التفريغات النصية, تفسير القرآن الكريم, دروس التفسير, صوتيات

دروس تفسير القرآن الكريم – الدرس الثامن عشر – تفسير سورة النساء من الآية الثانية والتسعين إلى الآية السابعة والعشرين بعد المائة

9 ديسمبر، 2009

57 مشاهدات

الدرس الثامن عشر
تفسير سورة النساء من الآية الثانية والتسعين إلى الآية السابعة والعشرين بعد المائة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأمين وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً.

۞ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ۞

أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يقول الله – تبارك وتعالى – في كتابه العزيز من سورة النساء وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا ۩، الآية الكريمة فيها استثناء أيضاً واضح أنه مُنقطِع أيها الإخوة، قال وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ۩، أي ليس من شأن المُؤمِن أن يقتل أخاه المُؤمِن، ولكن مَن قتل أخاه المُؤمِن خطأً فهذه قضية أُخرى وسيُفصِّل الله – تبارك وتعالى – ما عليه من تبعة في ذلك، فالاستثناء مُنقطِع هنا وليس مُتصِلاً، قال وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا ۩.

وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۩، سبب نزول هذه الآية يتعلَّق بعيّاش بن ربيعة رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، وتعلمون أن عيّاشاً كان أخاً لأبي جهل – لعنة الله تعالى على أبي جهل – من أمه، كان أخاً له من أمه، وكان رجل من المُشرِكين يُدعى بالحارث بن يزيد العامري يُعذِّب عيّاشاً وأخاً له في مكة، فقط كان عيّاش من المُستضعَفين، في الحديث المُخرَّج في الصحيحين عن أبي هُريرة يقول: قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في صلاة الفجر بعد أن قال سمع الله لمَن حمده اللهم أنج عيّاش بن أبي ربيعة، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أشدد وطأتك على مُضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يُوسف، فكان من المستضعَفين الذين يُفتَنون في دينهم وما فُتِن بحمد الله تبارك وتعالى، فأسرها عيّاش للحارث بن يزيد هذا الذي كان مُشرِكاً، رضيَ الله عنه لأنه أسلم بعد ذلك، فبعد ذلك يسَّر الله للحارث بن يزيد العامري أن أسلم ولم يشعر به عيّاش، لم يشعر عيّاش أنه أسلم وهاجر، فلما كان فتح مكة رآه عيّاش فهوى إليه فقتله، لكن القتل هنا كان خطأً، هو لم يكن يعلم أنه أسلم وهاجر، لم يكن يعلم فقتله، فقيل له يا عيّاش قتلت مُسلِماً! فأنزل الله الآية وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا ۩، لكن مَن قتل خطأً فهذه مسألة أُخرى، وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا ۩ عليه الآن أمران: الأمر الأول كفّارة والأمر الثاني دية، إذن الأمر الأول كفّارة، كفّارة لتمسح ما بينه وبين الله، والأمر الثاني دية لتُطيِّب أهل القتيل بما فقدوا من قريبهم، قال وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۩، ولا يُجزئ في كفّارة القتل الخطأ إلا مُؤمِنة، في كفّارة الظهار لم يذكر تقييدها بمُؤمِنة، وهذا معروف وفيه مبحث طويل عند الأئمة المتبوعين، على كل حال في الحديث أن رجلاً من الأنصار أتى بأمةٍ له وقال يا رسول الله إن علىّ عتق رقبةٍ مُؤمِنة، فإن رأيت هذه مُؤمِنة أعتقتها، فامتحنها النبي عليه الصلاة وأفضل السلام، قال لها يا فلانة أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت نعم، قال أتشهدين أني رسول الله؟ قالت نعم، قال أتُؤمِنين بالبعث بعد الموت؟ قالت نعم، قال إنها مُؤمِنة فأعتقها، هذا رواه أحمد وغيره.

قال فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ ۩، وهذه الدية تُخمَّس أخماساً كما في السُنن والمُسنَد وغيره، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – يلزم في دية القتل الخطأ عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض – أي ذكر – وعشرون بنت لبون وعشرون جذعة وعشرون حقة، هذه أوصاف مُعيَّنة يُمكِن أن نعرض لها في سورة الأنعام إن شاء الله تبارك وتعالى، كلها تتعلَّق بالأسنان، إذا انتهى من الثانية ودخل في الثالثة يُسمى ابن لبون مثلاً، وهكذا! إذا أنهى الرابعة ودخل في الخامسة يُسمى الجذعة، والمخاض هو الفصيل الذي فُصِل عن أمه وصار لها لبن، المُهِم هذه أشياء سوف نُفصِّلها في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى، فهي تُخمَّس أخماساً، قال إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ ۩، أي إلا أن يُسقِطوا حقهم في هذه الدية، فلا بأس، أي فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ۩.

فَإِن كَانَ ۩، أي هذا المقتول المُؤمِن، مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ۩، هنا بالمنطق لا يُعطون دية، لماذا نُعطي هؤلاء الحربيين؟ عَدُوٍّ لَّكُمْ ۩ أي كفّار ليس بيننا وبينهم عقد هُدنة أو ذمة، إذن هم حربيون، إذن لا عصمة لدمائهم وأموالهم، كيف نُعطيهم دية يتقوون بها على قتالنا؟ إذن بالمنطق الشرعي هنا لا نُعطيهم دية، يلزم فقط ماذا؟ الكفّارة، أي عتق رقبة مُؤمِنة، قال فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۩، لأن الشارع الحكيم مُتشوِّف إلى عتق الرقاب.

قال وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ۩، انظر إلى العدل الإلهي، سُبحان الله، لماذا؟ لأنهم كفّار، صحيح أنهم مُعاهَدون لكن تأميلهم إلى الدية، وقدَّمنا لكم أيها الإخوة في المُعاهَد أنه يجوز بالبناء إلى الفاعل والبناء إلى المفعول، لأن كل مُعاهِد هو مُعاهَد وكل مُعاهَد هو مُعاهِد، أليس كذلك؟ فلو سمعت شيخاً يقول مُعاهَدون أو مُعاهِدون اعلم أن هذا صحيح، لا تُوجَد مُشكِلة، مُعاهَد أو مُعاهِد نفس الشيئ، على كل حال لأن هؤلاء المُعاهَدين أو الذميين إنما نظرهم وغاية تأميلهم في الدية، فقدَّمها الله تبارك وتعالى، قال فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً ۩، دقة عجيبة! هذه الدية هل تلزم أو تُعصَب بجبين القاتل؟ لا، إنما هي معصوبة بجبين مَن؟ العاقلة، أي العصبة، لما في الصحيحين أيضاً – في البخاري ومُسلِم – من حديث أبي هُريرة رضيَ الله عنه وأرضاه ورضيَ الله عن الشيخين، قال اقتتلت امرأتان من هُذيل أو اختصمت امرأتان من هُذيل – هُذيل قبيلة عربية مشهورة – فضربت إحداهما الأُخرى بحجر في بطنها وكانت حاملاً فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الجنين غُرةً، أي عبدٌ أو أمة، ما الغُرة؟ عبد أو أمة، هذا في الجنين، وأما المرأة ففيها دية، وهي على النصف من دية الرجل كما تعلمون، على النصف من دية الرجل! لكن على مَن؟ قال على عاقلتها، عاقلة مَن؟ القاتلة، أي على عصبة القاتلة، صعب جداً أن إنساناً يتحمَّل دية واحدة، أمر مُغرِم جداً ومُفظِع.

قال فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ۩، أي لا يتخلَّلهما ماذا؟ إفطار، فإن أفطر في اليوم التاسع والخمسين استأنف من جديد إلا أن يُفطِر لعذر شرعي كحيض أو نفاس أو مرض، والسفر مُختلَف فيه، تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ۩.

۞ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ۞

وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ۩، الله أكبر! وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ۩، لا إله إلا الله! قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخرجه أبو داود لا يزال المُؤمِن مُعنِقاً ما لم يُصِب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلَّح، حديث عجيب! وانظر إلى البلاغة التي فيه، قال لا يزال المُؤمِن مُعنِقاً، ما معنى مُعنِقاً؟ من الإعناق والعنق أيضاً، سيري عنقاً وسير الإعناق وهو سيرٌ وسيعٌ سريعٌ، هذا الإعناق، يُقال سار العنق وسار الإعناق وأعنق في سيره، بمعنى سار سيراً وسيعاً سريعاً، أي فسيحاً وسريعاً، كناية عن ماذا إذن هذا؟ المُسلِم أو المُؤمِن يسير سيراً فيه إعناق، يُعنِق! لا يزال مُعنِقاً، أنه خفيف الحمل، أي مهما ارتكبت من ذنوب أنت في سعة، انظر إلى البلاغة النبوية، شيئ عجيب يا أخي، هذا شيئ غريب، انظر إلى البلاغة العجيبة، صلى الله على مُعلِّم الناس الخير وعلى أفصح مَن نطق بالضاد القرشي الهاشمي المُطلبي العدناني عليه الصلاة وأفضل السلام، شيئ فعلاً غريب، أي كناية عن خفة حمله، أي مهما ارتكب من ذنوب أُخرى مُمكِن – إن شاء الله – أن تبقى خفيفة عند الله إلا الدم، الدم الحرام! قال فإذا أصاب دماً حرام بلَّح، يُقال بلَّح وبلَح والتخفيف فيه قليل، أي قليل ما يُقال بلَح لكنه موجود، الأفصح والأكثر بلَّح، هذا رواه أبو داود، ما معنى بلَّح؟ أي أُعيي وتعب، لا يقدر على السير بعد ذلك، انتهى! يسير سيراً خفيفاً جداً، يُمكِن أن ينقطع دون الجنة، أرأيتم؟ هذا معناها، يُمكِن أن يقطع دون النجاة، يُمكِن أن ينقطع دون السلامة، نسأل الله السلامة من الدماء والأعراض والأشربة والأموال وحقوق العباد وتبعاتهم، لكن أخطر شيئ القتل والعياذ بالله، شيئ مُخيف!

وقد كان الحبر البحر – رضوان الله تعالى عليهما – يرى ألا توبة للقاتل عمداً، ابن عباس هذا مذهبه وهو مات عليه، وليس عندنا خبر صحيح أنه رجع عنه، بل المشهور عنه أنه ظل عليه وكان يُؤيده دائماً بأدلة كثيرة، هذا ابن عباس! وليس بالضعيف مذهبه، صحيح يُخالِف الجمهور – ونحن مع الجمهور لأن المنصور ما عليه الجمهور – ولكن عنده أدلة قوية، هذا ابن عباس! كان يقول مَن قتل مُؤمِناً عمداً فلا توبة له، سألوه يا أبا العباس فإن تاب؟ قال وأنى له التوبة؟ رجل قال له فإن تاب واهتدى؟ قال له وأنى له التوبة والهُدى؟ أتقتل مُؤمِناً مُتعمِّداً ثم تقول لي إنك ستتوب؟ لا تُوجَد توبة ابن عباس قال له، اذهب فأنت انتهيت، عجيب! كيف إذن؟ سوف نرى!

أخرج البخاري حديثين مشهورين عن الحبر في صحيحه في كتاب التفسير، إذا عُدتم إلى صحيح البخاري سوف تجدونهما في كتاب التفسير، وذلك في تفسير سورة النساء عند هذه الآية وفي تفسير سورة الفرقان عند آية وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۩ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ۩ ثم استثنى بعد ذلك، قال إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩، وسوف نأتي إلى الآية، فسعيد بن جُبير – هذا من تَلاميذ ابن عباس، كان يتلقى عنه، وقد قتله الحجّاج عليه من الله ما يستحق – يقول فيما أخرجه البخاري في تفسير سورة النساء من صحيحه اختلف أهل الكوفة في هذه الآية فأرسلوني إلى ابن عباس فجئته فسألته فقال هي آخر ما نزل، لم ينسخها شيئ، هذه الآية – آية النساء – آخر ما نزل، ما معنى قوله آخر ما نزل؟ (ملحوظة) أجاب أحد الحضور قائلاً إنها آخر ما نزل في هذا الموضوع، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، ثم استتلى قائلاً في هذا الموضوع – انتبهوا – وليس بالإطلاق، في قضية القتل وتوبة القاتل وعدم توبته آخر ما نزل آية النساء، لأنها مدنية، أي النساء! وهي من آخر ما نزل في هذا الموضوع، بل قال آخر ما نزل، قال ولم ينسخها شيئ، فهي حاكمة على ما عداها، الحديث الآخر في تفسير سورة الفرقان من صحيح البخاري أيضاً عن سعيد بن جُبير، يقول بعثني عبد الرحمن بن أبزى – وتعرفون عبد الرحمن بن أبزى، كان مولى من موالي العرب، وأصبح في يوم من الأيام أميراً على مكة، المُهِم له قصة مع سيدنا عمر مشهورة، حتى قال عمر صدق رسول الله، إن الله ليرفع بهذا القرآن أقواماً ويخفض به آخرين، فهو كان من الموالي لكنه عالم كبير ورجل جليل وله سيادة وسؤدد – إلى ابن عباس في هاتين الآيتين أن أسأله فيهما، أي عنهما، الآية الأولى هذه هي، قال آية إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩، ما هذه؟ هذه آية الفرقان، أليس كذلك؟ الله قال في صفات عباد الرحمن وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۩ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ۩، انظر إلى هذه، حتى هنا يُوجَد استثناء، المفروض تُقرأ فيه مُهاناً، إلا هذا الموضع تُقرأ فيييه مُهاناً، القرآن فيه شيئ عجيب، لماذا بالذات هذا الموضع تُقرأ فِيهِ مُهَانًا ۩ بمد هاء الضمير على غير القاعدة؟ القاعدة أن تُقرأ فِيهِ مُهَانًا ۩ بشكل عادي، أليس كذلك؟ لماذا نقرأها فِيهِ مُهَانًا ۩ بمد هاء الضمير؟ لكي يُصوِّر لنا كيف أنه مُوبَق في نار جهنم والعياذ بالله، يتدلى فيها، مُتغمِّق فيها وفي دركاتها، يخلد فِيهِ مُهَانًا ۩، هكذا تُقرأ على غير القاعدة، ثم يأتي الاستثناء: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩، قال الحبر – رضوان الله تعالى عليه – هذه في المُشرِكين، أي أن هذه ليست في المُسلِمين، هذه في أهل الشرك الذين فعلوا هذه الأشياء وبعد ذلك تابوا، فالله سوف يتقبَّل منه، قال ثم سألته عن آية النساء، أي عن هذه: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ۩، فقال هذه آخر ما نزل ولم ينسخها شيئ، ولذلك الحافظ رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة – حين نقول الحافظ هكذا بالإطلاق مَن نقصد؟ ابن حجر، حين نقول الحافظ خاصة إذا تكلَّمنا عن البخاري وشرحه فإننا نقصد ابن حجر، هذه عادة العلماء، إذا قالوا الحافظ يُفهَم من كلامهم أنهم يتحدَّثون أو يعنون الإمام ابن حجر قدَّس الله سره كريم، وهو شارح البخاري، أي فتح الباري – تحصَّل لديه أن موقف ابن عباس يُمكِن أن يُفهَم من زاويتي نظر، الزاوية الأولى أنه جعل الآيتين ذواتي موضوع واحد، حملهما على محمل واحد، فجعل آية النساء الناسخة لآية الفرقان، إذن ناسخ ومنسوخ! المحمل الثاني أنه جعل الأولى في المُشرِكين وجعل الثانية في المُسلِمين، هذه شيئ وهذه شيئ.

بالمُناسَبة أيها الإخوة نبَّهنا في دروس قديمة من فترة – من سنوات بعيدة – أن من سُنة الأسلاف الصالحين وخاصة ابن عباس والصحابة والتابعين وحتى بعض أئمة الدين المتبوعين أنهم يستخدمون النسخ أحياناً بإزاء التخصيص، انتبهوا! الفرق بين النسخ والتخصيص معروف، يُوجَد ستة فروق في الأصول بين النسخ والتخصيص، موجودة في كتب الأصول على كل حال، هذه من اصطناع المُتأخِّرين من علماء أصول الفقه، لكن المُتقدِّمين كانوا يُعادِلون بين النسخ والتخصيص في أحايين كثيرة، فإذا قالوا هذه نسخت هذه يُطلِقونه بإزاء ماذا؟ التخصيص، إذن لو نحن قلنا الآية الأولى في نفس موضوع الآية الثانية فالآية الأولى فيها عموم، أليس كذلك؟ يُوجَد عموم، أي أن التوبة مُصحَّحة من الشرك ومن القتل والزنا، الآية الثانية استثنت القتل، قالت لا، إلا القتل! الذي يقتل مُؤمِناً مُتعمِّداً هذا جزاؤه ما ذُكِر هنا، ابن عباس هكذا فهم، وبالمُناسَبة يُؤيد مذهب ابن عباس – رحمة الله عليه رحمة واسعة وعلى أبيه عم رسول الله – أحاديث كثيرة، أحاديث موجودة كثيرة، منها ما روى أحمد والنسائي عن مُعاوية بن أبي سُفيان – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول كل ذنب عسى الله أن يغفره – وتعلمون أن عسى من الله مُوجِبه، وهذه من كلمات الحبر أيضاً، كلما قرأتم في القرآن الكريم عسى – مثل فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ۩ – يكون معناها ماذا؟ إن شاء الله هذا سيحصل، لأن عسى من الله مُوجِبة، هذا تعبير ابن عباس – إلا الرجل يلقى الله مُشرِكاً وإلا الرجل يقتل المُؤمِن مُتعمِّداً، قال النبي لا، هذا لا يُغفَر، هذا حديث إسناده صحيح كما قال الحافظ ابن كثير، حديث مثل هذا بإسناد صحيح يُؤيد مذهب ابن عباس أو لا يُؤيد؟ يُؤيد، شيئ عجيب! ابن عباس هذا، ترجمان القرآن الكريم، لكن هل مذهبه نقول به؟ لا، نحن مع الجمهور كما قلنا، لأن جماهير الصحابة – أي كل مَن عدا ابن عباس – وجماهير التابعين وفقهاء الأمصار والأئمة المتبوعين و و و و و وإلى آخره إلى اليوم على تصحيح توبة القاتل، القاتل له توبة إن شاء الله تعالى، إن تاب توبة حقيقة – وهذا لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى – فتوبته – إن شاء الله مُصحَّحة مقبولة إذا شاء الله – تبارك وتعالى – أن يقبلها، هل هذا واضح؟ إذن نحن على تصحيح على توبة القاتل، كيف نفعل إذن؟ نُريد أن نُجيب عن هذه الأشياء، لابد أن نُجيب!

