إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ۩ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ۩ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ۩ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ۩ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ۩ كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ ۩ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ۩ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۩ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ۩ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ۩ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ۩ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ۩ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ۩ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني في الله وأحبتي وأخواتي:
الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – أتى بثوراتٍ كثيرة غيَّرت وجه الحياة ومسار التاريخ، وكان في رأس هذه الثورات بعد ثورة العقائد والتوحيد ثورة الأخلاق والمُثُل والسلوك، حتى قال المُفكِّر الألماني الكبير والأديب والشاعر والعالم أيضاً جوته Goethe بحثت عن المثل الأعلى للإنسانية فلم أجده إلا في شخص النبي العربي محمد بن عبد الله، كما نقلت المرحومة هونكه Hunke عن جوته Goethe، المثل الأعلى للإنسان وللإنسانية ليس إلا النبي العظيم عليه الصلاة وأفضل السلام، ليس عيسى عليه السلام، ليس موسى، ليس بوذا Buddha، ليس كونفوشيوس Confucius، ليس أرسطو Aristotle، ليس أفلاطون Plato، ليس أحداً من أولئكم، إنه محمد عليه الصلاة وأفضل السلام، فحقيقٌ بأمة محمد وحقيقٌ بأتباع محمد وحقيقٌ بشبابنا وشوابنا أن يُغلغِلوا النظر وأن يُطيلوا الفِكَر في معنى أخلاقه ومثاليته – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن أرادوا أن يبلغوا درجة الكمال، مَن أراد لنفسه أن يكون إنساناً كاملاً فمثاله الأعلى والأول محمد عليه الصلاة وأفضل السلام، إذن لا جرم أن نعته مولاه ومُكمِّله ومؤدِّبه بقوله وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ۩، وتعلمون أن هنا يُوجَد قسم، قال الله وَإِنَّكَ لَعَلَى ۩، كان يُمكِن أن يقول وإنك لذو خلقٍ عظيم، قال الله وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ۩، قال يُمكِن إنك صاحب خلق، لماذا؟ هكذا يُعبَّر عموماً، يُقال فلان ذو خلق كريم أو ذو خلق عظيم وأدب جسيم، لكنه لم يقل وإنك لذو خلق، وإنما قال وَإِنَّكَ لَعَلَى ۩، مُؤثِراً – سبحانه وتعالى – وجل مجده استعمال حرف الاستعلاء (على)، مثل يقف الإمام على المنبر، فحرف (على) للاستعلاء، وواضح هنا أن الاستعلاء هنا مجازي، يقول وَإِنَّكَ لَعَلَى ۩، إذن هو – عليه الصلاة وأفضل السلام – بلغ ذروة الأخلاق بل وجاوزها وعلا عليها، أوفى على الغاية، ما من تعبير يبلغ مبلغ هذا التعبيرِ في الدلالة على قوة التمكن من الأخلاق، وإذا عرَّفوا الخُلُق يا أحبتي في الله وأخواتي قالوا هو كيفيةٌ في النفسِ رساخة، سجيةٌ مُتمكِّنة، ومنه الجبلي الخلقي، ومنه المُكتسَب بالمرانِ والتقلد له، أي طبعٌ وتطبعٌ، هذا هو الخُلُق، وهذه نفس الأحرف الثلاثة التي نجدها في كلمة الخَلق، فالخُلُق الحقيقي كالخِلقَة، ليس الخُلُق الذي يكون بتكلف وادّعاء وتعمُّل لمصلحة من المصالح، يتخلَّق بخُلُق ليس له، هذا خُلُق، الله يقول وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ۩، وفي المهيع ذاته ورد قوله – تبارك وتعالى – إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ۩ وقال أيضاً إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ۩ وهذا مُهِم حتى نفهم القرآن، ليس مُجرَّد مُهتدٍ أو رجل مُتحقِّق بالحق، هو على حق مُبين وعلى هدىً مُستقيم وعلى صراط مُستقيم، أوفى على الغاية، شدة التمكن، وكان – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – واعياً بهذا المَقصَد العظيم من مَقاصِد رسالته وبهذه الغاية الجليلة الرفيعة الفخمة من غايات بعثته ونبوته فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – فيما أخرجه مالك في بلاغاته – من بلاغات الموطأ – إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ، فكان حرياً ولا يزال حرياً بالأمة وبكل مَن ادّعى أنه مِن أتباعه وبأنه مِن أمته وبأنه مِمَن يُريد أن يستن بسنته ويهتدي بهديه أن يبالغ في التخلق بمكارم الأخلاق ومحاسن الفعال، لأن هذا ديننا، مَن لم ير في محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام – ما يهز أعطافه ويبعث همته ويُحيي ميت العزم في نفسه لكي يتخلَّق بمثل هاته الخلائق هو لم ير محمداً ولم يعرفه أصلاً، وإن ادّعى أنه من أمته وأنه يستن بسنته ويهتدي بهديه، أنت لم تره ولم تعرفه، ولذلك قال النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا، قال هل تُريدون أن تعرفوا أحب الناس إليّ وأقرب الناس مني مجلساً يوم القيامة؟ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا، لابد من الخُلُق الحَسن، مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ كما يقول عليه الصلاة وأفضل السلام، هو بُعِثَ من أجل أن يُتمِّم ويُكمِّل محاسن الأخلاق وكِرامها، قال وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي – لم يقل إِنَّ مِن وإنما قال وَإِنَّ، قال وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ، هؤلاء أنا شديد البِغضَة لهم – مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ، إذا تكلَّم أحدهم تكلَّم كثيراً كثيراً فيما لا طائل تحته، فكيف إن كان كلامه – والعياذ بالله – في قرض أديم الناس؟ أي في الغيبةِ والبهتِ والإفكِ والنميمةِ والسِعايةِ والوشايةِ وفاحش القول وسيئه وسفسافه وأرذله والعياذ بالله، لو ثرثر بلغو القول فيما لا يضر أحداً فهو ثرثار، لا يُحِبه الله ورسوله، مَن أبغضه رسول الله أبغضه الله تبارك وتعالى، لأن رسول الله لا يُحِب إلا ما أحب الله ولا يبغض إلا ما أبغض الله، ولذلك تقول الآية الكريمة قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۩، فالنبي قال الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ، إذا تكلَّم أحدهم لم يتكلَّم على سجيته بل يتكلَّم بملء شدقيه، يفتح فمه عرضاً وطولاً، لا أُحِب أن أقلِّد هذا، هذا شيئ سيء جداً، تكلَّم على هينتك وعلى سجيتك كما أوتيت، لماذا هذا التشدّق؟ لكن هم يتشدّقون، فقالوا قلنا يا رسول الله أمَّا الثرثارون والمُتشدِّقون فقد عرفناهم – نحن نفهم معنى الثرثار والمُتشدِّق – فما الْمُتَفَيْهِقُون؟ قال المُتكبِّرون، وهذا أمرٌ عجيب، هذا من الفهق في اللغة العربية، يُقال فَهقت القِربة، إذا امتلأت بالماء فصدر لها عند وشك امتلائها صوت (بق بق) يُقال فَهقت القِربة، في شعر الأعشى ورد فَهقُ القِربة، إذن هو الامتلاء، ولذلك التفيهق هو الكلام أيضاً بضربٍ خاص من ضروب التشدّق، يملأ بالكلمةِ فمه، فلا يقول – مثلاً – إن الله، وإنما يقول إن الله هااااااه، يتكلَّم بطريقة كالقِربة التي تُفيهق وتَفهَق، النبي يقول أبغض هؤلاء المُتفيهِقون جداً، لأن كل هذه الزخرفة وهذا التذويق وهذا التشدق وهذه الفيهقة تدل على خراب الباطن وتدل على خواء الفكر وخواء العقل وتدل على حب الامتياز على الناس، يُريد أن يُفهِمكم أنني مُعلِّم كبير، أنني أستاذ مُتميِّز، أنا شيخ الشيوخ، أنا غير شِكل كما يُقال، فهو يتكلَّم بهذه الطريقة لأنه غير شِكل، النبي قال أنا أُبغِض هؤلاء، لذلك كان يُبغِض حتى السجع، حتى السجع كان يُبغِضه النبي، فحين يتكلَّم لابد أن يأتي كلاماً موزوناً، النبي لا يُحِب هذا، حتى في الدعاء لا يُحِبه، وأنا أكره هذا والله كما كان يكرهه رسول الله، لا تسجعوا في الدعاء، هل ترون في كل أدعية النبي هذا السجع؟ هناك السجع الذي يأتي عفو الخاطر من تلقائه، من غير تكلف ولا تعمُّل، فهذا يأتي لطيفاً حلواً لاذاً، أما الذي يلتزم هذا السجع في كل جملة يدعو بها الله تبارك وتعالى نقول له ما هذا؟ هل أنت تغني بين يدي الله تبارك وتعالى؟ ادع الله بما فتح الله عليك، كان مِن أسلافنا مَن إذا مد يديه إلى السماء يدعو قائلاً اللهم اجعلنا جيدين، اجعلنا طيبين، اجعلنا صالحين، كما نقول الآن اجعلنا كويسين، اجعلنا مناح، كانوا يقولون هذا بكل بساطة، وليس مين ونين ونين ونيين ونينو وكذا ويتغنى ويتفيقه وما إلى ذلك، ما هذا؟ هذا ليس من الدين، الدين صدق، الدين سجية، الدين بارئ من التكلف في كل شيئ، وقد برَّأ الله رسوله من التكلف عليه الصلاة وأفضل السلام، يقول أنا أكره هذا، لكن لم نُجِب عن السؤال، إذا كان هذا هو التفيهق فلماذا عبَّر عنه النبي وفسَّره بالكبر؟ لأن الذي يتفيهق هو مُتكبِّر، لا يُمكِن لإنسان مُتواضِع أن يتفيهق، أليس كذلك؟ هل رأيتم إنساناً مُتواضِعاً يتفيهق في الكلام؟ مُستحيل، المُتواضِع حتى في كلامه يكون مُتواضِعاً، أما المُتشدِّق المُتفيهِق فهذا دل على كبره، فلزم من تشدّقه وتفيهقه أن يكون ذا كبر وباء والعياذ بالله، أن يكون مُتكبِّراً، فهو من باب التفسير باللازم، والله تبارك وتعالى أعلم.
