إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ۩ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
نعوذ بالله من التوهم، ونسأل الله – تبارك وتعالى – وإليه نبتهل، أن يُحقِّقنا بحقائق الإيمان والإحسان، وأن يُحسِن إلينا بألطاف التقوى والعرفان.
التوهم – إخواني وأخواتي – هو أن يعتقد المرء أنه صالح، تقي، نقي، مُفلِح، مُنجح. ويترجَّح لديه بما يُشبِه التأكيد أنه في الآخرة من الفائزين الظافرين.
وأما التحقق فهو مثل قوله – تبارك وتعالى – يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ۩ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ۩، فمَن سلم قلبه، أنجح وأفلح. ومَن لم، لم.
التحقق مثل قوله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – في حديث النُعمان بن بشير المشهور والمُخرَّج في الصحيح ألا وإن في القلب مُضغة، إذا صَلَحَت – أو صَلُحَت، كلاهما صحيح فصيح، صَلَحَ وصَلُحَ -، صَلَحَ سائر الجسد، وإذا فسدت، فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب. ألا وهي القلب!
التحقق في الترك المدعو إليه والمأمور به في قوله – تبارك وتعالى – وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ۩، ليس ظاهره فحسب، وإنما أيضاً باطنه، وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ۩، فهذا من التحقق.
التحقق مثل قوله – تبارك وتعالى – وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۩، قال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۩ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۩، ويُفسِّره مثل قوله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – لا يستقيم إيمان عبد، حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه، حتى يستقيم لسانه. اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا ۩ مُسدَّداً، قَوْلًا سَدِيدًا ۩ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ۩ وصلاح الأعمال لا يتأتى إلا من قلب خاشع باخع لله وأمره، صادق! قلب مُسدَّد صادق يا إخواني وأخواتي.
عجيب! عجيبة هذه المُعادَلة، لا يستقيم الإيمان، حتى يستقيم القلب، والقلب لا يستقيم، إلا إذا استقام اللسان. شيء مُخيف! الآن بدأت غشاوة الوهم والاستيهام تنقشع – إخواني وأخواتي -، وبدأ المرء يُواجِه ويُكافِح الحقيقة، أسفر وجهها جليا واضحاً، فكافحها المُؤمِن المُوفَّق. اللهم اجعلنا من عبادك المُوفَّقين.
الآن صار بين أيدينا يا أحبابي – إخواني وأخواتي – معيار رباني وحياني، كتاب وسُنة. معيار نستطيع أن نروز وأن نسبر وأن نُقيِّم وأن نزن به أنفسنا وأحوالنا، هل نحن من الصالحين، من المُفلِحين، من المُستقيمين؟
المعيار ما هو؟ هذا (مغرفة القلب) اللسان. انظر إلى لسانك، بِمَ تشغله؟ وبِمَ يشغلك؟ فيم يخوض فيه هذا اللسان في الأصابح والأماسي، في كل وقتك، في خلواتك وجلواتك؟ وستعرف بيقين، هل أنت من الصالحين، أم أنت من الآخرين؟ هل أنت من الصالحين، أم أنت من الآخرين (غير الصالحين)؟
ولذلك في حديث الإمام الترمذي، بإسناد حسن، حين سأل الصاحب الجليل عُقبة بن عامر – رضيَ الله عنه وأرضاه – رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – يا رسول الله ما النجاة؟ – وانظروا إلى مَن أوتيَ جوامع الكلم -، قال أمسك عليك لسانك. هذا أول بند من بنود النجاة، تُريد أن تنجو سالماً؟ أمسك عليك لسانك. احبس هذا اللسان، اخزن هذا اللسان، ما شيء أحوج إلى طول حبس من اللسان، إلا ما كان في خير وفي ذكر، في خير وفي منفعة دينية أو دنيوية يا حيهلا. في ذكر الله يا حيهلاً ألف مرة، وليس مرة واحدة. فيما عدا ذلك لا، وهناك الحديث الصحيح الذي نتحفظه ونحن غلمان، صغار. مَن كان يُؤمِن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت. حديث في الصحيحين نتحفظه، لكن هل نعمل به؟ هل نعمل به؟ هل نتحقَّق بهذه الأنوار النبوية المُصطفوية؟
قال أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك. فضول الخطو وأن يكون المرء خرّاجاً ولّاجاً، (ورايح وجاي)، يجره إلى تقصير كبير، وربما جره إلى معاصٍ ومآثام خطيرة. قال وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك. ما معنى ابك على خطيئتك؟ ابك على خطيئتك وتشاغل بها عن النظر في خطايا ماذا؟ في خطايا الآخرين، في عيوب الآخرين. لا تُفرِّغ نفسك كأنك قاضٍ أو حكم، مُوكَّل من قِبل السماء، أو من لدن الأنبياء، لا تحكم على عباد الله، ظواهرهم، ثم عما قليل يتطرَّق بك الأمر إلى أن تحكم على بواطنهم، بل تطرَّق الأمر ببعضهم – نسأل الله العفو والمُعافاة – إلى أن يحكموا على مصائر الناس، ويجزموا – تطرَّق بهم إلى أن يجزموا – بأن هؤلاء من أهل النار. عجيب! أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ۩ أحدهم أو واحدهم، أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا ۩؟ شيء غريب.
قال معروف بن فيروز الكرخي – قدَّس الله سره، ورضيَ الله عنه وأرضاه، علم من كبار أعلام أولياء هذه الأمة المرحومة – من علامة الخذلان ومقت الرب للعبد – من علامة الخذلان ومقت الله، أي كره الله الشديد، للعبد – اشتغاله بعيوب الناس، عن عيب نفسه. شغّال في التقييم، يُقيِّم؛ هؤلاء صالحون وهؤلاء طالحون، هؤلاء منا وهؤلاء ضدنا، هؤلاء من أهل الجنة وهؤلاء من أهل النار، وهؤلاء… وهؤلاء… عجيب، عجيب، عجيب!
روى أبو بكر البزّار – رحمه الله تعالى، الإمام الجليل – في مُسنَده، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – طوبى لمَن شغله عيبه عن عيوب الناس. اشتغل بعيبك يا رجل.
إمامنا الشافعي – رضيَ الله عنه وأرضاه – يقول:
إذا شئت أن تحيا ودينك سالم وحظك موفور وعِرضك صيّن.
لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ فكلك عورات، وللناس ألسن.
وعينك إن أبدت إليك معايب فصُنها وقل يا عين للناس أعين.
قال:
لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ فكلك عورات، وللناس ألسن.
مَن تكلَّم، تُكلّم فيه. مَن عاب، عيب. مَن سب، سُب. مَن انتقص، تُنقص. ومَن ازدرى، ازدُريَ به وعليه. هذا هو، عدل وقصاص، قصاص!
قال أحد أسلافنا الصالحين – رضيَ الله عنهم وعنا، والمُسلِمين والمُسلِمات، معهم أجمعين، بفضله ومنّه – رأيت أقواماً لم تكن لهم عيوب – أي كملة، وكمل من الرجال كثير. النبي يقول، عليه الصلاة وأفضل السلام، قال رأيت أقواماً لم تكن لهم عيوب -، فبحثوا عن عيوب الناس – أي هتكوا أستار الناس، وتكلَّموا في عيوب الناس -، فأحدث الله لهم عيوباً – أي فعيبوا بها، صاروا مُضغة في أفواه الخلق، بعد أن كانوا كملة، لا يُذكرون إلا بالخير والفضل، لأنهم شغلوا أنفسهم بالكلام في عيوب الناس ونقائص الناس -، ورأيت أقواماً كانت لهم عيوب، سكتوا عن عيوب الناس، فنُسيت عيوبهم – أي وسلمت أعراضهم -. الله أكبر، الله أكبر!
