الدرس الثالث عشر
تفسير سورة آل عمران من الآية السادسة والثلاثين بعد المائة إلى آخر السورة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأمين وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، علَّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، ربنا تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركعونا وسجودنا ودعاءنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا.
أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، نستعين بالله – تبارك وتعالى – في إكمال ما بقيَ من سورة آل عمران، وهو في الحقيقة جُزء ليس باليسير ولذلك نُريد – إن شاء الله – أن نستعجل قليلاً حتى نختم اليوم هذه السورة الكريمة.
۞ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ۞
بلغنا أيها الإخوة إلى جزاء أولئكم القوم أصحاب الصفات العالية والأخلاق السنية الذين يُنفِقون في السراء والضراء ويكظمون غيظهم ويعفون عن الناس ويُحسِنون والذين يعودون إلى الله بالتوبة والاستغفار كلما أحدثوا ذنباً فاحشاً كان أو صغيراً، قال – عز من قائل – أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ۩، وقد قلنا غير مرة أن أصل المغفرة هو الستر، أصل الغفر – المصدر هو الغفر – الستر، وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ۩، هو قال وَجَنَّاتٌ ۩ لأن في الحقيقة الجنة اسم جنس، وإلا هي ليست جنة واحدة، لكل مُؤمِن على الأقل جنة، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ – من المُؤمِنين – جَنَّتَانِ ۩، فهي جنات، هي جنات كثيرة!
۞ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ۞
ثم قال – تبارك وتعالى – مُعزياً المُسلِمين في مُصابهم الذي أصابهم بأُحد قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ۩.
۞ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ۞ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۞ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۞
هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ۩ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۩ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۩، القرح هو ما أصابهم من الجراحات ومن الشهادة التي شرَّف الله بها قوماً منهم أربوا على السبعين، قال فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ ۩ أي كفّار قريش، قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۩ يعني في بدر، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ۩، هذه حكمته، الله يُعرِب ويُترجِم عن حكمته في إيقاع هذا المُصاب الأليم والقرح بالرسول وأصحابه، قال وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ۩، ما معنى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ ۩؟ الله طبعاً لا يجهل شيئاً، أستغفر الله! إنما ليُظهِر علمه، كما قال – تبارك وتعالى – مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ۩، ما معنى هذه الآية؟ الله في غيبه يعلم أن هذا خبيث وهذا طيب، ولكن كيف يُعلِمكم أنتم؟ لابد من أن يُقيم الفتنة والابتلاء، لابد من أن يُقيم معيار الفتنة والابتلاء وبالتالي ينماز الطيب من الخبيث والصالح من الطالح وإلا فالله كله معلوم عنده!
وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء ۩، هذه أيضاً من حكمته، أن يصطفي أنفاراً منكم وجماعات ليكونوا شهداء، وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۩.
۞ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ۞
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ۩، كيف كان تمحيص المُؤمِنين؟ كان تمحيصهم بما نزل فيهم من ألم الهزيمة، وأيضاً من ألم الجراحات، هذا تمحيص، تكفير لذنوبهم، ومَن ليس عنده ذنوب كبيرة تُمحَّص بمثل هذا الشيئ فرفعة أيضاً في درجاته، هذا داخل في مفهوم التمحيص كما قال المُفسِّرون، ولكن إذا كان هذا واضحاً فليس بالواضح قوله وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ۩، كيف والكفّار انتصروا؟ إذا مُحِّص المُؤمِن فكيف مُحِق الكافر وقد انتصر؟ قال السادة العلماء لا، لأن من دأب الكافرين – والعياذ بالله – أنهم إذا انتصروا بطروا وطغوا وبغوا، فتلك علامة وإشارة إلى أن أخذ الله إياهم قد اقترب وأوشك، فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ۩، ليس النصر فقط، النصر والنعمة والولد والكثرة والازدهار وكل شيئ، فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ۩، هذه طريقة الله تبارك وتعالى، فنصر الكافر وإن كان لوقت معدود وأمد مُؤقَّت إلا أنه لا يتم له الفرح به، لأنه سيكون مُقدِّمة لأخذ الله إياه أخذاً أليماً شديداً، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ۩.
۞ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ۞
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ۩، هي في معنى قوله – تبارك وتعالى – في البقرة وقد سبق تفسيرها أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۩، يستفتحون، يطلبون النصر من شدة ما حاق بهم وأحدق بهم من البلاء، من شدة ما حاق وأحدق بهم من البلاء والمشاق، هذا نفس الشيئ، وأيضاً في أول العنكبوت أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ۩ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ۩، الآيات كثيرة في هذا المعنى، الإيمان ليس دعوى، ليس زعماً، كأن يُقال أنا مُؤمِن أو نحن مُؤمِنون، إذا كنا مُؤمِنين فلابد أن نُثبِت وأن نُبرهِن أيها الإخوة وأن نُبرِّر هذه الدعوى الإيمانية في ميدان الاختبار، أوسع ميدان وأشقه وأصعبه ميدان ماذا؟ الكفاح، المُجاهَدة، الحرب، الجهاد، هذا هو، هذه سُنة الله أيضاً تبارك وتعالى.
۞ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۞
وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ ۩، كنتم تتحرَّقون على لقاء الكفّار وتُريدون أن تثبتوا، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۩، كيف رأوا الموت؟ رأوا الرؤوس وهي تطوح وهي تُقط قطاً وهي تُقطَّع تقطيعاً، وهكذا! هذا معنى أنهم رأوا الموت الزؤام الأحمر أمامهم.
۞ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ۞
وَمَا مُحَمَّدٌ ۩، عليه الصلاة وأفضل السلام، إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ۩، يُروى كما ذكرنا أمس أن مُهاجِرياً مر بأنصاري وهو يتشحَّط في دمه فقال له أدريت يا فلان أو أعلمت يا فلان أن محمداً – عليه الصلاة وأفضل السلام – قد قُتِل؟ فقال الرجل وهو يشخب دماً ويلفظ آخر أنفاسه إن كان مُحمداً قد قُتِل فقد قام بما عليه، عليه الصلاة وأفضل السلام، أدى الذي عليه، هو بالضبط قال فقد بلغ، هذا معنى أدى الذي عليه، فقد بلغ! أما أنتم فقاتلوا عن دينكم، فأنزل الله وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۩ مصداقاً لقول هذا الرجل الصالح الشهيد الأنصاري رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، وقيل قالها مُصعَب بن عُمير هذه الجُملة فأنزلها الله مصداق ما قال مُصعَب تماماً يُوافِقه، والله أعلم، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، وأنتم تعلمون لما تُوفيَ مولانا رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – بعض الناس أنكر وفاته ومنهم الفاروق عمر، عزب عن عقله، عزب عنه حلمه، أي نوع من الذهول والغفلة العجيبة، ورفع سيفه – استله – وقال والله الذي لا إله إلا هو لا أسمع أحداً يقول إن محمداً قد مات إلا ضربت عُنقه بسيفي هذا، إن رسول الله لا يموت ولا ينبغي له أن يموت، وإنما ذهب لميعاد ربه وإنه راجع كموسى، بدأ سيدنا عمر يهزي، لا يُصدِّق، مُستحيل! كيف مات الرسول؟ فجاء أبو بكر وقال يا عمر اجلس، جلَّسه فلم يجلس، قال له يا عمر اجلس فلم يجلس، عمر هائج، فقد عقله من شدة الصدمة برسول الله عليه الصلاة وأفضل السلام، فأقبل أبو بكر على الناس فترك الناس عمر وأقبلوا على أبي بكر، أرأيتم؟ هذه الأشياء واضحة عند الناس ومعروفة المراتب، هذا أبو بكر وهذا عمر، الناس يعرفون أن هذا أجل، فتركوا عمر وأقبلوا على أبي بكر، فقال أيها الناس – العبارة المعروفة التي ذهبت وحفظها الكبير والصغير – مَن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومَن كان يعبد الله وحده فإن الله حيٌ لا يموت، ثم تلا الآية الكريمة وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ۩، يقول عمر فوالله ما إن سمعتها حتى عُقِرت، ما هو العقر؟ هو قطع ركب أو قطع سيقان الدابة، أي لم تحملني رجلاي، قال حتى عُقِرت، وهذا أيضاً مبني للمجهول، للأسف يضبطه بعضهم عَقرت، كيف عَقرت؟ قال حتى عُقِرت، ولم تحملني رجلاي فهويت على الأرض، مُباشَرةً! في روايات حتى فقد وعيه، أُغشيَ عليه، ثم تلاها الناس، ما بقيَ من كبير ولا صغير إلا جعل يتلو الآية ببركة أبي بكر، كأنها أُنزِلت الآن، بالنسبة إلى الناس كأن هذه الآية نزَّلها الله تبارك وتعالى، فصار الكبار والصغار يُردِّدونها في الشوارع وفي كل مكان، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۩، تقول عائشة كما في البخاري كان أبو بكر بالسنح – كان عند زوجة من زوجاته بالسنح، وهو تزوَّج كما قلنا أربع زوجات، ثنتين في الجاهلية وثنتين في الإسلام، كان عند إحدى زوجاته بالسنح – فلما علم أن رسول الله قد لبى نداء ربه أقبل مُسرِعاً ثم دخل عليه مُباشَرةً وكشف عن وجهه وأكب عليه يُقبِّله ويبكي، يقول بأبي أنت وأمي يا رسول الله، طبت حياً وميتاً، ما أطيبك! أما الموتة التي كتب الله فقد ذُقتها ولن تذوق بعدها يا رسول الله، وجعل يبكي ثم خرج إلى الناس رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.
۞ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ۞
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه ۩، ومحمد نفس منفوسة، أليس كذلك؟ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ ۩ في السورة هذه في آخرها أيضاً، قال السادة العلماء هذا عزاءٌ للناس أجمعين، كُلُّ نَفْسٍ ۩، ما خُلِّد أحد، لا نوح ولا محمد، حتى الخضر الذي يُقال إنه حي أيضاً سيموت في آخر الزمان، لا يُوجَد خلد، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ۩، مُستحيل! لا يُوجَد بشر مُخلَّد، كُلُّ نَفْسٍ ۩، كل نفس منفوسة، كل كائن حي، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۩.
قال تعالى وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً ۩، فإذا انتهى أجلها الذي أجَّل الله – تبارك وتعالى – انقطعت من هذه الدنيا وأقبلت على العالم الآخر، يُروى عن حُجر بن عدي الآتي، وأنتم تعرفون حُجر الذي قتله مُعاوية، حُجر بن عدي كان رجلاً يُقال له صُحبة ويُقال ليس له صُحبة ولكنه تابعي جليل، اختُلِف في صُحبته، لكنه رجل من كبار عبّاد وزهّاد وأولياء هذه الأمة، معروف حُجر بن عدي، في القادسية أيها الإخوة – تعرفون قادسية سعد بن أبي وقاص مع الفرس – المُسلِمون أرادوا أن يعبروا إلى عدوهم ولكن بينهم وبين عدوهم دجلة، أي نهر دجلة، فهم لا يستطيعون والفرس تهاب أن تعبر النهر والماء مُرتفِع ويُقال قد مد مده، ليس في حال جزر وإنما في حال مد، فقال حُجر بن عدي ما الذي يمنعكم عباد الله أيها المُؤمِنون أن تجوزوا هذا إلى عدوكم؟ أهذه نُطفة؟ قال لهم أقطعة الماء هذه؟ ثم تلا الآية وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ۩، انظروا إلى اليقين، ليست آية يتلوها هكذا فقط، هذه الآية دستور حياة عنده في مثل هذا الموقف الصعب، ثم تلا وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ۩، ثم قال بسم الله، وأقحم فرسه دجلة، فاقتحمت سُبحان الله، رفعها الله عز وجل، ثم أقحم بقية الجيش، فلما رآهم الفرس قالوا ديوان ديوان، جمع ديو بالفارسي، ديو معناها ماذا؟ معناها عفريت كبير، أي عفاريت عفاريت! لأن جمع ديو ديوان بالفارسية، قالوا ديوان ديوان، وفروا وكان النصر بآية.
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً ۩.
يا أيها المعدودُ أنفاسُه لا بدَّ يومًا أن يتمَّ العددْ.
لا بدَّ من يومٍ بلا ليلةٍ وليلةٍ تأتي بلا يومِ غدْ.
أنفاس معدودة، معدودة بالعدد، لن تستطيع أن تسحب نفساً ليس مكتوباً لك، نفس واحد لا تستطيع أن تسحبه، بالعدد! إذن كان عمرك هو مُجرَّد أنفاس لِمَ لا تُنفِق هذه الأنفاس في طاعة الله؟ في الذكر والتسبيح والاستغفار والعلم والفعل الصالح دائماً دائماً، كان عمر بن الخطاب – رضيَ الله عنه وأرضاه – كما يُروى عنه يُحاسِب نفسه على الأنفاس، ليس على الساعات، ليس على الأيام، بعض الناس يُحاسِب نفسه على السنوات، يترك نفسه حتى إذا رمضان يقول جاء رمضان، سُبحان الله، أنا – والله – في هذه السنة – من رمضان الفائت – لم أفعل كذا وكذا، ونسيت أن أفعل كذا وكذا من الواجبات، من سنة كاملة لم تُحاسِب نفسك؟ الآن بدأت تُحاسِب؟ هذا جيد على كل حال، هذا أحسن من الذي حتى لا يُحاسِب، لكن سنة؟ بعض الناس يفعل هذا كل شهر أو كل شهرين أو كل أسبوع، عمر كان يُحاسِب نفسه على الأنفاس، بالنفس! على اللحظات، على كل لحظة، ومَن لا يُراقِب الأوقات لا يُمكِن أن يبلغ مبلغ الرجال، أي الأولياء الكبار، لابد من الحساب على الأوقات، على اللحظات، على النفس، على كل لحظة في حياتك، لابد أن تُراقِبها، على كل حال نسأل الله أن يُثبِّتنا وأن يُعطينا من عطائه الواسع الجزل.
وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ۩، نفس الشيئ، هذه الآية أيضاً في معناها آيات كثيرة في كتاب الله.
۞ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ۞
وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ۩، كأين أي كم من باختصار، طبعاً فيها مبحث لُغوي مُعقَّد جداً، قيل هي بسيطة وقيل مُركَّبة، كأين! ما معنى بسيطة؟ أي وُضِعت هكذا – في أصل الوضع اللُغوي – كأين، هكذا كلمة واحدة، وتُعرَب إعراباً ثابتاً، وقيل لا، هي مُركَّبة من أي المُنوَّنة، أي أيٌ، فإذا دخلتها كاف التشبيه طبعاً كُسِرت فأصبحت كأين، كاف التشبيه وأي المُنوَّنة، فهي مُركَّبة على هذا والله أعلم، المُهِم المعنى هو كم من، أي للتكثير، ليس نبياً واحداً، كم من الله يقول، وكم من نبيٍ قاتل معه، قُريء في قراءة صحيحة قُتِل، وكأين من نبي قُتِل، معه ربيون كثير، اختلف المعنى! اختلف المعنى إذا قلنا بهذه القراءة، وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ – وكم من نبي – قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ۩، إذن النبي كان يُقاتِل ويُقاتِل معه الربيون، مَن هم الربيون؟ قال ابن عباس جموعٌ كثيرة من رِبة، ورِبة بمعنى ماذا؟ جماعة، رِبة بمعنى جماعة! رِبة ورِبيون، قالوا بمعنى بجموع كثيرة، قال الحسن البِصري – قدَّس الله سره – علماء فقهاء، الرِبيون هم علماء فقهاء، فكأنه مُشتَق عنده من ماذا؟ من الرَب على غير قياس، أليس كذلك؟ المفروض هي رَب، رَبَيون – مثلاً – أو رَبِيون، لكن هو قال رِبِّيُّونَ ۩، هي رَب وليس رِباً، مثل رَبانيين، أي أن كلمة رِبِّيُّونَ ۩ عند الحسن البِصري مثل رَبانيين، رِبِّيُّونَ ۩ مثل رَبانيين والله أعلم.
قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ ۩، على هذا المعنى واضح، وعلى القراءة الأُخرى – كأين من نبي قُتِل، معه رِبيون – نستطيع أن نقف عند قُتِل، كأين من نبي قُتِل وهو يُقاتِل، ومعه رِبيون، فهي تُناسِب ماذا؟ تُناسِب الحالة المُفترَضة المُتخيَّلة التي أُشيعت عن رسول الله أنه قُتِل، حتى وإن قُتِل، الله قال أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ ۩، حتى وإن قُتِل يجب أن تُواصِلوا مشوار الجهاد وإعلاء كلمة الدين والزود عن الحياض والذب عن المِلة، لأن هذا حال الأنبياء، لكن تُوجَد بعض الآثار والأخبار أنه ما قُتِل نبيٌ في معركة، لم يمت نبي في معركة، لم يحدث هذا لأي نبي من الأنبياء، فإن صح هذا الخبر فهذه القراءة إذن لابد أن تُؤوَّل، تصير ماذا؟ وكأين من نبي قُتِل معه رِبيون، فالقتل يكون واقعاً على مَن؟ على الرِبيين، هذا تأويل القراءة الأُخرى وهي قراءة صحيحة، فنُؤوِّلها بأن القتل لم يقع على النبي وإنما وقع على الرِبيين، وإن وقع فيهم القتل وأُثخِن فيهم إثخاناً لكنهم ما وهنوا – أي ما ضعفوا – لما أصابهم في سبيل، لأن هذا في سبيل الله، فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ۩.
۞ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ۞
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ ۩، قوله وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ ۩ يُفيد أن هذا هو هجِراهم، أن هذا كان هجِيراً لهم، ما معنى ان هذا هجِراهم؟ ديدنهم، فهم لم يقولوها مرة واحدة، طريقتهم دائماً في كل نصف ساعة أو كل ربع ساعة أنهم يقولون ماذا؟ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ۩، لا يقولونها مرة واحدة، يقولونها دائماً، انظروا إلى التعبير، قال وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ ۩، فهذا يُفيد أن هذا كان هجِراهم، كان ديدنهم هذا الدعاء الكريم، الآية الكريمة: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ۩، اللهم آمين.
۞ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۞
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩، الآية واضحة.
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ ۞
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ ۩، أيضاً واضحة.
۞ بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ۞
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ۩، أي لا تُطيعوهم ولا توالوهم، ووالوا مَن؟ الله الذي هو مولاكم، فإذا كان هو مولاكم ألا تُوالونه؟ بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ۩.
۞ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ۞
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ۩، أيضاً واضحة.
۞ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ۞
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ ۩، نعود الآن إلى أُحد، بعد هذه الآيات التعليمية التي فيها دروس وعبر وعظات نعود إلى سياق أُحد، قال تعالى وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم ۩، حسه بالسيف حساً – يحسه حساً – أي قطه وذبحه، هذا معنى الحَس، ليس تُحِس! يُوجَد فرق بين تَحُس وبين تُحِس، تُحِس بوسائل اللمس مثلاً، باليد وما إلى ذلك، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ۩، قال تُحِسُّ ۩، لكن تَحُس تعني تقتل بالسيف وتقطع بالسيف، هذا الحَس وليس الإحساس، يُوجَد فرق بين الإحساس وبين الحَس، هل هذا واضح؟ قال وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۩، هنا قد يقول لي أحدكم أين هذا وهناك هزيمة؟ أول النهار، أي نهار؟ نهار السبت، السادس عشر من شوال، نهار السبت! في أول النهار كانت الدولة لمَن والغلبة لمَن؟ للمُسلِمين قبل أن يُخالِف الرُماة عن أمر رسول الله وصدقنا الله وعده فعلاً، وكما قلنا فرَّت النساء في الجبل، حتى أن راية المُشرِكين في أُحد وقعت ولم يحملها أحد، وهذه علامة الهزيمة والإنكسار الكامل، إذا وقعت الراية انتهى كل شيئ! لماذا؟ لأن الراية هذه هي الأم التي ينكفئ إليها ويأوي إليها ويؤمها الجيش، فإذا وقعت الراية أصبحوا شذر مذر، وأصبحوا بدداً وأخذوا طرائق قدداً، انتهى كل شيئ، فهذه الراية ظلت مُدة ليست باليسيرة لا يحملها أحد، حتى جاءت امرأة من بني الحارث – حارثية اسمها عُمرة، فجاءت عُمرة هذه – وحملت الراية، عُمرية الحارثية هذه، امرأة! إذن هذا يعني أنها كانت هزيمة مُنكَرة حقيقية حاقت بهم، حاقت بهم هزيمة حقيقية، لكن بشؤم المُخالَفة.
