الدرس الثاني والعشرون
تفسير سورة المائدة من الآية الخامسة والثلاثين إلى الآية التاسعة والأربعين
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِل له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفوته من خلقه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم علَّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً.
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۞
أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الله – تبارك وتعالى – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩، إذن قال اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ۩، ما هي الوسيلة؟ قالوا هي القُربة، أي ابتغوا ما تتقرَّبون به إلى الله تبارك وتعالى، والوسيلة في الأصل هي الواسطة إلى المقصود، كل واسطة إلى المقصود تُسمى ماذا؟ تُسمى وسيلة وتُسمى واسطة وتُسمى سبباً وتُسمى ذريعةً، هذه أسماء لمُسمىً واحد، فكأن الله – تبارك وتعالى – يقول توسَّلوا واصطنعوا من الوسائل والوسائط ما يُزلِفكم إلى الله تبارك وتعالى، ما يُقرِّبكم من الله تبارك وتعالى، هذا معنى الوسيلة.
وتعلمون أيضاً أن هذه الكلمة الجليلة أيضاً علمٌ على منزلةٍ رفيعةٍ – جد رفيعة – في الجنة، هي مقام أو درجة الوسيلة التي قال فيها مولانا رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – في الحديث الصحيح المُخرَّج في صحيح مُسلِم إذا سمعتم المُؤذِّن فقولوا مثلما يقول، إلى أن قال ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ واحد – فقط عبد واحد! طبعاً هو نبي، لابد أن يكون نبياً أو رسولاً، مُستحيل أن يكون دون الأنبياء والأنبياء موجودون ومُتوافِرون، قال إلا لعبدٍ أي واحدٍ – وأرجو أن أكون هو، فمَن سأل الله لي الوسيلة فقد حلت له الشفاعة، وهذا حديث صحيح، أي أن هذا الإنسان يُمكِن أن يتوسَّل أيضاً بهذا السبب بحيث – إن شاء الله تبارك وتعالى – يرجو شفاعة الحبيب المُصطفى – عليه الصلاة وأفضل السلام – كل يوم خمس مرات، كلما سمعت الأذان أو النداء فقل مثلما يقول المُؤذِّن ثم بعد ذلك صل على رسول الله وسل له الله الوسيلة، ولهذا نقول دائماً: اللهم رب هذه الدعوة التامة – وهذا في الصحيحين – والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة – لا تُوجَد الدرجة الرفيعة، هذا حديث ضعيف جداً، زيادة هكذا من الناس، في الصحيحين من غير الدرجة الرفيعة – وابعثه مقاماً محموداً أو مقام المحمود بالإضافة، لأن المحمود هو رسول الله وهذا مقام له، هذا المقام فقط للمحمود، أي مقام للمُحمَّد عليه السلام، إما أن تقولوا ابعثه مقام المحمود بالإضافة وهذا أبلغ طبعاً – أبلغ في الاختصاص، كأن هذا المقام معروف لمَن، لرسول الله – أو ابعثه مقاماً محموداً على الوصف، صفة المقام أنه مقام محمود، لماذا؟ لأن مَن يقومه يومئذ تحمده الخلائق أجمعون، ولا يقومه إلا مولانا رسول الله عليه الصلاة وافضل السلام، كل الأنبياء يكعون عنه، مقام ماذا؟ الشفاعة العُظمى، ومقام الشفاعة العُظمى أحاديثه معروفة بل مُتواتِرة معنوياً، فهذا ما يتعلَّق بالوسيلة!
وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ۩، والوسيلة أدنى مقام في الجنة من العرش، الوسيلة في أعلى الفردوس، الفردوس هو الأقرب، لكن في الفردوس أيضاً هناك ما هو أعلى، في الفردوس نفسه! أعلى درجة في الفراديس العُلا ما هي؟ الوسيلة، فأدنى المقامات بإطلاق في الجنة من عرش الرحمن – تبارك وتعالى – هو مقام الوسيلة، والوسيلة لا تنبغي إلا أن تكون لعبد واحد من عباد الله، ومن تواضع رسول الله أنه يقول وإني أرجو أن أكون هو، وبالقطع نحن نعلم أنه يعلم قطعاً أنه هو الحقيق به دون سائر الأنبياء والمُرسَلين، لكن لغلبة التواضع وهضم النفس عليه – روحي له الفدى، عليه الصلاة وأفضل السلام – قال وإني أرجو أن أكون هو، أي أنه يرجو، كأنه لا يقطع، وهذا من تواضعه، وإلا هذا المقام لسيد العالمين وهو سيد العالمين كما رواه البيهقي ولسيد ولد آدم كما رواه غير واحد.
وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩، لا نُريد أن نخوض في الجهاد وهو معروف.
۞ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۞ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ۞
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۩، كفدية، أي لو كل هذه الأرض صيَّرها الله مُلكاً لعبد كافر – كل هذه الأرض بما فيها من مُلك ونفائس وخزائن صيَّرها الله مُلكاً أو مِلكاً لعبد واحد – لدفعها عن طيب نفس وطواعية وسماح يوم القيامة فديةً ليفتدي ويفتك رقبته من نار جهنم، لكن لا تُقبَل، لأن الدنيا كلها لا تزن عند الله جناح بعوضة، بل روى أحمد – رحمة الله عليه – في مُسنَده أن الدنيا تأتي يوم القيامة بأحسن زينتها – أي أحسن ما أودع الله في هذه الدنيا من زينة ومن مُلك ومن عجائب ومن نفائس ومن أشياء تخلب البصائر والأبصار كما يُقال – يوم القيامة وتقول يا رب، يا رب اجعلني جزاءً لخير عبادك، تُريد هي بكل تواضع أن تكون جزءاً لأحسن المُؤمِنين، فلا يعبأ الله بها ويقول لها اسكتي يا لا شيئ، هل أنتِ جزاء لأحسن عبادي؟ لا، الدنيا أصلاً لا شيئ، يقول لها اسكتي يا لا شيئ، اسكتي يا لا شيئ، أي يا عدم، ثم يأمر بها فتفنى، تفنى لأنها لا شيئ، وأدنى أدنى المُسلِمين – وهذا أحقر المُؤمِنين، أحقر مُؤمِن وأكثر مُؤمِن كان عاصياً مُجرِماً مُسرِفاً، هذا أدنى واحد وآخر واحد يدخل الجنة – له في الجنة مثل الدنيا وعشرة أضعافها، هذا أحقر واحد، أحقر مُسلِم هذا، أي ربما كان قاتلاً سكيّراً أو خميراً أو زانياً، فعل الأفاعيل! لكن انتبهوا حتى لا يفرح بعض الناس ويقول هذا مُمتاز ويكفيني، لا! انتبه حتى لا يلعب بك الشيطان، متى ستكون هذه جزءاً له؟ بعد أن يخرج من جهنم، كم يمكث في جهنم؟ لا يعلم ذلك إلا الله، هذه هي! لا تُخاطِر بنفسك، هذا ليس لعباً، لا تقل ما دام أنا مئالي الجنة سأفعل كذا وكذا، كيف تقول مئالي الجنة؟ بالعكس! الصحابة مثل أبي بكر وعمر وأبي ذر وأبي موسى – كل الصحابة تقريباً – كانوا يتمنون مع أنهم كانوا – ما شاء الله – كملة – كانوا رجالاً كملة، أي كاملين – أن لو يفنوا – لو أنهم فنوا – بالكامل ولا يُوقَفوا للحساب يوم القيامة، من خشية الله وخشية العتب والحياء من الله، عمر كان يقول لو أن لي ما في الدنيا ومثله معه لافتديت به – ونحن الآن في الفدية – من هول المُطلَع، ما هو المُطلَع؟ في اللُغة المُطلَع هو المكان المُشرِف الذي إذا صعدته أشرفت منه على ما دونه، هذا اسمه المُطلَع، أي الذي يُطلَع منه على ما دونه، هذا في اللُغة! وفي الدين ما هو المُطلَع؟ المُطلَع لحظة معرفة الإنسان مصيره عند الموت وقيل حين يُدخَل قبره، ليس يوم القيامة! لا يزال هذا قبل، فسوف يعرف هل هو من أهل الجنة أم هل هو من أهل النار، الإنسان المُؤمِن حين يموت إن شاء الله – نسأل الله أن يُعطينا ذلك وإخواننا وأخواتنا جميعاً – تأتيه البُشرى، وتُثبِّته الملائكة، تقول له أبشر يا عبد الله، أنت من أهل الجنة، لا تخف! فيستبشر ويفرح، ولذلك الصالحون من أموات المُسلِمين وهو يموتون يبتسمون.
الحارث بن أسد المُحاسَبي – قدَّس الله سره الكريم – كان من كبار أولياء أمة محمد، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وجعلنا الله منهم وأعاد علينا من بركاتهم ونفحاتهم، كان رجلاً عجيباً في تقواه وورعه وشدة اجتهاده ودأبه في العبادة، لكنه كان يخاف، كان يتفقَّد وجهه كل صباح في المرآة خشية أن يُمسَخ، يقول لعل ربنا يمسخني، يقلب خلقتي بسبب ذنوبي، والآن هناك أُناس لا يُصلون حتى الصلاة، يقوم الواحد منهم في الصباح فيتزيَّن ولا يُفكِّر مرة في أن الله يُمكِن أن يمسخ له خلقته، وهناك أُناس مُسِخَت، أليس كذلك؟ يُقال فلان انجلط، حدثت له جلطة، أصبح عنده مُشكِلة في الأعصاب، ويُمسَخ! مسخ هذا، طبعاً خلقته شائهة جداً، عقاب من الله هذا أو ابتلاه للصالحين، فهو عقاب أو ابتلاء للصالحين وهذا شيئ آخر، يُمكِن أن يكون ابتلاءً أيضاً، لكن هذا الحارث وغير الحارث كانوا يتفقَّدون خلقهم حتى لا يُمسَخوا، لأن النبي أخبر في حديث الترمذي أن سيكون في هذه الأمة مسخٌ وخسفٌ وقذفٌ وريحٌ حمراءٌ والعياذ بالله، في بعض هؤلاء الأمة! هذا هو طبعاً، لأن منهم مَن فعل ومَن يفعل كما فعل فسقة وظلمة بني إسرائيل – والعياذ بالله – وكفرة بني إسرائيل، فكان يتفقَّد وجهه، هذا الولي الصالح يتفقَّد وجهه خشية أن يُمسَخ كل صباح، يخاف من أن يكون مسخه الله لبُغضه له، فالمُهِم قال لهم إذا أنا مت فارقبوني، فإن ابتسمت لكم فقد نجوت، وإلا فقد هلكت، فلا تأسفوا علىّ، لأن بئس العبد أنا، هذا هو المعنى، أنا أستأهل هذا، كان خائفاً! يخاف من أن يكون من أهل النار الرجل العابد الولي صاحب الكرامات، من شدة ورعه طلب من الله شيئاً فأعطاه إياه مُباشَرةً، ماذا طلب؟ طلب من الله أن يُحمّيه الله – تبارك وتعالى – عن كل طعام فيه شُبهة، ليس الحرام، الحرام هو حرام طبعاً، لكن ما فيه شُبهة، ما المقصود بالمال المشبوه أو الطعام الذي فيه شُبهة؟ أي فيه حلال وفيه حرام، انتبهوا! فيه جُزء حلال وجُزء حرام ولو قليلاً حتى، هذا يُعتبَر مشبوهاً، فهو لا يُريد هذا، لا يُريد أن ينبت بدنه من شيئ مشبوه، ليس من سُحت حتى وإنما من شيئ مشبوه، فكان إذا مد يده إلى أي طعام وفيه شُبهة نبض له عرق، هذه علامة بينه وبين الله، الله أعطاه إياها، يتحرَّك هذا العرق فيعرف أنه مشبوه ومن ثم يقبض يده، الله حفظه، الله حمّاه، كالعصمة هذه! وبالمُناسَبة من المشروع في السُنة أن تسأل الله العصمة، لكن ليست العصمة بالمعنى الاصطلاحي في علم العقيدة – عصمة الأنبياء، هذا معنى اصطلاحي – وإنما بالمعنى النبوي، النبي كان يُعلِّمنا أن نسأل الله أن يعصمنا فيما بقيَ، وهذا من دعائنا، لكن ليست العصمة الاصطلاحية، ما معنى العصمة هنا؟ الحفظ، بحيث أنه يُحمّيك من الذنوب الكبار ومن الإصرار على الصغائر، وبحيث أنك لا تحتقب الذنوب إلا لُماماً ثم تتوب مُباشَرةً إن شاء الله، هذا نوع من العصمة، فنسأل الله أن يعصمنا فيما بقيَ من أعمالنا. اللهم آمين، المُهِم فلما جاءته الساعة – الموت – وجاء إخوانه وتَلاميذه ومُريدوه حتى إذا جعلت روحه تصعد ابتسم واستنار وجهه وانفرد، ففرحوا له فرحاً عظيماً، ومات رضوان الله عليه، طبعاً لأنه رجل من الصالحين، فعلى كل حال سيدنا عمر كان يقول الكلام هذا، لو لي الدنيا ومثلها معها لافتديت بها من هول المُطلَع، يخاف من اللحظة هذه، يخاف أن يكون من الهلكة، سيدنا عمر بن الخطاب صاحب الكرامات وصاحب التأييد الإلهي، هو من العشرة المُبشَّرين والنبي قال أحاديث صحيحة كثيرة في فضله، ومع ذلك يخاف طبعاً، يخاف من أن يكون من أهل جهنم، وهو بدري! شهد بدراً أيضاً، أليس كذلك؟ وأهل بدر النبي قال لهم ما عليكم ما فعلتم بعدها، أي شيئ! أنتم – إن شاء الله – من أهل الجنة، ومع ذلك يخاف من أن يكون من أهل النار، تصوَّروا! هذا الإيمان الصحيح، فلا يرتكب إنسان الكبائر والصغائر ثم يسمع حديثاً من رجل مسكين مثلي فيفرح ويقول قال عدنان وقال سُفيان وقال فلنتان، فأنا – إن شاء الله – لي مثل الدنيا عشر مرات، هذا الكلام يدل على عدم فهم للأسف الشديد، فإياكم أن تقعوا في مثل هذه النزغات، هذه نزغات شيطانية، الله غفور رحيم وفي نفس الوقت شديد العقاب، لا تنسوا هذا، لا تقولوا دائماً هو غفور رحيم فقط، هل أنتم كفرتم بصفاته الأُخرى؟ كما هو غفور رحيم أيضاً هو شديد العقاب.
يَدَاكَ يَدٌ خَيرُهَا يُرتَجَى وَأُخرَى لِأَعدائِهَا غائِظَه.