يا إخواني، يا أخواتي:
هنيئاً لنا – والله – بهذا الدين، بهذا التراث الروحاني العظيم. في هذا الباب بالذات قرأت الكثير لغير المُسلِمين، وخاصة من المسيحيين، كُتباً! لن أذكر أسماءهم، بعضهم ألَّف كُتباً في هذا الباب، ولا يُقارن، تُراثكم لا يُقارَن بتراث الآخرين، بالأحرى أو بالحري تراثهم لا يُقارَن بتراثنا، درر! لدينا جواهر ودرر، لأنها من نبع – كما قلت لكم – رباني مُصطفوي طهور، ولكن أين العمل يا إخواني؟ أين العمل؟
إذا نصبوا للقول، قالوا فأحسنوا ولكن حُسن القول خالفه الفعل.
للأسف! العلم موجود، ولكن لا يُفيد وحده، بغير تحقق، وأن نكون ضحيةً للأوهام، أوهام أننا وأننا! ها هو المعيار موجود، عيّر نفسك بما عيّرك به الكتاب والنبي المُصطفى – عليه الصلاة وأفضل السلام -، عيّر نفسك!
يقول يحيى بن مُعاذ الرازي – رضيَ الله عنه وأرضاه – القلوب تغلي بما فيها كالقدور. القدر تضع فيها اللحم والمرق، تغلي، بما فيها، والقلوب كذلك، تغلي. القلب هذا لا يكاد يتوقَّف، حتى وأنت نائم. يقولون لك يتحرَّك هامش الوعي واللاوعي. كل شيء يتحرَّك، هذا هو! سُبحان الله، النفس فوّارة كالقدر، إذا استجمعت غلياناً. القلوب كالقدور تغلي بما فيها، والألسنة مغارفها. هذا هو! إذن تكلَّم، حتى أراك. تكلَّم، حتى أرى قلبك. تكلَّم، حتى يُسفِر كلامك أو لسانك عن قلبك. لسانك صورة من قلبك. يغرف هذا، يغرف مما في القلب، إن كان في القلب إيمان وتوحيد وحقائق وعرفان وخشية وتوكل وإنابة ومحبة وثقة وإحساب واعتماد و… و… و… من هذه الأنوار، غرف اللسان منها، فأفدت واستفدت، وأُجرت وتسببت في أجر الآخرين وإثابتهم. الله!
صاحبوا مَن تُذكِّركم بالله رؤيته ويزيد في علمكم منطقه.
إذا نطق، كل نُطقه في التذكير. يُقرِّبك من الله – تبارك وتعالى -، من الخير، من الفضائل، ومن الكمالات. فاللسان مِغرفة – مِغرفة وليس مَغرفة، أداة أو اسم آلة – القلب، مِغرفة القلب! اللسان مِغرفة القلب، يغرف مما في القلب. فإن رأيت العبد، لا تراه إلا وهو مشغول بالتزيد والكلام في الآخرين وقرض أديمهم وربما هتك أعراضهم وتنقصهم والسخرية بهم والاستهزاء والحُكم عليهم، فضلاً عن سائر المعاصي الكثير، فاحذره.
ربما لا يُوجَد عضو أو حاسة في الإنسان أكثر تعرضاً للمخاطر والآثام والآفات من اللسان، حتى أن الإمام، حُجة الإسلام، أبا حامد الغزّالي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، وأعلى مقامه في دار التهاني – ذكر في الإحياء عشرين آفة، بأدنى تأمل ونظر، تعلم أنه أسقط كثيراً من الآفات، اكتفى بعشرين، وإلا ما أسقطه كثير، وقد أسقط آفات خطيرة جداً ومُهلِكة، لم يذكرها، وهي موجودة في الكتاب والسُنة، ولكنه اكتفى بعشرين آفة، فكيف لو أراد أن يتقصى – أي أن يستقصي -؟ لو أراد أن يتقصى، لربما أوفى على خمسين لو استقصى، لربما أوفى على الخمسين آفة.
اللسان خطير جداً، ولذلك في حديث الإمام أبي عيسى الترمذي أيضاً – رضيَ الله عنه وأرضاه -، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إذا أصبح العبد، أصبحت الأعضاء كلها تُكفِّر اللسان. ما معنى تُكفِّر؟ من كفَّر الرجل، كفَّر إذا خضع وبخع وتطامن وانحنى لصاحبه يُحييه، قريباً من الركوع، يُقال ماذا؟ كفَّر. إذن ما معنى الأعضاء تُكفِّر اللسان؟ تتذلل له، تتوسل إليه، أي وتقول له بالله اتق الله فينا. الأعضاء كلها! كل أعضاء البدن – النبي يقول – تُصبِح تُكفِّر، تخضع وتتذلل، تتوسَّل إلى اللسان وتقول له اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت، اسقتمنا، وإن اعوججت، اعوججنا. اللسان! من أين؟ من قول الله في آخر الأحزاب اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۩.
إذا سدَّد الله لسانك، فلم تنطق إلا بالصواب، إلا بالحكمة، وإلا بالخير، وخزنته عن كل ضير وشر، استقام عملك، وأوتيت التقوى.
إذن اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۩ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ۩، هذا حتى يستقيم قلبه، والقلب لا يستقيم، حتى يستقيم اللسان. ولذلك الأعضاء تعرف هذه المُعادَلة، اتق الله أيها اللسان، اتق الله أيها اللسان فينا.
إخواني وأخواتي:
بعد هذه المُقدَّمة الطويلة لا شك، موضوع اليوم – إن شاء الله تعالى وبفضله ومعونته – سيدور على آفة واحدة من هذه الآفات المُهلِكة المُردية، إنها آفة الحُكم على الآخرين، وهي آفة قلبية لسانية، قلبية قبل أن تكون لسانية، لأن العبد قد يحكم على الآخرين ويدينهم بقلبه، دون أن يفوه بهذا لسانه، فيقع في الإثم أيضاً، وهذا داخل في عموم قوله – جل مجده – وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ۩.
وكلنا نعلم أن من المآثم الباطنة أو الباطنية المُهلِكة العُجب، أن تُعجَب بنفسك، ترى نفسك أفضل من غيرك. لماذا أفضل؟ كيف علمت؟ العبرة بماذا؟ بالخواتيم، العبرة بالخواتيم.
يا إخواني هناك أُناس صحبوا رسول الله – صلى الله عليه وآله -، وماتوا مُرتدين، والكل يعرف هذا. عدد قليل جداً جداً، ولكن حدث! رجل أنعم الله عليه بأن التقى خاتم الأنبياء والمُرسَلين، وأسلم بين يديه، ولكنه مات مُرتداً، شيء مُخيف! فالعبرة بالخواتيم، والحي لا تُؤمَن عليه الفتنة. ولا يدين الناس إلا مُعجب بنفسه. لماذا ذكرت العُجب بالذات؟ لأنه لا يدين الناس ويحكم عليهم – هذا كذا وهذا كذا، تلك وهؤلاء وأولئك كذا – إلا مَن؟ مُعجَب بنفسه. يرى أنه كامل، معصوم، مختوم له بالجنة. ما أدراك؟ ومَن أدراك؟ من أين علمت يا رجل؟
الصالحون، وحتى الصحابة – رضوان الله عليهم، وهم رؤوس الصالحين، رضوان الله عليهم – كانوا يبكون بكاء مُراً، كانوا يتمنون أن لو لم يكن الله خلقهم. يا ليت أمي لم تلدني! يا ليتني كنت شجرة أُعضد، أو تُعضد، تُقطَع وتُلقى إلى النار! لماذا؟ يخافون من الخاتمة، بِمَ يُختَم لهم؟ وكيف يكون مصيرهم في الآخرة؟
والواحد منا، لا هو صحابي ولا تابعي ولا حتى من الصالحين، جالس مُتفرِّغ للحكُم على الناس، هذا يُعجِب، وهذا لا يُعجِب، وهذا مُمتاز، وهذا مرضي، وهذا مسخوط عليه. وكأنك إله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله!
