القُضاة، لا تقل أن معنى الحاكم الرئيس أو الملك، هذا ليس علاقة بذاك أبداً، هذا شيئ وهذا شيئ، إلا أن يكون حاكماً، إلا أن يقضي، وهذا يجوز له كعمر وغيره، يُحاوِل أن يقضي أحياناً بين الناس، لا مُشكِلة في هذا، وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ۩، تذهبون إلى القُضاة وتُعطونهم بعض الرُشا لكي يقضوا لكم، وطبعاً أجمعت الأمة أن قضاء القاضي وحُكم الحاكم لا يُحلِّل الحرام ولا يُحرِّم الحلال، إذا القاضي بحسب البيّنات التي قامت عنده قال والله هذا الحق يبدو أنه لسعيد وفي واقع الأمر يعلم الله – تبارك وتعالى – أن هذا الحق لزيد هل يصير هذا الحق لسعيد؟ كلا، وإنما هي قطعة من نار جهنم – والعياذ بالله – أخذها هكذا، والقاضي أجره على الله، لأنه قضى بحسب البيّنات، بحسب الأدلة الشرعية، وإنما حار وباء بالإثم هذا الذي أدلى بالحُجة على غير وجهها، في الحديث الذي روته أم سلمة زوج رسول الله في الصحيحين قال – صلى الله عليه وسلم – إنما أنا بشرٌ وإنه يأتيني الخصوم منكم وربما يكون أحدكم ألحن بحُجته من أخيه فأقضي له بشيئٍ هو لأخيه، فمَن قضيت له بشيئٍ هو لأخيه فإنما هي قطعةٌ من النار، فإن شاء فليأخذ وإن شاء فليذر، طبعاً هل هذا التخيير تخيير حقيقي؟ بالعكس هذا وعيد وتهديد، هذا تهديد! كما قال إذا لم تستح فاصنع ما شئت، تهديد هذا، إذا أردت خُذ وإذا أردت اترك، هي قطعة من نار جهنم وأنت حر، لا طبعاً! تهديد هذا، فهذا معنى هذه الآية والله – تبارك وتعالى – أعلم.
۞ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۞
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ ۩، تعرفون الأهلة، جمع هلال، يبدو أن السؤال وقع بدافع علمي، يُريدون أن يعرفوا ما سر أن القمر يبدأ صغيراً ثم يبدأ يتتام حتى يُصبِح بدراً كاملاً ثم يعروه النقص من جديد حتى يدخل في المحاق وهذا، يُريدون أن يفهموا ما هذه القصة، فالله قال لهم أولى بكم أن تسألوا عما يُفيدكم، وهذا يُسمى أسلوب الحكيم، إذا سألك أحدهم عن شيئ وأنت كنت تُجيب على غير مقصده لكن بما تمس وتحق حاجته إليه وإلى فهمه – جميل هذا في التربية – فهذا اسمه أسلوب الحكيم، قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ ۩، لم يقل لهم كيف تحدث وما إلى ذلك، قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۩، قوله مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ۩ معروف معناه، في عيد النساء، الحيضة، في النفاس، الناس لم يكن عندهم Calendar وما إلى ذلك، يعرفون أن هذا هلال شوال وهذا هلال ذي القعدة وهذا هلال ذي الشهرين، هذان شهران وهذان شهران ونصف، الأهلة، أليس كذلك؟ يعرفون الشهور بالأهلة، والنبي قال صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين، هذا هو، التوقيت كان بالأهلة، فمواقيت للناس في العداد وفي معرفة الحيض والنفاس والأيام والليالي، كله بحسب الأهلة، وَالْحَجِّ ۩، تعرفون الحج طبعاً، كيف هي مواقيت للحج؟ واضح طبعاً.
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ۩، هنا اسم ليس كما هو، لا تحتاج خبراً وما إلى ذلك، هناك قال لَّيْسَ الْبِرَّ ۩ “بالفتح” – لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ۩ – وهنا قال وَلَيْسَ الْبِرُّ ۩ “بالضم” – وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ۩ – فما هذه القصة؟ ما قصة إتيان البيوت من ظهورها؟ كانوا في الجاهلية إذا حجوا البيت أو اعتمروا ثم عادوا لا يعودون داخلين من الأبواب وإنما يدخلون من الظهور، أي يتبرَّرون، بمعنى أن هذا بر وأنه شيئ جيد، لكن غير صحيح، ليس هذا البر، البر هو تقوى الله، والتقوى اسمٌ جامعٌ كما قلنا قُبيل أيام في الدرس الأول، لماذا؟ اسم جامع لفعل المأمورت واجتناب المُنكَرات، هذا هو، ألا يراك الله حيث نهاك وألا يفتقدك حيث أمرك، هذا هو، هذه التقوى، اسمٌ جامعٌ لفعل المأمورات واجتناب المنهيات أو المُنكَرات، قال هذا البر، وعن الحسن البِصري – قدَّس الله سره الكريم – أنهم كانوا إذا ذهبوا في سفر ثم تشاءموا بشيئ عرض لهم وعادوا لا يعودون من الأبواب، أي خشية ألا يعودوا بالشؤم معهم ومن ثم يُشأم البيت ومَن فيه، فيرجعون من الظهور، خُرافات! كل أمة عندها خرُافات، كل أمة عندها خُرافاتها.
۞ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۞
وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۩، هذه الآية عن الحبر ابن عباس أول آية نزلت في القتال بالمدينة، قبل آية ماذا؟ الحج: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ۩، هذه الآية من البقرة كانت أول آية، كان النبي وأصحابه قبل ذلك يُقاتَلون ولا يُقاتِلون، بعد هذه الآية صاروا يُقاتِلون.
۞ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ۞
يقول واقتلوهم حيث وجدتموهم، هذا معنى وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ۩، وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۩، ما معنى الفتنة هنا وأنها أشد من القتل؟ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۩، هناك تفسيران مشهوران: وَالْفِتْنَةُ۩، أي الشرك، أي شرك هؤلاء المُشرِكين والكفر الذي تلبَّسوا بهم وأقاموا عليه أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۩، فحقيق بهم أن يُقاتَلوا وأن يُقتَلوا، لا تقل كيف أنتم تستحلون القتال وأنتم مُسلِمون وما إلى ذلك، لا! شرككم أعظم من هذا الحكم الشرعي، وهو ماذا؟ حِل مُقاتَلتكم، فوجب قتالكم، هذا معناها، وهذا المعنى الذي صدَّرت به وقال به كثيرون جداً جداً من الصحابة والتابعين والمُفسِّرين، وهم يبدأون به، كأنه القول الأقوى والأرجح، والمعنى الثاني أو القول الثاني فتنة المُؤمِنين عن دينهم، فتنة المُؤمِنين في دينهم وعن دينهم أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۩، لأن الكفّار كانوا – والعياذ بالله – يُسومون ويُولون المُسلِمين والمُسلِمات فتنةً في دينهم حتى يتركوا الدين، الله قال أمثالكم مما يفتنون المُؤحِّدين عن دينهم حقيقٌ أن يُقاتَلوا وعدلٌ أن يُقاتَلوا، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۩، هذا المعنى الثاني، على كل حال الذي أرتئيه – والله تعالى أعلم – سياق هذه الآية وغير هذه الآية يُؤكِّد المعنى الثاني أكثر، أرتاح إليه أكثر، ليس المعنى أن الشرك أعظم من هذا الحكم الشرعي، السياق يُؤكِّد هذا وسوف نرى كيف.
وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۩، هذا معروف طبعاً، والمسجد الحرام مُحرَّم بتحريم الله، في الصحيحين قال – عليه السلام – إن هذا البيت حرَّمه الله ولم يُحرِّمه أحدٌ من الناس، وإن ترخَّص أحدٌ بقتال رسول الله فيه فقولوا له – إذا قال أحد الرسول فتح مكة وأهدر دماء بعض الناس وفعلاً قُتِلوا، وقال فلان يُقتَل وفلان يُقتَل وقُتِل بعض الناس، طبعاً قُتِلوا، وأهدر دماء بعض الناس واستحله ودخل بالمسالح، مُسلَّحين كانوا – إنما أحله الله لرسول الله – الذي الرسول الذي أحله وإنما الله – ساعةً من نهار ثم عاد حراماً كما كان، وهذا حديث مُهِم جداً جداً، لماذا؟ لأن للأسف أول مَن استحل البيت هم المُسلِمون أنفسه من بني أُمية وضربوه بالمنجنيق – والعياذ بالله – واحترقت الكعبة، نُقِضت بالكامل! ولذلك في حديث في الصحيحين – حديث مُهِم جداً، حديث أبو شُريح العدوي على الحكاية أو حديث أبي شُريح العدوي – عُمير بن سعيد بن العاص الأموي كان يبعث البعوث إلى ابن الزُبير بمكة، يبعثها إلى مكة لقتال ابن الزُبير، كما تعرفون في فتنة ابن الزُبير، كان يبعث البعوث، فوقف له أبو شُريح العدوي وقال له أُحدِّثك بحديث سمعته من رسول الله، أي بنفسي أنا سمعته، وحدَّثه بهذا الحديث، إن هذا البيت حرَّمه الله ولم يُحرِّمه أحدٌ من الناس، وإن ترخَّص أحدٌ بقتال رسول الله فيه فقولوا له إنما أحله الله لرسول الله ساعةً من نهار ثم عاد حراماً كما كان، وقال له الحديث كله، ثم قيل لأبي شُريح ما قال لك؟ قال قال لي أنا أعلم منك يا أبا شُريح، أنا أفهم أكثر منك، إن البيت لا يُعيذه فاراً بدم ولا فاراً بخربة ولا مُحدِثاً، اسكت! وما أحسن ما قال الحافظ ابن حجر! قال طبعاً الكلام الذي تشدَّق به هذا وهو يُعرَف بالأشدق – كان اسمه الأشدق هو، وتشدَّق هنا بين يدي الله ورسوله – لا حُجة له فيه، ونقضه عليه لكن لن نُطيل ونقول كيف نقضه، كلام فارغ، غير صحيح، هو أراد أن يرد قول رسول الله بالحُجة الفارغة التي تقول إن البيت لا يُعيذه فاراً بدم ولا فاراً بخربة – والخربة هي السرقة، سرق شيئاً ودخل فيه – ولا مُحدِثاً، أحدث أمراً في البيت، كلام فارغ لا حُجة له فيه، وحرام أن يستحل بيت الله تبارك وتعالى، استحلوه وحرقوه وضربوه بالمنجنيق والعياذ بالله، قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ۩، المُهِم قال الله حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ۩، هذا واضح.
۞ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۞
فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، هنا معنى انتَهَوْا ۩ انتهوا عن كفرهم ودخلوا في الإسلام، لماذا قلنا هذا ولم نقل انتهوا عن قتالكم؟ (ملحوظة) أجاب أحد الحضور بالإجابة الصحيحة فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، ثم استتلى قائلاً لأن الله قال فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، ما معنى فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩؟ لا تُوجَد مغفرة للكافر، أليس كذلك؟ انتبهوا فالقرآن دقيق، لو كان معنى فَإِنِ انتَهَوْا ۩ أمسكوا عن قتالكم لقال الله فَإِنِ انتَهَوْا ۩ فانتهوا، أليس كذلك؟ أو لقال فلا عدوان إلا على الظالمين، لكنه ماذا قال؟ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، فلا يصح أن تقول لي الآية تحتمل انتهوا عن قتالكم وما إلى ذلك، غير صحيح! المغفرة لا تكون لا كافر وهو لا يطمع في المغفرة أصلاً، إذن معنى انتَهَوْا ۩ هنا أي عن كفرهم وغيهم وشركهم ودخلوا في الإسلام، فإنه ما من ذنب يتعاظم الله أن يغفره حتى لو كان الشرك وقتال الرسول والمُوحِّدين، إذا أسلمت ودخلت الله سيغفر ما سلف، والدليل على ذلك ما في الأنفال: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَر لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّة الْأَوَّلِينَ ۩، واضح! الله يُخاطِب الكافرين بشكل واضح، إِنْ يَنْتَهُوا ۩، عن كفرهم، يُغْفَر لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّة الْأَوَّلِينَ ۩، فهذا هو المعنى، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩.
۞ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ۞
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۩، أي يظهر الدين، ولذلك لما جاء أحدهم وقال لعبد الله بن عمر يا ابن عمر إن الناس فيما ترى – أيام فتنة ابن الزُبير – فلم لا تخرج – اخرج وقاتل وانظر مع مَن الحق – وقد قال الله – تبارك وتعالى – وَقَاتِلُوهُمْ ۩ قال – أي ابن عمر – نعم قال الله وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ۩، وقد قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وهم الآن يقولون اخرجوا لقتال إخوانكم، قال لا، لا أخرج، لا أُريد، هذا كان مذهب ابن عمر على كل حال ونُوقِش فيه.