أبو هُريرة كان مذهبه طبعاً ضد مذهب ابن عباس، وهو مذهب سليم جداً جداً، ماذا كان يقول؟ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ۩، هذا جزاؤه إن جازاه، انظر إلى أي درجة بلغ الفهم أيضاً والعمق، يقول هذا جزاؤه إن جازاه، ماذا يُريد بهذا الكلام؟ يُريد أن الله قال في آية أُخرى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ۩، فدخل في عموم مَا دُونَ ذَلِكَ ۩ القتل، أليس كذلك؟ فقال إذا أراد الله أن يُجازيه فهذا جزاؤه، لكن يُمكِن ألا يُجازيه، يُمكِن أن يغفر له، لأنه قال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ۩، وهذا فهم سديد، إذن الكلمة هذه لابد أن نفهمها على وجهه، يقول هذا هذا جزاؤه إن جازاه، ما معنى الكلام هذا؟ هذا معناه، حين نُفسَّر كلام أبي هُريرة قرآنياً نجد أن هذا معناه، معناه أنه يتشبَّث بآية المغفرة التي عمَّمت المغفرة إلا باستثناء الشرك، وهناك آية الزُمر التي عمَّمت حتى الشرك مع التوبة إذن، إذن لابد من التوبة، لو تاب حتى من الشرك يغفر الله طبعاً، وكثير من الصحابة كانوا مُشرِكين وتابوا وتاب الله عليهم، وهذه مسألة طويلة جداً.

على كل حال من أقوى حُجج مَن صححوا توبة القاتل حُجة عقلية ذكرها صاحب النظر الفسيح العلّامة ابن عاشور رحمة الله عليه، ما هي؟ قالوا لو كان ذلك كذلك لكان الشرك أخف مؤنة من القتل العمد، ولذلك معناها – والعياذ بالله – مثل هذه الفتوى تُغري الناس القتلة الذين قتلوا مُؤمِنين عمداً أن يكفروا بالله، يُشرِكوا ولو لساعة ولو لحظة، يُشرِك الواحد منهم ثم يتوب، أليس كذلك؟ فيصير إلى الصفر، يرجع إلى الصفر، ثم يتوب فيتوب الله عليه، ثم يرجع ويستأنف من جديد إذا كان الأمر كذلك، هذا أفضل له بصراحة، هذا الكلام معناه خطير، لو قلت لواحد ليس لك توبة قد يقول لك ماذا لو – لا قدَّر الله – كفرت؟ لو صبأت عن الإسلام وكفرت وبعد ذلك رجعت هل لي توبة؟ عشرات الآيات تقول نعم لك توبة، عشرات الآيات! سوف يقول لك إذن سوف أكفر، سوف أكفر لكي ينتهي كل شيئ ثم نرجع من جديد، فهذا إغراء للناس بالكفر، أليس كذلك؟ ولذلك المنصور ما عليه الجمهور، والصحيح تصحيح توبة القاتل عمداً وهو مذهب الجماهير، أليس كذلك؟ يدل عليه الحديث الذي أخرجاه في الصحيحين، حديث الذي قتل تسعةً وتسعين نفساً ثم جاء وسأل عابداً فقال له كيف هذا وما إلى ذلك فتم به المائة، لم يُعطه توبة وقال له لا، أقتلت تسعةً وتسعين نفساً؟ فأنهى حياته، وبعد ذلك أراد أن يذهب إلى عالم – عالم فاهم وروحه عزيزة عليه لكنه كان عالماً – آخر، وقال له الأمر كذا وكذا فقال له مَن يحول بينك وبين التوبة؟ والصحيح تعرفونه وهو في الصحيحين، علماً بأن هذا الرجل من بني إسرائيل، فلئن توبة القاتل لمائة نفس عمداً مقبولة في بني إسرائيل وقد جاء محمد – صلوات ربي وتسليماته عليه – ليضع عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم – يضعها عنا – فبالحري من باب أولى وأحرى أن تكون توبة القاتل مُصحَّحة في هذا الدين وفي هذه المِلة، أليس كذلك؟ إذا كانت مقبولة عندي بني إسرائيل أتكون عندنا غير مقبولة في الحنيفية السمحة؟ غير صحيح! وهذا هو الأرجح والله – تبارك وتعالى – أعلم، لكن المُهِم أن القتل شيئ خطير جداً جداً، والقاتل لا يدري هذا كما قال أبو هُريرة، لا يدري القاتل عمداً هل قبل الله توبته أو لم يقبل، هذه المُشكِلة! هل يغفر الله أو لا يغفر؟ قال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ۩، إذا شاء تبارك وتعالى! فالقضية خطيرة، إلا القتل! قال فإذا أصاب دماً حراماً بلَّح، قال ولا يزال المُؤمِن في فُسحة من دينه ما لم يُصِب دماً حراماً، هذا بمعنى بلَّح والمُعنِق، نفس الشيئ أيضاً! ومَن أعان على قتل امرئٍ مُسلِم بشق كلمة – شطر كلمة، هو لم يذبحه وإنما أعان عليه بشطر كلمة – جاء مكتوباً على جبينه آيس من رحمة الله، ليس عنده أمل في رحمة الله، إلا القتل! وليس شرطاً القتل المُباشِر، حتى الإعانة تدخل في الموضوع، كأن تكتب تقريراً وما إلى ذلك أو تُغري واحد بآخر، انتبه! سيدنا عمر قتل أكثر من سبعة في رجل، أي في نفس واحدة، وقال والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم به، لو ألف واحد قتلوا واحداً لقتلت الألف، لأن مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ۩، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ۞

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ ۩، وقرأ ابن عباس السَلمَ، لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ۩، هذه الآية نزلت بسبب أو على سبب، وهو أن رجلاً من بني سُليم كان يرعى غنماً له فمر بجماعة من أصحاب رسول الله، فلما رآهم سلَّم عليهم فقالوا ما سلَّم علينا إلا تعوذاً، أي يُريد أن يُحافِظ على رأسه، هذا كافر ويدّعي أنه مُسلِم، فقتلوه – غفر الله لهم – ثم ذُكِرت القصة لرسول الله فأنزل الله هذه الآية، لا يجوز يا أخي، هو سلَّم عليك وهذا يعني أنه رجل مُسلِم، اتركه! نحن لنا الظاهر كما قال الشافعي، فهذا ليس حديثاً، هذا من كلام الشافعي في الرسالة، نحن لنا الظاهر والله – عز وجل – يتولى من دون خلقه السرائر، هذا من كلام الشافعي وليس حديثاً عن رسول الله والمعنى صحيح.

قال إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۩، ما هو الضرب في سبيل الله؟ السفر، أي إذا سافرتم وتحرَّكتم في الأرض، فَتَبَيَّنُواْ ۩، فتثبَّتوا، وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ ۩، أي سلَّم عليكم وهي شارة المُسلِمين وشعار المُؤمِنين، لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۩، قال ابن عباس ما هو العرض؟ هذا المغنم، الغنم الذي أخذوه، هذا أغراهم قليلاً لكي يعملوا هذه العملية، قال فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۩، أكثر من هذا، كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ۩.

ويُروى أيضاً في صحيح البخاري عن ابن عباس أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال للمقداد بن الأسود يا مقداد إن كان رجلٌ يُخفي إيمانه مع قومٍ كافرين ثم أظهر إيمانه لك فقتلته كذلك كنت من قبل تستخفي بإيمانك، وهذا سياقٌ مُختصَرٌ جداً، في البخاري هذا عن ابن عباس، مُختصَر جداً، وقد رواه وجوَّده جداً – إلى الغاية – الإمام الجليل أبو بكر البزّار رحمة الله تعالى عليه، أيضاً من رواية ابن عباس، كيف؟ انظروا إلى السياق الطويل، وفي النهاية نفس هذه القطعة أو الفقرة موجودة، قال ابن عباس بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ساريةً، وأمَّر عليهم المقداد بن عمرو، أي المقداد بن الأسود، فأتوا على قومٍ من المُشرِكين – من الكفّار الجاهليين – فهربوا – ففروا – إلا رجلاً منهم كان ذا مالٍ كثيرٍ فلم يبرح، أي يبدو أن الرجل كان فعلاً مُسلِماً، لم يخف، وعنده مال كثير وغنم وما إلى ذلك فلم يبرح، فلما جاء ألقى عليهم السلام، قال السلام عليكم، أي أنني مُسلِم مثلكم، فأهوى إليه المقداد فقتله، قال لا، أكيد هو منهم وهو كافر لكن لم يستطع أن يهرب بسبب غنمه وما إلى ذلك فأنهى حياته، فقال رجل يا مقداد قتلت رجلاً بعد أن شهد أن لا إله إلا الله؟ كيف الكلام هذا؟ قال له ما قالها إلا تعوذاً، قال له لأذكرن ذلك لرسول الله، غلط التصرف هذا منك، وفعلاً لما قدموا على الرسول ذكر له الرجل هذا، فقال ادعوا لي المقداد، يا مقداد – هكذا السياق بالضبط، هذا يعني أنهم دعوه فجاء فقال له الآتي – أقتلت رجلاً بعد أن شهد أن لا إله إلا الله؟ فكيف لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ ماذا سوف تقول لربك؟ خطيرة المسألة هذه، يا مقداد إن كان رجلٌ يُخفي إيمانه مع قوم كافرين ثم….. قال نص البخاري بالضبط، هذا هو، فهذا هو السياق، هذا هو السبب، وأنزل الله على هذا السبب هذه الآية الكريمة، قال كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ ۩، ما معنى كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ ۩؟ أي مُستضعَفين تستخفون وتستسرون ولا تستعلنون بإيمانكم كما قال الرسول للمقداد، أنت كنت هكذا أيضاً! وهذا المسكين مثلكم لأنه بين كفّار ومُستضعَف، لماذا لم تقس حاله على حالك؟ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ۩، بالظهور والاستعلان والقوة والدولة والغلبة، فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ۩، قال بعض السادة في هذه تهديد الوعيد، أي الآية، قال إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ۩، النية عند الله واضحة، ويعرف الله لماذا قتلته، هل قتلته فعلاً لأنك تظن أنه مُتعوِّذ أو طمعاً في المال؟ الله يعلم ذلك وهو خبير به، ففيها تهديد، تُخوِّف الآية، قال إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ۩.

۞ لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ۞

لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ۩، انظر إلى هذا، هذا الشطر من الآية وهذا الاستثناء – غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ۩ – نزل وحده، أي بحياله وعلى حدة، كيف؟ نزلت الآية لا يستوي القاعدون من المُؤمِنين والمُجاهِدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، هكذا نزلت!

في البخاري – هذا في البخاري، لكن هل هو في مُسلِم؟ والله نسيت الآن، على كل حال هذا في البخاري بالقطع لكن نسيت هل هو في مُسلِم أم لا – أن البراء بن عازب – رضيَ الله عنه وأرضاه – حدَّث وأن زيد بن ثابت قال نزلت هذه الآية واستكتبه إياها رسول الله، قال له اكتب، قال فكتبت، فبين أنا أكتب إذ أقبل عبد الله بن أم مكتوم – وهو رجل أعمى كما تعلمون – فقال يا رسول الله والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ولكنني لا أستطيع، ونزلت هذه الآية التي تُخوِّف، قال الله لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۩، هو يُريد الفضل، يقول زيد بن ثابت – وهو أحد الكتّاب وأحد القرّاء الكبار أيضاً – وكانت فخذي تحت فخذ رسول الله فأُنزِل عليه فثقلت حتى خشيت على فخذي أن تُرَض، لما نزل الوحي وهو ثقيل جداً جداً خشى على فخشه أن تُرَض تحت فخذ رسول الله، قال فلما سُريَ عنه أنزل الله – تبارك وتعالى – غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ۩، فقط هذه الثلاث الكلمات، اكتب غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ۩، ما معناها؟ معناها إذا كان هناك إنسان مضرور – أعمى أو أعرج أو أي شيئ، أي عنده عذر فعلاً مثل عاهة أو أي شيئ يعوقه عن القتال أن يُؤديه على وجهه – فهو – إن شاء الله – من أهل الفضل وربما لا يفضله المُجاهِد إن ثبتت وصحت له نية لما في الصحيح: لقد خلَّفتم وفي رواية إن بالمدينة أقواماً ما قطعتم من وادٍ ولا سرتم من مسيرٍ – هكذا هذا لفظ مُسلِم – إلا كانوا معكم، وفي راوية وشاركوكم في الأجر، حبسهم العذر، قالوا يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال نعم، لماذا؟ عندهم نية، المساكين يُحِبون هذا لكنهم غير قادرين، مثل الأعمى والأعرج وغير القادر والمريض مرضاً برَّح به وأشفى منه على الموت، لكن عنده النية، عنده نية أن يسير معهم، هو بنيته – سُبحان الله – معهم، فهذا يُكتَب له أنه معهم، في كل شيئ! إذا ساروا أو نزلوا في وادٍ أو طلعوا هضبة أو طلعوا نبكة، كله يُكتَب! جاهدوا وجُرِحوا أو قُرِّحوا، كل شيئ يُكتَب له مثلهم – سُبحان الله – بالنية، لذلك في حديث مشهور جداً نية المُؤمِن أبلغ من عمله، تبلغ بك أكثر من العمل حتى، نية المُؤمِن أبلغ من عمله، وإنما الأعمال بالنيات، ورأيتم هذا الرجل الذي قتل مائة نفس، في النهاية قُضيَ فيه بأنه من أهل الجنة حين تنازعته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فمَن الذي ظفر به؟ ملائكة الرحمة، وهو لم يعمل شيئاً، هذا الرجل كان عنده نية التوبة، لم يتب حتى إلى الآن، هو ذهب إلى قرية أُخرى لأنه يُريد أن يتوب ويُريد أن يستأنف حياة صالحة إن شاء الله، لم يفعل شيئاً إلى الآن، عنده النية ومات في الطريق، فلما تُنوزِع فيه كتبه الله أن يكون من قسم ومن حظ ملائكة الرحمة، هذا يعني أنه سيدخل الجنة إن شاء الله، وهو لم يفعل شيئاً، بالعكس! قتل مائة واحد، فهذه هي النية، نية المُؤمِن!

قال فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۩، انظر إلى هذا التنوين، قال دَرَجَةً ۩، هذا التنوين للتعظيم، قال دَرَجَةً ۩، لا تظنوا أن الدرجة الواحدة بمليون وما إلى ذلك، هذه درجة كبيرة، لا يُقادر قدرها ولا يُعرَف فضلها، الله يعرف كم هذه الدرجة، درجة كبيرة!

في الصحيحين قال – صلى الله عليه وسلم – عن أبي هُريرة إن الله أعد في الجنة مائة درجة للمُجاهِدين، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فحين يقول درجة لا نعرف أي درجة، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، كم بين السماء والأرض؟ الله أعلم، فهذا شيئ عجيب!

قال وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ۩، انتبهوا! أي الْقَاعِدِينَ ۩ هنا؟ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ۩، انتبهوا! غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ۩، المُضرورن بنواياهم – إن شاء الله – كالمُجاهِدين، بالنوايا! لكن غير المضرورين هؤلاء هم المفضولون، قال العلماء المُفسِّرون وهذه الآية دليل على أن الجهاد فرض كفاية، ليس فرض عين، أليس كذلك؟ حين تقول لي فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ۩ ماذا يكون المعنى؟ لا يُقال في فرض عين أن الذي قعد هنا هو فاضل والآخر أفضل، لا بالعكس! أليس كذلك؟ لكن نحن فصَّلنا فيها، قلنا متى يكون الجهاد فرض عين ومتى يكون فرض كفاية، الأصل فيه أنه فرض كفاية ويتعيَّن في أربع أحوال، أليس كذلك؟ ذكرناها غير مرة، فقط أربع أحوال من عشرات الحالات الأُخرى، فالأصل أن الجهاد فرض كفاية أو فرض عين؟ الأصل أنه فرض كفاية ويتعيَّن في أحوال وهي التي ينبغي علينا أن نحفظها، هناك أربع أحوال سبق أن ذكرناها!