ولذلك قال السيد المسيح – عليه السلام -، وهذا من محفوظات الإنجيل، قال ليُخرج أحدكم – هذا بمعنى قوله – الجذع – أو قال الشجرة – من عينه. أنت عينك فيها شجرة هكذا، وهي مُشوَّهة أصلا -. قال فإن أخرجها، صار بصيراً بعد ذلك أن يُخرِج القذى في عين أخيه – أو قال يرى القذاة -. ولكن أنت ترى القذاة في عين أخيك، وتغفل عن الجذع في عينك؟ ترى العُييب الصغير – ترى عيباً صغيراً في أخيك، فأنت لا ترى فيه تقريباً إلا الكمال، وفيه عيب صغير، أو أنت تراه كذلك، فربما هو ليس عيباً حتى، فأنت ترى هذا العُييب الصغير -، وتغفل عن عيوبك الجمة الكبيرة الخطيرة؟
وهذا رُويَ لدينا، نحن معاشر المُسلِمين، مرفوعاً وموقوفاً، مرفوعاً إلى سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وآله -، وموقوفاً على أبي هُريرة وغيره – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -. ينسى أحدكم الجذع في عينه، ويُبصِر القذاة في عين أخيه. يقول النبي، ما هذا؟ هذا ليس عدلاً، هذا عمى من عمى البصيرة، هذا من عمى البصيرة ومن تدني الأخلاق والسلوك.
الناس لا تحترم مَن تكون هذه صفته، أكيد! لأن الناس لها أعين، وهنا عجباً طبعاً، يتنقد على أخيه أو على جاره أو على صاحبه أو على فلان هذا الشيء يسير، ولا يرى ما فيه من عيوب؟ حتى وإن سكتوا عنه مُداجاةً ومُمارةً، وربما حتى نفاقاً وخوفاً، ولكن هم يعلمون أن كله عيوب. كلك عيوب! تنتقد العيب الصغير، وأنت مُتفرِّغ له؟
ولذللك يا إخواني من الأحاديث التي قيل إن عليها مدار الإسلام من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. ومما لا يعنيك أن تحكم على الناس، الحُكم على الناس خطيئة. اترك الناس! سيقول قائل الآتي؛ لأن بعض الناس يشتهي أن يحكم وأن يتوسَّع في الحُكم على الناس وأن يدين الناس، سيقول وهل يعني هذا أن نتخلى عن حسنا العام وحسنا الإيماني في تمييز الصواب من الخطأ؟ أبداً، أبداً، البتة، لا يعني هذا، الخطأ خطأ، والصواب صواب، والحلال حلال، والحرام حرام، ونعرف هذا، ولكن لا يجوز أن تدين امرأً لأنه وقع في خطأ، لماذا؟ لأنه لا يجوز اختزال الإنسان في فعل واحد، في خطأ واحد، أو حتى في شهر من عمره، أو كذا، لا تدري ما الله فاعل به، أدن الخطأ نفسه. ولكي تُدين الخطأ، لست مُضطراً – طبعاً القضية أبعد من الاضطرار – وليس مسموحاً لك شرعاً أن تذكره وتعيبه باسمه ونعته، أي فلان الفلاني أو فلانة الفلانية، ممنوع! أدن الخطأ، كما علَّمك نبيك – خير مُعلِّم، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، ما بال أقوام؟ النبي كان يقول ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟ ما بال أقوام يتنزهون عن كذا وكذا مما أفعل؟ ما بال أقوام؟ وانتهى، وصلت الرسالة. لا يُوجَد أي داعٍ ولا يُوجَد أدنى داعٍ لأن تقول فلان وفلانة. وصلت الرسالة! ما بال أقوام؟
هل هذا واضح يا إخواني؟ هو هذا، فالحُكم على الناس خطيئة – والعياذ بالله -، وهو ظلم، ظلم بيّن! لماذا؟ لأنه يختزل المحكوم عليه في فعل أو أفعال مُحدَّدة، والإنسان مُركَّب ومُعقَّد، وهو أكبر من هذا بكثير.
ألم نقف طويلاً عند قوله – عليه الصلاة وأفضل السلام، والحديث مُخرَّج في الصحيح، وهو حديث معروف جداً – إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها؟ الله أكبر! وهذا حدث والله، والله حدث، والقصص لا تنقطع، كم ذا وذا سمعنا من هذا وذاك وذلك، من العلماء والدُعاة ومن الناس العاديين، عن رجل أو امرأة قضى حياته في المساجد وفي الصلاة وكذا، ولكن حين احتُضر كفر بالله! نعم، نعم، قصص كثيرة. يا فلان قل لا إله إلا الله. فقال أحدهم أنا كافر بهذا الذي تقولون. يا رجل ما هذا؟ الناس قُطعت قلوبهم، فسألوا زوجته ما الأمر؟ الرجل كان مُصلياً وكان حليف المساجد! قالت كان في خلوته يُعاقر الخمر. دين للناس وليس لله، دين للناس! الصف الأول والتباكي والتخاشع وكذا، المظهر الديني الحسن الطيب، لكن في الباطن لا يُراعي لله ولا يرجو له وقاراً، يخاف من الناس ولا يخاف الله، يُراقِب الناس ولا يُراقِب الله، شيء عجيب! أي وأين الإيمان؟ أي إيمان هذا؟ فلما احتُضر قال أنا كافر بهذا الذي تقولون. أستغفر الله، ومات على ذلك. قصة من مئات – لن نقول ألوف، وإنما مئات – القصص، موجودة في الكُتب وعلى الشبكة، وتسمعها من أمك وخالتك وعمك وعمتك وجارك، فهي موجودة دائماً، شيء مُخيف! إذن النبي صدق، وهو دائماً صادق – صلى الله عليه وآله -، والحديث صحيح، قال – صلى الله عليه وآله – فيعمل بعمل أهل النار. يُختَم له بعمل الجهنميين، فيدخلها!
وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع – انتهى، خُطوة لكي يهوي في جهنم -، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها. الله أكبر! إذن لا تحكم على الناس، أن هذا شريب خمر، هذا البعيد ساقط، هذا سافل هذا كذا. لا تحكم على الناس، وادع لهم بالهداية. استر، ولا تنشغل بما لا يعنيك، اشتغل بما يعنيك.
على فكرة حين تبدأ تتكلَّم وتقول الفنان الفلاني، الفنانة الفلانية، الكاتب العلماني الفلاني، المُلحِد الفلاني قال كذا وعمل كذا، ونحن نقول. هل تعرف ماذا تفعل أنت؟ أنت تُشيع الفاحشة في المُؤمِنين، أنت تُحاوِل أن تفهم الصغار والمُراهقين والكبار أن الدنيا كلها فساد في فساد، وكفر وفسق وعصيان، فيهون على الطفل المسكين والمُراهق أن يعصي وأن يفسق، فيقول الدنيا كلها هكذا! وهذا غير جيد على فكرة، هذا شيء غير طيب. اسأل أي خبير في علم النفس أو أي عالم نفس، فسيقول لك كثرة الحديث في موضوع ما – أي موضوع، مهما كان بشعاً -، يُهوِّنه في قلوب الناس. يصير عادياً! حين تتكلَّم عن الاغتصاب – مثلاً -، ودائماً تقول الاغتصاب… الاغتصاب… وهناك إحصائيات تقول إن معدل الاغتصاب ارتفع، والاغتصاب كذا وكذا. يهون الأمر عند الناس، أي هذا يعني أن هذه مسألة الكل يرتكبها، هذه تحدث كثيراً. هل هذا واضح؟ ولذلك هذا شيء خطير، قال – عز من قائل – لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ۩، هذا قول سيئ، هذه قصص وسخة.
والله يا إخواني والله هناك شيء تقشعر له الأبدان، هناك مواقع على النت Net، أنا تابعت جُزءاً من حلقه واحدة عليها، فلم أستطع أن أُكمِل، ومُستحيل أن أُكرِّر هذا بعد ذلك، وهدى الله هذا السيد؛ لأن وجهه يُوحي بأنه إنسان فاضل حقيقةً، وواضح من خلال كلامه أن يتحرَّك على أخلاق المُجتمَع وعلى دين الناس، ولكن واضح أنه لا يعلم حقيقة ما يفعل. يقوم بعمل حلقات طبعاً، ولها مُشاهَدات واسعة، الويل ثم الويل ثم الويل لمَن كان وكده ونظره وقصده المُشاهَدات وربما العائدات، على حساب ماذا؟ الدين والتقوى وأخلاق المُجتمَع. الويل كل الويل له، وماله سُحت، أنا أقول من هنا ماله سُحت، والله! وهو يغذو نفسه وأهله بسُحت، لأنه يُفسِد تحت عنوان الإصلاح، وربما يعلم أو تأدى إلى علمه أن هذا فيه إفساد، أن في هذا إفساداً عظيماً. فأنا تابعت جُزءاً من حلقة، فلم أستطع أن أُكمِل، ولا أستطيع أن أقول لكم ماذا تابعت، هذا رجل ومُتعلِّم، وله مُتابِعون الآن أصبحوا بعشرات الألوف، وفي كل حلقة يتحدجَّث عن أسوأ ما في المُجتمَع!