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ ۩، أول النهار، هذا معناها، أليس كذلك؟ أول النهار، إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ ۩، قال ابن عباس فَشِلْتُمْ ۩ أي جبنتم، لأنهم هربوا، أليس كذلك؟ ولوا الأدبار في النهاية لما سمعوا أن الرسول قُتِل كما قلنا أمس، فسَّرها ابن عباس بالجُبن، أي حتى إذا جبنتم، وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۩، ما الذي أحبوه؟ قتلهم ومُغانَمة أموالهم، أي قتلهم واغتنام أموالهم، هذا هو، لكن انقلب!
مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ۩، كلمة مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ۩ في مَن هذه نزلت؟ في أصحاب الغنائم، الذين نزلوا وتركوا كل شيئ وخالفوا الأمر النبوي العتيد من أجل أن يغتنموا الغنائم، وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ۩، الآخرون الذين ثبتوا ولم يجبنوا ولم يفروا ولم يُخالِفوا.
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۩، كيف صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ۩؟ حين هُزِمتم، أليس كذلك؟ أنتم كنتم مُسلَّطين عليهم تَحسونهم ثم صُرِفتم عنهم وصارت لهم الدولة عليكم، صارت لهم الدولة عليكم والغلبة لهم، عكس الأول، عكس أول النهار سُبحان الله، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ۩ بهزيمتكم وخواركم وفشلكم، لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۩، إذن عُفيَ أو لم يُعف الآن؟ عُفيَ، عن مَن إن شاء الله؟ عن الجميع، عن الذين خالفوا الأمر عُفيَ وعن الذين هربوا وتركوا رسول الله وتركوا الحرب أيضاً عُفيَ.
رُويَ أن عبد الرحمن بن عوف – أحد العشرة المُبشَّرين عليه الرضوان والرحمة – لقيَ الوليد بن عُقبة – تسمعون هذا الاسم، هذا أخو سيدنا عثمان لأمه، هو أخو سيدنا عثمان وقد أمَّره على الكوفة ثم عُزِل لشربه الخمر كما في صحيح مُسلِم، المُهِم هذا الوليد بن عُقبة – فقال له – الوليد يقول لسيدنا عبد الرحمن بن عوف – ما لي أراك قد جفوت أمير المُؤمِنين عثمان؟ جفوته وتركته وما إلى ذلك، أي هل صرت مع الناس الآخرين أم ما القصة؟ قال له نعم، إذا لقيته فقل له لم أفر يوم أُحد ولم أتخلَّف عن بدر – لأن عثمان فر وهذا حديث صحيح، هو من الناس التي فرت، عمر حتى فر، لا تُوجَد مُشكِلة، عفا الله عن الناس التي فرت، الذين ثبتوا قلة كما قلنا، حوالي تسعة فقط مع رسول الله، والباقي كله فر، وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۩، لا يتكلَّم أحد الآن، أي واحد يتكلَّم فيه نزعة نفاق، كأن تقول انظروا إلى عمر وإلى عثمان، هذا يعني أنك مُنافِق، الذي يتكلَّم هكذا عنده نفاق، الله يقول عَفَا عَنكُمْ ۩، هل أنت أتيت لكي تشمت الآن بأصحاب رسول الله؟ هذا لأن في قلبك يُوجَد دغل ويُوجَد حقد على الصحابة، تُريد أن تتلمَّس، الله أعلم ماذا كنت ستفعل لو كنت معهم، ممنوع الكلام هذا، انتبه فهو خطير – ولم أُخالِف عن سُنة عمر، أنت بايعت! أنتم تعرفون قضية البيعة والستة، وأنتم تعرفون مَن كان الحكم تقريباً والمسؤول؟ ابن عوف نفسه، وقال له تُبايع؟ قال لعليّ – عليه السلام – في الأول تُبايع على كتاب الله وسُنة رسول وسُنة الشيخين؟ قال له لا، كتاب الله وسُنة الرسول على الرأس ونعمة عين، سُنة الشيخين لا، هما رجال وأنا رجل، كيف أُبايع على سُنة الشيخين؟ أتُريد أن تُلزِمني بهذا؟ وهذا صحيح، الإمام عليّ عنده موقف صحيح، هل تُلزِمني أنا بفقه أبي بكر وعمر؟ لا، أنا عندي عقلي وعندي علمي، لا! رفض ولم يُرِد الخلافة، يُريد استقلال رأيه وحُريته، رجل عنده همة عالية، عثمان – عليه الرضوان والرحمة – قدَّر أنه يستطيع ذلك، قال له أبايع على سُنة أبي بكر وعمر، وبعد ذلك في أول شطر الخلافة استطاع، لكن بعد ذلك لم يستطع، صعب! خاصة سُنة عمر صعبة جداً جداً، مَن يستطيع؟ عمر أتعب كل مَن جاء بعده إلى يوم الدين، صعب جداً أن نحلم بأي إنسان يأتي مثل عمر في النهاية، شبه مُستحيل طبعاً، شخصية أُسطورية فعلاً في الحكم، عليه الرحمة والرضوان، قال له ولم أُخالِف عن سُنة عمر، فذهب الوليد هذا وقال لعثمان هذا، قال له يقول ابن عوف عنك كذا وكذا، قال قل له أما فراري يوم أُحد فقد قال تعالى وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۩، أفتُريد أن تأخذني بذنب الله أنزل العفو عنا فيه؟ ما هذا التفكير الذي عندك؟ قال له، أفحمه فعلاً! وأما – قال له – يوم بدر – أي تخلفي عن بدر – فقد كنت أُمرِّض بنت رسول الله، وقد ضرب لي رسول الله بسهم، ومَن ضُرِب لهم بسهم فقد شهد، أنا أُعتبَر مِمَن شهدت بدراً، ولذلك الناس المُنصِفون يعتبرون عثمان بدرياً، لماذا؟ لأن النبي ضرب له بسهم وأعطاه من الغنيمة، اعتبره شهد، لأنه كان يُمرِّض بنت رسول الله، وطبعاً هي قضت أيضاً – إن شاء الله – حميدة، تُوفيت هي! قال له وأما سُنة عمر فسُنة عمر قل له لا أستطيعها لا أنا ولا أنت، أي هل تقدر أنت على سُنة عمر؟ هل تقدر على أن تفعل مثله؟ هل تقدر – قال له – يا ابن عوف؟ هل تقدر؟ لو صرت خليفة وما إلى ذلك هل تقدر على أن تفعل مثله؟ إذا لقيته فقل له ذلك، إذا لقيته فأخبره ذلك أو إذا لقيته فقل له ذلك، فهذا معنى وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۩.
(ملحوظة) سأل أحد الحضور عن البيعة فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم نعم هو بايع طبعاً، الإنسان لا يعلم الغيب، أنا بايعت على كذا وكذا وسُنة الشيخين – نعم – ونيتي كانت حسنة وحاولت فعل هذا لكنني لم أستطع، انتهى! لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ ۩، الإنسان غير معصوم، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ۩.
۞ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ۞
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ ۩، ما معنى تُصْعِدُونَ ۩؟ تذهبون في الجبل مُصاعِدين، ذهبوا في الجبل فارين مُصاعِدين، يقول الشاعر:
ألاَ لاَ أُحِبُّ السَّيرَ إلاَّ مُصَعِّداً وَلاَ البَرْقَ إلاَّ أنْ يَكُونَ يَمَانِيَا.
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ ۩، ما معنى وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ ۩؟ ولا تهتمون ولا تُلقون بالاً إلى أي أحد مِمَن تركتم خلفكم، ولا حتى الرسول، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ۩، ما معنى فِي أُخْرَاكُمْ ۩؟ أي من ورائكم، أنتم تصعدون والنبي يقول إلىّ إلى أيها الناس، إلىّ إلىّ أيها الناس، مَن سمع طبعاً فقد عاد، ومَن لم يسمع فقد ولى، فَأَثَابَكُمْ ۩، مَن الذي أثابكم؟ ليس الرسول، الله هنا طبعاً، أي أثابكم الله، غَمًّا بِغَمٍّ ۩، ما معنى غَمًّا بِغَمٍّ ۩؟ هنا الباء قد تكون بمعنى على، أي أثابكم غماً على غم، أي غمين، ضاعف لكم الغم والغيظ، كقولهم نزلت بفلان ضيفاً، أليس كذلك؟ كيف نزلت بفلان؟ أي نزلت على فلان، أليس كذلك؟ موجود في اللُغة العربية هذا، تقول نزلت بمحمدٍ ضيفاً، أي نزلت على محمدٍ ضيفاً، فهذا جائز! غَمًّا بِغَمٍّ ۩ أي غماً على غم، إذن بنا الآن أن نبحث ما المقصود بهذين الغمين؟ قيل الغم الأول هو غم الهزيمة والجروح والقول إن الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – قد قُتِل والغم الثاني هو فرارهم وهروبهم أمام الكفّار، هذا كان غماً كبيراً، الجُبن والفشل وما إلى ذلك، قيل لا، الغم الأول هو الهزيمة وما أصابهم من القرح – قال الله مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۩ – والغم الثاني هو إشاعة أن الرسول قد قُتِل، قيل عكسه والأقوال مُتقارِبة، الغم الأول هو أن الرسول قد قُتِل، والغم الثاني هو القرح والجراح وما إلى ذلك، هذه آراء مُتقارِبة، يُوجَد رأي آخر للحسن البِصري وأُراه وجيهاً والله أعلم، هو وجيه! أن الباء ليست بمعنى على، وإنما هي باء البدل، أليس كذلك؟ أي باء العوض، بكم تبيعني هذا الخاتم – مثلاً – أو هذه الحلقة؟ بخمسين، ما هذه الباء إذن؟ باء العوض، باء الثمنية، باء البدل كما يُسمونها، فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ۩، أي غماً بدل غم، أثابكم غماً في أحد بالغم الذي أُصيبه الكفّار في بدر، وهذا لماذا أُراه وجيهاً؟ لقوله – تبارك وتعالى – في نفس السورة وسيأتي أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا ۩، وقد أجمع كل المُفسِّرين أن معنى أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا ۩ أي في بدر، هذا هو! فهذا قريب من هذا، أليس كذلك؟ هذا رأي الحسن البِصري، إذن لدينا اتجاهان في التفسير، الاتجاه الأول أن كلا الغمين كان في أُحد وقد جُمِع على المُسلِمين، والاتجاه الثاني للحسن البِصري – قدَّس الله سره – أن الباء ليست بمعنى على، ولذلك لا يكون الغمان في وقت واحد مقصود بهما المُسلِمون، وإنما الباء هي على البدل أو الباء الثمنية وباء المُعاوَضة، أي غماً بسبب غم أو مكان غم، مكان أو عوض أو بدل غم، بدل غم الكفّار في بدر، والله أعلم.
لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ ۩، ما الذي فاتهم؟ الغنيمة، ذهبت الغنيمة وذهب كل شيئ، فقدوا كل شيئ، لا تحزنوا على الغنيمة، وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ ۩، من الشهادة أو الجروح والإثخان، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ۩.
۞ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۞
ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا ۩، شيئ غريب، هذا يُؤكِّد فعلاً أن المُتصرِّف الوحيد هو الله تبارك وتعالى، والنصر من عند الله والهزيمة من عند الله، كل شيئ بحكمة الله، هذا قريب أيضاً مما وقع في بدر، في بدر نفس الشيئ، أصابهم النُعاس هذا للطمأنينة والتسكين، أصابهم هذا في أُحد بعد الهزيمة، وكانوا في خوف، المعركة لم تنته بالكامل لكن أُلقيَ عليهم النُعاس!
في الصحيح يقول أبو طلحة – تعرفون أبا طلحة الذي تحدَّثنا عنه، الفارس المغوار وأغنى الأنصار، صاحب بيرحاء، وطبعاً هذا لما كان الرسول في الشِعب وجاء نبّالة الكفّار ماذا فعل؟ أعطاهم ظهره وجعل يدفع عن رسول الله حتى امتلأ ظهره بالنبل، ربما عشرون أو ثلاثون سهم أتى في ظهره، انظروا كيف كان الحب للرسول، انظروا إلى الصدق، هو مُستعِد أن يلفظ أخر نفسه، لكن مُستحيل أن سهماً يأتي إلى النبي، هكذا يتلقى الأسهم بظهره عن رسول الله، رضيَ الله عنه وأرضاه، حتى أصبح مثل الشجرة ظهره قالوا، فيه أسهم كثيرة جداً جداً لكنه تحمَّل ولم يمت، فارس قوي، جزاه الله خير الجزاء عن نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم، اللهم صل على محمد – كنت فيمَن أُلقيَ عليه النُعاس، قال فرفعت رأسي أنظر – قال أنا كنت نعسان – فما وجدت أحداً منهم إلا وهو قد نعس تحت حجفته، ما هي الحجفة؟ الدرقة التي تكون في اليد، الترس إذا كان مصنوعاً من جلد، من غير عصب ومن غير حديد، فقط جلود مع بعضها من غير تعصيب، هذا اسمه حجفة، قال فما وجدت أحداً منهم إلا وقد نعس تحت حجفته، فهو يخفق، وضعها ونام، الكل قال، كل الذين رأيتهم، مَن هؤلاء؟ المُؤمِنون، المُنافِقون لم يناموا، الله لم يُعطِهم حتى هذه الكرامة، طبعاً لأنهم كانوا يخافون ويشعرون بالهم وعندهم ظن سيئ وظن الجاهلية – يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۩ – وليس عندهم طمأنينة، إلا المُؤمِنين! يقول أبو طلحة أيضاً فيما يرويه أنس – أنتم تعرفون أن هناك علاقة بين أبي طلحة وأنس، هل لا تُوجَد علاقة؟ تُوجَد علاقة، ما العلاقة؟ أبو طلحة زوج أم أنس، أليس كذلك؟ زوج أمه، أم سُليم! أم سُليم زوجها أبو طلحة الأنصاري، فهذا كان زوج أمه، ولذلك يروي عنه الأحاديث، هذه الأحاديث كلها هنا يرويها أنس، أنس أنس أنس! لأنه يعرفه، هو قال لهذا الكلام وحكاه له، فيقول أنس أيضاً عن أبي طلحة الآتي – كنت فيمَن أُلقيَ عليه النُعاس فجعل سيفي يسقط، فكلما أخذته سقط عدة مرات، آخذه ويسقط، نُعاس شديد من الله تطمنياً لهم، سُبحان الله! بعد الهزيمة والخوف والمعركة لا يزال لها بقايا ويُوجَد نوم من الله وطمأنينة.
أَمَنَةً نُّعَاسًا ۩، انظر إلى هذا، يُوجَد حُب، يُوجَد ود من الله حتى لعباده المُؤمِنين، بعدما أصابهم وعلَّمهم الدرس أراد أن يُعطيهم أيضاً إشارة على أنهم أوداء وأولياء له، أي لم تنقطع المودة، لا يزال يُوجَد عمار.
يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ ۩، مَن؟ المُؤمِنين الصادقين، وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ۩، من شدة الخوف والفزع والحرص على الدنيا وما إلى ذلك، يقصد المُنافِقين، يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ۩، وهذه صفة المُنافِق، ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۩، ما هو ظن الجاهلية؟ وما هو الظن السيئ بالله هنا؟ ما هو؟ ظنوا أنها الفيصلة، الفيصلة بالتاء المربوطة طبعاً، فليست الفيصل وإنما الفيصلة، ما الفيصلة؟ المرة الفاصلة، أي انتهى الإسلام وقُبِر الآن، في أُحد انتهى الإسلام ورسول الإسلام، وبالمُناسَبة هذه عادة المُنافِقين دائماً، في الأحزاب كان نفس الشيئ، أليس كذلك؟ كلما وقعت داهية كبيرة أو مُصيبة يقولون انتهى الإسلام وذهب كل شيئ وأين وعد الله؟ وأين وعد الرسول؟ كله كذب، كله كلام فارغ يا جماعة، ألم نقل لكم؟ مُنافِقون والعياذ بالله، علماً بأن النفاق يُوجَد في أمة محمد إلى يوم الدين، ولا يُوجَد إنسان يبرأ من النفاق بضمانة إلهية، كل إنسان عُرضة للنفاق، يُمكِن أن تكون الآن من أولياء الله وبعد يوم تقول كلمة تصير بسببها مُنافِقاً، طبعاً يُمكِن أن تكون الآن من العارفين بالله ويكون عندك كرامات وبعد شهر يحدث موقف تتخذ فيه موقفاً غير سليم ومن ثم تُصبِح مُنافِقاً وتموت مُنافِقاً، انتبه! ولذلك الصحابة كانوا ببساطة يقولون ماذا؟ نافق أبو بكر! أبو بكر الصدّيق الذي سماه الله صدّيقاً حين يفعل شيئاً لا يراه سليماً يقول هذا نفاق، أنا نافقت، صار عندي نفاق، أرأيت؟ هذا هو، لا تقل أنا مُؤمِن ورأيت الرسول في المنام مرة فعلت كذا وكذا ومن ثم هذا يعني أنني سأموت على هذا، لا يا حبيبي، ليس الأمر كذلك، انتبه! يُمكِن أن تُنافِق، ولذلك كل الصحابة كانوا يخافون على أنفسهم من النفاق، روى الإمام البخاري – رحمة الله عليه – في صحيحه الآتي، باب من أروع الأبواب على ما أذكره في كتاب الإيمان، في أول صحيحه، في الجُزء الأول، قال ماذا؟ باب خوف المُؤمِن أن يحبط عمله وهو لا يشعر، ثم قال وعن ابن أبي مُليكة – نقل عبارة ذكرناها قبل أيام، أيضاً قال ماذا؟ – ولقد لقيت ثلاثين من أصحاب محمد – لقيت ثلاثين رجلاً قال – ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل أو ميكائيل، كلهم يخشى النفاق على نفسه، قال أصحاب محمد الذين رأيتهم كل واحد فيهم يظن أنه مُنافِق ويخاف على نفسه من النفاق دائماً، هذا الكلام مُوجَّه إلى مَن؟ إلينا، ومُوجَّه إلى التابعين، ومُوجه إلى الناس الذين كانوا أيام هذا التابعي الجليل، أعني ابن أبي مُليكة، أي انتبهوا ولا تظنوا أنكم – ما شاء الله – وصلتم، لأن أصحاب محمد لم أر واحداً منهم قال هذا، رأيت ثلاثين رجلاً منهم ولم يظن واحد منهم أنه – ما شاء الله – رجل إيمان، على إيمان جبريل أو ميكائيل، كلهم يخشى على النفاق على نفسه، وهذه علامة الإيمان، أن تخشى النفاق على إيمانك، فانتبه! يُمكِن أن تكون مُؤمِناً وتُصبِح مُنافِقاً في ساعة بكلمة واحدة، ولذلك الصحابة أيضاً في البخاري – هناك أحاديث كثيرة جداً جداً – لأجل كلمة قالها أحد الأنصار قالوا نافقت، لقد نافقت بهذه الكلمة، أصبحت مُنافِقاً والعياذ بالله، فانتبه لأن القضية خطيرة، الآن – مثلاً – بعد الذي حصل من أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما يتعلَّق بأمريكا كثيرون جداً نجو من النفاق من الأمة، رأينا في بعض الوعّاظ وبعض الكتّاب ومَن مثلهم نافق نفاقاً حقيقياً جداً، أشهد بالله أنه نفاق، نفاق يدل على أن الإيمان مُتزلزِل، ليس ثابتاً، يُوجَد خوف، خوف مِن مَن؟ مِن أولياء الشيطان، الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ۩، سوف نُفسِّرها ونعرف ما معنى يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ۩، يُخوِّفوننا بأمريكا وما إلى ذلك، نفاق! لكن لا يُمكِن، لا نخاف إلا الله، لا نرجو إلا الله، وبعد ذلك ما يأتي من الله ما أحسنه مهما كان، سواء سجن أو ابتلاء أو تهجير نقول الحمد لله، إذا كان في سبيل الله أهلاً وسهلاً به، لكن لا نبيع ديننا، لا نبيع إيماننا من أجل شيئ من التخويف، نحن لسنا مُنافِقين إن شاء الله، لا نكون كذلك، انتبهوا! لكن بعض الناس من شدة جهله بالدين وبالعقيدة يقول لا، أنا مُسلِم وأُصلي يا أخي، أنا أُصلي الصبح ومن ثم لا يُمكِن أن أكون مُنافِقاً، أنا أعرف نفسي، بعد كل الكلام هذا؟ تقول ما تقول وتُنافِق أمريكا ومع ذلك تظل غير مُنافِق؟ لماذا؟ لأنه يظن أنه ما دام ثبت له الإيمان مرة سوف يبقى الإيمان إلى أن يموت، جاهل بالدين هذا، أليس كذلك؟ مغرور بالله عز وجل، مغرور ومُعجَب بنفسه، لا! نعم يُمكِن أن نشهد لك أنك بالأمس كنت ولياً لكن اليوم صرت مُنافِقاً، ولو مت فسوف تدخل جهنم يا بعيد، فانتبه! القضية خطيرة جداً جداً، في لحظة يُمكِن أن ينقلب الإنسان، في لحظة! ولذلك النبي ماذا قال؟ أم سلمة تقول ما رأيت النبي يدعو بأكثر من هذا الدعاء، أكثر دعاء كان يقوله النبي يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك! قالت له يا رسول الله أتخشى على نفسك وأنت رسول الله؟ ما هذا الدعاء الذي تقوله؟ قال لها يا أم سلمة وما يُؤمِنني – من أين الأمان؟ أين الضمانة؟ ليس عندي ضمانة أنا – وقلوب العباد بين أُصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبها كيف شاء، يا أخي فتعساً لنا إذن إذا كان الرسول هكذا ونحن – ما شاء الله – مُطمئنين، يقول الواحد منا أنا مُؤمِن وسأفعل ما أُريد وسأقول ما أُريد، سأفتي بأي طريقة وسأظل مُؤمِناً صالحاً، لا! مُخطيء أنت ومغرور كثيراً في نفسك، مغرور بالله ومُعجَب بنفسك، انتبه إلى نفسك، سوف نرى هذا، ونسأل الله – والله – التسديد، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن صفات النفاق ظاهرها وباطنها.
يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۩، إذن هم ظنوا أنها الفيصلة، أن الإسلام انتهى وقُبِر يوم أُحد، مُنافِقون! يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ ۩، أي يا محمد، لكن الله مُطلِع على سرائرهم، ما الذي أخفوه؟ هو هذا، أن الإسلام انتهى ورسوله انتهى وكل شيئ ذهب وأن هذه الفيصلة، لكن الله يعرف كل هذا، يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۩، إما أن تكون تفسيراً لما أخفوه وإما أن تكون وصفاً آخر أيضاً لسرائرهم السيئة وأقوالهم الرديئة، هكذا! ما معنى هذا؟ هم جامعوا بهذا القول أيضاً مَن؟ ابن سلول رأس النفاق، هذا يعني أنهم قالوا والله ابن سلول معه حق، ولو كان الأمر بأيدينا وعندنا شورى وعندنا رأي – ولا رأي لمَن لا يُطاع كما تقول العرب – لما أتينا ولما صار الذي صار، لكن للأسف محمد فعل هذا وأطاع هؤلاء الشباب الهائجين المُتعصِّبين وحصل الذي حصل، فهم بدأو يشمتون في مَن؟ في الرسول وفي المُجاهِدين، هذه طريقة المُنافِقين، الشماتة والعياذ بالله! مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۩، فماذا رد الله عليهم؟ رد رداً مُفحِماً عجيباً، قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ۩، افترضوا أنكم لم تخرجوا وظللتم في بيوتكم لم تبرحوا، ماذا كان سوف يحدث؟ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ۩، ما معنى قوله مَضَاجِعِهِمْ ۩؟ الأماكن التي سيُضجَعون فيها ويُذبَحون، هذا يعني أن الموت أجلٌ مُقدَّرٌ محتومٌ، لا محيد عنه ولا مناص منه، فكلام فارغ هذا، قالوا لو طلعنا ولو لم نطلع ولو كذا وكذا، كل هذا كلام فارغ، ستموت – ستموت حتماً – في الساعة التي كتب الله لك، فهذا كلام فارغ لا يقوله مُؤمِن، مَن يقوله؟ مُنافِق، أليس كذلك؟ لأن المُؤمِن يعلم أن الأجل محتوم، ولذلك قلت ذات مرة من سنوات بعيدة في مسجد الهداية أن الحديث النبوي الصحيح الذي يقول مَن مات ولم يغز ولم يُحدِّث نفسه بالغزو فقد مات على شُعبة من النفاق يبدو أنه – والعياذ بالله – نفاق العقيدة، إلى الآن أنا لا أفهم الحديث إلا بهذه الطريقة، لماذا؟ لأن الذي لا يغزو قد يُحدِّث نفسه بالغزو، كلنا لم نغز، لكنه لم يُحدِّث نفسه بالغزو، أي لم يتمن ولو لساعة من دهر أن يُجاهِد في سبيل الله، لا! الجهاد لا، لماذا؟ لأنه مُنافِق عقيدة، لا يعتقد بالآخرة ولا بنعيم الله ولا بقوله وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ ۩ ولا… ولا… ولا… ليس عنده كل هذا، هو يعتقد فقط بالحياة الدنيا وأنه إذا فقدها فقد كل شيئ، هذا نفاق عقيدة، وإن شاء الله صعب جداً جداً أي مُؤمِن لو عنده حتى ذرات من إيمان ألا يُحدِّث نفسه بالجهاد – إن شاء الله – ألف مرة وليس مرة واحدة، أليس كذلك؟ ونعرف هذا من أنفسنا، أليس كذلك؟ هناك الكثير – والحمد لله – من الشباب والكبار والنساء تجد الواحد منهم يتمنى مائة ألف مرة أن يُجاهِد ضد اليهود وضد الأمريكان، يتمنى في قلبه على الأقل، فالحمد لله هذه براءة من النفاق، هذه بحد ذاتها – أي هذه النية – براءة من النفاق، لكن – انتبهوا – الذي لم يُحدِّث نفسه ولو لمرة واحدة ولم يتمن هذا الشيئ ليعلم علم اليقين أنه على شُعبة – كما قال النبي – من شُعب النفاق، والظن أنه نفاق عقيدة، نفاق في العقيدة وفي التصور والعياذ بالله.
قال وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۩، هذا واضح.
۞ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ۞
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۩، قلنا مَن هم؟ أكثر الصحابة تولوا إلا قلة، إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ ۩، من الزلل، دحضهم! بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ۩، روى ابن أبي حاتم عن الفاروق عمر – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – أن هذا الذي كسبوا أخذهم الفداء مُقابِل أسرى بدر في بدر! هل تطمئنون إلى هذا القول؟ هذا رواه ابن أبي حاتم، أنا لا أطمئن، لماذا؟ لأن الله عفا أصلاً في قضية الفدية ومُفاداة الأسرى في بدر، وقال فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ۩، انتهى الأمر، الله كل هذا ليس فيه شيئ وسارت الأمور، عفا الله تبارك وتعالى، فبعيد جداً أن سيدنا عمر يقول هذا، بالذات لأن سيدنا عمر كان ضد الفدية، فبعيد أن يصح عنه، هذا لم يصح، أن يصح عنه أنه قال ذلك – وحاشاه – يعني أن هذا يجعله في موقف شامت، أليس كذلك؟ كأنه يقول أنا كنت في بدر ضد الفدية والنبي أخذ الفدية وأبو بكر وافق والآن أنا أصبت، أعوذ بالله! ولذلك أنا لا أطمئن إلى هذا القول أبداً، والقول هو ما قال به عامة المُفسِّرين، أكثر المُفسِّرين أو جل المُفسِّرين قالوا به، ما هو؟ ما المُراد بقوله مَا كَسَبُواْ ۩؟ بخلافهم عن أمر رسول الله وتركهم الجبل، يعني الرُماة، هذا الصحيح، أي بتركهم الجبل، يعني الرُماة، وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ۩ أيضاً، عفا عن مَن؟ إما عن الذين تولوا أو الذين كسبوا هذا الذنب، لكن هو طبعاً شيئ واحد، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ۩.
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۞
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ ۩، أي الكفّار حقيقةً، وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ ۩، ما معنى أن الإنسان يضرب في الأرض؟ يُسافِر، لِمَ يُسافِر؟ للتجارة أو لأشياء أُخرى، أَوْ كَانُواْ غُزًّى ۩، أي للغزو، الكفّار كانت هكذا عقيدتهم، إذا إنسان خرج يُتاجِر وقُتِل أو خرج يُناضِل ويُقاتِل وقُتِل ماذا يقولون؟ لو بقيَ لما حدث له هذا، هذا تصوّر الكفّار، لكن المُؤمِن لا يتصوَّر هذا، المُؤمِن يتصوَّر أن الإنسان يسعى دائماً إلى أجله، أليس كذلك؟ حين تمشي وتتحرَّك تسعى إليه، قال:
مشيناها خُطىً كُتِبَت علينا ومَن كُتِبَت عليه خُطىً مشاها.
ومَن كانت منيته بأرضٍ فليس يموت في أرضٍ سواها.
قال – عليه الصلاة والسلام – إذا كان أجلُ امرئٍ ببلدةٍ كتب الله له حاجةً إليها ليأتيها، فيموت هناك، نحن الآن جالسين هنا ولعل رجل منا غداً أو بعد غد يموت في الصين، هو يجلس معنا الآن لكن هذا المسكين يكون تاجراً فيذهب إلى الصين وما إلى ذلك، مكتوب له أن يموت في البلدة الفلانية في المكان الفلاني في الصين، الله يُيسِّر له حاجة في هذه البلدة فينتهي عمره هناك، هذا تصوّر المُؤمِنين، لكن الكفّار ليسوا كذلك، يقولون لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ ۩، قال تعالى لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ ۩، الإشارة بـ ذَلِكَ ۩ إلى ماذا؟ إلى هذا الاعتقاد أو هذا القول المُعبِّر عن اعتقادهم، اعتقادكم هذا وأقوالكم هذه زيادة في الحسرة والعياذ بالله، أي حسرة أنكم فقدتم هؤلاء بالموت وحسرة أنكم لا عزاء عندكم من الله حتى في القلب، تعتقدون أنه لو لم يذهب لبقيَ لكنه ذهب، فيتحسرون زيادة حسرة، هذا لا ينفع! قال لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ ۩، أي هذا الاعتقاد وهذا القول السيئ الرديء حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ۩، والحق ما هو في القضية إذن؟ أن الله يُحيي ويُميت، الحياة بيد الله والموت بيد الله، كل هذا مُقدَّر، وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۩.
۞ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ۞
ثم توجَّه إلى المُسلِمين فقال وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ ۩، هذه الآية من أحسن الآيات المُبشِّرة للمُؤمِنين، قولوا لي أين وجه التبشير فيها؟ فيها بُشرى لكل المُؤمِنين، ماذا تقول؟ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ۩، أين التبشير فيها؟ أنه يقول أَوْ مُتُّمْ ۩، أي ليس شرطاً أن تموت شهيداً، الله قال في حق مَن مات شهيداً أن هذا أحسن شيئ، وحتى يا مُؤمِن لو لم تمت شهيداً ومت هكذا هذا فسوف يكون أحسن لك إن شاء الله، فهذه الآية جميلة جداً جداً، أنا أُحِبها كثيراً، أُحِب هذه الآية وأُحِب أن أقرأها، أشعر بالتبشير فيها، لكل مُؤمِن هذه، لماذا؟ تقول ببساطة هكذا ما قاله النبي الدنيا سجن المُؤمِن وجنة الكافر، وأن الآخرة لكل مُؤمِن خير وأبقى، هذا أحسن لك، بكل حال أحسن من الدنيا إن شاء الله، حتى لو حُوسِبت أو صار لك أي شيئ تظل الآخرة أحسن وأوسع إن شاء الله تعالى.
كان أبو الدرداء يقول الموت خيرٌ للمُؤمِن والموت خيرٌ للكافر، ومَن لم يُصدِّقني – أبو الدرداء يقول هذا وهو صحابي جليل – فليقرأ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ ۩، أليس كذلك؟ أي إنسان مُؤمِن بار – بإذن الله – ما عند الله خيرٌ له، خيرٌ من الدنيا، أحسن دائماً، فالموت خير، دائماً خير للمُؤمِن، لكن ماذا عن والموت خيرٌ للكافر؟ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ۩، انظروا إلى هذا الفهم الذي كان عند أبي الدرداء، كيف كان يفهم القرآن؟ شيئ عجيب، ما معنى هذه الآية؟ معناها أن الكافر لا يحسب أن الحياة خيرٌ له، كلما عاش أكثر كلما زاد ويله، لأنه يحطب في المعاصي أكثر وأكثر وأكثر وأكثر، والعذاب يتضاعف غداً مُؤبَّداً في جهنم، فالكافر حين يعيش عشرين سنة أحسن له من أن يعيش ثلاثين، سوف يتعذَّب على عشرين سنة، وهنا قد يقول أحدكم ليس بعد الكفر ذنب، لكن هذا يعني أنه لا يفهم الدين، عند الله تُوجَد موازين الذر لكل شيئ، مَن كفر عشرين سنة غير الذي كفر ثلاثين وغير الذي كفر سبعين وغير الذي كفر مائة سنة، كل واحد سوف يُحاسَب على قدر ما عمل، لذلك أبو الدرداء يقول حتى الموت خير للكافر، يموت أحسن له، أحسن من أن يظل طيلة حياته وهو يُملى له باستمرار حتى يتضاعف الحساب عليه ثم يُعذَّب مُؤبَّداً، فرضيَ الله عن أبي الدرداء وأرضاه، كان يفهم القرآن الكريم، كانوا يُفكِّرون فيه كثيراً ويقرأون ويُحاوِلون أن يستنبطوا – لم يكونوا مثلنا – في هذا الكتاب العزيز، لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ۩، طبعاً من حُطام الدنيا وأعراضها الزائلة الحائلة الفانية وأعواضها الدون.
۞ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّه تُحْشَرُونَ ۞
وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّه تُحْشَرُونَ ۩، المرجع والمآب والمصير إلى الله تبارك وتعالى.
۞ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ۞
ثم قال مُخاطِباً مولانا رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۩، أي بهذا السبب، بهذا السبب كان الرسول ليناً هيناً قريباً، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ ۩، ما هو أصل الفظاظة؟ الغِلظة، ولكن يغلب أن تكون في ماذا؟ في القول،حين نقول هذا إنسان فظ كيف يكون فظاً؟ أقواله فظة، كلماته جارحة خشنة، مثل الحجر، مثل الصوان، يجبهك بها هكذا جبهاً، يصكك بها صك الجندل – كما يُقال، ويُنشِقك إنشاق الخردل، هناك أُناس هكذا الواحد منهم فظ، تجد كلامه – أعوذ بالله – فظاً، شيئ عجيب، حدَّثني أحد الإخوة – والله – عن شيخ – شيخ مُعيَّن – أنه يُعلِّم الناس وقال لي يا أخي ما هذه الفظاظة التي عنده؟ قلت له كيف؟ قال لي واحد سأله وهو شاب بوسني – المسكين بوسني وليس عربياً، جيد أنه يُصلي – عن اللحية، هو غير مُلتحٍ، قال له اللحية يا شيخ هل هي واجب أو غير واجب؟ يُمكِن أن يُجيبه جواباً شرعياً وينتهي الأمر حتى لو على طريقتك ومذهبك، لكنه قال له أُريد أن أسألك سؤالاً، وقال لمَن معه قولوا له وترجموا له الآتي، فقال له تفضَّل، انظروا إلى الفضاضة، ثم يُقال هذا دين، يا أخي هذه الفظاظة ليست من الدين، ليست من أخلاق رسول الله، قال له الأسد هل له لحية؟ فقال له، قال له اللبؤة لها؟ قال له لا، قال قولوا له أنت لبؤة، قلت له هل قال هذا؟ قال لي والله العظيم قال هذا، قال لي وأنا كنت في الدرس وكبر علىّ هذا الشيئ وشعرت بغيظ شديد، قلت له لأنه فظ، لم يرحمه الله عز وجل، لو كان مرحوماً والله أودع قلبه رحمة لرحم عباد الله، تكلَّم مع الناس بنوع من الرحمة يا أخي، قلت له انظر إلى هذا الشيخ – عفا الله عنا وعنه – وانظر إلى شيخ الإسلام بدر الدين الحسني، هذا ليس شيخاً يحفظ البخاري أو يحفظ مُسلِم، هذا بدر الدين الحسني، ذات مرة خطبنا عنه خُطبة، الذي لم يأت بعد ابن حجر العسقلاني مثله إلى الآن، لا السيوطي ولا السخاوي ولا أي عالم، وهذا العالم مات في الشام في ألف وتسعمائة وست وثلاثين قدَّس الله سره، وقلنا لكم قصة الشيخ بخيت المُطيعي – الشيخ المُطيعي هو شيخ مصر وعلّامة مصر – حين أراد أن يُقبِّل يده، شيئاً عجيباً كان مولانا بدر الدين الحسني قدَّس الله سره، الولاية والكرامات اتركوها – كان والياً كبيراً وله كرامات خارقة – لكن انظروا إلى العلم، يحفظ كُتب الحديث كلها بالأسانيد، غير موجود الآن على وجه الأرض أصلاً رجل بعد الحافظ ابن حجر يفعل هذا، أي حديث يقول لك هذا أخرجه فلان وفلان، والأحاديث بعض الناس يظن أنها تقتصر على البخاري ومُسلِم والسُنن الأربعة، أي الجماعة، لا! هذا لا شيئ، السُنن الأربعة والبخاري ومُسلِم شيئ بسيط، يُمكِن لأي إنسان ذكي أن يحفظهم، عندك مُسنَد أحمد فيه أربعون ألف حديث، عندك مُعجَم الطبراني في ثلاثين مُجلَّداً، أعني الكبير، فضلاً عن المُعجَم الوسيط والكثير من المعاجم، هناك كُتب كثيرة جداً جداً، عشرات مئات الآلاف حتى من الأحاديث، الشيخ الحسني كان يحفظ كل هذه الأحاديث بالأسانيد، هو ليس عنده إسناد، هو تعلَّم بنفسه، هو شيخ نفسه كان، لكنه يحفظها بأسانيد كُتبها، يقول روى الطبراني، قال حدَّثنا بكذا وكذا، قال كذا وكذا، كل حديث! وإذا سألته عن أي رجل في الحديث مُباشَرةً يسرد لك كل ما قيل فيه، ماذا قال فيه ابن حبان، ماذا قال فيه العُقيلي، ماذا قال فيه ابن أبي حاتم، ماذا قال فيه البخاري، ماذا قال فيه يحيى بن معين، ماذا قال فيه أحمد بن حبل، وإلى آخره، مُباشَرةً! إذا سألته عن مسألة فقهية مُباشَرةً يُعطيك فيها أقوال المذاهب المتبوعة والمذاهب الدارسة، مذهب أبي ثور ومذهب الأوزاعي ومذاهب داود بن عليّ ومذهب فلان وعلان، كله! وبالأدلة والترجيح، شيئ خارق فعلاً، حقيقةً إذا كان هو هكذا فأنا أشك حتى في أن ابن حجر كان بالطريقة هذه، إذا كان فعلاً كما وصف العلماء فحتى ابن حجر لم يكن بهذه المثابة، شيئ غير عادي، غير عادي بالمرة، ولذلك حتى بعض العلماء لم يُبعِد النُجعة حين قال وأنصف أنا أظن أن هذا الرجل هو من زمن سُفيان الثوري وأشكاله ولكن تأخَّر به زمنه، المفروض كان يُخلَق في القرن الثاني الهجري لكنه أتى في القرن الرابع عشر، مُستحيل! شيئ خارق، هذا الشيخ العلّامة كل مشايخ الشام والاولياء وما إلى ذلك كلهم كانوا تَلاميذه وعند أعتابه، الكل تخرج على يديه، كان حين يأتيه الشاب الحليق الذي يرتدي بنطالاً يُحسِن مُعامَلته، وهو كان شيخ سُنة، الشيخ بدر الدين الحسني شيخ سُنة، وبالمُناسَبة لم يقتصر علمه على علوم الدين فقط وما إلى ذلك، كان يعرف الرياضيات، الهندسة، الحساب، الفلك، الميكانيكا، كان يعرف ثلاثة عشر علم عقلي مثل هذه، أستاذاً كان فيها قالوا، لأنه عقل جبّار جداً، كل شيئ يحفظه ويفهمه، شيئ غير عادي، إنسان غير طبيعي، قدَّس الله سره الكريم، من كبار أولياء الله في نفس الوقت، لم يكن عالماً فقط وإنما كان ولياً كبيراً أيضاً.