نسأل الله من فضله، ولذلك في الحديث الصحيح – له ألفاظ كثيرة – يُؤتى بالكافر يوم القيامة فيُسأل عن مضجعه – وهذا لفظ جديد لم نذكره، يتكرَّر المعنى وهذا لفظ جديد أيضاً آخر – فيُقال له كيف وجدت مضجعك؟ فيقول شر مضجع، أي وجدته شر مضجع، في جهنم مضجعه والعياذ بالله، هل تعرفون كيف هي مضاجع الكفار في جهنم؟ هل تعرفون ما أقل شيئ؟ يُوضَع للواحد منهم تابوت من نار والعياذ بالله، جهنم تستعيذ بالله من حر هذا التابوت، شيئ عجيب! يُوضَع فيه ويُغلَق عليه ويُوضَع في جهنم، فهو لا يتفسَّح في جهنم ويذهب ويجيء، لا! يُوضَع في تابوت، ثم إن الله قال وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ ۩، وذلك في سورة الأنبياء، حتى لا يسمع بعضهم بعضاً، لأن – كما يُقال – الحشر مع الجماعة عيد، أي نصف مُصيبة – كما يُقال – أو كسر مُصيبة، لو كانوا مع بعضهم وكانوا يرون ويسمعون بعضهم ويقول الواحد منهم يا ويلتاه وما إلى ذلك قد يقول أحدهم كلهم يتعذَّب مثلي وبالتالي هذا يُخفِّف عنه، لكنه قال لا، لا يسمع بعضهم بعضاً، وذلك كقاعدة، وهناك استثناءات، هذا شيئ ثانٍ أيضاً، لكن كقاعدة لا يسمعون، كل واحد يكون وحده، لكي يحسب أنه هو المُعذَّب وحده، وبخلافه تماماً أهل الجنة، كيف يكونون أهل الجنة؟ على سرر متقابلين، هناك روح اجتماعية غريبة، يرون بعضهم البعض باستمرار وما إلى ذلك فتزيد سعادتهم، لذلك يُقال السعادة إذا قُسِّمت زادت والمُصيبة إذا قُسِّمت نقصت، أليس كذلك؟ فسعادة أهل الجنة مُقسَّمة ومُصيبة أهل النار مُفرَدة، أليس كذلك؟ ليست مُقسَّمة، كل واحد يأخذ مُصيبته وحده فلا تنقص والعياذ بالله، هي في ازدياد، انتبهوا! المُصيبة إذا قُسِّمت تنقص، أي إنسان يحدث معه هذا، لماذا شُرِعت التعزية في الإسلام؟ ومَن عز مُصاباً فله مثل أجره، تخيَّلوا! انظروا إلى هذا الدين العظيم، كم يحرص على الروح الاجتماعية، على التواصل، على التراحم، وعلى التذامم! لو عزَّيت إنساناً في ابن مات ماذا لك من الأجر؟ كم يكون أجر الإنسان عند الله إذا صبر على ابنه الذي مات؟ كبير جداً جداً جداً، فأنت لو ذهبت بنية حسنة لك مثل أجره، فأنت تفعل هذا لوجه الله طبعاً وليس لأي شيئ آخر، ليس من أجل اعتبارات اجتماعية كأن تظهر وما إلى ذلك، وليس من أجل أداء الواجب كما يُقال، يُقال هذا أداء واجب يا أخي، أداء واجب! هذا واجب اجتماعي، لا! افعل هذا لوجه الله، هذه عبادة وأنت ذهبت لكي تُعزيه، حين تقول له إن لله ما أخذ ولله ما أعطى فلتصبر وتحتسب وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ۩ وكلاماً مثل هذا يكون لك مثل أجره، شيئ غريب! لك مثل أجره، فالتعزية هذه فعلاً تُخفِّف – سُبحان الله – من شطر المُصيبة، الإنسان حين يرى الناس يأتون إليه تخف مُصيبته، حتى أحياناً بعض الذين بينه وبينهم مشاكل يأتون إليه وأحياناً تدمع عيونهم ويعتنقونه وما إلى ذلك، وكذلك مَن هم نصف أعداء له، يأتون ويعزونه فتخف مُصيبته، أليس كذلك؟ وفعلاً بمزيد العزاء تخف تخف تخف، يسلو مُصيبته ويسلوه حُزنه بالعزاء، فالمُصيبة إذا تقسَّمت نقصت، والسعادة إذا قُسِّمت زادت، لذلك انظروا إلى القرآن الكريم، كيف عبَّر عنها؟ قال هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ۩، يخرج ويقول انظروا إلىّ، أنا نجحت، انظروا إلى الشهادة، انظروا إليها، طبعاً هذا لماذا؟ حتى تزيد سعادته، تخيَّل الآن أن عندك جائزة نوبل Nobel مثل زويل، أنت أخذت نوبل Nobel لكن لم يأت أحد لكي يُبارِك لك بسببها ولم يرفع أحد سماعة الهاتف، سوف تكره نوبل Nobel وسوف تكره الدنيا وسوف تكره كل حياتك، كأنك لم تفعل أي شيئ، سوف تشعر بغضاضة ومرارة، شيئ غريب! سوف تفقد كل السعادة بالجائزة هذه، أليس كذلك؟ أين هذه السعادة أصلاً؟ لا تكون بالجائزة وحدها، تكون بالاعتبار أيضاً، وذلك حين يقول الناس لمَن حصل على نوبل Nobel ما شاء الله، ألف مبروك، شرَّفتنا ورفعت رأسنا ورفعت رأس الأمة العربية، هذا يكون عنده أكثر من الجائزة، يُوجَد رجل هنا درس الطب وهو فوق الستين وبعد السبعين تقريباً تخرَّج، رجل عصامي درس القانون وكان كولونيل Colonel في الجيش ودرس الأدب وهو شاعر وكاتب ويعرف الإسلاميات، رجل – ما شاء الله – شُبه موسوعة صغيرة، وجاء هنا على كبره وقال أُريد أن أدرس الطب، هكذا كانت عنده نية، وطبعاً هذا صعب جداً في الستين، لكن الأساتذة كانوا يُعطونه العلامات خجلاً منه لأنه في عمر أبيهم، المُهِم بعد عشر سنوات أو بضع عشرة سنة أنهى الدراسة، وفرح بأنه أنهى الدراسة، هو هكذا! عنده موال في رأسه يُريد أن يُغنيه، يُريد المسكين شهادة الطب، وهذا جيد بل مُمتاز، نفس عصامية هذه، أخذ الشهادة ولم يرفع له أحد سماعة الهاتف لكي يُبارِك له، مقطوع من شجرة هنا المسكين، هو هارب من بلده، ففكَّر في الانتحار، قصته طويلة لكن المُهِم ربنا بعد ذلك أكرمه – الحمد لله – ولم ينتحر، بعث له – لا أعرف – ملكاً كريماً أو جنياً مُسلِماً، جاءه أحد لونه أبيض في النهار وخاطبه وقال له بيتين من الشعر، من أعجب ما سمعت في حياتي من الشعر، شعر قوي جداً، مُفلِج وغريب جداً جداً، هاتان البيتان سرّيا عنه كل شيئ، ثم اختفى هذا الرجل، جاءه وحدَّثه ثم اختفى، شيئ عجيب! رحمة الله عليه، تُوفيَ هذا الرجل – رحمة الله عليه رحمة واسعة – قبل فترة بسيطة، فالمُهِم ما السبب؟ ما الذي أحزنه؟ أن لم يُشارِكه أحد في هذه الفرحة، أرأيتم؟ السعادة طبعاً من غير مُشارَكة ليس لها أي قيمة، وبالعكس أحياناً تتنغص السعادة بالإنجاز حين تُقارِب الحسد، يراك أحد الناس فيقول لك بطريقة تُوحي بالحسد هل أنت أخذتها؟ ما شاء الله أنت مُجتهِد، تتعقَّد وتقول يا ليتني لم أر هذه الخلقة، حكى لي كلمتين فنغَّص علىّ حياته، لأنه أظهر لك أنه حاسد، حين تقول له أنا الحمد لله تخرَّجت وفعلت كذا وكذا يقول لك والله؟ ولا يعرف كيف يبلع ريقه، غص به! هل هناك غصة شاكته لأن هذا الإنسان أنجز؟ فأنت تزعل من هذا، تزعل كثيراً! تكره النجاح حتى وتقول لماذا هذا؟ فنسأل الله أن نكون من أهل الجنة على سُرر مُتقابِلين، لكن أهل جهنم – وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ ۩ – في توابيت كما في حديث ابن مسعود، توابيت من نار!
المُهِم يقول شر مضجع، فيُقال له يا فلان لو أن لك الدنيا ومثلها معها أكنت مُفتدياً بها؟ هل ستشتري نفسك؟ هل ستفتك نفسك من نار جهنم بهذا؟ يقول نعم يا رب، يقول له كذبت، قد سألتك في الدنيا أيسر من ذلك فلم تفعل، كذّاب! أليس كذلك؟
الآن هناك سؤال عن أُناس لا يدفعون الزكوات، من سنوات لا يدفعون الزكوات! كيف هذا يا أخي؟ كيف تكون مُسلِماً تُصلي وتحضر الجُمعة وتحضر المواعظ وتحضر كذا وكذا وتصوم رمضان ولا تدفع زكاتك؟ كيف هذا؟ هل تبخل على الذي موَّلك؟ هل تبخل على الذي أعطاك؟ هل تبخل على الذي قوّاك لكي تكسب؟ مسكين أنت! يا أخي إذا لم يُعاقِبك في الدنيا ويذهب هذا المال كله في نهابر – كما يُقال – وفي مصائب تأتي على أوله وآخره فعندك عذاب جهنم هناك، هل تبخل على ربك – تبارك وتعالى – وكل ما أنت فيه من خير من الله يا قاصر اليقين ويا عديم الإيمان؟ بالعكس! الاتجار مع الله هو أربح تجارة، والله الذي لا إله إلا هو أربح تجارة! كم تدفع؟ سوف يُخلَف عليك ويُبارَك لك في رزقك.
حدَّثتكم مرة عن أحد الصالحين وهو ولي – أكيد هو ولي، هو أحد الأولياء وأنا حُدِّثت عنه، لا أعرفه شخصياً – في الشام، في دمشق الشام! وهو رجل مُتواضِع جداً في لباسه، يلبس لباس الفقراء تقريباً والعامة من الناس، يلبس جلباباً وطاقية مُتواضِعة، شيئ غريب! وهو رجل دائم الذكر وحمامة مسجد ما شاء الله، وهو من أصحاب الملايين، معروف أنه من أصحاب الملايين، أي واحد عنده مُشكِلة أو أي شيئ يذهب ويقترض منه، رجل عجيب، فتح الله عليه كثيراً، حدَّثني بهذا رجل يعرفه شخصياً، قال لي مُشكِلة هذا الرجل دائماً هي المال، يقول مُشكِلتي مع الله – تبارك وتعالى – هذا المال، لا يُحِب الدنيا هو، ليس عنده حُب للدنيا، وجعل الله الدنيا في كفيه، في يده! ويده مثقوبة لا تُمسِك شيئاً، يُعطي لله باستمرار دائماً، قال ما مُشكِلتك؟ قال أنا أُعطي باستمرار، الفقراء والمساكين والمساجد وطلّاب العلم، باستمرار يُعطي! لا يُريد الدنيا هو، حتى لباسه مُتواضِع جداً، قال ولكن الله يأبي إلا أن يُعامِلني بالخُلف، يُخلِف علىّ دائماً أضعافاً مُضاعَفة، ولا أعرف كيف، لأنه مشغول في تصريف هذا المال، فطبعاً لابد أن يُعطي الله هذا، لابد أن يُعطيه بزيادة طبعاً، لأنه قال وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ۩، هذه هي! فكيف تكون مُسلِماً يا أخي ولا تُخرِج زكاة مالك؟ كيف؟ ما هذا العمى؟ ما هذا العمى والعياذ بالله تبارك وتعالى؟ كيف هذا؟ أنا لا أستطيع أن أفهم الكلام هذا، لا أستطيع، هل لا يُوجَد إيمان؟ هل لا يُوجَد يقين؟ هل لا يُوجَد خوف من الله – تبارك وتعالى – يا أخي؟ ألا تخاف من أن تُفتلَت نفسك فجأة الآن؟ يُمكِن أن تخرج نفسك وتموت الآن، ماذا سوف تفعل؟ لن ينفعك لا مالك ولا ملايينك – والله العظيم – ولا زوجتك ولا أبناؤك ولا أي شيئ وراءك، أُقسِم بالله! وتتمنى أن ترجع إلى الدنيا فقط لحظة واحدة لكي تُنفِق كل مالك في سبيل، لكن هذا لن ينفع، أنت انتهيت، الله أعطاك فرصة كاملة – اسمها الفرصة الكاملة – ولم تستغلها، كذَّبت بوعد الله، أليس كذلك؟ وتنكَّبت عن أمر الله تبارك وتعالى، كيف تسلك مسلك الكافرين؟ حتى الكافر نفسه يقول نعم يا رب أنا أُعطي الدنيا، لو أن لي الدنيا ومثلها معها ذهباً – هذا هو المعنى، تُصبِح كلها ذهباً، كلها تصير كتلة ذهب – فسأفتك بها رقبتي من جهنم، الله سوف يقول له كذبت، كذّاب أنت! هل الحكاية كلها تقتصر على الدعاوى؟ كذبت، قد سألتك في الدنيا ما هو أيسر من ذلك فلم تفعل، ما الذي طلبته منك؟ ما الذي يُطلِبه الله منا؟ ما الصعب في أن تدفع اثنين ونصف في المائة؟ هذا لا شيئ، أليس كذلك؟ ما الصعب في خمس صلوات تُصليهن في اليوم وكلهن لا يأخذن أكثر من ساعة من الزمن؟ لا شيئ هذا، والله العظيم لا شيئ! ومع ذلك نحن نُقصِّر، في الصلاة نُقصِّر، في الزكاة نُقصِّر، وفي كل شيئ نُقصِّر، لكن مع الدنيا لا نُقصِّر، كما قال النبي في المُنافِقين، قال والذي نفسي بيده لو دُعوا إلى كوماوين أو ناقتين كبيرتين لأتوا مُباشَرةً، لكن مع صلاة العشاء والفجر لا يأتون، لو عرفوا أن هناك عزومة لحم أو لو عرفوا أن هناك ناقة جيدة لجروا جميعاً إليها، أليس كذلك؟ وهكذا ينبغي أن نسأل أنفسنا، لو كل واحد فينا يعرف أن صلاة الفجر هذه – مثلاً – مُقابِلها أنه إذا ذهب في هذا الوقت سوف يأخذ مائة يورو والله لن ينام أحد، والله لن يأتيه النوم، سوف يضع أربع مُنبِّهات – Wecker – عنده، أليس كذلك؟ لأن هذه مائة يورو، من الصباح سوف تجد كل الناس يدبون الشوارع، يا أخي صلاة الفجر أفضل لك من ألف مليون يورو، ما هذا؟ والله الدنيا حقيرة، أُقسِم بالله! والله حقيرة يا إخواني، سألتكم بالله أكثر شيئ حاولوا دائماً أن تُركِّزوه في نفوسكم حقارة الدنيا، ليست حقارة الدنيا كإنجاز وعطاء وإنما حقارة الدنيا التي يُقدِّسها أهلها، فلا تُقدِّسوها، المال الله سماه خيراً، العلم هو خير، والدنيا فيها خير كثير جداً جداً لكن إذا استخدمته في الخير، أليس كذلك؟ ونعم العون الصالح المال للرجل الصالح إن شاء الله تعالى، لكن اجعله في يدك، لا تجعله في قلبك، ماذا ستأخذ من الدنيا؟ اجعلها حقيرة، واعلم إنك إن لم تُفارِقها فهي ستُفارِقك، أليس كذلك؟ لكن على كل الأحوال أنت في النهاية مُفارِقها، فلا تكن عبد الدنيا وكُن عبد الله، أليس كذلك؟ لا تُكبِّر أملك في المال وما إلى ذلك، لا يضحك الشيطان عليك فتقول أُريد ان أكون مثل فلان، فلان الذي عنده الملايين، وماذا بعد؟ الآن صرت مثل فلان، فماذا بعد؟ ما قيمة هذا؟ أنت ستموت بعد ذلك، أليس كذلك؟ ضاع عمرك.
اليوم فكَّرت في رجل غني لكنه مسكين ودعوت له فهو من إخواننا، هذا المسكين أعرف عنه بعض المعلومات، فقلت وأنا في طريقي إلى المسجد أعانه الله وفتح الله عليه، دعوت له بظهر الغيب، قلت أعانه الله وفتح الله عليه، هل تعرفون لماذا؟ أنا حسدت نفسي في مُقابِله، أنا لم أحسده، حسدت نفسي، مرتاح – والحمد لله – أنا، مرتاح جداً جداً والحمد لله، أدامها الله نعمة وحفظها من الزوال، عندي ما آكله وأشربه وأعيش مستوراً، لكن هذا المسكين يُسافِر من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان، مشغول بالتليفونات Telephones، على مدار الأربع والعشرين ساعة يعمل، الضغط مُرتفِع ومُصاب بالسكر ولا يهنأ بالأكل، مهلوك! قلت هذا متي سيرتاح؟ لن يرتاح، سيموت بالطريقة هذه، أليس كذلك؟ وماذا بعد؟ مسكين! إذا لم يُصرِّف هذه الدنيا في طاعة ويستخدمها فعلاً في نُصرة دينه ونُصرة إخوانه هلك، خسر الدنيا والآخرة، في الدنيا عنده سكر وضغط ومشاكل ولا يهنأ في حياته، أليس كذلك؟ نحن كل اليوم مع أولادنا ومع نسواننا، ما شاء الله أكثر وقتنا مع أهالينا ونعيش مبسوطين جداً، لكن هو ليس كذلك، يتنقَّل من بلد إلى بلد ومن سفر إلى سفر، باستمرار! أولاده كالأيتام، امرأته كالثكلى، لماذا نحسده؟ أُقسِم بالله لا أحسده، والله أرثي لحاله، أُقسِم بالله! وأرثي لحال كل إنسان مثله، لكن هذه حظوظ سُبحان الله! فالإنسان ينبغي أن يُكبِّر عقله، ينبغي أن يكون له عقل كبير يقيس بها الأمور، والدنيا ليست دار خُلد، لو كانت دار خُلد لقلنا عنده الحق، فليدر هكذا خمسمائة سنة يا أخي في جمع المال، هو خالد ومن ثم خمسمائة سنة ليسوا بالكثير، وليقض ألفين سنة في العلم وثلاثة آلاف سنة في المعصية وألفين سنة في التوبة فهي خلد، لكن هي ليست دار خُلد، كلها ستون سنة يا أخي هذه، أليس كذلك؟ أي أن عمرك تقريباً كحد أقصى – Maximum – بعد عمر التكليف كم؟ تكلَّفت في حدود الخامسة عشرة وعشت خمس وسبعين أو ثمانين سنة، وبالعكس! أعمار أمة محمد ما بين الستين والسبعين، النبي قال هذا، هذا صحيح، تقريباً هي هكذا، ما بين الستين والسبعين، أليس كذلك؟ فلتكن يا سيدي إلى الثمانين، كم أمامك؟ هناك خمس وستون سنة ستُقضى في التكليف، لا يُوجَد وقت، لا تُوجَد فرصة كافية لكي تُضيِّعها وتُبعثِّرها، هذه خمس وستون سنة، وهذه السنوات ستمضي سريعاً، نحن أمس كنا في تراويح رمضان، لنا كم سنة نُصليها هنا؟ إحدى عشرة سنة، أمس كنا نُصلي مع بعضنا ونتكلَّم ونُدرِّس، بل نُصليها هنا من ثنتي عشرة سنة حتى، أليس كذلك؟ والله العظيم كأنه هذا حدث بالأمس، أليس كذلك؟ إخواننا الذين يحضرون معنا من ثنتي عشرة سنة يعرفون هذا، كأن هذا حدث بالأمس، من ثنتي عشرة سنة وهذا كثير جداً جداً، غمِّض عيناً وفتَّح عيناً وسوف يضيع عليك عشرون سنة إضافية، ضاع العمر، وكم ودَّعنا أُناساً ودفنا أُناساً! فكِّر دائماً بهذه العقلية، أعط نفسك فرصة أن تُفكِّر، لا تظل مأخوذاً هكذا باستمرار فتذهب وتجيء وتذهب وتجيء كالتائه، اجلس وحدك واستهد الله، اجلس ليلاً وفكِّر، فكِّر في الدنيا، في رسالتك، في ماضيك، وفي ذنوبك، قل ماذا ينبغي أن أفعل؟ ماذا عن آخرتي؟ ماذا لو مت غداً أو مت بعد غداً؟ ماذا سأفعل؟ كيف سألقى الله عز وجل؟ استعد استعداداً حقيقياً للقاء الله تبارك وتعالى، حتى لا تندم بعد ذلك ندامة الكُسعي، لكن ولات حين مندم، نسأل الله هدايته وتسديده بجاه أسمائه وصفاته سُبحان الله وتعالى.
