إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۩ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۩ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ۩ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ۩ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ۩ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
حديثناُ اليوم عن مُتدينين ثلاثة، أي عن أنماط ثلاثة من أنماط التدين، وقد تناولنا هذا الموضوع من زاويةٍ أخرى في فرصةٍ سابقة، هؤلاء الثلاثة المُتدينين هم المُتدين الخاضع السلبي ويُقابِله المُتدين الساخط الرافض ويتوسَّطهما المُتدين الناقد الواعي، ولنبدأ بالأسوأ تطرفاً، فلدينا موقفان مُتطرِفان، أحدهما أسوأ من الآخر، لنبدأ بالأسوأ حتى ننتهي بالتفاؤل وننتهي بالجميل، فالعبرة بالخواتيم والنهايات، لنبدأ بالمُتدين الساخط الرافض، في الحقيقة هو ليس مُتديناً، والحديث عن المواقف من الدين فسميناه مُتديناً مجازاً، الرافض الساخط يتشبَّث ويعتصم بموقفٍ طفولي عنيد قوامه (لا)، (لا) يقذف بها في وجه كل أحد، عُدته وزاده ورأس ماله في كل نقاش وحجاج (لا)، كل شيئ (لا)، وهذا الموقف الرافض الساخط هو في جوهره موقف غير واعٍ وغير ناضج وإن كنا لا ينبغي أن نتسرع بإصدار أحكام قيمة من أول الطريق، لكن على كل حال قد فعلناها، في جوهره موقف غير ناضج، موقف صبياني وطفولي، ولا نتحدَّث عن الدين كمُؤسَّسة، وإنما الدين كاتجاه وكشوق إنساني لا يزال يصحب الإنسان منذ بدء، فأن يأتي أحد في مساء الخليقة أو في ظهرها أو من بعد فجرها ويقول لا للدين ولكل دين، لا للدين جُملةً ولا للدين تفاصيل وتفاريق، فهذا الموقف صبياني غير ناضج، لا يُمكِن أن يتورَّط فيه فيلسوفٌ كبير أو عالمٌ مُحترَم أو مُفكِّرٌ ذو اعتبار، هذا لا يُمكِن، لكن يتورَّط فيه الصغار والذين لا درايةَ لهم حقيقيةً بدوافعهم وبواعثهم التي تجعلهم ينزعون هذا المنزع وينبعثون هذا الانبعاث ويتساخفون هذا التساخف والتراقع، كل شيئ (لا)، لكن ضمن هذا الموقف تتمايز أيضاً مواقف من مواقف، هناك الموقف الأكثر تطرفاً والأشد حدة والذي يرفض الدين إلهيةً وربوبية، هو لا يرفض فقط بعض الشرائع الدينية لأنها لا تُعجِبه بحجة أنها تُضيّق عليه وتُقيِّد من حرياته ولا تتماشى مع تيار الزمن وروح العصر وإنما هو يرفض الدين عقيدةً وشريعة، إلهيةً وربوبية، يرفض الربوبية أصلاً، يرفض أن يعترف بوجود الله، إذن هو الموقف الإلحادي أو الموقف المُلحِد، للأسف نغمة الإلحاد ارتفعت وتيرتها في السنوات الأخيرة في دنيا العرب والمسلمين، شباب صغار واعدون كان ينبغي ولا يزال ينبغي أن يكونوا هم عدة الأمة، الدينمو المُحرِّك لهذه الأمة، قلب الأمة، للأسف أعداد لا يعلم ثقلها ووزنها إلا الله – تبارك وتعالى – يعتصمون بهذا الموقف المُنكِر، لا ندري عددها ولعلها لا تكون كثيرة، لكن المسألة تتفشى وتسري – للأسف الشديد – كالنار في الهشيم، هذا ما يحدث، أعداد من هؤلاء الشباب يعتصمون بهذا الموقف المُنكِر، الموقف العنيد، الموقف الساخط الرافض لكل شيئ، لا يسمحون لأنفسهم أن يتورَّطوا أصلاً في نقاش حجاب وصلاة وحج وعمرة وكعبة، هم يرفضون الدين من أصله وجذره، يقول لك لا إله أصلاً، عن ماذا تتحدث أنت؟ بعضهم لم تبلغ به الحدة والتطرف هذا المبلغ الأسيف وإنما يعتصم باعتقاد الربوبية وله تنقيدات على مُقتضيات الإلهية، أي على النواحي التشريعية، يرفض هذا ويقبل هذا، ينتقد هذا الجانب من تشريع الله – تبارك وتعالى – ويُوافِق على الجانب الآخر، وفق قناعاته ووفق أهوائه ورغائبه، لا ندري لكن المُهِم بعض الناس عن قناعة أو هكذا يُخيَّل إليه وبعض الناس عن أهواء ورغائب فانتبهوا، هو يرى أن الدين يمنعه ويحول بينه وبين أن يفي بحاجات رغائبه وملاذه الحسية وحتى ربما المعنوية أحياناً، والملاذ والأهواء المعنوية في أكثر أحايينها تكون أشد خطراً وأكثر قسوة وشراسة من الملاذ والشهوات والأهواء المادية طبعاً، هذه الأهواء المعنوية – مثلاً – هى التي تُحيل أحدهم وتُساعِده ليُصبِح قائداً طموحاً، لكنه يدوس البلاد والعباد في سبيل أن يكون هو القائد الأوحد، شيئ خطير جداً، أين منهم إنسان يُريد أن يقضي شهوة جسمه من أكل وشراب وجنس؟ هذا إنسان خطره بسيط جداً ومحدود، لكن هذا خطره مُخيف جداً، مَن يقرأ سيرة الإسكندر الأكبر – مثلاً – يعرف هذا، هذا الرجل لم يترك أحداً إلا سطا به، وكان آخر الذين سطا بهم أخوه، قتله بسيفه لأنه صدقه ومحضه النصيحة، قال له هؤلاء يكذبون عليك، أنا سأكون صادقاً معك لأنني أخوك وأقرب الناس إليك وإلى وجدانك وقلبك، ما تفعله ليس صحيحاً، طريقك هذه وسكتك هذه سكة الندامة يا أيها القائد الكبير ويا أخي، فلم يتمالك نفسه إلا أن استل سيفه وغدره بطنعة ثم جُنَّ جنونه بعد ذلك، كان هذا تقريباً آخر ضحاياه، لم يترك أحداً، قتل صديقه المُقرَّب أيضاً، اعتبر أباه فيليب عاراً عليه، لماذا؟ لأن الإسكندر بكلمة واحدة لم يُؤمِن إلا بذاته، هوى رهيب، الرجل يعبد نفسه، وأراد للخلق أن يعبدوه مع الله ومن دون الله، شيئ خطير جداً، قتل مُؤرِّخه الكبير كاليستينس Callisthenes، وقال له التاريخ ليس ما تكتبه أنت وإنما ما أفعله أنا، لكن بالعكس التاريخ ما يكتبه المُؤرِّخون وليس ما يشتهيه الفاتحون، وهذا المنطق لم يرق للإسكندر الأكبر فقتله أيضاً، أودعه غيابات السجن ستة أشهر ثم قضى عليه، وكان هو ابن أخي أرسطو Aristotle وهو أستاذه، أين وفاؤه لأستاذه؟ قال أرسطو Aristotle التاريخ لن يذكره أصلاً إلا على أنه مُعلِّم الإسكندر، أرسطو Aristotle مَن؟ أرسطو Aristotle سيذوب وينتهي، يبقى منه أنه مُعلِّم الإسكندر، رجل آمن بنفسه إلى حد الجريمة وإلى حد الكارثة على المُستوى الإنساني، أباد أعداداً لا يعلمها إلا الله من الشعوب ومن المدنيات ومن الناس، وكان في الوقت ذاته يُؤمِن بأنه رجل حضاري تمديني وأن مُهمته كمُهِمة الرجل الأبيض في القرن التاسع عشر، الرجل الأبيض الاستعماري الكولونيالي مُهِمته تحضير وتمدين الشعوب الشرقية المُتعجرِّفة، ربط أسيا بأوروبا، ربط الشرق بالغرب،فكان الرجل يُؤمِن بصدق بهذا، لا تدري أعبقرية يُخالِطها جنون أم جنون يمتح من معين العبقرية لكن الخطر الأكبر أن أهواء الرجل المعنوية سطت به، هذا أخطر بكثير، هؤلاء بالألوف – نعم ليسوا بالملايين ولكن بالألوف – عبر التاريخ البشري،مُعظم القادة العسكريين والسياسيين والروحيين على هذا النحو، أتكلَّم عن علماء الدين وخاصة القيادات طبعاً، ليس عن الفكة من المال، فلا أتحدَّث عن السنتات وهؤلاء بمئات الألوف، لكن أتحدَّث عن القادة الكبار مثل شيخ الإسلام أو المُفتي أو قائد الجماعة أو رئيس الحزب وهذه المراكز العُليا، هؤلاء خطيرون جداً جداً على البشرية في الجُملة، منهم مَن يكون رحمة حتى من القادة العسكريين والسياسيين ومنهم مَن يكون نقمة، العسكري الذي تُدغدِّغ وجدانه أحلام الفروسية – أن يكون فارساً مِغواراً يذكره التاريخ، وهذه الأحلام تكون أحياناً أحلاماً دنكشوتية لكي يكون ذا فرادة – يجب أن يفهم أن الفارس لا يكون فارساً إلا في مُواجَهة السفّاح وفي مُواجَهة الجزار، لا تكون فارساً إلا في مُواجَهة الجزّار، إن كنت فارساً في مُواجَهة الإنسان الضعيف فأنت الجزّار، وكل واحد من هؤلاء فيه رجلان يعتركان، والمُعترَك ساحةُ النفس، فيه الفارس المُمكِن وفيه الجزّار المُحتمَل، وعند مرحلة مُعينة يفترقان كلٌ إلى سبيل، فقد يذوب الفارس ويبقى الجزّار، قد يتلاشى الجزّار وينتهض الفارس فانتبهوا، الشباب الذين يُهرعون إلى منطق القتال ومنطق الجهاد وحمل السلاح لا يعلمون أنهم يُبتلون بأكبر بلية، يخوضون اختباراً من أصعب الاختبارات على الإطلاق، في نظري لا يفوقه في الصعوبة إلا اختبار السُلطة، أن تُصبِح ذا سُلطة، أن تحكم على الفرسان وعلى الجزّارين وعلى الضحايا وعلى الأبطال، أن تحكم على شعب بأكمله، هذه أعظم فتنة، خاصة في العهود والسياقات الاجتماعية أو المُجتمَعية التي تسمح بإعادة إنتاج الحاكم الفرد الذي يقول لكي يُسمَع لقوله ويأمر فيُطاع ولا يُخالَف عن أمره، هذا الشيئ مُخيف مُرعِب، ومُرعِب أن الأمة تسمح بإنتاج أمثال هؤلاء، انتبهوا إلى أن أي أمة أو أي شعب يسمح أو تسمح لنفسها بإنتاج أمثال هؤلاء عليها أن تدفع الثمن، وستدفعه عاجلاً أو آجلاً، إن لم يكن على يدي ملاك يستحيل في لحظة إلى شيطان مَريد وإلى عفريت لعين وظل ملاكاً رحيماً أو إنساناً قويماً فستدفع هذه الأمة أو ذاك الشعب الثمن على يدي خلفائه، على يدي سلالته المعنوية أو حتى الصُلبية، وهذا ما علمناه درس التاريخ، تاريخ أمتنا وتاريخ الأمم من قبلُ، على هؤلاء الشباب أن يفقهوا جيداً أنهم إنما يدخلون أتون أو فرن الابتلاء، وهنا لابد أن يتجوهر الذهب، أن ينماز الذهب من الغثاء والجفاء والشوائب الباطلة، فإما كنت ذهباً وإما كنت جفاءً وغثاءً، إما خرجت فارساً وإما خرجت جزّاراً، هذه صورة من صور الابتلاء، لكن من أبشع الصوروأصعب الصور، وقد تكون أجمل الصور لمَن ينجح، ما معنى الكلام؟ أن تحمل قطعة سلاحاً – أن تحمل سلاحاً – ابتلاء خطير جداً جداً، حين أُفكِّر أحياناً في هذا فإن ذهني لا يتسع لتصوّر وتخيّل هذه الحالة، لأن في نهاية المطاف أزعم أنه ذهن إنسان، لست بحيوان ولست بشيطان، كما أنني لست بملاك، أنا إنسان مثل كل بني الإنسان، ذهني لا يتسع لتصوّر وتخيّل هذه الحالة، ضبّاط الاستخبارات الذين قرأنا عنهم وسمعنا عنهم وهم أسمعونا عن أنفسهم – هم كانوا ينشرون مقاطع اليوتيوب YouTube، هم الذين يفعلون هذا – كيف كانوا ينتهكون أعراض الشباب في الزنازين والسجون؟ كيف يغرسون العصي الغليظة في أدبارهم؟ شيئ لا يكاد يُصدَّق، لا أستطيع أن أتخيَّل أن بشراً يفعل هذا ببشر أياً كان ذاك البشر، لكن هم يفعلون، ثم أنثني إلى نفسي وأقول لعل الفرق يكمن فقط في أن هؤلاء الجزّارين ساعدتهم للأسف أقدارهم الكئيبة الجديبة ومكَّنتهم من أن يسطوا بعباد الله، وكم ذا بيننا من جزار لم تُواته الفرصة فقط، هذا هو السؤال، انتبهوا إلى هذا، قد يكون هذا أو قد يكون ذاك أو قد يكون تلك أو قد يكون هذا، لا ندري، وكما أقول دائماً جزّار مع وقف التنفيذ، مُجرِم مع وقف التنفيذ، لماذا؟ لأن الفرصة فقط لم تُتَح له، الحرب الحدودية أو الأهلية – الحرب الوطنية الأهلية – تُعطي هذه الفرصة لكل مَن شاء، سلاح بالمجان وقتل بالمجان، قتل عبثي فوضوي بالمجان، لا حساب ولا عقاب، لا مُحاكَمات ولا تسجيلات، فقط اقتل، سلاح ورصاص يُلعلِع ويُدوّي ويُعربِد في ساحة الجنون وفي ساحة المجزرة وفي حمامات الدم، شلال لا يرتوي، شلال لا يشبع ولا يرتوي فلا يزال يتغذى على الدماء الجديدة، الدماء الغضة والأرواح البريئة الطاهرة والأجساد الطرية المُفعَمة بالحياة، أعدموها الحياة، لماذا؟ فرصة، الآن واتته الفرصة ودخل الامتحان، هل نجح أم رسب؟ طبعاً سيُقال نحن نقتل بإسم الوطن، نقتل بإسم حرب المُؤامَرات الكونية، كما يقتل بشار طبعاً، انتبهوا إلى أنه يقتل الأطفال والنساء والشيوخ، يقتل بالجُملة وبالتفصيل، ولا يتحرَّك ولا يطرف له جفن، كما يقتل الآخرون أيضاً، يُعدِمون هؤلاء وأولئك، إعدامات باسم الشريعة، هذا يقتل بإسم الوطن، وهذا يقتل بإسم الدين وبإسم الحق، وكلٌ يُخيّل لنفسه – يُحِب أن يُخيل ويرسم لنفسه – أنه طرف في الملحمة الماجدة، ولا يدري أنه طرف في المجزرة الخسيسة المُجرِمة، هذه ليست ملحمة ماجدة، وإنما هذه مجرزة حقيرة، مجزرة تبرأ منها الإنسانية، يبرأ منها الإنسان، يبرأ منها الديان لا إله إلا هو، و تبرأ منها الأديان، لكن هكذا أرادوا، وأنا أقول لكم ما أسهل أن يتأوَّل الإنسان، انتبهوا إلى أن أسهل شيئ أن يتأوَّل الإنسان، قبل أن تدخل هكذا امتحان أمامك مشوار طويل وطويل لتختبر فيه مدى وعيك بذاتك، مَن أنا؟ هل أنا فعلاً ملاك أو قريب من ملاك أم أنا حيوان وبهيمة أم أنا – والعياذ بالله – شيطان مارد وعفريت عتي في مسلاخ إنسان؟
في القرن العاشر والحادي عشر الميلاديين عاش أبو حيان التوحيدي، الأديب والفيلسوف والمُفكِّر العربي الكبير، المُفكِّر الإنسان الذي جعلوه زنديقاً، لكن تاج الدين السبكي رد إليه الاعتبار، واعتبره من كبار رجالنا، هو من رجال الشافعية وهو رجل عظيم وليس زنديقاً، لكنهم زندقوه لأنه كان إنساناً، يتفلسف لصالح الإنسان، كان مُلتزِماً بالأخلاقي وبالإنساني كما نقول بلغتنا، كتب عبارة عجيبة، واضح أنها عبارة سبقت عصرها بقرون، تقريباً على الأقل بسبعة أو ثمانية قرون، قال الإنسان أشكل على الإنسان، وانتظرنا إلى القرن العشرين ليجود الزمان بمُفكِّر وأديب وفنان كبير وإنسان أيضاً مُفعَم بالإنسانية وهو أندريه مالرو André Malraux، الفنان والفيلسوف الفرنسي، ووزير الثقافة أيضاً الذي كتب يقول ثمة شيئ في الإنسان يبقى بعد فناء كل شيئ أسميه – أنا أسميه – الجانب الإلهي في الإنسان، قبس من روح الله في هذا الإنسان، ما هو؟ ما هى دلالته؟ ما هو تمظهره؟ يتمثَّل في ماذا هذا الشطر أو الجانب أو هذه الحتة الإلهية في الإنسان؟ قال يتمثَّل في نزوع الإنسان – دائماً ينزع إلى هذا، يفعل هذا باستمرار الإنسان، الإنسان الذي هو إنسان فانتبهوا، ليس شيطاناً وليس حيواناً بهيمة – إلى أن يضع نفسه موضع التساؤل، هكذا شرح مالرو Malraux عبارة أبي حيان التوحيدي التي تقول الإنسان أشكل على الإنسان، الإنسان هو الذي وضع نفسه موضع التساؤل، مَن أنا على المُستوى الفردي؟ مَن أنا على المُستوى الجنسي كإنسان وكجنس أو كنوع – يُسمونه النوع – وكخليقة؟ مَن أنا؟ ما هو دوري؟ ما هى فلسفتي في الحياة؟ لابد أن أكون مُتموضِعاَ من ناحية الوعي – توعوياً – بشكل دقيق، حتى أستقبل حياتي بخُطة واضحة مُبصِرة على الأقل، لا أضرب في عمياء ولا أخبط خبط عشواء، الناقة العشواء تخبط هكذا على غير هدى وعلى غير تبصر، فلابد أن أفعل هذا، لكن أنى لكثيرين أن يفعلوا؟ وأنا حديثي بالذات عن الشباب الذي لا يفهم الدين فهماً جيداً، نتحدَّث الآن عن ثلاثة متدينين، عن الشباب الذي ليس لديه لياقة ولا قدرة ولا فرصة أن يفهم للأسف أو يُفهَّم الدين كما أراده الله، الدين الذي هو رحمة وليس نقمة، رحمة وليس عذاباً، عماراً وليس خراباً، حباً وليس حقداً، تسمعهم وتقرأ لهم فلا تتمالك إلا أن تصيح، صوت الحقد هو الذي يتكلَّم، لا صوت الدين، صوت الكراهية هو الذي يزعق ويُعربِّد، لا صوت الله، لكن بإسم الله، هذا الصوت يُسنَد إلى الله، عليه مُلصَق الله ومُلصَق محمد ومُلصَق القرآن، هل هذا هو الدين؟ غير معقول، هكذا يودون أن تسير الأمور وهكذا يُلِّحون ويقولون هذا هو الدين، لكن يا أخي هذا صوت الكراهية، هذا ليس صوت الحب الإلهي، ليس صوت الرحمة الإلهية التي عنها كل الوجود قد صدر وانبثق، كل الوجود انبثق عن هذه الرحمة الإلهية، مُشكِلة هؤلاء فيما أظن وأُقدِّر – والله تبارك وتعالى أعلم وأحكم – ليست فيما يقرأون على المُستوى الكمي، بعض الناس يظن أنهم لو قرأوا كثيراً لكانوا أحسن ويقول مُشكِلتهم أنهم شباب أغرار وأنهم حسنو النوايا، وأنا كنت أقول هذا، والآن أنا أُعلِّق الحكم على نواياهم، وإذا أردت أن أكون صريحاً مع نفسي ومعكم فأنا اعتقادي ويقيني الجازم أن كل مَن صدقت نيته حقاً لا يصدر عن هذا المنطق، لكن كم ذا يتفق الإنسان أن يُخادِع نيته بصدد نيته؟ كم ذا يتفق الإنسان أن يُخادِعنيته عن نتيه؟ كثير جداً جداً جداً، الإنسان كائن مُؤوِّل، يُؤوِّل كل شيئ، يستطيع أن يُؤوِّل الفحشاء والجريمة وكل شيئ، ليُخرِجه في النهاية إلى شيئ مُقدَّس، يُلبِسه لباس المُقدَّس ولباس العظيم ولباس النبيل الكريم، وهو أخس شيئ، لكنه يفعل هذا بالتأويل، ولذلك أنا قلت لكم المُشكِلة الحقيقية في مدى وعينا بذواتنا، هل لدينا وعي حقيقي بمَن نحن على المُستويين؟ مَن كان لديه وعيٌ حقيقي بذاته هو أقرب أن يعرف حقيقة نواياه وحقيقة بواعثه، إذا صادفت في حياتك مَن يقول لك يا أخي سامحني فأنا حسدتك وأنا غيرت منك – هذا هو الإنسان البريء، هذا الإنسان الجميل – اعتصم به، اعتصم بقوته وبصحبته، هذا الإنسان بريء، فيه براءة الطفولة، فيه البراءة الإلهية التي يُحِبها الله تبارك وتعالى، هل خطر لك أن تقول لنفسك هل أنا من الناس الذين – وأنا الآن في الثلاثين أو في الأربعين أو في الخمسين أو في الستين أو في السبعين – عاشوا ثلاثين أو أربعين أو خمسين أو ستين أو سبعين سنة وبقيَ ذلك الطفل الصغير الوادع؟ تقول أعود إلى نفسي، أُلقي نظرة على تاريخي وأعمل جردة حساب لنفسي، أرى أنني في مُجمَل حياتي بفضل الله – تبارك وتعالى – في مُجمَل حياتي بقيت ذلك الطفل الصغير الوادع، لم أتعرَّف في يوم من الأيام لأن أنصب نفسي الفخاخ وأُدبِّر المكائد وأهيِّئ المصائد لعباد الله، لكي أصطادهم ولكي أُوقِعهم ولكي أفضحهم، لم أشمت بأحد، لم أُحِب مُصيبةَ لأحد، لم أُحِب الإعنات لأحد، لم أكره أحداً، لا أعرف الكره، من المُمكِن أنني لم أُحِب أحداً – لا أُحِبه ولا أجدني مدفوعاً إلى أن أُحِبه – ولكنني لا أكرهه فضلاً عن أن أحقد عليه وأتوصَّل إليه بسبب من أسباب الأذية، حاشا لله، لم أفعل هذا أبداً، لم يبعثني الحسد والحقد والغيرة على أن أفقد هناءة نومي فأتقلب على مثل حسك السعدان في الليل وأقول – مثلاً – لماذا هو عنده وأنا ليس عندي؟ لماذا ينجح وأرسب؟ لماذ يرتفع وأنخفض؟ لماذ يعز وأذل؟ لم أفعل هذا، هذه أقدار الله وحظوظ الله، أقام العباد فيما أراد، هذا مُلكه يُدبِّر كيفما يشاء، ما علاقتي؟ بالعكس أنا أفرح لفرح الذين يفرحون وأحزن لحزن المحزونين، هل سألت نفسك هذا؟ هل أنت من هذا القبيل وقليلٌ ما هم؟ اللهم اجعلنا منهم، أنا أقول لك إن كنت منهم أطمئنك، بعون الله طريقك سالكة إلى الجنة وإلى رضوان الله، أنت عبدُ الله كما خلقه اللهه وكما عُدت إلى الله، إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩، خلقك بريئاً بروح إلهية، بقبس من روح الله، طُلعة بريئة طيبة خيرة رحيمة نبيلة ماجدة، وعُدت إليه كذلك، قلَّ أن تدنست، وإن تدنست فمن قريب تعود سريعاً لتسلك الجادة، سبيل الله تبارك وتعالى، تقول الآية الكريمة اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩، يا حياك الله وبياك، ياهنيأً لك، ويا هنيأً لك مليون مرة، اسأل نفسك دائماً هل أنت هذا الإنسان أم ذاك الإنسان من الدشت والـ Rubbish البشري؟ الـ Rubbish البشري كثيرون جداً جداً، لا يعلمهم إلا الله، الـ Rubbish أو الدشت البشري هم الذين زايلتهم براءتهم سريعاً، فارقتهم طهارتهم من زمان بعيد، بقيَ منها تلاويح وتهاويم تلوح من بعيد على بُعد أربعين سنة، حين كان في الثانية عشرة كان ذاك البريء وذاك الطاهر، أما الآن فلا، من أربعين سنة لا يعرف هذه الطهارة وهذه البراءة وهذه المجادة، لا يعرفها الآن، يعرف الخبث والنصب والدجل والكذب والسرقة والثرثرة واللصوصية والحقد والبهتان والإفك والأحقاد والأضرار، شيطان والعياذ بالله، انسلخ من بشريته واستحال شيطاناً دون أن يدري، وما زال يرطم بإسم الدين، وما زال يتكلَّم بإسم الدين وبإسم الإله بآيات الله والأحاديث النيرات والشرائع المُحكَمات، لا يزال المسكين، لكن لا يدري أن وجهه ينم عليه، وجهه كريه جداً، ملامحه تفضحه، منطقه يفضحه، لغته ومُعجَميته تفضحه، ليس فيها من حس الإنسانيةِ شيئ، ليس فيها من رائحة الرحمة شيئ، هذا واضح جداً يا أخي، لا يُمكِن أن تخدع البصراء، لا يُمكِن أن تخدع الحقيقة، ولكن تخدع أمثالك من الدشت البشري ومن الـ Rubbish البشري، لماذا؟ لأن الحياة – كما قال شكسبير Shakespeare – مسرح ونحن المُمثِّلون، هذه كلها مسرحية، هذا كله تمثيل، في الكواليس غرفة النوم أيضاً، الكواليس تحت اللحاف في الليل، الكواليس حيث يكون أحدنا وحده، في الكواليس تظهر الحقيقة، الكواليس في النوايا، كواليسنا صدورنا، أنتم تعرفون الكواليس، هذا المسرح وما خلفه كواليس، في الكواليس طبعاً يُغيَّر المكياج ويُغيَّر اللباس ويُخلَع قناع ويُلبَس قناع، هناك تظهر الحقيقة الظرفية، ولنا كواليسنا طبعاً، كل واحد يعرف نفسه في كواليسه، أما ما عدا ذلك فهو مسرح وأدوار، دور إثر دور والعياذ بالله تبارك وتعالى، هؤلاء مُشكِلتهم ليس في أنهم لا يقرأون إلا قليلاً، يظن بعض الناس أنه لو قرأ أكثر وأكثر وقرأ في الكتاب والسُنة والأحاديث والشروح للأئمة ولفلان ولعلان سوف يُصبِح أحسن، لا والله، أنا أقول لكم هذا يُشكِّل شيئاً بسيطاً من المُشكِلة، يُشكِّل لكن جزءاً بسيطاً ويسيراً منها، المُشكِلة ليست في قرائتهم على المُستوى الكمي، المُشكِلة في أنهم لا يقرأون خارج المُقرَّر، أنا لا ينبغي أن أكتفي أيضاً بكلام وهتافيات فتتحوَّل لغتي إلى لغة خشبية دون أن أُقدِّم بعض الحل أو رائحة حل، هذا عندي حله، وحل قوي جداً جداً ومُجرَّب، على الأقل أنا جرَّبته فجرِّبوه، وغيري جرَّبه وينجح ويشتغل، هذا الحل يشتغل، هذا الحل فعَّال، ما هو؟ ينبغي أن تقرأ خارج المُقرَّر، ليس مُقرَّر المدرسة وليس مقرَّر الكلية وإنما مُقرَّر المُجتمَع ومُقرَّر المذهب ومُقرَّر الطائفة، وهنا قد تقول لي هذا يعني أنني كشيعي لابد أن أقرأ للسُني، وأنا كسُني لابد أن أقرأ للشيعي وأقرأ للإباضي، لكن ليس أنتم فحسب، ومُسلِم تقرأ لغير المُسلِم، وشرقي تقرأ للغربي، وغربي يقرأ للشرقي، حاول هذا، نحن البشر، نحن الإنسان، نحن بنو آدم كلنا، ليس نصفنا من بني الشياطين والنصف الآخر من بني آدم، لا يا رجل، اقرأ لأخيك الإنسان، ستجد الرائع والمُعجِب والمُفيد والمُطرِب والجميل والبنّاء والإيجابي في كثير من أفكار إخوانك من أبناء آدم – أبناء الإنسان – وستتعلم، وهناك عبقريات كثيرة لا تدور في دائرتك، لا تدور ضمن مطيافك الطائفي أو المذهبي أو العرقي أو اللغوي، وإنما ضمن عوالم ثقافية أخرى وضمن أفكار أخرى، فاقرأ للآخرين، حاول هذا، وطبعاً اعتصم في نهاية المطاف بما لديك، أنت تعتصم بما لديك، هذا ما يُعطيك المُحدِّدات الأولى لهويتك، فأهلاً وسهلاً بهذا، ليس عندي مُشكِلة، ولكن بعد ذلك أنت سترتقي من أن تكون المُتدين الخاضع السالب السلبي إلى المُتدين الواعي الناقد، تعرف ماذا تأخذ وماذا تترك.
مُشكِلة كل الأديان – والإسلام ليس بدعاً منها وليس استثناءً – أنها تُلتَث وتُلوَّث بلوثات شركية وثنية تصنيمية، وهنا ستقول لي كيف؟ من أين لك هذا؟ هذا في كل الأديان وعند كل المتدينيين، الدين الإلهي الحق ينزع إلى ماذا؟ وأنا أتحدَّث بمنطق توحيدي، دين لا إله إلا الله، هذه يُسمونها الأديان التوحيدية، قالوا حتى النصرانية دين توحيدي، وهذا جيد، فاليهودية دين توحيدي وكذلك النصرانية والإسلام، لكن الإسلام هو الأصفى توحيداً، صورة الإله فيه هى الأكثر كمالاً والأكثر روعة والأكثر نقاءً وفرادة، ليس عندنا لا ثالوث ولا ربوع، عندنا إله واحد أحد لا إله إلا هو، تقول الآية الكريمة قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ۩ عندنا إله واحد أحد لا إله إلا هو، تنزيه على جميع المُستويات، على المُستوى العددي الوجودي وعلى المُستوى التركيبي البنائي أحد ، هذه واحدية وأحادية، هذا هو الإسلام العظيم، في الأديان التوحيدية الدين التوحيدي الحق ينزع إلى ماذا؟ أنا اقول لكم ينزع إلى نزع القداسة عن كل المُقدَّسات والمُقدَّسين الزائفة والزائفين، وفي الحقيقة لا مُقدَّس إلا الله وحده لا إله إلا هو، كلمة مُقدَّس الحقيقية لله وحده، لذلك هل “القدوس” من أسماء الله أم من أسماء الأولياء؟ من أسماء الله، هل هذا إسم لله أم يشركه فيه الأنبياء؟ لله فقط، هذا كله كلام فارغ، لكن عند النصارى وعند المسلمين وعند اليهود يُقال المُقدَّس فلان الفلاني، مُقدَّس ماذا؟ وهنا قد يقول أحدكم مجاز وهذا نقبله، نعرف أنك تُريد المجاز، لأن القدسية فرع ولازم الكمال المُطلَق، لا كمال مُطلَقاً إلا لخالق الكمال والجمال والجلال لا إله إلا هو، الله هو الكمال المُطلَق من كل وجه، لا يعتريه ولا يقبل النقص أصلاً، لذلك هو القدوس، لكن الأديان لا ترضى بهذا، الله بعيد ومُقدَّس، نُريد شيئاً قريباً نتشبَّث به ونتلّهى به ونلعب عليه، فليُقدَّس هذا الشخص إذن بإسم أنه ولي، ثم لتُقدَّس السلالة، أي الأبناء والبنات، ثم لتُقدَّس البُقعة التي دُفِن فيها، ثم ليُقدَّس المزار والمقام الذي أُقيم لإحياء ذكراه، وهو ليس ثمة، هو ليس مدفوناً حتى هناك ، هذا مقام من المقامات، له قبر واحد ومائة مقام لكن كلها مُقدَّسة، فبقاع قُدِّست ومزارات، وأشجار قُدِّست، وأزمان وأحوال وأحداث وأشخاص قُدِّست، شيئ غريب جداً، هذه نزعة شركية تعمل في الخط المُقابِل لخط الدين التوحيدي، فالحق ينبغي أن يكون واحداً، والمُقدَّس واحد لا إله إلا هو، لكن انتبهوا إلى أن في مُستويات أكثر تدهوراً وتورطاً وتوريطاً وأكثر تدلياً وتدنياً وهبوطاً نرى أن العلماء أمثالنا والمُفكِّرين والكتّاب المساكين الذين على باب الله أصبحوا مُقدَّسين، ليس نظرياً وإنما عملياً، نظرياً يقول لك هو ليس معصوماً، هو يا أخي مُجرَّد عالم، لكن واضح يا رجل أنك تُدافِع عن أفكاره وآرائه وكتاباته كأنه مُقدَّس، بل بالعكس واضح أنك لا تخضع للقرآن الصريح بمقدار ما تخضع لفهم هذا الرجل، القرآن واضح، عندك مائة آية أو مئتا آية تقول كذا كذا لكن أنت تقول شيخنا فلان فهم أن كل هذه الآيات بمعنى آية واحدة مثلاً، يا رجل كيف هذا؟ ما علاقة شيخك بهذا؟ هل شيخك يهدم القرآن ويهدم المعمار القرآني كله لأجل فهمه السقيم؟ هذا فهم سقيم، هذا الفهم قد يكون أثراً لحروب طائفية أو لحروب دينية أو لحروب حدودية أو لصراع مذهبي أو لضيق معرفي – ضيق دائرته المعرفية – أو لروح العصر التي ألهمته ومتح من معينها، لا ندري تحديداً، ما هذا؟ هذا بشر، لكن العلماء تقريباً يُعامَلون بهذه الطريقة، بدليل – أنا سأعطيك مثالاً سهلاً جداً جداً – أن الرواة يُعامَلون كمعصومين، إذا راوي وثَّقوه يحدث هذا، والتوثيق ليست مسألة إعجازية، الراوي الثقة ليس إنساناً معصوماً، هو ثقة بمعنى أنه إنسان عدل وصادق وديّن وما إلى ذلك، فماذا بعد؟ يا ويلك إذا شكَّكت في حديث آحاد رواه ثقات، ما معنى هذا؟ هل هم معصومون؟ هل هم مُقدَّسون؟ هذا الثقة ثقة فيما يبدو لك، والله أعلم ما هو خبيؤه، مَن الذي عرَّفنا يا أخي؟ فنُريد أن نزن هذا الشيئ الذي يرويه هؤلاء الثقات ليس بميزان العقل المحض وإنما بميزان كتاب الله يا رجل، يروي واحد عن واحد حديثاً يُخالِف كتاب الله في عشرات الآيات، فكيف أقبله؟ يُقال يا زنديق، يا مَن ترد الأحاديث، يا مَن ترد على البخاري ومسلم، ثم يبدأ يُزندِق ويُكفِّر، شيئ رهيب، حالة من العبط، هذه ليست حالة علم أو فكر أو منهج، هذه حالة من العبط المنهجي، هذا إسمه العبط والاستعباط المنهجي والعلمي، هذا غير معقول، لماذا؟ لأنهم في الحقيقة ينظرون إليهم على أنهم مُقدَّسون لا يُخطئون ولا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، يا سلام، عملياً هذا ما يحصل، نظرياً يقول نحن لم نقل هذا، هل تكذب علينا؟ يا أخي عملياً تتصرف كذلك، وكما قلت غير مرة إخواننا الشيعة عندهم اثنا عشر معصوم غير محمد بن عبد الله، ومن ثم يكونوا ثلاثة عشر، وفاطمة أيضاً معصومة فأصبحوا أربعة عشر، وطبعاً وبالنسبة لنا نحن السُنة تقريباً كل الصحابة معصومة، نُعامِلهم عملياً على أنهم معصومون، ويا ويلك إذا تكلَّمت بأي طريقة عن أن صحابياً أخطأ أو غلط أو خالف عن نهج الرسول أو عن نهج الراشدين أو عن نهج الصحابة الطيبين، يا ويل ويلك ويا ظلام ليلك يا كافر ويا زنديق، فهذا يعني أن عندنا ألوف المعصومين، هم عندهم أربعة عشر معصوماً وما إلى ذلك ونحن عندنا ألوف المعصومين، لكن لا يجوز هذا يا أخي، طرفا إفراط وتفريط وكلاهما مذموم وذميم، ولكن هذا أصبح ليس فقط ذميماً وإنما أصبح أليماً يُؤلِمنا، يُتعِبنا ويُشقينا هذا الشيئ!