أحد تَلاميذه ذات مرة – الشيخ الخطيب اسمه – قال وأنا ذاهب إلى السوق تساءلت مَن أفضل عند الله في الولاية والصلاح: الشيخ الأفغاني – ليس جمال الدين الأفغاني – أو الشيخ الحسني؟ شيخان! كانا شيخان كبيران في دار الحديث الأشرافية، وهذا عنده غُرفة وهذا عنده غُرفة، قال فقلت أُعرِّج عليهما قبل أن أذهب إلى الدكان في السوق وأسألهما، قال لما وصلت أُشهِد الله أني وجدت الشيخين وقد خرجا من غُرفتيهما وكلٌ منهما ينظر إلىّ ويبتسم ويقول لي: الآخر، هو أحسن مني، ثم يقول أحدهما لا، هو! كيف؟ كيف كُشِفا بسره؟ انظروا إلى أي مدى بلغت القدرة والولاية والصلاح والشفافية العجيبة جداً في القلوب، شيئ غير عادي، هذا الحسني قدَّس الله سره وجمعنا الله وإياه في جنات النعيم – إن شاء الله – مع رسول الله وأصحابه وأتباعه.
هذا الشيخ الجليل لما كان يأتيه رجل شاب ببنطلون ويكون حليقاً يقول له تعال، تعال يا بُني، تعال يا باه، هو دائماً ما يقول يا باه، يا باه هي كلمته التي يقولها باستمرار، فيقول له تعال يا باه، تعال! يُجلِسه ويقول له اجلس يا باه، اجلس يا حبيبي، ما شاء الله على البركة، نُريد أن نتبرَّك به، ويلمسه كأنه يتبرَّك به، أي يأخذ منه بركة، والشاب يُصدِّق أن فيه بركة ويظن أن الشيخ نظر إلى هذه البركة ويقول لعلي أكون إنساناً صالحاً، فيتمسَّك الشاب بالدين، الناس يقولون يا مولانا هذا الشاب كذا وكذا، فيقول لهم لا، هؤلاء هم أبناء الإسلام، هؤلاء بركة الإسلام، يجب أن نتقبَّلهم، يجب أن نحنو عليهم، والله هذا النفس المُحمَّدي، أُقسِم بالله! هذا نفس رسول الله، أنا ذات مرة حكيت لكم قصة حكاها لي شاب وكنت أعتز به، واتضح أن القصة غير جيدة، أحدهم حكاها لي، قال لي عندنا شيخ على المذهب الشافعي – فلسطيني هو ويعيش في الأردن – كبير جداً، في العقد التاسع من عمره، قال لي لكنه عالم، عالم بالطريقة التقليدية على المذهب الشافعي، يعرف هذا المذهب تماماً، وهو أزهري قديم، قال جاء شاب من الذين يدرسون في رومانيا أو في يوغوسلافيا – من الخارج، من الدول الاشتراكية – وأمام الناس قال له يا مولانا هل الاستمناء حلال؟ كيف أمام الناس تسأل شيخاً في عمر جدك بهذه الطريقة؟ هذه طريقة غير لائقة حقيقةً، اسأله بينك وبينه، قال له ماذا؟ قال له أنا في رومانيا وأطلب العلم البشري، قال له ما هذا العلم؟ قال له الطب البشري وما إلى ذلك، والإنسان يخاف على نفسه وما إلى ذلك فيستمني، قال له بئس العلم الذي تتعلَّمه، وهكذا صكه دون أن يُجيبه، انزعج من سؤاله! هذا ليس نفساً مُحمَّدياً حقيقةً، ليس لنا أن نفخر به، النبي جاءه رجل – وهذا حديث صحيح – وقال له يا رسول الله ائذن لي بالزنا، يقول هذا للرسول! شاب تجرَّأ على هذا، والله العظيم يا إخواني لو جاء شاب الآن وقال هذا لأي شيخ منا – صعلوك مثلنا – لانزعج انزعاجاً شديداً، سوف يقول يا أخي هذا قليل الأدب، لم يحترمني ولم يحترم مشيختي ولم يحترم لا عمامتي ولا طربوشي ولا كذا وكذا، كيف يتجرأ علىّ يا أخي؟ كيف يا أخي هذا؟ قلة أدب هذه، وأنت تنزعج لنفسك وليس لله، لنفسك! كيف لم يحترم هيبة مشيختك؟ أليس كذلك؟ هيبة الفشر الكاذب الذي عندك والسخافة باسم الدين، لا! الرسول لم يكن كذلك أبداً، قال له تعال، وتعرفون القصة فلن نُطوِّل بذكرها، تعرفون ماذا قال له النبي، ووضع يده عليه ودعا له أن يكره الزنا وما إلى ذلك، قال فوالله لقد دخلت وما شيئ على وجه الأرض أحب إلى قلبي من الزنا – هكذا كان الشيطان راكب هذا المسكين – وخرجت وما شيئ أبغض إلى قلبي من الزنا والفاحشة، وضَّح له النبي وقال له أترضاه لأمك؟ أترضاه لأختك؟ أترضاه لعمتك؟ إذن كيف ترضاه للناس الآخرين؟ لماذا؟ ما هذه الأنانية إذن؟ ما معنى كذا وكذا؟ قال ادع لي يا رسول الله فدعا له النبي دعوة، ببركة الدعوة خرج الرجل وقد صار شيئاً ثانياً، فصلى الله على مُعلِّم الناس الخير، أرأيتم كيف كان هذا التعليم؟
مُعاوية بن الحكم السُلمي ذكرنا ذات مرة قصته في خُطبة قديمة، والحديث في صحيح مُسلِم بطوله، دخل هذا المسكين لكي يُصلي، لم يعرف – إنسان بسيط – أن كلام الناس في الصلاة ممنوع، رجل عطس فقال له يرحمك الله، فالصحابة حاولوا إسكاته، فقال لهم ماذا؟ فغضبوا منه، واثكل أمياه قال لهم، أي يا خراب بيتك – كما يُقال – يا مُعاوية، واثكل أمياه، بأعلى صوت يقول هذا، ما الذي فعلته؟ هل أنا فعلت ذنباً كبيراً أم ماذا؟ والصحابة انزعجوا منه، ما هذا الأهبل الذي نُشاوِر له وهو لا يُريد أن يسكت بل يزيد؟ حاولوا إسكاته وما إلى ذلك ولم يفلحوا، قال فلما انتهى النبي أقبل علىّ، فوالله لا قهرني ولا كشرني – أي لا بالكلام ولا بالوجه أبداً – وإنما – أي كل ما هنالك – قال لي إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيئٌ من كلام الناس، إنما هو الذكر والتسبيح والتعظيم، يا أخي ما هذا؟ أدب، أدب ومحبة للناس، ليس كمَن يقول له أنت لبؤة، أفتيته ما شاء الله عليك يا أخي، لا فُضَ فوك، أفتاه! قال له أنت لبؤة، وهو الأسد! كأنه أفحمه، نسأل الله أن يُفهِّمنا، وهذا كله يتبع أشياء أُخرى على كل حال.
(ملحوظة) أراد أحد الحضور أن يستفصل عن قصة بدر الدين الحسني فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم نحن قلنا هذا، كان يقول لهم هؤلاء أبناء الإسلام، بركة الإسلام، لأنهم فعلاً المُستقبَل، تذكرون أيضاً ذات مرة أنني قلت الإمام الأعمش – رحمة الله عليه – كان من المُحدِّثين العظام في الكوفة، والأعمش كان يلوذ به الصبيان، علّامة كبير، كبار الأئمة يتمنون أن يأخذوا منه الحديث، وهو كان يجعل الصبيان يأتون لكي يتعلَّموا منه، صبيان صغار! أعمارهم تصل إلى عشر سنوات وما إلى ذلك، ويُعطيهم العلم ويكتب لهم كذا وكذا، فقال له رجل يا إمام، يا شيخنا هؤلاء أولاد صغار لا يفهمون شيئاً، كيف تُعلِّمهم؟ قال هؤلاء؟ هؤلاء يحفظون عليكم دينكم، دعونا من الفشر الكاذب أيضاً، أنتم يا كبار عقولكم فارغة قال له، وهذا صحيح، أنا سأقول لكم شيئاً، والله العظيم أنا العبد الفقير أكبر أملي – أُقسِم بالله – في الجيل الصغير مع احترامي للجميع والله، وأنا حتى كبير، أنا كهل! لكن أكبر أملي في الأجيال الصغيرة، هل تعرف لماذا؟ انظر أصلاً إلى الكبير، أنظر إلى الكبير! مشغول بالأسرة، مشغول بالتجارة، مشغول بالمال، مشغول بالسفر، أعانه الله، لأنه كبير وصار عليه مسئوليات، أليس كذلك؟ والذي ليس مشغولاً أيضاً وعنده كفايته هو جالس مشغول بالتمثيليات ومشغول بالكلام الفارغ، كبير طبعاً ومشغول بأشياء فارغة، أليس كذلك؟ تتمنى أن يرجع هذا الكبير إلى بيته فيفتح صحيح البخاري ويقرأ لأهله، يقرأ معهم ويُفسِّر، يقرأ كذا وكذا، الذي سمعه في المسجد أو حتى في أي مكان يخرج ويقوله، لكن لا! يرجع إلى البيت وكأنه ليس حتى من الناس الذين هم أهل الدين وأهل التقوى، فما هذا؟ بخلاف الشباب الصغار، تجد الواحد منهم عنده حماس، نار! شُعلة نار، يُحِب أن يحفظ القرآن والسُنة واللُغة، ويُحِب أن يتعلَّم وأن يُفتي وما إلى ذلك، أليس كذلك؟ ويُصدِّق – سُبحان الله – الصغير، مُستحيل أن تجد صغيراً عنده هدف أن يصير أميراً أو أن يصيرا مسؤولاً، لا يعرف أن يُفكِّر هكذا الصغير، الصغير يُفكِّر في أن يصير مثل مُصعَب بن عُمير أو خباب بن الأرت أو سلمان الفارسي، يُريد أن يُضحي وأن يُسجَن وأن يموت، ألم نكن صغاراً وكنا هكذا؟ هكذا الصغير وهكذا نفسيته، هؤلاء أشرف الناس والله العظيم، ولذلك علينا – إذا أردنا عمل دعوة حقيقية – أن نُعنى بالصغار – بالأشبال، بالغلمان – عناية حقيقية، بُث فيه العلم، الصدق، الإخلاص، الولاية، أي في الصغير هذا، وحين يكبر ماذا سوف يخرج منه إن شاء الله؟ سوف ترى قيادات حقيقية للإسلام علماً وعملاً، صدقاً وإخلاصاً، سوف يصيرون أُناساً ربانيين حقيقيين، فالإمام الأعمش كان يفهم الكلام هذا، كان يقول لهم أتسخرون مني وتتساءلون لماذا أُقرِّب الأطفال وأُدرِّس لهم؟ قال لهم هؤلاء يحفظون عليكم دينكم، ولأن بصراحة إذا هؤلاء لا يأتون فأين أنتم يا كبار؟ أنتم لا تأتون أصلاً، أليس كذلك؟ لا تأتون، ليس عندكم وقت.
تعرفون هناك أُناس تبخل على العلم – والله العظيم – بفضلة الأوقات، يقول الواحد منهم لماذا نحضر درساً يستغرق ساعة ونصف أو ساعتين؟ كيف؟ هذا كثير، كثير! لكنه مُستعِد أن يقوم بعمل أشياء فارغة ستُوضَع في الميزان وقد تستغرق منه ساعتين من الزمن دون أن يتحرَّك، أليس كذلك؟ مُستعِد أن يجلس على مقهى لكي يُدخِّن سيجارة ويشرب قهوة ويتكلَّم في أعراض الناس لمدة ساعتين، ويقول في موقف آخر لقد أطال الشيخ الدرس فهيا نعود إلى المنزل، ما شاء الله!
مَن يُرِد الله به خيراً يُفقِّهه في الدين، انتبهوا! هذا معيار خطير، إذا كنت ترى نفسك من طلّاب العلم وتُحِب العلم وحين تعود إلى الدار تقرأ وتحفظ وتُراجِع القرآن وتُراجِع البخاري ومُسلِم والفقه الشافعي والمالكي وما إلى ذلك وتُتابِع حتى في برامج التلفزيون القُضاة في الإسلام واقرأ وما إلى ذلك وتُتابِع كل الخير الدنيا اطمئن – إن شاء الله – مبدئياً على نفسك، أنت من أهل الخير، وأنت من أحباب الله، والله أراد بك الخير، النبي قال هذا، وهذاحديث في الصحيحين من رواية سيدنا مُعاوية، في البخاري ومُسلِم مَن يُرِد الله به خيراً يُفقِّهه في الدين، والحديث مفهومه صحيح، إذن مَن لم يكن فقيهاً في الدين ولا يُحِب أن يتفقَّه في الدين بحسب المعنى هو ماذا؟ ليس مِمَن أراد الله به الخير، أي أن الله أنزله من نظره، لا يُحِبه، يقول له اذهب في ستين داهية، لا أُريدك أنا، لا أُريدك فاذهب، خطيرة المسألة هذه، أليس كذلك؟ خطيرة!
هناك آية في آخر سورة المُؤمِنون تتعلَّق بموضوعنا، ذات مرة جاء رجل مجنون – أي مصروع، لبسه شيطان – يتخبَّط ويتلبَّط، فابن مسعود ذهب إليه وقال ائتوا به إلى، ابن مسعود جريء، وهو عالم وحبر كبير، قر في أُذنيه بكلمات فانتفض الرجل كأنما نُشِط من عقال، قال أشهد أن لا إله إلا الله وصار سليماً طبيعياً، ذهب الشيطان في لحظة، النبي ابتسم واستغرب، قال له ماذا قرأت يا ابن مسعود؟ ماذا قرأت له؟ ماذا قلت له؟ قال قلت يا رسول الله قرأت قول الله تعالى أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ ۩ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡحَقُّۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡكَرِيمِ ۩، انظر إلى هذه الآية، تُخوِّف هذه الآية، هذه الآية إذا فهمتها وأخذتها بيقين لن يقدر الشيطان على أن يقف أمامها، وأنت حين تأخذ هذه الآية دستوراً لحياتك دائماً – أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ ۩ – سوف تفهم أن أمر الدين ما هو؟ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۩، أمر الدين جد وليس لعباً، لا تأخذه كلعب، لا تأخذ أمر الدين كلعب ومن ثم تفعل ما تُريد وتقول الله سيغفر، لا يُمكِن! جد هذا، لا يُوجَد عبث، لأن في الآخرة لا يُوجَد عبث.
روى الإمام هناد بن السري – رحمة الله عليه رحمة واسعة – عن رسول الله – عليه الصلاة والسلام، ويُروى مُرسَلاً، وأصل الحديث في مُسلِم، لكن تُوجَد زيادة ليست في مُسلِم – أنه قال يُؤتى بجهنم يوم القيامة – لكي تعرفوا أن هذا ليس عبثاً – ولها سبعون ألف زمام – سبعون ألف حبل تمسكه الملائكة – ومع كل زمام سبعون ألف ملك، جهنم! لو أُطلِقت لأخذت الناس كلهم، قال لك تأكل البر والفاجر، تحرق الدنيا كلها، شيئ مُخيف، سبعون ألفاً في سبعين ألفاً، كم سوف يكون الناتج؟ حوالي خمسة مليارات، حوالي خمسة مليارات إلا قليلاً، خمسة مليارات ملك، خمسة ملايير ملك يمسكون جهنم، وماذا قال الله عنهم؟ غِلاظ شداد، ليسوا ملائكة عاديين، ملائكة ضِخام، عندهم قوة غير عادية، هؤلاء يمسكون جهنم فقط، خمسة مليار يمسكون جهنم، ماذا يقول الرسول؟ إذ نفرت نفرة – أي جهنم خرج منها نفرة – فما بقيَ أحد إلا خُلِع قلبه وجثى الأنبياء، حتى الأنبياء جثوا على الركب، نفسي نفسي الأنبياء يقولون، هذا حديث حين خرج من جهنم عُنق هكذا ونفرت نفرة واحدة فقط، قال ما بقيَ أحد إلا خُلِع قلبه – قلبه بلغ الحنجرة من الخوف – وجثى الأنبياء وقالوا نفسي نفسي، إلا محمداً يقول أُمتي أُمتي، لأنه يعرف من نفسه أنه آمن، انظروا إلى هذا، فالأمر جد وليس لعباً يا إخواني، ليس لعباً، هناك أناس يظنون أننا سنموت وسنمشي على الصرط ثم ندخل الجنة وننبسط، لا! لا تزال هناك أهوال، خمسون ألف سنة يموت الحساب، يوم القيامة خمسون ألف سنة الله قال، والأحاديث صحيحة في ذلك، خمسون ألف سنة! شيئ عجيب، فالأمر هذا جد، أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا ۩، لا يُوجَد عبث، لا يُوجَد لعب، خُذ الأمر بجد حقيقي لكي تقدر على أن تُواصِل، وهذه الآية فعلاً دستور حقيقي للمُسلِم المُجتهِد إن شاء الله تبارك وتعالى.
النبي كان يقول والذي نفسي بيده لو تعلمون من الله ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولخرجتم إلى الطُرقات أو الصُعودات تجأرون إلى الله جأراً، من شدة الخوف والفزع سوف تُصرِّخون صراخاً شديداً قائلين يا رب يا رب، النبي لماذا كان كثير البكاء؟ كان كثيراً ما يبكي النبي، يبكي كثيراً كثيراً كثيراً كثيراً، لماذا؟ يبكي من خشية الله، يبكي من خشية الله بكاءً شديداً، لأنه يعرف ما لا نعرف، وأكيد لم يُحِب أن يُعرِّفنا كل شيئ كان يعرفه، حتى لا ننقطع من الأمل، فنسأل الله أن يُقدِرنا على خشيته – إن شاء الله – وعلى عبادته حق عبادته، الجد أيها الإخوة، الجد الجد، لأن الأمر لا يحتمل هزلاً ولعباً كثيراً.