قال مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩، والآية التي بعدها واضحة، يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ۩.
۞ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۞
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ ۩، سبق غير مرة تفسير كلمة نكال، ما معنى النكال كما قلنا؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور إن معناها هو العقوبة، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم هل معناها العقوبة فقط؟ ثم استتلى قائلاً هي عقوبة تجعل غيره ينكل عن أن يفعل مثل فعله، أي أنه تنكيل، يُقال نكَّل به، كيف نكَّل به؟ جعله موعظة لغيره، جعله عبرة لغيره، قال لأُنزِلن به عقوبةً تجعله عبرةً للمُعتبِرين، أي عقوبة نكالاً، نكَّل به، هذا معنى نَكَالاً ۩.
في سورة النور الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۩، هنا قال وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ۩، فهناك بدأ بالزانية وهنا بدأ بالسارق، لماذا؟ لماذا لم يقل هناك أيضاً والزاني والزانية أو لماذا لم يقل هنا والسارقة والسارق ومن ثم يكون هناك تناسق؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور أن الرجل أجرأ على السرقة، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أخونا محمد يقول الرجل أجرأ على السرقة، السرقة تحتاج إلى قلب قوي، تحتاج إلى قلب من حديد، يحمل السارق طبنجة وما إلى ذلك ويضع شراباً في رأسه وفي جيبه مُسدَّساً ويكسر ويُفجِّر، لكن صعب أن تفعل المرأة هذا، صعب جداً! صعب أن تفعل المرأة هذا، قليل جداً جداً أن يحصل هذا من المرأة، لكن الرجل عنده من قوة الجنان ورباطة الجأش والقسوة والغِلظة ما يجعله أجرأ على اقتحام جرائم القتل وجرائم السرقة والغصب والنهب، عنده هذا، في الزنا لماذا قال الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ۩ مع أن التحرش يكون من الرجال؟ انتبهوا حتى لا تخلطوا، قليل جداً أن يكون التحرش من النساء حتى هنا، هناك نساء يتحرَّشون وهن “أخوات رجال” كما يُقال، أي مسترجلات، لكن المرأة العادية لا تفعل هذا، التحرش قليل في النساء، المرأة دائماً لا تتحرَّش، لكن ماذا تفعل المرأة؟ تتزيَّن، تتطوَّس إذا جاء الاشتقاق، تُؤدي دور الطاووس، الطاووس جمال بلا عقل، الطاووس معروف أن أحقر حيوان من ناحية العقل، الطاووس ليس عنده عقل، هذا معروف! والعرب يضربون المثل بالطاووس في الحمق، يقولون أحمق من طاووس، عنده جمال رهيب، ما شاء الله عليه، ترى مِن بعض الناس مَن هو مُهندَم وشكله حلو وما إلى ذلك لكن حين يتكلَّم تعرف أنه فارغ، تقول كنت أحسب أنه كذا وكذا لكن ليس عنده شيئ، فالطاووس يكون هكذا، المرأة تُؤدي دور الطاووس، ما المقصود بتُؤدي طور الطاووس؟ تتزيَّن، تتبخَّر، تأخذ أحسن زينتها، تستعطر، وما إلى ذلك، فتُغري الرجال بذلك، فهي التي تبدأ بدور الإغراء، أليس كذلك؟ يتحدَّثون عن التحرش، لكن ما الذي أغرى الرجل أن يتحرَّش بالمرأة؟ هي، خلاعتها ومشيتها، النبي قال صنفان من أمتي لم أراهما لا يدخلون الجنة ولا يريحون ريحها، وإن ريحها ليُوجَد من مسيرة كذا وكذا، في روايات خمسمائة سنة، منهم صنف يهمنا الآن، ماذا قال؟ قال نساء – الصنف الثاني – كاسيات عاريات مائلات مُمِلات، رؤوسهن كأسنمة البُخت، يا أخي صدق رسول الله، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، والله شيئ عجيب! هذا الشيئ لم يكن أيامه أصلاً، وقال لم أر هؤلاء، لم يكونوا موجودين في عصري، لكنهم سوف يأتون في أمتي ولن يروا الجنة، يا ليت كل أخت مُسلِمة عاصية أن تسمع هذا الحديث، قال ماذا؟ نساء كاسيات عاريات، تكون الواحدة منهن لابسة وتكون غير لابسة، ما هذا اللبس؟ هل هذا لباس؟ إما أن يكون شفيفاً فيظهر منه لون البدن وإما أن يكون مُحزَّقاً لاصقاً يظهر منه حجم العضو فكأنها أيضاً غير لابسة، ما هذا؟ إما هذا وإما هذا، فهذه لابسة وغير لابسة، اسمها لابسة لكنها في الحقيقة غير لابسة، شبه عارية! قال كاسيات عاريات مائلات مُميلات، ما معنى مائلات؟ اسم فاعل هذا، مائلات تعني أن الواحدة منهن تتمايل في مشيتها وتتمايد، تمشي مشية تُطمِع الناظرين، تُطمِع وتستلفت البصر الشهوان، حين تراها تقول هذه المراة غير مُنضبِطة، أليس كذلك؟ يقول هذا الفاسق الذي مثلها طبعاً، أخوها الفاسق الذي هو مثلها في الشيطنة يعرفها، يقول هذه هي الصيد، صيد ثمين – والعياذ بالله – وسمين، يعرفها لأنه مثلها، يغنون على نفس المعزوفة، يضربون نفس الوتر والعياذ بالله، ما معنى مُميلات؟ يستملن قلوب وأبصار الرجال الطوامح، فطبعاً يبدأ يتحرَّش، وهي السبب! قال رؤوسهن كأسنمة البُخت، جمع سنام، هل تعرفون سنام الجمل؟ والبُخت جمع بُختية، أي الناقة الفارهة، ما هذا؟ هذا يحدث اليوم، تجد مَن تقوم بعمل تسريحات غريبة عند الكوافير Coiffeur، تكون مثل الشيطانة والعياذ بالله، ذات مرة حكت لي سيدة مُسلِمة شيئاً غريباً، قالت لي رأيت امرأة شعرها سيئ جداً، حتى أنني سألتها عنه، استغربت منها، كان رأسها كبيراً، شيئ غريب! قالت لها من ثلاث سنوات أعمله، فقالت لها كيف؟ قالت لها من ثلاث سنوات! ولم يمسه الماء من ثلاث سنوات، وإذا أردتِ مثل هذه المزبلة – هذا اللفظ من عندي – لابد أن تفعلي هذا لثلاث سنوات، قالت لي رائحتها مُنتِنة جداً، رائحتها مُنتِنة لكنها تستلفت النظر، لأن هذا شيئ غريب، منظر غير عادي، قالت لها من ثلاث سنوات تُربي هذه المزبلة على رأسها، شيئ غريب! قالت لي كان منظراً غريباً وقالت لها ممنوع أن يأتي الماء على شعرها، ثلاث سنوات لا تضع عليه الماء حتى يصير بالطريقة هذه، مُلبَّد تلبيداً قالت لي، فيه تلبيد مثل الطين، ورأسها كبير مثل البرج، وطبعاً لدينا مَن لا تجلس ثلاث سنوات وإنما ثلاث ساعات، تجلس عند الكوافير Coiffeur لثلاث ساعات كاملات، لا ذكر لله ولا قرآن وأحياناً تترك الصلاة فقط لكي يلعب لها في شعرها، ويعمل لها شيئاً فعلاً مثل السنام ثم تخرج والعياذ بالله، صدق رسول الله، لكن مَن الصنف الأول؟ قال رجالٌ معهم سياطٌ كأذناب البقر يُلهِبون بها ظهور الناس، وهذا حديث غريب، كم يروعني هذا الحديث! يروع الإنسان، يُعجِبه جداً، لماذا؟ هذا الحديث يتحدَّث عن مُلازَمة بين صنفين من أصناف الطُغيان والفساد، الطُغيان السياسي والطُغيان الأخلاقي وهما مُتلازِمان، لا يُمكِن أن تجد استبداداً وطُغياناً سياسياً إلا ويُلازِمه ويلزم عنه ومنه الفساد الأخلاقي، أليس كذلك؟ لا يُوجَد طاغية أخلاقي أو طاغية مثالي أو طاغية مُلتزِم يُحِب الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر والعدل، مُستحيل! والطُغاة في كل مكان أحسن وسيلة يتوسَّلونها لتثبيت دعائم طُغيانهم ما هي؟ إشاعة الفساد والفاحشة في المُجتمَع، مثلما قال تيتو Tito قديماً، قال اتركوا لي السياسة ولكم الخمر والنساء، هذا معروف! ومثلما قال هتلر Hitler، هتلر Hitler ألم يكن طاغية كبيراً؟ وكان يفهم هذا أيضاً، كان يقول أحسن وسيلة يتوسَّلها السياسي – السياسي الطاغوتي الذي مثله ومثل فرانكو Franco ومثل موسوليني Mussolini وغيرهم – أن يُخاطِب أسفل الحزام من الناس، قال نُقطة الضعف في الإنسان غرائزه، حين تلعب على هذه تتحكَّم فيه وكأنه نعجة، هذا صحيح! كأن الناس غنم والعياذ بالله، فالنبي تحدَّث عن هذا.
إذن هذا هو السر، هنا بدأ السارق وهناك بدأ بالزانية، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ۩، القطع في الأرجح من عند الرُسغ والعياذ بالله، لا قدَّر الله! جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۩، يقول عبد الملك بن قريب المعروف بالأصمعي – راوية العرب، راوية شعر العرب الإمام الأصمعي – كنت جالساً يوماً فتلوت هذه الآية وقلت والله غفور رحيم، فإذا بجانبي أعرابي، قال أأنت قارئ؟ هل أنت تقرأ القرآن؟ قال له نعم، قال له كلام مَن هذا؟ قال له كلام الله، قال له لا ينبغي، كيف يكون كلام الله؟ قال له، غلط هذا الكلام، قال له ما هو، لا ينبغي، قال له كيف يا أخي؟ قال له لا ينبغي، قال فراجعت نفسي، قلت وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۩، قال نعم ينبغي، فقلت له أتعرف القرآن؟ قال لا، أعرابي لا يفهم شيئاً ولم يسمع هذا القرآن في حياته ويسأل كلام مَن هذا لأنه لا يعرف، فقلت له كيف عرفت؟ ويحك! وهذا علّامة كبير، الأصمعي رجل رهيب، راوية العرب هذا! قال له كيف عرفت إذن؟ قال عزَ فحكم فقطع ولو غفر فرحم لما قطع، كيف تقول لي غفور رحيم؟ بعد أن يقول اقطعوا ودمِّروا أيقول غفور رحيم؟ غير منطقي قال، أرأيت كيف فهم القرآن الكريم؟ هذا هو، واليوم يأتيك مَن يدّعي أنه فيلسوف لكنه لا يقدر على أن يفهم هذه الأشياء، يقول القرآن هذا من نظم محمد، هذا القرآن مُتفاوِت البلاغة، المكي عن المدني يختلف، هل أنت تفهم رأسك من رجليك؟ اسكت، لكي تفهم الأشياء هذه ستحتاج الكثير من العلم، لكن رجل أعرابي مثل هذا يفهمها، وأستاذ فلسفي درس في الغرب ويتهجَّم على كتاب الله لا يفهمها، ولن يفهمها بهذا القلب المنكوص المطموس، لكن هذا الأعرابي في لحظة فهمها.
يُوجَد رجل آخر – يُقال هو أبو العلاء المعري – قال شيئاً يتعلَّق بموضوعنا، طبعاً قد يسألني أحدكم قائلاً تُقطَع اليد في سرقة كم؟ الصحيح ورأي جماهير العلماء في رُبع دينار فصاعداً، والدينار كان ذهبياً، أليس كذلك؟ وأيام الرسول كان يُساوي الدينار كم؟ اثني عشر درهماً، أيام الرسول كان يُساوي اثني عشر درهماً وبعد ذلك اختلف، صار يُساوي ستة عشر وأحياناً عشرين وأحياناً أربعة وعشرين، وهذه عملة فلا تُوجَد مُشكِلة، لكن أيام الرسول كان كل دينار بكم؟ باثني عشر درهماً، ولذلك في الصحيحين من حديث عائشة قالت: قال – صلى الله عليه وسلم – لا قطع في أقل من رُبع دينار، رُبع دينار فصاعداً، الأقل من ربُع دينار لا قطع فيه، وفي أحاديث أُخرى أن القطع يكون في ثمن المجن، مَن سرق مجناً أو ثمنه قُطِع، ثمن المجن كان كم؟ ثلاثة دراهم، لا يتناقض! الثلاثة ربع الاثني عشر، أليس كذلك؟ إذن هذا أيضاً رُبع، هذا صحيح، هذا يتأيَّد بهذا، حديث المجن هذا يتأيَّد بحديث الصحيحين عن عائشة في رُبع الدينار الذهبي، أبو حنيفة كان يقول لا، لا قطع إلا في عشرة دارهم مضروبة صحيحة غير مُزيَّفة، هو ومحمد وأبو يوسف وزُفر والأحناف عموماً، هذه فتواهم! والأول أصح وهو رأي الجماهير، رأي الإمام الشافعي والليث بن سعد وأبي ثور وداود بن عليّ – صاحب المذهب الظاهري – ورأي جماهير الصحابة، رأي عثمان ورأي عليّ ورأي سيدنا عمر، وهو رأي عمر بن عبد العزيز، أي أربعة من الخمسة الراشدين، لعله لم يُؤثَر عن أبي بكر شيئ في هذا، لعله يكون رأيه لكن لم يُؤثَر عنه، وهو رأي آخرين، أي أنه رأي الجماهير.
بعض الناس يقول سُبحان الله، هذه اليد لو قُطِّعت ديتها تصل إلى خمسمائة، وإذا سرقت رُبع دينار تُقطَع؟ تناقض! يُنسَب هذا للمعري، الله أعلم! صاحب الفصول والغايات، قال:
يدٌ بِخَمْسِ مِئِين عَسجد وُديَت ما بالها قُطّعت في ربع دينارِ.
قال يدٌ بِخَمْسِ مِئِين – أي بخمسمائة – عَسجد – العسجد هو الذهب – وُديت، ما معنى وُديت؟ ديتها، من دية للتخفيف، ما بالها قُطّعت في ربع دينارِ!
تَناقُضٌ ما لنا إِلّا السُكوتُ لَهُ وَأَن نَعوذَ بِمَولانا مِنَ النارِ.
قال هذه تناقضات حقيقةً، ما هذا الدين المُتناقِض؟ فرد عليه القاضي عبد الوهّاب المالكي رحمة الله عليه، علّامة كبير، كان من أذكياء البشر وهو بغدادي، فماذا قال له؟ قال له:
عزّ الأمانة أغلاها وأرخصها ذُلّ الخيانة فافهم حكمةَ الباري.