الشاعر الفحل أبو خراش الهذلي أدرك هذه الثورة والمدى البعيد الذي ذهبت إليه هذه الثورة المُحمَّدية في الأخلاق والمسالك والمُثُل – هذه ثورة حقيقية – فقال أنها أحالت الشباب إلى كهول، وكما يُقال الشاب شعبة من الجنون، الشاب يكون دائماً شديد الحُمية وشديد الحماس، ويتبع أهواءه ويركب أميال نفسه ويحتطب في كل حبل، ويُذنِب ويعود ويتوب ثم يُذنب، والناس يقولون ما على هذا الشاب من عتب، لكن شباب الصحابة وشباب المسلمين والجيل الذي رباه محمد على يده – صلى الله على محمد وآل محمد وسلم تسليماً كثيراً – كالكهول كما يقول أبو خراش الهذلي، يا سلام، قال هؤلاء شباب غير شكِل كما يُقال، لا تُعرَف لأحدهم صبوة، لا يُمكِن للواحد منهم أن يجري وراء البنات ووراء النسوان وكل قلة الأدب هذه، شاب كالكهل، عمره سبع عشرة سنة أو عشرون سنة لكنه كابن أربعين سنة أو ابن خمسة وأربعين سنة، راكز عنده فهم وعنده نظرية وعنده فلسفة في الحياة وعنده مُثُل وعنده خُطة يسير بها وعنده خارطة يهتدي بهديها في الحياة، فيقول أبو خراش الهذلي:
فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أُمَّ مَالِـكٍ وَلَكِنْ أَحَاطَتْ بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ.
وَعَادَ الفَتَى كَالكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ سِوَى الحقِّ شَيْئًا فَاسْتَرَاحَ العَوَاذِلُ.
هذا أمرٌ عجيب، وقد أحسن ما شاء، يقول وَعَادَ الفَتَى كَالكَهْلِ، يقول أبو خراش تغيَّر العالم، يقول بعد محمد وبعد الإسلام والقرآن – والله – يا أم مالك:
فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أُمَّ مَالِـكٍ وَلَكِنْ أَحَاطَتْ بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ.
وَعَادَ الفَتَى كَالكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ سِوَى الحقِّ شَيْئًا فَاسْتَرَاحَ العَوَاذِلُ.
قال فتى مُستقيم لا ينطق ولا يصدر إلا عن عدل وعن رزانة وعن استقامة، وقد أدرك العرب هذا من أول يوم والنبي كان يُؤكِّد عليه كثيراً، كان يُحِب أن يُبرِز لهم أن دعوتي بالأساس هى دعوة توحيد ورد اعتبار للألوهة – للألوهية – ولرب العالمين لا إله إلا هو من أجل أن تستقيموا وتسعدوا، وفي المقام الثاني إصلاح للأخلاق والعوائد كما كان يقول لهم، وهذا معنى إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ، يقول هى إصلاح للعادات والعوائد والأخلاق والسلوكات المُنحرِفة الجانحة الشاذة والناكبة، وهم أدركوا هذا،
يُوجَد حديث جميل طويل سآتيكم بآخره، وقد رواه الإمام الجليل أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة عن الإمام عليّ عليه السلام وكرم الله وجهه، فيه أن أبا بكر مع رسول الله كانا يذهبان ليعرض رسول الله نفسه على القبائل، فجاء الآن إلى بني شيبان بن ثعلبة، وأبو بكرمن السادة رضوان الله تعالى عليه، كان عالماً بل علّامة بأنساب العرب وبخفايا ودقائق أنساب العرب، خاض معهم في حديث طويل في أنسابهم ونبلاء رجالهم، فحدسوا أنه قرشي، قالوا له فما شأن هذا الرجل الذي خرج فيكم ويدّعي أنه رسولٌ من عند الله؟ قال هو ذاك، هذا هو الرجل الذي معي، هذا هو محمد، قالوا أنت؟قال له نعم، وفيهم ثلاثة من كبارهم، هانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك فضلاً عن أنبلهم وأجملهم ومُقدَّمهم مفروق بن عمرو الذي له ذؤابتان – غديرتان – يُلقيهما على كتفيه، كان جميلاً وكان أدناهم من رسول الله، فسأله أن يُبيِّن له عن شيئاً مما بُعِثَ به، تكلَّم وحدِّثنا عن دينك وعن دعوتك هذه التي تزعم أن الله – تبارك وتعالى – أمرك ان تصدع بها، فانظروا إلى النبي، يُوجَد قرآن كثير لكن ماذا اختار؟ قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ – تأملوا القرآن الكريم، كلام عجيب تقشعر له الأبدان والله – أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ – هذا أول شيئ في الوصايا العشر فعدَّوها، عشر وصايا في ثلاث آيات زواهر بوارع قواطع – وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۩، هذا كلام يُتلى على مَن؟ على أناسٍ وعلى شعوب وعلى قبائل وعلى أقوام كانوا يرمون الإنسان ويثلبونه بالأمانة ، إذا كان أميناً فهذه مثلبة، يُقال أنك ضعيف، كيف تكون أميناً؟ إذا استطعت أن تتغوَّل شيئاً فتغوله والعياذ بالله، وإذا كنت كافاً شرك عن الناس وباذلاً خيرك فأنت ذليل عندهم، أنت الذليل، وإذا كنت لا تخفر بعهدٍ ولا ذمة فأيضاً كان هذا مسبة ووصمة.
قَبِيِّلَةٌ لاَ يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ وَلاَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ.
مَن يكون كذلك يذمونه، قالوا قَبِيِّلَةٌ تحفظ العهد ولا يظلمون أحداً، يفتخرون بالتظالم، وهذا أمرٌ عجيب، يقولون نحن أقوى فنحن نظلمكم، هذا منطق إبليسي، منطق شر، منطق نكد والعياذ بالله، فيأتيهم قرآن كله أخلاق، يفور أخلاقاً، يتألق ويلتمع أخلاقاً، يأتيهم لأول مرة ويُخاطِب الفطرة، هذه هى الفطرة، الطفل الصغير كما حدَّثنا علماء النفس التطوري موجود هذا في قعر نفسه وتُسمى العدالة المُحايثة Immanent،تُوجَد في الداخل، هذه كامنة، الطفل من دون تعليم لا يُحِب الظلم، لكن يأتي المجتمع الظالم يُعلِّمه كيف يكون ظالماً، تأتي الثقافة تُعلِّمه كيف يصير أستاذاً في الظلم ورأساً في الظالمين والعياذ بالله، فهذا هو، القرآن يُعيد الموضوع إلى الفطرة، هذا هو الهدى المُستقيم وطريق الحق، ونعود إلى بقية الآيات وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، ثم ختم فقال وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩، هل تُريد صراط الله؟ صراط الأخلاق، هذه الآية تقول صراط الله هو صراط الأخلاق، إذن التوحيد والأخلاق، قال الله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ – توحيد – وَعَمِلَ صَالِحاً – أخلاق – فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، هذا هو الدين، الدين هو البر، اللهم اجعلنا من البررة، اللهم اجعلنا من الأبرار والمُقرَّبين، هو هذا البر، وما هو البر؟ سنسمع الآن بعد قليل، سنسأل مُعلِّم الناس الخير وسيد الخلق وسفير الحق وحبيبه، سنسأله ما هو البر يا رسول الله؟ لكي نكون من الأبرار، لكي من البررة، ما هو البر؟ وسنرى الجواب، بعد أن قرأ النبي الآيات قال مفروق بن عمرو لا والله ما هذا من كلام أَهل الأَرض – هذا ليس كلام البشر – ولو كان من كلامهم عرفناه، نحن نعرف هذا، نعرف القريض ونعرف الشعر ونعرف النثر والسجع، لكن هذا ليس كلام البشر، ما هذا؟ استحلاه جداً، ثم قال اتل يا أخ العرب، أي أنه استزاد النبي، فقال بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، انظروا إلى النبي، على ماذا يُؤكِّد النبي؟ هذا هو، ليس جئتكم بالسيف، ليس جئتكم بالذبح، لم يقل سأذبحكم وسألعنكم وسأقتلكم، ليس هذا، لم يقل اتبعوني وإلا ذبحتكم من عند آخركم يا كفرة، أنذركم بنار جهنم تلظى، لم يقل هذا أبداً، أُريد لكم أن تسعدوا وأن أُصلِح حياتكم وأن أجعلكم بشراً، بالله عليك – وهذا مُوجَّه خاصة إلى الذين كَبِروا منا الآن، فكلما كَبِر الإنسان وضح له هذا جداً – لو فُرِض عليك وحُتِّم أن تعيش مع إنسان في سجن – حبس يمتد إلى سنة أو سنتين أو عشر سنوات لا قدَّر الله، نسأل الله أن يعافينا – سوف تختار مَن؟ هل تختار رجلاً مشهوراً بالعلم عنده علم كثير من غير أن تنظر في أدبه؟ يُوجَد الكثير من الناس الذين عندهم علم وفكر لكنهم من أسوأ الناس أدباً ومن أسوأ الناس خليقة ومن أشد الناس أنانية، شيئ عجيب جداً، يكون الواحد منهم كريهاً جداً، فهذا موجود، هل تختار مَن عنده مال كثير؟ ما حاجتك بالمال وأنت في السجن؟ كل شيئ من أكل وشرب مُؤمَّن وموجود، فما حاجتك بالمال؟ إذن ماذا تختار؟ هل تختار رجلاً ذا خليقة حسنة؟ قطعاً إن كنت حكيماً – وأنت حكيم بإذن الله – ستختار صاحب الخُلق الحسن، ما حاجتي بالعلم والفلسفة والفكر؟ ما حاجتي بالمال؟ أُريد إنساناً يكون عنده خُلُق حسن فأعيش معه في هناء، وكذلك اختر حين تختار لابنتك ولابنك زوجاً وزوجة الديّن ذا الخُلُق الحسن، ليس الذي عنده مال أو الذي عنده علم أو الذي عنده شهرة ثم بعد ذلك يُتعِسها أو تُتعِسه، وكم مَن تعساء وتعيسات في أبنائنا وبناتنا من الأزوج والزوجات، أليس كذلك؟ اختر الديّن، وليس الديّن بالمعنى الذي يفهمه الناس الذي يهتم بدين الطقوس والأشكال والرسوم والزخارف، وإنما الذي يهتم بالدين الذي يجعله من أعظم الناس أخلاقاً، أنا أقول لكم أي إنسان مُتدين وبلا أخلاق هو والله العظيم – أحلف على منبر رسول الله – تدينه كذاب، والله الإيمان يبعث على الخُلُق الحسن، ما رأيكم؟ بطبيعته يفعل هذا، لأن الإيمان يُحرِّم أشياء ويُوجِب أشياء، وما حرَّم شيئاً إلا كان من باب الخُلُق الحسن، أليس كذلك؟ طبعاً، هذا هو الدين، فكيف تقول لي يُوجَد عنده دين وليس عنده أخلاق؟مُستحيل، على كل حال قال النبي إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، فوقعت منهم موقعاً عظيماً، لكن للأسف في تلكم الأيام وفي تلكم الحالة تقدَّم بعد ذلك هانئ بن قبيصة و المثنى بن حارثة وأفاد النبي بصدقٍ ورجولة بالآتي، قالا إننا يا رسول الله بين أنهار كسرى ومياه العرب – نحن نقع بين أنهار كسرى ومياه العرب – فأما ما كان من أنهار كسرى فالذنب صاحبه غير مغفور والعذر غير مقبول – لا يتساهل كسرى، هذا ملك – وإن ما أتيت به يا أخ العرب هو أمرٌ مما تكرهه الملوك – الملوك لا يُحِبون هذا، الملوك يُحِبون أن تبقى الناس عُبداناً سِفلةً مثل ديدان الأرض، وأنت تأتي بدين يُحرِّر الناس ويُعطيهم عزة وشموخاً وإباءً، تقول العبودية فقط لله وحده، ما هذا؟ والملوك يُحِبون أن يتخذوا الناس عبيداً وعُبداناً، أليس كذلك؟ قالا نحن نعلم هذا، العرب عندهم حكمة وعندهم عقل، الله يقول اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۩، فهم عندهم حكمة وعندهم عقل ومن ثم قيل للنبي هذا أمر خطير جداً على الملوك، هم لا يُحِبون هذا يا أخ العرب – وأما ما كان من جهة مياه العرب فذنبٌ مغفور وعذرٌ مقبول – هذا ليس فيه مُشكِلة – وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثًا ولا نؤوي مُحدِثًا فإن شئت منعناك من جهة العرب لا من جهة كسرى، أي قيل له تأتي عندنا في منعة دون أي مُشكِلة لكن من جهة العرب وليس من جهة كسرى، لن نُهلِك أنفسنا بسببك، فقال ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، انظروا إلى قول الرسول، هو أفصح مَن نطق بالضاد، قال لهم ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله – تبارك وتعالى – لن ينصره إلا مَن حاطه من جميع جوانبه، حين تقول لي أنا أنصره بنسبة خمسين في المائة وأخذله بنسبة خمسين في المائة فإن هذا لن ينفع، هذا دين الله، من المُمكِن أن يستدعي الأمر في يوم من الأيام أن تُضحي بكل شيئ، بنفسك وبأهلك وبولدك وبمالك وبكل شيئ، هذا دين الله وهذا شرطي، لكنه شكر لهم وقال ما أسأتم في الرد، ردكم كان حسناً جميلاً، وكنتم صادقين واضحين، فهذا ما كان من بني شيبان بن ثعلبة، وأنا نسيت أن أقول لكم بماذا علَّقوا، قالوا دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، حين قرأ هذه الآيات ماذا قالوا؟ هذه مكارم الأخلاق وهذه محاسن الأفعال، ولا يُوجَد إنسان يرفضها، واضح أنك صاحب دعوة أخلاقية وصاحب دين أخلاقي، عليه الصلاة وأفضل السلام، لكن كما نعلم جميعاً قصب السبق في هذا الميدان هو لسيد الخلق، أعظم الناس خُلُقاً على مدار التاريخ – وهذا ما لاحظه جوته Goethe – هو محمد عليه الصلاة وأفضل السلام، ولذلك قال تبارك وتعالى وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ۩، لماذا؟ لماذا كان أعظم الأنبياء خُلقاً؟ وإذا ذُكِرَ الأنبياء سكتنا عن مَن دونهم، لا يعنينا مَن دون الأنبياء، هؤلاء هم الأنبياء، وهم أفضل الخلق وأنبلهم وأضوأهم وأهداهم، وهو أعظم الأنبياء طُراً خُلُقاً، هل تعرفون لماذا؟ لأن الله هداه بهداهم جميعاً، قال أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ۩، قال السادة العلماء ما هو هذا الهُدى – هُدى الأنبياء – الذي أُمِرَ به الخاتم – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن يقتدي به؟ للأسف بعض المُفسِّرين غلط وقال قول الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ ۩ في باب العقائد والإيمان والتوحيد، وهذا غلط، لأن مبنى العقيدة والإيمان والتوحيد على إذعان القلب وسبيلها النظر والفكر والتأمل، فيكون حالة إذ على هذا التفسير مأموراً بالتقليد وحاشاه، كأن الله يقول له قَلِد الأنبياء في هذا الموضوع، لكن هذا لا يُمكِن، بالعكس النبي أعظم المُتفكِّرين وأعظم الناظرين وأعظم المُستدِلين وأعظم مَن أقام برهاناً عن الله تبارك وتعالى، هو هذا، فبعيد جداً بل مُستحيل أن يأمره الله بالتقليد، مُستحيل أن يقول له قَلِد الأنبياء في التوحيد، التوحيد في حقنا نحن – كما قلت لكم – سبيله النظر والاستدلال، ليس التقليد، نحن لا نُقلِّد، لا نُقلِّد لا صحابة ولا غيرهم، ننظر نحن كما نظروا ونحن مأمورون بهذا في مئات الآيات في كتاب الله التي تفيد هذا المعنى، لذلك بعض كبار علماء العقيدة قالوا أي إيمان وأي توحيد لم يُبنى على نظر واستدلال باطل، وطبعاً هذا فيه تشديد، كل إيمان – إيمان المُؤمِنين – فيه نوع نظر، لكن يتفاوت النظر درجاتٍ ورُتباً، إذن هو – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الأرجح القريب من القطع لم يُؤمَر بأن يقتدي بهم في باب العقائد والتوحيد، لا يُوجَد اقتداء هنا، يُوجَد استدلال ويُوجَد وحي أيضاً أكرمه الله به، لكن ماذا عن باب الشرائع الذي يتعلَّق بالحلال والحرام؟ نقضه وهدمه أبو حامد الغزالي في المُستصفى، قال أبو حامد لو كان المُراد بهذا الهُدى الذي أُمِرَ أن قتدي به – عليه الصلاة والسلام – الشرائع لكن مأموراً أن يقتدي بشرائع ناسخة ومنسوخة ومتعارِضة ومُتضارِبة، كيف هذا؟ شرائعهم مُتناسِخة ومُتعارِضة، شريعة تنسخ شريعة وشريعة تعارِض شريعة، فكيف أُمِرَ أن يقتدي بهذه الشرائع؟ مُستحيل، إذن ليس الشرائع، فلم يبق – وهذا الذي رجحه الفخر وابن عادل في اللباب وكثير من عيون المُفسِّرين في كتبهم ونبلائهم – إلا أنه مأمورٌ بأن يقتدي بهم في محاسن الأخلاق، قال السادة العلماء وهكذا زوى الله – تبارك وتعالى – إليه كل فضيلةٍ كانت لنبي، فاجتمع فيه مُتفرِّق الفضائل، اجتمع فيه ما تفرَّق في الأنبياء غيره من الفضائل، هذا معنى قوله – عز من قائل – أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ ۩، إذن هو أوفى على الغاية في هذا الباب، عليه الصلاة وأفضل السلام.