قال وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ۩، في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضيَ الله عنهما – أنه وجد صفة رسول الله في الكتاب الأول، أي في التوراة والإنجيل، ما هي؟ ليس بفظٍ ولا غليظٍ ولا سخّابٍ – وقيل صخّابٍ – بالأسواق، لا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح، هذا وصفه حتى في التوراة والإنجيل، قلنا الفظاظة الأصل تكون في ماذا؟ في المنطق، الفظاظة في المنطق! وتكون في القلب، لكن هنا لما قال فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ ۩ علمنا أنه أراد الفظاظة في المنطق، وإن كانت الفظاظة تكون في المنطق وفي القلب، لكن لما قال غَلِيظَ الْقَلْبِ ۩ علمنا أن هناك غِلظة القلب وفظاظة المنطق واللسان، والنبي لم يكن لا فظاً ولا غليظاً عليه الصلاة وأفضل السلام.
لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ۩، حتى بعد أن كانت الشورى هي سبب الهزيمة أيضاً شاورهم، بالمُناسَبة يقول أبو هُريرة ما رأيت أحداً أكثر مُشاوَرةً لأصحابه من رسول الله، دعونا على جهة العجلة من غير شرح نستذكر فقط الوقائع والأحداث التي شاور فيها الرسول أصحابه، وهي في السيرة كلها، كلنا قرأنا السيرة وهذا في السيرة، أولاً فعل هذا في بدر، أليس كذلك؟ في بدر في الخروج! نخرج أو لا نخرج؟ قال لهم، قالوا نخرج، أليس كذلك؟ ولا نقول لك – المقداد – كما قال بنو إسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا ۩، النبي استشارهم، قال نخرج أو لا نخرج؟ فقالوا نخرج، ثانياً في المنزل، قصة الحُباب بن المُنذِر، قال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ إلى آخره، استشار وأخذ برأي مَن؟ الحُباب بن المُنذِر، ثالثاً في أُحد، قبل أن يخرج – كما رأيتم – يوم الجُمعة، استشار أو لم يستشر؟ استشار، وخرج على رأي أصحابه، رابعاً في أسرى بدر استشار أو لم يستشر؟ استشار، ونزل أيضاً على رأي بعضهم، لأنه حين استشارهم اختلفوا، خامساً في الخندق، استشار – عليه السلام – أن يُصالِح الطوائف – الأحزاب – على ثُلث ثمار المدينة فأبى السعدان عليه ذلك، مَن هما السعدان؟ سعد بن مُعاذ وسعد بن عُبادة، أبيا عليه ذلك، قالوا له لا، ومشهور هذا في ابن إسحاق وفي البخاري وما إلى ذلك، فهو استشار أيضاً في الخندق، سادساً في الحُديبية، في الحُديبية استشار أصحابه أن يميل على ذرار المُشرِكين، لما منعوهم قال ما رأيكم أن نذهب وتقع حرب الآن؟ فقالوا يا رسول الله ما جئنا مُحارِبين وإنما خرجنا حاجين ومُعتمِرين، لا نُريد أن نُحارِب، فقال لهم إذن لا حرب وقام بعمل هُدنة، فإذن استشار، أليس كذلك؟ هذا كان في الحُديبية، ماذا نقول؟ هناك أشياء كثيرة، كل حياته استشارة عليه الصلاة وأفضل السلام، ففعلاً صدق أبو هُريرة حين قال ما رأيت أحداً كان أكثر مُشاوَرةً أو استشارة لأصحابه من محمد، دائماً ما يستشير وينزل على رأي أصحابه، ينزل على رأي الجمهور، وهو الذي قال للشيخين الجليلين أبي بكر وعمر لو اتفقتما على أمرٍ لم أُخالِفكما، اثنان ضد واحد، ومن ثم سوف أكون مع الاثنين، وهو الرسول! لكنه يفعل هذا لكي يُعلِّمنا ألا يستبد أحد منا برأيه، لابد من الاستشارة، فهو مع رأي الجمهور، مع رأي الأغلبية.
قال فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ۩، لا أدري لِمَ يرى البعض أن الشورى مُعلِمة ليست مُلزِمة، أي تستشير كديكور Decor، وليس شرطاً أن تنزل على رأي الأغلبية، تنزل على رأيك أنت فيما بعد، لا أدري كيف أخذوا هذا من الآية؟ قالوا لأن الله قال فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۩، أصلاً هنا الترتيب واضح جداً جداً، أن هذا العزم كان بعد المُشاوَرة، أليس كذلك؟ والأصل أن هذا العزم يكون لِمَ؟ كيف يكون العزم؟ على رأي الجمهور، وإلا أصلاً لا يكون للشورى من الأصل فائدة، تكون مسرحية وكلاماً فارغ، أي مُجرَّد ضحك على الذقون، كيف تستشير ثم تأخذ برأي واحد إزاء رأي تسعة؟ لا! فالآية بصراحة سياقها واضح جداً، فَإِذَا عَزَمْتَ ۩ أي بحسب نتيجة الشورى، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ۩، واضحة!
۞ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ۞
إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ۩، أيضاً واضحة.
۞ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ۞
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ۩، هل تعرفون ما هو الغلول؟ السرقة من الغنائم أو من أموال المُسلِمين العامة، أي الصدقات وما إلى ذلك، كل هذا يُعتبَر غلول.
في الترمذي أن النبي لما بعث مُعاذاً إلى اليمن – قل له اذهب وولاه القضاء وما إلى ذلك، كان عاملاً له في اليمن – بعث في إثره قائلاً ارجع، قال فرُددت، قال مُعاذ بن جبل فردُدت، فقال لي أتدري لِمَ رددتك؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال يا مُعاذ بن جبل لا تُصيبن شيئاً – أي من المال، من الصدقات ومن أموال الناس ومن أي شيئ – بغير إذني فإنه غلول، وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۩، انتبه قال له، أنت أمين وذاهب إلى هناك، أنت مسؤول فانتبه، لا تأخذ أي شيئ، وفي الصحيحين – البخاري ومُسلِم – وعند الإمام أحمد أن النبي عليه السلام – والحديث هذا مشهور، كلكم سمعتموه – بعث رجلاً يُقال له ابن اللتبية على الصدقات – هو عامل الرسول على الصدقات – فلما عاد أتى بأموال، قال يا رسول الله هذا لكم وهذا أُهدي لي، هذه هدايا أهدوني إياها، أنا مُوظَّف في الدولة فأهدوني إياها، سكت النبي فهو لا يُريد أن يُعلِّمه وحده، يُريد أن يُعلِّم الناس كلها، موقع تعليم وفرصة تعليم! فصعد المنبر ثم قال أيها الناس ما بال العامل منكم نبعثه – أي على الصدقات – فيأتي يقول هذا لكم وهذا أُهدي إلىّ؟ هلا جلس في بيت أمه وأبيه فيرى يُهدى إليه أم لا؟ أي لو لم تكن عاملاً ولو لم تكن مُوظَّفاً هل الناس كانوا سيهدونك بهذا وأنت في بيتك؟ هم أهدوك من باب الرشوة المُقنَّعة، هذه اسمها رشوة مُقنَّعة، لكي تتساهل في بعض الصدقات وتأخذ الأشياء الدون وتأخذ الأشياء البخسة وتُطفِّف لهم وليس عليهم، وهكذا! هذه هي القضية قال له النبي، والذي نفس محمد بيده لا يأتين أحدٌ منكم بشيئٍ من ذلك يوم القيامة إلا جاء به على رقبته إن كان بعيراً له رُغاء أو بقرةً لها خوار أو شاةً تيعر، واليعار هو صوت الشياه، يقول الرواي ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه – أي بياض إبطيه – وقال اللهم هل بلَّغت اللهم اشهد، اللهم هل بلَّغت اللهم اشهد، اللهم هل بلَّغت اللهم اشهد، وفي الصحيحين أيضاً – نفس هذا في الصحيحين – وعند الإمام أحمد عن أبي هُريرة أنه قام – عليه الصلاة وأفضل السلام – فذكر الغلول وعظَّم أمره، أي انتبهوا فالغلول شيئ خطير جداً جداً، سرقة الدولة وسرقة أموال كذا وكذا شيئ ليس سهلاً، ليس سهلاً أبداً، وعظَّم أمره ثم قال لا أُلفين – أي لا أجدن – أحدكم يوم القيامة وقد جاء على رقبته ببعيرٍ له رُغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئاً، قد بلَّغت أو بلَّغتك، أنا بلَّغتك وقلت لك هذا، فكيف أغيثك؟ لا أقدر، راكب على رأسه هذا، أنت أخذته رشوة – قيل هدية لكنها رشوة – ومن ثم سوف يركب على رأسك وتأتي به يوم القيامة ثم تدخل جهنم فيما بعد، إذا ركب على رأسك وأتيت به سوف تذهب إلى جهنم، قال لا أُلفين أحدكم يوم القيامة وقد جاء بفرسٍ لها حمحمة على رقبته يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئاً، قد بلَّغت أو بلَّغتك، لا أُلفين أحدكم يوم القيامة وقد جاء على رقبته برقاعٍ تخفق يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئاً، قد بلَّغت أو بلغتك، ما هي الرقاع التي تخفق؟ قيل هي الثياب، الرقاع هي الثياب تخفق إذا حرَّكتها الرياح، لأن بعض الأشياء من الصدقات تكون ثياباً، أليس كذلك؟ سيدنا مُعاذ قيل من صدقة اليمن ثياباً، أليس كذلك؟ لبوساً يمانياً معروفاً، وهذا في الصحيح، فهو قبلها، ويُروى مُعلَّقاً ويُروى مُتصِلاً هذا الحديث عن مُعاذ، على كلٍ بعضهم فسَّرها بأنها الرقاع، أي الرقاع التي يُكتَب فيها الحقوق التي عليه ولم يُؤدها، وهذا بعيد من سياق الحديث، لأن الحديث في الرشوة المُقنَّعة، في هدايا العمّال! وفي الحديث الآخر هدايا العمّال غلول، هل تعرفون ما معنى العمّال هنا؟ ليس الـ Arbeiter، وإنما المُراد بالعمّال الولاة والناس الرسميين في الدولة كالمُصدِّقين مثلاً، المُصدِّقون مَن هم؟ الذين يجمعون الصدقات، الواحد منهم اسمه المُصدِّق، المُصدِّق هو جامع الصدقات، كالمُصدِّقين وأشكالهم وأمثالهم، هذا معنى العمّال، والولاة أيضاً، أي الرؤوساء، هؤلاء عمّال أيضاً، كلهم عمّال، كل مَن وليَ أمراً عاماً للأمة يُعتبَر عاملاً، حتى الخليفة هو عامل عند الله وهو أجير أو وكيل، على كلٍ ثم قال بأخرة لا أُلفين أحدكم يوم القيامة وقد جاء على رقبته بصامت يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئاً، قد بلَّغت أو بلَّغتك، ما هو الصامت؟ قيل الذهب والفضة، وقيل كل مال ليس له صوت، أي بخلاف البعير والبقر والشياه وما إلى ذلك، أي باقي الأشياء الأُخرى كالدراهم والدنانير والأوراق وما إلى ذلك، النبي سماهم صامتاً، قال لا أُلفين أحدكم يوم القيامة وقد جاء على رقبته بصامت يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئاً، قد بلَّغت أو بلَّغتك، صدق رسول الله عليه الصلاة وأفضل السلام.
وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۩، هدايا العمّال غلول، في مُسنَد الإمام أحم قال النبي إن من أعظم الغلول عند الله – تبارك وتعالى – جارين في أرضٍ لهما – هذا اسم إن، قال جارين في أرضٍ لهما – إذ اقتطع أحدهما شبراً – أو قال ذراعاً – من أرض أخيه، فإذا اقتطعها – يقول النبي – طُوِّقها من سبع أراضين إلى يوم القيامة، الله أكبر! طُوِّقها من سبع أراضين إلى يوم القيامة، قال هذا غلول أيضاً، حين تكون شريكاً مع واحد في أي شيئ وتختص نفسك بشيئ من ماله – تختلسها هكذا دون أن يدري، تظن أنك شاطر وفهلوي جداً يا مسكين – سوف تُطوَّق هذا الشيئ – حتى لو كان ذراعاً من أرض – من سبع أراضين إلى يوم القيامة، هذا يُخوِّف، شيئ مُخيف جداً جداً، نسأل الله السلامة والهداية، هذا هو!
ما سبب نزول الآية؟ روى الأئمة عن ابن عباس أن سبب نزول هذه الآية الكريمة أن شملةً أو عباءةً أو قطيفةً غُلَت وسُرِقَت من الغنائم، فقال بعض الناس – وطبعاً أكيد هم مُنافِقون والعياذ بالله – ما أخذها إلا رسول الله، الله أكبر يا أخي! ألم تجدوا مَن تتهمونه إلا الرسول؟ هل الرسول أخذها؟ ثم قالوا فأكثروا، وهذه هي المُشكِلة، الإشاعة! ثم قالوا فأكثروا، ما معنى فأكثروا؟ بدأوا يزيدون، لعل بعضهم قال هذا أكيد لأن هناك كذا وكذا، هناك بعض القرائن على كذا وأنا أستأنس بكذا وكذا، وبدأوا يزيدون في الكلام، شيئ عجيب يا أخي، فعلاً الرسول لقيَ أذىً كثيراً، أذى شديد جداً الرسول لقيه، وأنا أعتبر هذا من أعظم الأذى، والله هذا أعظم من الهزيمة، أُقسِم بالله! حين تجد في أمتك وفي أصحابك أُناساً بالطريقة هذه وأنت نبي شيئ ليس سهلاً، فأنزل الله ما يُبرّئ رسوله من كل شائبة، ماذا قال؟ لم يقل وما غل نبيٌ أو رسول، قال وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ۩، ليس من شأن أصلاً حتى أي نبي فكيف بسيد الأنبياء والمُرسَلين؟ لا يُمكِن أن يكون نبياً معصوماً ويغل، أي يسرق من الغنيمة، وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ۩، وتُقرأ وما كان لنبي أن يُغَل، أي أن يُسرَق من مال غنائمه وهو لا يدري، ممنوع أن يُسرَق النبي، لكن سبب النزول يُؤكِّد القراءة المشهورة، وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ – وفسَّرناها بالأحاديث الكثيرة – يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ۩.
۞ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاء بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ۞
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاء بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ۩، كيف يكون اتباع رضوان الله؟ بطاعة أوامراه واجتناب مناهيه وتعظيم اليقين فيه وإلى آخره، كل هذا، والعكس صحيح.
۞ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ۞
هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ۩، كيف هُمْ دَرَجَاتٌ ۩؟ درجات للذين باءوا بالسخط ودرجات للذين باءوا بالرضوان، هؤلاء درجات وهؤلاء درجات، فهذا على طِرز قوله – تبارك وتعالى – وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۩.
۞ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ۞
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ۩، أعظم الله المنّة بأن بعثه منا بشراً وباللسان العربي المُبين، لماذا؟ ليكون أقرب وأدعى إلى مُخاطَبته ومُساءلته والاستفصال منه والاستفسار طبعاً، ولو كان ملكاً لصعب كل أولئكم، فهذا وجه المنّة في ذلك.
وَيُزَكِّيهِمْ ۩ بتطهير قلوبهم من كل الأخباث والكدورات، الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ۩.
۞ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۞
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا ۩، أي مُصيبة أُحد، قال قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا ۩، لماذا مِّثْلَيْهَا ۩؟ لأنكم في بدر قتلتم سبعين وأسرتم مثلهم، هذا معنى مِّثْلَيْهَا ۩، المُسلِمون قتلوا من الكفّار سبعين في بدر وأسروا أيضاً سبعين أو يزيد قليلاً، قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا ۩، من أين؟ وكيف أصابنا هذا؟ قُلْ ۩، أي يا محمد لهم، هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۩، بشؤم المُخالَفة، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، كان قادراً على أن ينصر رسوله ودينه من غير قتال أصلاً، لكنه أراد أن يبتليكم، وهذا درس الابتلاء والفشل.
۞ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ۞
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۩، أي في أُحد، فَبِإِذْنِ اللَّهِ ۩، كله مُقدَّر بحكمة الله وبتقدير الله، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ۩، المُؤمِنون هنا ليست فاعلاً، ليس لكي يعرف المُؤمِنون شيئاً، وإنما ليعلم اللهُ المُؤمِنين، هذا معناها، وليعلم الله، من حكمته أنه يُريد أن يُظهِر علمه في المُؤمِنين، وبالتالي يُظهِر علمه في مَن أيضاً؟ في المُنافِقين، ولكي يُقيم شاهداً من التجربة والبرهان والاختبار أن هؤلاء من المُؤمِنين وهؤلاء من أضدادهم، من المُنافِقين.
۞ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ۞
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ ۩، أيضاً هذه هي، أي المُنافِقين مثل ابن أُبي وأشياعه، وَقِيلَ لَهُمْ ۩، مَن الذي قال لهم؟ عبد الله بن عمرو بن حرام والد سيدنا جابر، حين عاد إليهم وقال لهم تعالوا قاتلوا، تعالوا ادفعوا، وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ ۩، ما معنى ادْفَعُواْ ۩؟ كثِّروا سوادنا، قيل رابطوا، على الأقل مُرابَطة فقط، قيل ادعوا، إذن ثلاثة تفسيرات، إما بتكثير السواد وإما بالمُرابَطة وإما بالدعاء يا أخي، تعالوا وادعوا لنا، فقط ادعوا! لكن لا قالوا، قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ ۩، قال لهم هذا ابن سلول، قال لهم لا أرى أن اليوم سيكون قتالاً، لن يكون هناك أي قتال، أي أنه يدّعي الغيب وهو كذّاب ومُنافِق، هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۩، لأنه يعلم في قلبه أن القتال كائن كائن، أليس كذلك؟ وكل الدلائل تُؤكِّد أن القتال كائن، فهو يعلم ويُوقِن بأن القتال سيكون، ويدّعي بلسانه أنه لن يقع قتال وهذا الذي حمله أن ينخذل بثلاثمائة من أشياعه المُنافِقين عن رسول الله وأصحابه رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ۩، أي في قلوبهم.
۞ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۞
الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩، نفس الشيئ.