الله أكبر، أفحمه! أحسن جواب، قال له كانت أمينة فكانت عزيزة غالية، فلما سرقت أصبحت هيّنة، هذا صحيح طبعاً، هذه لها قيمة ولها دية كبيرة إذا كانت أمينة، حين تُصبِح خوّانة تعتدي على عرق الناس وتعبهم وما إلى ذلك لا يكون لها قيمة، في رُبع دينار تُقطَع، حفاظاً على حيوات الناس وعلى أموال الناس وعرق الناس، وأنتم تعرفون أن الرسول كان يتشدَّد جداً في هذه المسألة، ولدينا الحديث الذي أخرجه أحمد والبخاري ومُسلِم وغيرهما، حديث مشهور جداً وكلكم تعرفونه، حديث المرأة المخزومية، عند الإمام أحمد – وخرَّجاه في الصحيحين أيضاً، لكن هذا السياق ربما ليس مأنوساً عندكم – سرقت امرأة ولم يُثبَت أنها المخزومية، لكن قصتها ثابتة في الصحيحين أنها المخزومية، هذا واضح! لما سرقت هذه المرأة أتى أهل المال، قالوا يا رسول الله هذه سرقت، قال تُقطَع، فقال أهلها – بنو مخزوم قبيلة عربية مشهورة جداً جداً وقوية وكثيرة، أي كثيرة العدد والنفر – يا رسول الله نحن نفتديها بخمسائة دينار، قبيلة قوية وعندها أموال كثيرة ما شاء الله، من أجل رُبع دينار سندفع خمسمائة، قال النبي تُقطَع، ما قيمة الخمسمائة؟ تُقطَع، هذا حد الله، لا يُوجَد لعب هنا، تُقطَع! قالوا يا رسول الله كذا وكذا، فقال تُقطَع، هذا حد الله، اقطعوا! فقطعوا يدها، فجاءت فقالت يا رسول الله هل لي من توبة؟ قال لها لقد عُدتِ من ذنوبكِ كيوم ولدتكِ أمك، اطمئني قال لها، النبي عرف أن المسكينة تابت توبة نصوحة، هذه المخزومية قال لها أنتِ اليوم عُدتِ ورجعتِ كيوم ولدتكِ أمك، ليس فقط من ذنب السرقة، هذا الحديث فيه بشارة عظيمة، الله كفَّر عنها كل الذنوب بحد السرقة، والله هذه كرامة في حق هذه المسكينة، هذا أحسن لها، أليس كذلك؟ لا نعرف في ماذا أذنبت وفي ماذا غلطت قبل ذلك هذه السرّاقة، لكنها تابت توبة نصوحة، فقال لها رجعتِ كيوم ولدتكِ أمك، بالنسبة للسيئات أصبحت صفراً، بقيت حسناتها والسيئات – الحمد لله وما شاء الله – مُسِحَت، كطفلة وليدة! وأصل القصة في الصحيحين، وطبعاً تعرفون الشفاعة في الموضوع هذا من حديث عائشة، عائشة روته، قالت لما سرقت المخزومية قيل مَن يشفع لها؟ لأنها من بني مخزوم، هذه قبيلة كبيرة جداً وهذا عيب، قيل مَن يشفع لها؟ فقيل ومَن يجرأ على ذلك إلا أسامة؟ النبي يُحِبه كثيراً جداً جداً، لأنه ابن حبيبه، وهو زيد بن حارثة، هذا أُسامة بن زيد، النبي كان يُحِبه حباً شديداً جداً، ابن مَن أسامة هذا؟ أم أيمن، هو ابن أم أيمن، النبي ألم يُزوِّج زيداً بزينب؟ بعد ذلك طلَّقها، وبعد ذلك زوَّجه مَن؟ أحب النساء المُسلِمات إليه أم أيمن، بركة مُرضِعة النبي، كان يقول لها يا أمي بعد أمي، زوَّج زيداً من أم أيمن، فأنجبت له أسامة، وزيد كان أبيض وحلواً، وأسامة لم يكن كذلك، سُبحان الله! فيه سواد وعنده مشافر، بدأ الناس يتظنون ويقولون هذا ليس ابنه وما إلى ذلك، لأن أم أيمن كانت حبشية، فربما نزعه عرق من أمه، أي من أجداده من جهة أمه، إلى آخره! لا علينا من هذا، فقالوا ومَن يجرأ على ذلك إلا أسامة؟ وأسامة كان صغيراً، ربما كان ابن ثنتي عشرة سنة، كان طفلاً صغيراً ولا يُقدِّر المسألة هذه، الكبار كلهم كعوا عنها، يعرفون أن النبي لا يتساهل في هذا، كم هو مُتواضِع! كم هو حيي! وكم هو لا يُحِب أن يكسف أي إنسان! إلا في حد من حدود الله، في محارم الله، في الدين، وفي غضب الله إياك أن تُغضِبه، لا يُمكِن! يغضب غضباً لا يقوم له أحد، في غير هذا اطلب ما تُريد، اطلب ماله أو اطلب أي شيئ، سوف يُعطيك لباسه ولن يقول لك لا، إلا في أمور الدين، فدخل أسامة وقال له يا رسول الله المرأة المخزومية كذا وكذا، فتغيَّر لون وجه رسول الله، تلوَّن في رواية! غضب غضباً شديداً على أسامة، وقال له يا أسامة أفي حدٍ من حدود الله؟ أتدخل علىّ وتشفع لها في حد؟ قال له، حد ربنا – تبارك وتعالى – تشفع فيه؟ قال له يا أسامة أفي حدٍ من حدود الله؟ فقال أسامة يا رسول استغفر لي، خاف طبعاً! قال هلكت بهذا، ضحكوا علىّ! ولد صغير أدخلوه والمسكين لا يعرف القصة، قال له يا رسول استغفر لي، فالرسول أكيد استغفر له، هذا غير مذكور لكن أكيد استغفر له، قال له يا رسول الله استغفر لي، وتركهم النبي حتى إذا كانوا بالعشي قام فاختطب، ما معنى فاختطب؟ خطبهم، قام فاختطب فقال أيها الناس إنما أهلك مَن كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله – أي وأيمان الله، هذا قسم مُختصَر – لو أن فلانة… أنا لا أقدر على أن أقولها دائماً، لا أقدر! الحمد لله، قال لو أن فلانة وذكر سيدة شريفة تعرفونها، لابد من الأدب مع رسول ومع أهل بيته، لن نذكر اسمها، وقد كان يفعل بعض الأئمة هذا، بعض الأئمة الكبار المُحدِّثين يقولون هذا، لكن اضطر أن يكتب هؤلاء الأئمة اسمها، لماذا؟ لأن هذا حديث ولابد أن نعرفه، لكن حين كانوا يُحدِّثون به – وهو مكتوب ومحفوظ إن شاء الله – لا يذكرون اسمها أدباً، أرأيتم كيف يكون الأدب مع آل بيت رسول الله؟ ثم يأتي رجل أحمق غِر أهبل ويقول ماذا؟ أبوه وأمه في نار جهنم، أي أبو الرسول وأمه في نار جهنم، هل قرت عينك؟ هل أنت فرحان الآن كثيراً؟ هل أنت سعيد؟ وأنت في الجنة! أنت بسبب رسول الله في الجنة، أنت وأبوك في الجنة لكن أبوه وأمه هو في نار جهنم، فرحان كثيراً أنت؟ يا أخي نسأل الله حُسن الأدب مع رسول الله، ولذلك أنا مُعجَب جداً بعلّامة الإسلام – ليس بصغار الإسلام وأولاد الإسلام اليوم، الزُعران الذين يتحدَّثون في الشوارع – أبي بكر بن العربي رحمة الله عليه، شيخ المالكية وليس ابن عربي الصوفي، أبو بكر بن العربي صاحب القبس وصاحب قانون التأويل وصاحب أحكام القرآن وصاحب التفسير الذي وقع في ثمانين ألف ورقة، هل سمعتم في حياتكم عن تفسير في ثمانين ألف ورقة؟ تفسير في ثمانين ألف ورقة! أي في مائة وستين ألف صفحة، أي في مائة وستين مُجلَّد وكل مُجلَّد من ألف صفحة، أي في ثلاثمائة وعشرين مُجلَّد، وكل مُجلَّد من خمسمائة صفحة، ما هذا؟ ما هذه المُصيبة؟ هذا أبو بكر بن العربي رحمة الله تعالى عليه، هذا سألوه – هذا ليس عدنان وليس زيداً، هذا ابن العربي – وقالوا له ما حُكم مَن يقول أبوا الرسول في النار؟ قال ملعون ملعون ملعون قال لهم أي عالم أو أي مُجتهِد يقوا أبوا الرسول في النار ويتجرأ عليها ملعون ملعون ملعون، ثلاث مرات! لأن الذين يُؤذون رسول الله لُعِنوا في الدنيا والآخرة، إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۩، قال وأي أذية لرسول الله أن تقول إن أبويه في نار جهنم! لابد من الأدب مع الرسول في الأول، لكن الآن هناك زُعران وهناك أولاد يتكلَّمون باسم الدين وباسم السُنة وباسم الحديث وليس عندهم أدب لا مع الرسول ولا مع أصحابه ولا مع أبي حنيفة ولا الشافعي ولا مالك ولا ابن حنبل، لا يُوجَد أدب بالمرة! وبين بعضهم البعض لا يُوجَد أدب، قلة أدب على العلماء وعلى الدُعاة وعلى المشايخ وعلى بعضهم، ثم يقولون هذا دين، فنسأل الله الأدب ونسأل الله أن يُرجِعنا إلى هدي السلف الصالحين وليس إلى تخبط المُعاصِرين، تخبط! تخبط باسم الدين كله والعياذ بالله.
المُهِم قال وأيم الله لو أن فلانة – وذكر مَن تعرفون، سيدة شريفة عليها السلام – سرقت لقطعت يدها، وفي رواية لقُطِعَت يدها، وتعرفون مَن هي، تخيَّلوا! هذا هو العدل، أين هذا العدل الآن؟ أنا أقول لكم هذا العدل غير موجود حقيقةً، ليس عندنا أمل في أن الآن مِن أبناء الإسلام ومِن رجالات الإسلام مَن عندهم مِن الإخلاص والتشحر والصدق مع الله والصدق مع الدين والصدق مع القرآن والصدق مع الشريعة ما يجعلهم فعلاً يُطبِّقون الحدود على أبنائهم، ليس عندنا أمل كبير، أكيد هم موجودون لكن الأمل ليس كبيراً للأسف الشديد، حين نصل إلى هذا الموصل سنستحق تأييد الله ونصر الله، أنا سمعت شيئاً ساءني من مصادر كثيرة – لا أريد أن أقول مُتواتِرة لكنها كثيرة، مصادر كثيرة وعزيزة – عن أُناس من رجالات الإسلام الآن، لما وصلوا قليلاً إلى نوع من السُلطة والحُكم وإذا بأبنائهم – والعياذ بالله – يعيثون في الأرض فساداً، وإذا بأبنائهم صاروا من أصحاب الملايين في سنوات، كيف هذا يا شيخ يا صاحب الذقن؟ كيف هذا يا حبيبي؟ كيف هذا يا صاحب الفكر الإسلامي؟ كيف هذا يا صاحب الفكر والتجديد والإصلاح وما إلى ذلك؟ حين أخذت بعض السُلطة ابنك عاث في الأرض وأخذت مُقاوَلات وأخذت عقوداً وما إلى ذلك، لماذا يا حبيبي؟ على أي أساس هذا؟ أي دين هذا؟ أي إسلام؟ هل تعرفون لماذا؟ لأن هذا ليس الإسلام الذي نحكي عنه، إسلام الفكر! هناك أُناس يأخذون الإسلام كفكر وفلسفة، أليس كذلك؟ إذا أخذت الإسلام كفكر وفلسفة لن تكون هناك ثقة فيك ولا في دينك وفي ورعك ولا في أي شيئ، ولن استئمنك على ديني، أليس كذلك؟ والله العظيم! وسوف تُبرِّر كل شيئ بالفكر والفلسفة والمصالح والمافسد، سوف تقول يجوز وما إلى ذلك ومن ثم سوف تُخرِّب كل شيئ، أنا أُريد إسلاماً مثل إسلام السلف الصالحين، إسلام الورع والتقوى والخوف من الله، إسلام ينظر إلى الآخرة أكثر من نظره إلى الدنيا، وأيضاً ينظر إلى الدينا لكن يجعل وكده الأكثر هو الآخرة أيضاً، الحساب! هذا هو، فللأسف هذا يسوءنا جداً أن نسمعه وأن يكون واقعاً في الأمة.
أين سيدنا عمر؟ سيدنا عمر كان ماراً ذات مرة فوجد إبلاً فارهة – سمينة وحلوة – فقال لمَن هذه؟ لأن هذا ولي أمر فلابد أن يسأل عن كل شيئ، لا يمر شيئ هكذا، الماء لا تمشي من تحته كما يقولون، قالوا هذه لعبد الله بن عمر، قال وأنى لابن عمر الإبل؟ قال أهذه لابني؟ وهو يعرف ابنه ويعرف أنه مُتزهِّد وفقير، قالوا هذه لابنك، حسن قال، قال عمر جيد وأتى به مُباشَرةً، قال له تعال يا ابن عمر، من أين لك هذه الإبل؟ قال يا أبتي من حُر مالي – والله – اشتريتها، من حُر مالي، أليس عندي عطاء؟ عندي عطاء شهري مثل بقية المُسلِمين، فجمَّعته واشتريت، قال له وترعى في أرض المُسلِمين ويُتركها الناس، يقولون إبل ابن أمير المُؤمِنين، أي أنهم يُراعونك فيها، فتأكل من هنا وهنا وهنا، وهكذا تسمن إبلك يا ابن أمير المُؤمِنين، تسمن مُراعاةً لي قال له، بعها – قال له – وضع مالها في بيت المُسلِمين وخُذ رأس مالك، كم كان ما دفعته فيها في الأول؟ خمسين ديناراً، خُذهم وضع الباقي كله في بيت مال المُسلِمين، ولم يتكلَّم ابنه بكلمة، أرجعه كله، رضيَ الله عن سيدنا عمر وأرضاه، هذا الكلام لا ينبغي أن نحكيه ترفاً، ينبغي أن نحكيه لكي يُطبَّق فيما بعد، أليس كذلك؟ ولو حتى في مُستويات ضئيلة لابد أن يُطبَّق، فنسأل الله أن يُعيننا على ذلك، لا إله إلا الله!
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۩، إذن هذا هو الموضوع، القطع كما قلنا من عند الرُسغ، إلى آخره! وكما قلنا إذا قُطِعَ السارق أو السارق فإن شاء الله هذا كفّارة له عما اكتسب، وإن شاء الله كما في الحديث من رواية أحمد كفّارة عما سلف من ذنبه، وهذه بُشرى عظيمة.
(ملحوظة) استفسر أحد الحضور عن حُكم مَن يسرق من أجل أن يأكل لأنه جائع، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم، حد السرقة حد واحد وهو قطع اليد، إذا أُقيم الحد فهو حد واحد، لكن يُقام أو لا يُقام هذا موضوع ثانٍ، مناط الحُكم موضوع ثانٍ هنا، هل ينطبق عليه أنه سارق تُقطَع يده أو لا ينطبق هذا موضوع آخر القاضي يحكم فيه، إذا كان هناك مجاعة أو مسغبة أو مخمصة أو ضرورة وذهب أحدهم وسرق فلن يكون هناك قطع، هذا معروف! سيدنا عمر نفسه وقَّف حد القطع عام الرمادة، كان عام جوع وما إلى ذلك، فقال لا قطع، وبالعكس! حين أتوا له بغلمان حاطب وقالوا يا أمير المُؤمِنين أقم عليهم الحد فقد سرقوا أبانا – أولاد حاطب – قال لهم تعالوا، أربعة عبيد أو أعبد! قالوا يا أمير المُؤمِنين هذا يدأبنا وما إلى ذلك وليس عندنا ما نأكله، وهذا عام الرمادة! قال اذهبوا، ثم قال عمر لهم والله الذي لا إله إلا هو لئن جئتموني بهم مرة أُخرى لأُقيمن عليكم الحد، سأُقيم الحد عليكم! الدنيا فقر وما إلى ذلك وهؤلاء يمسكون هؤلاء المساكين ويقولون إنهم يسرقون، طبعاً يسرقون لكي يأكلوا، ابن حزم – رحمة الله عليه – قال في المُحلى حين تقع مجاعة عامة وفقر وخصاصة شاملة يجوز للإنسان أن يُقاتِل الأغنياء وإن قتلهم في جهنم – أي ماتوا فطساً قال – وإن قتلوه فهو شهيد، يُمكِن أن تُقاتِل وتحمل السلاح، تذهب إلى الغني وتقول له غصباً عنك ستفتح المخازن وتُعطي الناس وإلا تُقتَل، هذا هو! كيف لا يكون كذلك؟ هناك أُناس تموت من الجوع وهناك أُناس عندها مخازن وتحتكر الطعام، وبالمُناسَبة الإسلام عنده نظرية اجتماعية قوية جداً في هذه المسائل، قوية جداً! لكن – كما قلنا – إذا انطبق على الإنسان أنه سارق فالحد واحد، قطع اليد! على الكبيرة، على الصغيرة، على الذكر، على الأُنثى، على الصالح، وعلى الطالح، هو حد واحد، لا يُوجَد غيره!