۞ دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۞ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ۞

دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩، إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ۩، قال الضحّاك بن مُزاحِم نزلت هذه الآية في نفر من المُنافِقين، وهذا فيه تسامح، أن يُسميهم مُنافِقين فيه تسامح، قال نزلت هذه الآية في نفر من المُنافِقين كانوا بمكة، أي في باطنهم إسلام وفي ظاهرهم مع الكفّار، كيف إذن هم مُنافِقون؟ والنفاق لم ينبغ ولم يظهر أصلاً إلا في المدينة، لا تقل لي هذا نفاق، غلط! هذا تسامح كبير من الإمام الضحّاك رحمة الله عليه، ولذلك في آثار أُخرى عن ابن عباس وعن غيره لم يُقل إنهم مُنافِقون، لا! أُناس كانوا فعلاً يستسرون بإسلامهم في مكة وهم مُستضعَفون ويستطيعون الهجرة، يستطيعون المُراغَم، أي التحول، كانوا يقدرون على هذا، ليسوا شيوخاً كباراً، ليسوا نساء مُستضعَفات، ليسوا أطفالاً صغاراً، هم رجال ولكن عزَّ عليهم أن يُفارِقوا أهليهم وعقاراتهم وأرضهم وأموالهم، هذه هي! وظلوا مع الكفّار، فلما كانت وقعة بدر خرجوا مع مَن؟ مع المُشرِكين طبعاً، فهمنهم مَن أُصيب ومنهم مَن قُتِل، مات – والعياذ بالله – وهو يُقاتِل المُسلِمين ويُقاتِل الرسول وهو مُسلِم، فتساءل المُسلِمون فما لهؤلاء؟ فأنزل الله هذه الآية، إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ۩، والعياذ بالله كانوا ظالمين وماتوا وهم ظالمون لأنفسهم، علماً بأن هذه منصوبة على الحالية، أي ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ۩، قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ۩، إذن هؤلاء ليسوا مُنافِقين، هم مُؤمِنون عاديون ولكن قصَّروا في مُراغَمة الكفّار وفي الهجرة بدينهم.

۞ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ۞

ثم استثنى رحمةً منه وعفواً وقال إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ ۩، ما لهم؟ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ۩، الواحد منهم ليس عنده طريقة لكي يستطيع أن يهرب أو يُهاجِر، لا يستطيع! وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ۩، أي طريقاً، ولا يهتدون طريقاً، قال ابن عباس فيما أخرجه البخاري كنت أنا وأمي من المُستضعَفين، هكذا قال، كنت أنا وأمي من المُستضعَفين، لأنه كان ولداً صغيراً وأمه امرأة طبعاً.

۞ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ۞

قال فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ ۩، قلنا عسى من الله مُوجِبة، قال عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ۩، أي سيعفو الله عنهم، وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ۩.

۞ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۞

وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۩، قال ابن عباس المُراغَم هو التحول من دار إلى دار، لماذا؟ حتى يرغم أنف عدوك، هو يُحِب أن تبقى تحت سُلطته وأن يستحوذ عليك وأن يسومك الخسف والذل والهوان وأن يفتنك عن دينك، فإذا أنت هاجرت وتركته ماذا يحدث هنا؟ رغم أنفه في التراب، وبقيت أنت كما يُقال شجاً في حلقه، قال الشنفرى:

وفي الأَرْضِ مَنْأَى لِلْكَرِيمِ عَنِ الأَذَى وَفِيهَا لِمَنْ خَافَ القِلَى مُتَعَـزَّلُ.

اهجر وهاجر هذه الأض، أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ۩، إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ۩ الله يقول عز وجل، وهكذا!

قال مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۩، والسعة هي الرزق، إذا كنت تخاف على المال وعلى بعض النخلات وما إلى ذلك فيُوجَد رزق – إن شاء الله – هنا، رأينا كيف كان عبد الرحمن بن عوف وحتى الزُبير من الفقراء ثم أصبحا من أغنياء أغنياء المُسلِمين في المدينة، الله فتح عليهم، هم خرجوا وليس معهم أي شيئ ثم فتح الله عليهم.

قال وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۩، هذه فيها قصة ذكرناها مرة في خُطبة فلا نُعيدها إن شاء الله، رجل خرج مُهاجِراً ثم أدركه الموت في الطريق، فقال هذه لله وهذه لرسول الله وبايع، فبلَّغ الله رسوله ذلك، والنبي تحدَّث عنه، وقُوبِلت هجرته – إن شاء الله – وبيعته بالنية، واليوم تحدَّثنا في أحاديث النية فلا نُعيد، قال ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ ۩، أي في الطريق، فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۩، وكُتِبَت له هجرة – إن شاء الله تعالى – مع أنه مات في الطريق، مثل الذي قتل مائة نفس، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩.

۞ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا ۞ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ۞

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا ۩، هذه الآية بعض الناس يقول إنها واضحة في قصر الصلاة، أي في الترخص بقصر الصلاة، طبعاً الصلاة التي تُقصَر هي الرباعية، الثنائية والثلاثية لا تُقصران، ولا تُقصَر إلا في سفر، اختُلِف: هل هذا السفر إلى مسافة كذا أو إلى مسافة كذا؟ مُختلَف فيه كثيراً جداً، حتى قال بعض علماء وفقهاء الحديث ما يُطلَق عليه هكذا أنه سفر يترخَّص المُؤمِن بالإفطار فيه وقصر الصلاة، إذا كان يُسمى سفراً! قالوا هناك تكافؤ وأحياناً تضارب بين الأدلة فلا نستطيع أن نُرجِّح، مثل كم فرسخ وكم مرحلة وما إلى ذلك، وفعلاً الأدلة صعبة جداً جداً في موضوع قصر الصلاة في السفر، شيئ عجيب! ثم انتهى التعقيد، فقالوا ما يُطلَق عليه سفراً ويُقال عن صاحبه إنه مُسافِر يترخَّص المُؤمِن بالإفطار فيه وقصر الصلاة، وهذا صحيح ووجيه جداً، أي الكلام هذا، لكن على كل حال بعض الناس يقول الآية تُقيِّد هنا الترخص أو جواز الترخص بقصر الصلاة في السفر في حال الخوف وليس في حال الأمن، ولذلك روى أحمد وأهل السُنن وغيرهم عن يعلى بن أُمية – أحد الصحابة أيضاً – أنه قال لسيدنا الفاروق عمر بن الخطاب – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – يا أمير المُؤمِنين هذه الآية – وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا ۩ – في حال الخوف، فكيف وقد أمَّن الله المُؤمِنين؟ قال له نحن – ما شاء الله – الآن عندنا دولة عظيمة جداً وما إلى ذلك، فهذا غير موجود، لم يعد الكفر موجوداً في الجزيرة العربية، أليس كذلك؟ فهل نقصر الصلاة؟ فقال له لقد عجبت مما عجبت منه، قال له عمر أنا شخصياً حدث لي نفس الشيئ، كيف نقصر الصلاة الآن؟ النبي كان يقصر ويأمر بالقصر – يُعطينا رُخصة في القصر، أي أمر ترخص – والله قال إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ۩، والآن لا يُوجَد خوف، انتهى الأمر، فقد أعز الله الإسلام والمُسلِمين وأمَّن المُؤمِنين! قال له لقد عجبت مما عجبت منه، فسألت عنه الرسول – صلى الله عليه وسلم – فقال صدقةٌ من الله تصدَّق بها عليكم فاقبلوا من الله صدقته.

طبعاً – انتبهوا – هذا جواب رسول الله طبعاً، وهو جواب بالغ ومُقنِع، لا كلام في هذا!طريقة الأصوليين في الجواب عن أمثال هذه الآيات طريقة صناعية، لم يُوجَد أيام الرسول شيئ اسمه المنطوق والمفهوم والقيد وما إلى ذلك، هذا لم يكن موجوداً، هذا الكلام لم يكن معروفاً، أليس كذلك؟ لكن بعد ذلك وُجِدَ، فجزى الله عنا علماء الفقه وعلماء الأصول بالذات كالشافعي وإخوانه وأتباعه وجماعات الأصوليين، لو تُرِك هذا الأمر للفهم السليم والفطرة الشرعية السديدة لن ينطبق، لأن هذا لا يبقى هكذا غير مُقعَّد، لا يبقى! هذا مُستحيل، فهم قاموا بذلك، ولذلك تُوجَد قاعدة هامة، المنطوق إذا قُيّد بقيد رُوعي فيه غالب الحال فليس له مفهوم، هذا كلام الأصوليين، كيف مثلاً؟ سوف نُفسِّر الآية هذه، سوف نُطبِّق القاعدة الأصولية هذه على القاعدة هذه!

تعلمون في بداية الإسلام وحين شرع الله هذا الحُكم الكريم السمح كانت أسفار المُسلِمين مخوفة، بل – يقول العلماء والمُؤرِّخون والحفّاظ أيضاً – كانت أسفارهم لا تكون إلا في غزوٍ عام أو سرايا، أليس كذلك؟ لا يُسافِرون إلى التجارة وما إلى ذلك، لا يُمكِن! لأن هناك حرباً شديدة جداً على المُسلِمين في كل مكان، إما يُسافِرون لغزوة أو سرية، هذه أسفارهم، أليس كذلك؟ فكانت أسفارهم مخوفة، كلها كانت مخوفة، في حال حرب مُستمِرة على الإسلام والمُسلِمين، فالله قال ماذا؟ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ۩، لأن هذا هو غالب الحال، أي هكذا هو سفركم، فهذا القيد لمُراعاة الحال وغالب الحال، هذا لمُراعاة الحال وغالب الحال فلا مفهوم له، ما معنى فلا مفهوم له؟ ليس له مفهوم مُخالَفة كما يقول الأصوليون، فلا نقول إذا لم تخالفوا فلا تقصروا، لا! ليس لها علاقة، هل فهمتم؟ وأتينا بأمثلة كثيرة حتى في الشهر هذا، أليس كذلك؟ مثل وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۩، لا يُوجَد قتل لنبي بحق، فهذا فقط لوصف الواقع، أنهم كانوا يقتلون بغير حق، أي ظلماً، لكن لا يُوجَد قتل لنبي بحق، هل هذا واضح؟ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ۩، إذا لم يُرِدن تحصناً فهل نُكرِههم على البغاء؟ طبعاً لا أيضاً، لا مفهوم له، وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم ۩، إذا لم تكن في حجري فهل تحل لي؟ لا تحل لك على رأي الجمهور خلافاً للإمام عليّ، أليس كذلك؟ فهذا أيضاً لمُراعاة الحال، لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ۩، ماذا عن ضعفين أو ضعف واحد؟ هل هذا يجوز؟ لا يجوز، فلماذا قال الله لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ۩؟ لمُراعاة الحال، وهكذا! هل فهمتم؟ هذه قيود كثيرة في كتاب الله وكلها لمُراعاة الحال وتصوير الواقع فقط، ولذلك لا مفهوم لها، لا تأخذ المفهوم العكسي منها وتُخرِج حُكماً شرعياً، كأن تقول لي إذا لم يكن كذا وكذا فإذن هذا يجوز أو هذا لا يجوز، غلط هذا، لا مفهوم له، وهذا نفس الشيئ.

قال إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا ۩، الآن تأتي الآية الأُخرى وهي آية صلاة الخوف، لن نتحدَّث عن أشكال صلاة الخوف وهي أشكال كثيرة جداً، مَن أحب أن يعود فليعد إلى كُتب الحديث أو حتى كُتب الفقه، أشكال صلاة الخوف كثيرة وفيها أحاديث جياد وصحاح وحسان أيضاً، وبعضهم استوفى طرقها، مثل حديث الإمام أحمد عن سالم بن عبد الله بن عمر طبعاً عن أبيه، هذا الحديث قصير وجيد جداً، استوفى طرقه بطريقة مُمتازة، الإمام ابن جرير في تفسيره – رحمة الله تعالى عليه – وأبو بكر بن مردويه – رحمة الله تعالى عليه – استوفا طرقه بطريقة أوفت على الغاية، وهناك طرق كثيرة لهذا الحديث ولغيره أيضاً، ويُوجَد حديث أبي عيّاش الزُرقي – الصحابي الجليل الذي ليس له إلا هذا الحديث – في وصف صلاة الخوف عند أبي داود وعند الإمام أحمد أيضاً، هذا أبو عيّاش الزُرقي، حديث واحد فقط لكنه حديث مُفصَّل جداً، ولعلي أذكره الآن، فصلاة الخوف كثيرة ومُتعدِّدة، لماذا؟ سوف نرى الآن، لأن العدو تارةً يكون في جهة القُبلة وتارةً يكون في غير صوبها فتختلف الصلاة هنا، وهذا أولاً، ثانياً الصلاة تارةً تكون رباعية وتارةً تكون ثلاثية وتارةً تكون ثنائية كالصبح وصلاة السفر فتختلف، في كل مرة كيف سوف نُصليها سواء كانت أربعة أو ثلاثة أو اثنين؟ سوف تختلف الصلاة وطريقتها، أيضاً الصلاة قد تكون جماعةً إذا أمنوا قليلاً أو استشعروا الأمن وقد لا يأمنون عند المُسايَفة – مثلاً – وعند مُلاقاة الأقران، فلا يستطيعون إلا أن يُصلوا فرادى، كلٌ برأسه على حدة وبحياله، فتختلف صلاة الجماعة عن صلاة الأفراد في الخوف، وهكذا وهكذا! فصور كثيرة – كلها سوف تجدونها في الأحاديث – تُفصِّل لنا صلاة الخوف.

هنا هذه الآية الكريمة أعطتنا صورة مُمتازة ورائعة وتدور عليها بعض الأحاديث القوية في هذا الباب، كحديث أبي عيّاش الزُرقي، باختصار هذا الحديث كالآتي، يقول هذا الصحابي الجليل – أي أبو عيّاش الزُرقي ، واختُلِف في اسمه كثيراً كما قال الحافظ في التهذيب والتقريب – كنا مع رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – فلقينا المُشرِكون – هنا كانوا بعُسفان بين مكة والمدينة – وعليهم خالد بن الوليد – هو القائد – فصلينا الظهر – صلوا بشكل عادي، قبل أن تنزل هذه الآية صلوا صلاة عادية – فقال المُشرِكون لو أصبنا غرتهم في صلاتهم – أي أنهم مُغفَّلون، وطبعاً صلاة الرسول ليست كصلاتنا، أكيد يُطوِّل في الركوع وفي السجود بالذات، فهذه فرصة لكي يأتوا ويشدوا الخيال، كان يُمكِن أن يُدرِكوهم، فهم يُصلون صلاة طويلة ما شاء الله، فيها خشوع وتخضع – ثم قالوا لا علينا إن أمامهم صلاةً هي أحب وآثر عندهم من أنفسهم وأبنائهم، ما هي؟ العصر، حتى الكفّار كانوا يعرفون أن صلاة العصر هذه عند المُسلِمين مُقدَّسة، لها مثابة عالية جداً جداً، وأكيد يُصليها المُسلِمون بطريقة مُختلِفة، يُطوِّلون فيها ويتأنون فيها، قالوا هناك صلاة ثانية معروفة، يُطوِّلون فيها وهي صلاة مُهِمة كثيرة ولن يُفرِّطوا فيها، فدعونا نتمهَّل حتى يُصلوا ثم نذهب إليهم، علماً بأن النبي كان معهم، يقول أبو عيّاش الزُرقي فنزل جبريل بالآية – وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ ۩ – بين الظهر والعصر، نزلت مُباشَرةً، ربك! ثم إنهم كيف عرفوا هذا الكلام؟ بعد مُدة حين أسلم خالد وبعض المُشرِكين قالوا لهم نحن قلنا كذا وكذا، هذه هو طبعاً، وإلا كيف عرفوا؟ هم حكوا لهم، نزلت الآية ولا أحد يعرف، لكن ربك هو الذي يعرف، وهو عارف ومُطلِع على كل شيئ، عارف بما قال هؤلاء وبما انحط عليه رأيهم، فأنزل الله جبريل بهذه الآية بين الظهر والعصر، يقول أبو عيّاش الزُرقي – عليه الرضوان والرحمة – فصفنا النبي خلفه صفين ومعنا السلاح – صفهم صفين، ومعهم طبعاً الآن السلاح كما قال الله هنا، قال وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۩، هو أمرهم بذلك، قال وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۩ – فصلى بنا ركعة – أي قام بهم جميعاً ثم ركع – فركعنا – أي الصفان – ثم رفع فرفعنا ثم هوى إلى السجود فسجدنا، وبقيَ الصف الآخر – أي الثاني – وقوفاً يحرسوننا، النبي سجد بالصف الأول سجدتين وما إلى ذلك، الآن انتهوا من السجدتين، ما الذي حصل الآن؟ الناس الذين في الخلف الآن أرادوا أن يسجدوا فسجدوا، سجدوا سجدتين ثم قاموا، فتقدَّم المُتأخِّرون وتأخَّر المُتقدِّمون الآن، وقام النبي وركع ركعة كالأولى الآن حتى جلس، والآن تفهمون أنتم البقية، أكمل هؤلاء وأكمل هؤلاء ثم سلَّم بهم جميعاً، فيكون كلٌ منهم صلى مع الرسول الآن بالطريقة هذه ركعتين ومع الحراسة، يقول أبو عيّاش – رحمة الله عليه رحمة واسعة – صلاها بنا هكذا مرتين في عُسفان وفي بني سُليم، صلى مرتين بهم بهذه الطريقة، هذه صورة، وله شواهد – أي هذا الحديث له شواهد – في صحيح البخاري وعند أحمد أيضاً، فهذا من رواية الإمام أحمد أيضاً، لا نُريد أن نُطوِّل كما قلنا، لكن هذا هو بشكل عام.