هل تعرف هذا مثل ماذا؟ مثل إنسان يأخذك ويقول لك تعال، أنا سأُثبِت لك أن هذه البلدية مُقصِّرة. نعم يا أخي. فيأتي بك إلى المزبال، أينما وجد أكوام زبالة يقول لك انظر. فيزكم أنفك! هذه الروائح تزكم أنفك، ثم يأتي بك إلى بالوعة، فيفتحها، فتفوح روائح كريهة جداً جداً، فيقول لك أرأيت؟ لا يسلكون البالوعات. يا أخي ما هذا؟ أنا ما شأني بهذا؟ قل لي بشكل عام قاعدة، هذه البلدية مُقصِّرة. لكن كيف تأتي بي إلى هذه القاذورات وهذه البالوعات وهذه الأشياء الوسخة، تُشوِّه بها أحاسيسي – الأحاسيس، هي الأحاسيس طبعاً، أي الــ Sensations – ومشاعري؟
وكذلك الذي يتكلَّم فيما هو أوسخ من البالوعات ومن كل أكوام الزبالة، ماذا فعل فلان؟ وماذا يفعلون؟ وماذا فعلوا؟ وماذا كذا؟ لا أستطيع أن أتكلَّم، شيء لا يُذكَر والله العظيم يا إخواني، والله لا يُذكَر! مُتعلِّم ويرتدي كرافتة وجالس وعنده الكل يضغطون على زر اللايك Like، فما هذا؟ ما هذا الشيء؟ شيء غريب أخي، ألا يُوجَد وعي؟ ألا يُوجَد شعور؟ ألا يُوجَد تحسس؟ ماذا تفعلون؟ شيء خطير!
لَّا يُحِبُّ اللَّهُ ۩، انظر إلى القرآن، نحن نقرأ ونخر عليه – إلا مَن رحم ربي – صُماً وبُكماً وعُمياً، لا نفهم! يكفي أن تقرأ هذه الآية من سورة النساء، لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۩، تكلَّم بالأشياء الطيبة والجميلة، حتى الناس إذا سمعوها منك، شعروا بأنهم يسمعون شيئاً جميلاً، لم يجرح مشاعرهم ولا أحاسيسهم، أليس كذلك؟ هذا هو، لكن كيف تتكلَّم بذريعة أنك تُريد الإصلاح وتحت عنوان الصلاح بأقذر ما في المُجتمَع، بأقذر ما يقع من حوادث في المُجتمَع؟ يا أخي تكلَّم عن الصالحين، عن المُتصدِّقين، عن الناس الأتقياء، عن الصوّامين القوّامين. يُوجَد في المُجتمَع الكثير من الأتقياء – بفضل الله تبارك وتعالى -، وهذه الكثرة نسبية طبعاً، يُوجَد! ويُوجَد صلّاح، ويُوجَد عُرفاء، ويُوجَد أهل العلم وأهل الفضل، تكلَّم عن هؤلاء، أقم منهم نماذج تُحتذى وقُدىً تؤتسى بالحديث عنهم، أشعها! بدل أن تُشيع هذه الفواحش، أليس كذلك؟
الناس لا يلزمها أن تقف على تفاصيل الفواحش، ومَن أحب ومَن رأى من نفسه أنه مدعو إلى هذا، فهو على خطر عظيم. أنا أقول لكم هذا، وهذه نصيحة والله من أخيكم المُشفِق، والله على خطر عظيم! كيف تُحِب أن تتبع فضائح الفنانين والفنانات والمُجرِمين والمُجرِمات؟ ما علاقتك بهذا؟ أتُضيِّع عمرك في هذه المسائل؟ هذا قد يُجرئك على المعصية، قد يأتي الشيطان ويُجرئك على هذه المعصية. وإلا لماذا قال لك الله لَّا يُحِبُّ اللَّهُ ۩؟ هذا مكروه، قد يأتي الشيطان ويُجرئك على هذه المعصية، يقول لك هذه المعصية يقع فيها الكبار، ويقع فيها المشاهير، الكل يقع فيها! جرِّبها يا رجل، جرِّبها وإن لم تُعجبك، تنزع عنها. يُهلِكك! هذا إبليس، وهذه خُطوات الشيطان على فكرة. من خُطوات الشيطان ذكر المعاصي وإشاعتها في الناس بالكلام عنها، وكأن الحال كله معصية وكله خراب.
ولذلك قال سيد الخلق وحبيب الحق – صلوات ربي وتسليماته عليه – مَن قال هلك الناس، فهو أهلَكُهم. وفي رواية فهو أهلَكَهم. ووجيهة أيضاً هذه الرواية بصراحة! الأولى صيغة مُبالَغة، أي هو تفضيل، أعظمهم هلاكاً، وفي رأس قائمة الهلكى، ولكن الصيغة الثانية المعنى فيها وجيه ومُتجه جداً، فهو أهلَكَهم، أي ساهم في إهلاكهم. الذي دائماً يقول لك الناس ليس فيها أي خير، المُجتمَع كله انفرط عقده، الناس فسقة فجرة، الناس… الناس… الناس… النبي يقول هذا يُساهِم بهذا القول في ماذا؟ في جعلهم كذلك. أنت تتسبَّب في هذا، بالعكس! أغرهم بالشيء المُعاكِس، أي هناك أهل الخير، وهم كثيرون. الإنسان يغار، الإنسان عنده حُب المنافَسة، ويقول لك لماذا لا أكون من هؤلاء الكثيرين إذن؟ أنت تقول لي هناك كثيرون! وائت بنماذج طبعاً، ائت بنماذج في التقوى والعفة والأمانة والشرف والصدق والورع والقول بالحق، إلى آخره! وأكثِر من هذا، النفس مُباشَرةً أيضاً تندفع إلى التقليد والمُنافَسة، فلماذا لا أكون من هؤلاء الكثيرين؟
هذه هي الخُطة يا إخواني، ولذلك الحُكم على الناس خطيئة إذن، لا يعنيني أننا لا نحكم على الناس، أننا فقدنا حس التمييز بين الحق والباطل، والخطأ والصواب، لا! عندنا هذا، ولكن نحن نكتفي بماذا؟ بدمغ الفعل. لا علينا من الفاعل، الفاعل ندعو له بالهداية والصلاح، في خلواتنا، وبإخلاص، وندعو لعموم المُسلِمين.
عُرِف الآتي من أدب بعض كبار الصالحين، ومنهم سيد التابعين، أويس القرني – قدَّس الله سره -، وهو الرجل الصالح، الذي أوصى رسول الله – صلى الله عليه وآله – عليّاً وعمر – رضيَ الله عنهما – أن إذا لقيتماه، سلاه أن يستغفر الله لكما. الله أكبر! وهو تابعي، ليس صاحبياً حتى، لأنه عارف كبير، رجل خطير، من رجال الله – قدَّس الله سره -.
عُرِف عنه وعن كثيرين من الأولياء بعده إلى اليوم، أنهم لا يدعون لخويصة أنفسهم أو أهليهم أو ذويهم، وإنما دعوتهم لأمة محمد عامة. الله أكبر! اللهم اجعلنا منهم. إذا أصبحوا وإذا أمسوا، قالوا اللهم ارحم أمة محمد، اللهم أقل لأمة محمد عثراتها، اللهم… اللهم… لأمة محمد! وربما هذا سر ولايته أيضاً، أو بعض سر ولايته. أنت تأتي وتعمل العكس للأسف، والشيطان يستزلك.