۞ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ۞
وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ۩، في الصحيح أن مسروقاً – وهو أبو عائشة التابعي الجليل وتَلميذ أمنا عائشة، ولذلك كان يُكنى بها، اسمه أبو عائشة وهو من الكوفة – أبا عائشة سأل عبد الله بن مسعود – لماذا؟ لأن ابن مسعود كان في الكوفة يُعلِّم الناس، وقضى شطراً كبيراً من حياته في الكوفة – قائلاً يا أبا عبد الرحمن قوله – تبارك وتعالى – وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ۩ – الآية من سورة آل عمران – ماذا تقول فيه؟ أي ما التفسير؟ قال لقد سألنا رسول الله عنه، أي عن الكلام هذا سألنا الرسول، ما هذه الآية يا رسول الله؟ ما القصة؟ فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن أرواح الشهداء في حواصل طير خُضر، انتبهوا! هناك طيور خُضر في الجنة، حواصلها الأرواح فيها، أي في هذه الحواصل، قال إن أرواح الشهداء في حواصل طير خُضر تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل مُعلَّقة بالعرش، إذ اطلع ربك عليهم اطلاعاً فقال ما تشتهون؟ ما تسألون؟ اطلبوا ما تُريدون! قالوا يا رب ما نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث نشاء؟ ماذا سوف نُريد أحسن من هذا؟ نحن مبسوطين جداً جداً، هؤلاء الآن الشهداء، أي إنسان يُقتَل شهيداً يكون هكذا مُباشَرةً إن شاء الله، تصير روحه الآن إلى يوم القيامة ماذا؟ حيث يرد الله روحه في جسده ويدخل الجنة جسداً بروح، هل فهمتم؟ هذه هي، هذا ليس دائماً، يُوجَد حديث صرَّح بهذا وسوف نأتي به، هذا الحديث سوف تنبسطون به، حديث من أغرب الأحاديث وأعظمها، فهذا إلى يوم القيامة فقط، بعد ذلك تُرَد الأرواح في الأبدان، لكن مُباشَرةً تكون في الجنة سُبحان الله، هذا يعني أن روح الشهيد لا تكون في القبر، تكون في الجنة مُباشَرةً، وتسرح – سُبحان الله – وتأوي إلى عرش الرحمن، شيئ عجيب! اللهم أمتنا شهداء في سبيلك يا رب العالمين مُقبِلين غير مُدبرين، مُخلِصين صادقين مُخلَّصين يا الله يا كريم يا منّان، قالوا وما نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث نشاء؟ فسألهم ثلاثاً، أي ثلاث مرات يسألهم وهم يُجيبون، فلما رأوا أنهم لن يُترَكوا أن يُسألوا – هكذا كان تعبير رسول الله، فلما رأوا أنهم لن يُترَكوا أن يُسألوا، أي سيظل الله يسألهم، يقولوا لهم اسألوا، قولوا، اطلبوا، وتمنوا، فعرفوا أن الله له حكمة في ذلك – قالوا يا رب نسألك أن ترد أرواحنا في أبداننا فنُقتَل في سبيلك مرةً أُخرى، فلما رأى – تبارك وتعالى – أنهم لا يسألون تُرِكوا، لا يُريدون شيئاً في الجنة، هم مبسوطون، يُريدون أن يرجعوا وما إلى ذلك، فهذا معنى الآية، وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ۩.
۞ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۞
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، الآية الكريمة واضحة، أيضاً هناك حديث آخر عند الإمام أحمد في المُسنَد وهو عن ابن عباس طبعاً، فالأول كان عن ابن مسعود وهذا عن ابن عباس، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن إخوانكم لما أُصيبوا بأُحد – ما معنى أُصيبوا؟ استُشهِدوا، سماها إصابة، لما استُشهِدوا بأُحد – جعل الله – تبارك وتعالى – أرواحهم في حواصل طير خُضر ترد أنهار الجنة – هنا تُوجَد بعض الزيادات والتفصيلات – وتأكل من ثمارها، فلما رأوا طيب مطعمهم ومشربهم وحُسن مقيلهم سألهم الله – تبارك وتعالى – ماذا تشتهون؟ ماذا تطلبون؟ قالوا يا رب نطلب إليك أن ترد أرواحنا في أبداننا لنُقاتِل في سبيلك فنُقتَل، في راوية عشر مرات، ليس مرة واحدة وإنما عشر مرات لما رأوا من فضل الشهيد وكرامة الشهداء عند الله تبارك وتعالى، فقال لهم الله – تبارك وتعالى – سبق مني القول أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ۩، فقالوا إذن يا رب بلِّغ عنا إخواننا لئلا ينكلوا عن لقاء عدوهم ولئلا يزهدوا في الجهاد، أي قل لإخواننا كيف نحن نعيش، لأنهم حين يعرفون كيف نحن نعيش سوف يُجاهِدون جيداً، لا ينبغي أن يجبنوا ويخافوا، فأنزل الله – تبارك وتعالى – هذا، قال لهم سأُبلِّغ، أنا سأُبلِّغ عنكم، انظر إلى مدى بلغت كرامة الشهداء، ربنا عمل سفيراً لهم، لا إله إلا الله! ربنا عمل سفيراً للشهداء، أنا سوف أُبلِّغ كلامكم وأُمنيتكم لإخوانكم في الدنيا، فأنزل وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ۩ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، أي الآية الكريمة والتي بعدها، شيئ عجيب! اللهم أمتنا شهداء يا رب العالمين بأسمائك وصفاتك يا الله يا الله يا الله.
روى أبو بكر بن مردويه – رحمة الله عليه – عن جابر بن عبد الله – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – الآتي، يقول جابر لقيني رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – يوماً فقال لي ما لي أراك يا جابر مُهتَماً؟ فقلت يا رسول الله تعلم أن أبي قد مات في أُحد – أي استُشهِد، أبوه عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري – وترك ديناً وعيالاً، يُوجَد عليه دين أي مال وعيال، ما العيال الذين تركهم؟ تركوا سبع أخوات، أي سبع بنات، كلهم قطع لحم وما إلى ذلك، أخواته! ولايا أو صبايا، فهذا الذي أهمه! فقال يا جابر ألا أُخبِرك؟ أي أُريد أن أُبشِّرك، أنت مُهتَم فخُذ لك هذه البُشرى، فقال يا جابر ألا أُخبِرك؟ ما كلَّم الله أحداً إلا من وراء حجاب وإن الله – تبارك وتعالى – كلَّم أباك كفاحاً، ما معنى قوله كِفاحاً؟ مُواجَهة من غير حجاب، الله أكبر! هذا كان شهيداً من الصادقين المُخلِصين لله، قوله كِفاحاً معروف عندنا، تعرفون ما معنى قولنا كِفاح الجهاد؟ هي نفسها، نقول كِفاح ويُكافِح، هي نفسها، لماذا؟ لأن المُكافِح الذي يُكافِح عدوه يلقاه وجهاً لوجه، هذه هي نفسها، لا تظنوا أنها كلمة غريبة، لا تقول ما معنى قوله كِفاحاً؟ ما معنى مُكافَحة؟ هي نفس الكِفاح، أي kämpfen يُكافِح، بمعنى وجهاً لوجه، هي نفسها، نفس الكلمة، بعض العلماء يكتبونها كَفاحاً “بفتح الكاف”، لكنها ليست كَفاحاً وإنما كِفاحاً “بكسر الكاف”، هي نفسها!
سُفيان الثوري رُؤيَ في المنام بعد موته فقيل له يا أبا سعيد ما فُعِل بك؟ فأجاب شعراً، قال:
نظرت إلى ربي كِفاحًا فقال لي هنيئًا رضائي عنك يا ابن سعيد.
فقد كنت قوامًا إذا أقبل الدجى بعبرة مشتاق وقلب عميد.
فدونك فاختر أي قصر أردته وزرني فإني منك غير بعيد.
إذن قال نظرت إلى ربي كِفاحًا، (ملحوظة) سأل أحد الحضور عن قوله كِفاحًا فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أن هذا في الرؤيا، ثم استتلى قائلاً سلِّم هكذا واسكت، هل تظن أن الله – عز وجل – مثلنا؟ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، سلِّم أنت! يوم القيامة ألا تُؤمِن أننا سنرى ربنا تبارك وتعالى؟ سنراه عز وجل، كيف سنراه؟ لا نعرف، الله أعلم، لأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، نُؤمِن بما قال عن نفسه، النبي قال هذا وحديث الرؤية مُتواتِر عند أهل السُنة والجماعة بالمُناسَبة، حديث الرؤية مُتواتِر! مروي عن أكثر من واحد وعشرين صحابياً، أبو بكر الآجُرّي عنده كتاب كامل اسمه كتاب الرؤية، ساق أحاديث الرؤية بكل أسانيدها بحمد الله ومن طرق مُتعدِّدة، فنُؤمِن بذلك نحن، لكن كيف؟ لا يُوجَد كيف، انتبه ولا تُشغِل مُخك بالشيئ هذا، لأن لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩ عز وجل.
على كلٍ قال ماذا؟ وإن الله – تبارك وتعالى – قد خاطب أباك كِفاحاً، المُهِم في آخر الحديث طلب أبوه من رب العالمين أن يُبلِّغ أهله وأصحابه عنه، فأنزل الله الآية من أجله، وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ۩، والله أعلم!
طبعاً هذا ليس فيه مُنافاة، لماذا؟ لأنه من الشهداء، فهذا يكون له ولعامة الشهداء، يُمكِن أن يكون نفس الطلب، ولا تُوجَد أي مُشكِلة أبداً.
وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ۩ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، واضح.
۞ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ۞
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ۩، واضح.
۞ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ۞
الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ۩، فيمَن نزلت هذه الآية؟ كيف اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۩؟ القرح قرح أُحد، أليس كذلك؟ الهزيمة والشهادة والجراحات التي أصابتهم في أُحد، هناك أناس استجابوا لله والرسول بعد القرح، حمراء الأسد! ألم نتحدَّث أمس عنها؟ هذه غزوة حمراء الأسد، لما علم النبي أن الكفّار ربما يعودون إلى المدينة فندب رجالاً، مَن يخرج إليهم يا عباد الله؟ فانتدب له سبعون – في بعض الروايات أقل، لكن في الصحيح أيضاً سبعون – من أصحابه، في البخاري عن أمنا عائشة أنها قالت قلت لعُروة بن الزُبير – تعرفون الزُبير بن العوام، وهو زوج مَن؟ أسماء، أليس كذلك؟ وهو حواري رسول الله، الزُبير حواري رسول الله، وأدى موقفاً مُشرِّفاً جداً في أُحد على كل حال، وفي أُحد أصلاً النبي سماه الحواري، في أُحد! يُقال في غيرها لكن في أُحد أيضاً موجود وثابت – يا ابن أُختي – لمَن؟ لعُروة بن الزُبير، والزُبير طبعاً هو زوج أسماء – إن أبويك – مَن تقصد بأبويك السيدة عائشة؟ طبعاً الزُبير واضح، وأبو بكر أيضاً، لماذا؟ أبو بكر أبو أسماء وأنت ابن أسماء، أليس كذلك؟ أي جدك، والزُبير طبعاً واضح، إن أبويك، أي الزُبير وأبا بكر – كانا منهم، من الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۩، تقول علم الرسول أنهم كذا وكذا فندب رجالاً فانتدب سبعون كان منهم أبو بكر والزُبير رضوان الله تعالى عليهما، في سبعين! لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ۩.
۞ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۞ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ۞
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۩، عن ابن عباس في صحيح البخاري قال حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۩ قالها إبراهيم حين أُلقيَ في النار، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۩ قالها محمد حين قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۩، هكذا ابن عباس قال، أتى بالآية كلها، فماذا كانت النتيجة والعائدة الإلهية؟ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ۩، قيل النعمة أنهم عادوا إلى مدينتهم وقد سلمت لهم وسلموا، هناك أُناس كثيرون سلموا والمدينة سلمت والحمد لله، لم تُحرَق، لم تُغز، ولم تذِل، وَفَضْلٍ ۩ أي الفضل الذي أصابهم وهو كبير ومُتعدِّد بأشياء أُخرى، ابن عباس عند البيهقي يُفسِّرها تفسيراً ثانياً، يقول فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ۩، النعمة أنهم عادوا سالمين، والفضل عيرٌ أتت وفيها مال فاشتراها النبي ثم باعها فربح فيها مالاً، والتنوين للتعظيم، يبدو مالاً طائلاً عظيماً، فقسمه في أصحابه، لا يأخذ له شيئاً النبي، أي شيئ يأتي إليه دائماً ما يُعطيه لأصحابه، يقول لهم خذوا وافرحوا، فهم فرحوا طبعاً، بعد الهزيمة جاءهم بعض المال، الله قال فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ۩، رواه البيهقي.
لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ۩، هنا قد يقول لي أحدكم كيف لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ۩ وقد مسهم سوء؟ لكن هنا السوء يبدو أنه يُحمَل على سوء مخصوص، السوء الذي أراده بهم أعداؤهم وهو استذلالهم بالكامل وقطع دابرهم، هذا لم يحصل بحمد الله تعالى، والله قال حتى فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ ۩، أليس كذلك؟ ما معنى هذا؟ هم لم يفعلوا ما يُريدون، كما يحدث الآن بالضبط مع بوش Bush وأمريكا، أتوا إلى العراق وما إلى ذلك، لكن الحمد لله هم خائبون وسينقلبون خائبين والله، لم يفعلوا ما يُريدون، لم يفعلوه! ما يُريدونه هو أن يسكت الكل وأن يأخذوا ما يُريدون وأن يضعوا حكومة عملاء ومن ثم تقوم بعمل عهد مع إسرائيل وتضغط على سوريا وتضغط على إيران لكي يتوسَّعوا ويبهدلوا الدنيا، لكن هذا لم يحدث كله والحمد لله، خائبون ولن يتحقَّق لهم شيئ ولن يمسسنا سوء إن شاء الله، جاهدنا وشهداؤنا في الجنة وقتلاهم في جهنم إن شاء الله، في قعر جهنم، كل هذا عزاء لنا ودروس لنا، حين نُقارِن نجد أن نفس الشيئ يحدث.
۞ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۞
قال تعالى إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۩، الآية واضحة لكن فيها كلمة واحدة غير واضحة، ما هي؟ أَوْلِيَاءهُ ۩، كيف يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ ۩؟ (ملحوظة) قال بعض الحضور أولياء الشياطين، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا، ثم استتلى قائلاً هذا الذي يبدر، لكن هذا غير واضح، لا! يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ ۩ أي يُخوِّف بأوليائه، سوف نأتي لكم بها، انتبهوا فجيش قريش كذا والأحلاف كذا وكذا، سوف يُموتونكم وما إلى ذلك، هل فهمتم؟ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ ۩ أي يُخوِّف بأوليائه، هل فهمتم كيف؟ لأن مُستحيلاً أن المُؤمِنين يكونون من أولياء الشيطان والشيطان يُريد أن يُخوِّفهم، ليس هذا المقصود، لا يُمكِن! يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ ۩ أي يُخوِّف بهم، يُهدِّد بهم، أن أنا عندي كذا وكذا وسوف نأتي لكم به وما إلى ذلك، الله قال فَلاَ تَخَافُوهُمْ ۩، لا تخافوا منهم، فلهذا ماذا قال؟ فَلاَ تَخَافُوهُمْ ۩، أي لا تخافوا أولياء الشيطان، هل فهمتم؟ هذا هو، لا يتجه إلا هذا التفسير، قال فَلاَ تَخَافُوهُمْ ۩، يقول هذا لمَن هنا؟ للمُؤمِنين، لا تخافوا أولياء الشيطان الذين يُخوِّفكم بهم، يُخوِّفكم بقريش وبغطفان وبكنانة وبتهامة وبالأحابيش ويقول أن عندهم أبطال وعندهم أناس كذا وكذا، قال لا تخافوا منهم، وَخَافُونِ ۩، أنا الحقيق بأن أُخاف، إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۩.
۞ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۞
وَلاَ يَحْزُنكَ ۩، أي يا محمد، الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ۩، لأن النبي كان يحزن حُزناً شديداً لشدة حرصه عليهم، بل في بعض الروايات في بدر ودمه ينزل كان يرفع يديه ويقول اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، الله أكبر! انظروا إلى الرحمة العجيبة، حتى بعد الهزيمة وبعد كل هذا يدعو أيضاً لهم بالهداية، فإنهم لا يعلمون! قلب رحيم، قلب رحيم وكبير عليه الصلاة وأفضل السلام.
قال وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا ۩، أيضاً هذا واضح، يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۩.
۞ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۞
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ ۩، اعتاضوا! اعتاضوا من الإيمان – والعياذ بالله – بأسوأ شيئ وأبخسه وهو الكفر، لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩.
۞ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ۞
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ۩، قلنا معنى هذه من قبل وهي واضحة.
۞ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ۞
مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ ۩، أي ليترك، الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ ۩، هكذا! حَتَّىَ يَمِيزَ ۩، أي يُميِّز، الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۩، المُؤمِن من المُنافِق، الصالح من الطالح، كيف هذا؟ كما قلنا لكم بالجهاد، بالحرب! هذه الحرب ميَّزت، فانماز المُؤمِن وانماز الكافر، ولذلك ورد في بعض الآثار الضعيفة لا تكرهوا الفتنة، فإن فيها هلاك الفاجر أو المُنافِق، يظهر المُنافِقون، إذا لم يموتوا فسيظهرون حتى فنعرفهم، نعرف أعداءنا، الله قال في موضع آخر – في الفتح – لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ۩، لابد من التزيل، ما معنى هذا؟ أي التميز، هذا صف المُؤمِن وهذا صف الكافر، على كلٍ قال وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ۩، صحيح! يقول أنا في علمي أعلم أن هذا مُؤمِن وهذا مُنافِق، هذا طيب وهذا خبيث، لكن علم الغيب ليس لكم وليس إليكم، إذن ماذا بقيَ؟ بقيَ أن يُقام الاختبار، معيار الابتلاء! فيمتاز المُؤمِن من المُنافِق، ويظهر علم الله لكم يا مَن لا تعلمون الكيف، هل عرفتم كيف صار معنى الآية بهذه التركيبة وبهذه الطريقة؟ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء ۩، نعم أنتم لا تعلمون الغيب لكن الرُسل شيئ آخر، قال لهم يُوجَد استثناء، فهذه الآية تماماً مثل آية الجن، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ۩، ثم استثنى كما استثنى هنا، ماذا قال؟ إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ۩، الآية الكريمة فيها نفس الشيئ، فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ۩، نفس الشيئ!
۞ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ۞
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ ۩، هناك قال أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ۩، هنا قال هُوَ خَيْرًا ۩، كيف إعرابها هذه؟ لماذا قال هُوَ خَيْرًا ۩؟ لأن هُوَ ۩ ضمير الفصل، لا محل له من الإعراب، فانتبه واحذفه لأن لا محل له من الإعراب، أليس كذلك؟ معنوياً له معنى لكن إعرابياً ليس له أي دور، ضمير الفصل لا محل له، ومن ثم خَيْرًا ۩ تصير مفعولاً به ثانياً، والمفعول الأول أين هو إذن؟ دل عليه السياق وهو البخل، بخلهم! لا يحسبون بخلهم خيراً، أرأيتم كيف؟ هذا معناها، وهو ضمير فصل لا محل له، هذا مُهِم لكي تُصبِح الآية واضحة لنا،
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۩، هناك أحاديث كثيرة هنا لكننا نُريد أن نأتي فقط بحديث واحد في الصحيحين لأنها كثيرة في هذه الآية، في الصحيحين قال – صلى الله عليه وسلم – ما من صاحب كنز لم يُؤد زكاة ماله إلا مُثِّل له شُجاعاً أقرع له زبيبتان يوم القيامة فيُطوَّقه، أي يُطوَّق بهذا الشجاع، أتعرفون ما هو الشجاع؟ ذكر الحية، أي الذكر وهو أقرع، طبعاً معروف عند العرب أن الثعبان إذا عُمِّر – عاش طويلاً – ينحل شعره مثل النسر، إذا عُمِّر ينحل شعر رأسه – والعياذ بالله – ويُزأم سمه، سمه يصير سماً زوأماً، يُزأم سمه، يصير السم قاتلاً ناقعاً، وماذا قال النبي؟ قال أنواع خاصة من الحيات الشجاعة هذه، وله زبيبتان، ما هي الزبيبة؟ النُقطة السوداء فوق العين، فوق الحاجب! وهذه تكون في الكلاب – أكرمكم الله – وفي الحيات، نُقطتان دائماً! لا تقل نُقطة واحدة، فهما نُقطتان دائماً، زبيبتان! النُقطة السوداء فوق حاجبي الحية والكلب – أكرمكم الله – تُسمى الزبيبة، هناك أُناس يظنون أنهما قرنان أو سنان وما إلى ذلك، وهذا غير صحيح، هذه الزبيبة في اللُغة العربية، قال له زبيبتان، أي أنه من نوع خطير، هذا معناها، شيئ يُخوِّف، فيأتي فيأخذ بلِهزمتيه، ما هي اللِهزمة؟ الشدق، وقيل العظم الناتئ في الحنك، فيأتي فيأخذ بلِهزمتيه، يأتي في الداخل ويقول له أنا كنزك، أنا مالك، حتى يُقضى بين الناس في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، هذا جزاؤه، كُن كما أنت، بخلت لماذا؟ خزَّنت وكَّدست لماذا؟ في ماذا أردته؟ هذا هو، لكن أخرج زكاته، أخرج حقه، أعط لله منه حتى لا تُحاسَب هذا الحساب العسير عليه، نسأل الله السلامة.