قال الله وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ۩، صاحب الهمة العالية وصاحب النفس الطهور الزكية مُباشَرةً يطرح سؤالاً، هل من سبيل إلى أن أعرف أنا كطالب للمعالي وطالب للمكارم سبيل الخُلُق العظيم؟ هل من سبيل أن أقتدي بمحمد – عليه الصلاة وأفضل السلام – لأصبح ذا خُلُقٍ عظيم – بإذن الله – لأنني أُحِب أن أكون كذلك؟ هذا أحسن من أي شيئ هذا في الدنيا والاخرة بإذن الله، أي أن تكون ذا خُلُق عظيم، سيأتيك مَن يقول لك اقرأ كتب الشمائل، لكنها يا أخي كثيرة، أخلاق النبي كثيرة جداً جداً، وصعب أن يتخلَّق أحد بكل هذه الأخلاق، وهذا يعني أن الطريق أصبح كالمسدود، أن نتخلق بكل هذه الأخلاق يُعتبَر صعباً جداً، هذه أخلاق مجموع النبيين كلها وقد اجتمعت في شخص واحد، لكن أنا أقول – والله تعالى أعلم – بما أن الله – تبارك وتعالى – وصفه بأنه لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ۩فإذن لو اجتزأنا بأخلاقه المذكورة في كتاب الله وحدها لكانت هى الخُلُق العظيم، أما التي خارج كتاب الله لا تهمنا الآن، ننظر في كتاب الله من نعوت رسول الله وأخلاقه ونتخلَّق به، إن تخلَّقنا بمجموع هذا أصبنا الخُلُق العظيم، أصبنا نصاب الخُلُق العظيم، وهذه مسألة ليست صعبة، الصعب هو التخلق فانتبهوا، ليس الصعب الفهم أو التنظير أو الوصول إلى القاعدة، هذا إلى حد ما سهل بل وسهل جداً أحياناً، الصعب هو التطبيق، وإنه ليسيرٌ على مَن يسَّره الله عليه، يسرَّ الله لي ولكم كل خير وفضيلة، انظروا إلى بعض الناس، بعض الناس يبلغ عمره خمسين سنة أو ستين سنة أو سبعين سنة وطيلة حياته يسمع كذا عيب وكذا حرام وكذا سيء ومع ذلك هو يفعله، بل ربما حتى يعظ به ويُحاضِر ويُدَرِّس وهو يخالفه، هو غير قادر على هذا، سهل أن يتكلَّم لكن صعب أن يفعل، لذلك مربط الفرس – كما نقول – والمُعتمَد هو العمل والارتياض والتمهر والتدرب وحمل النفس على هذا الشيئ، ابتغاء ماذا؟ ابتغاء الكمال الشخصي، وقبل ذلك ابتغاء رضوان الله تبارك وتعالى، تكون من أقرب العباد إلى الله تبارك وتعالى، ولذلك من أخلاق رسول الله في القرآن الليان، وهى أخلاق كثيرة جداً، وطبعاً لا نُريد في هذه الخُطبة أن نتقصى أطراف هذه الأخلاق، بالعكس ربما نجتزئ بخلق واحد بإذن الله تبارك وتعالى، أخلاقه كثيرة جداً ، لكن في كتاب الله – مثلاً – قال الله فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ ۩، الليان أن يكون المرء هيناً ليناً، لا يكون فظاً قاسياً وغليظاً، وإنما أن يكون ليّناً، واللين صفة المُتواضِعين، وليس صفة ونعت المُتكبِّرين، لا يُوجَد مُتكبِّر لين، أليس كذلك؟ المُتكبِّر دائماً فظ قاسٍ مُترفِّع وعالٍ، لكن النبي مُتواضِع وليّن، قال الله فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ – وهذا من رحمة الله به وبهم، ولم يقل الله بك، لأنها رحمة به وبهم بالتالي، لأن هذا رسولهم وقائدهم – لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ – أي قاسي القلب، والفظاظة في القول أيضاً هى الشدة، فالقول يكون قولاً شديداً والعياذ بالله – لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ – هذه أخلاق أيضاً – وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ۩، وهذا من تواضعه أيضاً وكمال عقله، هذه أخلاق أيضاً، قال الله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ۩، أخلاق من أعلى الأخلاق، قال الله وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ ۩، هو مأمور بالصبر، قال الله وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ۩ وقال أيضاً وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۩، لابد من التواضع، فخفض الجناح هو التواضع، النبي كان سيد المُتواضِعين، ربما سنجتزئ اليوم بهذا الخُلُق بالذات، هل تعرفون لماذا؟ لأنه رأس الأخلاق التي ينبغي أن يتصف ويتسم بها القادة والرُعاة كما يقولون، قائد جماعة أو قائد عصابة أو قائد شعب أو قائد أمة يجب في رأس أخلاقه أن يكون مُتواضِعاً لمَن جعلهم الله – تبارك وتعالى – في ولايته، لأنه إن كان مُتكبِّراً ومُترفِّعاً عليهم ضيَّعهم وضيَّع حوائجهم، ما رأيكم؟ انظروا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، بلغ من تواضعه الشيئ العجيب، يُوجَد حديث في الصحيح – في صحيح البخاري – لكن قل أن نسمعه مع أنه في الصحيح، وهذا أمرٌ غريب، لماذا لا نسمعه؟ لأنه يُخالِف المألوف، المُهِم أن بعض الشيوخ وبعض العلماء يأتيه رجل من كبار القوم فلا يُقيم له وزناً، وقد رأيت هذا مرة في مُناسَبة، حدث هذا مع رجل كريم وكبير، لكن النبي أمرنا أن نُنزِل الناس منازلهم، نحن مأمورون أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ، يجب أن نعرف أقدار الناس وأن نحترم الناس، ليس بإسم الدين وما إلى ذلك نُحقِّر الناس ويكون عندنا الكبير كالصغير والصغير كالكبير، هذا غير صحيح، النبي لم يكن كذلك، وهو القائل قوموا لسيدكم، لسعد ابن معاذ، لما أوتيَ وقد أُصيبَ في كاحله في الخندق، وجاء ليحكم في بني قريظة، فقال النبي قوموا لسيدكم، قوموا إلى هذا الرجل واحترموه، مع أنه في نفسه وفي خاصته كان يكره القيام له، أليس كذلك؟ يقول أنس بن مالك والله ما كان أحدٌ أحب إليهم من رسول الله – أكثر أحد يُحِبونه هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – ولكنهم كانوا إذا رأوه مُقبِلاً عليهم لم يقوموا له – لماذا وهو أكثر شخص تُحِبونه؟ – لما يعلمون من كراهيته لذلك، يكره هذا، يكره هذا بصدق وليس بتكلف، لا يقول أستغفر الله وما إلى ذلك كما يفعل البعض تكلّفاً، يكره هذا بصدق، لكن لماذا تكرهه يا رسول الله؟ تواضعاً لله، لا يُحِب النبي الكبر، لا يُحِب أن يرى نفسه مُتميِّزاً عن الناس، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، وهو مُتميِّز في كل شيئ حقيقةً، أليس كذلك؟ كان مُتميِّزاً نفساً وعقلاً وروحاً وبدناً، وهذا بتمييز إلهي، الله هو الذي اصطفاه، ولكنه لا يُحِب أن يرى نفسه مُتميِّزاً ويكره هذا، وحلف مرة على هذا أنه يكره هذا، يا حبيبي يا رسول الله، هذا أمرٌ عجيب، ومع ذلك يُقال لماذا قال جوتيه Goethe هذا؟ النبي طبعاً هو المثل الأعلى، الذي لا يعجبه هذا الكلام ولا يقدر على أن يفهمه أنا أقول له هذا لأنك لا تدري شيئاً، اذهب اقرأ وادرس كثيراً جداً، اقرأ سير العظماء، هل تعرفون غاندي Gandhi؟ من ضمن الحسرات التي أعرب عنها – كان مُتحسِّراً في آخر حياته – أنه تعرَّف على محمد مُتأخِّراً في حياته، قال هذا الرجل أقواله وأفعاله ليست ملكاً للمُسلِمين بل هى كنزٌ للبشرية كلها، قال غاندي Gandhi خسارة أنني لم أتعرَّف عليه إلا في آخر حياتي، فالناس العظماء يفهمون هذا، لكن بعض القُمع والأقزام يقول لك مَن محمد هذا؟ محمد كذا وكذا، للأسف الشديد أنت تُزري بعقلك فقط، لا تُزري بمحمد، حاشاه هذا النجم العالي البعيد الذي لا يغرب، لكن أنت تُزري بعقلك أنت وتُعرِب عن محصولك وأنك لا تعرف شيئاً ولم تقرأ شيئاً ولم تعرف شيئاً من سير العظماء والنبلاء والكُبراء، فقالوا له مرة يا سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا و و و، فقال يا أيها الناس عليكم بتقواكم – يقول اتقوا الله، هذا يُخالِف تقوى الله – ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، لماذا تقولون عني سيدنا وابن سيدنا؟ تعال يا سيدنا يا رسول الله فعلاً وانظر كيف نصف علماءنا عبر التاريخ، أحياناً – والله – في صفحة كاملة تُكتَب الألقاب، والله صفحة كاملة فيها ألقاب فقط لعالم واحد، يُقال مفتي الثقلين وسيد كذا كذا وجامع كذا كذاومجمع البحرين وكذا وكذا وكذا وكذا وكذا وكذا وكذا وكذا/ الفقير إلى الله فلان الفلاني، فقير ماذا؟ هل بقيَ فقر بعد كل هذا؟ ما هذه التناقضات؟ أنت في صفحة كاملة نعته بنعوت ربما تعجز أن تنعت بها الله بهذه الطريقة، هذا بشر يا أخي من لحم ودم، ماذا يبقى فيه من عقل هذا الإنسان؟ لقد نفختموه مثل البالون يا أخي، هذا – والله – أي شيئ يُفجِّره في النهاية، أضللمتوه عن نفسه وعن قدره، وفي آخر الكلام يُقال الفقير إلى الله، فقير ماذا؟ بعد صفحة لم يبق أي فقر، لكن النبي قالوا له كلمتين – يا سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا – فقال يا أيها الناس عليكم بتقواكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله؛ عبد الله ورسوله، ووالله – يحلف – ما أُحِب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل، الله جعلني عبداً رسولاً، قولوا عبد الله ورسوله فقط، لا تزيدوا ولا تُبالِغوا، قال لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله، يا سلام يا رسول الله، هذا تواضع حقيقي، بعض الناس أنت ترى التزييف في تواضعه – والله – في دقيقة واحدة، بالله العظيم في دقيقة واحدة، يلتفت إلى أحدهم مُبتسِماً خاشعاً ويلتفت إليك بكبر وعجرفة، وهذا كله في دقيقة بل في ثانية، يلتفت إلى مَن هو أعلى منه ومَن يرجو فضله فيذل ويبخع، ثم يلتفت إليك وأنت من عامة الناس فيبؤ ويزهو، يقول لك بكبر ماذا تريد؟ ما هذا يا أخي؟ هل أنت شخص أم شخصان؟ هل أنت مشطور؟ هل أنت مفصوم؟ هذا من الكذب، لذلك تُنزَع البركة، لا تُوجَد بركة لا في علم ولا في دين ولا في أي شيئ، لا تُوجَد بركة ولا يُوجَد رضا إلهي، لا تُوجَد بركة إلهية تتنزَّل علينا حتى بسبب وجود الكذب، لذا لابد من الصدق، مَن أراد أن يتعلَّم الصدق فليتعلَّمه من سيد الخلق، هذا هو الصدق، يقول ووالله – يحلف – ما أُحِب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل، يقول لا أُحِب هذا، لا أقول هذا تكلفاً، يقول لا أُحِبه، والصحابة يعرفون هذا، لذلك الصحابة يُحِبونه جداً ويُحِبون أن يقوموا له، ولكنهم يعلمون أن هذا يغضبه ومن ثم يظلون جالسين على مثل جَمْر الْغَضَى، يظلون جالسين على مثل شوك السعدان، يُحِبون أن يقوموا له لكنهم يعرفون أنه يكره هذا، يا سلام، عليه الصلاة وأفضل السلام.