فالحُكم على الناس خطيئة يا إخواني، ميِّز، ادمغ الباطل، شجِّع وكافئ الحق، فهذا مطلوب منك، مطلوب! وهذا أمر بالمعروف ونهي عن المُنكَر، هل هذا واضح؟ أما أن تدمغ الناس، فلا ينبغي أبداً، وهذا ليس من مصلحتك، لأنك لا تدري ما العواقب. لعل هذا الذي دمغته وقرضت أديمه وشهَّرت به في ناس وحذَّرت منه، يُختَم له بعمل الجنة ويدخلها. ولعل الأبعد – اللهم لا تجعل أحداً منا ولا من المُسلِمين، مَن هذا مصيره – الذي دمغ وشهَّر وفضح، يُختَم له بعمل أهل النار، ويدخلها – والعياذ بالله -، شيء مُخيف، شيء مُخيف ومُرعِب. هل هذا واضح يا إخواني؟
ثانياً، لماذا لا ينبغي أن نحكم على الناس، وأن ندين الناس؟ كما قال السيد المسيح مرة أُخرى – عليه السلام – في إنجيل متى، قال لا تدينوا، كي لا تُدانوا، إنكم تُدانون بما دنتم به الناس، وبالكيل الذي كلتم له، يُكال لكم. الله! هذا نبي، نبي. هذا المعنى يتردَّد في السُنة المُصطفوية بعبارات وصيغ كثيرة، هو هذا! لا تُظهر الشماتة بأخيك، فيُعافيه الله ويَبْتَلِيَكَ. وطبعاً من أجل السجع نقول ويبتليك بدون الضبط الصحيح لها، ولكن هي ليست كذلك أبداً، لا بد أن يكون الفعل منصوباً، هذه الفاء الفصيحة، هذه الفاء السببية، لا بد وأن يكون الفعل منصوباً، أي فيُعافيه الله ويَبْتَلِيَكَ.
حدَّثتكم مرة من على هذا المنبر عن شخص أعرفه تماماً وعن قُرب، شيء غريب! ذكر لي في أكثر من موضع وموطن الآتي، قال ما شمت أو أظهرت الشماتة بأحد، إلا ابتلاني الله بما شمت به فيه. وذكر لي أشياء غريبة، أنا في سعة من أمري ألا أذكرها، أشياء غريبة جداً، والله العظيم يا إخواني! وهذا شيء مُخيف، صدق رسول الله. لا تُظهر الشماتة بأخيك، فيُعافيه الله ويَبْتَلِيَكَ.
ولذلك قال الإمام أعمش، وهو إمام الكوفة في عصره، قال حدَّثني إبراهيم – يعني مَن؟ النخعي. الإمام الجليل -، قال – رضيَ الله عنه وأرضاه – قد أرى ما لا يُعجِبني – من بعض الناس -، فأُمسِك عنه ولا أذكره، مخافة أن يبتليني الله بمثله. انظر إلى هذا، هو واعٍ، لا تفرح ولا تقل أنا محفوظ وأنا معصوم، وهو وقع. فتُظهِر هذا بطريقة أو بأُخرى! والشيطان له مداخل ومخارج عجيبة غريبة، والنفس كذلك، هذه النفس الخبيثة الروّاغة، أحياناً – مثلاً – بعضهم يفعل شيئاً، ويُشتهر في الناس، عُرِف بطريقة أو بأُخرى، أو حتى شهره الفسقة، تأتي أنت وأنت محسوب على الصالحين – اللهم اجعلنا من الصالحين، وأصلِحنا لك بما أصلحت به عبادك الصالحين -، فلا تذكر الاسم، ولكن تذكر الحادثة وصفات الشخص، ولم يبق إلا أن تقول ماذا؟ هو فلان. والناس تقول هو فلان. أنت غيّاب، أنت اغتبته، وهذه لا تجوز على الله – تبارك وتعالى -، وهذا واضح، إذا كان الناس فهموا، فماذا بقيَ؟ أنت لم تذكر الاسم، ولكنك تكلَّمت بطريقة، كل مَن يسمعها، يقول لك هو يعني فلاناً. ولا يجوز هكذا، لا يجوز! تكلَّم بتعميم كامل.
وحتى حين تتكلَّم – انتبه، وهذه من دقائق العرفان الإلهي، هكذا تصير عارفاً بالله، هكذا تصير عارفاً بالله! اللهم عرِّفنا بك ودلنا عليك، فما هو؟ حين تتكلَّم، افعل الآتي -، انظر؛ إن كان في نيتي أن هذا الكلام عام وشديد العمومية، وربما أقتصر فيه على أحداث لا تمت إلى عصرنا بصلة، ولكن في باطني وفي قلبي أنا أُشير إلى فلان، فهذا لا يُرضي الله – تبارك وتعالى -، هذا يُغضِب الله، عليك أن تسكت عن هذا الكلام، هذا التفتيش!
ولذلك إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ۩، سلامة القلب شيء كبير يا إخواني، شيء كبير! والقلب السليم يا أحبابي – يا إخواني وأخواتي – هو موضع نظر الحق – لا إله إلا هو – من عبده. إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم. والحديث في صحيح مُسلِم، إلى قلوبكم وأعمالكم في روايات أُخرى.
إذن القلب منظر الرب كما قالوا. ما معنى منظر؟ هذا اسم مكان، أي اسم موضع، اسم مكان! منظر الرب أي موضع نظر الرب – لا إله إلا هو -. الله لا يرى لحيتك، ولا يرى عمامتك، ولا يرى جلبابك، ولا يرى ظاهرك، فضلاً عن أن يرى بيتك وسيارتك ومُلكك وحرسك وخدمك، فهذا كله كلام فارغ، الله ينظر إلى القلب، لا إله إلا هو! هذا هو، فإذا رأى قلباً سليماً طاهراً مُطهَّراً صافياً، أودعه من أسراره العلوية – لا إله إلا هو -، وقذف فيه من نوره، قذف فيه من نوره! وهذا هو السر، هذا القلب السليم، صاحبه ناجٍ يوم القيامة، لا محالة، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ۩.
إساءة إلى إسلامك، إساءة إلى تدينك، أن تشتغل بما لا يعنيك. وهذا ظاهر الحديث، أي حتى مفهوم المُخالَفة يُعطي هذا، من حُسن إسلامك ما ذكرناه، فيصير معناه ماذا بالمُخالَفة؟ من سوء إسلام المرء أن يفعل العكس. أنت تُسيء إلى تدينك، وتُسيء إلى إسلامك، حين تشتغل بما لا يعنيك.
سوف تقول لي ولكن القضية هذه صعبة. ما الذي يُعينني عليها غير الكلام العام من تقوى الله ومُراقَبة الله وما إلى ذلك؟ يُعينك عليها أن تدرك حقيقتك أنت، أو أنك نهب وهدف مُرصَد للأخطاء والأغلاط والخطأ يا أخي، كل ابن آدم خطّاء. ألم يقل لك النبي كل ابن آدم خطّاء؟ النبي قال هذا، ثم قال وخير الخطّائين التوّابون. وأنا من أبناء آدم، أُخطئ وأغلط، وأنت وهي، كلنا يا إخواني ذلكم الإنسان، ذلكم الآدمي، نُخطئ!
فأنت تلتمس دائماً لنفسك المعاذير، أليس كذلك؟ حين تُخطئ تقول بالله عليكم لا تُؤاخذوني، والله لم أقصد، يعلم الله ما وقع، يعلم الله حالتي، ولو كنتم مكاني، لفعلتم مثلي. حلو، حلو، حلو! طبِّق هذا على الناس. مَن سره أن يُدخل إلى الجنة ويُزحزَح عن النار، فلتأته منيته – يقول المُصطفى الأبر الأطهر، صلوات ربي وتسليماته عليه وآله – وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وليأت إلى الناس مثل الذي يُحِب أن يأتوا إليه. كيف تُحِب أن يُعامِلك الناس؟ أُحِب أن يُقيموا عُذري، أن يُدرِكوا ظروفي، أن يُدرِكوا مشروطيتي، أي أن ظروفي وأحوالي وأموري كانت بصراحة غير جيدة، وهي التي ألجأتني إلى أن أُخطيئ أو أتجاوز، فارحموني بإدراك مشروطيتي، أليس كذلك؟ ارحموني بإدراك مشروطيتي. جميل! ارحم الناس دائماً بإدراك أو مُحاوَلة إدراك ماذا؟ مشروطياتهم. قل الله أعلم، الله أعلم ما عُذر هذا المسكين، والله أعلم لماذا وقع في هذا الغلط وفي هذا الإثم، عفا الله عني وعنه. واسكت واستر، ولا تذكره إلا بأحسن ما تعلم فيه، اسكت! وإن ذكره أحد بالقبيح، فصمته، سكته وقل له اتق الله، لقد أثمت. إذا لم يرد أن يسكت وما إلى ذلك، فلتغادر المجلس، فلتغادر! هذا المجلس يُعصى فيه الله، وهذه غيبة.