۞ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ۞
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۩، أيضاً ما معنى هذه الآية؟ ما معنى الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۩؟ عام ستة للهجرة كما تعلمون وهو عام الحُديبية خرج الرسول في ذي القعدة مع أصحابه وكانوا ألفاً وأربعمائة صاحب – عليهم الرضوان والرحمة أجمعين – قاصدين البيت لحجه واعتماره، تعرفون ما الذي حصل فلن نذكر هذه السيرة المعروفة، المُهِم كانت الحُديبية ومُنِعوا من البيت على أن يعودوا إليه من قابل، وهكذا أمكنهم الله – تبارك وتعالى – فعلاً من قابل أن يعودوا إليه وأن يدخلوه وأنزل الله هذه الآية، قال الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۩، فاعتبر أن إدخاله نبيه – عليه السلام – وأصحابه في هيئتهم من باب القصاص بما فُعِلَ بهم في السنة الفارطة، فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ۩.
۞ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۞
وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۩، بالمُناسَبة كلمة فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۩ طبعاً هي كلمة عامة، يدخل فيها كل وجوه البر، لكن في أحايين كثيرة يُقصَد بها ماذا؟ الجهاد في سبيل الله، في أحايين كثيرة! مَن صام يوماً في سبيل الله الأرجح فيها وهو مُجاهِد في أرض الرباط، وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۩، كل النفقات، وقد يترجَّح أن المقصود الجهاد، فإن لم يترجَّح هو فهو له مكانة خاصة، أي الإنفاق في الجهاد وعلى المُجاهِدين وعلى الغُزاة بالذات، بدليل ماذا؟ الآية كلها: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩، البراء أيضاً سأله أحد الناس وقال له يا صاحب رسول الله أرأيت رجلاً يحمل على العدو وهم كثيرون فيُقتَل هل يكون ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال هو شجاع، مُسلِم شجاع يحمل على عشرة أو عشرين لكنهم يقتلونه فيما بعد، هل يُقال فيه أنه ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال لا، لقد قال الله للمُؤمِنين أو للصحابة أو للمُسلِمين وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۩ أنزلها في النفقة، قال هذه الآية أنزلها الله في النفقة، ما معنى أنزلها في النفقة؟ أي وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۩ بماذا؟ بالإمساك، يجب أن تُنفِقوا وبالذات في الجهاد على المُجاهِدين والغُزاة، على المُجاهِدين والغُزاة يجب أن تُنفِقوا، فإن لم تفعلوا فقد سعيتم في إهلاك أنفسكم وتخريب آخرتكم، قال له نزلت في النفقة، وفي الحديث المشهور الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وغيرهم – وهو حديث صحيح – عن أبي أيوب الأنصاري – رضيَ الله عنه وأرضاه – حين كانوا في فتح القسطنطينية حمل رجل أيضاً على جماعة من الكفّار، فقال جماعة من الناس ألقى بيده إلى التهلكة، ألقى بيده إلى التهلكة! ما هذا؟ مُتهوِّر هذا، مُتهوِّر ومُتحمِّس، فأبو أيوب قال لا، لا تقولوا هكذا، نحن أعلم بهذه الآية، أنتم تقولونها وأنتم لا تفهمونها، فينا نزلت هذه الآية معشر الأنصار – هذه نزلت في الأنصار -، قد كنا معشر الأنصار أصحاب أرض وزرع وثمر – ثمار – وتركنا كل ذلك ونفرنا مع رسول الله – سنون قال ونحن مع الرسول في الجهاد والغزوات وإلى آخره -، فلما ضرب الإسلام بجِرانه وشاع واطمأن المُسلِمون قال بعضنا لبعض – أي بشكل سري، لم يكن هذا بشكل واضح قال، أي على سبيل الاستخفاء – قد ضرب الإسلام بجِرانه وانتشر وأمن الناس فلو عُدنا إلى أرضنا وزرعنا وأقمنا فيه وأصلحناه – لماذا نظل طائرين من مكان إلى مكان في الجهاد؟ انتهى الأمر، الحمد لله الإسلام بلغ – وعلم الله – طبعاً الله لا تُخفى عليه خافية – وأنزل الله – تبارك وتعالى – فينا هذه الآية، وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۩، أنفقوا في الجهاد، تابعوا الجهاد، وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۩، بماذا؟ بالقعود وعدم النفقة وعدم مُتابَعة سير الجهاد، هذا هو، سُبحان الله كم هذه الآية أضلت ناساً! هذه ما شاء الله دستور للقاعدين، دستور للمخذولين، دستور للمُخذِّلين، دستور للمُثبطين، دستور للجُبناء، كلهم! يقولون قال تعالى وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۩، في كل شيئ! إذا إمام خطب وقال كلمة حق يرجو به وجه الله يُقال له يا أخي ألهكت نفسك، وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۩ يا أخي، في كل شيئ، بالعكس! عكسوا الآية تماماً، وهذا ما يفعله الجهل وما يفعله قلة الفقه في دين الله، لا نفهم ولا نقرأ ولا نتعلَّم وما إلى ذلك فنقع في هذه المشاكل، فنسأل الله أن يُعلِّمنا ما ينفعنا.
۞ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ۞
وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۩، ما معنى إتمام الحج والعُمرة؟ قيل معنى الإتمام أدوهما وقوموا بهما، وقيل أنشئوهما من الميقات، ليس من بعد الميقات، هذا معنى الإتمام، وبالمُناسَبة الآية هكذا بظاهر نظمها حُجة لمَن قال إن الشروع في الحج والعُمرة بالذات مُلزِم، لو أنت الآن – مثلاً – ذهبت تحج أو تعتمر وأُحصِرت – مذكور في الآية هذه حُكم الإحصار والمُحصَر – ماذا تفعل؟ ما معنى الإحصار؟ مُنِعت من الوصول إلى البيت، وهو أعم من أيكون بعدو، بمرض أو بكسر أو بعرج أو بتوهان مثلاً، اسمه ضلال، أي بضلال أو توهان أو تيه، تُهت عن الطريق، كل هذه الأشياء هي أسباب الإحصار، هل هذا واضح؟ ليس فقط العدو، كل هذه الأشياء أسباب الإحصار، وقد قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن كُسِرَ أو عَرِجَ – أُصيب بالعرج، هكذا عَرِجَ فَعِلَ – فقد حل، أي أصبح حلالاً، انتهى! ترك الإحرام وعليه حجةٌ أُخرى، هذا حديث سهل جدً جداً في الإحصار، وفي حُكم الإحصار والمُحصَرين الحديث الصحيح أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – دخل على ضباعة بنت الزُبير بن عبد المُطلِب – من أهله، من أهل بيته، من أرومته – وهي شاكية – ما معنى شاكية؟ مريضة تشتكي، هذا معنى شاكية – فقالت له يا رسول الله أُريد النُسك – أُريد الحج أو العُمرة – ولكنني أشتكي – أخاف أن أذهب ولا أقدر على الإكمال -، فقال – عليه السلام – لها حُجي واشترطي – لا بأس، اذهبي إلى الحج واشترطي -، قولي اللهم مَحِلي حيث حبستني، هذا الشرط! إذا حُبِست في أي مكان سواء بعد الميقات أو قبل الميقات أو دونه لن تُوجَد مُشكِلي، قال لها قولي اللهم مَحِلي حيث حبستني، ما معنى مَحِلي؟ ليس مَحَلي فانتبهوا، يُوجَد فرق بين مَحَل وبين مَحِل، مَحِلي هو سبب تحللي، الوضع الذي أتحلل فيه، هناك الظرف والآن الذي أصير فيه حلالاً، ويُقال امرأة حلال ورجل حلال وهما حلال وهم حلال وهن حلال، ورجل حرام وامرأة حرام وهما حرام وهم وهن حرام، يستوي فيه المُذكَّر والمُؤنَّث والمُثنى والجمع، الكل! حرام وحلال، هل هذا واضح؟ قال لها قولي اللهم محِلي حيث حبستني، هل فهمتم باختصار ماحكم الإحصار؟ هذا هو، وهذا التحلل، لكن ماذا يفعل هذا المُحصَر الذي تحلل؟ يذبح هدياً ثم يعود من قابل – إن شاء الله – ليستأنف حجةً أو عُمرة، هل هذا واضح؟ وإذا كانت عُمرة يكون هذا فيما تيسَّر له من الزمان إن شاء الله، لأن الله قال الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۩، لكن العُمرة ليست كذلك، العام كله!