إذن هو سيد المُتواضِعين، لا يتواضع للكبار فقط، وإنما يتواضع للناس كلهم، لا يَحِب – كما قلت لكم – أن يُميِّز نفسه، وحتى لا أنسى أقول أننا كنا سنسأله ونستشيره – عليه الصلاة والسلام – ما هو البر لكي نكون من الأبرار، يروي الإمام مُسلِم في صحيحه عن النواس بن سَمعَان أو سِمعَان – تُكسر وتًفتح، إسم هذا الصحابي الجليل النواس بن سَمعَان أو سِمعَان – أنه قال أقمت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً – بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة – إذن إلى الآن مُقيم غير مُهاجِر، أليس كذلك؟ أتى من بلاده أو من بحره أو من مكانه لكن على غير نية الهجرة، هو مُقيم كضيف إلى الآن، لماذا؟ هاجر أفضل لك – إلا المسألة، أي السؤال، السؤال عن دين الله، السؤال والتفقه في الدين و في العلم، لماذا؟ ما علاقة هذا بهذا؟ قال كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن شيئ، وهذا من الأدب، لا يُثقِلون على النبي ويقولون له ما هذه وما هذه وكيف هذه وكيف هذه، تعال وانظر يا رسول الله كيف أصبح دينك اليوم، موسوعات ومُجلَّدات، لكي يُعلِّمك كيف تتوضأ تحتتج إلى ثلاثة أشهر لكي يُدرِّسك خمس مُجلَّدات، أحد العلماء الكبار – لا نذكر إسمه – وهو إمام جليل في القرن الخامس الهجري ألَّف كتاباً في أحاديث الوضوء فقط وأتى بألف حديث في الوضوء، ما حاجتنا بالألف حديث؟ من أين أتيتم بها؟ كيف صنعتوها؟ أين صككتموها؟ آية الوضوء في سورة المائدة آية واحدة يفهمها الإنسان في خمسين ثانية وينتهى كل شيئ، والنبي هكذا كان دينه، هذه حنيفية سمحة سهلة، لا تُوجَد كل هذه التعقيدات، لكن يُمكِن لأحدهم أن يستغرق ستة أشهر لكي يُعلِّمك فقه الطهارة وفي النهاية لن تفهم كل شيئ وسوف تظل طالب علم طيلة حياتك، هذا غير معقول يا أخي، النبي لا يُحِب هذا التكلف وهذا التقعر في الدين والتشديد على الناس وتوعير الطريق إلى الله تبارك وتعالى، أين العمل؟ متى نعمل إذن؟ على كل حال قال كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن شيئ، المُهاجِرون لا يسألونه، يعلمون أنه من أشد الجُرمِ في حق الإسلام والمُسلِمين أن تسأل ويُحرَّم شيئ من أجل مسألتك، النبي لا يُحِب هذا، يقول ما دام الله تركنا نحن نترك أنفسنا، النبي يُحِب هذا ويُريد أن يتركنا في سعة من أمرنا، إذا فرض الله شيئاً أو نهى عن شيئ فإننا نخضغ – إن شاء الله – ونسمع نطيع، لكن إن لم يقل شيئاً سوف نظل ساكتين لأننا لا نُريد تشريعات كثيرة، فالنبي – كما قلت لكم – يُحِب هذا، على عكس كثير من المُعاصِرين الذين يُحِبون أن يسدوا كل الأبواب وأن يضعوا بصمة شرعية ومُلصَقاً – Label – يحمل كلمة مسموح على كل شيئ أو كلمة ممنوع طبعاً على كل شيئ، لماذا؟ نوع من الهيمنة وحب الهيمنة على الناس، لكن النبي لا يُحِب هذه الهيمنة، لا يُحِبها أبداً ويخشى منها، فالمُهِم يقول فسألته يوماً – هذا بعد سنة، سنة وأنا مُقيم معه وعندي الحق في أن أسأل لأنني غير مُهاجِر، أنا إلى الآن غير مُهاجِر، أنا ضيف وعندي الحق في أن أسأل – وقلت يا رسول الله ما البر؟ وما الإثم؟ يُريد كلاماً جامعاً، يُريد نظرية عن البر والإثم، قال له ما البر؟ وما الإثم؟ فقال البر حسن الخُلُق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس، هذه كلمة واحدة في صحيح مسلم، قال البر حسن الخُلُق، هل تُحِب أن تطمئن على نفسك؟ هل تُريد أن تعرف هل أنت من الأبرار أم لا؟ انظر إلى حجم الأخلاق التي عندك، انتبه إلى هذا، لابد من القول والفعل كما يقول إخواننا المصريون، الأخلاق ليست قولاً فقط، الأخلاق قول وفعل، يُوجَد أناس أخلاقهم كلها هى قول فقط، لا يُوجَد أي فعل، القول ليس عليه ضريبة ولذا هو سهل لأنه مجاني، لكن الفعل صعب لأنه يُكلِّف كثيراً، ولذا لابد من القول والفعل، هذا حسن الخُلُق، قال البر حسن الخُلُق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس، أي شيئ تستخفي به وتستحي من إبرازه هو إثم، قال الله يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩، نسأل الله ألا يُبلينا إلا بخير، يوم القيامة كل شيئ مُخبَّأ في القلب سوف يظهر إلى الناس، فاحرص يا أخي المسلم لو أن الله أبلى سريرتك في الدنيا لم يظهر للناس إلا الطيب، بالله اجعل هذا دائماً في خاطرك، احرص لو أن الله أبلى سريرتك في الدنيا لم يظهر للناس إلا الطيب بإذن الله تعالى، يا سلام، أنا أقول لك إن ضمنت هذا أضمن لك أنك من مُقرّبي أولياء الله عند الله، إذا قال أحدهم أنا بعون الله تعالى في حالة لو أن كشف سريرتي لن يوجد فيها ما يمكن أن يخزيني إن شاء الله فأنا أقول له تالله إنك لمن أولياء الله، لا يُوجَد إنسان على هذا النحو إلا ويكون ولياً من أولياء الله، هذا عبد اصطفاه الله بولايته، فاعمل على أن تكون هذا بعون الله، قد تقول لي أنا حالتي جيدة لكن عندي بعض الصفات السيئة، ومن ثم أقول لك حاول أن تتخلَّص منها، وبالتالي يصفو لك الخير بإذن الله ظاهراً وباطناً، هذا دين محمد، هذا – كما قلت لكم – شيئ جميل جداً، قال النبي والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن طلع عليه الناس.