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ۩، واضحة.
۞ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ۞
لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ ۩، لعنة الله عليهم، أي اليهود، وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ۩، لعنة الله عليهم، روى ابن مردويه وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال جاء يهود إلى رسول الله لما أنزل الله آية القرض – مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ۩ في البقرة – وقالوا يا محمد نرى ربك قد افتقر، يستقرض عباده! يا أخي ما هذه الجراءة التي عندهم؟ لعنة الله عليهم، جراءة غريبة ووقاحة وكفر وتجديف، أمة ملعونة فعلاً وتستحق اللعنة، فأنزل الله هذه الآية، قال سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ ۩، ما الذي قالوه؟ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ۩، ما شاء الله على الغنى! ولذلك هم صعاليك وأذِلاء دائماً، يأكلون حتى الخبز الحاف، رأينا كيف كان صاحب الـ Billa، صاحب الـ Billa هذا كان يهودياً وأجروا معه لقاء في ORF، مليارات عنده هذا، عنده الـ Libro والـ Billa والـ Bipa وما إلى ذلك، عنده أشياء كثيرة! ولم يأخذ الجنسية النمساوية من أجل الضرائب، بعد ذلك أجروا مع لقاء في التلفزيون Television، قالوا له ماذا تتمنى؟ هذا اللقاء أنتم رأيتموه في التلفزيون Television، قالوا له ماذا تتمنى؟ فقال أتمنى أن آكل جيداً وأن أشرب جيداً وأن ألبس وأركب جيداً، هل تعرفون لماذا؟ لأنه لم يركب مرة في الـ Business class، يركب دائماً Economy، دائماً! يتمنى أن يركب مع الناس في الأمام وهو عنده مليارات، يتمنى هذا! لعنة الله عليه هو ومَن مثله، وبعد ذلك قال أنه يتمنى أن يلبس جيداً، لأنه حقير لا يلبس كبقية الناس، ويتمنى أن يأكل جيداً، قالوا له ماذا تأكل؟ قال أنا كل يوم أذهب إلى الـ Billa الخاصة بي – عنده بيلات كثيرة – وآخذ Semmel واحدة Einzele وأضع فيها قليل من الجبن وآكلها، هذا فطوري! وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ۩، هل أنتم أغنياء؟ أنتم أفقر خلق الله، قال – عليه السلام – في الصحيحين ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس، لذلك هم أذلاء، عندهم أموال لكنهم أذلاء وسيظلون أذلاء! في إسرائيل – هذه الدولة الماسخة – رأينا من هؤلاء العشرات، نحن كنا نشتغل عندهم في عطلة الصيف الدراسية، والله العظيم يكون أحدهم مليونيراً فعلاً وعنده مصانع ومزارع وكذا وكذا ومع ذلك ينطبق عليه نفس الشيئ، هيئتهم سيئة ويلبسون ثياباً رثة لأنهم يُريدون المال، المال لابد أن يُحافِظوا عليه، فكنا نرى منهم أشياء عجيبة، هؤلاء هم اليهود خيَّبهم الله.
قال سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ ۩، أي الكلام هذا، وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ۩، انظروا إلى هذه الآية ما أعظمها! هذه الآية ماذا تقول؟ هذا قولهم في الله وهذا فعلهم برُسل الله، انظروا إلى هذه الآية، هذا قولهم في الله وهذا فعلهم برُسل الله، فماذا سوف يكون مصير هؤلاء في الدنياء والآخرة هؤلاء؟ وَنَقُولُ ذُوقُواْ ۩، هذا من باب الاستهتار والتحقير والتصغير والهُزؤ، قال ذُوقُواْ ۩، ذُوقُواْ ۩ ماذا؟ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ۩، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ۩، قال ذُقْ ۩ للاستهتار.
۞ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ۞
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ۩، واضحة.
الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ۩، اليهود أنفسهم! ماذا زعموا كذباً؟ كذبوا على الله، قالوا بيننا وبين الله عهد أننا لا نُؤمِن لأي رسول حتى يأتينا بقُربان تأكله النار، قيل في تفسيرها أن معناها ماذا؟ أنهم كانوا يشترطون على الرسول قائلين لكي نُؤمِن بك لابد أن تأخذ العهد على الله – عز وجل – أننا إذا تصدَّقنا بصدقة نُريد أن نعرف هل هي مقبولة أو غير مقبولة؟ وهذا من بخلهم أيضاً، لا ندفعها فتضيع بلا مُقابِل، فإذا دفعنا الصدقة نُريد أن نعرف هل هي مقبولة أو غير مقبولة؟ قال لهم كيف تعرفون؟ قالوا تنزل نار وتأكلها فنعرف أنها قُبِلت، قال لهم لكم هذا، وفعلاً الله أعطاهم هذا عند بعض أنبيائهم لكن أيضاً كفروا بهم وقتلوهم، كذبوا على الله، ماذا بعد؟ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ ۩، أي بهذه النار وما إلى ذلك، وماذا بعد؟ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩، أنتم كذّابون، لا تُريدون الحق أنتم، أنتم أُناس تركبون الأهواء.
۞ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ۞
فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ ۩، أيضاً واضحة، وَالزُّبُرِ ۩، ما معنى وَالزُّبُرِ ۩؟ والكُتب، خطر في بالي والله أعلم – هذه معروف تفسيرها عند العلماء، هو قال وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ ۩، والكتاب هو ما يكون كتاب شريعة، كالتوراة وكالإنجيل وكالقرآن، أي مُتكامِل – أن الزُبر يبدو كالصحائف، صحائف وصايا وأخلاقيات ومواعظ ولا تكون مُتكامِلة كالشرع الكامل، هذا الذي خطر لي والله أعلم، قد يكون هذا، لأن ما معنى أن يقول وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ۩؟ والله أعلم.
۞ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ۞
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۩، هذه عزاء لكل البشر أجمعين، وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ ۩، آية تُخوِّف هذه، أي أن ليس بالسهل أن تتخطى جهنم، إن شاء الله في النية أن أقوم بعمل سلسلة خُطب أيها الإخوة – أُحِب أن أفعل الشيئ هذا – لكي نُوضِّح لكم فيها بالترتيب منازل الآخرة ومواقفها، تسمعون بالميزان وبالصراط وبالحساب وبالقنطرة، أليس كذلك؟ وبالقناطر! وتسمعون أيضاً بالمُقاصة وبعين الحياة، كيف تتم العملية هذه؟ وكيف يكون الترتيب؟ يُوجَد خلاف بين العلماء، فنُريد أن نرى أصح ترتيب وأدق للكيفية التي تتم بها هذه المنازل لكي نُحاوِل أن نعيش معها إن شاء الله تبارك وتعالى، فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۩، فوز عظيم أن تُزحزَح عن النار وتُدخَل الجنة، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ۩.
۞ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ۞
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا ۩، أي بالكلام، أيضاً يُوجَد حديث لطيف جداً في البخاري عن أسامة بن زيد، يقول كنت مع رسول الله وقد أردفني على حمارٍ له عليه قطيفةٌ فدكية، أي على الحمار قطفية فدكية وفدك بجوار خيبر، المُهِم ذهب إلى سعد بن عُبادة ليزوره في الخزرج، أي من مرضٍ طبعاً، يعوده من مرض، قال فمر بالطريق على جماعة فيهم عبد الله بن أُبي بن سلول وهم أخلاط من المُسلِمين وفي المُسلِمين عبد الله بن رواحة – الشهيد العظيم هذا بعد ذلك، وهذا الكلام كله قبل بدر وقبل أن يظهر النفاق إلى الآن، وابن سلول لم يكن مُسلِماً، كان كافراً، لم يُسلِم هو حينها، كان كافراً، وأنتم تعرفون متى أسلم ابن سلول، بعد بدر، قبل ذلك لم يكن مُسلِماً، كان كافراً مُشرِكاً وثنياً – فلما أقبل رسول الله أخذتهم العجاجة – عجاجة الدابة – فخمَّر ابن سلول أنفه بثوبه وقال لا تُغبِّر علينا، الملعون هذا كان كافراً مُشرِكاً وقال لا تُغبِّر علينا، فوق النبي وسلَّم ثم دعاهم إلى الله – تبارك وتعالى – وقرأ عليهم شيئاً من كتاب الله عز وجل، فبماذا رد ابن سلول؟ قال يا أيها المرء – يقول هذا للرسول، أي يا أيها الرجل – ما أحسن مما تقول لو أنك عُدت إلى رحالك، فمَن أحب أتاك في رحالك فقصصت عليه، أي أن كل كلامك الذي تقوله جيد لكن بصراحة عُد إلى بيتك وما إلى ذلك، مَن أحب أن يستمع سوف يأتي إليك، لا تأت إلينا هكذا وتُعكِّر علينا مزاجنا، انظروا إلى هذا الخبيث! قال أَذًى۩، أَذًى كَثِيرًا ۩، فهو كسف الرسول وكسر خاطره بالكلمة هذه، فقام مَن؟ المُسلِم عبد الله بن رواحة وقال بلى يا رسول الله، بلى! ائتنا وبشِّرنا به فإنا نُحِب ذلك، فاستب هؤلاء وهؤلاء، اليهود والمُشرِكون الوثنيون في جهة والمُسلِمون في جهة، جعلوا يستبون حتى كادوا يتثاورون، ما معنى يتثاورون؟ يقوم كل إلى صاحبه، يقوم ويُمسِك سلاحه وما إلى ذلك فتصير معركة، والنبي يُخفِّضهم، كأن يقول لهم يا جماعة اهدأوا، يا جماعة انزلوا، يا جماعة كذا وكذا، تخفيض! يُخفِّضهم حتى سكنوا، ثم انطلق رسول الله، تركهم! ثم انطلق رسول الله حتى أقبل إلى سعد بن عُبادة، قال له يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حُباب؟ كُنية مَن هذه؟ كُنية المُنافِق ابن سلول الذي كان كافراً مُشرِكاً، قال له يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حُباب؟ قال لي كذا وكذا وكذا! قال يا رسول الله اعف عنه واصفح، فوالله يا رسول الله لما قدمت وقد أنزل الله عليك الحق الذي أُرسِلت به كان قد أجمع أهل هذه البُحيرة – ما معنى البُحيرة في اللُغة العربية؟ قرية أو مدينة، قال فاعمل من وراء البحار في حديث في أحمد ذكرناه مرة – على أن يُتوِّجوه ملكاً عليهم وأن يعصبوا له – أي أنه كان سيصير ملكاً – فأبى الله ذلك عليه بالحق الذي أُرسِلت به فشرق به – تعقَّد! قال له شجى في حلقه، فشرق! أي أنه لم يقدر على أن يبلعها قال له، لم يقدر على أن يبلع هذه المسألة التي حدثت، لم يبلع لا الإسلام ولا النبي ولا الهجرة ولا أي شيئ – فهذا الذي فعل به ما رأيت فاعف عنه، قال قد فعلت، سهَّل الله عليه، يقول أسامة بن زيد وقد كان الرسول وأصحابه يُؤمَرون بالعفو والصفح عن اليهود والمُشرِكين، قال الله – عز وجل – وَلَتَسْمَعُنَّ ۩ – وأتى بالآية أسامة – مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ۩، هذا هو، فهذه الآية نزلت بهذا السبب، وقال تعالى – يقول أسامة بن زيد – وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، نفس المعنى أيضاً! أين هذه؟ في البقرة، فاستشهد أسامة بهاتين الآيتين الجليلتين، قال أسامة وكان النبي وأصحابه يتأوَّلون العفو عنهم بما قال الله، أرأيتم ما معنى يتأوَّل؟ أي يُطبِّقونه، يأخذون المعنى ويُطبِّقونه واقعياً، هذا معنى التأوّل هنا، وهذا المعنى الأصلى للتأوّل والتأويل، قال أسامة وكان النبي وأصحابه يتأوَّلون العفو عنهم بما قال الله حتى أذن الله فيهم، بماذا إذن فيهم؟ بالحرب والقتال، ما أحلى اللُغة العربية! أرأيت كيف تكون هذه التعبيرات؟ ولذلك في الأحاديث الصحيحة – عندك في البخاري ومُسلِم وما إلى ذلك – يظهر عليها وجود طلاوة يا أخي، هناك فحولة لُغوية، أليس كذلك؟ والأحاديث الـ Secondhand والأي كلام – فقال له فرد عليه فقال له يا رجل – واضحة، ما هذا؟ هناك فرقة إسلامية أعرفها وقرأت كتبها الحديثية غريبة، أشهد بالله أن أكثر ما هنالك كذب، مُستحيل! ليس تعصباً لكن الأحاديث ليست مثل هذه يا أخي، لُغة العرب ولُغة الصحابة والرسول ليست هكذا، ليست فقال له فرد عليه فغضب كثيراً فكذا وكذا، ما هذا الهبل؟ تماماً مثل التمثيليات المصرية، هناك تمثيليات مصرية وسورية طبعاً – وكل التمثيليات العربية التي فيها فُصحى هكذا – يقولون فيها ذراً للرماد في العيون، رماد ماذا يا أخي؟ هذه كلمة إنجليزية، هذه ترجموها في القرن العشرين، لا يُوجَد في اللُغة العربية شيئ اسمه ذراً للرماد في العيون، قال لك استهدفه، لا يُوجَد في اللُغة العربية شيئ اسمه استهدفه، غلط! غط صرفياً، لا يُقال استهدفه، هذا هبل، تشعر بمُراكَمة الأخطاء اللُغوية الفاضحة، أي أن اللُغة التي تأتي في التمثيليات هذه لا تعكس بتة الجو اللُغوي للحقبة التاريخية المُمثَّلة، وهذا من غباء الذين يضعون السيناريوهات Scenarios، أليس كذلك؟ غلط! لابد أن تعكسها تماماً أولاً، على كل حال ماذا قال؟ قال حتى أذن الله فيهم، فلما كانت وقعة بدر وقتل الله صناديدهم برسول الله قال ابن سلول ومَن معه إن هذا أمرٌ قد توجَّه فأسلم وأسلموا، ما معنى إن هذا أمرٌ قد توجَّه؟ ثبت وبدأ يأخذ طريقه، الإسلام هذا ليس كأي كلام، بدأ فعلاً يشق طريقه بشكل واضح، له جهة مُحدَّدة يعمد إليها قصداً ولا يحيد، هذا صعب! فلنكن في الركب إذن، فأسلم وأسلموا، أي نفاقاً، فهو لم يُسلِم من قلبه – لعنة الله عليه – ومات كافراً.
طوَّلنا قليلاً، بعد عشرة دقائق سوف نختم السورة.
۞ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ۞ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۞
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ۩، أي اليهود والنصارى، فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ۩، ثم قال لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩، ما معنى الآيات هذه؟ الآية الأولى واضحة، الآية الواضحة غير واضحة كثيراً، في مُسنَد أحمد والبخاري ومُسلِم أن مروان بن الحكم – الأُموي الذي تعرفونه، هذا كان خليفة، مروان بن الحكم فعل هذا بعد مُؤتَمر الجابية – بعث بوّابه رافعاً – اسمه رافع بوّابه – وقال له اذهب إلى عبد الله بن عباس وقل له لإن كان كل أحدٍ فرح بما أتى وأحب أن يُحمَد بما لم يفعل مُعذَّباً لنُعذَّبن أجمعون، قال له هذه الآية خوَّفتني، قال له ما هذا؟ قال له كلنا نُحِب أحياناً أن نُحمَد بأشياء لم نفعلها، أليس كذلك؟ هذا هو، وهناك أشياء نأتيها ونحن نُحِب أيضاً أن نُذكَر بها وما إلى ذلك، أي أن هذه الآية تُخوِّف، فجاء رافع – بوّاب مروان – إلى ابن عباس وقال له يقول الخليفة لك كذا وكذا، فقال له وما لكم ولهذه؟ هكذا بالواو قال وما لكم ولهذه؟ أي ما علاقتكم بالآية هذه؟ قال له، هل أنتم تُطبِّقونها على أنفسكم؟ قال له وما لكم ولهذه؟ وإنما أُنزِلت هذه – وتلاها – في يهود – لعنة الله عليهم – ذهب النبي إليهم وسألهم في مسألة – سألهم عن شيئ من دينهم، من التوراة – فكتموه وأخبروه بخلافه، ولما ذهبوا أظهروا له أنهم قد منّوا عليه بالجواب – أي أنهم أخبروه – واستحمدوا إليه بذلك وفرحوا بما كتموا عنه من العلم، استحمدوا بمعنى أنهم قالوا له نحن قلنا له كذا وكذا ولنا عليك فضل ومنّة، عجيب يا أخي! وبينهم وبين أنفسهم كانوا يفرحون ويقولون نحن ضحكنا عليه ولم نُخبِّره بالحقيقة، فأنزل الله فيهم هذا يفضحهم، فضحهم أيضاً، لا تُوجَد فائدة أيضاً، فقال لهم هذا معنى الآية.
وروى البخاري – الحديث الآخر أيضاً صحيح – عن أبي سعيد الخُدري قال نزلت هذه الآية في قوم من المُنافِقين، كان النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – إذا ذهب إلى القتال تخلَّفوا وقعدوا خلفه وفرحوا بمقاعدهم – أي مقاعد ماذا؟ التخلف، يفرحون بأنهم لم يذهبوا ويقولون لا قتال ولا شوكة ولا أي مشاكل عندنا – حتى إذا قدم الرسول – ما المُراد بقدم؟ رجع – جاءوا إليه وحلفوا – قال والله لم نقصد هذا وأُقسِم بالله كذا والحكاية كذا وكذا – واستحمدوا إليه، أيضاً يُحِبون أن النبي يشهد لهم وأن يذكر بعض الفضائل لهم، ما هذا؟ الله قال لا، لا يصح الكلام هذا، لكن بالمُناسَبة الآية فيها معنى عام أيضاً، أليس كذلك؟ وهذا المعنى العام صادق، وكما قال ابن عباس وكما قال جابر لئن كانت كل حُلوة لكم وكل مُرة عليهم إذن نعم الإخوان لكم بنو إسرائيل، إذا كان كل شيئ تأخذونه وتُفسِّرونه وتقولونه هذه عنهم وحدهم فلا، هناك أشياء تنطبق على الجميع، أليس كذلك؟ أي أن المُسلِم ينطبق عليه نفس الشيئ، لو فعل أشياء مُشابِهة هل تنطبق عليه الآية؟ نعم، أليس كذلك؟ إنسان – مثلاً – يعرف من نفسه أنه لا يقوم الليل – مثلاً – وهناك إشاعة عند الله أنه – ما شاء الله – صوّام قوّام ومع ذلك يهز رأسه مُصدِّقاً على هذا، كيف؟ أنت سوف تدخل جهنم، قل لهم لا يا جماعة، أنتم سوف تقضون علىّ، لا أصوم ولا أُقوم الليل، بالعكس أنا أصوم كل شهر يومين أو ثلاثة فقط ولا أُقوم الليل بصراحة، أقوم قليلاً فقط، احك بتواضع وبإخلاص أو قُم الليل كل يوم طبعاً، حتى لا تُحمَد بشيئ ليس فيك، أليس كذلك؟
في الصحيحين قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن ادّعى دعوى – هذا في البخاري ومُسلِم وهو حديث جميل – ليتكثَّر بها زاده الله قلة، كأن تقول أنا – والله والحمد لله – أحفظ كتاب الله، ومن ثم لن تحفظه أبداً إن شاء الله، ضعت بسببها يا مسكين، كأن تقول أنا – والله والحمد لله – نعم لم أحفظ البخاري ومُسلِم لكنني قرأتهما مرتين أو ثلاث مرات وأنت لم تقرأهما، ومن ثم لن تقرأهما، لن تقرأهما أبداً، ولو قرأتهما لن تفهمها ولن تحفظهما، أضعت على نفسك كل هذا، انتبه واحذر من أن تكذب على الله، لا تدّع شيئاً ليس فيك وتواضع لله، مَن ادّعى دعوى ليتكثَّر بها – كأن يقول أنا عندي كذا وكذا وهذا ليس عنده – زاده الله قلة، أخرجاه.