بعض العلماء رأى أن صلاة الخوف يُمكِن أن تكون ركعة واحدة، هذا ليس مذهب أحد من الأئمة الأربعة، لكنه مذهب بعض الصحابة ومذهب بعض التابعين ومذهب ابن حزم، أي المذهب الظاهري، قالوا يُمكِن أن تكون ركعة واحدة، وهو مذهب إسحاق بن راهويه – رحمة الله تعالى عليه – الحنظلي، كان يرى أن صلاة الخوف يُمكِن أن تكون ركعة واحدة، بل قال إسحاق – ولم أجد هذا لدى أي إمام آخر مُعتبَر إلا من قول إسحاق بن راهويه – فإن لم يستطع أن يركع ركعة سجد سجدة، لأنها ذكر لله، أي اكتفى بسجدة، قال يُمكِن أن تكون صلاة هذه، وهذا لم يقل به إلا إسحاق رضوان الله تعالى عليه، والله أعلم!

هذه الآية طبعاً كلها واضحة: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ۩.

۞ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ۞

فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ ۩، أي صلاة هنا؟ صلاة الخوف، إذا صليتم هذه الصلاة – صلاة الخوف – فَاذْكُرُواْ اللَّهَ ۩.

قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ۩، لماذا بالغ الله هنا في طلب الذكر؟ قال اذكروني كثيراً، قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ۩، لماذا؟ واضح طبعاً ومُعلَّل هذا، لماذا؟ هناك علة واضحة، لأنهم قصَّروا في صلاة الخوف، أليس كذلك؟ في الكيفية حتى تختلف، لأنهم قصَّروا فيها فناسب أن يستكملوا في خارجها بذكر الله، تُعوَّض بالذكر الكثير، وهذا يُمكِن أن نستفيد منه شيئاً لطيفاً، ما هو؟ إذا لم تشعر بقلبك وبحضورك في الصلاة – أي شعرت أنها صلاة أي كلام – وكنت مُستعجِلاً وعندك شيئ فتأثَّمت – شعرت بالأثم – ماذا تفعل؟ كيف تُعوِّض ذلك؟ اذكر الله، يُمكِن أن نفهم منه هذا الكلام، اذكر الله كثيراً بعد ذلك، عليك بالذكر والاستغفار وما إلى ذلك، لعل الله يُعوِّض هذا بهذا أو بعض هذا بهذا، والله أعلم.

طبعاً انظر إلى قوله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ۩، ترتيب دقيق جداً، مثل الذي في الصحيحين من حديث عُمران بن حُصين، قال له صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب، نفس الشيئ! قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ۩.

فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ ۩، كيف اطْمَأْنَنتُمْ ۩؟ أي في حال الطمأنينة، ليس في حال المُسايَفة والحرب والخوف، في حال الإقامة، قال فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ ۩، صلوا الصلاة على وجهها بأركانها وشرائطها وسُننها وآدابها ومُندوباتها وبتخشعها وخضوعها وما إلى ذلك، صلاة صلاة!

إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ۩، قال الحبر ابن عباس – رحمة الله عليه رحمة واسعة – كِتَابًا مَّوْقُوتًا ۩ أي مفروضاً، هذا يعني أنها فريضة، وروى عنه ابن جرير قولاً ثانياً، قال كِتَابًا مَّوْقُوتًا ۩ أي إن للصلاة وقتاً كوقت الحج، وهذا هو ظاهر للكلام، أنها مُؤقَّتة بوقت مُعيَّن، الصلاة لها وقت مُحدَّد، فلا تُخرَج عنه، وإخراج الصلاة عن وقتها من الصغائر أو الكبائر؟ من الكبائر بإجماع العلماء، باجماع العلماء من الكبائر، انتبهوا! ليس لنا علاقة بالتكفير وغير التكفير، فهذه قضية ثانية، لكن الكلام عن أن هذا من كبائر الذنوب، لو هناك إنسان ظل جالساً أمام التلفزيون Television أو أي شيئ – المُهم لم يقم وكان كسلاناً – وضاع وقت المغرب ودخل وقت العشاء يكون ارتكب كبيرة، أنت يا مسكين وقعت الآن في كبيرة من الكبائر، كثير من المُسلِمين لا يعرف عِظم هذا الذنب، كأن يقول أحدهم سأنتظر قليلاً فخروج وقت المغرب بقيَ عليه ربع ساعة ثم يدخل العشاء ويضيع المغرب فيقول لعن الله الشيطان! الشيطان؟ هذه كبيرة، كبيرة من الكبائر والعياذ بالله، فخطير جداً جداً هذا الكلام، انتبهوا إلى هذا الشيئ، نسأل الله أن يُعيننا على ذكره وشكره وحُسن عبادته.

۞ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ۞

وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ ۩، اطلبوا مُجالَدتهم ومُنازَلتهم ومُحارَبتهم، هذا معنى الآية!

إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ ۩ بما يُصيبكم من جراح ونُقصان وموت في الحرب، فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ۩، من المغفرة والرضوان والجنة، مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ۩.

۞ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ۞

إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ۩، أي يا محمد، الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ۩، فالقرآن حقٌ من حق، وهو حقٌ أيضاً في خبره وأمره، أي في خبره وطلبه، اليوم قرأنا في سورة الأنعام وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا ۩، انظر إلى هذا التعبير العجيب أيضاً، كيف هذا؟ قال صِدْقًا ۩، الصدق لوصف ماذا؟ الأخبار، فكل ما في الكتاب من أخبار فهو صدقٌ، محض الصدق! قال وَعَدْلا ۩، لماذا؟ لأن كل ما فيه من طلب – أي افعل أو لا تفعل – هو العدل وهو الصراط المُستقيم، حين يقول لك الله افعل أو لا تفعل يكون هذا العدل الصحيح، هذا هو! وكل الكلام إما أن يكون خبراً أو طلباً، أليس كذلك؟ فإذا كان خبراً فلابد أن يكون صحيحاً صادقاً وإذا كان طلباً فلابد أن يكون عادلاً أو عدلاً، قال وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا ۩، القرآن فيه أخبار وفيه طلبيات، أخباره كلها صدق عن الغيب وعن المُستقبَل وعن الوقائع، كله صدق بحمد الله! والطلب الذي فيه – افعل أو لا تفعل – كله عدل وهدي قويم وصراط مُستقيم.

قال إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۩، أي لا بهواك ولا برأيك، بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۩.

روى الشيخان وغيرهما عن أم سلمة “أم المُؤمِنين” – رضيَ الله عنهن وأرضاهن أجمعين – قالت سمع رسول الله جلبةَ خصم – والخصم هنا اسم جنس، أي أخصام وخصوم، هو ليس واحداً، هم كانوا أخصام فعلاً، كانوا اثنين – بباب حُجرته فخرج، وجد اثنين يتخاصمان في شيئ، فقال لهما إنما أنا بشرٌ مثلكم أقضي على نحوٍ مما أسمع، وإنه يأتيني الأخصام منكم، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحُجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمَن قضيت له بحقٍ هو لمُسلِم – أي حق ليس له، لمُسلِم لآخر – فإنما أقتطع له قطعةً من نار، فإن شاء فليأخذها وإن شاء فليذرها، حديث يُخوِّف! لا تظن أن الأمر سهل، قضاء القاضي لا يُحِل الحرام ولا يُحرِّم الحلال، لا تقل أنا ذهبت إلى القاضي وغششته والله، دبَّجت له الكلام وضحكت عليه، أكلت بعقله حلاوة – كما يُقال – وأعطاني الحق، مسكين أنت! هذا لا ينفع، القاضي أجره على الله إن شاء الله، لكن أنت أخذت شيئاً من جهنم، هذا الحديث أيضاً – في الصحيحين – رواه الإمام أحمد وفيه زيادة لطيفة عن أم سلمة، قال جاء رجلان يختصمان في مواريث لهما درست، ما معنى درست؟ عفا عليها الزمن، أي غير واضحة الأشياء، وقالت هي وليس لهما بيّنة، لا تُوجَد بيّنة، لا شهود ولا شيئ مكتوب ولا أي شيئ أبداً، وكل واحد يدّعي شيئاً مُعيَّناً، هذا يقول هذه لي، والآخر يقول لا، هذه ملكي، وما إلى ذلك، هذا في المواريث، فقال لهما النبي نفس المقالة، إنما أنا بشرٌ مثلكم أقضي على نحوٍ مما أسمع، وإنه يأتيني الأخصام منكم، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحُجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمَن قضيت له بحقٍ هو لمُسلِم فإنما أقضي له بقطعةٍ من نار يأتي به إسطاماً في عُنقه يوم القيامة، هذه هي الزيادة! قال يأتي بها إسطاماً في عُنقه يوم القيامة، ما هو الإسطام؟ المسعار، ما هو المسعار؟ حديدة هكذا عريضة الرأس يُحرَّك بها النار التي في الكانون، هل تعرفون الكانون؟ له حديدة نُحرِّك بها الفحم، هذه اسمها الإسطام، النبي قال أي حق لأخيك المُسلِم تأخذه حتى لو قضى لك به هو قطعة من نار، وهذا ليس شُريح القاضي ومَن مثله وإنما النبي عليه السلام، قال لك خُذه لك، وقضى النبي بالبيّنة، أليس كذلك؟ بشر يقضي على نحو ما يسمع، على نحو ما تظهر الأدلة والقرائن والبيّنات التي يُستأنس ويُستَدل بها، لكنه قال أنت تعرف أنه ليس لك، فهذه قطعة من نار، ويأتي إسطاماً في عُنقك يوم القيامة، تقول أم سلمة فجعل الرجلان يبكيان رضيَ الله عنهما، الاثنان جعلا يبكيان! الأول يقول هو لأخي، أنا لا أُريده، والثاني يقول لا، بل هو له يا رسول الله، كل واحد منهما قال لا أريد، فالنبي أُعجِب بذلك، فقال لهما أما إذ قلتما ذلك – ما دام القضية صارت هكذا، ما شاء الله عليكم أنتما جيدان وتقيان وورعان – فاصطلحا واقتسما ثم استهما، أي قسِّما، هذه الحصة قسِّماها إلى اثنين وبعد ذلك قوما بعمل قرعة لمعرفة هذه لمَن وهذه لمَن وينتهي الأمر، كل واحد يأخذ قسمه وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۩، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.

قال وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ۩، بالمُناسَبة أسباب نزول هذه الآيات ذكرناها في خُطبتين أعتقد عبر سنين، ذكرناها مرتين! وباختصار- أحسن من أن نأتي بالروايات وتخريجها فهذا موضوع طويل وهي موجودة في الخُطب – جماعة من الأنصار سرقوا شيئاً من عند مُسلِم، ثم هذا الشيئ المسروق – هو درع – نسبوه إلى يهودي، قالوا اليهودي هو الذي سرق الشيئ هذا، باختصار! وجاءوا بعد ذلك أمام الرسول يُدلون بحُجتهم وبيّناتهم وبكلام مُنمَّق وجميل حتى اقتنع النبي وقال نعم، وفعلاً وقر في قلبه أن اليهودي هو السارق الخبيث، فأنزل الله هذه الآيات، شيئ عجيب! آيات قوية وسوف ترونها الآن، آيات قوية ومُؤثِّرة جداً، كلها دفاعاً عن يهودي، انظروا إلى هذا العدل، لا تُوجَد شريعة – والله العظيم – راعت العدل والقسطاس والنصفة مثل هذه الشريعة، ولا تُوجَد أمة راعت العدل أيضاً كأمة محمد!

عبد الله بن رواحة – شهيد مؤتة، تعرفون ابن رواحة الشاعر الكبير وشهيد مؤتة في السنة الثامنة – بعثه النبي مرة إلى أهل خبير ليخرص لهم ثمارهم، ما معنى يخرص لهم؟ يتظنى، الخرص هو الظن، ينظر ثم يقول هذه فيها خمسمائة وسق مثلاً، لم يكونوا يُوزِنون وما إلى ذلك، أراضي كثيرة هذه! فأسموه الخرص هذا، ومنه قوله وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ۩، أي يقولون بالظن، لكن ليس كل واحد يُمكِن أن يكون خارصاً، هناك أُناس عندها القدرة، سُبحان الله! يأتي الواحد فينظر ويعرف المقدار، فالنبي – عليه السلام – بعثه لكي يخرص ثمار أهل خيبر اليهود لكي يدفعوا ما عليها للدولة الإسلامية، فذهب إليهم، مدوا له رشوة، أرادوا أن يرشوا صحابياً وهو عبد الله رواحة، فقال لهم والله الذي لا إله إلا هو لقد أتيتكم من لدن أحب الناس إلىّ – أي الرسول، قال لهم هو أكثر واحد أُحِبه في العالم كله – ولأنتم أبغض إلىّ من أعدادكم من القردة والخنازير، أتعطونني هذه الرشوة يا خنازير يا بُعداء؟ كرهي لكم أكبر من كرهي للخنازير، قال ولأنتم أبغض إلىّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يمنعني – قال – حُبي لرسول الله وبُغضي لكم أن أعدل، أي أيضاً لن أظلمكم يا ملاعين، قالوا بهذا قامت السماوات والأرض، حُكماء ما شاء الله ويعرفون العدل، بعد أن رأوا موقفه خافوا، كان يُمكِن أن يبهدلهم أو يُضاعِف عليهم الصدقة، لكن هو قال لهم لا، أنا أكرهكم وأُحِب النبي كثيراً لكن أنا أيضاً سأسير في طريق وفي جادة العدل، قالوا بهذا قامت السماوات والأرض، وهذا صحيح! بالعدل قامت السماوات والأرض، هذا أثر! بالعدل قامت السماوات والأرض، وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩، إذن بالعدل قامت السماوات والأرض، هذا صحيح، هذا كلام قرآني، بالعدل قامت السماوات والأرض!

قال وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ ۩، مَن هم الخائنون هنا إذن؟ جماعة من الأنصار، خَصِيمًا ۩، ما معنى خَصِيمًا ۩؟ فعيل بمعنى مُفاعِل، أي مُخاصِم، لا تُخاصِم عنهم، هذا هو المعنى فانتبهوا، فقوله خَصِيمًا ۩ لا يعني خصماً، بالعكس! لا تُخاصِم عن الأنصار، لا تُدافِع عنهم، لا تتكلَّم بلسانهم، هم الذين غلطوا الله قال له، الله فضحهم وهتك سترهم، لأنهم تآمروا على هذا اليهودي المسكين.

۞ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ۞ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ۞ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ۞

وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ۩ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ ۩، وهذه صفة المُنافِقين، وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ۩، فعلمه نافذ في كل شؤونهم ظاهرها وباطنها.

۞ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ۞

هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ۩، آيات مُخيفة، مُخيفة جداً، ونظمها غريب أيضاً!

۞ وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ۞

ثم قال وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩، هذه من أرجى الآيات في كتاب الله، فيها رجاء، رجاء كبير جداً جداً، قال وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا ۩، أي سوء، أطلقه، قال وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا ۩، أي سوء، سواء كان كبيراً أو صغيراً، المُهِم الاستغفار!

