إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْده وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ۩ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ۩ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ۩ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ۩ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ۩ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ۩ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ۩ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ۩ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ۩ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ۩ قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني في الله وأخواتي:
لا أستطيع أن أتخيَّل حياتي بغير الإسلام، رؤيتي للحياة ومبادئي وأخلاقي وتأميلاتي وعزاءاتي وسلواني وموقفي من الغيب ومن الشهادة ومن الوجود ومن الطبيعة ومن الناس ومن المُجتمع، لأن الإسلام يُشكِّل ذلك كله جُملةً واحدة، وهذا مفهوم أن يصدر من مُسلِم مُهتَم ولو قليلاً بدينه، لكن الذي يبدو أكثر إثارةً للاهتمام وأكثر لفتاً ألا يُتصوَّر ليس مُجرَّد عدم حياة شخص بغير هذا الدين وإنما عدم حيوات أمم وشعوب وعدم حضارة بكلياتها بغير هذا الدين، طبعاً ليست الحضارة الإسلامية كما يُمكِن أن يذهب وهمكم إليه، بل الحضارة الأوروبية والحضارة الغربية، لا يمُكِن تصوّر نشوء وقيام ووجود هذه الحضارة بغير الإسلام، لكن للأسف هذه الحقيقة يعرفها جيداً البعض، إنها ثُلة منزورة وقلة قليلة يتيمة من صادقي وموضوعيي المُؤرِّخين الغربيين الذين قرَّروا هذه الحقيقة وأقاموا عليها مئات إن لم يكن آلاف الشواهد والأدلة، أن الحضارة الأوروبية الغربية هي بنت الحضارة الإسلامية، لولا حضارة الإسلام لما كانت النهضة بالمُطلَق ومن غير تردد ومن غير ارتياب وشك، لكن للأسف الشديد رغم فقاعة ونصاعة ووضوح هذه الحقيقة فإنها لا تزال غير حقيقة، لأنها لا تُذكَر ولأنها لا تُبحَث ولأنها لا تُدرَّس ولا تُموضَع في المناهج الدراسية، أحد المُستشرِقين الفرنسيين يُلاحِظ في كتابه المُعجِزة العربية – سماه المُعجِزة العربية Le miracle arabe – أن التاريخ الفرنسي الذي يُقدَّم للفرنسيين بدءاً من المدرسة وأنتهاءً بالجامعة يقوم على انتقائية فاضحة تتخطى تقريباً الإسلام والمُسلِمين وأياديهم البيضاء بشيئ في هذه المناهج تماماً إذا استثنينا أسماء معدودة مثل ابن رشد ومثل ابن سينا وسليمان القانوني وشيئاً طبعاً يتعلَّق بالصليبيات من منظور تزييفي ومن منظور سيناريوهات تاريخية بديلة تقريباً علاقاتها بما جرى وعلاقاتها بالحقائق جد باهتة وواهية وضعيفة، فإذا استثنينا هذا تقريباً لا يكاد يُذكَر الإسلام والمسلمون وأياديهم البيضاء بشيئ في هذه المناهج، يقول هنا فجوة – Gap – كبيرة مهولة يتم تخطيها ليُصوَّر التاريخ الغربي على أنه تقريباً امتداد سلس باستثناء مراحل من الخمود ومن النعس ومن التعب اعترته ثم واصل بعد ذلك امتداده، فهو امتداد طبيعي منطقي سلس للتراث الإغريقي والروماني إلى أن نصل إلى عصر النهضة ومشارف العصر الحديث، هذا هو، ما علاقة العرب؟ ما علاقة المُسلِمين؟
لماذا نبحث هذا الموضوع؟ ليس فقط من أجل أن العقد الأخير أو العقود الأخيرة – إن شئنا الدقة – شهدت بعض المُصنَفات وبعض الكتابات والدراسات الغربية الجادة جداً والمُنصِفة إلى حد بعيد التي نطقت بالحقيقة وكسرت مُؤامَرة الصمت، مُؤامَرة صمت عمرها زهاء ثمانية قرون، شيئ لا يكاد يُصدَّق، لأن أوروبا في المُتوسِّط بقيت تلميذةً مُتواضِعة بسيطة لكن ليست وفية بل جاحدة ومُنكِرة للحضارة الإسلامية وللمُسلِمين نصف ألفية، وهذا رقم مُذهِل، أي خمسمائة سنة أوروبا وتتلمذ علينا، جامعات أوروبا الأولى والكُبرى تأثَّرت بنا، جامعة نابولي Napoli أسسها فريدريك Frederick، الإمبراطور الروماني المُقدَس فريدريك الثاني Frederick II إمبراطور صقلية وطبعاً ألمانيا وايطاليا، هو إمبراطور روماني مُقدَّس والذي بسب انحيازه للفكرة والمبدأ الإسلامي بل وحتى بسبب انحيازه للمُسلِمين كبشر أحضرهم في بلاطه على الدوام وفي جيشه، كان هناك له جيش مُسلِم، جيش مُتكامِل تقريباً من المُسلِمين الذين يصلون الأوقات الخمسة في الجيش، يُكبِّرون ويشهدون لله بالوحدانية ولمحمد بالرسالةوعنده حريم كحُكّام العرب، عندهم مُحرَّم أن يتزوج اثنتين أصلاً لكن هو عنده حريم، وصُعِقت الكنيسة وذُعِرت وحذَّرته أكثر من مرة وكانت عاقبته أن أُلقيَ عليه الحِرم – يُسمى الحِرم أو الحرمان Excommunicate – الكنسي مرتين لا مرة واحدة، فهم حرموه مرتين، لعنوه وطردوه من ملكوت المسيح ورحمة الله مرتين لا مرة واحدة، جامعة نابولي Napoli التي بناها هذا الرجل من أوائل الجامعات في أوروبا، تقريباً كانت جامعة إسلامية، تُدرِّس المُقرَرات الإسلامية، ومناهجها مناهج المسلمين في الأندلس وفي بغداد بالذات، أول جامعة طبية في أوروبا ساليرنو Salerno في إيطاليا أيضاً، وهي جامعة إسلامية، تُدرِّس المناهج الإسلامية والكتابات الإسلامية، ليس فقط في الطب وعلم العقاقير وعلم الميكانيكا والحيل وعلم الفلك والهيئة بل حتى في الفنون والآداب والموسيقى، حتى في المطبخ وحتى في الأزياء وحتى في قصة الشعر وحتى في الشِعر، في كل شيئ، طوابع الإسلام والمسلمين كانت قوية جداً، لقد وُلِدوا من رحمنا، وُلِدت النهضة الأوروبية من رحم الحضارة الإسلامية، هذه هي الحقيقة الفاقعة، والشواهد عليها كثيرة جداً.