قال فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ۩، إذن هذا معناها، فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۩، هذا هو، تذبح الهدي وتتوكَّل على الله وينتهي الأمر، النبي قال مَن كُسِرَ أو عَرِجَ فقد حل وعليه حجةٌ أُخرى، وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۩، صعبة هذه الآية، فيها مُشكِلة كبيرة فانتبهوا، وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۩، الآن افتحوا قوسين وهذه جُملة اعتراضية ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۩: اعتراضية تقريباً)، الآن احذفوها، ماذا ستصير الآية؟ وأتموا الحج والعُمرة لله ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي مَحِله، إذن جُملة وَلاَ تَحْلِقُواْ ۩ معطوفة على ماذا؟ على وَأَتِمُّواْ ۩، انتبهوا! إذا عطفتموها على الإحصار لا يُمكِن أن يضح لكم المعنى، سوف تدخلون في تيه ولن تفهموا شيئاً في الآية، فالجُملة الاعتراضية اتركوها الآن، فهمتموها وفهمتم أحكام الإحصار، أليس كذلك؟ كأنها غير موجودة، تخيَّلوها كأنها غير موجودة، تُصبِح الآية وأتموا الحج والعُمرة لله ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي مَحِله، وهذا معروف، طبعاً الذي حج أو درس أحكام الحج يعرف هذا تماماً، متى يجوز للإنسان أن يتحلل بحلق رأسه؟ متى؟ في أي يوم نحلق نحن؟ يوم النحر، أي يوم العيد، وهو يوم كم من ذي الحجة؟ يوم عشرة، التاسع الوقفة بعرفات، التعريف! التعريف التاسع، ويوم عشرة هو يوم النحر، يوم العيد! يوم العيد لدينا كم عمل؟ أربعة أعمال رئيسة، أليس كذلك؟ أربعة أعمال، في منى ثلاثة، مَن عمل عملين فقد حل، أصبح حلالاً، تحلل! ما هي الأعمال بالترتيب؟ أعمال يوم النحر في منى ما هي؟ أولاً شيئ حين تصل رمي العقبة، (ملحوظة) قال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لأحد الحضور حين أجاب بطريقة خاطئة أنت لم تحج معنا ولذلك تخربطت ولا يُوجَد عتب عليك، ثم استتلى قائلاً هذه الأشياء مَن فعلها لا ينساها لكن مَن لم يفعلها يتخربط فيها، وهي سهلة جداً جداً، أسهل عبادة الحج بالمُناسَبة، حقيقةً سهلة جداً، أسهل من الصلاة، الصلاة أحكامها كثيرة ومُعقَّدة جداً وكذلك الصيام، أسهل شيئاً الحج، الزكاة صعبة كثيراً أيضاً، لكن الحج أسهل عبادة، هناك أُناس يخافون منها لأنهم لم يُجرِّبوها، ويُمكِن أن تتعلَّمها وتقولها في ثُلث ساعة ثم تعملها وسوف تجدها من أسهل ما يكون إن شاء الله، على كل حال أول شيئ رمي العقبة، فقط عندنا رمي واحد في هذا اليوم، رمي العقبة! ثم ماذا؟ النحر ثم الحلق بعد ذلك، ماذا لو أحدهم قدَّم وأُخَّر؟ لا بأس، والنبي سُئل في ذلك اليوم كثيراً، قيل له حلقت قبل أن أنحر فقال له انحر ولا حرج، قيل له نحرت قبل أن أرمي، قال له ارم ولا حرج، فما سُئل يومئذ عن شيئ قُدِّم أو أُخِّر إلا قال ماذا؟ افعل ولا حرج، افعل ولا حرج، النبي قال لا تُوجَد مُشكِلة، الترتيب سُنة، لكن إذا خربطت لن يكون عندك أي مُشكِلة، وإذا تحلل يتحلل التحلل الأصغر فيحل له كل شيئ إلا ماذا؟ النساء، ولا يحل له النساء إلا أن يأتي البيت فيطوف ويسعى فيحل له التحلل الأكبر، على كل حال هذه الأشياء لا علاقة لنا بها الآن، لكننا ذكرناها لكي نفهم الآية.
قال وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ ۩، هنا ترخص، ترخيص! هنا يُوجَد حُكم ترخيص، ما معنى فَمَن كَانَ مِنكُم ۩؟ أيضاً هذه معطوفة على ماذا؟ فيها تفصيل لماذا؟ للجملة المعطوفة، قال من الناس مَن لن يقدر على أن يظل إلى يوم التحلل، لن يقدر، لماذا؟ لأن عنده مُشكِلة في رأسه، قمل! أي أنه مقمل، في الصحيحين أن كعب بن عجرة جاء ورأسه يفور بالقمل، والمسكين يحك رأسه وحالته تعبانة كثيراً، فالنبي رآه فقال له يا رسول الله حالتي كذا وكذا، فقال له النبي ما ظننت – أستغرب النبي – أن الجهد يبلغ منك هذا، إلى هذه الدرجة؟ قال له، كثير صعب هذا قال له، فقال له اذهب واحلق شعرك، لا تُوجَد مُشكِلة، جز هذا الشعر، احلقه وعليك هدي، انظر إلى الترخيص والحمد لله، تستطيع أن تتحلل قبل الأوان الشرعي برُخصة شرعية، هل فهمتم معنى الآية هذه؟ هذا معناها، قال فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ ۩، غير قادر على أن يُواصِل، يُريد أن يتحلل قبل، قال فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۩، قال مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۩ بهذا الترتيب، ما النُسك؟ الهدي، كالخروف أو الشاة وما إلى ذلك.
فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۩، انتبهوا فهنا تُوجَد أيضاً مسألة مُهِمة جداً، لفظة التمتّع في لُغة القرآن وفي لُغة رسول الله يُقصَد بها التمتّع العام، وهناك التمتّع الخاص أو ما يُعرَف بالتمتّع الأخص، ما هو التمتّع الخاص أو الأخص؟ هو التمتّع في لُغة الفقهاء، هل تعرفون ما التمتّع عند الفقهاء؟ نحن حين كنا ندرس – مثلاً – أو نُدرِّس أحكام الحج أو أنتم حين كنتم تقرأون عن هذا الموضوع في أي كتاب ما الذي يكون مكتوباً؟ النُسك أنواع ثلاثة، أليس كذلك؟ إفراد أو قِران أو تمتع، ويتحدَّثون عن الإفراد – الحج وحده – ويتحدَّثون عن القِران – في النية فقط تقرِن بين العُمرة والحج، في النية! وتدخل أعمال العُمرة في أعمال الحج، أليس كذلك؟ وهو الأحب عند الأحناف – ويتحدَّثون عن التمتع، ما التمتع؟ في الأول أنت تُنشيء العُمرة – تُحرِم بالعُمرة وحدها – وبعد ذلك تنتهي منها في ساعتين من الزمن ثم تتحلل وتبقى حلالاً إلى يوم التروية، أليس كذلك؟ ثم تُحرِم بالحج من مكانك في مكة، من مُقامك في مكة، هل هذا واضح؟ وتأتي بأعمال الحج كاملةً وينتهي الأمر وتتحلل، هذا اسمها التمتع، هذا في لُغة مَن؟ في لُغة الفقهاء، هذا اسمه التمتّع الخاص أو الأخص، إذا قرأت في كتاب الله فَمَن تَمَتَّعَ ۩ لا تفهم أن هذا التمتّع وحده، هذا نصف التمتّع، نوع من التمتّع وهو نوعان، ما النوع الثاني؟ القِران، القِران اسمه تمتّع باللُغة الشرعية، هل فهمتم هذه المعلومة؟ مُهِمة كثيراً، القِران اسمه التمتع، إذا لم تفهم هذه المعلومة سوف تمر عليك أحاديث كثيرة في البخاري ومُسلِم وأبي داود ولن تفهمها، لأنه يتحدَّث عن التمتّع ويتحدَّث عن القِران، سوف تقول كيف هذا؟ ليست هذه المُتعة التي تعلَّمناها، لكن أنت تُفسِّر اللفظ الشرعي بماذا؟ باصطلاح شرعي حادث، أحدثه العلماء، وهو تخصيص، هو إحداث بالتخصيص كما قال الغزّالي، إحداث بالتخصيص! أي أنهم خصَّصوا وضيَّقوا قليلاً، لكن التمتّع الشرعي أوسع، باختصار يدخل فيه ماذا؟ القِران والتمتّع الذي يتكلَّم عنه الفقهاء، فهذا هو.
قال فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۩، أنتم تعرفون أن هذه الآية مُهِمة، في أنواع النُسك الثلاثة – الإفراد والقِران والتمته – المُفرَد هل عليه هدي؟ لا، القارِن هل عليه هدي؟ اللهم نعم، المُتمتِّع باللُغة الفقهية هل عليه هدي؟ اللهم نعم، والآية لخَّصت هذا، كما قلنا إذا حملنا التمتّع هنا على المعنى الصحيح وهو التمتّع العام هذا سوف يجعلنا نأخذ هذا الضابط: مَن الذي عليه؟ ومَن الذي ليس عليه؟ الذي عليه مُتمتِّع، مَن المُتمتِّع؟ القارِن أو المُتمتِّع باللُغة الفقهية، فعليه هدي، يبقى مَن إذن في القسمة الثلاثية في النُسك؟ المُفرِد، ليس عليه هذا، فقط هذه هي القضية، هل هذا واضح؟ لكن لماذا؟ الحكمة ما هي؟ لماذا القارِن عليه هدي والمُتمتِّع عليه هدي والمُفرِد ليس عليه؟ تمتَّع بشيئين هو، وفعلاً اسمه تمتّع، تمتَّع بإنه أدى الحج والعُمرة في وقت واحد أو في موسم واحد، فلابد أن يدفع مُقابِلاً، فليدفع الهدي، لكن المُفرِد المسكين هذا أدى الحج وحده، أليس كذلك؟ قد يقول أحدكم أنا أعرف التمتّع باللُغة الشرعية بمعنى أنه تمتَّع من العُمرة بعد أن تحلَّل إلى الحج بالنساء وبالطيب وما إلى ذلك، هذا صحيح وتمتَّع أيضاً بأداء نُسكين في موسم واحد ومن ثم لابد أن يدفع الهدي، والقارِن أيضاً عمل أعمال واحدة تقريباً – طبعاً هناك خلاف في بعض الأشياء البسيطة فلن نتكلَّم فيها – وحُسِبَت له عن حجة وعُمرة، أليس كذلك؟ وأعمال واحدة فقط، أعمال الحج قام بها، فلابد أن يدفع أيضاً، بخلاف مَن؟ المُفرِد المسكين، من يوم يأتي إلى يوم تحلله يظل مُحرِماً، أحياناً عشرين يوماً وأحياناً أكثر، بحسب ما يأتي، إن تورَّط وجاء قبل شهر يظل في الإحرام شهراً كاملاً المسكين وهو حرام، وفي النهاية يُكتَب له أجر حجة، فالله قال له سوف نُخفِّف عنك ما دام هذا وضعك، لن يكون عليك هدي، هل هذا واضح؟
فَمَن لَّمْ يَجِدْ ۩، هذا المُتمتِّع، القارِن أو المُتمتِّع باللُغة الفقهية، ليس عنده هدي، ما معنى فَمَن لَّمْ يَجِدْ ۩؟ انظر إلى هذه العبارة، قال فَمَن لَّمْ يَجِدْ ۩، مَن لم يجد مالاً يشتري به لأنه فقير أو مَن لم يجد هدياً يشتريه بالمال، غير موجود، فُقِدَ الهدي، وهو غني! أو ليس عنده مال من الأصل، تعبير دقيق، قال فَمَن لَّمْ يَجِدْ ۩، تحتمل المعنيين، أليس كذلك؟ عبَّر بكلمة واحدة، مَن لم يجد المال ومَن لم يجد الهدي يُشترى بالمال، بكلمة واحدة، سُبحان الله!