روى الإمام أحمد عن الإمام عليّ – كرَّم الله وجهه – قال كنت إذا سمعت من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حديثاً نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، وفي رواية وكان إذا حدَّثني أحدٌ استحلفته، في هذه رواية غير مذكور لكن في رواية أُخرى مذكور، استحلفته! يقول في هذه الرواية وحدَّثني أبو بكر وصدقني أبو بكر، قال أبو بكر الصدّيق لا أستحلفه، أي واحد آخر يقول له الإمام عليّ استحلفك بالله، هل سمعت هذا من رسول الله؟ وهنا قد يقول لي أحدكم كيف هذا الكلام؟ هذا الكلام خطير حقيقةً، لماذا؟ إذا كان يستحلف فهذا يعني أن الصحابة أنفسهم مظنة أيضاً لأن يكذبوا، لكن لا، حاشا أصحاب رسول الله، مُستحيل! الصحابة عدول، لا يُمكِن أن يكذبوا، يُمكِن أن يزني الصحابي، هناك أُناس زنت وجُلِدت الحد، يُمكِن أن يسكر الصحابي، عادي! لكن هل يكذب الصحابي على رسول الله؟ لا، مُستحيل! لا يفعلها، أبو سُفيان الجاهل حين كان جاهلياً لم يكذب على رسول الله، أليس كذلك؟ فهل يكذب الصحابي؟ مُستحيل، يُمكِن أن يغلط، نحن كلنا نغلط لأننا غير معصومين، لكنه لا يكذب على رسول الله، مُستحيل! والنبي قال ثم يفشو الكذب، قال خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب، فهو برّأ الأجيال الثلاثة الأولى، قرون خالية من الكذب، أليس كذلك؟ لكن لماذا كان يستحلف الإمام عليّ إذن؟ يستحلف لأن بعض الناس قد يتساهل في الرواية، فهو باستحلافه يُؤكِّد عليه أن يتثبَّت، كأنه يقول له راجع ولا تخربط، لعلك توهَّمت، لعلك سمعتها من صحابي وقد تكون إسرائيلية وما إلى ذلك، أي للتثبت فقط! مثلما وقع أيضاً – والحديث في الصحيحين عن أبي سعيد الخُدري – في قصة سيدنا أبي موسى الأشعري مع سيدنا عمر حين استأذن عليه ثلاث مرات، بعد ذلك تركه فخرج له عمر، قال له إلى أين؟ قال أنا أستأذنت ثلاث مرات، والنبي قال مَن استأذن ثلاثاً ولم يُؤذَن له فليرجع، قال له لتأتيني عليه ببيّنة أو لأجعلنك نكالاً، أي سوف أبهدلك أمام الناس – قال له – وسوف أضربك، لابد أن تأتني ببيّنة، يقول أبو سعيد فجاءنا وكنا في مجلس من الأنصار فزعاً، أي كان خائفاً ومخطوفاً، كأن الدم ذهب من وجه أبي موسى، ما الذي حدث يا أبا موسى؟ قال كذا وكذا، قالوا والله لا يقوم معك إلا أصغرنا، هذا الكلام كلنا سمعناه من الرسول، وسوف نبعث معك ولداً صغيراً يشهد لك، أبو سعيد الخُدري هيا قُم معه وقل له، فذهب وشهد له، عمر قال هذا جيد ما دام شهدت له، قالوا كلنا سمعنا الكلام هذا، الاستئذان ثلاث مرات وإذا لم يُؤذَن ترجع، معروف هذا قالوا، أنت لم تسمعه وحدك، نحن كلنا سمعنا الكلام هذا وسوف نبعث معك أصغر واحد، هذا ولد صغير سوف يذهب معك ويشهد لك، فكان أبو سعيد الخُدري، وهو من صغار الصحابة، طبعاً سناً وليس قدراً، هو من كبارهم علماً وقدراً، رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين، هذا هو!

نحن لم نُكمِل حديث الإمام عليّ فنعود إليه، قال وحدَّثني أبو بكر وصدقني أبو بكر، قال – صلى الله عليه وسلم – ما أذنب عبدٌ ذنباً ثم قام فتوضأ وصلى ركعتين واستغفر الله إلا غفر الله له، أي ذنب بإذن الله، لكن لا يقول أستغفر الله ثم يرجع إليه بعد خمس دقائق، هناك مَن يقول أستغفر الله ثم يرجع مُباشَرةً، هناك مَن يقول والله لا أُريد غيبة الناس وأستغفر الله، ثم يرجع ويغتاب الناس، هذا كالمُستهزئ بربه كما قال الإمام أحمد، هذا اسمه استهزاء، أنت تستهزئ، هل أنت تلعب مع الله؟ لابد أن تستشعر حقيقةً بإنك أذنبت ذنباً حقيقياً، لابد أن تظل هكذا لأيام وليالٍ، وأن تتأثَّم وتشعر بالعار الداخلي والخزي من نفسك، تقول لنفسك كيف أنا فعلت هذا؟ كيف ذكرت الكلمة هذه؟ كيف كذا وكذا؟ وفعلاً تتوضاً وتُصلي ركعتين بهذه النية، ليس أن تقول أستغفر الله باللسان كما قالت رابعة، أستغفر الله – قالت رابعة – من أستغفر الله، قالت أستغفر الله من – أي من كلمة – أستغفر الله، قالت:

أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ لَفْظَةٍ بَدَرَتْ خَالَفْتُ مَعْنَاهَا.

وَكَيْفَ أَرْجُو إِجَابَاتِ الدُّعَاءِ وَقَدْ سَدَدْتُ بِالذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ مَجْرَاهَا؟

قالت أنا أستغفر الله من استغفاري، استغفارنا يحتاج إلى استغفار كان يقول الأسلاف الصالحون، لأنه استغفار كاذب، استغفار الكذبة، هل فهمتم؟

هناك خشوع الكذبة، هناك استغفار الكذبة، هناك توبة الكذبة، هناك تواضع الكذبة، وإلى آخره! في كل الأبواب يُوجَد الصدق والكذب، أليس كذلك؟ وهكذا! في كل الأبواب وليس فقط في هذه الأشياء، في كل الأبواب! فنسأل الله أن يجعلنا مع الصادقين ومن الصادقين بفضله ومنّه أجمعين، اللهم آمين يا أرحم الراحمين.

طبعاً هناك أحاديث كثيرة للترمذي وغيره عن هذا، لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي لأتيتك بقُرابها مغفرةً ولا أُبالي، لا يُوجَد ذنب يتعاظم الله – عز وجل – أن يغفره، أليس كذلك؟ لا يُوجَد ذنب يتعاظم الله أن يغفره، حتى لو كان مثل الأرض، لو كانت الذنوب مثل الأرض كلها الله يغفرها، المُهِم أن تكون مُوحِّداً، وتُب إلى الله تبارك وتعالى، تُب إلى الله دائماً توبة نصوحة.

۞ وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ۞

قال وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ۩، فهمتم لماذا، لأنهم رموا بها اليهودي والآية عامة طبعاً، الآية عامة! والآية التي بعدها واضحة، (ملحوظة) سأل أحد الحضور هل هذا يشمل القتل العمد؟ فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم طبعاً، نحن قلنا هذا مذهب الجماهير، حتى القتل العمد – إن شاء الله – مشمول، التوبة الصادقة – بإذن الله – تمحو كل شيئ.

۞ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ۞ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ۞

وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ۩، واضحة والآية التي بعدها واضحة، وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ۩.

۞ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ۞

ثم قال لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ۩، الله يقول كلام الناس أكثره – عُظمه – لا خير فيه، وهذا صحيح! إلا ما كان ماذا؟ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۩، هذا أصعب شيئاً، يُمكِن أن تُصلي كل يوم مائة ركعة أو مائتي ركعة، لكن أصعب شيئ أن تضبط لسانك، بحيث يتعوَّد لا تنطق إلا بالخير، تعود! وهذا أعظم شيئاً، إذا أعطاك الله هذه الخصلة فعلاً فقد سلكَّك في سلك الأولياء الصالحين بإذن الله تبارك وتعالى، بدأت تمشي الآن وسوف تصل ولو بعد حتى عشر سنين، سوف تصل وسوف تُصبِح من أولياء الله المُقرَّبين بإذن الله تبارك وتعالى، لكن انتبه إلى هذا اللسان، لا تتكلَّم إلا فيما خير وفيه صلاح، قال إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۩.

روى الجماعة كلهم – البخاري ومُسلِم وأهل السُنن الأربعة إلا ابن ماجه، أي روى الجماعة كلهم إلا ابن ماجه – والإمام أحمد في المُسنَد عن أم كلثوم – بنت عُقبة بن أبي مُعيط، وكانت كما تعلمون من المُهاجِرات، وهي هاجرت وحدها أيضاً من غير محرم، قصتها معروفة على كل حال والله أنزل فيها كلاماً – قالت لم يُرخِّص الرسول – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، عليه الصلاة وأفضل السلام – في كلام الناس في شيئ إلا في ثلاث، أي في ثلاثة أشياء أعطانا رُخصة، في ماذا تقصد؟ في الكذب، ما هم؟ عند الحرب والإصلاح بين الناس وفي حديث الرجل امرأته – أي في تحديثه، فهي بمعنى المصدر هنا – وحديث المرأة زوجها، هذه الأشياء يُمكِن أن يكذب فيها الإنسان، قالت لا تُوجَد مُشكِلة، حتى في الإصلاح بين الناس، لماذا؟ لأنها في أول الحديث ماذا قالت؟ قالت قال – صلى الله عليه وسلم – ليس الكذّاب الذي يُصلِح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً، ما معنى ينمي؟ ينقل، فينمي تعني ينقل، نقول فلان لا ينميه نسب مُشرَّف، ما معنى لا ينميه نسب مُشرِّف؟ لا ينقله نسب مُشرِّف، أي فلان ابن فلان ابن فلان، ليس عنده هذا الشيئ، هذا معنى ينمي، أي ينقل، فالإنماء هو النقل، هذا الذي يُصلِح بين الناس وينقل خيراً ويقول خيراً ويكذب ليس كذّاباً النبي قال، لا ليس كذّاباً هذا، بالعكس! هذا من أحسن الصادقين – إن شاء الله تعالى – مع أنه في ظاهر الأمر يكذب، يقول فلان قال عنك إنك رجل – ما شاء الله – طيب وإنه يُحِبك في الله وإنه كذا وكذا، وهو لم يقل كل هذا، هو قال العكس تماماً، هذا – ما شاء الله عليه – صالح، هذا من أهل الخير إن شاء الله، لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۩، هذا من أهل الخير والصلاح إن شاء الله، فنسأل الله أن نكون كذلك.

أيها الإخوة:

عندي نصيحة إن شاء الله أنصح بها نفسي وإخواني، بالله عليكم – استحلفكم بالله – لا ينقلن أحدكم إلى إخوانه أو أحد من إخوانه ما يُغيِّر صدر أخيه على إخوانه، هذه خصلة سيئة وفيها شائبة نفاق حقيقةً، ولا يقل أحدكم لي أنا أقول لك هذا لأنني أُحِبك أو لأنني حريص على سُمعتك ولذا أُريد أن أقول لك ماذا يقول عنك فلان، لا! لا تقل لي، أنت عدوي بصراحة، وأنت الذي سوءتني، أليس كذلك؟ حين نقلت الكلام السيئ الذي قال أحد الناس عني أنت سوءتني في وجهي، أليس كذلك؟ ولو كان هناك احترام ولو كانت هناك محبة لما قلت لي الكلام هذا، أنا لا أُريده، النبي كان يقول لا تذكروا لي أصحابي إلا بخير، فإني لا أُحِب أن أخرج إليكم إلا وأنا سليم الصدر، لا تُغيِّروا اصدري تجاه إخواني، كأن يُقال والله هناك جماعة يا رسول الله حكوا عنك كلاماً سيئاً، فالنبي قد يحزن، لأنه بشر، يُمكِن أن يقول لك أحدهم والله يا أخي فلان هناك جماعة في المسجد يقولون كذا وكذا، ثم تبدأ أنت تظن، تقول لنفسك مَن هم؟ لعل فلان هذا هو القائل، والله واضح أنه هو، لأنه يُكشر قليلاً في وجهي، أو ربما يكون هذا، وتظل تشك ربما في أُناس يُحِبونك كثيراً، سُبحان الله! هذا كله بسبب هذا الواحد الذي جاء ونقل هذا الكلام، يا أخي اتق الله، لا تحك الكلام هذا واتركه!

يُوجَد واحد من إخواني – سُبحان الله – في هذا المسجد – لن أحكي اسمه وهو لا يعرف أنني أُكِن له هذه المنزلة – جرَّبته غير مرة، حين يقع نزاع أو مُشكِلة ويأتي لكي يحكي لي ما حصل لا يذكر الكلام السيئ، بعد ذلك أستشف أن في النزاع هذا قيل كلام سيئ، وأحياناً هذا الكلام يُصيبني منه رشاش، أنا العبد الفقير! هذا الأخ – ما شاء الله – جرَّبته أكثر من مرة، لا ينقل لي دقيق الكلام الذي فعلاً هو رشاش ويُصيبني بالمرة، وكأنه غير موجود، فعظم – والله العظيم – في نفسي الرجل هذا، قلت هذا الرجل عنده تقوى داخلية، وهو لا يعرف هذا من نفسه، تراه عصبياً وما إلى ذلك، لكن هناك كلام يخفيه بالكامل دائماً، وهذا الكلام يُصيبني، وحين يصلني طبعاً يحز في نفسي، يحز في نفسي ويُؤثِّر في مكانة الأخ الذي حكى الكلام هذا في نفسي، هذا طبعاً يُؤثِّر لأنني بشر من لحم ودم، لست ملكاً، أليس كذلك؟ حين يقول هذا أشعر أن عنده أيضاً نوع من النفاق، يُعطيني وجهاً حسناً وفي ظهري يقول كلاماً سيئاً، أليس كذلك؟ لكن أين المنزلة؟ للأخ الذي لا ينقل هذا الكلام، ما شاء الله عليه! ينقل لك صورة مُختلِفة، هذا الشيئ الذي يمسك يُسقِطه من الحديث، جرَّبته أكثر من مرة ثم رأيت أنه يتعمَّد ذلك، فأدركت أن عنده من الوازع الداخلي ومن تقوى الله ما يحمله على ذلك، فجزاه الله خيراً، هذه نصيحة لي ولكم، لا ينقل أحدكم لأي أخ من إخوانه أي كلام يجعله ظنه سيئاً في إخوانه، دع عنك هذا الكلام الفارغ يا أخي، انقل الكلام الطيب فقط وينتهي الأمر، أليس كذلك؟ يا ليت نكون هكذا، هذا يُساعِد على زيادة المحبة وتوثيق العلاقات وتوشيج الأواصر بإذن الله تعالى، ثم إن الله قال وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ۩، هذه هي! كلمة تقولها هكذا ثم تقول والله لم يكن قصدي، يُمكِن أن تتسبَّب في مُشكِلة كبيرة بين الناس، أليس كذلك؟ يُمكِن أن تُفرِّق بين إخوة اثنين مُتحابين.

ذات مرة نقل لي أحدهم كلاماً عن رجل واتضح بعد ذلك أن هذا الكلام غير دقيق وغير صحيح، يا أخي – سُبحان الله – والله لم أعرف أن أنام الليل، قسماً بالله! أكثر من ليلة لم أنم، لماذا؟ لأن الأخ الذي نُقِل عنه الكلام هذا من خيرة إخواني، أُحِبه جداً هذا الرجل وأعتقد فيه التقوى والورع، فهو له مكانة خاصة في نفسي، فلما بلغني أنه قال كذا وكذا – كلام كبير – صُدِمت، فاتصلت به على هاتف البيت وعلى المحمول لأنني أُريد أن أتأكِّد، هل قال هذا أم لم يقله؟ مُصيبة! المُهِم قيل كلام كثير واتضح فيما بعد أن الكلام غير صحيح، فلماذا أنت تُفرِّق بين الأحباب يا أخي؟ لماذا تُفرِّق بين الإخوان؟ لماذا تُفرِّق بين الناس المُتصافين في الله عز وجل؟ لماذا؟ ولصالح مَن؟ لصالح إبليس فقط، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ۩، لكي ينزغ إبليس بين الإخوة، فاتق الله ولا تنقلن الكلام، الكلام السيئ لا تنقله، يا أخي اسكت، لأن هذه نزغة شيطانية، فالله قال هذا، قال أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۩، العكس هو الطيب، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الذي رواه بعض أهل السُنن أيضاً عن أبي الدرادء – من رواية أبي الدرداء مرفوعاً – ألا أدلكم على خيرٍ من الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا بلى يا رسول الله، هل يُوجَد شيئ أحسن من هذه العبادات؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال الإصلاح بين الناس، أحسن من أن تكون مُتعبِّداً، أصلح بين الناس قدر ما تستطيع، قال الإصلاح بين الناس، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، هذا هو النص هنا، في روايات أُخرى عند غير هؤلاء قال لا أقول تحلق الرأس ولكن أقول تحلق الدين، ولذلك ما دام الفساد هذا – فساد ذات البين بين المُسلِمين – يحلق دين المُسلِمين إذن سوف يكون أعظم خير – إن شاء الله – وهو أحسن من العبادة ما هو؟ إصلاح ذات البين، لابد من إصلاح ذات البين!