لا نتناول هذا الموضوع ولا نطرقه لأنه بلا شك موضوع غير مُناسِب لخُطبة، هذا موضوع مُناسِب لدورة كاملة وسلسلة مُحاضَرات وأكثر من ذلك طبعاً لدراسات، وينبغي أن يجتهد المُسلِمون في إعداد دراسات لا تعتمد على التكرار وعلى استعادة واستشهاد واقتباس ما قال الآخرون وإنما على بحثنا الذاتي أيضاً وعلى التنقيب في الأغوار لكي نأتي بالجديد والجديد كثير جداً، يكفي أن نُشير وأن نلفت فقط إلى أن المكتبة الكُبرى في الفاتيكان Vatican لا تزال تضم في أرففها وبين جوانحها الألوف من المخطوطات العربية الإسلامية، الألوف من الكتب التي سُرِقَت وتُدوِّلَت وأُعيد انتاجها وصياغتها، لغة مُختلِفة وصياغة مُختلِفة في المراحل الأولى، ثم بعد ذلك بلغوا بها إلى غايات بعيدة جداً ولا نستطيع أن نُنكِر هذا، فهم بلغوا بها إلى غايات بعيدة جداً، لكن هناك الكتب المؤسِسة والنصوص المُؤسِّسة في الرياضيات وفي الحساب وفي الجبر والمُقابَلة – الخوارزمي – وفي الطب وفي العقاقير وفي الفلك وحتى – كما قلت لكم – في الموسيقى وفي الفن الإسلامي، هذه النصوص المؤسِسة الأولى تم اختلاسها وتمت سرقتها وسُكِتَ على ذلك، كما قلت مُوامَرة صمت، لأنها فضيحة حقيقية، الباحث المُنصِف ديكتريسي يقول هذا لقد اكتُشِفَ مخطوط يعود إلى ألف وثلاثمائة وخمسين، تمت ترجمته طبعاً من العربية إلى اللاتينية كما كانت الترجمة آن ذاك، إنه يضم أعمال الرياضي واللاهوتي المُتكلِّم والفيلسوف والفلكي العظيم – أعظم فلكيي وقته وعصره ومن أعظم الفلكيين في العصور كلها – نصير الدين الطوسي، الخواجة نصير الدين الطوسي باني مرصد مراغة في أذربيجان حالياً، الطوسي عقلية مُذهِلة مُخيفة وعقلية موسوعية بكل المعايير، وهذا الرجل كان أحد الفلكيين المُسلِمين الكبار الذين سجَّلوا نقودهم – أي انتقاداتهم – العلمية الدقيقة على بطليموس Ptolomeo ونظريته المُسماة بمركزية الأرض، نظرية مركزية الأرض Geocentric Theory التي ترى أن الأرض هي مركز الكون وأن الشمس والنجوم والكواكب السيارة كلها جميعاً من عند آخرها تدور وتلف حول الأرض، ها العالم الكبير شأنه شأن أبي عبد الله البتاني وشأن أيضاً أبي الحسن الشاطر الدمشقي الفرضي والمُؤقِّت والمُؤذِّن والعالم الفلكي المُذهِل، هؤلاء سجَّلوا نقوداً قوية ودقيقة جداً وقدَّموا نظريات بديلة، هناك مُزدوَجة الطوسي، نظرية شبه مُتكامِلة وهي التي ألهمت وأرشدت القس والعالم الفلكي الشهير نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus الذي تُنسَب إليه أعظم ثورة علمية، كل ثورة علمية بذاتها وفكرية تُشبَّه بالثورة الكوبرنيكية Copernican Revolution، يقولون ثورة كوبرنيكية في الأخلاق أو ثورة كوبرنيكية في الاقتصاد أو ثورة كوبرنيكية في علم الأحياء وهكذا، لأنها أصبحت أيقونة Icon الثورات العلمية، الثورة الكوبرنيكية أيقونة Icon الثورات العلمية، ديكتريسي يقول لما اكتُشِفَ هذا المخطوط – طبعاً هو قبل قبل نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus بزُهاء مائة وخمسين سنة، وهذا المخطوط مُترجِم، وأصله العربي محفوظ – قارنا بين الطوسي ومُزدوجَة الطوسي وبين نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus ووجدنا أن حتى البيانات والرموز الهندسية هي ذاتها، هذا ليس اتفاق آراء وخواطر، هذه سرقة واضحة، هذا الآن بدأ يُقال، لكن يقوله – كما قُلت لكم – ثُلة قليلة من مُورِّخي الفكر والعلم في أوروبا وفي العالم الجديد، لأن مُؤامَرة الصمت لا تزال أيضاً مُستمِرة، حاول أن يكسرها هؤلاء لكنها مُستمِرة، ما ينبغي أن يُقال هذا، ترتعد فرائسهم من أن يُقال هذا، هذا الجحود الأكبر، أنا أسميه الجحود الأكبر، أوروبا والجحود الأكبر.
مارك جراهام Mark Graham يختم كتابه المُنصِف المُمتِع واللاذ كيف صنع الإسلام العالم الحديث How Islam Created the Modern World – أي كيف خلق أو كيف صنع أو كيف شكَّل الإسلام العالم الحديث، وقد تُرجِم هذا الكتاب المُهِم – قائلاً من كثرة ما أخذنا عنهم صرنا نُنكِر أننا أخذنا عنهم أي شيئ، لأن الذي أخذناه عنهم ليس شيئاً يسيراً، هذه الجُملة أعجبتني جداً، وهي جُملة تقريباً تضع أيدينا على المفتاح النفسي وعلى المُؤشِّر النفسي لتحليل هذه الظاهرة الجحودية، ظاهرة الإنكار المرضية لأنها بشكل مرضي، خلافاً تماماً للمسلمين، سبحان الله يا أخي المُسلِمون عندهم آداب، هذه آداب قرآنية وآداب مُحمَّدية وآداب العدل، المُسلِمون القيمة المُطلَقة في دينهم هي العدل، قبل فترة يسيرة جرى بيني وبين أحد الفُضالى النقاش عن القيمة المُطلَقة في الإسلام كقيمة فقلت له العدل، أي العدل كقيمة، وبالعدل قامت السماوات والأرض كما يقول المُسلِمون وينسبون هذا إلى رسول الله، قال الله وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩، الله – تبارك وتعالى – علَّل لإنزال الكتب وإرسال الرسل بالبينات بماذا؟ قال لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ ۩، قال من أجل العدل، ومن العدل أن يُنسَب الشيئ إلى صاحبه وأن يُعزى الفضل إلى أهله، السرقة ليست عدلاً، أن تسرق جهود الناس ثم تسكت ثم تنسبها إلى نفسك هو ظلم فاضح، هذا ظلم ومرض في النفس والتواء في النفس، على كل حال جراهام Graham في هذه الكلمة يضع أيدينا – كما قلت لكم – على المفتاح وعلى المُؤشِّر النفسي الذي نحلِّل به هذ الظاهرة، لو كانوا أخذوا أو اقتبسوا أو استشاروا أو سرقوا شيئاً قليلاً يُمكِن أن يعترفوا به، لماذا؟ لأن لديهم الكثير الذي يُثبِّت الاستقلالية والشخصية، كأن يُقال نحن أبدعنا الكثير وأخذنا القليل، لا بأس فهكذا هو الشأن البشري وهكذا هي طبيعة الثقافات والحضارات التي تتلاقح وتتثاقف وتتلاقى وتتبادل التغذية والمُساعَدة والمعونة، لكن أن يأخذوا تقريباً كل شيئ وأن يُؤسِّسوا كل شيئ على اساس إسلامي وعلى أساس عمل المسلمين فهذا شيئ فاضح، يشعرون هنا بزوي الشخصية وبذوبانها، أنه لا شخصية لهم، على ماذا أسَّستم أنتم؟ إذن هم بدأوا من حيث انتيهنا، هذا هو فقط، إذن كأنهم استمرار للحضارة الإسلامية، لولا المُسلِمون لما كانت أوروبا، هذا مُستحيل، والعجيب جداً – وهذا فصل غريب – أن دائماً ما يُنكِر أو ما يسكت الأوروبيون عن فصل في تاريخهم الأقوامي، إنه الغزوة المغولية أو الغزوات – سلسلة الغزوات المغولية – لأوروبا، مَن مِنكم سمع بهذا؟ وهذه سلسة مُريعة ومُخيفة، المغول لم يغزوا فقط خوارزم وإيران والعالم الإسلامي الشرقي فقبل ذلك هم غزوا أوروبا، بدأوا بروسيا طبعاً – أوراسيا – وبلغاريا وبعد ذلك جاءوا على المجر وبعثوا البعثات الاستكشافية للنمسا، ولم يكن في النمسا ولا في ألمانيا أي شيئ يُمكِن أن يحول دون تقدمهم المُدمِّر الكارثي، أيام جنكيز خان Genghis Khan قتلوا فقط في غزوة واحد مائتين ألف من الروس، في ست سنوات بعد ذلك في سنة ألف ومائتين وإحدى وعشرين وبعد ذلك بست سنوات تقريباً دمَّروا روسيا وساهموا في تأخيرها لمئات السنين المُقبِلة، وتقدَّمت أوروبا وكانت روسيا لا تزال في الحضيض، دمرها المغول تدميراً كاملاً والعياذ بالله، كما فعلوا في بغداد، حدث تدمير كامل ثم أتوا إلى هنغاريا وكانت معركة موهي، إذا سألت أي هنغاري أو أي مجري وقلت له ما هي الكارثة الكُبرى في تاريخكم؟ إذا كان يعرف تاريخه – وبالحري يعرفون هذا – فإنه سوف يقول لك معركة موهي بخجل، ما هي معركة موهي؟ قالوا يُسكَت على هذا، معروف أن في التاريخ الغربي يُسكَت على الغزوات المغولية لأوروبا، لماذا؟ هنا قد يقول لي أحدكم واضح طبعاً أن عندهم عقدة التفوق – Superiority – وعقدة العظمة، أننا دائماً نحن مُتفوِقون ودائماً لا شيئ يُهدِدنا حقيقةَ ونتغلَّب على كل تهديد، نحن المُنتصرِون ونحن الظافرون، هذا إلى حد ما صحيح لكن ما هو أكثر صحةً أن الذي أنقذهم أيضاً من الغزوات المغولية التي لو استمرت لانتهت أوروبا ولما كانت أوروبا هو العالم الإسلامي، ولذلك الآن بدأنا نسمع بعض المُورِّخين الغربيين يصدحون بالحقيقة المُتألِقة، يقولون لولا عين جالوت لانتهت أوروبا، عين جالوت في ألف ومائتين وستين وذلك في القرن الثالث عشر الميلادي، الملك المُظفَّر قطز – رحمة الله تعالى عليه وطيَّب الله ثراه وذكره – هو الذي وقف الغزو المغولي على الشرق الإسلامي، جاءت تُريد أن تحتل بقية بلاد الشام ومصر فذهب إليهم هو – رحمة الله تعالى عليه – بعد أن اصطلح مع بيبرس الذي كان فاراً منه – القضية المعروفة تاريخياً – في بلاد الشام وعرض بيبرس مساعدته والتقيا في عين جالوت مع هؤلاء، طبعاً القائد الأكبر هولاكو Holako كان مُضطَراً أن يعود إلى منغوليا لأن الخان Khan الأعظم مانكو Möngke لقيَ حتفه، والمغول تقاليدهم تقضي بأنه حين يموت ويقضي الخان Khan الأعظم – ملك القبيلة الذهبية كما يُقال – ينبغي على الورثة مُباشَرةً أن يعودوا دون أي حساب لأي شيئ، لا تقل لي فتوحات أو حروب، ينبغي أن تعود مُباشَرةً إلى منغوليا ليتم انتخاب الخان Khan الجديد، فعاد هولاكو Holako لكن ظل رجله الثاني كتبغا Kitbuga الذي كان نصرانياً، هذا المنجولي كان مُتنصِّراً وحاقداً على الإسلام حقداً شديداً، زوجة هولاكو Holako أيضاً كانت نصرانية وحاقدة على الإسلام حقداً شديداً، وهذا الذي يُفسِّر لنا الحقد الشديد عند هولاكو Holako على الإسلام، لماذا الإسلام بالذات؟ لأن زوجته ورجله الثاني – يده اليمين كما يُقال أو ساعده اليمين – كانا نصرانيين وكانا يُكرِّهانه باستمرار في الإسلام، كتبغا Kitbuga لقيَ حتفه في عين جالوت بحمد الله تبارك وتعالى، وهُزِموا شر هزيمة، طبعاً قتل بيبرس للأسف الشديد – وهذه مصائب المسلمين – بعد هذا النصر المُظفَر وهذه الكرامة الكُبرى للمُسلِمين – قطز في الطريق ويستولي على حكم مصر، ولكن يعلم أن أحد ملوك المنغول – Mongol – الكبار قد أسلم، فصار يُحرِّضه على أخيه المنغولي، وهكذا لم ينته القرن حتى تفككت إمبراطورية المنغول بالكامل تقريباً، لم تعد قوة مرهوبة، ونجت أوروبا، الآن يقول المُورِّخون الأوربيون المُنصِفون نجت أوروبا بفضل المسلمين، لأن الخُطة كانت تقضي بأن يُنتهى من العالم الإسلامي ثم نعبر من جديد إلى أوروبا لكي نأتي عليها بالكامل، هذا هو نداء الله.
إنوسنت الرابع Innocent IV – البابا البريء – يبعث إلى الخان Khan الأعظم في وقته بعد هلاك جنكيز خان Genghis Khan يدعوه ويتألَّف قلبه – يستألفه وقد بعث له هدايا فاخِرة ثمينة – ويقول له على لسان سفيره أو مبعوثه أو رسوله قل له البابا يقول إنه يتمنى ويرى أنك سوف تعرف طريق الهداية وتتعمد على يدي، فيرد عليه الخان Khan الأعظم لو كان البابا يعرف مصلحته ومصلحة شعوبه لدخل تحت لوائي مُباشَرةً وجاء يُقدِّم فروض الطاعة والولاء، لأنني أنا صورة الرب على الأرض والرب هو الذي يأمرني بأن أفتح العالم، هذا كان اعتقاد المنغول Mongols، أي المغول، اعتقادهم كان أنهم منذورون من القدر الإلهي لفتح العوالم، فكان لابد أن تُفتَح أوروبا وكانت سهلة تماماً أمامهم كما قلت، أنجزوا ما عجز نابليون Napoléon في وقته وهتلر Hitler في زمانه عن إنجازه، نجحوا في غزوة مُظفَرة لروسبا في الشتاء، المغول نجحوا لأول مرة، نابليون Napoléon عجز عن ذلك تماماً، هتلر Hitler عجز تماماً وتحطَّم في روسيا أمام الجنرال شتاء، لكن المنغول Mongols أو المغول نجحوا في ذلك، جنكيز خان Genghis Khan وورثة جنكيز خان Genghis Khan فعلوا هذا، وهذا لا يُذكَر، الآن فهمنا لماذا لا يُذكَر، لذلك لو كانت الأمور تسير بمنطق العرفان وبمنطق الحقائق – أي بمنطق أخلاقي ومنطق حقائقي – لكان ينبغي أن تكون أعظم الصلات الطيبة وأطيبها وأقواها بين أوروبا وبين المُسلِمين، يقولون لهم أنتم أعظم الناس فضلاً علينا وذلك في مرتين، مرة حين أنقذتم أوروبا من هذه الجحافل المُتبربِرة المُدمِّرة ومرةً أخرى حين قدمتم لنا هدية العلم والحضارة، الآن بدأنا نرىبعض المُؤرِّخين – مُؤرِّخي العلم – يُصرِّحون بل يُؤلِّفون كُتباً عنوانها أن الإسلام هو الذي ولد العلم الحديث، ليست أوروبا وليست النهضة، أين وُلِدَ العلم الحديث؟ في بلاد المسلمين، وأعني العلم الحديث التجريبي وليس العلم التأملاتي، أوروبا حتى حين بدأت تأخذ هذا العلم وتدرسه وتتدارسه وتتواصى بتثميره للأسف انحازت في أحايين كثيرة إلى الجزء الذي لا يُمثِّل جوهر العلم الحديث، لأنها كانت لا تزال واقعةً في قبضة الخرافة وفي قبضة الجمود والتحجر والجهل، سأضرب مثالاُ الآن، لدينا القانون لابن سينا في الطب – مثلاً – ولدينا الحاوي للرازي – لأبي بكر محمد الرزاي – وهو مُتقدِّم على ابن سينا كما تعلمون، وأوروبا احتفت بالكتابين، لكن الكنيسة صادقت على أي كتابين؟ على ابن سينا وليس على الرازي، الجامعات هنا اعتبرت الكتاب الأعظم والأهم – إنجيل الطب – ابن سينا أو الرازي؟ ابن سينا وليس الرازي، مع أن كتاب الرازي يتفوَّق على ابن سينا في نواحي تَمُت إلى جوهر العلم، ابن سينا كان أقرب إلى روح النظرية لأنه كان فيلسوفاً منطقياً وكان فيلسوفاً مشائياً، كان فيلسوفاً أرسطياً، وأرسطو Aristotle لا يحترم التجريب، أرسطو Aristotle يحتقر التجريب، وأنتم تعرفون هذا جيداً، فابن سينا كان فيه للأسف بقايا كثيرة من هذه النزعة الأرسطية، ولذلك أعرب في كتابه عن عدم احترامه لكثير من آراء أبي بكر الرزاي، أبو بكر الرازي كان على العكس تماماً، كان رجلاً يزهد كثيراً في التنظير وفي النظريات التأملية التي ترى أن التعاليم تحتوي الحقائق، تعاليم أرسطو Aristotle في الفلسفة، تعاليم جالينوس Galenus، وكذلك أبُقراط Hippocrate في الطب، وحتى الهيئة والطبيعة في الكتاب المُقدَس هي تعاليم، هذه اسمها تعاليم، فالحقائق بنت التعاليم، ابن سينا كان أميل إلى هذا، أن الحقائق هي بنت التعاليم وبنت النصوص المُقدَّسة، النص المُقدَّس في الفلسفة كتاب أرسطو Aristotle، النص المُقدَس في الطب – مثلاً – كتاب أبُقراط Hippocrate وهكذا، لكن الرازي لم يكن كذلك أبداً، كان يرى أن سبيل الحقيقة هو المُلاحَظة الفردية والتجريب وأن الاختبار المُباشِر هو روح العلم الحديث، ولذلك ميزة الحاوي أنه يُعتبَر فعلاً خلاصة موسوعية لكل الطب إلى وقته، الطب الإسلامي العربي والطب اليوناني – الأبُقراطي والجالينوسي – والطب الهندي والطب الفارسي، هذا كله في الحاوي، الذي تُرجِم إلى اللاتينية وبقيَ يُدرَّس خمسمائة سنة، دُرِّسَ لكنه لم يكن الكتاب الأول، القانون كان الكتاب الأول، وظل يُدرَّس في بعض الأصقاع إلى القرن الثامن عشر، لكن ككتاب رئيس إلى القرن السادس عشر وفي بعضها إلى القرن الثامن عشر، الآن سأُعيد الحوصلة لكي أوُضِّح لكم لماذا وما هو السبب، كتاب الحاوي Al-Hawi تُرجِم إلى اللاتينية باسمه تماماً، اسمه الكتاب الشاملLiber continens، وكلمة Liber معناها باللاتينية كتاب، وحتى بالإسبانية إلى اليوم يُقال Libro لأنها لاتينية، لذا Liber Continens تعني الكتاب الشامل أو الكتاب الحاوي Al-Hawi، لأن كلمة Continens تعني مُحتوى، أي أنه بنفس الاسم، هذا الكتاب الحاوي Al-Hawi كان مُدهِشاً ولا يزال في مُلاحَظاته العيادية والإكلينيكية والسريرية، الرجل يتحدَّث عن مُلاحِظات إكلينيكية سريرية وعنده أوصاف دقيقة كتاب الرازي في الجُدري والحصبة مُعجِزة، مُعجِزة من معاجِز التأليف الطبي وتُحفة علمية فريدة، لأول مرة في تاريخ الدنيا يُميَّز بين الحصبة والجدري، كان الأطباء لا يُميزون بينهما، ويذكر قائمةً دقيقة بالأوصاف التي تُعين في التشخيص التفريقي – كما يعلم الأطباء – فنعرف أن هذه حصبة Measles وأن هذا الجُدري، ثم يُعالِج بعد أن عُنيَ بالنواحي العلاجية ويتعاطى مُعالَجة النواحي التجميلية، لكي لا تبقى الندوب، وتعلمون كيف هذا، فهو يتعاطى مُعالَجة النواحي التجميلية لكي لا تبقى الندوب، وخاصة في الجُدري بالذات أكثر منه في الحصبة، فكان يُقدِّم هذا، كان رجلاً عجيباً، ولذلك مُلاحظَاته أيضاً العيادية في طب الأطفال جعلته يحظى في أوروبا الوسيطة والحديثة أيضاً بعنوان أو بلقب أبي طب الأطفال، مَن هو أبو طب الأطفال؟ أبو بكر محمد الرازي، ابن سينا لم يكن كذلك، ابن سينا – كما قلت لكم – يميل إلى النظرية أكثر كفيلسوف ومنطقي أرسطي، أوروبا تعصَّبت لابن سينا بإزاء الرازي أو على الرازي، لماذا؟ لأنها لم تستوعب منطق العلم الحديث، لا تزال واقعة في قبضة التأمليات وفي قبضة مبدأ أن الحقيقة بنت التعاليم، كانوا يقولون لماذا نلاحِظ؟ ولماذا نُجرِّب؟ هذا كله مكتوب وقد جالينوس Galenos كذا وكذا، المُسلِمون من أول يوم – كما قلت لكم هذه أخلاق المسلمين – قالوت نحترم جالينوس Galenos جداً ونحترم أبُقراط Hippocrate، ونحترم بطليموس Ptolomeo ونحترم أرسطو Aristotle ولكن احترامنا لـ واعتزازنا بالحقيقة أكبر، هذا منطق كل علماء المسلمين الكبار مثل الخوارزمي والبتاني والطوسي والرازي وابن البيطار وابن زهر والهيثم – أي ابن الهيثم، في أوروبا يسمونه الهيثم Al-Haytham، أبو الحسن عليّ بن الهيثم البصري – وإلى آخره، كل هؤلاء كان منطقهم نحترم هؤلاء ولكن احترامنا لـ واعتزازنا بالحقيقة أكبر، الحقيقة مُقدَّمة، ولذلك كلهم وجَّهوا شكوكهم ونقودهم على المذكورين وعلى غير المذكورين، بعد أن ذكروا أنهم استفادوا منهم وبنوا عليهم انتقدوهم في واحد واثنين وثلاثة، شيئ عجيب، هذا منهج علمي، أوروبا لم تستوعب هذا، والآن تدّعي أوروبا أنها هي التي اخترعت المنهج العلمي، كأن الإسلام لم يُقدِّم شيئاً، كأن المُسلِمين لم يُقدِّموا شيئاً، كانوا مُجرَّد سُعاة بريد، والعجيب أنهم يخترعون أساطير جديدة، لكن كيف نُفسِّر ظلامية العصور الوسطى وبعد ذلك انبثاق – Emergence – النهضة؟ كيف انبثقت النهضة؟ لا يُوجَد انبثاق من عدم، لأن العصور الوسطى كانت – كما قلنا – مُظلِمة راكدة وجامدة، قالوا هناك النهضة الكارلونجية Carolingian، نسبة إلى Karl der Große، أي شارلمان Charlemagne أو كارل Karl الأكبر، قالوا هو هذا، شارلمان Charlemagne عاصمته كانت مدينة آخن Aachen الآن في ألمانيا، آخن Aachen التي لُقِبت بأثينا Athens الثانية أو بروما Roma الثانية، وهذه مُبالَغة، وهي مُبالَغة كبيرة، لا تستحق آخن Aachen أن تكون لا روما Roma ولا أثينا Athens، أعني آخن Aachen شارلمان Charlemagne، هذا كلام فارغ، وسنقول الآن كيف يُعَد كلاماً فارغاً، تحدَّثوا عن نهضة شارلمان Charlemagne والكارلونجية Carolingian، نسبة إلى Karl، قالوا هذه النهضة الكارلونجية Carolingian هي التي وصلت بين التراث الإغريقي الروماني وبين الغرب الحديث كما نراه الآن، هو هذا، والمُسلِمون لا دور لهم، والله لو بُعِثَ كارل Karl الأكبر أو شارلمان Charlemagne من قبره لكذَّب هذا السيناريو بالِغ السذاجة والتسطيح، سوف يقول لنا هذا كذب، أنا شخصياً لم أكن مُنشيء نهضة، أنا كنت أعلم أين هي النهضة وحاولت أن أصل حبلي بحبالها، ألم تقرأوا أنني بعثت إلى هارون الرشيد المعروف في الأدبيات اللاتينبة بآرون Aaron ملك العرب؟ يقولون آرون Aaron ملك العرب، أي هارون الرشيد، والرشيد هو باني أول مستشفى في العالم وفي التاريخ، وهذا مما يدين لنا به الغرب، فكرة المستشفى كما نعرفها الآن كلنا كبناء معزول ومُكيَّف ومُعتنى به ومُحدَد وفيه طواقم من الأطباء والمُمرِضين وأساليب للعلاج والإنقاذ وإلى آخره اختراع إسلامي صرف، هذا أمر معروف، هذا من اختراعتنا، أي من اختراعات المُسلِمين، أما في أوروبا كان الأغنياء والنبلاء والبارونات والدوقات – Dukes – عندهم مال وعندم مُرتّبات وعندهم حيثيات، وهؤلاء طبعاً بفضل حيثياتهم وبفضل أموالهم أو نقودهم كان يُمكِن أن يحظوا ببعض العلق وبعض جراحة الحلّاقين، الطب كان طب الحلاقة، تماماً كما في بعض القرى العربية الآن المُتخلِّفة، لعل يُوجَد إلى الآن في بعض القرى والأنجاع البعيدة -البعيدة عن الحضارة وعن الإشعاع العصري – الحلّاق الذي يُمارِس الطب، عنده شنطة ويُطهِّر الأطفال الصغار ويقوم بإجراء الختان لهم ويُعالِج أشياء كثيرة، هذا الحلّاق الذي أعمى طه حسين طبعاً، عالج له بصره فأعماه، وهذا هو الحلّاق الذي أعمى الشيخ كشك، فهؤلاء كانوا موجودين، في أوروبا كان هذا هو الطبيب، أعني الحلاق، أكبر بارون وأكبر نبيل وأكبر دوق يُعالَج عند الحلّاق، والحلّاق عنده المشارط وهذه الأشياء السخيفة غير المُعقَمة طبعاً وعنده معلومات بسيطة جداً أقرب إلى الجهل ومعه علق في بعض البواتق والعُلب، يضع لك العلق في أكثر من مكان في جسمك، وهذا مُنتهى المُراد من رب العباد، هذا الطب في أوروبا، آرون Aaron ملك العرب كان يبني المشافي، أبو بكر الرازي كان مُديراً لمُستشفى بغداد، حتى حين أرداوا أن يبنوا هذه المستشفى استشاروا هذا العبقري التجريبي أبو بكر الرازي، ولذلك الآن حين تدخل الجامعة الفرنسية تجد تمثالاً نصفياً من الرخام، وحين تقرأ تجد أنهم كتبوا في الأسفل Rhazès، مَن هو Rhazès؟ أبو بكر الرازي،
يعرفون مَن هو الرازي وما هو فضله على العالم وعلى الطب وعلى العلم التجريبي وعلى المنهج، ليس فقط على العلم ذاته وإنما على المنهج، أي على منهج العلم، فـ Rhazès هو أبو بكر الرازي، ماذا فعل؟ رآه الناس يقوم بأشياء غير مفهومة، يأتي بعيدان طويلة ويُعلِّق في رؤوسها قطعاً من اللحم ويتركها، يفعل هذا بعشرة أعواد أو خمسة عشر عوداً مثلاً، ويأتي لمنطقة بعيدة أخرى ويفعل نفس الشيئ، وهكذا في خمس أو ست مناطق، قالوا ماذا يفعل هذا المجنون الساحر؟ ماذا يفعل؟ وبعد ذلك جاء الرجل وقال هنا يُبنى المُستشفى، شيئ عجيب، لماذا يا أبا بكر؟ قال هي الأقل تعفناً، قطع اللحم تعفنت هنا بأقل قدر مُمكِن، إذن هذا المكان مُهيأ إصحاحياً – كما يقول الأطباء إصحاحياً – أكثر من غيره لكي يُبتنى فيه المشفى أو المُستشفى، فآرون Aaron ملك العرب هو باني أول مُستشفى في التاريخ، آرون Aaron ملك العرب – هارون الرشيد – هو الذي بعث له شارلمان Charlemagne في أواخر القرن الثامن – في سبعمائة وتسعة وسبعين تقريباً أو بداية الثمانينات – أول بعثة ببعض الهدايا، فكافأه الرشيد بعدها، وطبعاً كنا دائماً نعتقد أنهما ند لند، الآن المُؤرِّخون الأوربيون المُعاصِرون يقولون بالعكس، هارون لم يعبأ به أصلاً كثيراً ولم يعتبره، مَن هو شارلمان Charlemagne؟ كلام فارغ، هذا هارون الرشيد، وهذه هي بغداد، أقوى قوة على وجه العالم عسكرياً، والقوة الأولى فكرياً وعلمياً على مستوى المعمورة، هكذا كان المُسلِمون، وهنا قد يقول لي أحدكم أنت دخلت بالموضوع وحدَّثنا دون أن تقول لنا لماذا اخترت هذا الموضوع، ولكي لا أنسى أقول أنني فعلاً أنا أحببت أن أختار هذا الموضوع نوع من العزاء لنفسي والعزاء لكم والعزاء للجيل الذي وقع الآن – كما قلت – أسيراً في قبضة الشك والريبة، يظن أن الإسلام يعجز عن كل شيئ إلا عن تفريخ الجهلة والمُتنطِعين والإرهابيين والقتلة والمُتزمِّتين، وهذا غير صحيح بالمرة، هذا ظلم شديد جداً جداً للإسلام وظلم للحقائق وظلم لهذه الأمة العظيمة، هذا ظلم لأن هذه ظاهرة مُؤقَتة، وهي – كما أقول باستمرار – تُرعى من أطراف، من أطراف هي أعداء لهذه الأمة وأعداء لهذا الدين، ويقيننا أنهم نجحوا نجاحاً باهراً في الإساءة إلى هذا الدين العظيم، لكن هذه المرة بأيدي أبنائه وعلى ألسنه أبنائه وبأفعال أبنائه، أُحِب أن أقول للشباب الذين يرفضون وهم الكثرة الساحقة – بفضل الله تبارك وتعالى – هذه المظاهر السوداء وهذه المظاهر الحزينة الكئيبة في المشهد المُعاصِر المعيش لا تبتئسوا ولا تحزنوا، إسلامكم العظيم هو الذي أنشأ أمةً عظيمة، إسلامكم هو المسؤول عن ولادة أوروبا الحديثة وعن هذه الحضارة كلها، هذا ليس كلام شيخ أو واعظ، هذا كلام كبار المُورِّخين الآن، ثُلة من كبار المُورِّخين حول العالم وإن تكن قليلة، لكن الحقائق في جانبهم، الأدلة البيّنات في جانبهم تُساعِدهم، وهذا لكي نستعيد بعض الثقة في أنفسنا، نحتاج إلى قليل من التاريخ، ينبغي أن نُلقي نظرة أوسع، لا يُمكِن أن تُقيِّم مسيرة فيلسوف كبير أو عالم أو باحث حين يُصبِح شيخاً مُتهدِّماً وربما يُصاب بالخرف Dementia، يبدأ يُخرِّف الرجل ويخلط الحابل بالنابل، ثم تقول لي ما هذاالرجل؟ هذا مُخرِّف يا أخي، لماذا يأخذ هذا الصيت؟ يا أخي لا تُقيِّمه الآن، نحن اليوم في عصر الإسلام المُخرِّف، هذا الإسلام الآن إسلام مُخرِّف، إسلام يهذي، نحن في حالة هذيان وفي حالة سُكر وفي حالة أنا أُسميهاحالة جنون مُنفلِت، أليس كذلك؟ مشاهد سريالية عجيبة ليس لها أي معنى، لكن هذا مُؤقَت بفضل الله تبارك وتعالى، كما أن المُفكِّر الكبير فعلاً ربما يُصاب بالخرف في آخر ثلاث أو أربع سنوات من حياته بعد أن عاش تسعين سنة، لا أُحِب أن أُمثِّل ببعضهم، بعضهم توفى من قريب، وفعلاً هم مُفكِّرون عظام على مستوى العالم، في آخر ثلاث سنوات أُصيب بالخرف وبدأ يهذي، أنا لا أُقيِّمه بهذه السنوات الثلاث، أنا أغض الطرف عنها هذه، هذه استثناء، كذلك الإسلام بفضل الله، هذه حالة استثنائية ونسأل الله – بإذن الله – ألا تطول، وأنتم المُعوَّل عليكم، ليس المُعوَّل على الخطابات والمنابر وعلى هذه التعزية والتسلية – نعمل لأنفسنا نوعاً من التسلية النفسية – لكن المُعوَّل على كل أحد فيكم أن يذطلع بدوره، عبر ماذا؟ ليس عبر إكثار الصلاة وإكثار مظاهر – وهذا مطلوب – وإنما عبر إكثار العلم وإكثار الفكر، علِّموا أولادكم وعلموا بناتكم، اهتموا بالعلم واهتموا بالفكر واهتموا بالكتاب واهتموا بالدراسة، لا شرف لنا ولا نجاة لنا ولا مُستقبَل لنا بدون هذا، اليوم العالم كله لو كان بغير علم وبغير كتاب لن يكون – والله العظيم – هناك أي مُستقبَل لأحد، وهذا ينطبق حتى السياسة التي كرثت العرب ودمرت العرب لأنهم لا يقرأون، لو كانوا يقرأون لعرفوا، أنا أقول لك حتى زعماء العرب وحتى قيادات العرب لو قرأوا وتثقفوا سوف تكبر همة الواحد منهم، تُصبِح همته أكبر من أن يبني القصور ويعيش مع الحور ويتلقى خُطب التمجيد العصماء والكذب والنفاق والرشاوى المعنوية، سوف يُصبِح إنساناً أعظم من هذا بكثير، يضطلع بحامل مسئولية كُبرى ويُريد أن يدخل التاريخ، أنا أقول لك أي إنسان ليس عنده هم أن يدخل التاريخ اغسل يديك منه حتى لو كان قائد دولة، كذلك القائد الكبير لدولة كُبرى من دول العرب قيل له ندلك على ما تدخل به التاريخ وقبل أن يُدَل المسكين قال لا أحب أن لا أدخل التاريخ ولا الجغرافيا، هكذا أجاب وهذه مُصيبة، أقسم بالله هذه مُصيبة العرب يا أخي والمُسلِمين، المُفكِّر الذي كلَّمه قال أنا قلت له هذا بعد أن عاد من رحلة تمريض في أوروبا، قلت له يا فخامة الرئيس سنقول لك بعد إذنك – بعد إذن يا فخامة الرئيس – على ما تدخل به بإذن الله التاريخ، قال قبل أن أستتلي وأُكمِل قال لي لا أحب أن أدخل لا تاريخ ولا جغرافيا، لأنه ليس زعيماً، هذا الرجل يُحِب أن يعيش وأن يكتنز الفلوس وأن يتحكَّم في الرقاب وينتهي الأمر، هذا ليس زعيماً، كذلك ليس عالماً – الذي يُوجِّه الأمة أياً كان – الذي لا يقرأ يومياً يومياً يومياً ويموت وهو يقرأ ويتعلَّم، ليس عندنا مَن هو عالم، كل عالم هو طالب علم إلى أن يموت، لابد من القراءة القراءة القراءة، هكذا كانت أمتنا، أمة قراءة وأمة إبداع وأمة تأليف وأمة إضافات وإنجازات، ليست كهذه الأمة النعسة الميتة اليوم، سبحان الله نحن الآن نرثي أمتنا ونصرخ ونستصرخ ونهيب بها أن تقوم من الرقدة ومن نومة الأموات ونومة أهل الكهف، تماماً كما كان الأوربيون على مشارف عصر النهضة يصرخون ويستغيثون، تسمعون بفرانشيسكو بترارك Francesco Petrarch أو بتراركا كما يُلفَظ أحياناً، الشاعر الايطالي الكبير في القرن الرابع عشر بترارك Petrarch، بترارك Petrarch ماذا يقول؟ يصيح الرجل مألوماً ممروراً ويقول يا لله لقد نجحت أوروبا في أن تلد شيشرون Cicero، الخطيب العظيم بعد ديموستين Dimoustin، كان يُوجَد ديموستين Dimoustin، هذا الذي كان بلسانه حُبسة،ولكم أن تتخيَّلوا هذا، كان مُعتقَل اللسان لكنه بالتدريب والإرادة صار أعظم خطيب، قال بترارك Petrarch بعد ديموستين Dimoustin جاء شيشرون Cicero، قال وبعد هوميروس Homeros جاء فيرجيل Vergil، الشاعر العظيم صاحب الإنيادة، ثم قال فهل عقمت هذه الأمم والشعوب أن تؤلِّف وأن تُبدِع بعد العرب؟ هذه صرخة مُهِمة لكي تعرفوا ماذا كان دور العرب، وهذا يعني أن تآليف العرب كانت وصلت أوروبا وأثَّرت في بترارك Petrarch، المرحومة زيغريد هونكه Sigrid Hunke – رحمة الله عليها – تقول تأثيرات الشعر العربي والفنون العربية الأدبية في بترارك Petrarch وبعد ذلك في دانتي أليغييري Dante Alighieri – قالت – تأثيرات لا يُمكِن أن تُنكَر وإن تكن في دانتي Dante أكثر مباشريةً ووضوحاً لكنها في بترارك Petrarch تستخفي، هذا يدل على أن بترارك Petrarch كان مُطلِعاً على آداب العرب وعلى ثقافات العرب ويصرخ لماذا لا تستطيعون أن تُنجزوا كما أنجزوا؟ إذن وصلت إليهم طبعاً وتُرجِمَت إلى اللاتينية، وصل قدر منها وظلت تُواصِل الوصول بعد ذلك، يصرخ الرجل قائلاً لا تُوجَد فائدة، ثم قال يا لعبقرية إيطاليا الناعسة، يا لذهنية إيطاليا الخمود، لماذا لا تشتعل هذه الذهنية؟ لماذا لا تنفي الوسن والنعاس عن نفسها وتقوم كهذة الأمة العظيمة؟ يقصد العرب، انظروا إلى العرب اليوم، قال الله وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ۩، ومع ذلك لا يُوجَد شيئ مُستحيل ، إياكم يا إخواني أن تعتقلكم عُقدة النقص، وطبعاً هذه للأسف كارثة بعض المُفكِرين العرب المُعاصِرين، يُقال لك العقل العربي في بنيته كذا وكذا، هذا غير صحيح يا أخي، بالله عليك ابتعد عن النظريات العُنصرية التي تُدمِّر الذات، المسألة تحتاج فقط إلى نوع من التحريك، طبعاً يا ليت لدينا إرداة سياسية، أهم شيئ الإرادة السياسية، هذا مُهِم على مُستوى القادة، قادة الشعوب والأمم والدول، يكون عند القائد الأعلى إرادة سياسية حقيقية في النهضة، أنا الآن آتيتكم من الشيشان، ومن المُؤكَّد أن حين يسمع الواحد منكم كلمة الشيشان يقول الشيشان البلدة التي دمَّرتها الحرب، ونعم هي دمَّرتها وأحالتها إلى فحمة، الآلة الروسية أحالت الشيشان إلى كُتلة فحم، لكن الآن الشيشان جوهرة، أنا أزورها تقريباً لأربع مرات على التوالي، كل سنة هي أعظم وأجمل من السنة التي سبقتها، شيئ عجيب، تُبنى العمائر الشاهقة الكُبرى على أحدث طراز إلى جانب المساجد في الوقت ذاته، نهضة مُزدوَجة، ليس دين ينهض ودنيا تنام، وليس دنيا تنهض ودين يستخفي ويستوحش، نهضة مُزدوجَة، المسجد وتحتوشه عشرات العمائر الضخمة وألوف الشقق والمكاتب، والآن أصبح كل مَن يزور هذه البلدة يتعجَّب، ومَن القائد؟ شاب لم يكمل أربعين من عمره، وهو رمضان قديروف، هذا الشاب آية من آيات الله، وما شاهدنا والله إلا بما علمنا، آية من آيات الله، لا يكاد لسانه يفتر عن ذِكر الله، يحمل مسبحته دائماً معه، يذكر الله ليل نهار، ولكن الرجل عقلية سياسية من طراز فريد وعقلية اقتصادئة إنمائية، وهو أحد مُستثمِري العالم، وهو عقلية عسكرية لأنه جنرال أصلاً، ولك أن تتخيَّل هذا، هو رجل دولة لا ينام أبداً إلا بعد صلاة الفجر، لا يُوجَد وقت للنوم، لا يكاد يجد وقتاً لعائلته وأولاده، ومع ذلك ستة من أولاده يحفظون كتاب الله، أصغرهم عمره ست سنوات وقد التقيت به، اسمه آدم وهو يحفظ كتاب الله من سورة الفاتحة إلى الناس بالعربية، وزوجته تحفظ كتاب الله، لماذا ليس لدينا زعماء ورؤساء بهذا المستوى؟ كُن زعيماً واجعل الدنيا في يدك واخدم هذه الدنيا – دنيا شعبك ودنيا الناس – لكن في نفس الوقت لا تنس آخرتك، لا تنس دينك، دينه يُعينه على تعمير الدنيا، يرى أن هذا واجبه الديني لكي يتشرَّف الإسلام، شيئ غريب، مساجد بالعشرات تُبنى هنا وهنا وهنا وهناك باستمرار على أحدث طراز، أكبر مسجد في أوروبا في غروزني Grozny، أما المسجد الذي افتُتِحَ في الجمعة السابقة فهو أكبر منه، وسيُفتَتح ثالث الآن ربما في ظرف سنة أو سنتين أكبر من الاثنين، دائماً هو يطمح إلى الأحسن، شيئ غريب، فنحتاج إلى إرداة سياسية مثل إرداة هذا الرجل المُوفَّق، إرداة سياسية تُحرِّك الشعب وتُحرِّك الناس ديناً ودُنيا، وطبعاً هو مُبغِض جداً للإسلام المُتطرِف وإسلام الذبح وإسلام التكفير، مُبعِض جداً له، وهو يشن حرباً على هذا الإسلام، يُريد إسلام الحب والرحمة وإسلام التأليف والتجميع، وهكذا يعيش الشيشانيون الآن في رحمة وفي مودة بفضل الله تبارك وتعالى، لأن الذين كانوا يُكفِّرون ويذبحون ويقتلون ويُفجِّرون الحمد لله لم يعد لهم وجود في الشيشان وهذا بفضل الله تبارك وتعالى، وأنا مُتأكِّد أن مَن يزر الشيشان ويعلم تاريخها سيقطع بأنهم لو استمروا لظلت – والله – فحمة، أقسم بالله لظلت فحمة سوداء، لأن ما عندهم أي شيئ لكي يُقدِّمنه للدنيا، عندهم فقط مظاهر دينية وطقوس دينية وتفجير وقتل وذبح وفقط، هذا هو، هذا الذي يُقدِّمونه للناس، ولا يعجبهم أي شيئ في هذا العالم، فنحن نحتاج إلى إرادة سياسية تُحرِّكنا وسوف يخرج منا بفضل الله العجب، أنا مُتأكِّد من هذا، عند العرب شباب – والله بالملايين، وهم شباب عباقرة، شباب لديهم قدرات ولديهم لياقات ولديهم مُؤهِّلات، يحتاجون إلى الإرداة السياسة التي تحتضنهم وإلى مُؤسَّسات يترعرون فيها وينمون فيها ويُثمِّرون ويُبارِكون أيضاً ويذهبون إلى الغايات النهائية لقدراتهم ولياقاتهم فيها كلٌ في تخصصه، لكن هذا غير موجود، للأسف أموال العرب تُنهَب وثرواتهم تُسلَب، ويبلغ أحدهم الأربعين من عمره ولا يكون عنده القدرة على أن يتزوَّج، لعدم وجود المال والوظائف والأعمال، لا يُوجَد أي شيئ، والآن – ما شاء الله – بعد عهد الربيع الذي أصبح ليس فقط خريفاً أو شتاءً وإنما أصبح يُمطر النيران للأسف الشديد – هذا هو للأسف – يشتغل بعضنا ببعض ويقتل بعضنا بعضاً، وأيضاً مرة أخرى باسم الإسلام وباسم مفاهيم مُختلِفة للإسلام، ما هذا؟ هذا أمرٌ مُحزِن.
نعود إلى موضوعنا، إذن هذه الخُطبة كانت من أجل هذا الغرض، وأسأل الله أن تُؤدي بعض هذا الغرض، لا تيأسوا ولا تقنطوا من أنفسكم، لا أقول مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۩ فقط وإنما أقول لا تقنطوا من أنفسكم أيها الشباب، أيتها الشابات لا تقنطن ولا تيأسن، ثم أن لا عليكم من هذا، ليجعل كل واحد منا مثالاً له أحد هؤلاء الأوربيين العظام، أوروبا كان وضعها اصعب بكثير من وضع العرب الآن، لا أعتقد لو أن فرداً عربياً ذكراً كان أم أنثى الآن لو أراد أن يجتهد أو يُقدِّم أشياء في العلم والفكر والفلسفة والثقافة والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس إلى آخرهسوف يُتهَم بالهرطقة أو يُقتل وما إلى ذلك، وإن كان بعض البلاد فيها شيئ من التضييق وهو غريب عجيب ولا ينتمي إلى العصر، وما زالوا يُلاحِقون الناس بأحكام الرِدة والتكفير وهذا الكلام الفارغ، لكن مُعظَم بلادنا ليس فيها هذا الكلام الفارغ، فيها أقدار كبيرة من الحرية بفضل الله تبارك وتعالى، فاجعل مثالك مثال الأوربيين، قل أنا سأكون رائداً لأمتي، وطبعاً لا تنتظر الجزاء العاجل، انتبه إلى هذا، أنت تفعل هذا الآن في هذه الحالة من الخمود والجمود والنوم الطويل وطبعاً ستُصبِح غرضاً لسهام كثيرة، سيُسخَر منك وستُتَهَم بخمسين ألف مليون تهمة، لا عليك من هذا، أنت تبصر طريقك وتعرف سمتك، امض إليه من غير تردد ولا وجل ومن غير أن يتخوَّنك أي شيئ من يأس أو قنوط، امض بإذن الله تعالى، التاريخ سيُنصِفك، وأنت هدفك أن تُساهِم في خدمة أمتك، وسيحصل هذا بإذن الله تعالى، فلا تجر مع القطيع واهتم بنفسك، كما قلت تعلَّم واقرأ وتثقَّف ولا تضيِّع وقتك، استغل حياتك أيها الشاب، واستغلي حياتكِ أيتها الشابة، لماذا لا يكون هدف أحدنا أن يكون هو رازي العصر ولو على مستوى أمته على الأقل أو أن يُصبِح ابن سينا العصر أو ابن رشد العصر أو ابن البيطار في العصر؟ لماذا؟ أنا أُريد أن أقدِّم شيئاً، على الأقل على مُستوى أمتي، لعله يكون من الصعب أن تُصبِح كذلك على مستوى العالم – من المُمكِن ألا يكون سهلاً جداً وأن يكون صعباً – لكن على الأقل افعلها على مستوى هذه الأمة النائمة، ونحن نرى – ما شاء الله – أن كل مَن هب ودب بكلمتين غير مُرتبات وخاليتين من المعنى يُصبِح نجماً كبيراً ومُهِماً والناس تستمع إليه، لأن الأمة تُعتبَر صفراً تقريباً مثلما كانت أوروبا صفراً، هل تعرفون كم نسبة المُتعلِّمين من الذين يفكون الخط حين بدأت نهضة أوروبا؟ واحد في المائة كما قال المُؤرِخ الأمريكي الكبير سكوت Scott في كتابه تاريخ الحضارات الأفريقية، قال واحد في المائةن تسعة وتسعون في المائة أُميون في أوروبا، وفي المُقابِل العالم الإسلامي كيف كان؟ الأندلس كان بها سبع عشرة جامعة، أوروبا لا تسمع بالجامعات، لا تعرف معنى جامعة ولا تفهمه، هذا اختراع إسلامي، وقد حدَّثتكم مرة عن أن اختراع الجامعة مِن أعظم الاختراعات، طبعاً له نوى جنينية أيضاً، أكاديمية أثينا Athens التي أنشأها أفلاطون Plato كانت نواة لجامعة، لكن الجامعة بالصورة الحديثة تقريباً كانت في العالم الإسلامي ، فالأندلس الإسلامية – الآن يُسمونها إسبانيا الإسلامية – كان فيها سبع عشرة جامعة، جامعة قرطبة كان بها أحد عشر ألف طالباً وطالبة، أحد عشر ألف طالباً وطالبة يدرسون، والعجيب أن أربعة آلاف من هؤلاء الطلبة كانوا أوربيون، هل سمعتم؟ أحد عشر ألف طالباً في جامعة قرطبة ومن بينهم أربعة آلاف من أوروبا، ومع ذلك يُقال ليس لكم أي تأثير فينا، أربعة آلاف يدرسون ثم يتخرجون وبعد ذلك يتلوهم أربعة أو خمسة أو ستة ثم يتخرجون وهكذا، ماذا سيفعل هؤلاء؟ هل عادوا وناموا في أوروبا؟ هم الذين أشعلوا النهضة هنا، بسبب هذه الأفكار وهؤلاء الناس.