هاك الإيمان يا إخواني، هذا الذي يُرضي الله عنا – تبارك وتعالى -، وهناك قصة موجودة في مواضع كثيرة، يرويها عالم التنمية البشرية أو بالأحرى خبير التنمية البشرية – هو ليس عالماً، حقيقة هذا ليس علم بنسبة مئة في المئة، ولكنه خبير في التنمية البشرية، وهو معروف عالمياً – ستيفن كوفي Stephen Covey، صاحب العادات السبع وغيره، عن نفسه يقول أنا مرة كنت مُستقلاً حافلة – حافلة عادية في المدينة -، وإذا بأب ومعه أولاده الصغار (بضعة أولاد)، حين سارت بنا الحافلة، هؤلاء انطلقوا، وكأنهم يركضون في شارع، يذهبون من مكان إلى مكان، وهناك صياح وزعيق. الناس بدأت تتأفف، وبدا الضيق والضجر على وجوه الناس، أي ما هذا؟ ما هذا الأب؟ يا أخي أدب أولادك، هناك أُناس يُريدون أن يناموا، وهناك أُناس يُريدون أن يقرأوا، وهؤلاء يقومون بالإزعاج، وهناك ركض وصوت وصياح ومزاح.
قال فأتيته، ملت عليه، وقلت له يا سيدي الكريم، أأنت والد هؤلاء الأطفال كما لاحظت؟ قال له نعم. قال وكان الأب في حالة من التبلد، لا أدري لماذا هو كذا، ولكنه مُتبلد ولا يتفاعل بالكامل. فقلت له لو أنك أمرتهم بأن ينتهوا وما إلى ذلك، لكي يسكنوا قليلاً. قال فقال لي يا سيدي الآن نحن أتينا من المُستشفى، وقبل ساعة من الزمان فارقت أمهم الحياة. قال – أي هذا بمعنى الكلام – كلمته كأنها رصاصة وقعت في قلبي. شعرت بألم شديد – قال – في نفسي. فالإنسان يبقى إنساناً، ما شاء الله! قال شعرت بألم شديد في نفسي، لإساءتي الظن به. أي أنه والد غير مُعتنٍ بتأديب أولاده، وهو مُتبلد الإحساس، ولا يعمل حساباً للمُجتمَع الآن في هذا الباص Bus (الحافلة)، والقضية ليست كذلك! القضية أن هناك أماً لأولاد ماتت من ساعة، أي هل هو يُريد أن يأتي الآن لكي يُحمل الأولاد نكداً فوق النكد وتنغيصاً فوق التنغيص، ويقول لهم اجلسوا وما إلى ذلكم؟ فتركهم.
قال كان موقفاً مُؤثِّراً. فأنت لا تعرف ما عُذر مَن أمامك، لماذا يفعل هذا؟ ولماذا لا يفعل هذا؟ لا تعرف، لا تعرف! احمل الناس على أحسن المحامل، احمل الناس على أحسن المحامل!
يقول سعيد بن المُسيب – رضيَ الله عنه وأرضاه – أرسل لي بعض أصحاب رسول الله مكتوباً – انظر إلى هذا، هناك نصيحة في كتاب، صحابي ينصح تابعياً، أحد فقهاء المدينة السبعة، بل هو رأسهم، هذا سعيد بن المُسيب، رضيَ الله عنه وأرضاه -. كتب لي يقول إذا بلغك عن أخيك شيء، فاحمله على أحسن ما تستطيع، ما لم يأتك ما يغلبك. أي ربما يُوجَد شيء لا تأويل له، لكن حاول أن تتحيَّل في ماذا؟ في الاعتذار له. وحدك! أكيد لعله كذا، لعله كذا، ربما هذا بسبب كذا، وربما كذا. هذا هو، وهذا أدب المُؤمِن، انظر إلى المُؤمِن!
وعلى فكرة هذه الخُطب لو سمعها غير مُسلِم بهذه الطريقة، لقال لك عجيب، هذا دينكم؟ حتى هذه الدقائق الإنسانية العاطفية في التعامل مع البشر ونظرة الإنسان إلى أخيه الإنسان موجودة! إلى هذا المدى بلغتم أنتم؟ وإلى هذا العُمق غُصتم؟ يا أخي والله هذا أحسن دين، والله! لو سمعوا الكلام هذا، لقالوا لك عجيب، شيء عجيب هذا، هذا دين عجيب. نعم! كتاباً وسُنة وصحابة وتابعين، تراث يا أخي، لا إله إلا الله!
والله لو ترجمنا واحداً من مئة من هذا التراث في مسالكنا وأفعالنا وأقوالنا، لخشع العالم أمامنا، ولقالوا ما شاء الله عليكم، يا أعظم الأمم، يا أكرم الناس، أنتم! يا أحسن أهل الأديان. ولكن للأسف أنتم تعرفون الحال، والطابق – قالوا – مستور. ولكن لا يزال أهل الخير – بفضل الله – موجودين، كثّرهم الله، وجعلنا الله من حزبهم وقبيلهم.
وخيرٌ من أن تلعن الظلام ألف مرة، أن توقد شمعة. هذا هو بصراحة، لنكن إيجابيين، لا ينبغي أن نكتفي فقط بالنقد والتجريح، أحسن شيء أن نكون إيجابيين، ونأمر بالشيء الإيجابي والشيء الطيب، عسى الله – تبارك وتعالى – أن يهدينا إلى أحسن مراشدنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
روى الإمام البخاري في صحيحه، عن أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال بعث رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – عمر على الصدقات. أي مُصدِّقاً، يجمع الصدقات. هذه الصيغة بذاتها هكذا تدل على ماذا؟ على الزكاة المفروضة. قال لك بعث مُصدِّقاً، وهو يعني ماذا؟ أن يجمع الزكاوات المفروضة. وهذا الذي رجَّحه النووي في شرح هذا الحديث.
قال فمنع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم النبي. ما معنى أنهم منعوا؟ منعوا الصدقات، منعوا الزكاة، ولم يُخرِجوا شيئاً. فتكلَّم الناس! الناس تكلَّموا، قالوا ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس منعوا زكاة أموالهم. الناس تتكلَّم! وطبعاً مُحال أن يكون الذي تكلَّم من كبار الصحابة ونبلائهم، ربما يكون من صغار الصحابة، وربما يكون من المُنافِقين أيضاً، ولكن الصحابي الكبير لا يتكلَّم ولا يخوض في الناس، لا يفعل هذا أبداً.