فنعود إلى موضوعنا، إذن الحل أن هؤلاء لابد أن يقرأوا خارج المُقرَّر، اقرأ خارج مُقرَّر الطائفة، خارج مُقرَّر المذهب، خارج مُقرَّر الدين، اقرأ لغير الإسلام ولغير المُسلِمين، اقرأ وقارن يا رجل، القرآن علَّمنا هذا، القرآن ذكر لنا عقائد الأمم الأخرى من الكفّار والملاحدة وما إلى ذلك ورد عليهم وناقشهم بأدب إلهي عالي جداً، ونحن نتعلَّم نفس الشيئ، حين تبدأ تقرأ تتخلق لديك وتبدأ تنمو وتتنشأ ملكة الوعي الناقد والبصيرة العلمية والمعرفية والروحية، وهنا قد يقول لي أحدكم ما حاجتي بالقراءة وأنا عندي الكتاب والسُنة؟ وكأنك تتلقى الكتاب والسُنة – ما شاء الله – من فم جبريل، يا رجل أنت لا تعرف شيئاً في الكتابِ ولا في السُنة إلا عبر المصافي، إلا عبر المناخل، مُنخُل ومُنخُل ومُنخُل ومُنخُل ومُنخُل ومصفاة ومصفاة إلى عشرة مصافي، سيدي فلان وسيدي علان والإمام فلان والمذهب وقالوا وقرَّروا ووضعوا والحاشية والمتن وإلى آخره، أليس كذلك؟ أم تقدر وحدك على أن تقرأ وتخرج بأفكار؟ هذا غير موجود، هذا كذب، ولذلك أنا أشعر بالرثاء، السُني كالشيعي كالإباضي يقول لك القرآن يا أخي يُؤيِّد مذهبي، يا رجل اسكت، صل على النبي، يا رجل لا أنت عالم ولا علّامة ولا مُتخصِّص وتزعم فرحان جذلان أن القرآن يُؤيِّد مذهبك، يا رجل اسكت، كُن في حالك، هذا من المُمكِن أن يُقبَل من علّامة كبير قضى حياته – خمسن أوستين سنة – في العلم ويُناقِش علماء مثله، لكن أنت إنسان عادي تدرس الطب أو الهندسة أو أي شيئ فلا تتدخَّل في هذه الأشياء وتقول القرآن يُؤيِّدني، مَن أنت يا رجل؟ هذا عيب، نحن نضحك على أنفسنا ثم نتشانأ – كما قلنا – ونتباغض، إذن هذا الاختبار الإنساني صعبٌ جداً، نعود ونقول إذن النمط الأول من التدين هو النمط الساخط الرافض المُعتصِم بـ (لا) دائماً، أنا أقول لكم هؤلاء الأكثر شراسة والأكثر تطرفاً ضمن هذا النمط – كما قلنا – المُتمثِّلون في الملاحدة منهم – لا أُحِب أن أقول بعضهم أو كثير منهم، قد يكون العبض وليس الأكثر، وقد يكون الأكثر وليس الأقل، نحتاج إلى دراسات حتى نكون علميين – مَن هو في حقيقته مُلحِدٌ زائف، هذا إسمه المُلحِد الزائف False، لا هو مُلحِد ولا ما يحزنون، لماذا؟ كيف؟ هو مُلحِد يقول لك لا يُوجَد إله، لا أعترف لا بإله ولا بأديان ولا بأنبياء ولا بشرائع، هو مُلحِد زائف المسكين، لكن هو غير واعٍ بنفسه كما قلت، يبعثه موقف صبياني، تعتمل فيه قوى عنادية طفولية صبيانية لا يدري حقيقتها، لماذا؟ انتبهوا إلى أن في الحقيقة هذا المُلحِد زائف، وهنا قد يقول لي أحدكم كيف تحكم في الناس؟ كيف تعرف؟ سهل أن نعرف هذا طبعاً، والله إذا أنجز لنا دراسات وقدر على أن يخوض مُجادَلات ومُحاجات على مُستوى راقٍ جداً تُلحِقه بالمُفكِّرين والفلاسفة سوف نقول هذا مُلحِد صادق في إلحاده، مُلحِد غير مُمثِّل، مُلحِد حقيقي Real، لكنه يكون مُلحِداً زائفاً لأن ليس عنده أي شيئ، تفتح له خسمين صندوق فيقول له أنه أول مرة يُلقي النظرة فيها، تُشير إلى مائة طريق فيقول لك لم أسلكها ولو لمرة، فإذن كيف أصبحت مُلحِداً؟ كيف ألحدت؟ من أجل ماذا؟ ألحد وهو من العلم والمعرفة في حرف الألف، لم يقطع إلى الباء فضلاً عن الياء، ما زال في حرف الألف، هو من العلم والمعرفة والدين في الألف، لم يصل إلى الباء فضلاً عن الياء وقال أنا ألحدت، متى بحثت عن الله؟ هل بحث هذا المُلحِد حقاً وصدقاً وجَداً لا هزلاً عن الله؟ لا، إذن ما الذي حدث؟ لماذا يُلحِد؟ لماذا يستعين بالإلحاد؟ لابد أن نُترجِّم صرخته حين يصرح ويزعق (لا إله) بأنه يقول (أنا موجود)، هذا المسكين يبحث عن نفسه فقط، هو يُريد إثبات ذاته كأنه يقول أنا هنا، حين يقول لا إله هو يقول أنا هنا، طبعاً والمُجتمَع حين يستجيب له بطريقة مغلوطة يُساعِده على تحقيق مُبتغاه فيلج المسكين في عناده، يتيه ويتورَّط في الرمال المُتحرِّكة وفي المتاهة – Labyrinth – أكثر، لماذا؟ وما هى الاستجابة الخاطئة؟ الاستجابة الخاطئة أن تتعاطى معه كمُلحِد حقيقي وتبدأ في إطلاق الأحكام والتنديد والإنذار وطلب الرأس وطلب الدم والردة والقتل، وهو يفرح بهذا، كيف؟ كيف لا يكون له وجود؟ أنا أُلحِد فأنا موجود، كيف لا يكون له وجود وقد أثار كل تلك العجاجة حوله وكل ذلك العراك في مُعترَك الخلاف على آرائه ومواقفه وفلسفاته – ما شاء الله – العتيدة؟ كيف لا يكون موجوداً؟ كيف لا يكون موجوداً وقد تحدى المُجتمَع من عند آخره وقلقل هناءه وزلزل استقراره ورسوخه؟ لماذا؟ لأنه ضرب مُقدَّسه، ضرب الدين، وهذه المُجتمَعات مُتدينة، كيف لا يكون موجوداً؟ إذن نحن أعطينا هذا المسكين ما يُريده، هذا الملحد زائف فلا نغتر، لا ينبغي أن نحزن كثيراً، لذلك هذه المسائل لها جذور تربوية لها علاقة بالحرية، علينا أن نُكرِّم الإنسان ونُحرِّر الإنسان، إياكم أن تكبتوا الطفولة، إياكم أن تُذِلوا الإنسان، هذا الإنسان سواء كان تلميذاً لديك أو ابناً أو بنتاً أو مَوظَفاً أو أي شيئ، إياك أن تفعل هذا، لأنك تُوعِّر عليه الطريق – طريق الهداية وطريق الفضيلة – وتجعله في معركة مأساوية، يعيش المسكين دراما كُبرى، يعيش ويموت وهو يُريد فقط أن يُثبِت وجوده، كأنه يقول أنا موجود ولي اعتبار واحترام يا أخي، هل هذه معركتك؟ والمعركة أبسط من هذا كثيراً، لكن نحن ما لخَّصه الله وما أثبته محوناه وشطبناه، فجعلنا المعارك كلها خاسرة وهى معارك عبيطة وبلهاء أيضاً، وأختم هنا بتعليق وبكلمة أقولها، لا أستطيع أن أتفهَّم ولا أن أتقبَّل القيم والفضائل والمعاني النبيلة إلا حين تكون مُعمَّمة شاملة للكل، حين تكون لطائفة أو لقبيل من الناس أو لي وحدي أو لكَ وحدك أو لها أنا كافرٌ بها بكلمة، هل يُمكِن أن يكون للحرية معنى عند رجل يُحِب الحرية ويزعم أنه حر لكنه يعيش بين عُبدان؟ أبداً والله، حرية الحر بين عبيد – كما قال أفلاطون Plato – ليست حرية، هذه عبودية من نوع آخر، وحرية تستعبد الآخرين لا تفهم ما هى الحرية، لم تجد نفسها، الحرية لم تتعرف على ذاتها، لم تع ذاتها، لكن أكون حراً بين الأحرار، بين العبيد أنت لا تدري هل أنت حر أم عبد، لا تستطيع أن تعرف لأنهم عبيد، لكن بين أحرار رأسك برؤوسهم وقامتك بقاماتهم تقدر على أن تعرف حقيقة وجودك وثقلك، ائت بأحد يدّعي العلم وضعه بين جهلاء، هل يظهر أنه عالم؟ لا يُمكِن، وهو نفسه لا يُمكِن أن يختبر عالميته، لأنهم يُؤمِّنون برؤوسهم على أي شيئ يقوله مثل تنابلة السلطان عبد الحميد، فيُقال له (مضبوط، هذا والله صحيح، أنت عبقري، أينشتاين Einstein عصره، ما شاء الله، عظمة على عظمة، نور على نور، الله يُنوِّر)، ما هذا؟ لأنهم جهلاء، ما هذه المُصيبة؟ لكن حين تضع مُفكِّراً من المُفكِّرين أو عالماً بين علماء يُصبِح واثقاً من عالميته إن ثبتت وتبرهنت، افهم هذا جيداً، فحر بين عبيد ليس حراً، هو عبدُ أيضاً من العُبدان، إنسان كريم نبيل – Nobleman – يعيش كرم الإنسانية ونبل الأخلاق لكنه يعيش بين أوغاد – Bastards – هو وغد أيضاً، وهو يفرح بهذا، ويعمل على أن يُوسِّع دائرة الأوغاد، هو وغد من الأوغاد، لذلك لكي تعيش نبيلاً عليك أن تطلب النبالة للكل، أي لكل الناس، إياك أن تستوغد أحدهم، إياك أن تُهين كرامة أحدهم، إياك أن تفعل هذا وإلا كنت وغداً مثلهم، هذا هو الإنسان يا إخواني، وهنا تجد نفسك كإنسان حر ونبيل وكريم، لذلك كل المعاني الإنسانية الطيبة جوهرها الأخلاقي، نحن نُحِب الإنساني ونلتزم بالإنساني، جوهر الإنساني أخلاقي دائماً، مَن شاء أن يتقاطع معه من ديني ومن سياسي ومن كذا وكذا أهلاً وسهلاً، وهنا قد يقول لي أحدهم كيف أخَّرت الديني عن الأخلاقي؟ سنُجيب عن هذا، انتبهوا لأنهم يترصدون لكننا سنرى الجواب، لأن الدين لم يأت لكي يكون لملائكة السماء، الدين جاء للأرض، الدين من السماء لكنه لنا، لنا وليس علينا، إن لم يخدمنا ويُهنّئنا ويُسعِدنا ويُحرِّرنا لا حاجة لنا به، الآن هناك لمحة ويقظة إيجابية في مشوار الإنكار، أنا أتفاءل أحياناً بإنكار بعض الشباب والشبات لشيئ من الدين أو للدين حتى، لكن أي دين؟ دين الكراهية ودين الحقد ودين تحريم الطيبات ودين التعنت ودين الحزبية والعصبية ودين الانغلاق ودين المحدودية في الأفق ودين الصغار النفسي والفكري والعقلي والمعرفي، أقول الكفر بهذا الدين إنقاذٌ للدين، أي والله، الكفر بهذا الدين انقاذ للدين، جريمة ومُصيبة أن يُقال هذا الدين ونُصادِق على هذا، لأننا نلز الناس لزاً بعد ذلك أن يكفروا بهذا الدين، أليس كذلك؟ هو هذا، فهذا الإنكار بحد ذاته إيجابي، لأنه قد يقودنا إلى البحث عن الدين الحق، فإن لم يكن هذا الدين هذا الذي يستحق الكفر به إذن ما هو الدين الذي يستحق الإيمان به؟ابحث عنه، موجود بفضل الله عز وجل، دين الله تبارك وتعالى، دين لا يعيش عليك، أنت تعيش عليه، لا يقتات عليك، أنت تتغذى وتمتد وتنمو وتتبارك به، هذا هو الفرق، دين لا يحياك، أنت تحياه، وسوف نرى الفرق بينهما، أي بين دين يعيشك ودين تعيشه، بين دين يحياك ودين تحياه، بين دين يخدمك ودين أنت تخدمه، وسوف نرى أي دين هو في الأخير، سوف يكون واحداً من ثلاثة، إما أنه كهنوت أو سلطة أو مُجتمَع مجنون – وحش بألف رأس – فقط، هو هذا، لا يُوجَد دين مُجرَّد يتحرَّك وحده وكأن الآيات تتجسد في الأرض وتمشي، الدين في الأرض إما كهنوت – رجال دين ومُؤسَّسة علمائية وعلم ومشائخ – أو سُلطة تُوظِّف هذا الدين لمصالحها وتثبيت أقدامها واستذلال الناس باسمه وبفتاواه أو مُجتمَع لا يجد له هوية على المُستوى الروحي إلا في هذا الدين، لكن كما تصدِّره السُلطة والمُؤسَّسة الكهنوتية أو العلمائية، وهذه مُصيبة، والضحية في الأحوال الثلاثة الإنسان الإنسان ثم الإنسان، السُلطة تسطو بالإنسان، الكهنوت يستغل الإنسان ويمسخ إنسانية الإنسان، والمُجتمَع يسحق الإنسان سحقاً، أصعب من السُلطة وأصعب من الكهنوت هذا المُجتمَع، لماذا؟ الكهنوت يترصَّد لك في المسجد وفي المحكمة الدينية، السُلطة تترصد لك في السجن وفي الزنزانة في شكل شرطي أو ضابط استخبارات، لكن المُجتمَع في وجه كل أحد، حتى في بيتك، أينما تذهب هو موجود، هذا هو المُجتمَع، وهذه مُصيبة طبعاً، ثلاث مرات وبإسم الدين، لذلك أنا أقول لكم هذه المعاني أو هذه الفضائل أو هذه القيم لا نُؤمِن بها إلا فقط حيت تكون مُشرَّطة بالإنساني، حين تكون لصالح الإنسان دائماً وفي سياق إنساني، كثر أن نادى الناس بالحرية، لكن الحرية المُطلَقة وحدها كمعبود وكإله تستحيل في النهاية إلى خرافة وإلى وهم إن لم تستحل إلى شيطان وعفريت أو مارد عتي، لماذا؟ الصحراء فيها حرية، اذهب إلى الصحراء، فيها حرية عجيبة، وطبعاً كل كائنات الصحراء تعيش حرةً ضمن حدود السُنن، الغابة فيها حرية، عالم الوحوش فيه حرية، القوي يأكل الضعيف والضعيف يفعل ما يشاء، هذه حرية، لا تُوجَد قوانين حقيقية، لا يُوجَد نظم، لا تُوجَد مُؤسَّسات، لكن نحن لا نُريد حرية بهذا المعنى، قال أحدهم نُريد العيش، نُريد خبز وماء، لكن الحظائر فيها خبز وماء، حظائر الأفراس والحمير – أكرمكم الله – والخنازير فيها خبز وماء، وهذا مُتوفِّر باستمرار، وفيها ظل أيضاً وفَيْء وتكييف – Condition – على الأقل هنا في أوروبا، الحظائر – Scheunen – موجود فيها الخبز وماء، قال أحدهم نُريد المُساواة، لكن كل المُجتمَعات المقهورة تقريباً فيها مُساواة، كل المقهورين بينهم مُساواة في المقهورية، المقابر فيها مُساواة ، تُسوِّي بين الملوك وبين العُبدان، الكل يُعامَل كأنه واحد، المُساواة وحدها ليست هى النهاية، إذن ماذا تُريد؟ أنا أُريد حرية وأُريد خبز وماء وأُريد مُساواة لكن في سياق إنساني وبشرط إنساني، وأول هذا الشرط الإنساني أن تكون هذه للكل وليس للبعض، ليس للمُسلِم دون المسيحي، ليس للمسيحي دون المُسلِم، ليس للشيعي دون السُني، ليس للشرقي دوني الغربي، ينبغي أن تكون للكل، وهنا عظمة القرآن الكريم، قال الله وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ۩ وقال أيضاً يَا أَيُّهَا النَّاسُ ۩ فضلاً عن أنه قال يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ ۩، القرآن يُخاطِب الناس، يُخاطِب الإنسان، يتحدَّث عن تكريم الآدميين، أرغب في أن تفهم أمتي وأن يفهم إخواني وأحبابي وآبائي ما يقرأونه كل يوم عشرات المرات والواضح أن القليل منهم يفهمونه وهو أن الله ليس ربنا وحدنا، الله ليس رب المُسلِمين، ليس رب المُؤمِنين، إسمه رب العالمين لا إله إلا هو، ربوبية الله للعالمين، ربوبية للناس أجمعين، لأنه خلقهم وكرَّمهم ورزقهم وأعطاهم وابتلاهم، هو حر وهم أحرار، هو حر في أن جعلهم أحراراً، حسابهم ليس إلى محمد، فضلاً عن أن يكون إليك وإلىّ، ألم يقل الله هذا لمحمد؟ قال الله مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ ۩، قال له حسابهم ليس لك يا محمد، أنا المُحاسِب، أنا الحسيب والرقيب، فكيف يكون حسابهم للكهنوت أو للمرجع الشيعي أو للشيخ السُني أو للحاخام اليهودي أو لـ Pope الفاتيكان؟ حسابهم ليس لكم، حسابهم إلى الله تبارك وتعالى، وخاصة فيما يتعلَّق بالشأن الديني الروحي، كل إنسان حر أن يختار دينه واعتقاده ذهاباً ورجعة كما شاء فلا تتدخَّلوا، لأن الله عند حدود الباطن أزال الحدود، أنت لا تقدر على هذا، لا يُمكِن لأحد أن يصيد النية، أليس كذلك؟ لكن يُمكِن لأحد أن يصيد الرأس كالقنّاصين الآن هنا وهناك، يُمكِن أن تصيد الرأس مُباشَرةً أو القلب – الفؤاد – أو الكبد فتقتله في لحظة، لكن هل تقدر على أن تصيد نيته؟ لا، لماذا؟ لأن الله في الظاهر خلق لنا حدوداً، ومن هنا إمكانية أن نُصطَاد وأن ننزِف وأن نُنزَف ثم نموت، نحن عندنا حدود، هذا الجسم أو هذه القِربة البشرية – قِربة الجلد – عندها حدود، وفيها كمية دم محدود، لذلك حين ينزف الدم يموت الإنسان، لكن في الباطن ليس لنا أي حدود، عالم فسيح لا مُتناهٍ يحكي قبس الله تبارك وتعالى، قال الله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩، لا يُمكِن أن تقدر على أن تصيد نيتي، اذهب وائت بأعظم أجهزة الرصد والليزر Laser ولن تستطيع أن تصطاد النية، لأن براحها ومساحتها التي تسبح فيها وفضاءها لا مُتناهٍ بإذن الله تبارك وتعالى، أليس كذلك؟ لذلك لو عاش الإنسان ليس ألف سنة وإنما مليار سنة أو مائة مليار سنة هل يبقى يتعلَّم أو لا يتعلَّم؟ يبقى باستمرار يتعلم ويزداد ويُحِب أن يعرف ويبقى دائماً الإنسان الذي هو إنسان – الظمآن للمعرفة والظمآن للحقيقة والمُلتزِم بالبحث عن الحقيقة – يبحث ويبحث ويبحث، لماذا؟ لأن هذا العالم لا نهائي في الداخل، لا إله إلا الله، ومن هنا أنا أقول لكم في نهاية المطاف الإنسان حين يكون واعياً بذاته لا يُشبِعه ولا يُقنِعه ولا يُرضيه إلا أن يتصل حبله بالله لا إله إلا هو، لا يُمكِن – والله العظيم – أن تُشبِع هذه الجوعة في فضائك الوجداني الروحاني الداخلي كل سُلطات الدنيا، كُن ليس ملكاً على بلدتك الصغيرة وإنما على العالم ولن ينفع، لذلك القادة الكبار أحياناً حين كانوا يبلغون آخر مراحل فتوحاتهم كانوا يُحبَطون، يقولون ألا يُوجَد عالم آخر نفتحه؟ هل انتهى الأمر؟ انتهى، لكن هذا لا يكفي، نحن عندنا يكفي، لماذا؟ لأنه سلك الطريق الخاطيء، الذين يحتازون المليارات يحدث معهم هذا، وطبعاً هذه الأشياء تُصدِّع وأحياناً هذه الأشياء تُبلِّد، الإنسان لا يُحاوِل أن يُفكِّر فيها، يُقال فلان عنده عشرين مليار، فلا تُحاوِل أن تُفكِّر فيها من الأصل، ما معنى أنه يمتلك عشرين ملياراً؟ لا تُحاوِل أن تُفكِّكها إلى أرقام، عشرون ملياراً تُساوي عشرين ألف مليون، والمليون ألف ألف، والألف كذا وكذا، فالأحسن لك ألا تُفكِّكها، تبلَّد أمامها أحسن لك، هذه عشرون ملياراً، كرِّرها دون أن تُفكِّر، ويُقال هذا عنده سبعون ملياراً، ومع ذلك لا يكتفون، لا يكفي أن يمتلك سبعين ملياراً ومن ثم يُريد أكثر أيضاً، وهذا أمرٌ عجيب، لو أعطينا هذا الإنسان مفاتح كنوز الأرض لن يكتفي والله، هل تعرفون لماذا؟ التفسير السلبي له لأنه طمّاع وملعون وحقير ولا يشبع وإلى آخره، لكن التفسير الإيجابي لأن الله خلقه لا يُشبِعه إلا الله، قال الله وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ۩، ما لم يصل إلى الله لن يشبع لا من مال ولا من علم ولا من شهوات ولا من سُلطة ولا من سطوة ولا من أي شيئ، وسيبقى حائراً في الأخير ويسقط مُحطَّماً، سيقول لك قبض الريح، لم أفعل شيئاً، طبعاً لأنك لم تصل إلى الله، أما إن وصلت إليه فليت شعري ماذا فقد وماذا فاته مَن وصل إلى الله ومَن وجد الله؟ لم يفته شيئاً والله العظيم، لكن ينبغي أن تصل إلى الله حقاً، لنا تكملة – إن شاء الله – في الخُطبة الثانية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