وفي مُسلِم وأبي داود قال – عليه السلام – المُتشبِّع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور، كأن تقول أنا وأنا وهذا كله ليس عندك، ليس في هذه الأنا كل هذا الكلام، ومن ثم تكون مثل الذي يلبس ثوبي زور، هل تعرف ما معنى كلابس ثوبي زور؟ العلماء لهم تفسيرات كثيرة فيها، من أوجه التفاسير فيها ببساطة الآتي، أنت تعرف الحُلة، أليس كذلك؟ الحُلة تكون قطعتين، قطعة داخلية وقطعة عليها من الأعلى، هذه اسمها حُلة، فإذا كان واحد منهما سُميَ ثوباً، هذا الفرق بين الثوب والحُلة، فالإنسان العربي حين كان يُدعا على أي محفل أو أي مأدبة كان لا يذهب بثوب، هذا كان عيب عندهم، كان يذهب بحُلة، قد يكون هناك رجلاً صعلوكاً فقيراً ليس عنده أي شيئ فيأخذ الثوب من هذا والثوب الآخر من هذا ويذهب بحُلة، ولا هذا له ولا هذا له، فهذا هو ببساطة، هذا من أحسن التفسيرات، النبي قال المُتشبِّع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور، هذا كله ليس عندك أصلاً، أنت مُفلِس وتدّعي الكلام هذا، لكن هذا لا يُخوِّف كالأول، الأول كان في الصحيحين وقال فيه ادّعى دعوى ليتكثَّر بها زاده الله قلة، حتماً سيحدث هذا، ولذلك قال مَن ادّعى أي شيئ ليس فيه حُرمه، كأن تقول أنا – والله – رأيت الرسول، فيُقال لك أرأيته حقاً؟ فتقول رأيته وكان هذا بشكل واضح، ما شاء الله على وجهه، كان مثل القمر، لكن أنت لم تره، أنت رأيت إنساناً عادياً ولم تر حتى وجهه، وهذا غير معروف لأن هناك مذاهب في التفسير، أي في تفسير الحديث هذا، هناك أُناس قالوا إذا لم تره على وصفه الموجود في الكُتب فهذا يعني أنك لم تره، وأنا أطمئن لهذا القول حقيقةً، هذا هو! لا يُمكِن أن ترى أي إنسان ثم تقول هذا الرسول، لا! هو قال لك الشيطان لا يتمثَّلني، أليس كذلك؟ لكنه يتمثَّل أي رجل آخر، أليس كذلك؟ وسوف يقول لك أنا الرسول، هذه هي المُشكِلة، لابد أن تراه كما هو في الكتب تماماً، ترى حواجبه وما إلى ذلك كما ذُكِر في الكُتب، إذا رأيته كما وُصِف سوف يكون هو فعلاً، وإلا يُمكِن أن يقول أحدهم أنا – والله – رأيت الرسول وقال لي كذا وكذا، وهو يعرف أن الحكاية فيها شك، هو غير مُتأكِّد، لكن يُقال له هل رأيته بشكل واضح؟ فيقول بشكل واضح يا أخي وكان يُوجَد نور عليه، إذا كذبت لن تراه إلى أن تموت، سوف يضيع عليك هذا.
قد يقول لي أحدكم يا أخي قطعت قلوبنا وكسَّرتنا وكسَّحتنا الآن بالكلام هذا، وهذا يعني أن هناك جهلاً، أنتم لم تكونوا تعرفون هذا، فمَن عنده هذا لابد أن يتوب، مَن فيه هذا الشيئ عليه أن يتوب وألا يدّع شيئاً من الآن وعفا الله عما سلف، الله لا يُؤاخِذ أحداً بالجهل، أليس كذلك؟ لكن الذي كان يعرف يُؤاخَذ، الآن بعد أن سمعت هذه الحُجة لو فعلتها ينطبق عليك هذا القانون الإلهي، انتبه! فلا تدع شيئاً ليس فيك، نسأل الله أن يُعرِّفنا أقدار نفوسنا، أي والله.
أبو حنيفة ذات مرة كان ماشياً في السوق وكان أحدهم يقول لصديقه أتعلم مَن هذا؟ قال له مَن؟ قال له هذا النُعمان، النُعمان أبو حنيفة الذي يُصلي الصبح بوضوء العشاء، قال له هذا لا ينام، طيلة الليل في عبادة قال له، فكان أبو حنيفة قبلها يقوم نصف الليل فظل بعدها إلى أن مات – أربعين سنة – يقوم الليل كله، قالوا له لماذا؟ قال حتى لا أكون من الذين يُحِبون أن يُحمَدوا بما لم يفعلوا، والله توعَّدهم بالعذاب، قالوا هذه الدعايا عني وسوف أهلك بسببها ويخرب بيتي، يقولون أنني أُقيم الليل كله ومن ثم سوف أُقيمه كله، انظروا إلى أي مدى بلغت التقوى، قدَّس الله سره الكريم.
۞ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۞ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ ۞ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۞
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ ۩، هذه الآيات سهلة جداً، لا نُريد أن نُطوِّل فيها لكننا سنقول فقط سبب نزولها لأنه جميل وقد ذكرناه عشرات المرات، أُحِب هذا الحديث، حديث رواه الطبراني وراه أبو بكر بن مردويه عن عائشة رضوان الله تعالى عليها، قالت ماذا وكيف كان الحديث أولاً؟ الحديث في الأصل كان عن عطاء التابعي الجليل، قال دخلت أنا وعبد الله بن عمر وعُبيد بن عُمير على أم المُؤمِنين عائشة زوج رسول الله – قال نحن الثلاثة دخلنا عليها – وبيننا وبينها الحجاب – لأن يُوجَد حجاب طبعاً فلا يرونها ولا تراهم، قال وبيننا وبينها الحجاب، فهم كانوا يتعلَّمون منها وهذا بعد موت الرسول – فقالت يا عُبيد – قالت هذا لابن عُمير – لِمَ لا تزورنا؟ أي أنك لا تزورنا كثيراً، ما الذي يمنعك؟ قال يمنعني قول الشاعر زر غباً تزدد حُباً، وعجزه ما هو؟ فمَن أكثر الترداد أضناه الملل، هذا بيت مشهور! قال زر غباً، ما معنى غباً؟ مرة نعم ومرة لا، ليس كل يوم، لا تفعل هذا كل يوم وإلا تُملِّل فيما بعد، أي تملِّل المُضيف، قال يمنعني قول الشاعر زر غباً تزدد حُباً، فقال ابن عمر ذرينا من هذا – أي دعينا الآن من هذا السؤال وما إلى ذلك – وحدِّثينا بأعجب شيئ رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال لها ذلك بكت، أي عائشة بكت مُباشَرةً، تذكَّرت الرسول! بكت وقالت كان أمره كله عجباً، أتُريد شيئاً عجيباً؟ كل حياته كانت عجباً، كل تصرفاته – كلها – مُعجِبة، تبعث على الدهشة والإعجاب والإجلال والإكبار، قالت كان أمره – عليه الصلاة وأفضل السلام – كله عجباً، دخل علىّ ليلة – من بعد العشاء – حتى مس جلده جلدي – أي في الفراش، في المضجع – ثم قال لي يا عائشة ذريني أتعبَّد لربي، انظروا إلى الأدب! أي أنه يقول له اسمح لي أن أقوم لكي أتعبَّد لربي، اتركيني أتعبَّد قليلاً لربي، قال ذريني أتعبَّد لربي، قالت فقلت يا رسول الله والله إني لأُحِب قُربك – وفي رواية قُربك وهواك – وإني أُحِب أن تعبَّد لربك، أي تتعبَّد لربك، قالت وإني أُحِب أن تعبَّد لربك، قالت فقام إلى القربة فتوضأ وما أكثر صب الماء – أي وضوء على السُنة قليل، توضأ بماء قليل – ثم قام يُصلي فقرأ حتى بل لحيته – الدموع صارت تنزل من اللحية بسبب البكاء الغزير فعلاً من خشية الله – ثم سجد فبكى حتى بل الأرض ثم سلَّم واضطجع على جنبه وجعل يبكي – الليل كله بكاء، من بعد العشاء الليل كله بكاء – حتى آذنه بلال بالصلاة، أي صلاة الصبح، تقول عائشة فدخل فقال – أي بلال – يا رسول الله أتبكي وقد غُفِر لك مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ۩؟ فقال ويحك يا بلالُ، كيف لا أبكي وقد أُنزِل علىّ الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ ۩، ويلٌ لمَن قرأها ولم يتفكَّر فيها، في رواية أُخرى ثلاثاً، أي ثلاث مرات قال له ويلٌ لمَن قرأها ولم يتفكَّر فيها، ويلٌ لمَن قرأها ولم يتفكَّر فيها، ويلٌ لمَن قرأها ولم يتفكَّر فيها.
في الصحيحين من حديث ابن عباس – حديث مشهور ومعروف – بات ليلة عند خالته ميمونة، جاء النبي ونام حتى إذا كان ثُلث الليل الآخر قام النبي فاستن – ما معنى فاستن؟ فتسوَّك – ثم نظر في السماء ثم تلا إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ ۩، فالنبي كان كلما قام في القيام قرأ هذه الآيات، سُبحان الله كل ليلة! يُحِب أن يقرأهم في الليل، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ ۩.
هذه الآيات – كما قلت – واضحة، لن نتكلَّم فيها كثيراً، ولعل بعضها شُرِح في خُطب وفي أشياء أُخرى، فإذا كان هناك شيئاً صعباً سوف نذكره، لكن الذي ليس صعباً لن نذكره.
۞ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۞
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ۩، هذا كما قال النبي في حديث عمران بن حُصين – وهو في الصحيحين – صل من قيام فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنبٍ، بنفس الترتيب: وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ۩، نفس الترتيب!
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً ۩، ما معنى قوله بَاطِلاً ۩؟ أي عبثاً، ما خلقت السماوات والأرض بهذه الهيئة البديعة العظيمة الصنع والتركيب بَاطِلاً ۩، أي عبثاً، سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۩.
۞ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ۞
رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ۩، واضحة.
۞ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ ۞
رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ ۩، مَن هو؟ الرسول، أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ ۩، كل هذا واضحة.
۞ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ۞
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ۩، واضحة.
۞ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ۞
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ۩، أعطاهم الإجابة، أي إجابة هذه الدعوات الواجفات الضارعات، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ۩، وفصَّل استجابته بقوله أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم ۩، كيف استجاب؟ بأي طريقة؟ هو هذا، إذن قوله أَنِّي لاَ أُضِيعُ ۩ جُملة تفسيرية، وسوف تكون لا محل لها من الإعراب، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى ۩، قال مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى ۩، روى ابن جرير وغيره عن أم سلمة أنها قالت يا رسول الله ما لنا لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيئ؟ قال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا ۩، وقال وَالَّذِينَ هَاجَرُوا ۩، لم يقل اللواتي واللائي، أي هل الكلام كله عن الرجال فقط ونحن هاجرنا؟ وتعرفون مَن هي أول مُهاجِرة، أم سلمة! أليس كذلك؟ أول مرة هاجرت هي هذه، فقالت يا رسول الله ما لنا لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيئ؟ فأنزل الله هذه الآية، قال مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۩، قالت الأنصار وكانت أول ظعينة قدمت علينا المدينة، مَن هي؟ أم سلمة التي صارت بعد ذلك زوجة الرسول رضوان الله عليها وعلى أخواتها أجمعين.
قال فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ ۩، هنا قد يقول لي أحدكم هذا نفس الشيئ، لكن يُوجَد فرق، القرآن الدقيق، قال هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ ۩ لأن هناك مَن هاجروا طواعية، هناك أُناس هاجروا لأنهم أحبوا أن يُهاجِروا، وهناك مَن أُخرِجوا لأن لم تكن عندهم النية ولكن ضُيِّق عليهم حتى اضطروا إلى الخروج، فميَّز الله بين مقامين، والأول أشرف، انتبه! الأول أشرف، الهجرة طواعيةً لنُصرة الإسلام وتكثير سواد المُسلِمين بالمدينة ولذلك قدَّمه.
قال فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ۩ نفس الشيئ، وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ۩.
۞ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلادِ ۞ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ۞
لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلادِ ۩، كيف تقلبهم في البلاد؟ يكونون مُنعَّمين في عافية وفي دعة، لا تغتر بهم، يُسافِرون ويذهبون ويجيئون ويأكلون ويشربون ويلبسون لكن لا تغتر بهم، لماذا؟ قال مَتَاعٌ قَلِيلٌ ۩، الدنيا كلها قليلة، ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ۩.
۞ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ۞
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۩، نفس الشيئ، وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ۩، سمعنا فيها حديث أبي الدرداء الذي قال فيه الموت خير للمُؤمِن والموت خيرٌ للكافر.
۞ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۞
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ ۩، مَن هؤلاء؟ الذين أسلموا من الكتابيين ولم يبلغوا عشرة، والنبي قال ماذا؟ لو آمن بي عشرة من أهل الكتاب لما بقيَ يهودياً إلا آمن أو قال أسلم، لكن للأسف لم يبلغوا عشرة، فالله هؤلاء يذكرهم بخير فيقول لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ ۩، هنا قد يقول لي أحدكم غير مُهِم هذا فأهم شيئ ما أُنزِل إلينا، لا! بالعكس النبي قال في حديث مُخرَّج في الصحيحين ثلاثة يُؤتون أجرهم مرتين، وذكر منهم مَن؟ ورجلاً – قال – من أهل الكتاب بنبيه وآمن بي، فيُؤتى أجره مرتين، هذا هو طبعاً! آمن بموسى وآمن بمحمد أو آمن بعيسى وآمن بمحمد، فطبعاً يُؤتى أجره مرتين، ولذلك الله قال وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ ۩.
خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۩، الآية واضحة، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۩، كيف إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۩؟ قال مُجاهِد سريع الإحصاء، كل شيئ تعمله يحسبه لك، ليس يُحاسِبك به وإنما يحسبه لك، قال مُجاهِد سَرِيعُ الْحِسَابِ ۩: سريع الإحصاء، كل عمل تعمله يُحصيه لك.
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۞
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ ۩، قال الحسن البِصري اصْبِرُواْ ۩ على دينكم، على طاعة ربكم، وَصَابِرُواْ ۩ عدوكم حفاظاً على دينكم وأمنكم، وَرَابِطُو ۩ قيل الآن المُرابَطة هي المُرابَطة الحقيقية في الجهاد، ما المُراد بالمُرابَطة؟ أن تحرس الثغور، أي أن تقف على الحدود حتى لا تُؤتى الأمة من قِبلك، وتظل عيناً دائماً لها، في الترمذي عن ابن عباس قال سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول عينان لا تمسهما النار، عينٌ بكت من خشية الله – اللهم أعطانا ذلك – وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله، اللهم وأعطنا ذلك أيضاً، لا تمسهم النار، وليس المقصود العين وإنما المقصود كل الإنسان، كله! هذا نوع من المجاز المشهور، مثل فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۩، نفس الشيئ، معناها تحرير الإنسان كله، الإنسان لو قضى ساعة يحرس في سبيل الله – إن شاء الله – لن تمسه النار، وفي صحيح مُسلِم قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – رباط يوم وليلة – هذا في مُسلِم – في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما فيها، وفي رواية خيرٌ من صيام شهر وقيامه، ليلة واحدة تربطها أحسن لك من أن تصوم شهراً كاملاً وتقوم طيلة الليل، هذا أحسن لك، ليلة واحدة! قال خيرٌ من صيام شهر وقيامه، وإن مات – أي المُرابِط – جرى عليه عمله وجرى عليه رزقه وأمن الفتّان، لا يُفتَن في القبر، أرأيتم إلى أي درجة مُهِم الرباط؟
وفي الصحيحين لموضع سوط أحدكم من الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، فالرباط فيه أحاديث كثيرة جداً جداً، لكن أهم شيئ وأهم بُشرى للمُرابِط هي ماذا؟ أن عملها لا يُختَم، وهذا مُصرَّح في رواية الإمام أحمد، في مُسلِم ماذا قال؟ جرى عليه عمله، ما معنى جرى عليه عمله؟ أي كل ما كان يعمله من صلاة ومن صيام وما إلى ذلك يظل أجره كأنه كان حياً ويعمله، الله أكبر! إلا المُرابِط، ولذلك قال النبي في حديث الإمام أحمد كل ابن آدم إذا مات خُتِم على عمله إلا المُرابِط في سبيل الله، يُجرى عليه أجره، أي أجر عمله، كأنه يعيش إلى يوم الدين، إلى يوم القيامة! أرأيتم كيف الرباط في سبيل الله؟ هذا الرباط.
وقيل الرباط بمعنى المُرابَطة على الطاعات والثبات في مواقعها، كل الطاعات وليس فقط الرباط بالمعنى المعروف في الجهاد، وقيل الرباط فُسِّر بما ثبت أيضاً في الصحيح – في مُسلِم – حيث قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ألا أُخبِركم بما يُكفِّر الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا بلى يا رسول الله، ما هو هذا؟ هذا في مُسلِم! قال إسباغ الوضوء على المكاره، ما معنى إسباغ الوضوء على المكاره؟ أي في الأوقات المكروهة، في الحالات المكروهة، مثل البرد الشديد وما إلى ذلك، تذهب وتتوضأ جيداً، تُوصِّل الماء إلى كل أجزاء العضو، تتوضأ جيداً بإتقان، هذا الإسباغ، تُسبِغ تماماً، قال هذا أول شيئ! إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخُطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، ثلاث مرات النبي قال! إذن لا شك أن هذا الرباط يدخل في انتظار الصلاة بعد الصلاة، لأنه مُفسَّر في صحيح مُسلِم، وقال النبي هذا الرباط الرباط الرباط، أي يبدو أنه حتى أولى من تفسير الرباط بما ذُكِر أولاً، والله أعلم.
وَرَابِطُواْ ۩، أخيراً: وَاتَّقُواْ اللَّهَ ۩، انظروا إلى الخاتمة، ما أجملها! وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩، قال التابعي الجليل والولي الكبير محمد بن كعب القرظي – رضيَ الله عنه وأرضاه – يقول الله تعالى اتقوا الله فيما بيني وبينكم – أي الله يقول لكم هذا، يقول الله اتقوا الله فيما بيني وبينكم – لكي تسعدوا إذا لقيتموني غداً يوم القيامة، الله أكبر! انظروا كيف كان يُفكِّر.
بينك وبين الله – أي في الخلوة – كُن مع الله وراقبه ولا تهتك حُرمته وستره عليك – تبارك وتعالى – أبداً، كُن دائماً مُستحضِراً أنه ناظر إليك، ماذا سوف يحدث؟ غداً حين يأتي الفزع ويوم القيامة سوف يُسعِدك وسوف يُكرِمك، سوف يقول لك تعال، أنت لك مكانة خاصة عندي، هذا معنى وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩، اللهم اجعلنا من الفالحين المُفلِحين المسعودين السعداء في الدنيا والآخرة يا رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى إخوانه النبيين والمُرسَلين وآل كلٍ وأصحابه أجمعين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أضف تعليق