نعود إلى تواضع سيد المُرسَلين عليه الصلاة وأفضل السلام، ابن عباس في حديث جميل جداً رواه الطبراني في المُعجَم الكبير ماذا يقول؟ يقول كان رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – يجلس على الأرض – لأنه مُتواضِع، ليس شرطاً أن يجلس على عرش، هو طبعاً زعيم أمة ومن ثم لابد من عرش، لكن هو لا يُريد عرشاً، ولذا يجلس على الأرض – ويأكل على الارض ويعتقل الشاة – لم يقل حتى يحلب الشاة، لماذا قال يعتقل؟ يجلس جلسة الحالب ويمد يده لكي يحلبها بكل تواضع وبكل بساطة، النبي كان يعمل هذا، كانوا يرونه أحياناً وهو يعتقل الشاة، يأخذها ويُقرِّبها ويمد يده لكي يحلبها، ما هذا التواضع؟ – ويُجيب دعوة المملوك – المولى أو العبد المملوك، حين يدعوه أي عبد يُجيب الدعوة – على خبز الشعير، يا الله، لا يقول له مَن أنت؟ ويغضب، بعض الناس يغضب جداً حين تدعوه ويقول لك شكراً ليس عندي أي وقت، وطبعاً قلبه يهتاج ويتميَّز غيظاً، مَن أنت يا صعلوك حتى تدعوني؟ ألا تعرف قدري؟ ألا تعرف مَن أنا؟ أنا يدعوني أصحاب الملايين وأصحاب المثابات العظيمة والحيثيات الفارهة، لا يدعوني إنسان صعلوك مثلك، لكن النبي ليس عنده هذا الكلام أبداً، أي عبد يدعوه يلبي دعوته، قال أنس دعا رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – مرةً أحد الأنصار يُكنى أبا شُعيب – أبو شعيب أنصاري، رجل الله أوسع عليه – على طعام غذاء، وأمر قصّاباً له – القصاب هو الجزار، إخواننا العراقيين إلى الآن يقولون القصاب في العراق – بأن يُعِد لحماً لخمسة، قال له فإني على أن أدعو – أي على نية أن أدعو – رسول الله خامس خمسة، فإني رأيت الجوع في وجهه، أي جهده الجوع، رأيت اليوم وجهه مُصفراً ومُتعَباً، واضح أنه جائع، فأنا أُريد أن أعمل مأدبة على شرف رسول الله ومعه أربعة، فهو خامس خمسة، ومن ثم دعاه، فاتبعهم رجل مسكين وفقير من الصحابة، سمع بالأمر فذهب مع الرسول، وانظروا إلى العظمة الموجودة هنا، لم يقل له يا أخي أو يا عبد الله لا تكسفنا ولا تحرجنا، النبي لا يُمكِن أن يكسر بخاطر البشر أبداً، لم يقل له أنا مدعو مع إخوانك هؤلاء فقط فاذهب بارك الله فيك وفتح الله عليك، لم يقل له هذا أبداً، بل تركه يمشي معهم لكي يرى ماذا سوف يحدث، النبي يتحمَّل الحرج من أجل هذا الشخص لكن دون أن يكشف له عن هذا، هذه هى الأخلاق، هذه الأخلاق الحقيقية، هذا شعور بالآخرين، هذا Empathy كما يقولون، ليس Sympathy وإنما Empathy، هذا شعور حقيقي بالآخرين، كأنك في قلب الآخر وفي نفس الآخر، تشعر تماماً بمشاعره، وهذه درجة عجيبة من الذكاء العاطفي والرحمة طبعاً، فذهب الصحابي معهم، فالرجل أحسن استقبالهم، فقال له يا عبد الله، يا أبا شعيب لقد أتى معنا أخوك هذا – أنت دعوت خمسة لكن هذا أتى معنا، ومعروف لماذا أتى معنا – فإن أذِنت له فعلت وإن لم تأذن له رجع، قال بل أذنت له يا رسول الله، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، يا سلام، عظمة وكرم، فالنبي أحرج نفسه من أجله، هذا الموقف فيه إحراج طبعاً لأنك ستأتي بسادس غير معمول حسابه، لكن النبي لا يهمه أن يحرج نفسه، يحرج نفسه ولا يحرج هذا المسكين الطامع في طعام مأدبة، هذا فقير أيضاً وربما بل أكيد أجهده الجوع أيضاً، فالنبي يُلبي الدعوة إذن، يقول أنس ذات مرة أنا ذهبت معه أيضاً إلى دعوة، أحد الناس دعوه وأنس كان ولداً صغيراً، لا نعرف في أي سنة تحديداً، هو خدم الرسول عشر سنين، وكان عمره عشر سنوات، مات النبي وأنس تقريباً ابن عشرين سنة أو تسع عشرة سنة، فيُمكِن أن يكون عمره هنا ثلاث عشرة سنة أو اثنتي عشرة سنة أو أربع عشرة سنة، لا ندري بالتحديد، لكنه غلام صغير، قال فقرَّب إليّ – انظروا إلى الرحمة، النبي أخذ الصحن وأعطاه لأنس – خبزا ومرقا فيه دباء وقديد، القديد هو اللحم المُجفَف كما تعرفون، قال فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتتبع الدباء من حوالي الصحيفة، لا يُريد الآن القديد وإنما يُريد الدباء، قال فلم أزل أُحِبه من يومئذ، ما دام النبي يُحِبه أنا أُحِبه، دعاه جار فارسي له مرةً على مرق، وكان هذا الفارسي طيب المرق كما في صحيح مسلم، النبي قال له وعائشة، فقال له لا، وحدك يا رسول الله، انظروا إلى الصراحة والصدق، قال له أنا أُريدك أن تأتي ولا أُريد أن تأتي عائشة، قال له لا، عائشة، أنا لا آتي إلا مع عائشة، ولا يعرف هذا الفارسي ماذا يفعل، قال له يا رسول الله تفضَّل عندي، قال له وعائشة، قال له لا، وحدك، قال له لا، أنا وعائشة، وهذا في ثلاث مرات، وضوح وبساطة وطهارة، أطهر عباد الله، لم يقل له يا قليل الأدب أو يا بخيل أو يا كزاز، مَن أنت لكي تقول هذا لي؟ لم يقل له هذا أبداً، هذا شرطك وهذا شرطي ونحن لم نتفق، هذا تواضع شديد، هذه شخصية مُتواضِعة يا أخي، أجمل شيئ في الإنسان التواضع، ولكي تعرف ما معنى وما دلالة تواضع رسول الله أنا أقول لك جرِّب في نفسك حين تلتقي بإنسان عظيم – عالم مشهور أو رئيس دولة أو ملك – أن تراه وهو يتواضع، حين يتواضع ترى تواضعه شيئاً ساحراً، تُعجَب به لأنه مُتواضِع، تقول يا رب ما أجمل تواضعه، لأنه طبعاً إنسان كبير، فكيف برسول الله؟ انتبه وقارن، هذا رسول الله، ليس مليارديراً أو عالماً أو فيلسوفاً أو رئيس دولة، هذا رسول الله، لكي تفهم مَن هو الرسول اذهب وانظر ماذا يحدث في الحج، من المُؤكَّد أن كلكم أديتم فريضة الحج، ومَن لم يحج نسأل الله له أن يُعطيه هذا الشيئ إن شاء الله، انظر ماذا يحدث في الحج، انظر ماذا يحدث في المدينة الُمنوَّرة، الجميع يقف خائفاً وهو يبكي من الملك إلى الرئيس إلى الشيخ إلى السُلطان إلى الملياردير إلى الفيلسوف وإلى آخره، يقول يا رسول الله كذا وكذا، صلى الله عليك، الكل يفعل هذا، هذا رسول الله، لم يخلق الله مثله ولا نظيره ولا ضريعه ولا شبيهه، ومع ذلك كان مُتواضِعاً حتى مع العُبدان والإماء والناس البسطاء، ويأكل عندهم ويُلبي دعوتهم، هذا شيئ غير معقول، هل وصل الأمر إلى هذه الدرجة؟ نعم وصل إلى هذه الدرجة، وكان يركب البغلة ويركب الحمار، ليس عنده أفراس خاصة مُطَّهَمةٌ، بالعكس يركب البغلة ويركب الحمار، وأنتم تعرفون الحمار يَعْفُور والبغلة دُلْدُل، وفي حديث مُعاذ قال رأيت رسول الله ركب حماراً له يُقال له يَعْفُور ثم أردفني خلفه، قال له اركب معي، يا الله، أتُردِف؟ السادة لا يُردفون، السادة الكبار لا يُردِفون أحداً، يركب الواحد منهم وحده فقط وكأنه ملك على الدابة، النبي يُردِف دائماً خلفه، وأردف مرة ابن عباس في الحديث المشهور جداً والمُفرَد بالشروحات وأردف مُعاذ في حديث أتدري يا مُعاذ ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ هو هذا، حديث الحمار يعفور، فالنبي كان يُردِف دائماً، ذات مرة النبي نزل ضيفاً – وهذه قصة جميلة عن الإرداف أيضاً – على سعد بن عبادة سيد الأنصار – السيد الجليل – وعنده ابنه قيس، قيس بن سعد أطول الصحابة ومن أقوى الصحابة على الإطلاق، هذا الرجل كان شيئاً رهيباً، قيس بن سعد بن عبادة يروي الحديث، يقول ماذا؟ يقول جاءنا الرسول – صلى الله عليه وسلم -ضيفاً، طرقنا دون أن ننتظر، أي أنه جاء فجأة لكي يُسعِدهم بهذا، قال السلام عليكم ورحمة الله – ملحوظة: رد أحد الحضور في المسجد السلام على رسول الله فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت وبارك الله فيك – فأجابه سعد أبي ورد عليه رداً خفياً، أي قال وعليكم السلام ورحمة الله يا رسول الله بصوت خفيض، لكن النبي لم يسمع، فقلت يا أبتي ألا تُجيب رسول الله؟ قال اسكت نحن نستكثر من سلامه، أنت لا تفهم شيئاً، دعه يُلقيه ثانية، هو يُسلِّم علينا ويقول السلام، أي جعل الله السلام عليكم، هذه دعوة، وإلا ما هو السلام؟ السلام دعوة إلى الله تبارك وتعالى، مثل رحمك الله، هذه تعني سلَّمك الله أو سلَّمكم الله، هل تعرفون ما هى دعوة الأنبياء يوم القيامة في المحشر؟ اللهم سلِّم، اللهم سلِّم، اللهم سلِّم، اللهم سلِّم، أي التسليم، فالسلام شعار عظيم جداً، يا ليتنا نفقهه، هذا شعارنا في ديننا، ديننا دين السلام، نقول السلام عليكم ورحمة الله، فسعد كان يفهم هذا ومن ثم قال نستكثر من سلامه، فقال السلام عليكم ورحمة الله، قال فرد أبي رداً خفياً، قال وعليكم السلام ورحمة الله يا رسول الله بصوت خفيض، قال فمضى رسول الله، فاتبعه أبي قائلاً يا رسول الله قد سمعنا سلامك، قال فلم لم ترد علي سعد؟ قال أردنا أن نستكثر من سلامك علينا يا رسول الله، انظروا إلى الاعتقاد الجميل، يعرفون مَن هو النبي، ويعرفون أن كل كلمة يقولها هى بركة ونور والله العظيم، ليس شيئاً عادياً أن يقول لك النبي السلام عليك، هذه مسألة عظيمة جداً، هذه دعوة قد تُسعِدك في الدنيا والأخرة، هى من محمد مُجاب الدعوة، الله لا يرد له طلباً بفضل الله عز وجل، فالنبي استحسن هذا منه، والآن يُريد أن يُكرِمه مُعاذ، قال فعاد برسول الله فأمر له بغسلٍ – ماء دافئ لكي يتغسل به – فاغتسل، ثم قدَّم إليه مِلحفةً مصبوغةً بزعفران ووَوَرْسٍ صفراء، فاشتمل بها النبي، فلما جلس رفع يديه – هنيأً لهم – قائلاً اللهم اجعل صلواتك وسلامك على آل سعد بن عبادة، هنيأً لهم، سلَّم عليهم أولاً وسلَّم عليهم وسطاً، وسيُسلِّم عليهم حين يُغادِرهم، ثم قُرِّبّ إليه طعام فأصاب منه، ثم استأذن عليه الصلاة وأفضل السلام، فقرَّب إليه أبي دابةً وطأها بقطيفة، دابة وضع عليها قطيفة كرامةً لرسول الله، قال له تفضل يا رسول الله، ثم قال لي يا قيس اصحب رسول الله، رسول الله سيركب وأنت ستظل معه حتى يصل إلى البيت، يخاف عليه من المُنافِقين أو من بعض الناس من الأعداء وما إلى ذلك، لا يعرف ما قد يحدث، لذا قال له اصحب رسول الله، فقال خرجت لأصحبه، فقال لي اركب، هذا هو موضوع الإرداف، فالنبي أردفه ولم يهن على النبي أن يركب ويترك الشاب يمشي، فقال له اركب، قال قلت لا، ما أن براكب يا رسول الله، هذه كبيرة، هل أركب خلف الرسول؟ والله كبيرة، قال له اركب، قال ما أن براكب يا رسول الله، قال إما أن تركب وإما أن تنصرف، لا يُمكِن أن تسير معي وأنا راكب، يا سلام، هذا هو التواضع، تواضع حقيقي، في الداخل نفس مُتواضِعة، قال له إما أن تركب وإما أن تنصرف، قال فأنصرفت، أهون علىّ أن أنصرف عن أن أركب خلف رسول الله على دابة واحدة، هؤلاء الناس كان يفهمون ويُقدِّرون، هذا ما يتعلَّق بإردافه عليه الصلاة وأفضل السلام، ولا تنسوا أن تُذكِّروني بحديث البخاري حتى لا أنساه.
من تواضعه وليانه ومُحاسَنته لأصحابه وأتباعه وأهل عصره ما قاله أنس، قال كان الرجل إذا جاء فالتقم أُذن رسول الله تركه رسول الله – لا يُبعِد رأسه ولا أذنه – حتى يكون هو الذي يتركه، يتركه يتحدَّث ويستمع إليه، ويظل أحدهم يقول له القصة كذا وكذا وكذا، والنبي كان يستمع، هذا التواضع الجم استغله المُنافِقون، نبتل بن الحارث أحد رؤوس المنافقين في المدينة – والعياذ بالله من النفاق ما ظهر منه وما بطن – ماذا قال؟ قال مَن هو محمد؟ مُجرَّد أّذن، هو آلة استماع، جهاز استماع، فقط يستمع إلى الناس ولا يُميِّز الصحيح من الغالط والحق من الباطل، فقط يستمع باستمرار، هل هو يستمع فقط؟ لذلك أقام دولة، لذلك بسط النور على العالمين، لذلك في عشر سنين عمل هذه المُعجِزات كلها لأنه لا يعرف كيف يُميِّز، سبحان الله، نعوذ بالله من عمى البصيرة ومن النفاق، هذه حقائق واضحة لائحة لكنه النفاق والكره والحقد، قال إنما هو أُذن، فأنزل الله – تبارك وتعالى – فيه وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ – أجابهم الله بطريقة أسلوب الحكيم وهذا يطول شرحه، لكن هذا أسلوب الحكيم على كل حال – قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ – فيتبع أوامره وينتهي عن مناهيه – وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ – ويرعى أمر الله في المُؤمِنين من أصحابه وأتباعه، فلذلك أتى قوله تبارك وتعالى من قائل يُؤْمِنُ بِاللَّهِ تمهيداً توطأةً لقوله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ – وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩ والعياذ بالله، إذن الله قال أُذُنُ خَيْرٍ ۩، بمعنى ماذا؟ يسمع ما يسمع ويسمع ما اتفق فلا يُؤاخِذكم حين تُخطئون، أليس كذلك؟ لا يقول أنا سمعت شيئاً فتعالوا نفتح تحقيقاً، إنما يُعرِض ويصفح ويتجاوز وكأنه ما سمع، هذا معنى قوله أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ ۩، حين يسمع بالحري يسمع أشياء سيئة تخصه وربما تخص أهل بيته وأصحابه المُقرَّبين، هل آخذكم؟ هل يفتح دواوين تحقيق في كل مرة؟ لا يفعل هذا أبداً ، الله قال هذا، وهنا قد يقول لي أحدكم من أين أتيت بها؟ أتيت بها من قوله قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ ۩، وبعد هذا كله لا ترون منه إلا الخير أيضاً، يا سلام، هذه أخلاق عظيمة، الله أمره بالإعراض عن مَن؟ عن الجاهلين، وأمره بالعفو والصفح، وهذه من أخلاقه، ولذلك قال الله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ۩، يُصدِّق المُؤمِنين وليس المُنافِقين، الله قال لهم لا تظنوا أنه لا يستطيع أن يُميِّز وأن ملكة التمييز ليس عنده، عنده ملكة التمييز في أعلى درجاتها ويعرف من كلام المُنافِق – وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ ۩ – أنه مُنافِق كذّاب، لكن أيضاً يُغضي ويُعرِض ولا يُؤاخِذ، ويُصدِّق المُؤمِن، ولذلك قال الله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ۩، لم يقل للمُتكلِّمين أو للقوالين أو لأٌقماع القول، وإنما قال لِلْمُؤْمِنِينَ ۩، يعرف أن هذا مؤمن وأنه لا يقول إلا الصدق، لماذا؟ لأن الإيمان لا يُجامِع الكذب، يجب أن يعلم المُؤمِن والمُؤمِنة أنه في خطر كبير إذا كان يكذب، الكذب ليس من جنس الإيمان، المُؤمِن لا يكذب، المُؤمِن دائماً خُطته الصدق، إلا أن يُكرَه إكراهاً شديداً عنده مخرج فيه، وذلك في دين الله تبارك وتعالى، فهذا أيضاً من تواضعه، إذا كان يسمع النبي، كذلك إذا أخذت يده تصافحه لا يسحب يده، يقول أنس حتى يكون الرجل الذي يُصافِح هو الذي يسحب يده، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون هو الذي يصرف وجهه عنه، النبي كان يخجل، ومن تواضعه أيضاً أن يصرف وجهه عنك، يبقى ينظر إليك إلا أن تصرف وجهك أنت عنه، هذا من تواضعه الجم عليه الصلاة وأفضل السلام، أيضاً من تواضعه – كما قلت لكم – عدم تمييز نفسه في المجلس، يجلس حيث انتهى به المجلس، يجلس في أي مكان، لا يُوجَد كرسي خاص لرسول الله ولا مكان خاصة لرسول الله ولبسة خاصة فانتبهوا، اليوم نحن عندنا علماء الدين سواء كانوا يهوداً أو نصارىً أو زرادشتيين مجوسيين أو مُسلِمين عندهم لباس خاص، أي عالم الدين عنده لباس خاص، من على بعد اثنين كيلو تعرف أن هذا شيخ أو هذا حاخام رابي أو هذا راهب أو قسيس، عنده لباس خاص، لكن النبي لم يكن كذلك أبداً، لم يحرص على هذا، بل حرص على العكس تماماً، يلبس كما يلبس أصحابه، لباسه مُتواضِع جداً، نظيف دائماً ومُعطَر، ولكنه مُتواضِع، وعلى ذكر اللباس حتى لا أنسى أيضاً في حديث لطيف جداً أتته هدية ذات مرة من المرات، واضح أنها هدية ملوك، هدية كبار طبعاً، وهى أَقْبِيَةً مِنْ دِيبَاجٍ – أي حرير، طبعاً هذه للنساء أو ربما كانت قبل تحريم الحرير على الرجال، والله أعلم – مُزَرَّرَةٍ بالذهب، أي أزراراها ذهب، هذه ثمينة جداً، كأنها هدية ملوك، فوزَّعها النبي في أصحابه، طبعاً لم يستبق شيئاً له أو لأهل بيته، وزَّعها في أصحابه، سمع مَن؟ مخرمة بن نوفل، هل تعرفون المسور بن مخرمة؟ هذا أبوه، وكان رجلاً شديد الخُلُق، في خُلُقه شيئ من الجفاء والغِلظة، وهو من سادات قريش أيضاً وعلماء أنسابها – من سادات قريش مخرمة بن نوفل – فأتى إلى بيوت النبي، فسمعه النبي يقول ادعه لي، جاء يُريد أن يأخذ قباء، يُطالب بشيئ له، والنبي – سبحان الله – يعرف هذا، وقالوا ليس عنده ذكاء، بل عنده ذكاء بارع ، فاستقبله النبي وكان قد خبأ له – وضعها جانباً قباء منها بأزرارها، كأنه يقول له لا تخف هذه قباء وبالذهب أيضاً، من المُؤكَّد أن عينك على الذهب فلا تخف، يقول الراوي فاستقبله بأزرارها، يقول له يا أبا المسور خبأت لك هذا، يا أبا المسور خبأت لك هذا، فرضيَ الرجل، فرح وانبسط بعد أن أتى لكي يصنع مُشكِلة وقال ادعه لي، انظروا إلى النبي، عنده ذكاء عاطفي، يعرف أنه حريص على القباء ومن ثم خبأها له، ومع ذلك يُقال عنه ليس عبقرياً، كيف لا يكون عبقرياً؟ هو عبقري، الله خلقه عبقري لوذعي، كان شديد الذكاء والملاحظة عليه الصلاة وأفضل السلام.