۞ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۞
فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، فهمتم هذه الآية، كيف هي؟ مثل هذه المخزومية، تابت أو لم تتب؟ تابت، هنا الظلم يُقصَد به ماذا؟ الحد، من بعد إصابتها حد الله لسرقة هنا، فهذه السارقة أو السارق إذا تاب عن السرقة – إن شاء الله – الله يتوب عليه، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، هنا قد يقول لي أحدكم هو سرق ولم يُقم عليه الحد وتاب توبة نصوحة فهل يتوب الله عليه؟ إن شاء الله، مأمول أيضاً، يستر على نفسه ويسكت، ومأمول أن الله يتوب عليه، وبالمُناسَبة هذه القضية الإلهية الله يتصرَّف فيها، انتبه! الله لا يفضح عبده إلا إذا شاء أن يفضحه، ولا يشاء أن يفضحه إلا إذا استحق الفضوح، أي الفضيحة، إلا إذا استحق الفضوح! يكون عملها مرة ومرتين وثلاث وعشر فيقول له الله تعال، انتهى! انتبهوا إلى هذا، حدَّثتكم أكثر مرة عن أن سيدنا أبا بكر الصديق جاءه رجل سارق فأراد أن يُقيم عليه الحد، فقال له يا أمير المُؤمِنين والله إنها لأول مرة، قال له اسكت عدو الله، كذبت قال له، كذبت! فخاف الرجل، قال له كيف عرفت يا أمير المُؤمِنين؟ انتهره فقال له كيف عرفت؟ نعم كذبت، قال له إن الله أكرم من أن يُعافِص عبده بأول ذنب، كيف تقول لي هذه أول مرة؟ كذّاب أنت، لا يُمكِن! قال له نحن نعرف ربنا، هكذا علَّمنا النبي، يسترك أكثر من مرة حتى في هذه الذنوب، حتى في الزنا! إذا رأيتم واحداً يُقام عليه حد الزنا اعلموا أن هذه ليست أول مرة، هذا زنى قبلها بنسبة مائة في المائة، جرِّبوا بالله عليكم هذا إذا فضح الله أي واحد فيكم، لا فضحنا الله وسترنا في الدنيا والآخرة، ولا أقصد فضيحة في شيئ كبير وإنما في أشياء بسيطة، أشياء بسيطة جداً، أي ذنب بسيط، سألتكم بالله هل يكون هذا لأول مرة؟ مُستحيل! مُستحيل أن يكون لأول مرة، في أول مرة لا يُمكِن أن يأتيك الفضوح، هناك ستر، لأن الله ستّير، يُحِب الستر تبارك وتعالى، يُحِب الستر جداً الله عز وجل، فالمسكين هذا فُضِح مرتين، الذي فُضِح فُضِح مرتين، فُضِح بالذنب وفُضِح لأن عنده سوابق لم نكن نعرفها، هذا يعني أن عنده ماضٍ، قال عُروة بن الزُبير إذا رأيت الرجل يعمل الحسنة فاعلم أن لها عند أخوات، وإذا رأيته يعمل السيئة فاعلم أن لها عنده أخوات، هذا الذي يظهر على السطح فقط، الله فضحه به، فنسأل الله جميل ستره، اللهم استرنا بسترك الجميل الذي سترت به نفسك فلا عين تراك.
۞ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۞
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، الآية واضحة.
۞ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۞
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۩، صفة مَن هذه؟ المُنافِقين، يُصانِعون المُؤمِنين في الظاهر بادّعاء الإيمان، بالتظهر بالإيمان، مُصانَعة ظاهرية! لكن ينطوون في بواطنهم على ماذا؟ على الكفر والجحود والنكران، قاتلهم الله!
وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ ۩، أيضاً لا يحزنك هؤلاء اليهود، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۩، هنا يُوجَد خلاف قليلاً في هذه، كيف سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ۩؟ اللام هنا يُمكِن أن تُفسَّر على وجهين، يُمكِن أن يُقال سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ۩ أي يستمعون لأقوام آخرين، أي يسمعون منك ويسمعون من أُناس آخرين، لكن قناعتهم وقلبهم وهواهم مع مَن؟ مع الآخرين، أو يستمعون إليك ويسمعون منك لينقلوا كلامك وكلام أصحابك لقوم آخرين، إذن سَمَّاعُونَ ۩ لأجل آخرين، ما معنى لأجل آخرين؟ لأجل أن يُوصِلوا هذا الكلام لأُناس آخرين، أي أنهم جواسيس Spionen، جواسيس يسمعون ثم يذهبون ويُبلِّغون، يكتبون التقارير! هل فهمتم كيف؟ فالآية تحتمل معنين، سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ۩، يُقال فلان يعمل لفلان، هذا واضح، أليس كذلك؟ يعمل له، فهو عميل له، يُقال فلان عميل لفلان، ويُقال فلان سمّاع لفلان، أي يسمع له ويكتب له، هل فهمتم كيف؟ مثل هذه، هذا معناها، أو أنه يستمع فعلاً لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۩.
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۩، هذه أشد الصيغ في التعبير عن التحريف، في الآيات الأُخرى كلها قال عَن مَّوَاضِعِهِ ۩، إلا في موضع واحد الله قال مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ۩، في المواضع الأُخرى كلها في كتاب الله قال عَن مَّوَاضِعِهِ ۩، هنا قال مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۩، انظر إلى هذا، قال مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۩، أي أن الكلام تموضع ورسخ وثبت ويقن، ثم جاءوا هم لكي يُزحزِحوه ويحفروا تحته، شيئ غريب، مُحاوَلات جاهدة لتحريفه والعياذ بالله، إصرار على الكفر!
هذه الآية ما سبب نزولها؟ سبب نزول هذه الآية كما قال عامة المُفسِّرين هو كتمان اليهود – والعياذ بالله – لحد الرجم، رجم الزُناة! موجود عند اليهود هذا، بالمُناسَبة حد الرجم للزُناة أيضاً موجود في الجاهلية قبل الإسلام، من بقايا الشرائع السماوية، موجود! وفي حديث البخاري أيضاً أن القردة فعلته في الجاهلية، أعتقد هذا عن أبي رجاء العطاردي، والله من سنين لم أُراجِعه لكن – إن شاء الله – هذا يكون صحيحاً، أعتقد عن أبي رجاء العطاردي بروايته في صحيح البخاري أن قردةً زنت في الجاهلية فاجتمعت عليها القردة فرجموها، ثم قال يا عباد الله هذه البهائم أو الحيوانات أقامت حد الله لما عطَّله بنو آدم، وهذا في صحيح البخاري عن أبي رجاء العُطاردي، إن شاء الله يكون كذلك، ففي الجاهلية أيضاً كان موجوداً هذا، وعند اليهود كان موجوداً لكنهم يتكاتمونه بينهم، وماذا كانوا يقولون؟ سنسأل محمداً الذي يدّعي أنه نبي، هم يعرفون أنه نبي، يعرفونه – قاتلهم الله – لكنهم ركبوا أهواءهم، يقولون إذا أفتانا بما نُريد في الرجم وفي غيره نُوافِقه، إذا أفتانا بما لا نُريد – قال بالقصاص أو بالحد – نقول لا، هذا النبي كاذب ولن نُصدِّقه، إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۩، أي ما نُريده نحن! الذي يُوافِقنه فيه نأخذه، والذي لا يُوافِقنا فيه لا نُريده، لن نُتابِع محمداً.
على كل حال روى الإمام مالك والبخاري ومُسلِم – ونحن نكتفي بصيغة الإمام مالك رحمة الله عليه في المُوطأ – أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام كان معه عبد الله بن سلّام – لم يذكر هذا مالك لكنه مكتوب في روايات أُخرى – وقال لهم ما تقولون في الزاني؟ قالوا التحميم والخزي والضرب، نحن نجلده ونُحمِّمه، ما التحميم؟ التسخيم، يأتون بالسخام – السواد – ويضعونه على وجهه، ويُركِّبونه – أكرمكم الله – على الدابة بالمقلوب ويخزونه بين الناس، المُسلِمون كانوا يُسمون هذا الشيئ ماذا؟ ماذا أسموه؟ التجريس، ذكرت هذا مرة، أليس كذلك؟ هذا اسمه التجريس، يُركِّبون واحداً على الدابة بالمقلوب، وأحياناً كانوا يضعون له الأجراس، ثم يتكلَّمون عنه، يقولون هذا البعيد فعل كذا وكذا، يا عباد الله هذا فعل كذا وكذا، هذا يُسمونه التجريس، هذا اسمه التجريس، وهذا الشيئ طبعاً مهانة وخزي، لكن هذا كذب، الله لم يقل هذا، الله قال الرجم، ما التسخيم والتحميم والجلد؟ سماه المُسلِمون بعد ذلك التجريس، يُركِّبونه على الحمار مقلوباً، فالنبي قال لهم أهذا هو؟ قالوا نعم، فقال لهم انشروا التوراة، انشروا! أنتم تعرفون كيف تكون التوراة، إلى الآن تُوجَد عصاة فيها وتُلَف لفاً عليها، إلى الآن يفعلون مثل هذا، وهكذا كانت تُكتَب الكُتب القديمة، فكانوا يُلفونها وينشرونها، يفتحونها قليلاً قليلاً، لم يكن هناك كتاب مثل هذا، فظل يقرأ يقرأ يقرأ ثم وضع يده على شيئ وتجاوزه، قال له أرأيت؟ لا يُوجَد شيئ، لا يُوجَد شيئ يا محمد، فقال له عبد الله بن سلّام ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها حد الرجم لائحاً، واضح الرجم! قال له هو في كتابنا يا محمد – صحيح – ونحن نتكاتمه بيننا، مضبوط والله، شعروا بالخزي لأنهم فُضِحوا، هذا موجود! وابن سلّام يعرفهم لأنه حبر منهم، فهؤلاء – والعياذ بالله – ملعونون، كتموا حد الله، وهذا ليس أيام النبي فقط، قبل أيام النبي بكثير، كتموا هذا الحد أصلاً لكنه ظل مكتوباً، فهم عندهم نوع من الذكاء، لم يكونوا مثل النصارى، يُحرِّفون الشيئ بينهم وبين الناس، لكن يتركون نُسخة أصلية منه محفوظة حتى لا يضيع بالكُلية، من أجل أن تقوم عليهم الحُجة والغضب الإلهي دائماً، فهو ظل عن علم، لعنة الله عليهم كانوا يعرفون هذا، يعرفون الصح والغلط لكن يركبون رؤوسهم، قلوبهم قاسية هؤلاء، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۩، لو حُذِف هذا الكلام بالكامل لن يصدق على الأجيال التالية أنها حرَّفت مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۩، أليس كذلك؟ ولكي يظل هذا الكلام صادقاً عليهم لابد أن يظل في النُسخة الأولى محفوظاً ويتكاتمونه فيما بينهم على الأجيال أو على مر الأجيال.
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا ۩، ما المقصود بــ هَذَا ۩؟ الإشارة إلى هذا بــ هَذَا ۩؟ إلى التحميم والجلد وركاب الحمار، إذا محمد يقول لكم هذا فهذا جيد، ومن ثم نقول له هذا صحيح ونُوافِقه، فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ ۩، قال لكم بالرجم، فَاحْذَرُواْ ۩، قال تعالى وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۩، الآية واضحة إن شاء الله، والآية التي بعدها واضحة.
۞ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۞
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۩، ما هو السحت؟ الحرام، المقصود به هنا ماذا؟ الرشى، جمع رشوة، كما فسَّرها ابن مسعود! يأخذون الرشاوى والعياذ بالله، لماذا؟ للعدول عن مهيع العدل والقسط في الأحكام، يرشونهم! لأن منهم أحبار وربانيون يفعلون هذا، وما الفرق بين الرابي أو الرباني – هم أسموه الرابي، أي الرباني، كلمة قرآنية – وبين الحبر؟ ما الفرق؟ الحبر عالم، مُجرَّد عالم، عنده علم وما إلى ذلك، لكن الرابي له سُلطة عليهم، مثل أمير أو مثل قاضٍ يقضي بينهم، هذا يُسمونه الرابي، إذا لم يكن له سُلطة عليهم يُسمونه الحبر، فهذا الفرق بين الربانيين وبين الأحبار، فهؤلاء الربانيون يفعلون ذلك بدافع الارتشاء والعياذ بالله.
فَإِن جَاؤُوكَ ۩، أي يا محمد، فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۩، هم كانوا يستحكمون، كانوا يطلبون حُكم النبي، يقولون احكم بيننا! ويُوجَد سبب آخر كما قال المُفسِّرون، حتى قال ابن كثير لا مانع أن تكون هذه الآيات نزلت على سببين، النازل واحد والسبب مُتعدِّد، لا يُوجَد مانع، ما هو؟ ذكرنا لكم في تفسير السور السابقة أن قبيلة بني النضير قد ظهروا في الجاهلية أيام الاقتتال والتحالف على الأوس والخزرج على قريظة، فصار بنو النضير هم الأعزاء وقريظة هم الأذلاء، فكان إذا نضريٌ قتل قرظياً لا يُقاد منه، وإذا رضوا بالدية فديته مائة وسق، وأما القرظي يُقاد منه، فالنضري لا يُقاد منه – يقولون هو عزيز – وإنما الدية فقط، وكم ديته؟ ديته – أي دية القرظي – نصف دية النضري، كانت خمسين فقط، فهذا ظلم! المُهِم لما جاء رسول الله كانت هناك مقتلة بينهم أيضاً، فقال بنو النضير لبني قريظة ادفعوا لنا مائة وسق، دية فلان، قالوا لا، هذا ظلم، نحن ندفع لكم مائة وأنتم تُعطوننا خمسين! لماذا؟ قهرتمونا هكذا، لا! نسأل محمداً، هذا يعني أنه كان في وقت الذي صار للرسول سُلطة عليهم وليس في بداية الدعوة، كانت هناك سُلطة وله كلمة نافذة، قالوا نسأل محمداً، فقالت العزيزة – هكذا يقولون! مَن هي العزيزة؟ بنو النضير، العزيزة هي بنو النضير، لأن الأعزاء هم بنو النضير والأذلاء هم قريظة، فبنو النضير قالوا الآتي – ما نحسب أن محمداً يُعطيكم ضعف ما تأخذون منهم، مُستحيل! أي لن يرضى بالخمسين الرسول، لابد أن يحكم بالعدل، لن يُعطيكم ضعف ما تأخذون منهم، سوف يُعطيكم نفس الشيئ، أي يحكم بخمسين وخمسين أو يُساوي بينكم، أي مائة ومائة! ولذلك قالوا هذا الكلام، نذهب إليه ونسأله، إذا أعطانا ما نُريد فنتبعه ونُصدِّقه – أي في هذه المسألة فقط طبعاً، فهذا حتى ليس اتباعاً عاماً – وإن لم يُعطنا لن نُصدِّقه، لعنة الله تعالى عليهم، فهذا معنى الآيات، وهذا وجيه أيضاً، أي هذا السبب!
قال فَإِن جَاؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۩، ما معنى أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۩؟ اتركهم ولا تحكم بينهم، وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۩.
۞ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ۞
ثم قال وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ۩، هذا يعني أن هذه الآية تُؤكِّد أن هذه الاحكام – خاصة في القصاص والرجم وما إلى ذلك – كانت موجودة ومكتوبة، التحريف يأتي في التفسير والتأويل والتنفيذ، في التطبيق! لكنها موجودة وهم يحيدون عنها ويعدلون عنها إلى أهوائهم الشخصية.
ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ۩، الآية واضحة.