قال فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ۩، ما هي هذه الأيام؟ ما تعيينها؟ قبل التروية والتروية ويوم التعريف، أليس كذلك؟ التروية يوم ثمانية والتعريف بعرفات يوم تسعة، أليس كذلك؟ هذه هي، ثلاثة أيام هذه، هكذا قال الصحابة، وإذا لم يفعل؟ يستطيع أن يصوم حتى في أيام التشريق، تعرفون أيام التشريق، ماذا قال عنها النبي؟ قال إنما هي أيام أكل وشرب وذكر لله، فخُصَّ منها مَن لم يصم هذه الأيام الثلاثة، فيستطيع أن يصومها في أيام التشريق إن شاء الله تعالى.
وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۩، فيها قولان: رَجَعْتُمْ ۩ إلى رحالكم أو رَجَعْتُمْ ۩ إلى بلادكم، تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ ۩، اسم الإشارة ذَلِكَ ۩ إشارة لماذا؟ لأحكام التمتّع – انتبهوا – وليس إلى كل ما سبق، انتبهوا فهي ليست إلى كل ما سبق وإنما لأحكام التمتّع، لماذا؟ لأن المكي المُقيم في الحِل لا يجوز له أن يتمتَّع على الأرجح، يقول ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ۩.
۞ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ۞
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۩، ما هي أشهر الحج المعلومات؟ شوال، ذو القعدة، وذو الحجة، هنا قد يقول لي أحدكم ليس كل ذي الحُجة حقيقةً وإنما عند عشرة ذي الحجة، فلماذا قال الله أَشْهُرٌ ۩؟ تغليب، أليس كذلك؟ أنت تقول رأيته اليوم، هل أنت رأيته اليوم كله؟ أنت رأيته في ساعة من اليوم، أليس كذلك؟ يُقال لك هل رأيت سعيداً؟ فتقول رأيته اليوم، كيف رأيته اليوم؟ المفروض إذا أردنا أن نتفلسف أن تقول رأيته في ساعة من ساعات اليوم، لكنك قلت رأيته اليوم، أنت لا تقصد اليوم كله لكن هذا تغليب، أليس كذلك؟ وتقول زرته العام، هل زرته العام كله أنت؟ هل في الثلاثمائة والخمس والستين يوم كنت عنده؟ لا، في يوم في العام، فيُقال هذا تغليباً، هذا اسمه التغيب، يُقال هذا تغليباً، فبدل أن يقول الله شهرين وثُلث الشهر ماذا قال؟ أَشْهُرٌ ۩، فالشهران وثُلث الشهر سماهم أشهراً من باب التغليب، قال أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۩، ما معنى مَّعْلُومَاتٌ ۩ إذن هنا؟ لا يجوز لا قبل ولا بعد، لا تستطيع أن تقول أنا في رمضان – والله – وأُريد أن أحرم في هذا الشهر واذهب، لا يُمكِن أن تحرم في رمضان بالحج، لا تستطيع!
فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۩، معروف الرفث وقلنا ما هو، لكن هناك أحكام مُهِمة، لا رفث: لا جماع ولا مُقدِّمات ودواعي الجماع، قال بعض أسلافنا كأن يقول لزوجته إذا عُدنا أُصيب منكِ، أي إن شاء الله لما نرجع إلى البلد، ممنوع الكلام هذا، ممنوع! ممنوع أي شيئ من هذا، ممنوع الرفث كله، أي الجماع وكل أسبابه وكل دواعيه مع زوجتك، لا الجماع ولا الأشياء التي تتعلَّق به، كأن تعدها وتقول له اصبري، إن شاء الله نرجع وأُصيب منك، ممنوع الكلام هذا، ممنوع! فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ ۩، ما هو الفسوق؟ المعاصي، المعاصي بشكل عام هي فسق والعياذ بالله، وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۩، معروف، وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ۩.
۞ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ۞
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ۩، كانت أسواق العرب مثل عكاظ وذي المجنة وذي المجاز أسواقاً في الجاهلية مشهورة ومطروقة، يأتيها الناس من كل الأصقاع والأمصار، لكن الجاهليين من العرب كانوا يتأثَّمون – أي يشعرون بالإثم – ويتحرَّجون من أن يتعاطوا البيع والشراء فيها في موسم الحج، يتركون كل شيئ ويقولون الآن لن نفعل لأن هذا موسم وما إلى ذلك، فالله قال لهم غير صحيح، هذا مُمكِن، ليس عندكم أي مُشكِلة، وجاء ذات مرة رجل وسأل النبي قائلاً يا رسول الله نحن نذهب لكي نحج وبصراحة عندنا بعض المكاري وعندنا بعض التجارات والمكاسب، فهل هذا يُؤثِّر الحج؟ فالنبي سكت حتى أنزل الله هذه الآية، فأجابه النبي قائلاً أنتم حجّاج، لن تكون هناك مُشكِلة إن شاء الله، تستطيع!
إذن معنى آية لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ۩ أي في موسم الحج، وهكذا كان ابن عباس يقرأها تفسيرياً، كان يقول في موسم الحج أو في أيام الحج، هذا معناها، فجائز أن تشتري وتبيع وما إلى ذلك، لأنك تقوم بكل أعمال الحج، وطبعاً في النهاية أجرك على قدر نيتك، إذا كان المقصد الرئيس عندك هو التجارة وقلت لأننا سنذهب في كل الحالات سوف نقوم بعمل حجة سوف تُحاسَب على قدر نيتك، كل هذا موزون عند الله، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ۩، كل هذا عند الله موزون، الله سوف يرى ما مقدار الذي تمحَّض من نيتك للعبادة وسوف يُعطيك أجراً بمقداره، والذي تمحَّض للتجارة أخذته في الدنيا فذهب عليك.
فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۩، هنا شيئ مُهِم أيضاً، هنا قد يقول أحدكم حتى في الجاهلية كانوا يُفيضون من عرفات، لكن لا، قريش لم تكن تُعرِّف، ما معنى لم تكن تُعرِّف؟ لم تقف بعرفات، لأن عرفات خارج الحرم فانتبهوا، عندنا حدود للحرم، مُزدلِفة في الحرم، مُزدِلفة والمشعر الحرام يدخلون في الحرم، وبعد الحرم يأتي الحِل، فعرفات في الحِل، فهم كانوا يقولون لا، نحن أهل البيت وسدنته، فنحن لا نخرج من الحرم، عندنا خصيصة فنبقى، ويبقون هكذا! فالناس تُفيض من عرفات وهم يُفيضون من مُزدلِفة، الله قال لا، وكانوا يُسمون أنفسهم الحُمس، يقولون نحن الحُمس لا نخرج من الحرم، لماذا؟ ما معنى كلمة الحُمس؟ جمع أحمَس، تعني الأُباة، نأبى على أنفسنا ما يرضاه الناس لأنفسهم، وقيل نسبة إلى الحمساء وهي الكعبة، والحمساء هي السوداء، لأنها البنية السوداء، قيل إنهم ينتسبون إليها، أي نحن أهل الكعبة، أهل البيت، قيل هذا! قيل من المعنى الأولى وقيل من الحمساء وهي الكعبة، انوا يقولون نحن الحُمس لا نخرج من الحرم، هذا حرمنا ونحن أهل البيت والسدنة فنبقى هنا، سُبحان الله النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – حتى في الجاهلية – قبل الإسلام وقبل أن يتنبأ، سُبحان الله يا أخي، إنسان غير عادي، لأن ربنا أراده لأمر عظيم – حين كان يحج – لأن كان يحج في الجاهلية النبي – ماذا كان يفعل؟ يقف مع الناس في عرفات، سُبحان الله! مع أن هو من سطة قريش، أي من وسطها، أحسنهم نسباً ومحتداً، لكنه كان يتركهم ويذهب مع الناس العاديين، يذهب إلى الناس ويقف معهم، في الصحيحين عن جبير بن مُطعِم يقول ضل لي بعير فذهبت أنشده، أي أطلبه، قال فرأيت محمداً مع الناس في عرفات، فقلت هذا من الحُمس، ما له يقف هنا؟ أي قال أنا أستغربت، طبعاً هذا الحديث ما معناه؟ أنه فقد بعيراً في الجاهلية، لو فهمته كما هو – أنا فقدت بعيراً ثم رأيت النبي، وهذا صار صحابياً – لقلت أين رأى النبي؟ ما القصة؟ طبعاً الصحابة كلهم في حجة الوداع وقفوا مع النبي، لكن لا، معنى الحديث أنه في الجاهلية، لم يذكر هذا في نص الحديث وهو في الصحيحين، بإجماع كل مَن شرح الحديث، وأنا في الجاهلية قديماً – قال – وأنا حينها لم أكن مُسلِماً رأيت محمداً مع الناس في عرفات، أستغرب، ما الذي جعله يقف هنا؟ قال في رواية أُخرى فلما هداني الله إلى الإسلام علمت، أي علم حكمة ذلك، فالله هدى النبي حتى في الجاهلية، سُبحان الله! كان يقف مع الناس العاديين، الله هداه للمناسك، لمناسك إبراهيم الصحيحة.
لن نقدر اليوم على أن نُكمِل للأسف، سنُكمِل الآن فقط في سبع دقائق أُخرى، قال عَرَفَاتٍ ۩، إذن لماذا؟ أولاً هناك سؤالان: لماذا صُرِفَ عرفات هنا مع أنه علم مُؤنَّث وحقه ألا ينصرف؟ أليس كذلك؟ قال فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ ۩، حق هذه الكلمة أن يُقال فإذا أفضتم مِن عرفاتَ “بالفتح”، أليس كذلك؟ قال عَرَفَاتٍ ۩، لأن هذا جمع، هذا في الأصل جمع كمُسلِمات ومُؤمِنات فروعيَ فيه الأصل كما رجَّحه ابن جرير وغيره، ولذلك انصرف، وحقه أن يقول مِن عرفاتَ لكنه قال مِّنْ عَرَفَاتٍ ۩، لكن لماذا سُميت عرفات بعرفات؟ أقاويل كثيرة، سبعة تقريباً! قرأت فيها ذات مرة سبعة أقوال أرجحها أن جبريل – عليه الصلاة وأفضل السلام – أتى إلى إبراهيم بعد أن أمره الله ببناء البيت وتم بناؤه، وأمس قرأنا ماذا؟ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۩، وأراه الله مناسكه، كيف أراه؟ بعث له جبريل، أخذ بيده وطاف به حول البيت، سعى بين الصفا والمروة وأخذ بيده إلى منى، هيا نسافر إلى هناك، سافرا إلى منى، جبريل أتى بإبراهيم إلى هناك، وإذا بإبليس قائم هناك لعنة الله تعالى عليه، قائم! فقال ارمه، أراد – النبي يقول – اللعين أن يُحدِث شيئاً في المناسك، يُريد أن يُدخِل أي شيئ مثل شرك أو شُبهة فتظل باقية، لكن إبراهيم معصوم، فكيف تُدخِل عليه شيئاً؟ وجبريل معه يا أهبل، أهبل لعنة الله عليه، إبراهيم وجبريل! لكن هذا همه وهذه وظيفته، مُخلِص جداً في الكفر لعنة الله تعالى عليه يوم الدين، مُخلِص – مُخلِص بشكل غير عادي – للكفر، فأراد إبليس – النبي يقول – أن يُدخِل شيئاً في المناسك، يُريد أن يُنفذ أي شيئ، فجبريل قال له ارمه، فأخذ حجارات سبع ورماه بهم فساخ في الأرض، وبعد ذلك عند العقبة الوسطى صعد له، فقال له ارمه ففعل، وبعد ذلك عند الثالثة تكرَّر الأمر وانتهى كل شيئ بحمد الله، ولم يُدخِل بفضل الله أي شيئ في المناسك، هذا بالنسبة إلى منى، بعد ذلك أخذه عنده عرفات، علماً بأن عرفات تُسمى أيضاً المشعر الحرام، المشعر الحرام في المُزدلِفة، وعرفات من أسمائها المشعر الحرام، وهذا مُهِم حتى لا تخربطوا أيضاً، فالمُهِم أخذه عند عرفات وأراه كيف يكون الوقوف، وعرفات كلها موقف، وماذا قال له؟ عرفت ما أريتك؟ قال له كلمة عرفت ما أريتك أين؟ في هذه السهلة التي بعد ذلك سُميت ماذا؟ عرفات، لقول جبريل لإبراهيم عرفت ما رأيتك؟ هل عرفت وفهمت؟ أي هل فقهت؟ قال له نعم عرفت، فسُميت ماذا؟ عرفات، هذا من أقوى الأقوال لأن فيه خبر عن رسول، والله أعلم.
فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۩، المشعر الحرام أين هو؟ في المُزدلِفة، الآن يُوجَد مسجد كبير اسمه المشعر الحرام، وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ۩، الإفاضة! كان الجاهليون متى يُوفِضون؟ أي متى يتحرَّكون من عرفات ويدفعون إلى المُزدلِفة؟ حين ينتصف النهار وتكون الشمس في كبد السماء يبدأون، النبي خالفهم، متى كان يدفع من عرفات؟ يُؤخِّر يُؤخِّر يُؤخِّر حتى تغرب الشمس، ثم يبدأ في الدفع، في الإفاضة، عليه الصلاة وأفضل السلام يُفيض حينها، ولذلك حتى صلاة المغرب – هذا يعني أنها أدركته في عرفات – لم يُصِلها، وتعرفون أن في حديث أُسامة بن زيد لما نزل قال فتوضأ وضوءاً مُختصَراً، وضوءاً خفيفاً، قال فقلت له يا رسول الله الصلاة، قال الصلاة أمامك، ليست هنا وإنما – إن شاء الله – في المُزدلِفة، الصلاة أمامك، قال الصلاة أمامك عليه الصلاة وأفضل السلام.
فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ۩، قال هَدَاكُمْ ۩، لماذا؟ لكل هذه المناسك ولكل هذه الشعائر الطيبة.
۞ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۞
ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ۩، الإفاضة من أين؟ من مُزدلِفة، وإلى أين؟ إلى منى، تعرفون هذا، وهناك أحكام طبعاً للضعفة والعجزة والسُقاة والرُعاة، مذكورة كلها في الصحاح، وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩.
۞ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ۞
فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ ۩، طبعاً ما هو المنسك في الأصل؟ وما هو النُسك؟ العبادة، يُقال العبادات والشعائر، هذا معنى النُسك، النُسك هو العبادة، ونسك فلان أي تعبَّد وهو ناسك أي مُتعبِّد، ألا نقول فلان ناسك؟ ناسك زاهد! ولكن هذه شعائر ماذا؟ شعائر الحج والعُمرة، اسمها مناسك، فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۩، هنا قد يقول لي أحدهم ما معنى أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۩؟ هل أنا مُخيَّر؟ لا، هي: بل أشد ذكراً، مثلما قال ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ۩ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ۩، هنا قد يقول لي أحدهم هل الله لا يعرف كان كذلك أو لم يكن؟ انتبهوا فهناك مَن لا يفهمون اللُغة، قد يقول أحد الناس الله يقول فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ۩، نُريد أن نعرف يا أخي، الله يعرف كل شيئ، كان أو لم يكن؟ أي أقرب أم لا؟ لكن لا، معنى الآية فكان قاب قوسين بل أدنى من قوسين، بل أدنى من قوسين! وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ۩، أي ولا تُطِع منهم لا آثماً ولا كفوراً، وهكذا! فهذه تأتي كثيراً.
فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ۩، الخلاق هو النصيب والحظ، ليس له في الآخرة من حظ، هذه الآية نزلت في الأعراب من المُسلِمين، جماعة من كانوا يأتون فإذا أرادوا أن يدعوا الله – تبارك وتعالى – ماذا قالوا؟ اللهم اجعله عاماً حسناً، اللهم اجعله عاماً خصيباً، اللهم اجعله عاماً حسن الولاد، اللهم اللهم! ولا يذكرون شيئاً من أمور الآخرة، كل شيئ من أجل الدنيا، أعطنا في الدنيا، وهناك مُسلِمون الآن على هذا النحو، أيضاً يفعلون كهؤلاء الجهلة، يقول الواحد منهم أعطني ونجِّحني وكذا وكذا، وماذا بعد؟ هل نسيت آخرتك؟ ألم تسأل شيئاً للآخرة؟ أكان كل ما سألت من أجل الدنيا؟ هذا جهل، فالله قال لا، لا تفعلوا هذا، اسألوا الدنيا والآخرة، قال هؤلاء ليس لهم خلاق.
۞ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۞
وَمِنْهُم ۩، وهم مَن؟ المُؤمِنون، كان هؤلاء موجودين وهؤلاء أيضاً موجودين ويدعون بهذا، مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۩، انظر إلى هذا، قال حَسَنَةً ۩، هكذا بالتنكير، أي حسنة عامة مُطلَقة: في البدن، في الصحة، في العلم، في المال، في الأهل، في الولد، في الدين، وفي كل شيئ، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ۩، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ۩: أعظمها ماذا؟ رؤية الملك لا إله إلا هو بعد دخول الجنة، لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۩، رؤية الملك – عز وجل – بعد دخول الجنة، فهذه الغاية، فهذه أعظم شيئاً، ولكن قبل ذلك ما الحسنة؟ تثقيل الموازين، تبييض الوجوه، الحساب اليسير، سُرعة المجاز على الصراط، الشفاعة، وإلى آخره، كل هذه الأشياء داخلة في حسنة الآخرة كما قال السادة المُفسِّرون، هل هذا واضح؟ هذه كلها حسنة الآخرة، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۩، هذا أيضاً من حسنة الآخرة.
دخل النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – على شاب – غُلام من الأنصار – وقد زوى وضعف حتى أصبح كالفرخ، للأسف أصبح ضعيفاً جداً جداً، أي عظم! جلد على عظم، فقال له الرسول هل كنت تدعو بشيئ؟ هل هناك شيئ كنت تدعو الله به وتطلبه من الله؟ النبي الله ألهمه، قال نعم يا رسول الله، كنت أقول اللهم ما كنت مُبتليني به من أمرٍ في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا، إذا أردت أن تُعذِّبني وما إلى ذلك عجِّل به في الدنيا فهذا أحسن، النبي قال له لا تقل هذا، فإنك لا تستطيع ذلك، كيف تدعو ربك هكذا؟ لا، قال ولكن يا بُني – النبي علَّمه – قل رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً – هذا هو، بالعكس اطلب الخير في الدنيا وفي الآخرة إن شاء الله، لأنك تسأل كريماً، أليس كذلك؟ أنت تسأل كريماً، هو أكرم الكرماء لا إله إلا هو، اطلب منه أن يُخفِّف عنك في الدنيا – إن شاء الله – وأن يُخفِّف عنك في الآخرة أيضاً، اطلب منه أن يُوسِّع في الدنيا وفي الآخرة وسوف يُوسِّع، وهو قادر على ذلك ويُحِب ذلك لك إن شاء الله تعالى – وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۩، هكذا! وهذه كانت من الدعوات التي يُرشِد النبي أصحابه أن يدعوا الله – تبارك وتعالى – بها ، دعوة مُهِمة جداً جداً، ادعوا بها دائماً هذه، ليس فقط في الحج وإنما دائماً، وهي دعاء للحُجّاج والمُعتمِرين بين الرُكنين، أي اليماني والأسود، أليس كذلك؟ يُسَن أن ندعو بهذا الدعاء: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۩، وهكذا!
۞ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۞
قال أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۩، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
أضف تعليق