بالمُناسَبة يُوجَد حديث غريب جداً مروي في مُسلِم ومروي في أبي داود وهذا لفظ أبي داود، قال – صلى الله عليه وسلم – والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تُؤمِنوا، ولا تُؤمِنوا حتى تحابوا، فهذا غريب، وفي الحديث طبعاً أولا أدلكم على شئ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم، وطبعاً هناك مُشكِلة نحوية لأنه قال لا تدخلوا الجنة، هذه عجيبة! هو نهي أو نفي؟ المفروض أنه نفي، أي أنه لا تدخلون الجنة، فلماذا قال لا تدخلوا الجنة؟ غريب! قد يكون من تصرّف بعض الرواة، وإذا كان النبي قاله فقد يكون من باب نادر جداً جداً في الحقيقة، وأنا حتى لا أحفظ له شواهد، فهو عكس القاعدة المعروفة، الخبر يأتي بمعنى النهي، هنا قيل قد يكون نهياً بمعنى الخبر، أي أنه نهي بمعنى الخبر، وهو عكس القاعدة، لكن هذا ليس له شواهد كثيرة، فالأفضل أن يكون من تصرّف الرواة، أي لا تدخلوا تعني لا تدخلون، ولذلك في نُسخة الإمام المُنذِري – عبد العظيم المُنذِري صاحب الترغيب والترهيب، هذا في نُسخته – لا تدخلون، وفي بعض نُسخ مُسلِم الأولى طبعاً أو في أكثرها لا تدخلون.

قال والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تُؤمِنوا، ولا تُؤمِنوا حتى تحابوا، أرأيتم؟ إذن يُوجَد سبب كبير جداً جداً جداً بين المحبة وبين الإيمان، يُوجَد سبب، تُوجَد علاقة علية! إذا كان هناك حُباً في الله فهذا يعني أن هناك إيماناً، إذن هذا يعني أن المحبة في الله هي مسبار الإيمان ومعيار الإيمان، والنبي قال المُؤمِن آلفٍ مألوف ولا خير فيمَن لا يألف ولا يُؤلَف، يكون مُعجَباً بنفسه وهو مُتعبَّد ويُصلي وما إلى ذلك ويقول أنا جيد وأنا مُمتاز، وماذا عن الناس؟ الناس لا يُسلِّم عليهم، لا يُسلِّم على واحدٍ حتى ويظل مُنعزِلاً ومُنكفئاً، أقول له لابد أن تدق ناقوس الخطير، وضعك خطير، غير سليم هذا الوضع فانتبه، أنت يُمكِن أن تكون إنساناً غير محبوب عند الله عز وجل، لو كنت محبوباً عند الله لوضع الله لك المحبة في قلوب الخلق ومن ثم يُحِبونك ويأتون إليك ويزورونك، فلماذا أنت هكذا مُعتزِل؟ تُوجَد مُشكِلة عندك، فمسبار الإيمان هو المحبة.

بالمُناسَبة محبة الخلق ليست بالأمر السهل، لكي يُعطي الله الناس محبتك لابد أن يكون عندك تواضع، لابد أن يكون عندك حُسن تأتٍ للأمور، ولابد أن يكون عندك رحمة، أليس كذلك؟ ليس كل ما خطر ببالك تفعله وتقوله، أليس كذلك؟ كأن يفعل أحدهم شيئاً فتقول له يا أخي ضايقتني وما إلى ذلك، ما هذا الجفاء؟ مع أي شيئ تقول يا أخي ضايقتني، غلط هذا، تحمَّل! إذا آذاك أحدهم بكلمة تحمَّل، عادي! كأن شيئاً لم يحدث، إذا جرحك أحدهم بأي شيئ تحمَّل، عادي! واظهر له أن الوضع عادي جداً، اكظم غيظك واستغفر كأن شيئاً لم يحدث، تحمَّل! لا يُمكِن أن تقول كل شيئ، هناك أُناس – سُبحان الله العظيم – يكونون أصحاب نفوس حاقدة، أعوذ بالله من الحقد، والواحد منهم لا يعرف أنه كذلك، صاحب النفس الحاقدة لا يستطيع أن يكظم غيظاً، ويقول أنا هكذا لا أتحمَّل، لا تتحمَّل لأنك حاقد، أنت خطير وضعك، أنت إيمانك ضعيف، إذا توسَّل إليه أي واحد بضرر لابد أن يرده عليه ولو حتى بعد سنة وبأي طريقة، أف! أعوذ بالله يا أخي، ما هذا الإيمان إذن؟ ماهذه التربية التي عندك؟ المُؤمِن لا يكون هكذا، أليس كذلك؟ المُؤمِن يتحمَّل ويكظم ويقول هي لله، كلها يترك لله، والناس يظنون أنه درويش ومسكين في حين أنه حسّاس جداً جداً جداً ويتأثَّر ويذوب أحياناً من الحزن والكمد والغم من تصرفات بعض الناس، لكنه يتركها لله ويلقى الناس بوجه طلق باش وكأنه غير مُتأذٍ، لكن هو مُتأذٍ من تصرفات بعض الناس، أليس كذلك؟ هذا المُؤمِن، فهذا بعد ذلك تُوضَع له المحبة، علماً بأن هؤلاء الناس قلة، اللهم اجعلنا منهم، كل واحد فيكم يسأل نفسه عن هذا، أنا في حياتي رأيت من هذا الطراز أناساً معدودين، لعلهم يكونون اثنين إلى الآن في حياتي، أخونا الدكتور عبد السلام يعرف واحداً منهم وهو عبد المنعم غيضان، رجل ليبي في حياتي لم أره مثله، شيئ غريب، كلما أذكره يقع في قلبي أنه رجل من الأولياء، وهو كان إنساناً عادياً، هو طبيب مُتخصِّص في الدم – علم الدم – وما إلى ذلك، لكنه رجل عجيب يا أخي، لا يُمكِن أن تسمع منه كلمة تسوء أحداً من الناس، لا يُمكِن أن تسمعه يغتاب أحداً، لا يُمكِن! شيئ غريب، ولم أر واحداً يكره هذا الإنسان أو يستثقل دمه، الكل يراه شيئاً كبيراً، يُحِبونه ويُرحِبون به، يا أخي الرجل عنده كلام لطيف، وسُبحان الله قلبه أبيض مثل الحليب، هنيئاً له بهذا القلب والله العظيم، لا يُسيء الظن بأي إنسان من المُسلِمين أبداً أبداً، ودائماً طلق وضاحك، باستمرار! يتكلَّم ضاحكاً، هذا الله أعطاه هذه الأخلاق، فحاول أنت من باب الغيرة أن تكون من هؤلاء الناس، لا تظن أن الحكاية بفرد العضلات على الناس وما إلى ذلك، في الصلاة هناك أناس ترتفع أصواتهم، أنا أخجل من أنظر لكي أعرف لماذا ترتفع أصواتهم، أخجل! لا أُحِب هذا، لكنني أنزعج منه، أكون واقفاً هنا وأسمع أناساً ترتفع أصواتهم، وأعرف أنها أشياء شيطانية تنزغهم، يقول الواحد منهم – مثلاً – يا أخي اعمل هذه أو يا أخي قف هنا، عيب! اترك هذا الكلام، اترك! هناك أشياء كثيرة ينبغي أن تتركها لله، أليس كذلك؟ أشياء كثيرة اتركها لله وليس لأي شيئ آخر، ولا تنتقم ولا تنتصر لنفسك، سوف يُحِبك الله عز وجل، وإذا أحبك فسوف يضع القبول والمحبة لك في قلوب العباد، ومن ثم سوف تكون هذه – إن شاء الله – علامة الإيمان، فالمحبة معيار للإيمان بإذن الله تعالى، على قدر ما يُحِبك الصالحون والمُؤمِنون اطمئن – إن شاء الله – بعض طمأنينة، لا تغتر كثيراً بأنك – إن شاء الله – منهم، وبإذن الله تعالى ستُحشَر معهم. اللهم آمين.

قال وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ۩.

۞ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ۞

وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ۩، ما معنى وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ ۩؟ يُحاده ويُعاديه، من أين أخذوا الكلمة هذه؟ من أنه يصير في شق والرسول في شق، أي أن الرسول في جانب وهو في جانب، أرأيتم كيف؟ الرسول مُشرِّق وهو مُغرِّب، الرسول يتقدَّم وهو يتأخَّر، هذا معنى يُشَاقِقِ ۩، أنه يكون في جانب والرسول في جانب، أي هو في شق والرسول في شق، أي في المُعسكَر المُناويء دائماً، هذه هي المُشاقة، من الشق وهو الجانب والناحية.

وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ۩، الذي جاء به محمد عليه السلام، وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ۩، هذه من لوازم الأولى طبعاً، مُستحيل إنسان إذا شاق الرسول أنه لا يتبع سبيل غير المُؤمِنين، طبعاً مُستحيل، لأن سبيل المُؤمِنين هي مُتابَعة سيد الخلق أجمعين، فهذه يُسمونها ماذا أيها الإخوة؟ يُسمونها من اللوازم، من لوازم المُشاقة اتباع غير سبيل المُؤمِنين، وهنا قد يقول لي أحدكم هذا تكرار، لكن هذا حتى ليس تكراراً، وتُوجَد أيضاً فائدة دقيقة أكثر من اللوزم، ما هي؟ أكثر من اللزوم المنطقي! ما هي؟ أن هذا الخروج عن دين الله – تبارك وتعالى – والكفر به قد يكون بمُصادَمة الشارع في قوله ونصه عمداً قصداً وقد يكون بخرق إجماع الأمة، أرأيتم؟ لأن هناك أشياء فيها نصوص عن الله وعن الرسول، فمُشاقة الله ومُحادة الله ورسوله تكون بمُناكَدة ومُشاكَسة النصوص، كفر واضح! أو تكون أحياناً بماذا؟ لا تُوجَد فيها نصوص ولكن يُوجَد إجماع، الأمة أجمعت على رأي مُعيَّن في مسألة مُعيَّنة، لكن هو يخرج على إجماع الأمة، وبمُناسَبة هذه الآية يُقال الإمام الشافعي قرأ القرآن ثلاثمائة مرة وقيل ثلاثمائة وخمسين مرة، طلبوا إليه دليل الإجماع، قالوا له هل في القرآن الكريم يُوجَد دليل واضح على الإجماع؟ قال لا أستحضر الآن لكن سنبحث، قرأ القرآن وختمه كله ولم يجد شيئاً، المُهِم يُقال فعل ذلك ثلاثمائة مرة أو ثلاثمائة وخمسين مرة حتى قال هذه الآية، قال ها هي: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ۩، إذن إذا كان للمُؤمِنين سبيل فعلى كل مُؤمِن غير مُشاق للرسول أن يكون في هذه السبيل، فإن لم يكن فيها – والعياذ بالله – باء بالكفر، ولذلك يقول العلماء خرق الإجماع كفر، ممنوع أن تخرق الإجماع، ممنوع! لأن الله أمَّن نبيه أن تجتمع أمته على ضلالة، لكن هذا طبعاً لا يعني أن كل الإجماعات صحيحة خاصة ابن المُنذِر رحمة الله عليه، قالوا احذر من إجماعات ابن المُنذِر، حتى ابن عبد البر يحكي الإجماع كثيراً جداً جداً ولا يكون هناك إجماع، يقول أجمعوا في حين خالف فيها الليث بن سعد وإسحاق بن راهويه والأوزاعي ومع ذلك يقول لك هناك إجماع، لا يُوجَد إجماع هنا، والإجماع قليل جداً جداً، ولذلك كان يقول الإمام أحمد مَن قال أجمع أصحاب محمد فقد كذب، ما يُدريه لعل الناس اختلفوا؟ كيف تقول لي أجمعوا؟ هل أجمعوا هكذا؟ فالإجماع نادر، نادر وعزيز جداً! لكن ممنوع أن تُخالِف إجماع هذه الأمة، وبالمُناسَبة حتى حين تختلف مع مَن تكون؟ مع السواد الأعظم، مُستحيل أن أكثرية أمة محمد تضل عن السبيل، أليس كذلك؟ الآن من الغرور والعُجب وركوب الرأس والعياذ بالله – ينفخ الشيطان في المنخر كما يُقال – أن يأتي إنسان ويُظَن نفسه توصَّل إلى شيئ ضل عنه الأئمة الهُداة، الأمة كلها ضالة عنه وهو توصَّل إليه، وإذا لم يتبعوه في رأيه وفلسفته ونظرته فالأمة هذه ارتدت عن دين الله، ما أجهل البعيد! ما هذا؟ هل الأمة ضلت وأنت الآن ما شاء الله المُهتدي الوحيد؟ غير صحيح!

وفي صحيح مُسلِم إني لا أخشى على أمتي الشرك بعدي، وفي حديث ابن مسعود – وهو ضعيف لكن تلقته الأمة بالقبول والكل يستشهد به، كل المذاهب وكل العلماء وكل الأصوليين، ما هو؟ – قال فما رآه المُسلِمون حسناً فهو عند الله حسن وما رآه المُسلِمون سيئاً فهو عند الله سيئاً، ومثله أيضاً إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة.

قال نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ۩، هذه أيضاً واضحة.

۞ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا ۞

إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا ۩، الآية هذه فسَّرناها غير مرة.

۞ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا ۞

قال إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ۩، أي هؤلاء المُشرِكون، إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا ۩، ما هي الإناث؟ الملائكة، كان كفّار قريش وغيرهم من العرب يزعمون أن الملائكة هن بنات الله، هكذا قالوا والعياذ بالله، فصَّوروا لهن تصاوير وتماثيل عبدوها وقالوا هذه على صور بنات الله، مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ۩، وكفروا بذلك، الكلام كله إفك مُبين.

الله يقول في الحقيقة عبادتهم لهذه التصاوير التي يُزعَم أنها بنات الله – أي الملائكة – هي عبادة للشيطان نفسه، قال وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا ۩، كما قال في يس أَلَمْ أَعْهَد إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَم أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَان ۩، عبادة للشيطان! لأنه هو الذي أوعز إليهم بذلك وأوحى إليهم هذه الوجوه من الكفر والشرك والضلال.

قال إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا ۩، أي مُتمرِّداً – والعياذ بالله – وعاتياً.

۞ لَّعَنَهُ اللَّهُ ۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ۞

لَّعَنَهُ اللَّهُ ۘ ۩، تُوجَد ميم، أي وقف لازم، لَّعَنَهُ اللَّهُ ۘ ۩، لعن الله البعيد إلى يوم الدين، وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ۩، ماذا قال مُقاتِل؟ حين نقول مُقاتِل في التفسير نقصد مَن؟ مُقاتِل بن حيان النبطي، وهذا ثقة، الإمام الأسدي أخطأ حين زعم أن وكيع كذَّبه، وكيع لم يُكذِّب مُقاتِل بن حيان إنما كذَّب مُقاتِل بن سُليمان، مُقاتِل بن سُليمان – والعياذ بالله – رُميَ بالتجسيم، كان مُجسِّماً وله كلمات في التجسيم – تجسيم الله والعياذ بالله – تُوشِك أن تكون كفراً صريحاً بل هي كذلك، فمُقاتِل بن سُليمان فعلاً كذّاب، كذَّبوه ورموه بالتجسيم، هذا معروف كما قال الذهبي، لكن مُقاتِل بن حيان رجل فاضل، ثقة وصدوق رحمة الله تعالى عليه، وقد مات بأرض الهند، المُهِم مُقاتِل يقول ماذا؟ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ۩ أي نصيباً مُقدَّراً معلوماً مُحدَّداً، كيف هو؟ هذا فُسِّر في الحديث الصحيح ابعث بعث النار، ما هو بعث النار؟ من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون يُبعَثون إلى نار جهنم، وهؤلاء من يأجوج ومأجوج والأمم الأُخرى الكافرة، والواحد النبي ماذا قال عنه؟ منكم، الواحد من أمة محمد، لا هنأ الله إبليس، أيضاً تهنأ هو هنا بسبب هذا الخلق الكثير، فهو يخرج له من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعون، هؤلاء معه إلى جهنم، من كل ألف يخرج تسعمائة وتسع وتسعون، قال نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ۩، هؤلاء لي، أنا أعرفهم أنا، ولذلك أكثر الخلق اتبعوا الشيطان والعياذ بالله، أليس كذلك؟ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۩، في سبأ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۩، فهذا النصيب المفروض، من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعون، استحوذ عليهم والعياذ بالله.

۞ وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ۞

وَلأُضِلَّنَّهُمْ ۩، أي عن الصراط المُستقيم والهدي القويم، وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ ۩، ما معنى وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ ۩؟ سأضحك عليهم بالأماني وأجعلهم دائماً يعمدون إلى التسويف والتأخير، تأخير التوبة وما إلى ذلك، وأُمنيهم أنهم هم الهُداة وهم القصّاد وأنهم أهل الفوز في الدنيا والآخرة، هناك أُناس كثيرون هكذا!

وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ ۩، التبتيك ما هو؟ ما هو تبتيك آذان الأنعام؟ تقطيع آذان الأنعام، القص والتقطيع لآذان الأنعام، لماذا؟ هذه سيأتي تفسيرها مُفصَّلاً من سورة الأنعام، مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ۩، فهؤلاء كانوا يُقطَّعون، وكل واحدة لها علامة مُعيَّنة تُفيد أن هذه بحيرة وهذه سائبة وهذه وصيلة وهذه حام، إلى آخره! وهذا ممنوع، كل هذه شرائع من عندهم.

وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۩، هذا موضوع طويل، كيف تغيير خلق الله؟ قال الحسن البِصري الوشم، أتعرفون الوشم والدق؟ تغيير لخلق الله هذا وتشويه للجلد وهو من أبشع ما يكون، ورحمة الله على جداتنا، بشَّعن خلقهن وكانوا يظنون أنه جمال، وهو من أبشع وأردأ ما يكون، يا أخي شيئ رديء جداً، فعلاً هو تغيير وتبشيع لخلق الله.