أما هو في لباسه فكان مُتواضِعاً جداً، كان إذا جلس في مجلس – كما قلنا لكم – لا يُعرَف حتى يسأل السائل مَن محمد فيكم؟ لا يعرف أين هو، لا يُوجَد تميّز لا في اللباس ولا في الموضع، يجلس في أي مكان ولباسه مثل لباسهم فلا يُعرَف، حين مر على امرأة تبكي قتيلاً لها – أحد الموتى أو الشهداء وأنتم تعرفون أن الحديث في الصحيح – على قبر وصاها أن تصبر وأن تحتسب وما إلى ذلك، فقالت له إليك عني، فإنك لم تُصب بمثل مُصابي، لو أُصِبت بمثل مُصابي ما قلت هذا، كأنه تقول له أنت أتيت لكي تُصبِّرني وتعِظني وتُحدِّثني عن مواعظ لأنها لا تعرف أنه النبي، فالنبي تركها ولم يغضب ولم يفعل أي شيئ، هو نصحها لله وانتهى الأمر ومن ثم تركها، وهذا أيضاً من تواضعه، انصرف عليها السلام، فقيل لها يا ويحك يا أمة الله، أما تعلمين مَن هذا؟ قالت مَن هذا؟ قالوا رسول الله، ومن ثم هذه المرأة أخذها النافض، ما هذه المُصيبة؟ فأتته في داره قائله يا رسول الله والله ما علمت أنك هو، فاكتفى بالتعليق بالقول فقط إنما الصبرُ عند الصدمة الأولى، ليس المقصود أن تعرفيني أو لا تعرفيني، المقصود رب العالمين فنصبر على قضائه، هل الآن أتيتِ لكي تظهري أنكِ قبلتي بموعظتي لأنني الرسول؟ إنما الصبر عند الصدمة الأولى، فهو حتى لا يرى نفسه في البين دائماً، عنده – سبحان الله – تواضع عجيب، عليه الصلاة وأفضل السلام.
الحديث الذي نسيته ولا أريد أن أنساه – كما قلت لكم قلَّ أن نسمع به على أنه في صحيح البخاري – هل تعرفون ما هو؟ يقول أنس جاءه رجل وقد أّذِنَ للصلاة وأُقيمَت الصلاة يُساره ويناجيه، والنبي يصبر عليه ويسمع النجوى حتى نام الصحابة، واضح أن الصلاة هى صلاة العشاء، هذه صلاة العشاء والناس مُتعَبة، وهذا الرجل أتى يحكي قصته، والنبي صبر عليه حتى نام الصحابة، إلى أن قضى الرجل حديثه من رسول الله، حكى له القصة كلها من طقطق للسلام عليكم كما يُقال، وواضح أنها قصة طويلة، ربما استغرقت ساعة أو ساعة وربع، وقام الرسول يُصلي، انظروا إلى مقدار الرحمة والتواضع أيضاً، لم يقل له توقَّف عن الكلام فقد أُذِّنَت للصلاة، وأنا قلت لكم أنني حضرت مع بعض المشائخ الفضلاء موقفاً لكنني لم أُكمِله وهذا سبب استدعائي للحديث، حيث جاء أحد الكُبراء – رجل كبير من نبلاء الناس والله – إلى شيخ يُكلِّمه في مسألة مُعينة، فأُذِن للصلاة فقال دخل وقت الصلاة يا أخي، وكسر بخاطره، طبعاً يتأثَّر هذا الرجل، أنا رجل كبير من علية القوم، هل إذا أُذِّن للصلاة انتهى كل شيئ في لحظة؟ ما هذا الورع الزائد؟ النبي لم يفعل هذا، النبي استمع حتى نام الصحابة، الصحابة ناموا والنبي يستمع إليه، لا يُريد أن يكسر بخاطره وأن يُؤجِّله، صلى الله عليه، صعب أن نفعل هذا، لكن هذه أخلاق الرسول.
يطول الحديث وقد أدركنا الوقت وأطلت عليكم فأكتفي بهذا القدر وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستعفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله:
إن خير ما نحل عبدٌ مُسلِم أو أمةٌ مُسلِمة ابنه أو ابنها أو ابنته أو ابنتها الخُلُق الحسن، فاحرصوا بالله عليكم يا إخواني ويا معشر الآباء والأمهات أن تجتهدوا كثيراً في حث أولادكم وفي تنمية وتثمير وتكثير وترسيخ وتعزيز الأخلاق الحسنة في أولادكم، وطبعاً هذا يحتاج إلى شيئ من معرفة كما قلنا، وهذا الجزء السهل في القضية، أن تعرف هذه الأشياء، وهذه مسألة ميسورة إن شاء الله، موجودة في الكتب وفي المُدوَنات والكتب العلمية بالذات وكتب الحديث وكتب الشمائل المحمدية، هذا كله موجود إن شاء الله، وكما قلنا لكم القضية سهلة، لن تتهوكوا فيها، ليس لازماً أن تقرأ كتب فلسفة الأخلاق ونظريات الأخلاق ومن ثم تكون عندك آراء مُختلِفة ولا تعرف ماذا تفعل، نحن لا نُريد هذا، نحن أمامنا مَن؟ المثل الأعلى، هو أمامنا وهذه خُطتنا، نأخذ أخلاقه فنتربى ونُبري عليها، ومن ثم – الله العظيم – نكون قَمنا بالتربية السليمة بنسبة مائة في المائة، ولا يستطيع أي أحد في العالم كله أن يأتي ويقول هذه أخلاق سيئة، هذا مُستحيل والله العظيم، أي بشر عادي مُستقيم في التفكير والنفس والوجدان سيُعظِّم هذه الأخلاق، من أين أتيتم بها؟ نقول له هذه أخلاق النبوة، هذه أخلاق حبيبنا محمد، من ضمنها فقط وأختم بها العزة، لماذا أحكي هذا؟ نرى ذُلاً للأسف في كثير من المُسلِمين، يُوجَد نوع من الذل، ليس ذلاً أمام السلطات فقط بل أمام كل مَن هو فوقه في أي شيئ، سواء فوقه في علم أو فوقه في مال أو فوقه في سلطة ومن ثم تجد ذلاً، لكن النبي علَّمنا غير هذا، إياك والذل إلا لله، يُوجَد احترام – كما قلت لكم – وإنزال الناس منازلهم، المُسلِم ليس وقحاً، لكن لا يُوجَد ذل إلا لله، يُوجَد احترام ويُوجَد تقدير لكن مع عزة، لماذا إذن؟ قال الله وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ۩، المُؤمِن عزيز، المُؤمِن لا يذل، والنبي قال :مَنْ تَوَاضَعَ لِغَنِيٍّ لِأَجْلِ غِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ، لأن عينك على أمواله ومن ثم تتذلل له وتُنافِقه، لماذا؟ والله العظيم لن يصلك إلا ما قدَّر الله لك وأُقسِم بالله على هذا، وأنا أقول لك بالذل وبالكذب ستُحرَم، الله سيعد هذا ذنباً وبالذنب يُحرَم المُؤمِن الرزق يكون مكتوباً له، لذلك اطلبوا ما عند الله مما في أيدي الناس وغير أيدي الناس بعز الأنفس، ولا تطلبوه بالحرام، خُلُق العز تحتاجه أمتنا، هل تعرفون لماذا؟ لأن أحوالنا تدهورت كثيراً وسوف تتدهور بسبب هذا الذل، كما قلنا مرة في خُطبة سابقة بسبب نفسية الشحاذين، الكل يشحذ، المُفكِّر يشحذ، الشيخ يشحذ، العالم يشحذ، الكل يمد يده لأنه يُريد ويطمع في الدنيا، لكن لا تطمع إلا فيما عنده الله تبارك وتعالى، وكُن عزيزاً دائماً، وما قدَّر الله لك يأتيك – بإذن الله تعالى – وأنت عزيز النفس، النبي كان عزيزاً، وكلكم تعرفون قصته التي قال فيها يا عم – والله – لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته، أليس كذلك؟ هذه عزة، عزة بالله.
اللهم أعزِنا بك ولا تذلِنا بمعصيتك والمُخالفة عن أمرك يا رب العالمين، أغنِنا بالإفتقار إليك ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تُبلِّغنا به رضوانك، اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها وخير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك يا رب العالمين، اغفر لنا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، ولوالدينا ولمَن حضر برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم جنِّب أمة محمد الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن، وأصلِح ذات بينهم برحمتك يا أرحم الراحمين، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (30/5/2014)
أضف تعليق