فبلغ ذلك النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، انظر إلى هذا، هذا درس عملي لنا، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ما نقم ابن جميل، إلا أنه كان فقيراً، فأغناه الله – تبارك وتعالى -. أي هذا للأسف لا عُذر له، قال ابن جميل هذا كان فقيراً، وأغناه الله من فضله ورسوله، والآن يمنع الزكاة. لماذا؟ لماذا الشُح؟ وأما خالد – قال – فلا تلوموا خالداً. قال إذا كنتم أصبتم، هكذا رمياً من غير رامٍ، في ابن جميل، فإنكم لم تُصيبوا في خالد ولا في العباس عمي. انظر إلى هذا، الإنسان يتعرَّض هنا للخطأ، للوقوع في ماذا؟ في أعراض الناس. والعِرض لا يعني أن هذا زانٍ أو هذه زانية، لا! العِرض موضع المدح والذم من الإنسان، فانتبهوا! يجب أن نفهم الدي كهو، لا تقل لي هناك العِرض. أي أنا لم أتكلَّم ولم أقل عنه إنه زانٍ وما إلى ذلك. لا! ليس هذا فحسب، هذا طبعاً أهم شيء في العِرض، ولكن العِرض هو موضع المدح والذم من الإنسان. لو قلت عنه إنه بخيل، فستكون تكلَّمت في عِرضه. لو قلت عنه إنه لئيم أو مكّار أو مُخادِع أو نصّاب أو مُحتال أو بليد… إلى آخره، فسوف يكون كل هذا كلاماً في عِرضه، فما رأيكم؟ ولذلك كل المُسلِم على المُسلِم حرام، نعم! وكذلك عِرضه، فهذا هو أيضاً، كله عِرض هذا، فالأمر لا يتوقَّف فقط على أن هذا زانٍ أو غير زانٍ وأن هذه زانية أو غير زانية، لا! هذا مُهِم لكي نفهم الدين بشكل صحيح، موضع المدح والذم من الإنسان هو العِرض.
فأنتم تكلَّمتم في عِرض ثلاثة من الصحابة، أصابتم في واحد وأخطأتم في اثنين. فإذن أين السلامة؟ في الإمساك. الأحسن لي ألا أتكلَّم من البداية، ما علاقتي بهذا؟ الأحسن ألا أتكلَّم، إذا كان لا بد وأن يتكلَّم أحد، فليتكلَّم الرسول، ويُمكِن أن يُوحي الله إليه فيهم، لكن أنا ما علاقتي بأنهم أعطوا أو لم يعطوا؟ لا بد وأن أشتغل بنفسي، فهل أنا أعطيت؟ الحمد لله. فقط! ونسأل الله الثبات على الخير.
قال وأما خالد، فلا تلوموا خالداً، فإنه احتبس أعتاده. جمع عتاد، آلة الحرب، من أفراس وخيول وسيوف وتروس، وكل شيء! كله يُعتبَر عتاد، يقول لك أحدهم العتاد الحربي. ويُجمَع على أعتاد وأعتدة – وأدرعه – جمع درع – في سبيل الله. قال لهم أنتم أخطأتم الظن فيه. أرأيتم؟ أخطأتم في مَن؟ في سيف الله المسلول الظن. تظنون أنه بخيل مسيك ولا يُخرِج الزكاة الواجبة، وهذا مُستحيل، خالد هذا الفارس الشهم، أيكون بخيلاً؟ صعب. هذان لا يجتمعان، أي الشجاعة وما إلى ذلك مع البخل والإمساك. قال لهم هو أصلاً كل أمواله الخاصة به والأعتاد والأدرع وقفها في سبيل الله. لا إله إلا الله! والناس عتبت عليه، قالوا لم يُخرِج الزكاة! كيف يُخرِج الرجل الزكاة، وماله كله وضعه في سبيل الله؟ هذا وقف لله، مَن يُريده، فليأخذه ويُجاهِد به، ثم يرجعه. وقف! عجيب – رضوان الله عليه – فعلاً.
قال وأما العباس عم النبي – قد تكلَّمتم فيه أيضاً -، فعندي مثلها. قال الإمام النووي أشار إلى ماذا؟ إلى أن النبي كان تسلف – يعني ماذا؟ أي أخذ بشكل مُسبَق ديناً – زكاة العباس لسنتين قابلتين. وهذا دليل مَن جوَّز تقديم الزكاة عن ماذا؟ عن ميقاته أو محلها الزماني، أي عن وقتها. قال لك هذا مُمكِن. فالعباس أخرج زكاته عن سنتين قابلتين، والنبي أخذها. قال أنتم عتبتم عليه؟ بالعكس! زكاة السنة هذه عندي، وأيضاً عندي مثلها. الله!
ثم قال أما شعرتم – يخاطب هؤلاء – بأن عم الرجل صنو أبيه؟ وكأنه قال لهم جرحتموني. هذا هو، هذا معناها، وإلا ما موضعها إذن؟ موضعها أنه يقول عم الرجل صنو أبيه، بمعنى ماذا؟ أنتم تعرفون صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ۩، أي هذا مثيل، فعم الرجل مثل الأب، العم أب والخالة أم، ورواه البيهقي في شُعب الإيمان، فلماذا قالها النبي إذن؟ هل لا يُوجَد لها موضع؟ لا، لها موضع. كأنه يقول الآتي، انظر إلى هذا، انظر إلى اللُطف النبوي، لطيف ولا يُحِب أن يجرحهم، كأنه يقول لهم بالطريقة هذه أنتم تكلَّمتم في أبي، أنتم تقولون العباس عم النبي كذا وكذا. وهو أبي، عم الرجل صنو أبيه، فتكلَّمتم في أبي. أخطأتم بالظن في مَن؟ في أبي. خرصتم بالظنون في أبي، فما معناها إذن؟ أتيتم شيئاً كبيراً، وجرحتموني وأنا رسولكم.
فلا تتعجَّلوا، وأمسكوا هذا اللسان المبري، سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ۩. يا الله! يا أخي ما هذا؟ ما شيء والله كما قال ابن مسعود، ما شيء أحوج إلى طول حبس وخزن من اللسان. وهذا يمشي – ما شاء الله عليه – في طريقه، أي اللسان هذا.
في الصحيح – في البخاري ومُسلِم – قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – رأى عيسى بن مريم ذات مرة رجلاً يسرق – يسرق الرجل -، فقال له أتسرق؟ قال له لا والله الذي لا إله إلا هو، ما سرقت. قال له صدقت، وكذبت عيناي. قال الشراح ما هذا؟ قالوا كيف إذن هذا وقد رآه؟ قالوا لك إنه تأوَّل له، هذا أكيد! أنت رأيته وهو يسرق، لكن من المُمكِن أن يكون هذا ماله، أليس كذلك؟ من المُمكِن أن يكون هذا ماله، من المُمكِن أن يكون قد أحب أن يتصدَّق به – مثلاً – وزوجته لا تُريد وتغضب لأنها امرأة مسيكة، فهو أحب أن يأخذ المال هذا ويذهب لكي يتصدَّق به دون أن تحس زوجته – مثلاً -، من المُمكِن أن يكون هذا ماله ولكنه عند رجل ظالم وجحده إياه، أليس كذلك؟ وهذه يُسمونها مسألة الظفر عندنا في الفقه الإسلامي، مسألة الظفر! هناك شخص أنت أعطيته مالاً، أعرته، أقرضته، ولم يرض أن يُعطك إياه، وجحد، ثم أصبت مالك، أي هذه الخمسمائة يورو أو الخمسة آلاف، فهل يجوز لك أن تأخذهن؟ يجوز لك أن تأخذهن، فهذا مالك وأنت تعرف، أي أنك لست في حاجة إلى دليل، هذه مسألة الظفر وفيها خلافات طبعاً دقيقة، هذه مسألة الظفر!
أختم بقصة جميلة للشهيد السعيد – إن شاء الله -، الدكتور العلّامة محمد سعيد رمضان البوطي – رحمة الله عليه -، الرجل الصالح – نحسبه كذلك، والله حسيبه -. يحكي الآتي في مقطع من دقيقتين، وهو مُؤثِّر جداً، قال يا إخواني، في هذا المسجد أحد إخوانكم، أحسبه من الصالحين. قال بحسب ما أرى منه وما إلى ذلك أحسبه من الصالحين. يرتاد هذه المجالس والدروس، إلا أنه يتغيب في رمضان وله عُذره.
قال ذات يوم من الأيام أتى، وكان ذا لحية وافرة. لحيته كاملة وافرة – ما شاء الله -. فأتى ذات يوم وقد خففها تخفيفاً مُنكَراً. أي شبه حلقها، بقيَ شيء بسيط منها! قال فوقر في قلبي اعتراض عليه. قال لو أنه مُنذ البداية لحيته خفيفة، لما كانت هناك مُشكِلة. ولكن أنت عندك لحية وافرة، أكرمك الله بها وزيَّنك بها وما إلى ذلك، فكيف تأتي وتخففها هذا التخفيف المُنكَر؟ هذا البوطي يحكي ويتحدَّث عما وقر في نفسه.