في حديث صحيح عن عبد الله بن مسعود أنه قال لعن الله الواشمات والمُستوشِمات والنامصات والمُتنمِّصات والمُتفلِّجات للحُسن المُغيِّرات لخلق الله، ثم قال وما لي لا ألعنهن وقد لعنهن رسول الله وهو في كتاب الله؟ لماذا؟ أي ما لي لا ألعن مَن لعن رسول الله؟ قالوا أين في كتاب الله هذا؟ قال وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ۩، إذا هو لعن فسألعن قال، أنا ألعن مَن لعن رسول الله، وهؤلاء – قال – الواشمات والمُستوشِمات – المُستوشِمات الذين يطلبون الوشم، كالتي تقول تعالي وضعي وشماً لي، هذه هي، أما الواشمة هي التي تقوم بعمل الوشم، أي الأستاذة Prof، ما شاء الله عليها – ملعونات، والنامصات مَن هن؟ تعرفون أنهن مَن يقومن بتدقيق شعر الحاجبين، والمُتنمِّصات مَن هن؟ طالبات النمص لأنفسهن، والمُتفلِّجات مَن هن؟ اللاتي يبردن ما بين أسنانهن بالمبرد، لماذا؟ حتى يحدث الفلج، وهذا كان صفة جمال عند العرب، علماً بأننا ذكرنا هذا في دروس سابقة، على كل حال قال هذا كله تغيير لخلق الله، يُترَك الإنسان على ما هو عليه، فهذا ممنوع، انتبه! المرأة لا يجوز لها أن تأخذ شيئاً حاجبيها إلا إذا كان شائهاً، أي كان خارجاً عن الحد الطبيعي، هل فهمت كيف؟ حتى الفقهاء جوَّزوا ذلك، إذا كان خارجاً عن الحد الطبيعي فيجوز، أحياناً يكون هناك تشوه خلقي، كأن يطلع الشعر من هنا وهنا وهنا بشكل شائه، هذه بشاعة، فتَرجِع الحاجب إلى الحد الطبيعي، أما إذا كان الحاجب طبيعياً فيُترَك كما هو، انتهى، ممنوع!

قال وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ۩، الخسران الواضح اللائح.

۞ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ۞

يَعِدُهُمْ ۩، أي الشيطان، وَيُمَنِّيهِمْ ۩، رأينا ما التمنية، وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ۩.

وَيُمَنِّيهِمْ ۩، أي بأنهم – كما قلت – أهل الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، وهذا لا يُمكِن! وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۩، قال نعم هو وعدكم وأنا وعدتكم، الله مناكم أُمنية الحق وأنا منيتكم أُمنية الباطل، لكن: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ ۩، قال لا، أنا لم أضربكم على أيديكم قال لهم، إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ ۩، أنا فقط كنت أدعو وأقول وأُزمر وأُوسوِس للناس، فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۩، أي أنه يتبرَّأ منهم، وبالمُناسَبة يوم القيامة كل واحد ضال ومُضِل وزال ومُزِل يتبرَّأ من أخيه، وتبقى فقط الأسباب بين الصالحين، الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ۩ في الزخرف.

۞ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ۞

أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ۩، أي لا مناص ولا مخلص ولا مندوحة والعياذ بالله، بعد ذلك – كما قلنا – لأن القرآن مثانٍ مُباشَرةً ذكر في قُبالتهم جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والآيات واضحة.

۞ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ۞

وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ۩، أكَّده بالمصدر، حق الشيئ يحقه حقاً، فهو أكَّده بالمصدر، أي أكَّد مضمون هذا الخبر بالمصدر، قال وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ۩.

في الصحيح كان النبي يبدأ خُطبته بقوله فإن أصدق الحديث كلام الله.

۞ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ۞

لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۩، قال مُقاتِل بن سُليمان هذه الآية بلغني أنها نزلت في قومٍ من المُسلِمين وقومٍ من أهل الكتاب جلسوا فتفاخروا فقال أهل الكتاب ديننا خيرٌ من دينكم، نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم، هذا يعني أننا أولى بالله وأولى بالفلاح، ورد المُسلِمون بنحو ذلك، قالوا لا، بل ديننا خيرٌ من دينكم، نبينا بعد نبيكم – أي أن له هيمنة عليه – وكتابنا ناسخ لكتابكم، نحن أحسن، في بعض الآثار أن هذا عن اليهود والنصارى والمُسلِمين، الكل بدأ يتكلَّم، هؤلاء عن موسى وهؤلاء عن عيسى وهؤلاء عن محمد، المُهِم هذه الخلاصة، قال فأنزل الله – تبارك وتعالى – الآية، ويُروى نحو ذلك من طريق العوفي عن عبد الله بن عباس، نفس المعنى!

الله قال لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ۩، القضية ليست قضية أمانٍ وليست قضية رفع عناوين مثل أننا مُسلِمون، اليوم نحن نرى مُسلِمين لا يرفعون حتى عنوان الإسلام، يرفعون عنوان مذاهب وحركات وأحزاب وجماعات ويفرحون بأنفسهم، الواحد منهم يقول أنا من الحزب الفلاني، هذا يعني أنني أولى الناس بالإسلام، ما هذا الكلام الفارغ؟ أصلاً أنت لو رفعت حتى شعار الإسلام مع الكفّار أو بين الكفّار لن ينفعك، المسألة ليست مسألة شعارات مثل أنا مُسلِم وأنت كافر وأنت يهودي، لابد من العمل! هل هناك عمل وصلاح وتبرير وبرهنة لهذه الدعوى على الأرض أم لا؟ هذا الدين الصحيح، لابد أن نتعلَّم هذا المنطق وليس منطق العناوين والدعاوى، أنا من الجماعة الفلانية، إذن أنا قطعت تسعة أعشار الطريق إلى الجنة، مسكين أنت! أنت لا تقطع حتى نصف الطريق حتى بالإسلام، أي بدعوى الإسلام وبالأماني.

قال لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ۩، روى الإمام مُسلِم وغيره عن أبي هُريرة قال لما نزلت هذه الآية شقَّت على أصحاب محمد جداً، تعقَّدوا حين سمعوا الآية هذه، الله قال مَن يَعْمَلْ سُوءًا ۩، وجاء هذا مُنكَّراً، ليس للتعظيم وإنما للتعميم، أي سوء، صغير أو كبير أو مُتوسِّط، أي شيئ تغلط وتعمله سوف تتلقى عقوبته، مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ۩، فشقَّت عليهم جداً، صعبة جداً الآية هذه، فقال لهم – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن في كل ما يُصيب المُؤمِن كفارةً، حتى الشوكةِ – لأنه قال إن في ولذا الشوكةِ مكسورة فانتبهوا – يُشاكها وحتى النكبةِ يُنكَبها، ففرحوا طبعاً، قال لهم لا تخافوا، لا تظنوا أن هذا الجزاء في القبر أو في يوم القيامة فقط وسوف تهلكون، لا! في الدنيا يحدث أول بأول، حين ترتكب غلطاً يحدث عندك ضيق وحصر، لذا تفتح الباب وتقول لا أعرف لماذا أنا مُتنكِّد اليوم، الحمد لله، ألم يسوءك هذا؟ هذا سوف يُكفِّر به الله لك خطاياك، أرأيت؟ وحين تستحضر هذا المعنى يخف عنك، أليس كذلك؟ تقول الحمد لله، فليكن وإن شاء الله سوف يكون كفّارة للذنب الذي ارتكبته اليوم أو بعض الكلمات أو بعض النظرات، الحصر هذا والضيق هذا والهم هذا تكفير للذنوب، سُبحان الله! أحياناً يزيد على الإنسان وأحياناً يستمر معه ليلة كاملة، أليس كذلك؟ مُتعِب جداً جداً، فكل هذا يكون تكفيراً، حتى الشوكة تكون تكفيراً، وأنت تمشي – مثلاً – اصطدمت رجلك برزة الباب أو حُرِق الريسيفر Reciver – في ستين داهية – أو كُسِر الكوب أو تعطَّلت السيارة لأن الدبرياج D’embrayage خرب، كل هذا تكفير، أي شيئ يحدث لك ويسوءك هو تكفير، أي شيئ يسوء المُؤمِن هو مُصيبة، النبي قال أي شيئ يسوء المُؤمِن هو مُصيبة، اسمه مُصيبة! إذا ساءك هو مُصيبة، وقل إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩، ما الذي حصل؟ والله كُسِر الكوب، هو بخمسة شلنات لكن هذا لا يهم، هذه مُصيبة أيضاً وساءتني، ومن ثم سوف يُكفِّر لك الله إن شاء الله، ولذا الصحابة فرحوا.

تقول أمنا عائشة قلت يا رسول الله إني لأعلم أشد آية في كتاب الله، أي أنها قالت له أنا أعرف أصعب آية، انظر إلى الرسول عليه السلام، يا أخي هو مُعلِّم، لم يقل لها ومن أين لك أن تعرفي؟ هل أنتِ يُوحَى إليكِ؟ وما إلى ذلك لكي يستحوذ على العلم، لميقل لها هذا، قال لها ما هي يا عائشة؟ أخذها على قد عقلها، قال لها ما هي إذن؟ دعونا نرى ما الذي استنبطته، قالت له مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ۩، صعبة كثيراً – قالت له – هذه، أنا أعتبرها أحد آية، قال يا عائشة في كل ما يُصيب المُؤمِن كفارة له، حتى النكبة يُكنَبها، أي ليس كما فهمتيها قال له، أي شيئ يحدث لكِ هذا هو جزاؤه إن شاء الله، الحمد لله، فلم تعد صعبة كثيراً، بالعكس! ربما تكون تبشيراً حتى لنا، أليس كذلك؟ لأن لم يخل واحد منا من الهموم، يومياً! أليس كذلك؟ حين تذهب لكي تُوصِّل ابنك وتجلس في السيارة تنتظره وتنزعج احتسب هذا عند الله، الله نكَّد عليك أيضاً هكذا بسبب ذنب، انتبه! كان الفُضيل بن عياض يقول إني لأعرف شؤم معصيتي في خُلق دابتي وأهلي، قال حين أرتكب معصية تحرن علىّ دابتي وتشمس، لا تمشي كما أُريد، أي تُغلِّبني! وأعرف أن هذا تكفير للذنوب بسبب معصية، وكذلك الحال مع أهلي، قد تقول ما هذه المرأة؟ يا أخي النسوان مزاجيات، وهل أنت لست مزاجياً؟ كلنا مزاجيون، تقول النسوان مزاجيات يا أخي، أمس أحضرت لزوجتي هدية وكانت سعيدة وحين دخلت عليها اليوم وجدتها مُبوزة، يا أخي ما هذه الحياة؟ هي كرَّهتني في حياتي، لكن أنت أيضاً ارتكبت معصية، في الخارج نظرت إلى شيئ مُحرَّم أو فعلت شيئاً، فالله أعطاك هذا في زوجتك فنكَّدت عليك لكي يُكفِّر لك، احمد ربك يا رجل، ومن ثم سوف تصير صبوراً عليها، أليس كذلك؟ لكن جرِّب العكس يا أخي المُؤمِن، هذا الكلام كلام مُهِم جداً، دُرر هذا، والله دُرر نصائح السلف الصالحين، دُرر دُرر هذا الشيئ، جرِّب أول ما تخرج من بيتك الصبح إلى أن ترجع إليه أن تغض البصر وأن تُنطِق لسانك بذكر الله وأن تتوب من كل معصية – إن شاء الله – وأن تذكر الله وأن تلتزم بالصلاح والخير قدر ما تستطيع ثم ارجع، والله العظيم يا أخي كل أمورك سوف تمشي كالساعة أينما ذهبت، لا تستفح باباً إلا فُتِح، الأمور كلها تتسهَّل، الله سوف يُيسِّر لك العباد، سوف يُيسِّر لك الكفّار، حتى اليهود، أي واحد أمامك سوف يخدمك، ستمشي أمورك يا أخي بشكل جيد، شيئ غير طبيعي، شيئ غير عادي يا أخي، وهذه هي البداية، وإذا ظللت ماشياً في هذا الطريق سوف تصل إلى مقام لو أقسم على الله لأبره، حين تقول له يا رب أُقسِم عليك يُعطيك مُباشَرةً، خطير هذا، هذا أخطر المقامات، لكن هذه البداية، وما الطريق؟ الاستقامة، وكما أقول لك دائماً الحكاية ليست بالمظاهر، لا تُقيِّم الناس بالمظاهر، لابد من الاستقامة الحقيقية وأهمها الباطن والسلوك الظاهر بعد ذلك، قلوبكم وأعمالكم النبي قال، والله أعلم.

۞ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ۞

قال وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ۩، قلنا ما معنى نَقِيرًا ۩.

۞ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ۞

وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ ۩، هذه الآية فيها شرطا العمل المقبول الصالح، لا يُقبَل عملٌ ولا يكون صالحاً إلا بشرطين، أن يكون خالصاً لله تبارك وتعالى – لابد من الإخلاص والصدق – وأن يكون على المُتابَعة، فلا يكون فيه شائبة بدعة، لابد من مُتابَعة سُنة الحبيب الأعظم عليه الصلاة وأفضل السلام، فهذا هو العمل الصالح المقبول.

العمل إذا خلا من الإخلاص كان رياءً أو نفاقاً، فهذا مردود، وإن خلا من المُتابَعة كان عناءً في غير جدوى، لأنه بدعة! وفي الحديث الصحيح من طريق ابن مسعود مرفوعاً اقتصادٌ في سُنة خيرٌ من اجتهادٍ في بدعةٍ، أي أنك تُتعِب نفسك بسبب كلام فارغ، فهذا شرطان للعمل، الأول إسلام الوجه لله، الإخلاص فقط، لا تُريد إلا وجه الله، لابد من الإخلاص، قال مُحْسِنٌ ۩، ولا تكون مُحسِناً إلا بالمُتابَعة، أي مُتابَعة رسول الله.

قال الإمام ابن القيم الجوزية – رحمة الله عليه رحمة واسعة – في كتابه العظيم الفذ طريق الهجرتين – هذا في أول طريق الهجرتين – وقد قال شيخ الطائفة أو الطائفتين الجُنيد بن محمد أبو القاسم – رحمة الله عليه وقدَّس الله سره، كان عالماً وعارفاً بالله كبيراً جداً، فينقل عنه ابن القيم أنه قال الآتي – قال الله تعالى لحبيبه محمد وعزتي وجلالي يا حبيبي لو أتوني من كل طريق واستفتحوا كل باب ما أذنت لهم حتى يدخلوا خلفك، لا ينفع غير هذا، لا تقل لي أنا طيب وأُحِب الله في حين أنك مُخالِف للرسول وتضع رأسك برأس الرسول، لا يُمكِن! أنت عبد عند رسول الله، من ورائه سوف تدخل، أنت تحته وتحت لوائه باستمرار، أنت لا شيئ بغير رسول الله، ومن ثم سوف يأذن لك الله، أما البدع ومُخالَفة دينه ومُخالَفة سُنته أمور غير مقبولة، كل هذا كلام فارغ.

قال العارفون بالله كل عمل بلا مُتابَعة فهو عيش النفس، انتبهوا! ما معنى عيش النفس؟ هوى النفس، انتبهوا! أعتقد أي واحد إذا فتَّش في نفسه قد يجد هذا، حين يأتي ويُصلي الفريضة وحده – مثلاً – ينقرها أي نقر، أليس كذلك؟ بعض الناس يُصلي بسرعة، وحين يقوم لكي يُصلي الليل أو التهجد يُطوِّل، يقرأ بنصف جُزء ويتباكى وما إلى ذلك، هذا عيش النفس، لماذا؟ هو بينه وبين نفسه يُريد أن يُبرِهن لنفسه أنه تقي ويقول لها إنه أصبح من الأولياء وإنه مثل السلف الصالحين وها أنا أقوم الليل وعندي نصيب منه، فلماذا؟ الفرض أحسن من قيام الليل ألف مرة، الفريضة! لا يقبل الله النافلة حتى تُؤدى الفريضة، الفريضة أهم من كل النوافل، أنت صليت الفريضة بدون اتقان، أي “شلفقتها شلفقة” كما يُقال، لماذا؟ لأن ليس للنفس حفظ فيها، هل فهمت؟ ليس للنفس حظ فيها، الفريضة كل المُسلِمين يُصلونها، أليس كذلك؟ فلا تقول أنا – والله والحمد لله – أُصلي الخمس، سوف يُقال لك يا سلام! ما هذا؟ ما معنى أنك تُصلي الخمس؟ هذا طبيعي، هذا النصاب نصاب الإسلام طبعاً، لكن حين تقوم أقوم الليل – من خمسة أشهر مثلاً أقوم الله – يختلف الأمر، أنت فعلت شيئاً الناس الآخرون لا يفعلون مثله، أليس كذلك؟ فهذا عيش النفس، ولذا تُصلي الفريضة بدون تجويد أما قيام الليل تُجوِّده أحسن تجويد، عيش النفس! انظر إلى مولاك رسول الله، فهو لم يكن كذلك، (ملحوظة) قال أحد الحضور إن هذا لله، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا ليس لله، للنفس هذا، لا تقل هذا لله، هذا للنفس، لو كان لله لأديت الفريضة ولجوَّدتها أحسن تجويد، الفريضة بالذات! لأنها فرض يا رجل، ما لك؟ هذا فرض، بعد ذلك تبدأ تُجوِّد الأشياء الأُخرى.