إخواني وأخواتي:
هذا هو الموقف الأكثر تطرفاً والأسوأ – كما قلنا – بين الموقفين المُتطرِّفين، الموقف الآخر هو موقف المُسلِم الخاضع السالب أو السلبي، وباختصار لأن الوقت للأسف تضيّق مَن هو هذا المُسلِم الخاضع؟ هذا المُسلِم لا يخضع لله ولا لشرع الله كما يُوهَم وكما يظن في نفسه وعند نفسه، هو يخضع لشرع المُجتمَع، هو يخضع لدين المُجتمَع، وكما قلنا في خُطبة سابقة ربما قبل أسبوعين الإسلام هو دين المُجتمَع، والإيمان مشفوعاً بالإسلام هو دين الفرد، كل مُجتمَع له دين، ومُجتمَعاتنا الإسلامية ليست استثناءً، فهى لها دين، دينها ما هو؟ الإسلام، الإسلام كإسلام ذو طابع مجموعي وذو طابع جمعي، كيف نُعرِّف هذا المُجتمَع؟ بأنه المُجتمَع المسلم، كيف نعرف أنها مُسلِمة أو أنه مُسلِم؟ واضح من زيها أنها مُسلِمة، واضح من سلوكه ربما وارتياده المساجد أنه مُسلِم، إذا كان عنده لحية ويحمل سبحة ويُسبِّح أو يحمل مُصحَفاً أو يحمل سواكاً عرفنا أنه مُسلِم، هذا هو الإسلام، الإسلام مُجرَّد دين المُجتمَع، ولذلك قلنا في خُطبة سابقة هذا الإسلام مُجرَّداً وحده عاجز وغير قادر أن يُنتِج الأخلاق، هذا غير مطلوب منه وهو غير مُؤهَّل لهذا، لذلك هذا الإسلام يُجامِع النفاق،عادي جداً أن تكون مُسلِماً في الظاهر في حين أنك مُنافِق كبير، مثلما كان بعض المُنافقين أيام الرسول، هذا عادي جداً، يُصلي معك ويصوم ويكتب تقارير للعدو الداخلي والخارجي، هذا بالنسبة له عادي، يُصلي وبحكم تقريره تُضرَب البناية بصاروخ فيأتي على مَن فيها من كبار وصغار، وكان يُصلي معك ويأكل معك ويبكي معك في الصلاة، هذا أمرٌ عجيب، لكن قد يقول لي أحدكم هذا أمرٌ عادي، الإسلام غير مطلوب منه أكثر من هذا، الإسلام هو هذه الظواهر، الإسلام ميراث، الإيمان تجربة، احفظوا هذا جيداً، الإسلام ميراث، الإيمان تجربة، وهنا قد يقول لي أحدكم كيف؟ لا أنا ولا أي أحد فيكم اختار إسلامه، كلنا ورثنا إسلامنا على ما وجدنا عليه آباءنا وإمهاتنا، نحن وجدناهم مُسلِمين وسُنة أيضاً فصرنا مُسلِمين وسُنة، هم كانوا حنابلة فصرنا حنابلة، أو كانوا مُسلِمين وشيعة فصرنا مُسلِمين وشيعة، وكذلك لو كانوا زيدية أو اثنا عشرية وإلى آخره، هذا ميراث، فلا يُوجَد فرق، ولذلك أنت من حيث أنت ومن حيث كونك مسلماً سُنياً حنبلياً أو شافعياً أو مالكياً أو حنفياً ليس لك أي فضل على أخيك المُسلِم الإباضي أو المسلم الزيدي أو المسلم الشيعي، هذا المسكين ورث مثلما أنت ورثت، بالله عليك لا أُريد أن يتبجَّح أحدكم على الآخر أو يشمت في الآخر، لا فضل لك عليه ولا فضل له عليك، التفاضل : في قضايا الإيمان والأخلاق بعد ذلك، أنسنة الإنسان هنا مع الإيمان وليس مع الإسلام وحده، الإسلام وحده بلا إيمان – كما قلت لكم – هو ميراث المُجتمَع ومُلصَق المُجتمَع، هذا مُلصَق – Label – موضوع على كل أحد فينا، يُوضَع على جبينه أو على على ملابسه وعلى حجابها أو على دشداشته، هذا إسلام فقط وليس أكثر من هذا، وقلت لكم في الخُطبة تلك لم يُخاطِبنا الله ولو لمرة واحدة في القرآن قائلاً يا أيها الذين أسلموا أو يا أيها المسلمون افعلوا كذا وكذا، دائماً يُخاطِب المُؤمِنين، حين يُريد الله استثارة الأخلاقي فينا وتنمية الإنساني وتثمير ومُبارَكة الإنساني يتوجَّه إلى مَن؟ هل يتوجَّه إلى الإسلام أم إلى الإيمان؟ إلى الإيمان، والإيمان بطبيعته الرئيسة الأساسية ذو طابع فردي، الإيمان لا يكون موروثاً، وإلا يا ليت – والله – كان كذلك، لو كان الإيمان موروثاً لخرج أولاد أكبر عالم في الدين والعرفان الإلهي كنُسخ منه – ما شاء الله – ويستمر العرفان وما إلى ذلك، أليس كذلك؟ هذا لا يحدث أبداً، قال الله يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ۩، الله أخرج من أبي جهل عكرمة بن أبي جهل، وأخرج من جعفر الصادق ابنه إسماعيل ، أليس كذلك؟ عادي أن يخرج هذا من هذا، وأخرج من نوح ابنه الكافر، أليس كذلك؟ الإيمان ليس ذا طابع جامعي أو مجموعي، الإيمان ليس ميراثياً، وهنا ستقول لي هذه مُصيبة، إذن ماذا هو؟ تجريبي، تجربة ذاتية، إذا لم تخضه لن تجده يا مسكين، إذا كنت تظن أنك ترث الإيمان مثلما ترث الإسلام فأنت واهم، ومن ثم تكون ضيَّعت على نفسك فرصة تكامل الروح وفرصة الوصول إلى الله، أنت ضعت يا مسكين، وأكثرنا ضائع، أنا أقول لكم للأسف – هذه ليست بُشرى وإنما مأساة – أكثرنا ضائع، لأننا ظننا أننا نرث الإيمان كما ورثنا الإسلام، آيات تُتلى وتُلقَّن وتُحفَّظ وتُكرَّر كأننا أصبحنا مسجالاً – جهاز تسجيل Cassette Recorder – فقط، لكن ليس هذا هو الإيمان أبداً، الإيمان هو التجربة الحية النابضة التي تعيشها، الإسلام يعكس ماذا؟ يعكس دين المُجتمَع، الذين آمنوا فقط بالإسلام ووقف إيمانهم عند حدود إيمانهم بالإسلام هم ما آمنوا إلا بالمُجتمَع، أنا أقول لكم أمنوا بإملاءات المُجتمَع وبهوية المُجتمَع، وهم أشخاص إمتثاليون وتماثيليون فقط وليس أكثر من هذا، لذلك لا فرادة بينهم ولا إبداع ولا وعي، الإنسان أُعرِّفه بأنه الكائن الفاعل، قال الله فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ۩، الإنسان الكائن الفاعل، والمقصود حقيقة الفعل وليس الإستجابة الميكانيكة، اضرب أحداً بشيئ على رجله وسوف يُحرِّكها، هذه استجابة ميكانيكة يستطيعها كل حيوان، كل دودة صغيرة حتى عندها استجابات ميكانيكية،اعمل لها إثارة وسوف تُستثار، لكننا نُريد الفعل، الفعل وهو خصيصة إنسانية يحكي الإرادة الواعية، مُركَّب من شيئين، من إرادة ومن وعي سابق على الإرادة، هذا هو الإنسان، الإنسان ثلاثة أشياء(وعي ثم إرادة ثم فعل)، هذا لا يُمكِن أن يأتي بالميراث، لا يأتي بالحفظ، لا يأتي بالتلقين، وإنما يأتي بالبناء، ابن إيمانك، لذلك إذا كان الإسلام نُسخة معيارية – وهو كذلك – ونسخة قياسية فإن الإيمان لا يكون كذلك، الإسلام نُسخة قياسية تُوزَّع على المُجتمَع – كما قلنا – لدى الميلاد، مع شهادة الميلاد يسألون ما الديانة؟ مُسلِم، هو مسكين لم يختر شيئاً، من أول يوم اختاروا له، ما إسمه؟ عبد الله، أمه فوزية وأبوه ريحان ودينه الإسلام وانتهى الأمر، يبقى مُسلِماً إلا أن يشاء الله ربي شيئاً، هذه نُسخة معيارية، وهذا أمر معروف، هذا إسلام شيعي فوزِّع عليه الإسلام الشيعي وذاك إسلام سُني فوزِّع عليه الإسلام السُني وهكذا، لكن الإيمان شيئ مُختلِف تماماً، الإيمان لا يُوزَّع وليس نُسخة معيارية وإنما نُسخ بعدد أفراد المُؤمِنين، كل مُؤمِن عنده نسخته الذاتية الخاصة من تجربة الإيمان الحي النابض، الإيمان بالإسلام – الإيمان الأول – يحكي ماذا؟ يحكي إيماناً تصورياً لعالم جواني وعالم خارجي موضوعي جامد ساكن ناجز موجود دائماً، كل ساكن وجامد مُرشَّح باستمرار للتعفن والتحلل، لذلك الشخصية التي آمنت على هذا النحو وعاشت الإيمان على هذا النحو ماذا يحدث لها بعد عشر سنين أو بعد عشرين أو ثلاثين سنة؟ والله تتحلَّل وأُقسِم بالله على هذا، ترون شيخاً كبيراً ومُؤلِّفاً للكتب مُتحلِّلاً والله، شخصية مُتحلِّلة ومُتعفِّنة، أفكاره ومسلكه وما يدّعيه من تقوى ومن إخلاص ومن كذا واضح أنها أمور مُختلِفة تماماً، يُوجَد تحلل عند هذا المسكين، الخطاب والقدرة والإبداع الذي عنده والروح التي يتكلَّم بها أشياء تدل على هذا، هو مُتحلِّل، جثة مُتفسِّخة، بخلاف الإيمان الثاني ذي الطابع الفردي الإفرادي الإبداعي والإنساني، هذا يحكي ماذا؟ يحكي ويشي بعالم جواني وعالم خارجي – عالم الوجود كله الذي خلقه الله وأبدعه لا إله إلا هو -يزداد باستمرار ويتحرَّك وفي طور التكون وفي طور التكامل، قال تعالى بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ۩ وقال تعالى يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۩، كما أتطوَّر أنا كروحية وكوجدان وكعقل وكإنسان يتطوَّر هذا العالم ويتطوَّر كل شيئ، وأنا أعيش هذا، وعبر تجربتي تتطوَّر نُسختي من الإيمان، تتطوَّر صورة الله في ذهني، أليس كذلك؟ هناك أُناس يبدأ عندهم الإيمان بتصور طفولي لله، وقد حدَّثتكم ذات مرة عن الذي يدعو الله على شخص كان موضوعاً لظلمه، أنت ظلمت شخصاً وتقول اللهم خذه أخذ عزيز مُقتدِّر، يا الله اللهم افعل كذا وكذا، يا إخواني انظروا إلى هذا الظالم، أنت هنا – والعياذ بالله – لا تدعو الله الذي تعرَّف إلينا في كتابه، وإنما تدعو إلهاً خلقته من أوهامك ومن سخافاتك ومن حقدك ومن كراهيتك ومن قصورك ومن فشلك الروحاني، ليس الله الذي يُمكِن أن يُتوجَّه إليه بأن ينصر ظالماً على مظلوم، يا رجل اتق الله، أليس كذلك؟ اليوم بإسم السياسة وبإسم الطائفية – وأنتم ترون ما الذي يحدث في بلادنا – يُبرَّر قتل الأطفال وقذف المُجمَّعات سكنية وذبح الناس بالجُملة وبالتفصيل، فقط لأنهم من المُعسكَر الثاني ولأنهم بدأوا بطريقة غالطة، يا أخي هل هؤلاء مَن بدأوا؟ هل هؤلاء الأطفال المساكين فعلوا شيئاً؟ وفي المُقابِل يحدث نفس الشيئ، يتم ذبح الأسرى وقتل الناس بالجُملة أيضاً، هذا أسير لا يُقتَل، حتى لو كان من جيش الشيطان هو أسير، والله قال لك بما أنه أسير وليس مُجرِم حرب وإنما مُجرَّد جندي فإنه لا يُقتَل، الجندي لا يُقتَل، تأسره وتُفاوِض به، لكن هذا لا يحدث، في خمس ثوانٍ يقتل عشرين واحد ثم يقول الله أكبر ولله الحمد، أنا أتساءل وأنا مستغرب – طبعاً أنا أستنكر في الجانبين بنفس القدر، لأني مع الإنساني – كما قلت لكم – وهذه مُشكِلتي، أنا مع الإنساني – ما الفرق بين مَن يسفك الدم الحرام – دم الأطفال البرءاء، هؤلاء عنوان البراءة يا أخي – بالصواريخ وبين مَن يقتل أيضاً الأسرى وغير الأسرى ويُكبِّر وتُتلى آيات الله في مقاطع اليوتيوب YouTube بصوت الشيخ الغامدي – هذا الصوت الجميل – وغيره حتى بدأنا نكره هذا الشيئ؟ لماذا كرَّهتم الناس في كتاب الله؟ ما الفرق بين هؤلاء وبين الذين يُنفِّقون بضائعهم الجنسية؟ ابحث في النايل سات Nilesat فأُصعَق ولا أكاد أُصدِّق، أقسم بالله يقف شعر بدني، أسمع مرة الشيخ المنشاوي ومرة الشيخ البنا ومرة الشيخ سعد الغامدي ومرة الشيخ السديس ومرة فلان وعلان – بارك الله في الجميع – يتلون القرآن ويُوجَد مُنتَج جنسي لتكبير الأعضاء الكذا، يا أخي تباً لكم، تباً لكم، كيف سمحتم بهذا؟ كيف تسمحون؟ هذا قادني إلى تساؤل مرير وأليم، هل هناك من فارق بين من يقتل والقرآن يُتلى وبين مَن يُنفِّق السلع الجنسية لتكبير الصدور وتكبير الأعضاء والقرآن يُتلى؟ أنا أقول لك لا فرق، وهناك جامع مُشترَك، هل تعرف ما هو؟ المُراهَنة على خوائية الفهم الديني، فهمنا للدين خوائي وهوائي، الدين أصبح عند العموم وعند الجماهير مُجرَّد عنوان، عنوان إسمه الإسلام وإسمه القرآن وإسمه الحديث وإسمه الفتوى، مُجرَّد عنوان، وهذا العنوان صالح أن يُلصَق على كل شيئ، كما تُنفَّق به السلع الجنسية – أي بهذا العنوان – يُذبَح به عباد الله أيضاً، ذات مرة من المرات يكتب سارتر Sartre قائلاً بالأحجار ذاتها يُمكِن أن تبني للحريةِ معبداً، لكن بالأحجار ذاتها يُمكِن أن تبني لها قبراً، وأنا أقول لك بالآيات ذاتها يُمكِن أن تُخرِج الرومي وتُنتِج الرومي، وبالآيات والنصوص ذاتها يُمكِن أن تُعيد إنتاج اليزيد، أي يزيد بن معاوية، بنفس الآيات وتُمجِّدها أيضاً، بالآيات يُمكِن أن تُخرِج الإنسان، بالآيات يُمكِن أن تُحضِّر العفريت، مندل الآيات، هؤلاء أذكياء جداً، أصحاب السلع الجنسية – لا كثَّر الله في الأمم من أمثالهم وشفاهم الله من أمراضهم ولوثاتهم وعبادتهم للمال وللدينار – كيف يفعلون هذا؟ كيف يهون على مسلم أن تُتلى آيات الله بالأصوات الطيبة ، والمشاهد الجنسية تدور؟ أعضاء جنسية مُذكَّرة ومُؤنَّثة للتكبير والتصغير، شيئ لا يكاد يُصدَّق يا أخي، ما هى الحالة التي وصلنا إليها؟ لكن هذا أقل فداحة من الذبح باسم الله والآيات تُتلى بمرات، لا شيئ يعدل الدم، لا شيئ يعدل كرامة الإنسان وحياة الإنسان،
نعود إذن مرة أُخرى، هذه هى نُسخة الإيمان، لابد أن تمر بهذه التجربة وأن يكون لك فرادتك ونُسختك الخاصة، هذا الإيمان الحي النابض المُستمِر قيد الإنجاز وقيد التطوير والتنمية المآل والمصير الروحي – الطب الروحي – له في النهاية ما هو؟ ماذا سوف يُصبِح؟ سوف يُصبِح إنساناً يزداد نضجاً ويزداد جمالاً في فهمه وفي منطقه وفي نفسه وفي روحه وفي مسالكه، إن وجدت مُتديناً يزداد وحين يزداد لا يزداد إلا جمالاً وإلا تقىً وإلا عظمة وإلا إنسانية اعلم أنه المُؤمِن، هذا المُؤمِن، وهذا المُؤمِنمُؤمِن بدين الله وليس بالمُجتمَع، وأما ذاك المُؤمِن بالإسلام فهو آمن بدين المُجتمَع، للعبرة دين المُجتمَع الذي هو دين السُلطة ودين الكهنوت ودين المُجتمَع هو دين يعتاش عليك، أي والله، طبعاً يعتاش عليك ويتغذى عليك، في النهاية نجد ركاماً من عظام تلوح وجلد حائل اللون, لا عصب ولا حياة ولا نبض، نجد عظاماً تُذكِّر بالأموات والمقابر والفناء، هذا أنت، هذا منتوج ديني بعد أربعين سنة من الدين، إنسان لم يترك شيئاً إلا عمله بإسم الدين وهو مرتاح الضمير، هو لا يعرف الندم، أنا لأول مرة ربما أفهم بالضبط لماذا الندم توبة، هل تعرفون لماذا؟ لأن الذي يجد لذة عن الندم ويكتوي بجحيم الندامة هو ما يصح أن يُسمى روحاً، هذه هى الروح، هذا الإنسان لا زالت فيه الروح، أنت ندمت وعندك ندم حقيقي فإذن عندك الروح، الروح لم تمت ولم تنطفئ جذوتها، أما الذي يفعل ويفعل ويفعل الأفاعيل ثم دائماً يُبارِك أفاعيله ويرى أنها جوهر الدين وقُربة لرب العالمين فأنا أقول لكم هذا المسكين من زمان بعيد فقد روحه واستعاض منها بصخرة بل هى أشد قسوة، قال تعالى أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ ۩، أليس كذلك؟ فقد روحه واستعاض منها بصخرة أو بشظفة من حديدٍ صُلب يزعم أنها قلب عرف الله، لا والله ما عرف الله، ولا تلقَّى وحي الله، ولا يعرف شيئاً عن طريق الله، هذا المسكين حين يندم – اللهم اجعلنا من النادمين على خطايانا – يختلف الأمر، فإذن هذا الدين يعتاش عليك، مرة لصالح الكهنوت ومرة لصالح السُلطان ومرة لصالح المُجتمَع المُتوحِّش الذي بألف رأس أو الذي عنده رؤوس بعدد رؤوس المُجتمَع، أحياناً المُجتمَع يكون عنده تسعين مليون رأس، تنين – Dragon – بتسعين مليون رأس، مُجتمَع كامل فانتبه، هذا الدين يعتاش عيك ويتركك ركاماً، وأما دين الإيمان فهو دين الله، ليس دين المُجتمَع، كما قال الأول:
مالي وَلَلناسِ كَم يَلحونَني سَفَهاً ديني لِنَفسي وَدينُ الناسِ لِلناسِ.