۞ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ۞
ثم قال إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۩، الهُدى ما هو؟ الهُدى إلى الطريق المُستقيم، والنور الذي يكشف المُلتبِسات وتُحَل به المُشكِلات، هذا هو النور، هذا يعني أن الهُدى يُوجَد من غير تعرض لمشاكل، لكن النور يُوجَد حين تكون هناك مشاكل وشُبهات، التوراة أيضاً فيها هُدى ونور، وفي القرآن أيضاً هُدى ونور، والإنجيل فيه هُدى ونور، فالهُدى يُوضِّح لك الطريق المُستقيم، وإذا عندك شُبهات فبالنور الذي فيه يحلها لك، وهذا الفرق بين الهُدى والنور، هل فهمتم كيف؟ الهُدى مُهِم لأنك لا تستقل بعقلك البشري أن تعرف طريق النجاة، لا تستطيع! وبالمُناسَبة أُريد أن أُعطيكم قاعدة فلسفية عقلية، إن شاء الله تكون لطيفة جداً، تُغني عن مُصنَّفات، لأنني قرأت هذا الموضوع كثيراً، خاصة لفلاسفة ولمُفكِّرين إسلاميين، هناك مَن يتكلَّم عن العقل والنقل وحدود هذا وحدود هذا، كلام فارغ! هناك تفصيل، سأقول لكم شيئاً سهلاً جداً جداً، العقل يحتاج إلى النقل في معرفة تفاصيل جُملة الأشياء، بمعنى ماذا؟ الآن هل العقل يُعجِزه أن يُسلِّم وأن يُذعِن أن هناك غيوباً؟ لا، يعرف هذا، عادي! يقدر العقل بمقاييسه العلمية والمنطقية على أن يقول نعم هناك غيوب، وليس شرطاً أن يكون كل شيئ رهن الإدراك الحسي، أي ما أراه وما ألمسه وما أحسه وما أذوقه موجود وإلا يكون غير موجود، لا! العقل لا يقول هذا، أليس كذلك؟ ولم يقل هذا أي رجل أهبل، يقول لك لا، هذا مُمكِن، يُمكِن أن تُوجَد عوالم وأشياء أنا لا أراها لكنها موجودة، هذا مُمكِن! لكن لا أقطع بأنها موجودة، لا أقطع بهذا، العقل حين تقول له هل أنت الآن كعقل تُجوِّز أن يكون معنا هنا في المسجد عالم آخر أو خلق آخر – كالجن مثلاً – يعيشون بيننا ويدخلون في بُعد آخر؟ يقول لك نعم، هذا مُمكِن، أُجوِّز هذا، كعقل ليس عندي أي مُشكِلة، لأن هذا لا ينتج عنه تناقض منطقي، مُمكِن جداً لكن لا أقطع به، انتبهوا! لا أقطع به، إذن كمبدأ مُمكِن، هذه القاعدة ذهبية إن شاء الله كما قلت لكم، ووالله تُغنيكم عن مُجلَّدات، وقد قرأت لأُناس مُتخصِّصين الشيئ العجيب، لم يقدروا على أن يصلوا إلى هذه المسألة بهذه البساطة ويختلفون اختلافاً غريباً جداً، ولن نذكر أسماء حتى لا ننتقص بعض العلماء الكبار والفلاسفة الإسلاميين خاصة المُعاصِرين بالذات، القدماء كلامهم أجمل وأركز، إذن العقل يستطيع أن يُذعِن بأن هناك غيوباً أو غيباً على الجُملة – انتبهوا – والشرع يقول بذلك فيلتقيان، لكن أين يُسلِّم العقل للنقل ويقول له أنا خدّام عند أعتابك فقدني، هذه مقادتي سلسة؟ في معرفة تفاصيل الجُملة، هناك غيب وهذا جيد، لكن ما هذا الغيب؟ أين تفاصيله؟ هناك صراط، هناك ميزان، هناك جنة، هناك نار، هناك حشر، هناك موازين، هناك ملائكة، هناك جان، وهناك كذا وكذا، الشرع قال هذا، بعد أن يكون ثبت صدقية الشرع ببراهين العقل أيضاً العقل لابد أن يُسلِّم بأن هذا النبي حق وهذا الكتاب حق، إذا سلَّم أيضاً بهذه الجُملة فبعد ذلك ضروي أن تُسلِّم بالتفاصيل، هنا قد يقول أحدهم لا، هذا الكلام بصراحة لا أقتنع به، هذه حيل عقلية تقولونها يا مشايخ، لكن هذا غير صحيح، هذا الكلام الذي أحكيه عقلي Rational، في قمة العقل! والدنيا كلها تخضع لهذا الكلام، هل تعرف كيف؟ أنا سأقول لك كيف الآن، أنت الآن تجلس أمام أي مُحاضِر – أتوا بمُحاضِر كبير مثل نعوم تُشُومِسْكِي Noam Chomsky أو حتى عمانوئيل كانط Immanuel Kant – يُريد أن يُحاضِرك في السياسة أو في النضال أو في الفلسفة، أنت تقعد أمامه الآن، أنت أولاً عندك قناعة أن تستمع إلى هذا الرجل، أليس كذلك؟ وكلامك تأخذه على أنه كلام معقول وموزون وإن كان قابلاً للأخذ والرد، لكن حقيق بأن يُسمَع إليه، كيف عرفت هذا أنت إذن وأنت لم تعرف هذا الرجل ولم تسمع كل كلامه – أليس كذلك؟ – ولست في باطنه؟ سلَّمت بُجملة مُعيَّنة، هذا اسمه الاعتقاد الجُملي في علم المنطق، الاعتقاد الجُملي، ما هذا الاعتقاد الجُملي؟ أن هذا الرجل عاقل ومشهود له بالعقل، وهو فيلسوف ورجل راكز، ليس رجل أهبل، لم يأتوا به من الشارع، هذا كانط Kant أو تُشُومِسْكِي Chomsky هذا – مثلاً – عالم اللسانيات Linguistics الأمريكي المشهور جداً، أليس كذلك؟ مثلاً! بعد ذلك أنت من خلال هذه الجُملة تُعطيه مقادتك في أكثر ما يقول مما هو داخل في اختصاصه، أليس كذلك؟ وتعتقد أن هذا حق، ما لم يصطدم بشيئ كان عندك وعنده بُرهان مُعاكِس فأنت تُسلِّم له بكل ما يقول، أليس كذلك؟ علماً بأن كل حياتنا تمشي بالطريقة هذه إلا في الدين، تأتي وتُكابِر وتتفلسف وتقول لا، أنا أُريد برهاناً عقلياً جُزئياً على كل قضية وعقلي يستقل بإثباتها، غير صحيح! ولا يستطيع العقل ذلك، العقل مُستحيل يستطيع أن يستقل – ما معنى يستقل؟ يكون وحده، يبدأ وحده ويخرج وحده، يدخل وحده ويخرج وحده في العقل – بإثبات الملائكة، لا يستطيع العقل، مُستحيل! لا يستطيع هذا، لكن قصارى ما هُنالك أن العقل لا يُحيل – أي لا يقول باستحالة – وجود الملائكة، يقول هذا مُمكِن، لكن لا أقطع بها، إذا قطع بها الشرع فالمفروض العقل الذي آمن بجُملة الشرع أن يُؤمِن بهذا التفصيل، هذا منطق عقلي حياتنا كلها تسير عليه، كل حياتنا!
إذن هنا رأينا أين التقى العقل والشرع وأين احتاج العقل إلى الشرع، في جُملة الشيئ التقيا، وفي التفاصيل صارت القيادة لمَن؟ للشارع الحكيم، وسوف نُصدِّقه في كل ما قاله، ليس عندنا أي مُشكِلة، لأننا آمنا بالجُملة أصلاً، الآن لو واحد فيكم ليس عنده إيمان جُملي بأن هذا المُتحدِّث – العبد الفقير مثلاً – ليس عنده شيئ صحيح يُمكِن أن يُعطيه ولو كان بسيطاً – ليس عنده هذا – لقال لا، هذا رجل دجّال اسمه عدنان، هذا دجّال يُمارِس الهبل على الناس ويأتي بكلام غير صحيح، يحكي في النحو وفي التفسير وفي الأحاديث، وكل الكلام يُؤلِّفه من رأسه، ليس عندي قناعة بأنه يحكي جُملة واحدة صحيحة، أليس كذلك؟ هذا مُستحيل أن يصل إلى أي نُقطة لقاء بيني وبينه، أليس كذلك؟ ومُستحيل أن يجلس أصلاً ليسمعني إلا لمُناكَدتي، أي إذا أراد أن يُناكِدني، أليس كذلك؟ وإلا الأحسن أن يأخذ الأمر من قصيره ويذهب إلى بيته، لكن العكس يحدث إذا آمن إيماناً إجمالياً بأن هذا الرجل عنده شيئ مُستحِق أن يُسمَع، مُطلِع الرجل وأمين في نقله، لا يُحاوِل أن يكذب ولا يُحاوِل ان يُدلِّس علينا، يحكي الشيئ عن معرفة وعن تحقيق، إيمان جُملي هذا، أليس كذلك؟ لكن أنت لا تعرف كل علمي – مثلاً – في النحو وفي الصرف وفي الحديث وفي الفلسفة، لا تعرف! ولا يعرف أحد ما عندي، كما أنا لا أستطيع أن أعرف أي شيئ كله عند أي واحد فيكم، لا أعرف، أليس كذلك؟ لا أعرف ما هو علمك وما هو تفكيرك، لا أعرف، الله – عز وجل – يعرف ذلك، لكن كيف يكون عندك الاستعداد لأن تسمع تفاصيل كلامي كله على مدى ثلاثين ليلة، كل يوم تسمع! لماذا؟ بناءً على اعتقادك الإجمالي، أليس كذلك؟ والاعتقاد الإجمالي عموماً له قيمة منطقية، في علم المنطق هذا موضوع طويل، لكن هذه خلاصته إن شاء الله تبارك وتعالى، ولذلك تنتهي مُشكِلة العقل والنقل، لأن بعض الناس يُصوِّرها مُشكِلة آحادية دائماً، أي إما أن نأخذ العقل ونجعل له قيادة مُبتدأً ومُنتهىً وإما نأخذ النقل ونجعل القيادة له، غير صحيح! ويأتي العقل ويقول لك ماذا؟ هذا غير صحيح، القرآن هذا إذا أعطيته القيادة مُبتدأً ومُنتهىً كيف تُثبِت صدقيته أصلاً؟ بالعقل، فإذا أسقطت حُجة العقل بإزاء حُجة النقل سقطت حُجة العقل والنقل جميعاً كما قال الفخر الرازي، وهذه الحُجة أنا أراها أيضاً حُجة إجمالية قابلة للمد والتفنيد، ليست صحيحة بالطريقة هذه، بحسب ما نحن فنَّدنا قبل قليل، وتُصبِح العملية مُتسِقة إن شاء الله تبارك وتعالى، لا تُوجَد مُشكِلة!
إذن قال هُدًى وَنُورٌ ۩، هذا هو الهُدى والنور، هل فهمتم كيف؟ الهُدى في الكتاب العزيز – القرآن أو التوراة أو الإنجيل – الذي يُعطيك معالم طريق النجاة، كيف طريق النجاة؟ هي كذا، كذا، كذا، كذا، وكذا، جميل! وعقلك لا يستقل بإثبات هذه الأشياء، لا يُمكِن! لا يعرف العقل، أليس كذلك؟ لا يستقل بإثبات هذه الأشياء، بعد ذلك هناك النور، لماذا؟ لأن قد تنبغ لك أو تظهر لك بعض الشُبهات وبعض الإشكالات العقلية مثلاً، أي الاعتراضات أو الإيرادات كما يُسمونها، فهذا يتكفَّل به أيضاً الكتاب الإلهي، لأنه عارف بطبيعة الإنسان، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ۩، وهذا مُنزَّل للإنسان، للإنسان المُوقِن والإنسان الشكّاك أيضاً الذي في قلبه مرض، هذا النور الذي في الكتاب يأتي لكي يكشف لك هذه الشُبهات إذا أحسنت أن تتواضع وتجلس على مائدة القرآن بتواضع وتُحاوِل أن تستنطقه، بالمُناسَبة العقول البسيطة – أي الناس البُسطاء العوام حتى وإن كانوا دكاترة وفلاسفة وما إلى ذلك – يقولون ما هذا الكتاب الذي حُججه خطابية؟ قالوا هذا قديماً من جهلهم، هذا الكتاب خطابي، ما معنى أنه خطابي بلُغة المنطق؟ أنه يُخاطِب الطبقة العامة من الناس أو الطبقة الوسطى، غير صحيح! القرآن يُخاطِب العوام ويُخاطِب المُثقَّفين ويُخاطِب أعلى طبقات المُتفلسِفين، أضخم فيلسوف لو أتى واستنطق القرآن واستشاره وبدأ يُلقي عليه أضواءه الخاصة سيجد نفسه دائماً مسبوقاً، ولا تُوجَد نظرية فلسفية صحيحة وقوية إلا سيجد لها في كتاب الله تبارك وتعالى، وسوف يستغرب، كيف هذا؟ كيف يقول القرآن هذا؟ لكن مَن يفهم ذلك؟ الفيلسوف الكبير، أنا ضربت لكم مثالاً عن هذا وقلت هناك براهين في الفلسفة غير البراهين الأرسطية مُعقَّدة وحين تُحكى للناس يقتنعون وتهولهم، برهان استحالة الدور، استحالة الرجحان بدون مُرجِّح، استحالة التسلسل، حين تسمعها تقول هذا كلام منطقي، والقرآن لخَّصها في ثلاثة جُمل، نفس البراهين! لكن بطريقته الخاصة، قال أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ۩ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ ۩، انتهى! والثلاثة البراهين الفلسفية هنا عُبِّر عنها في مُنتهى الإيجاز، استحالة الدور، استحالة التسلسل، واستحالة الرجحان بدون مُرجِّح، لكن العامي غير المُتعمِّق في القرآن وغير المُتعمِّق في الفلسفة لن يفهم أن القرآن لخَّص البراهين في ثلاث كلمات، لن يقدر! أليس كذلك؟ لكن المُتفلسِف والعميق جداً جداً سيخضع ويخشع أمام عظمة القرآن، سوف يقول يا أخي كتاب عجيب هذا، كيف يا أخي؟ كيف قدر أن يُخلِّص البراهين في ثلاث كلمات؟ أليس كذلك؟ هذه هي، فنسأل الله أن يفتح علينا في هذا الكتاب العزيز وأن ينفعنا به وأن يرفعنا به.
قال يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ ۩، تعبير غريب قليلاً، أليس كذلك؟ لكنه سهل، قال يَحْكُمُ بِهَا ۩، ما معنى يَحْكُمُ بِهَا ۩؟ يُطبِّقها، يقضي بها، ويُعلِّمها، لكن هنا المقصود ماذا؟ الحُكم، أي القضاء بالذات، لأن كل الكلام عن الرجم وعن الحدود والقصاص والعدل بين الناس، قال يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ۩، مَن النَّبِيُّونَ ۩؟ أنبياء بني إسرائيل، يحكمون بالتوراة، يقضون بها! قال الَّذِينَ أَسْلَمُواْ ۩، ما محل الإعراب هنا لقوله الَّذِينَ أَسْلَمُواْ ۩؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور صفة، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، صفة – انتبه – وليست مفعولاً به، حين تقول يحكم بها النبيون المُسلِمين تصير كأنها مفعولاً به، لكن الآية تقول يحكم بها النبيون المُسلِمون، إذن هي صفة للنبيين، هذا مُهِم لكي تفهم الآية، إذن هذه صفة هنا وليست مفعولاً به، يحكم بها النبيون المُسلِمون، لمَن يحكمون؟ لِلَّذِينَ هَادُواْ ۩، يحكمون بها اليهود، يحكمون بها شعب إسرائيل، وهنا قد يقول لي أحدكم لماذا قال لِلَّذِينَ ۩؟ انظر إلى عظمة القرآن الكريم يا أخي، لماذا قال لِلَّذِينَ هَادُواْ ۩؟ نحن يقول الواحد منا أنا أحكم بهذا القرآن جماعتي، أليس كذلك؟ أحكمكم بالقرآن، لا تُوجَد مُشكِلة! أو يقول أحكم بالقرآن لكم، لكن لماذا هو قال هذا؟ لماذا قال يحكم النبيون للذين هادوا؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور لمصلحتهم، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، ثم استتلى قائلاً فيها معنيان دقيقان، أولاً هذا الحُكم هو طريق المعدلة، هو الذي يُحقِّق العدل وإصلاح ما فسد من أحوالهم، هذا أولاً، ولذا قال لِــ ۩، لِــ ۩ هذه تعني أن هذا لمصلحتهم، ثانياً لتمكين المعنى كما يُسمونها، النُحاة يُسمون اللام هنا للتمكين، فأنت حتى لو أزلت اللام هذه يبقى المعنى صحيحاً، يحكم بها النبيون الذين أسلموا الذين هادوا، صحيح بنسبة مائة في المائة، ولذلك أنا قلت لكم يُمكِن أن تظنوا أن الَّذِينَ أَسْلَمُواْ ۩ هي مفعول به، لكن هذا غلط، يضيع المعنى، لكن هي صفة على كل حال، لِلَّذِينَ هَادُواْ ۩، ماذا عنها؟ الذين أسلموا الذين هادوا، فهذه مثل هذه، لكن هذه صفة للنبيين وهذه مفعول به، الذين هادوا مفعول به، والفاعل مَن هم؟ النبيون المُسلِمون، جيد! لكي يُمكِّن المعنى – أن الحكم فعلاً من هؤلاء لهؤلاء، انتبه ولا تغلط في الَّذِينَ أَسْلَمُواْ ۩، أنهم هم المحكومون – مكَّن للعامل باللام – سُبحان الله – في عمله، فقال لِلَّذِينَ هَادُواْ ۩، فأصبحت الآية واضحة، ليس فيها شك!
(ملحوظة) تحدث أحد الحضور عن مسألة حُكم النبي بالتوراة، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم إن دخول النبي في قوله يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ۩ مُمكِن جداً، وهذا مذكور على حال، لكن أنا لم أُحِب أن أذكره، لأن المعنى الأصلى حقيقةً أنه يحكم بها أنبياء بني إسرائيل فعلاً، وحكم بها عيسى، وسوف نرى كيف، الإنجيل جاء مُصدِّق، النبي الآن يحكم بها أو لا يحكم مسألة ثانية، لماذا أنا ضربت عن ذكرها صفحاً؟ هل تعرف لماذا؟ لأن الله سيذكر بعد قليل أن القرآن مُهيمن على التوراة، بمعنى أنه قيّم، بمعنى أنه حاكم، وبمعنى أنه شاهد، أليس كذلك؟ وأيضاً هناك روايات أُخرى – لم أُحِب أن أطوِّل فيها لأننا نُريد أن نُفسِّر – عن ابن عباس في هذا الموضوع، صح عنه أنه قال هذا منسوخ، كله منسوخ! أن يحكم بينهم بالتوراة وما إلى ذلك منسوخ، منسوخ بماذا؟ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۩، احكم بالقرآن وليس بالتوراة، انتهى! ولذلك أنا ضربت عن ذكرها صفحاً، ومذكور عند ابن جرير أن النبي أيضاً دخل فيها، لكننا لا نراه قوياً كثيراً، فلنكن مع أنبياء بني إسرائيل.
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ ۩، ما موضع وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ ۩ هنا؟ أن يحكم أيضاً بالتوراة مَن؟ مَن يحكم بها؟ الأنبياء المُسلِمون والربانيون والأحبار، وقد بان لكم قُبيل قليل الفرق بين الرباني والحبر، قلنا ما الفرق، الرباني عنده سُلطة، هل هذا واضح؟ الحبر ليس عنده سُلطة، عالم – مُجرَّد عالم – لكن ليس عنده سُلطة على بني إسرائيل.