سُفيان الثوري رجل قال له يا إمام – يا أبا سعيد – حدِّثني عن فضيلة الصلاة في الصف الأول، هذا الرجل يُريد أن يصير من المُصلين وأت يُعرَف بين الناس أنه من أهل الصف الأول، وسُفيان يعرفه ويعرف أنه يأكل أي أكل، أي ما اتفق، فهو يعرفه ويبدو أنه خبرة، فقال له يا عباد الله انظر ماذا تُدخِل جوفك ثم لا تُبالي إن صليت في الصف الآخر، هو يعرفه ويعرف أن المسكين يضحك على نفسه، هو جاهل، ليس عنده علم هذا الرجل، أتى ليعرف أحاديث عن الصف الأول، لكي يقول أنا أُصلي في الصف الأول من ثلاثين سنة مثلاً، سمعت عن سعيد بن المُسيب أنه صلى في الصف الأول أربعين سنة ولم تفته تكبيرة إحرام، أي أنه يُريد أن يفعل مثله، فهم غالط، ما معنى صف أول وصف ثانٍ؟ أنت تأكل حراماً وشُبهات، تأكل أي شيئ، لا تتق الله في المال وفي الرزق، ثم تقول أنك تُريد الصف الأول؟ أنت تضحك على نفسك، أليس كذلك؟ هذا هو، أرأيت هذا؟ فلا تقل لي هذا لله، لا تقل هو يُريد أن يُصلي في الصف الأول لأن الصف الأول جيد، لا! هو بالنسبة له جيد، هل فهمت قصدي؟ فهذا كله عيش النفس، هذا حظ النفس، نحن نُريد الشيئ لله.

أحد الصالحين قال اعتزلت في رأس جبل كذا وكذا سنة – لا أعرف تحديداً – أتعبَّد الله – تبارك وتعالى – بصدق وإخلاص كما ظننت في نفسي، أي ظننت أن هذا لله، لا يتعبَّد أي منا وحده، أي مثل بني إسرائيل، وهذا ليس من الإسلام، أعني هذه الرهبانية بصراحة، هذه مُبتدَعة في الدين عندنا، قال ثم أتتني والدتي بعد سنين، فقالت يا فلان، يا بُني، قلت لبيكِ يا أماه، قالت لي إليك حاجة، قلت ما هي؟ قالت كذا وكذا، تُريد منه أن يأتي لها بشيئ مثل ماء وما إلى ذلك، قال فقلت نعم، فقطعت عبادتي على مضض، أي أنه شعر بالكراهية، كأنه يقول لنفسه لماذا أتتني؟ لقد تركت العبادة وما إلى ذلك، قال فعلمت أنني كذّاب!

لو كنت صادقاً لعلمت أن برك لأمه أحسن لك من عبادتك في الجبل خمسين سنة، أليس كذلك؟ برك لأمك مُهِم، البر هام جداً، بر الوالدين أقصر طريق إلى رضوان الله تبارك وتعالى، أليس كذلك؟ اجلس عند أرجلهم واغسلها، فقط مرضاة الوالد والدة! فليُسرِع مَن عنده أب وأم قبل أن يموتا، ينبغي أن يلحق نفسه ويبرهم، كنز هذا يا إخواني، طريق قصير جداً إلى الجنة والله العظيم، طريق قصير! إذا كان عندك خمسة إخوة أو خمس أخوات ونجحت في أن والدتك أو والدك يُحبِك أكثر من البقية فسوف تكون سيد الواصلين بإذن الله تعالى، كيف تجعل والدك يُحِبك أكثر واحد؟ لابد من البر، لابد من أن تبره أكثر من كل إخوانك وأخواتك، أليس كذلك؟ ليل نهار تسعى إلى ذلك حتى يحلف بحياتك كما يُقال، حتى يجعل نصف دعائه لك، كأن يقول اللهم ارض عنه وما إلى ذلك، هذه الشطارة، هنا تُوجَد البطولة، وليس في المشيخة واللحى والدعاء والبكاء أمام الناس، لا! وإنما في هذه الأشياء، وهذه ليس فيها حظ للنفس، أليس كذلك؟ الناس لا يرونها، أبوك وأمك يريانها، أليس كذلك؟ هناك أُناس يفعلون العكس تماماً، فهنا قال علمت أنني كذّاب وُمنافِق بعد سنوات، وإلا لماذا انزعجت من والدتي؟ في الداخل وجد شيئاً من انزعاج، لأنه غير صادق، لو كان صادقاً وأراد فعلاً رضوان الله وأراد الأجر لكان من المفروض أن يهتبل هذه الفرصة وأن ينتهز هذه الفرصة، الأم جاءت إلىّ، ومن ثم سأترك كل شيئ من أجل أن أفعل لها ما تُريد، أليس كذلك؟

أنتم تعرفون سبب فتنة جُريج، العابد جُريج والرجل العارف من بني إسرائيل سبب فتنته حدَّثنا عنها النبي في البخاري، سبب فتنته أن والدته جاءت تُناديه وهو في الصلاة فلم يُلبها، قال يا رب صلاتي وأمي، أي أنه قال لا، الصلاة أولى بصراحة، هكذا هو فكَّر، ولذلك حتى العلماء اختلفوا، قالوا لو ناداك الأب والأم في صلاة فريضة لا تُلب لكن في النافلة بعضهم قال لب، اقطع الصلاة ولب أباك وأمك، تخيَّل! شيئ عجيب، لكن في الفريضة لا، فهذا شيئ غريب، فابتُليَ بهذا السبب، أسخط أمه قليلاً وأوغر صدرها عليها لأنه لم يقطع عبادته لله – تبارك وتعالى – لكي يُلبي أمه، فالله قال سأفتنك، وفُتِن الرجل المسكين، وطبعاً هو لم يرتكب معصية، لكن كيف فُتِن؟ ضُرِب واتهموه بالزنا لكنه كان صالحاً ولم يفعل أي شيئ، وهذا كان تكفيراً لذنبه هذا، وقالت له أمه يا جُريج لا أماتك الله حتى يُريك وجوه المُومِسات، هذه فتنه أيضاً، أن يرى وجوه العاهرات والعياذ بالله، فنحن أتى بنا الله إلى هنا لكي نُفتَن أيضاً، والله العظيم! هذه ليست كرامة، والحمد لله يُوجَد أُناس هنا يُمكِن أن يعيش الواحد منهم خمس سنوات ولا يرى وجه مُومِس، الحمد لله! هذا أيضاً يُكرِمه الله، لا يمشي في الشوارع السيئة ولا يذهب ناحيتها، الله يُيسِّر له سيارة فيذهب بها من بيته إلى المسجد وإلى العمل، ليس له علاقة بهذا العالم كله، كأنه يعيش في الدول العربية، هذا أحسن له إن شاء الله، جعلنا الله مثله، هناك أُناس هكذا ما شاء الله، تجد الواحد منهم من سنين لم ير هذه الأشياء، ويكون هذا من كرامته على الله، أليس كذلك؟ فعلاً أشياء دقيقة هذه.

اللهم صل على سيدنا، إذن هذا هو الإخلاص وهذه هي المُتابَعة، قال وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۩، وقلنا ما هو الحنف، الحنف هو الميل، وهنا هو الميل القاصد عن الشرك إلى التوحيد، عن قصد وعن علم! أصلاً أنت تترك الشرك عن معرفة، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ۩، هذا معنى إبراهيم الحنيف، لأنه مال عن الشرك إلى التوحيد عن قصد وعن علم وعن دراية.

قال الله وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ۩، تحضيض هذا، تحضيض غير مُباشِر على اتباع مِلة إبراهيم، قال أحسن شيئ أن نتبع مِلة إبراهيم، لكن مَن هم الذين اتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً؟ محمد وأمته إلى يوم القيامة قال المُفسِّرون، نحن والحمد لله.

إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ۩، أمة محمد، فنحن أولى الناس به ونحن أتباعه – والحمد لله – إلى يوم الدين، والله حضضنا، ماذا قال؟ قال وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ۩، فهو إمامٌ يُقتدَى به ويُؤتسى به ويُحتذَى، ولذلك اتخذوه إماماً، لأن الله اتخذه خَلِيلاً ۩، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال – صلى الله عليه وسلم – في آخر خُطبة خطبها لو كنت مُتخِذاً خليلاً من الناس لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة ولَكِنْ – ليس ولَكِنَّ وإنما ولَكِنْ – صاحبكم خليل الرحمن، أي أنه قال لي أصحاب لكن الخُلة لله فقط، قال حتى أبو بكر ليس خليلي، أنا خليلي الله عز وجل، وصح عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – أنه قال لقد اتخذني الله خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، إذن محمد حتى له الخُلة وله المحبة، هو حبيب الله وهو خليل الله، أيهما أرفع: الخُلة أو المحبة؟ الخُلة، انتبهوا! ولذلك النبي كان يُدِل بها، كان يفتخر ويفرح بهذا، قال لقد اتخذني الله خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، أما المحبة معروفة، معروف ما هي المحبة لكن الخُلة درجة عالية، علماً بأن درجات المحبة عشرون درجة، وهذه كلها أمور غريبة في اللُغة العربية، من أقواها الخُلة، ما هي الخُلة؟ أن تتخلَّل المحبة مَن تُحِب جوانحك وتضاعيفك وأنحاءك تخلل الروح في الجسد، أي لا تترك لا ذرة ولا جُزئية ولا خلية إلا وتدخل فيها، هذه هي الخُلة، الخُلة حُب كبير جداً جداً، يمتلك عليك ويستحوذ عليك كيانك كله، أي القلب والقالب، وتلهج دائماً بذكر المحبوب، قال:

قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي وَبِذَا سُمِّيَ الخَلياُ الخَلِيلاَ.
فالخُلة مرتبة عالية جداً جداً، أعلى من المحبة بلا شك، فمحمد – عليه السلام – أُوتيَ المحبة ثم أُوتيَ الخُلة، وأُوتيَ السيادة على العالمين وعلى ولد آدم، وهذا أرفع وأرفع، عليه الصلاة وأفضل السلام.

۞ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا ۞

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا ۩، هذه الآية واضحة.

نختم بآية واحدة حتى نختم هذه الصفحة إن شاء الله، إذن غداً نختم سورة النساء، ما استطعنا للأسف أن نفعل هذا اليوم، ما استطعنا!

۞ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ۞

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ۩، هذه الآية إخواني وأخواتي ضعوها – إن شاء الله – مع الآية التي في أول النساء، وهي ماذا؟ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۩، وقلنا كيف هذا، ذكرنا حديث الشيخين عن عُروة عن عائشة وعرفنا كيف فُسِّرت، هذه الآية تُكمِل الآية التي في الأول.

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ۩، أي في النساء، وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ ۩، أي من الصَدُقات ومن المهور كما ينبغي، ولا تبلغون بهن أعلى سُنتهن في الصداق، وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ ۩، هنا المُشكِلة، تعرفون فعل رغب، يتعدى بحرفين: رغب في ورغب عن، هنا رغب مع المصدر، هذا غير واضح، أي ترغبون نكاحهن، ترغبون في نكاحهن مُحتمَل، ترغبون عن نكاحهن مُحتمَل، على سبيل البدل! فهنا كلا الحرفين مقصودان على سبيل البدل، كيف على سبيل البدل؟ ليس مرة واحدة، ليس معنى الآية أن ترغبوا في وعن، لا يُمكِن! مرة نُفسِّرها ترغبون أن تنكحهن بمعنى ترغبون في نكاحهن ومرة نُفسِّرها ترغبون عن نكاحهن، هل فهمنا كيف؟ إذن عن وفي، يُقال رغب عن ورغب في، قال النبي مَن رغب عن سُنتي فليس مني، إذن قال رغب عني، لكن مَن رغب في سُنتي فهو مني، أليس كذلك؟ أحبها! فهو يتعدى بفي وعن، وهنا على سبيل البدلية على سبيل الجمع.

أم المُؤمِنين عائشة في حديث في البخاري فسَّرت هذه الآية، باختصار ماذا قالت؟ قالت هو الرجل تكون عنده اليتيمة تشركه في ماله حتى في العَذق، وقلنا ما العَذق والفرق بينه وبين العِذق، العَذق هو النخلة بما حملت، العِذق هو الشمراخ بما حمل، فهي قالت تشركه في ماله حتى في العَذق، فماذا بعد؟ فإن هويها تزوَّجها، أي إن رغب في نكاحها ماذا يحدث؟ يتزوَّجها، ولا يُعطيها ما ينبغي لها من مهر، لأن المسكينة تحت سُلطانه، أليس كذلك؟ وهي يتيمة وهو ولي عليها ووصي عليها، عنده رغبة في مالها وفي جمالها، يتزوَّجها لكن دون أن يبلغ بها سُنة أمثالها في الصداق، وهذا ظلم لا يجوز وقد جعل الله في ذلك سعة، وهذا يكون في معنى الآية الأولى.

إذن إذا فسَّرنا وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ ۩ على أنها مُتعدية بفي – أي ترغبون في نكاحهن – فستكون في معنى الآية الأولى، نُريد أن نرى العكس الآن، هذا مروي عن عائشة وعن ابن عباس، ترغبون عن نكاحهن، فتكون هذه الحالة متى؟ هذه الحالة متى تكون؟ إذا كانت دميمة، عندها مال وما إلى ذلك لكن تكون دميمة ولا يهواها قلبه، أليس كذلك؟ لا يهواها قلبه ويتقدَّم إليها الرجال فيمنع زواجها أبداً، لا يُريد أن يُزوِّجها طبعاً، لماذا؟ لو تزوَّجها رجل شركها زوجها فيما كانت تشركه فيه، هو لا يُريد، طمعه إلى ماذا؟ عينه إلى ماذا؟ إلى المال، فيعضلها ويتركها بلا زوج حتى تموت ويرثها، ظلم هذا يا أخي، لا يصح الكلام هذا، كيف يحدث هذا؟ ابن عباس يقول في حديث رواه الطبري وغيره كان الرجل في الجاهلية إذا كانت عنده اليتيمة وعندها مال ألقى ثوبها عليها، عندهم هكذا شعائر مُعيَّنة كأن يُلقي الثوب عليها، والناس تعرف أنه إذا ألقى الثوب عليها فلن يستطيع أحد أن يتقدَّم إلى خِطبتها، وبعد ذلك إذا أراد أن يتزوَّجها إذا كانت جميلة تزوَّجها وظلمها مهرها وصدقها وشركها في مالها، وإذا كان به رغبة عنها لدمامتها خلاها كذا حتى تموت ثم يرثها، فنهى الله عن ذلك، أرأيتم معنى الآية؟ فالآية إذن تُصوِّر حالتين، هذا هو فقط، ثم تُفهَم على الآية وجهها إن شاء الله تبارك وتعالى.

قال وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ ۩، الله يُفتيكم أيضاً في المُستضعَفين من الولدان، ما قصة المُستضعَفين من الولدان؟ شرحناها في آية الميراث، كانوا في الجاهلية لا يُورِّثون الصغار ولا البنات، فالبنات لا يرثن سواء كن كباراً أو صغاراً، هل فهمتم؟ نقول كانوا في الجاهلية لا يُورِّثون الصغار ولا البنات، فالبنات لا يُورَّثن لا كباراً ولا صغاراً، والذكور إذا كانوا صغاراً لا يُورَّثون، إذا صاروا رجالاً وقاتلوا وحملوا السيف وركبوا الأفراس وُرِّثوا، الله قال هذا أيضاً كان غير صحيح، وقد حدَّد الله الأنصباء لكل واحد، حدَّد الأنصباء بالعدل والقسمة الإلهية لكل أحد!

قال وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ۩، كيف وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ۩؟ أن تُقسِطوا في مُعامَلتهم وفي تدبير أمورهم وأحوالهم المالية بالذات، كما قال وَقُومُوا لِلَّهِ ۩، قَوَّامِينَ لِلَّهِ ۩، وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ۩.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

Gamal‎

رؤية كل المقالات

ملفات الفيديو ذات الصلة

دروس تفسير القرآن الكريم – الدرس الثامن عشر – تفسير سورة النساء من الآية الثانية والتسعين إلى الآية السابعة والعشرين بعد المائة

الدرس الثامن عشر تفسير سورة النساء من الآية الثانية والتسعين إلى الآية السابعة والعشرين بعد المائة

شارك هذا الموضوع:

معجب بهذه:

تعاليق

Gamal‎

مواضيع ذات صلة

أضف تعليق

اترك رد إلغاء الرد

الدرس الثامن عشر
تفسير سورة النساء من الآية الثانية والتسعين إلى الآية السابعة والعشرين بعد المائة