قال وقر هذا الاعتراض يا إخواني. قال في نفسي، لم أفه له به. قال لا، لم أفه له به، ولكن هذا وقر في نفسي. قال ثم أراد الله أن يُؤدبني. انظر كيف يتولى الله فعلاً الصالحين، اللهم اجعلني من عبادك الصالحين. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ۩، لا يخلي الإنسان الصالح في عمائه أو في غلطه، يُؤدِّبه مُباشَرةً، رحمةً به وحرصاً وضناً به.
قال في اليوم التالي مُباشَرةً – أي اليوم وهو في الليل، موضع الدرس، صار الاعتراض والنقد القلبي، أي هذا في القلب، حكم عليه، أي لماذا فعلت هذا؟ اعترض – ابتلاني الله بحلاق. قال في اليوم التالي ابتلاني الله بحلاق، وعن غير إرادة مني وقع الآتي. وطبعاً يبدو أن هذا ليس من الحلاق، هذا خطأ من المقص. قال فخفف لحيتي تخفيفاً مُنكَراً. قال فغضبت! قال وأنا في حال الغضب، تذكَّرت الرجل. وهنا استعبر الشيخ البوطي – رحمة الله عليه – وأمسك عينيه، شيء مُؤثِّر! قال وأنا في الغضب تذكَّرت الرجل الذي انتقدته، فعلمت أنه تأديب من الله لي. في الموضوع نفسه! لحية بلحية! فكأن الله يقول له ما أدراك لِمَ خفف لحيته؟ ما أدراك؟ لعل له عُذراً، وما علاقتك أنت بهذا؟
ولذلك يا إخواني هناك طريقة من طرق العارفين والسالكين والعابدين الزاهدين، يُسمونها ماذا؟ الملامتية أو الملامية. وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ۩، مبنية على أصول مُعيَّنة، من أظهر أصولهم ألا تلم أحداً من عباد الله، لا تنتقد أحداً من عباد الله، ألا تعترض على أحد من عباد الله، اترك الخلق للخالق، واحمل الناس على أحسن المحامل. فقل لعل لهم عُذراً، لعل لهم كذا، لعل… لعل… ليس لك علاقة بهم. وعندهم أحد الأعلام الكبار، اسمه حمدون القصار – قدَّس الله سره -، قال عبارة عظيمة، ماذا قال؟
قال إذا رأيت رجلاً سكراناً، فتمايل. أنت خارج في الليل هكذا بعد صلاة العشاء، ورأيت واحداً يتطوح من السُكر، وقد خرج من الخمارة. أنت أيضاً تمايل، وقد خرجت بعد قيام الليل والتهجد، ربما في الساعة الواحدة ليلاً. تمايل! تصرَّف وكأنك سكران. قال لئلا تبغي عليه. أي حتى لا ترى أن نفسك أفضل. أي أنا الرجل الصالح العابد، وهؤلاء الناس الذين يخرجون من الخمارة وسخون ومُنتِنون. فتهلك. إياك، إياك! وادع له بالهداية، ادع له بالهداية. إذا تكلَّم معك، فانصحه وذكِّره بالله، ولكن لا تبغ عليه ولا تر نفسك عليه.
قال أبو يزيد البسطامي – قدَّس الله سره، وحسبه طبعاً بعضهم على أنه من الملامية أيضاً، حُسب عليهم! أي حُسب أنه من الملامتية، هذا أبو يزيد طيفور بن عيسى – الآتي، قال أعظم الناس حجاباً عن الله – مَن أكثر الناس المحجوبين عن الله؟ – العلماء والعبّاد والزهّاد. والله هذا شيء لا يُفهَم، كيف؟ ولماذا؟
لأن العالم يحسب أنه أتى بشيء جزيل وكبير، فربما ازدهى به علمه، وربما أعجبته نفسه، وربما تكبَّر على بعض الخلق، وقال لك السِفلة الجهلاء هؤلاء، الذين لا يعرفون لا كذا ولا كذا، ونحن العلماء، نحن معاشر العلماء. قال أبو يزيد وما علم الخلائق جميعاً مما يسَّره الله وأظهره من علم، كسطر في اللوح المحفوظ. علمهم – قال – من عند آخرهم، لا يأتي سطراً في اللوح المحفوظ. سطر من علم الله! فلماذا أنت مُتكبِّر وترى نفسك؟ أنت رأيت نفسك، فصرت محجوباً عن الله. الله لا يقبل مُتكبِّراً ولا مُعجباً ولا مُزدهياً أعجبته نفسه أبداً، وبماذا؟ بالعلم؟ الجهل خير منه، إذا عمل فيك هكذا.
والعبادة ماذا عنها؟ الشيء نفسه. قال عبادة أعظم الناس عبادة – ائت بأي واحد الآن من المُسلِمين يعبد ليل نهار، قال هذا عن كل هذه العبادة – لا تستقل بنعمة واحدة من نعم الله. نعمة السمع أو البصر أو أي نعمة، وهي بالألوف، وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۩، فلماذا أنت ترى نفسك؟ ولماذا تظن أن لك دالة على الله وأن دعاءك مُستجاب؟ ولماذا تقول اطلبوا دعوتي يا ناس، لكي أدعو لكم وأدعو لأولادكم وأُبارِككم؟ ولماذا تزعل من الذي لا يُقبّل يدك ولا يطلب الدعاء منك؟ ولماذا تقول إذا ظلمك أحدهم يا ويلهم، سوف يهلكون من عند آخرهم، ظلموا العبد الصالح؟ مسكين أنت، أهذا لأنك تتعبَّد؟ كل عبادتك هذه لا تستقل بنعمة من نعم الله عليك، ولكن أنت تجهل مقامك، وتجهل ما ينبغي لله من تعظيم – لا إله إلا هو -، فأنت محجوب، العبادة حجبتك، بدل ماذا؟ أن تدلك على الله.
وكانوا يقولون كلمة أعظم من هذه، وهي احذر أن تجعل العبادة سبيلاً لأن تصير بين الناس رباً يُعبد. نعم! عرفوا أن هناك أُناساً عن طريق العبادة والدين يُحوِّلون أنفسهم ليس إلى أنبياء، بل إلى آلهة، تُعبَّد وتُوقَّر ويُدان لها بالعرفان. فلماذا يا رجل؟ أنت تظل عابداً، العبد عبد والرب رب.
وأخيراً الزهادة. قال هو زاهد ومُتقلِّل في مأكله ومشربه ومسكنه، وفي كل شيء المسكين يفعل هذا، أكب الدنيا على وجهها، طلقها بائنة ثلاثاً. قال وقد جعل الله الدنيا بأسرها – وهذا التعبير لُغةً عليه كلام، المُهِم أنه قال جعل الله الدنيا بأسرها – قليلاً، فقال فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ۩، قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا – في النساء – قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ۩. فهل أنت زاهد في الكثير؟ أي هل تظن أنك زاهد في شيء كبير؟ هذا لا شيء، الدنيا كلها عند المُؤمِن ليست بشيء، وفعلاً في نظر المُؤمِن الصادق هي كذلك، ولا تزن عند الله جناح بعوضة.
وأخيراً يقول شاه بن شجاع الكرماني إن نظرت إلى الناس بعينك، طالت خصومتك معهم. أي ستظل دائماً في مشاكل وخصومات. قال وإن نظرت إليهم بعين الله – أي بعين الحق -، عذرتهم.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين المُصلِحين، الهُداة المُهتدين، غير ضالين ولا مُضلين، سلماً لأوليائك وعدواً لأعدائك، نُحِب بحُبك مَن أحبك ونُعادي بعداوتك مَن خالفك، اهدنا واهدِنا.
اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اللهم اهدِنا إلى أرشد أمرنا وأفضل حالنا، اللهم إنا نسألك أن ترحمنا وترحم بنا، وأن تغفر لنا ما كان منا في الدهر الأول.
اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما جنينا على أنفسنا وما أنت أعلم به منا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر وأنت على كل شيء قدير.
نسألك فعل الخيرات وترك المُنكَرات وحُب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنةً، فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا خزايا ولا نادمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا 30/7/2010
أضف تعليق