بِمَا اسْتُحْفِظُواْ ۩، مَن الذي استحفظهم؟ الله تبارك وتعالى، استحفظهم واستأمنهم على الكتاب، على التوراة! لكن هل حفظوه؟ لا، ولذلك ضلوا وضاع الكتاب،أليس كذلك؟ وهل القرآن الكريم هذا استُحفظَته أمة محمد؟ لا، الله استحفظه ذاته – تبارك وتعالى – أو نفسه، قال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ۩، ولذلك لم ولن يضيع هذا الكتاب، لم ولن يضيع! مُستحيل، ها هو من ألف وأربعمائة سنة، هل تُريد برهاناً أقوى من هذا؟ وبالمُناسَبة هذا البرهان أنا أُسميه برهان المصداقية التاريخية، هو بحد ذاته إعجاز وكافٍ في التدليل على أن هذا الكتاب من عند الله، أليس كذلك؟
جنكيز خان Genghis Khan تسمعون عنه، هذا كم حكم في العالم؟ في يوم من الأيام حكم الرجل هذا نصف العالم، مملكة غريبة جداً جداً وقام بتشييد حضارة وقام بناء كذا وكذا، وعمل شريعة، أتى بكتاب مُلفَّق من التوراة والإنجيل وكتاب زرادشت Zoroaster والقرآن، وسماه ماذا؟ الياسا أو الياسق، حكم به والناس حكمت به، وأبناؤه وأحفاده حكموا به، هل فيكم أحد اليوم يسمع بالياسق هذا؟ ذهب مع أمس الغبار، ليس له أي ذكر، كلام فارغ! لكن انظر إلى هذا الكتاب، من ألف وأربعمائة سنة الناس تدوي به كالنحل، مليار وثلث مليار مُسلِم، ويحفظه الكبار والصغار والنساء والرجال والعرب والأعاجم، يا أخي شيئ غريب والله العظيم، هذه آية من آيات الله، الكل يتلوه، وليس في رمضان فقط، في كل الأوقات وفي كل مكان، لأنه من عند الله عز وجل.
بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً ۩، واضح، قال وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ۩، بالمُناسَبة الآيات الثلاثة هنا يُقال نزلت في أهل الكتاب وظاهرها أنها في أهل الكتاب طبعاً، في اليهود والنصارى! الْكَافِرُونَ …۩ الظَّالِمُونَ …۩ الْفَاسِقُونَ …۩، آخرها في الإنجيل الْفَاسِقُونَ …۩، قال ابن عباس وقال غيره كالحسن البِصري أيضاً وعكرمة – عكرمة بن عبد الله البربري مولى ابن عباس – هي في أهل الكتاب، قال الحسن البِصري وهي علينا واجبة، ولذلك الصحابة كانوا يقولون نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كانت كل حسنة لكم وكل سيئة عليهم، تأتي وتقول هذه الآية نزلت فيهم وأنا لو عملت مثل عملهم لكان كذا وكذا لكن هذا لا ينطبق علىّ، غير صحيح! هذا ينطبق عليك أنت، ولذلك لو جاء الآن إنسان ولم يحكم بكتاب الله – عز وجل – جحداً منه لشرائعة ماذا يكون حُكمه؟ هو كافر، أي واحد يقول أنا غير مُقتنِع يا أخي بحد الزنا – مائة جلدة – أو غير مُقتنِع بالقتل لأنه وحشية هو كافر، أنت كافر، واضح أنك كافر، ولا تُناقِشني في أنك كافر، هل تعرف لماذا؟ ما معنى كافر؟ نحن قلنا الكفر هو الجحود، أنت جحدت ولم تعترف، أنت تقول لي أنا لا أعترف بالكلام هذا ولن أُطبِّقه، بغض النظر عن تبريرك، كأن تقول لي هناك تطور أو تقدم أو الدنيا تغيَّرت، أنت هذا الكلام جحدته، تعترف أن هذا كلام الله وجحدته، هل هذا جيد؟ إذن انتهى الأمر، وهنا قد يقول لي أحدكم هناك التطور، لكن هل أنت أعلم بالتطور من رب العالمين؟ ما شاء الله، هل تُريد أنت أن تُعلِّم رب العالمين تبارك وتعالى؟ الذي أنزل الكلام هذا – انتبه – لو يعرف أنه لا يصلح لما أنزله، انظروا إلى الحُجة العقلية هذه، هذه أيضاً حُجة عقلية، ليست حُجة دينية، الذي أنزل هذا الشرع – تبارك وتعالى – لو كان يعرف أنه لا يصلح لكل زمان ومكان – وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ۩ ونفذ علمه في كل شيئ تبارك وتعالى وجل وعز – لما حفظ الكتاب، لماذا يحفظه إذن؟ غير ضروري أن تحفظه، لأن الكتاب المفروض أن الزمن ينسخه، أليس كذلك؟ لو كان الله يعلم أن المصلحة في نسخ الزمان للقرآن لتركه للزمان، أليس كذلك؟ الزمان سيتطوَّر وسيُنسَخ وحده أصلاً، الناس ستتواطأ على نسخه لأن لا فائدة منه، تطبيقه وتطبيق حدوده عملية مُتعِبة، لا فائدة منها، فيُنسَخ، لكن الرب – تبارك وتعالى – فعل العكس وقال لا، أُريد أن أحفظه وسوف يُحفَظ إلى أن يأتي أمر الله بإنهاء آخر نفس مُؤمِنة وسوف يُرفَع القرآن طبعاً، القرآن لن يظل إلى يوم القيامة، قبل يوم القيامة سوف يُرفَع، قال إلى أن يأتي أمري أنا سأحفظه ولن ينخرم منه حرف واحد، بالله عليكم هذه الحُجة ما معناها؟ أن الله يقول لنا بطريقة ثانية وشبه مُباشِرة أن هذا القرآن صادقٌ وصالحٌ حتى يأتي أمر الله، وصدق الله، والتطبيق يقول هذا، وقلت لكم مرة قرأت دراسة فيها نوع من المُقابَلة بين ولاية أمريكية – والله نسيت اسمها، المُهِم هي موجودة الآن – والمملكة السعودية، قرأتها لصحفي مصري – رحمه الله – كان رجلاً فاضلاً، اسمه محمد جلال كشك، قرأتها ربما في سنة ألف وتسعمائة وسبع وسبعين، المُهِم عملوا إحصائية بين ولاية أمريكية وبين المملكة السعودية التي تُطبِّق حد السرقة وتقطع الأيدي، المُهِم تحدَّثوا عن العداد وما إلى ذلك، قاموا بعمل مُقابَلة علمية رياضية بنسبة مائة في المائة، هذه الولاية في يوم من الأيام شرَّعت – وهذا معروف وجائز في الولايات المُتحِدة – حد القتل للسرّاق الذين يسطون سطواً مُسلَّحاً، قالوا بالقتل! لأن هناك مشاكل وقتل وجرائم يومية، فقالوا سوف نقتل وعندهم الحق، والسعودية فقط تقطع، في بضع سنوات بين هذه الولاية وبين السعودية – لا أعرف كم تحديداً لكن لا تُوجَد مُقارَنة بين الولاية والسعودية – تقريباً بضعة أيدي قُطِعت – سبعة أو ثمانية – في السعودية لكن هذه الولاية قُتِل فيها المئات والسرقة كانت في ازدياد، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ۩، ولذلك أنا حدَّثتكم مرة أيضاً عن أنني قرأت كلاماً – والله – هزني وهز أعطافي للمرحوم المُفكِّر والفيلسوف الكبير عليّ عزت بيجوفيتش Alija Izetbegović رحمة الله عليه، تُوفيَ في عام ألفين وثلاثة وكنت أُحِب أن أعقد عنه خُطبة وأتكلَّم عنه، لكنني تهيبت الحديث عن هذا الرجل، لأن لابد أن أحشد نفسي حشداً حقيقياً للحديث عنه، لا أسمح لي نفسي أن أتحدَّث عنه في خُطبة من خمس وأربعين دقيقة بأي كلام، وخاصة أنني أعرفه شخصياً وقرأت له، فقلت لا، هذا له كرامته ولابد أن نتحدَّث عنه بشكل جيد، وفعلاً قد حشدت نفسي عاطفياً وشعورياً وعلمياً لكي أتكلَّم عنه، وسوف أتكلَّم عنه إن شاء الله، رحمة الله عليه رحمة واسعة، هذا من رجالات الإسلام في القرن العشرين، عنده كتاب اسمه هروبي إلى الحرية، بعضكم قرأه، هذه مُذكِّرات كان يكتبها في السجن، مُذكِّرات وأفكار وما إلى ذلك، كتاب رائع، أكثر من رائع، فيه فلتات فكرية وأشياء هامة، شيئ غريب! فيلسوف الرجل، ليس رجلاً عادياً، رحمة الله عليه رحمة واسعة، والرجل كان عنده قناعة بالإسلام مُطلَقة، المُهِم هو نفسه يقول أنا كنت في ريبة أو في تردد قليلاً من موضوع حد السرقة، لوجود القطع وما إلى ذلك، لأنه رجل غربي، يعرف الغرب ويعرف طريقتهم، قال إلى أن سُجِنت، ولما سُجِنت السجن نفسه الذي كنت فيه كان مباءة للصوص والسرّاق، مباءة لهم كلهم! فقال هناك لأول مرة من خلال نقاشات مع السرّاق بالذات أدركت حكمة الله في تحديد الحد بالقطع، اقرأوا هذا الكتاب، وإن شاء الله يُمكِن أن نأتي لكم بالكتاب ونقرأ لكم ماذا كتب بأسلوبه الساحر الغريب، هذا الرجل الفيلسوف لماذا قال هذا؟ وجد الأستاذ عليّ عزت بيجوفيتش Alija Izetbegovi – رحمة الله عليه – أن هذا السارق تقريباً كل عبقريته ومُنتهى رضاه ومُناه بل حتى كل كيانه النفسي مُتبلوِر في الاعتزاز بأصابعه السحرية، هذه الأصابع عنده هامة جداً، شيئ غريب، غير طبيعي! أن تقتله عنده أهون من أن تقطع له أصابعه هذه، يقول لك اقتلني، هذا عندي عادي، لكن اليد هذه لا، ويفتخر بها، جد فخور بالأصابع السحرية التي عنده، فالله يعرف خطورة السرقة حين تُصبِح فعلاً مرضاً في الإنسان، وبالمُناسَبة قد يقول أحدكم مثلما قال أحد الإخوة اليوم إن الإنسان قد يكون جائعاً، فنقول له لا تخف، لن يُقطَع، الشرع أرحم منك، لن يقطعه، وكذلك الحال مع الإنسان الفقير، لن يقطعه، وكذلك الحال مع إنسان أولاده يُعانون الجوع، لن يقطعه، وكما قلنا اليوم الله – تبارك وتعالى – أعظم من أن يُعافِص عبده بالذنب من أول مرة، أليس كذلك؟ القضية ليست هكذا، القضية أن هناك مُجتمَعاً إسلامياً الآن وفَّر الضمانات والكفالات المعيشية والأمنية والحياتية لقطانه وسكانه، هذا هو، ولذلك في عام الرمادة – كما قلنا – قال سيدنا عمر لا يُوجَد حد سرقة، انتهى! لأن لا تُوجَد ضمانات والناس جائعة، فلا يُوجَد حد سرقة، أليس كذلك؟ ولذلك أنا أعتبر من البله أيضاً اليوم أن يقول الإسلاميون إن شاء الله حين نصل إلى الحكم سنُطبِّق الحدود، حدود ماذا يا أخي؟ قبل أن تُفكِّر في تطبيق الأول طبِّق القرآن أولاً، القرآن فيه آلاف الآيات التي تأمر بالتعاون وبالعمل وبالعُمران وبالاستنبات وبالاستثمار وبكذا وبكذا، لابد من بناء الحياة في الأول، ابن حضارة، ابن مُجتمَعاً، أليس كذلك؟ وبعد ذلك ستُطبِّق أربع أو خمس آيات، بالمُناسَبة كم عدد آيات الحدود؟ هل تحفظون كلكم آية ثانية في حد السارق؟ لا يُوجَد إلا هذه الآية اليتيمة، آية واحدة، لا يُوجَد غيرها، واحدة فقط! أليس كذلك؟ ومشفوعة بالتوبة، مَن يتوب يتوب الله عليه وما إلى ذلك، هل تحفظون آية أُخرى في عقوبة القتل الخطأ؟ لا، لا يُوجَد غيرها، فقط آية في سورة النساء ولا يُوجَد غيرها، هل تعرفون آية أُخرى تقول إن الزاني يُجلَد مائة جلدة في غير آية النور؟ لا، تُوجَد آية واحدة فقط في سورة النور، لا يُوجَد غيرها، أي أنها يتيمة، آية يتيمة برأسها وبحيالها، وهكذا مع الحرابة، هل تُوجَد آية أُخرى تتحدَّث عن حد الحرابة وتقول ينبغي أن يُقتَّلوا أو يُصلَّبون أو يُقطَّعوا وما إلى ذلك؟ لا يُوجَد، آية واحدة في المائدة، كل الحدود آياتها يتيمات، واحدة فقط! وذلك من ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية، أليس كذلك؟ ما معنى الكلام هذا؟ لكن بقية الآيات تقول تعاونوا، اشتغلوا، اعملوا، استثمروا، احرثوا، ابنوا الحضارة، ابنوا العمران، القرآن كله بالطريقة هذه، أليس كذلك؟ فأنت ما عقليتك يا إسلامي، يا شيخ، يا درويش، يا حبيبي؟ تأتي وتُحدِّث العالم وللناس عن الحدود باستمرار، الحدود الحدود الحدود! كأن الإسلام هو أربع آيات، أنت عقلك منكوص، لا تقدر على أن تفهم القرآن بحسب تناغمه، أليس كذلك؟ لذلك أنا قلت لكم مرة وقلت لنفسي نحن نضع ثقتنا في العالم والفقيه والمُفتي والمُفكِّر والفيلسوف المُسلِم الذي من خلال فكره نستشعر أنه يعكس تناغم القرآن كمياً، الذي عظَّمه القرآن يُعظِّمه، أليس كذلك؟ الذي أعطاه القرآن مساحة صغيرة يُعطيه مساحة صغيرة، أليس كذلك؟ الآن نحن كإسلاميين نتكلَّم عن اليهود، قد يقول أحدهم أنتم تشغلون أنفسكم فقط باليهود، لأنه أبله لا يفهم، لابد أن نشغلنا أنفسنا باليهود، القرآن ذكر اليهود في المرحلة المكية، أليس كذلك؟ تقريباً ثُلث القرآن عن اليهود، أمس قال لي رجل أنا فعلاً استغربت، استغربت من الكلام هذا، انظر إلى سورة البقرة وسورة الأعراف وسورة كذا وكذا، سور طويلة مشغولة فقط باليهود، وكذلك هذه الآية من المائدة والنساء وغيرهما، دائماً اليهود اليهود اليهود! وكثير من هذه السور كانت سوراً أيضاً مكية، سورة الإسراء اسمها سورة بني إسرائيل، كلها عنهم! مكية أم مدنية هذه؟ مكية، عجيب! ولم يكن في مكة هناك يهود، واليهود في العالم كله طيلة حياتهم قلة، إلى الآن هم كذلك، يصل عددهم إلى خمسة عشر مليوناً وليس أكثر من هذا، هذا عددهم في العالم، البشر الآن حوالي ستة مليارات، هم خمسة عشر مليوناً، ليس لهم قيمة أصلاً، ليس لهم قيمة عددية، لكن خطرهم الواقعي والحقيقي كبير أم ليس كبيراً؟ كبير، يُصدِّعون البشرية ويُجنِّنون العالم كله هؤلاء الناس، فالقرآن أعطاهم حجمهم لأنه يعرف حجمهم الحقيقي، أنت كداعية لابد أن تُعطيهم حجمهم أيضاً، لابد أن تهتم بالمسالة اليهودية، لابد أن تهتم بهذا! أنت أعتبر أن المسيري حين درس اليهودية في ثلاثين سنة استجاب لروح القرآن، هذا رجل مُستجيب لروح القرآن الكريم في التعاطي مع هذه المسألة أكثر من أي شيخ آخر، أليس كذلك؟ هذا الرجل ترك الأدب وترك الفلسفة وترك كل شيئ لكي يتخصَّص في اليهودية، أحب أن يعرف كل شيئ عن اليهود، عن حياتهم وتاريخهم وحضارتهم وكتاباتهم ومذاهبهم، مكث ثلاثين سنة المسكين من أجل هذا، قرأ آلاف الكتب والمراجع، حتى أخرج لنا موسوعته الغريبة العجيبة، هذا يتناغم مع القرآن الكريم، أليس كذلك؟ وهكذا! فنحن لابد أن تناغم مع القرآن الكريم، هذه الحدود لا تُطبَق إلا بعد بناء مُجتمَع مُسلِم كافل لجميع الضمانات، أليس كذلك؟ وبعد ذلك يبدأ يُفكِّر في الحدود.