دين الناس هو الإسلام، ديني أنا هو دين الله، أي الإيمان مشفوعاً طبعاً بالإسلام، لا يُوجَد إيمان بلا إسلام كما قلنا، هذا هو ديني، هذا الدين يُنمِّيك ويُكثِّرك ويُبارِكك ويُهنّئك ويُسعِدك – بإذن الله تبارك وتعالى – ويُزيدك بصراً واستبصاراً باستمرار إن عرفته، أسعد ما يُمكِن أن تبلغه، مثل هذا الدين – دين الله تبارك وتعالى – الضيّق منه والقليل والوجيز منه يتسع لتلبية كل أشواقك، فكيف بالوسيع منه؟ هذا الدين يوم تعرف منه القليل القليل يُلبّي كل أشواقك بإذن الله تعالى، فكيف لو عرفت الكثير الكثير؟ كيف لو عرفته معرفة الخبرة والعيش؟ سأختم بالآيات التي بدأت بها الخُطبة لكن على جهة الاستعجال، قال الله وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۩، مَن هم المُتقون بتعريف كتاب الله؟ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩، باختصار هذه الآية والتي والتها خُطة إلهية خماسية لأنسنتنا، لإخراجنا ولإصعادنا – للصعود بنا – من جحر الشيطان ووهدة الحيوان إلى يفاع الإنسان ومُتاخَمة حدود الملائكية – بإذن الله تعالى – ولعلنا نكون أكرم، لأن الاختبار أصعب والتحدي أخطر، كيف هى خُطة خماسية؟ أولاً أن تخرج من حدود عبادة الذات، مُعظم مشاكلنا هى أننا مُلتصِقون بشكل زائد عن اللازم بذواتنا الفردية والجمعية، وإذا التصقت بذاتك بشكل زائد عن اللازم من المُمكِن أن تختبئ وراء إصبعك، والله لن تعد ترى أحداً لأنك تختبئ وراء كف اليد، هل غاب عنك المسجد؟ نعم غاب، هل غاب المسجد؟ المسجد ما غاب، وراء الكف يغيب العالم في نظرك، في الحقيقة أنت الغائب، والعالم شاهد على شخص مُتعصِّب ينتحر بالالتصاق الزائد عن اللازم بذاته الفردية أو المجموعية، بذاته المذهبية أو الطائفية أو العرقية أو الجنسية أو اللغوية وإلى آخره، إياك أن تفعل هذا، كُن إنساناً،الله جعل لنا عينين ثنتين لنرى ما أمامنا في أفق أوسع، مُشكِلة الإنسان هو أنه يدور حول ذاته الأنانية، هذه عبادة الذات، الله يقول لك لا مجال أن تكون من المُتقين في ظل عبادة الذات، وما هى التقوى؟ التقوى رُتبة رفيعة مُتقدِّمة من رُتب الإيمان، حين تدخل الإيمان فإن الإيمان يُسلِم إلى التقوى، لابد من هذا، هذا هو الإيمان، الإيمان يُنتِج الأخلاقي – كما قلنا – ويتقاطع باستمرار مع الأخلاقي، يلتقي به ويتجادل معه، كيف؟ ما البداية؟ انتبهوا فهذا أخطر شيئ، وهذا الكلام أُوجِّهه للذين لا يُخرِجون حتى زكوات أموالهم، يصلون ويحجون ويعتمرون فقط، لكن ماذا عن زكاة المال؟ زكاة المال أمر هيّن عندهم، يقول الواحد منهم أنا أتصدَّق أحياناً وأُعطي كذا ودفعت للمُستشفى كذا وأركبت فلاناً مع في السيارة وإلى آخره، يا رجل هل تُشرِّع لنفسك ؟ الزكاة حقٌ معلوم، وأقل شيئ هذا المطلوب، هذا أقل شيئ – إياك – لأن المطلوب منك أكثر، هذا الـ Minimum أنت لا تُخرِجه، ولذا قال الله لا تحلم أن تكون من عباد الله المُتقين أصلاً، قال الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ۩، هذا موضوع بعد الزكاة، أليس كذلك؟ لأن الله يقول فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ۩، ما المقصود بقول الله وَالضَّرَّاءِ ۩؟ الفقر، فقير وليس عندي أي شيئ لكن سأُنفِق وسأُعطي أيضاً، هذه اللقمة سأقسمها بيني وبين جاري، وهذه المقسومة سأُقسمها أيضاً.
أُقَسِّمُ جِسْمِي فِي جُسُومٍ كَثِيرَةٍ وَأَحْسُو قِرَاحَ الْمَاءِ وَالَمَاءُ بَارِدُ.
سأفعل هذا ولن يكون امرؤ القيس الجاهلي أكرم مني وأنا المُسلِم المحمدي، هذه أول مرتبة، قال الله الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ۩، وماذا بعد؟ بدأت تتجاوز وتقتحم العقبة، عقبة ماذا؟ عقبة الذات، عبادة الذات، تأله الذات، ضعف الذات، هذا أضعف شيئ، أضعف إنسان هو الإنسان النرجسي، أضعف إنسان الإنسان الذي يعبد نفسه، الذي لا يعرف إلا نفسه، هذا أضعف إنسان، وأنا أقول لك هو أتعس إنسان، أقسم بالله عليها، هو أتعس إنسان، والله العظيم السعادة لا تُعرَف إلا بالآخرين ومع الآخرين وبإسعاد الآخرين، لكن أن تُحاوِل إسعاد نفسك فقط ستكون الأتعس بين عباد الله وهتخسر أيضاً، أنت الخسران فانتبه، الله يُريد أن يُساعِدك وأن يُهنّئك، الله يُريد أن يُساعِدك ويُسعِدك، قال الله الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ۩، لا تستطيع أن تكظم غيظك ما لم تتغلب على ضعفك البشري في المرحلة الأولى، هنا تبدأ تستطيع أن تكظم، لكن انتبه، هل الكظم يُسمِّم أم يُطهِّر؟ والله يُسمِّم، طبعاً يُسمِّم لأنك تكظم واسأل فرويد Freud وغير فرويد Freud، هو مُتعِب جداً، يتعب الأعصاب، ولذا وليام جيمس William James قال الله قد يغفر لك لكن أعصابك لا تفعل هذا دائماً، هذا يُتعِبك ويُسمِّمك، وفعلاً هذه سموم حقيقية في الطب، ومن ثم أنت تتسمَّم بسبب كبت الغضب وكبت الحقد والرغبة في الانتقام، أنت الآن ضغطت على غرائزك، وتر الغرائز أنت ضغطت عليه، ولذا هذا صعب، فرن يغلي في الداخل، لكن الله قال لك هذه المرحلة ظرفية فانتبه وإياك أن تقف عندها، لكي تكون من المُتقين انظر إلى أن الله بعدها عطف صفات على صفات وقد يكون عطف فريق على فريق، لكن هذا عطف صفات على صفات قطعاً في النحو، قال الله وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ۩، وبعد ذلك قال لك لكي تتحرر من سموم هذا الكظم ماذا تفعل؟ قال الله وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۩، لا تقل لأحدهم أنا أنظر إليك على أنك موضوع القصاص، ليأخذ القانون مجراه، لتأخذ العدالة مجراها، ليس لي علاقة لأنك أخطأت والعدالة ستأخذ مجراها، يا رجل ستتسمَّم، ستُقَص رأسه لكنك ستتسمَّم، سيقضي عشرين سنة في السجن لكنك ستتسمَّم والله العظيم، لن تتطهَّر، هذا هو الدين، هذا دين الإنسان، انتبهوا إلى هذا، يُقال الحقوق والحدود والقصاص، لكن هذا كمُستوى أدنى ليس للمُتقين، المُتقين أرفع من هذا المُستوى القانوني، هذا هو ديننا، لكن نحن تفكيرنا كله تفكير فقهي وقانوني وليس تفكيراً أخلاقياً، والأخلاقي هو جوهر الديني وليس القانوني كما قلت أكثر من مرة، على كل حال قال لك الآن ارتفع وحرِّر نفسك من سطوة الغرائز ومن تسميم كبت الغرائز بالعفو، قل له كنت أراك موضوعاً للانتقام وموضوعاً للثأر بإسم القانون والدين، والآن أراك أخي في الحياة، أنت أخي، مُجرَّد أخي، وهيا نُكمِل طريقنا على الله تبارك وتعالى، أنت الآن فيك شيئ غير طبيعي، أنت الآن حر، أنت الإنسان الحر، أنت الإنسان السعيد القوي المُبدِع، أنت يُمكِن لك أن تُبدِع في كل شيئ فعلاً ونظراً، ولا تزال هناك مرحلة أعظم من هذا، ما هى؟ قال الله وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩، هذا الذي آذاني وبصق في وجهي فقير وأنا سأُعطيه من مالي، هو جاهل وأنا سأُتيح له فرصة أن يتعلم، هو مُنحرِّف وسأُهيئ له الظروف لكي يستقيم على الجادة، يا سلام، هنا قال لك وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩، وهذه ليست محبة الشيخ أو محبة النبي وإنما محبة الله لا إله إلا هو، الله قال لك أنا أُحِبك، ثم ماذا بعد؟ ما هى البُشرى الأخيرة؟ قال وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا ۩، هنا يُوجَد احتمال أن يكون عطف فرقة على فرقة ويُمكِن أن يكون عطف صفة على صفة في النحو، لماذا؟ عطف فرقة على فرقة لكنها لا تخرج عن جُملة المُتقين، أما المُتقون في الآية السابقة فهم الكُمّل – المُتقون الكُمّل – الذين عُنوا بتكميل أنفسهم، وأما المُتقون هنا هم الذين يُعنون برمِ – أي ترميم – نقائصهم، وهذا لا يُخرِجهم أيضاً عن حقيقة كونهم من المُتقين، اللهم اجعلنا منهم، قال وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ۩، ويُمكِن أن تكون عطف صفات على صفات ففيها تفصيل لأحوال المُتقين، من المُمكِن أن حالة ارتكاب الفاحشة تعتري المُتقين لكن الله يُبشِّرنا ويقول هذا المُتقي الذي عمل واحد واثنين وثلاثة وأربعة إذا ارتكب فاحشة -لأنه ليس معصوماً وليس ملكاً، فمن المُمكِن أن يرتكب في حياته فاحشة في مرة أو مرتين على الأكثر والله أعلم – ينبغي أن يُسرِع ويتوب من قريب – يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ ۩ – ويثوب إلى الندم وإلى ترميم أخطائه بسرعة ولا يُصِر، لماذا؟ لأن هذا العبد سائر في طريق الله، ذاق حلاوة الاتصال بالله عز وجل، لا يستطيع أن يُبالِغ وأن يُمعِن في هذا الطريق، هى خُطوة على الشمال ثم يعود إلى الصراط، اللهم اجعلنا منهم.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، وتابع بيننا وبينهم بالخيرات، اللهم جنِّب المُسلِمين الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك وقوتك ولطفك الخفي يا عزيز، يا لطيف، يا خبير، يا رب العالمين، اللهم أصلِح ذوات بينهم، اللهم اجمع صفوفهم، اللهم لم شعثهم، اللهم وحِّدهم على ما يُرضيك من أمر دنياهم وفي أمر أُخراهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (21/6/2013)
أضف تعليق