أنت كيف تُطبِّق حد الزنا على الناس والشباب لا يجدون ما يتزوَّجون به بصراحة؟ الآن مُتوسِّط سن الزواج في مصر أربعون سنة للشاب، والله هذه كارثة، أُقسِم بالله! أربعون سنة، لم يظل فينا خير بعد أربعين سنة، ذهب كل شيئ، استُنزِفنا! أليس كذلك؟ سوف يكون عمري ستين سنة وابني عمره تسع عشر سنة أو خمس عشرة سنة إذا أنجبت مُتأخِّراً، ما هذه المُشكِلة يا أخي؟ أربعون سنة سن الزواج، والله كارثة يا أخي، كارثة! أنا أحسد الناس الذين تزوَّجوا في العشرين، ما شاء الله يكون الواحد منهم عمره أربعين سنة وابنه طوله، وإذا متَّعه الله بالشباب يُقال له هل هذا أخوك الصغير أو أخوك الوسط؟ فيقول لا، ابني هذا، ما شاء الله! شيئ جيد والله العظيم، يقف معك ويشد حيلك وينصرك حتى في دعوتك وفي دينك ويحمل العلم عنك، جيد جداً الزواج المُبكِّر بصراحة، والله نعمة ويُحصِّن الشاب، أنا كنت عازباً وجرَّبت، والله العظيم أنا – يعلم الله – كثيراً ما أدعو لإخواني، أدعو لإخواني من تَلاميذي وما إلى ذلك العزاب، يعلم الله كيف أُفكِّر فيهم ولله الحمد والمنة، أدعو لهم وأنام، أقول أعانهم الله، أخاف عليهم لأنني لا أُقيسهم على نفسي، أنا عندي زوجتي ورجل مُحصَّن، ليس عندي مُشكِلة، لكن هم عزاب، أقول أعانهم الله، يخرجون ويرون كذا وكذا، أعانهم الله، حفظهم الله، أعفهم الله، أدعو لهم – الحمد لله – في رمضان وفي غير رمضان، لأنني أُقدِّر ما هم فيه، كما قيل فراش العازب من نار، وأحسد نفسي على السعادة التي فيها, أنا ليس عندي مُشكِلة والحمد لله، لكن الواحد منهم أكيد عنده مُشكِلة، أليس كذلك؟ فهذا بسبب مَن؟ بسبب السرّاق والنهّاب الذين نهبوا أموالنا وتركوا شبابنا عزّاباً إلى الأربعين، ويتبغدد بالأموال بعض الزنادقة والسرّاق اللصوص، يُقال هذا عنده سبعة مليارات وهذا عنده سبعة عشر ملياراً، كل هذا من أموال الأمة، فحسبنا الله ونعم الوكيل، لذا الإسلام لا يبدأ بهذه الأشياء، يبدأ بها بعد أن يُبنى المُجتمَع.
قال فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ۩، باختصار حتى لا نُطيل في الْكَافِرُونَ …۩ الظَّالِمُونَ …۩ الْفَاسِقُونَ …۩، هذه الآيات وإن نزلت في بني إسرائيل تنطبق – كما قلنا – علينا، مَن فعل منا مثل فعلهم انطبقت عليه هذه الآيات، باختصار إذن كيف؟ انتبهوا! قال ابن عباس وقال غيره مَن جحد حُكم الله – تبارك وتعالى – فقد كفر، هو قال الْكَافِرُونَ …۩ الظَّالِمُونَ …۩ الْفَاسِقُونَ …۩، أليس كذلك؟ ومَن لم يجحد الحُكم ولكنه عدل عنه لهوى نفس أو عصبية أو رشوة أو ضعف أو كذا فهو ظالم وفاسق، هل فهمتم؟ أي بحسب ذنبه أيضاً، ويبدو أنها مُتدرِّجة نزولاً، أغلظها الكفر ثم الظلم ثم الفسق، هل هذا واضح، فبحسب الذنب إذن، وكذلك هذا نقوله في الحكّام المُسلِمين الآن وفي القُضاة وفي أي واحد، إذا عدل عن حُكم الله إنكاراً له وجحوداً – كأن يقول لك أنا غير مُقتنِع بحد السرقة أصلاً، غير مُقتنِع به وهو حد وحشي – نقول له كفرت، أنت كافر، ولو كنت في دولة إسلامية تُستتاب وإلا أُقيم عليك حد المُرتَد، هذا كان أولاً، ثانياً قد يقول آخر أنا مُقتنِع بأن هناك كذا وكذا لكن بصراحة هم رشوني وأعطوني مالاً فلم أُطبِّق الحد هذا، نقول له أنت ظالم، ظلمت نفسك، هو لم يُطبِّق العدالة لكنه ليس كافراً، أليس كذلك؟ هل فهمتم؟ لا نُكفِّره بالعمل، نحن لا نُكفِّر بالعمل، نُكفِّر بالاعتقاد أو عمل يعود إلى اعتقاد، يُشعِر بالاستهزاء أو بالجحود أوبالنُكران أو بالتجديف، وإلى آخره! وكذلك في الآية الثالثة، هذا من أعدل الأقوال، وصح عن طاوس وعن عطاء – وأيضاً هذا رواه ابن جرير – عن ابن عباس أنه قال كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق، يُوجَد كفر أحياناً يكون كفراً بالنعمة، أليس كذلك؟ ليس كفراً مُخرِجاً عن المِلة، انتبهوا! سُميَ كفراً للتغليظ، لكي نخاف من الذنب، وهكذا!
۞ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ۞
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ۩، واضح جداً جداً، عين تُفقأ بعين، سن تُنزَع بسن، أنف يُجدَع بأنف، نفس تُقتَل بنفس، وإلى آخره.
وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۩، كيف وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۩؟ يُقتَص جُرح بجرح، جرحه فيُجرَح، وهكذا! في أي مكان، روى الإمام أحمد أن رجلاً طعن آخر بقرنٍ – أي قرن حيوان استخدمه كالسكين – في الركبة – ضربه في ركبته – فقال يا رسول أقدني، ضربني في ركبتي! قال له حتى تبرأ، هذه قاعدة فقهية مُهِمة جداً فاحفظوها، لا تُقتَص الجروح إلا بعد البرء، لماذا إذن؟ لكي يكون القصاص كاملاً، أحدهم – مثلاً – ضربك وأنت الآن تظن أن الجُرح عادي، لكن يُمكِن أن تتسبَّب الضربة في شلل الركبة، أليس كذلك؟ يُمكِن أن تُحدِث له مُشكِلة كبيرة، فأنت ينبغي أن تجرحه بعد ذلك جُرحاً يُعادِل جُرحك، يغلب على ظنك أنه سيُسبِّب له نفس العاهة، لا تجرحه جُرحاً عادياً، فتُشَل أنت وهو يمشي ويجري كأنه في ماراثون، فالقاعدة الفقهية أن الجروح لا تُقتَص إلا بعد البرء لهذا الحديث فاحفظوه، حديث لطيف! فقال له يا رسول الله أقدني، فقال له حتى تبرأ، ذهب ورجع له بعد ذلك قائلاً يا رسول الله أقدني، قال له سأقدك تعال، فأتى به وقال له اضربه فضربه، الرجل الثاني بعد أيام شفيَ، أي الجارح كما يُسمونه، الجارح شفيَ وهذا المسكين عرج، أي صار أعرج، حدثت له مُشكِلة أو إصابة – Infection – شديدة، فقال له يا رسول الله عرجت، قال له أبعدك الله وبطل عرجك، قال له أنا قلت لك انتظر حتى تبرأ ومع ذلك أتيت لي وقلت أقدني أقدني، قال له أبعدك الله، أي لا أقامك الله، والنبي قال له هذا طبعاً لأنه عصاه، قال له أمرتك بكذا وكذا فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك، أي هدر! لن نقول له تعال فنحن نُريد أن نُعرِّجك أو سنضربك لكي نُعرِّجك، لا! انتهى الأمر وضاع عليك، فهذه قاعدة أُخِذت منها أحكام فقهية – ما شاء الله – كثيرة جداً جداً.
فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۩، إذن قال فَمَن ۩، مَن لفظ من ألفاظ العموم، تعود على مَن؟ على المجروح وليس على الجارح، فإذا المجروح تصدَّق بجُرحه فهو كفارةٌ له، لمَن لَّهُ ۩؟ أيضاً للمجروح أيضاً، (ملحوظة) قال أحد الحضور للجارح، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا، كيف تكون للجارح؟ على أي أساس؟ أنا أتصدَّق والله يُكفِّر ذنوبه هو أيضاً؟ ومع ذلك هذا مُمكِن، لكن لماذا الأول أصح؟ في حديث أيضاً قال – صلى الله عليه وسلم – مَن أصابته في جسمه جراح فتصدَّق بها كفَّر الله عنه من الذنب مثلها، إذن مَن الذي كُفِّر له؟ المجروح طبعاً، وبعضهم قال غير ذلك انتبهوا! نحن عرفنا القول الأقوى – هذا هو الأقوى – لكن هناك أُناس قالوا تكون صدقة للجارح وكفارة للمجروح، أخذوا هذا بظاهر الآية وغفلوا عن الحديث، لكن الحديث أوضح حقيقةً، أوضح وأعدل! أنا الذي أتصدَّق وما إلى ذلك، فهي صدقة – قالوا – للجارح وكفارة للمجروح أو صدقة للطالب وكفارة للمطلوب، هكذا يُعبِّرون: جارح ومجروح، طالب ومطلوب، لكن ما معنى كفارة بحسب المعنى الثاني؟ أن الله – عز وجل – لن يُؤاخِذه، كأن أيضاً اقتُص منه لأنه تصدَّق، فهذا الرأي موجود لكن الأول أقوى!
وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ۩، الآية واضحة.
۞ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ۞
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ۩، ما ما معنى وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم ۩؟ أتبعنا، التفقية هي الاتباع، وَقَفَّيْنَا ۩ أي أتبعنا، بعد هؤلاء الأنبياء من بني إسرائيل أيضاً بعثنا عيسى.
مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۩، الصدق بمعنى التصديق، ولذلك فعلاً هو لم يأت لكي ينقض ناموس موسى، جاء ليُقيم الناموس، لكن المشهور عند علمائنا أن عيسى في إنجيله نسخ بعض شريعة التوراة، هذا صحيح والقرآن قال هذا، وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۩، أي أنه أشار إلى هذا السبب.
وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ۩، هذا سبق أن تحدَّثنا عنه، وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ۩، هنا الموعظة صارت بمعنى الزرج، حين يقول وَهُدًى وَمَوْعِظَةً ۩ الهُدى معروفة لكن الموعظة ماذا يصير معناها؟ الزجر عن المنُكرَات، فالهُدى تكون إلى المبرات والموعظة تكون زجراً عن المُنكَرات، قال وَهُدًى ۩ أي إلى المبرات وَمَوْعِظَةً ۩ أي مزجرة أو زجراً عن المُنكَرات.
۞ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۞
قال وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۩، اللام هنا في قوله وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ ۩ لام ماذا؟ لام الأمر “اللام ساكنة”، ولذلك هي جُزء من الفعل، وقُريء ولِيحكم أهل الإنجيل “بكسر اللام”، فاللام لام ماذا؟ لام كي، أي لكي، ولكي يحكم، نحن بعثنا عيسى وبعثنا معه الإنجيل لكي يحكموا به، فعندنا قراءتان: وَلْيَحْكُمْ ۩ “بتسكين اللام” ولِيحكم “بكسر اللام”، أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۩.
۞ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ۞ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ۞
قال وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ۩، سبق أمس تفسير بِالْحَقِّ ۩، ما معنى بِالْحَقِّ ۩؟ مُلتبِساً بالحق، هذا الإنزال مُلتبِساً بالحق، لأنه حق من عند حق، مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ۩، من التوراة والإنجيل، وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۩، ما معنى هيمنة القرآن على التوراة والإنجيل؟ قيل وَمُهَيْمِنًا۩ بمعنى أنه أمين، القرآن أمين على التوراة والإنجيل، يُحِق الحق فيهما ويُبطِل الباطل، يُظهِر حقيقتهما بأمانة، وقيل وَمُهَيْمِنًا۩ بمعنى شاهد، يشهد لهما وعليهما أيضاً، أن هذا هو الحق وهذا الباطل فيهما، مُحرَّف! أليس كذلك؟ والقرآن كشف عن هذا فعلاً، وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۩ الله قال في سورة المائدة، وهكذا! وقيل أخيراً – هناك ثلاث معانٍ – حاكماً، فالقرآن حاكم، وبالمُناسَبة هذا المعنى أنتم ترونه أنه أنسب بالهيمنة، أليس كذلك؟ حين نقول فلان مُهيمن على فلان ماذا يكون المعنى؟ حاكم، له الحُكم عليه، له السيطرة، أليس كذلك؟ له السيطرة، فقيل القرآن مُهيمن بمعنى حاكم، ماذا يُفهَم من سيطرة القرآن أو حُكم القرآن وهيمنته على القرآن والإنجيل؟ ماذا يُفهَم من هذا؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور النسخ فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، النسخ! فهو عنده القدرة حتى على أن ينسخ أشياء فيهما، وهذا موجود! وهناك أشياء كثيرة في شريعة اليهود والنصارى نُسِخت بكتاب الله، لأنه هو الشريعة الجامعة والنُسخة الآخرة، آخر نُسخة، لا يُوجَد غيرها.
نكتفي بهذه الآية إذن والتي بعدها، قال فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۩، قال ابن عباس هذه نسخت الحُكم بالتوراة، انتهى! قال بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۩، ما معنى الآية هذه؟ وفي الآية التي بعدها ماذا قال له؟ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۩، إذن قال له وَاحْذَرْهُمْ ۩، نفس المعنى! قال وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ ۩ وقال وَاحْذَرْهُمْ ۩، لماذا؟ جاء ثلاثة من اليهود – كعب بن أسد، عبد الله بن صوريا، ورجل اسمه ابن شاس، ثلاثة من أحبار اليهود الكبار – وقالوا يا محمد أنت تعلم أننا أحبار اليهود وكبارهم وأشرافهم وأننا إن اتبعناك اتبعوك وصدَّقوك وإن أعرضنا عنك أعرضوا عنك وتركوك، أي أن لنا أهمية كبيرة، فقال لهم إذن ماذا تُريدون؟ قالوا وقعت بيننا خصومة فنرى أن تحكم لنا على قومنا، قالوا هذا من غير أن حتى يقولوا له ما هي الخصومة، أي أنهم قالوا له نحن نشترط عليك لكي نتبعك أن تجعل الحق معنا، حتى لو كنا مُبطِلين احكم لنا على قومنا، فأبى النبي عليهم ذلك، قال لهم لا، تُسلِموا أو لا تُسلِموا في ستين جهنم، لا يُمكِن، كيف أحكم بالباطل؟ على أي أساس؟ كيف أفعل هذا لكي تتبعوني؟ وهؤلاء الخبثاء لم يأتوا أصلاً بهذه النية، لماذا هم أتوا؟ لكي يستزلوا النبي، يُريدون أن يضلوه، سُبحان الله! ولو حكم لهم لقالوا له لن نُؤمِن، ليس هذا نبي، والنبي لا يكون كذلك، وأنزل الله هذه الآيات في هؤلاء الثلاثة الملاعين لعنة الله عليهم إلى يوم الدين.
قال له وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۩، المنهاج هو الطريق، وما معنى الشرعة؟ السبيل، الشرعة هي السبيل، يُقال شرعة الماء، وهناك المشرعة، ما المشرعة والشرعة؟ الطريق التي تُودي بك إلى البئر، اسمها الشرعة والمشرعة، مشرعة الماء وشرعة الماء هي الطريق التي تُودي أو تُوصِل أو تتأدى أو تُؤدي إلى الماء.
وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ۩، ما معنى أُمَّةً وَاحِدَةً ۩؟ مِلة واحدة، على شريعة واحدة، لو شاء! هو قادر على ذلك، وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۩، إذن قال لِّيَبْلُوَكُمْ ۩، أي ليختبركم، فِي مَا آتَاكُم ۩ ما معناها؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور الكُتب، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، أي في هذه الكُتب وفي هذه الشرائع المُتعدِّدة، اختبار! اختبار اليهود والنصارى كيف يتم؟ لكي نفهم الآية على وجهها نُريد أن نعرف كيف يتم؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور إن هذا يكون بتحكيم شرعهم، فقال الأستاذ الدكتور هل يُحكِّمون التوراة والإنجيل حقاً؟ ومن أهم ما يجب أن يُحكَّم فيهما ما هو؟ اتباع النبي المُبشَّر به، وهم لم يفعلوا ذلك، أليس كذلك؟ هم لم يفعلوا ذلك، هذا ابتلاء وهم سقطوا في الابتلاء، أمة محمد عندها نفس الشيئ أيضاً، نحن مُبتَلون بهذا الكتاب، هذا الكتاب ليس فقط نعمة، فهو أيضاً اختبار لنا، اختبار لكل أمة محمد، هل نصدر عنه ونحكم به ونتحاكم إليه أم نصد عنه ونُصِد عنه – والعياذ بالله نصد في أنفسنا ونصد غيرنا أيضاً – كبعض المُنحرِفين؟
قال وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۩، واضحة، إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ۩، أي يوم القيامة، وَاللَّهُ – تبارك وتعالى – يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ۩.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أضف تعليق