هل تسمعون بگربرت Gerbert؟ گربرت دورياك Gerbert d’Aurillac، أي گربرت Gerbert من أورياك Aurillac، هو سيلڤستر الثاني Sylvester II،البابا سيلڤستر الثاني Pope Sylvester II كان في القرن الحادي عشر واسمه گربرت Gerbert وهو من أورياك Aurillac، وقد تعلَّم في قرطبة، هذا قبل أن يصير بابا، ذهب وبعد ذلك أصبح البابا سيلڤستر الثاني Pope Sylvester II، احفظوا اسمه جيداً، گربرت Gerbert من أورياك Aurillac هو سيلڤستر الثاني Sylvester II، تعلَّم في قرطبة ثم عاد، وقد ألف فيما بعد كتاب الأَسْطُرلاب Astrolabe وجنَّن أوروبا بسببه، الأَسْطُرلاب Astrolabe آلة إعجازية، نجمة معدنية تقيس أبعاد القمر والشمس والنجوم وتُحدِّد المواقع العالمية بدقة مُذهِلة، وأصبحت آلة لا يُستغنَى عنها في الملاحة وفي الفلك وفي المساحة، وهذه الآلة ألهمت الفكر الإسلامي أن يُؤكِّد على أن الأرض ليست مُسطَّحة مُمدَدة بل مُكوَّرة، وبهذا ساهموا في قياس مُحيطها وقطرها، أبو الريحان البَيْرُوني يقيس مُحيط الأرض بفارق خمسين ميلاً Mile فقط، أي أنه قاسه بدقة شديدة وأخطأ فقط في خمسين ميل Mile، فهذا الأَسْطُرلاب Astrolabe مُعجِزة، والعرب كانوا يسمون الأَسْطُرلاب Astrolabe جوهرة الرياضيات، لولا الرياضيات لما وُجِدَ الأسْطُرلاب Astrolabe طبعاً، أعني الرياضيات العربية، ومن هنا النظام العشري، ليس النظام الروماني الإغريقي في العد الذي يتعلَّق بسبعة أحرف وهذا شيئ مُمِل جداً جداً ومُعقَّد، حين أتلوا عليك أرقماً صعباً لكي تكتبه بهذه الأحرف كيف ستكتبه؟ مسألة مُعقَّدة، فكيف بعمليات الضرب والقسمة وما إلى ذلك؟ انس موضوع الجذور – جذر تربيعي وجذر تكعيبي وما إلى ذلك، انس هذا لأنه مُستحيل مع الأحرف السبعة الرومانية – طبعاً، جاء العرب بالنظام العشري، نعم هناك أصول هندية لكنهم طوَّروا النظام وقدَّموه هدية لأوروبا، وأسَّسوا وبنوا على هذا النظام العشري عمارة رياضية مُذهِلة ومُخيفة، هذه هي الرياضات العربية، الصفر ينطبق عليه نفس الشيئ وهو أصوله هندية، لكن الذي قدَمه وبعجه العرب وسموه السِفت ومنها كلمة Zero، فكلمة Zero من كلمة السِفت، وكلمة السِفت تعني الشيئ الفارغ، لأن كان يُرمَز إليه بدائرة فارغة مثل خمسة الآن بالعربي، هذا هو الصفر، وسموه Cipher، وكلمة Cipher مأخوذة من الصفر العربي، هذا الصفر دوره معروف في الرياضيات، فالعرب قدَّموا هذا وبنوا هذه الآلة المُعجِزة المُسماة الأَسْطُرلاب Astrolabe وقد عرفتها أوروبا عن طريق سيلڤستر Sylvester بعد مائة سنة، مائة سنة أوروبا لا تسمع بالأَسْطُرلاب Astrolabe والعرب يتمتعون، وقُدِمَ لأوروبا كأعلى وجوه وثمرات التقنية العلمية على الإطلاق، أعلى تقنية في العلوم كان الأَسْطُرلاب Astrolabe، پيتر أبيلارد Peter Abelard – المُفكِر الكبير ذائع الصيت أبيلارد Abelard – سمى ابنه بأسْطُرلاب Astrolabe، من كثرة إعجِابه بهذه الآلة سماه أسْطُرلاب Astrolabe، لكن سيلڤستر الثاني Sylvester II -البابا سيلڤستر الثاني Pope Sylvester II أو گربرت Gerbert – ماذا قدَّم أيضاً وقد درس سنوات في قرطبة؟ لم يُقدِّم لهم فقط الأَسْطُرلاب Astrolabe وإنما قدَّم لهم الفقه المالكي، رأى الفقه والمُعامَلات والمعاوضات والبياعات والشروط والأشياء، شيئ غريب، قانون عجيب مُخيف، لاتُحدِّثني عن قانون جستنيان Justinian ولا غيره، مُدوَنة قانونية مُتكامِلة تضبط كل شؤون الحياة بالعدل، أي على خُطة العدل والقسطاس المستقيم، وهذه هي روح الإسلام، فدرس هذا تماماً وتفقه بالفقه المالكي، طبعاً لم يقل لهم هذا فقه المسلمين وهو فقه رجل اسمه مالك بن أنس – إمام دار الهجرة – وإنما قال لهم هذا اسمه القانون الروماني الجديد، انظر إلى الكذب يا أخي، قال القانون الروماني الجديد، وإن شاء الله سأخطب فيكم خُطبة عن تأثير الفقه الإسلامي في القوانين الأوروبية لكن من ناحية تأصيلية تاريخية لنعرف كيف حدث هذا، سوف أُفصِّل هذه الجُملة في خطبة طويلة بإذن الله، شيئ مُدهِش ومُحيِّر، فهو سماه القانون الروماني الجديد، وظل يتنامى ويُشتَغل عليه إلى أن انتهى بالقانون المعروف بقانون نابليون Napoléon، قالوا عندنا قانون نابليون Napoléon، وبعد ذلك صُدِّر لنا قانون نابليون Napoléon، أليس كذلك؟ هذه هي القوانين الإفرانجية، ولذلك يستغرب البعض ويقول لماذا نقول القوانين الإفرانجية وكثير منها يتطابق مع الشريعة؟ هي بنت الشريعة يا رجل، بضاعتنا رُدَّت إلينا، فيا ويلتنا والله العظيم، وعُقدة النقص كانت ستخنقنا لو كان هؤلاء لديهم قوانين فعلاً أصيلة مُتفرِدة لا علاقة لها بالمستورَد من عندنا ولدُمِّرنا بالكامل ولتخلينا عن كل شيئ بسبب عُقدة النقص، لكن الحمد لله نُقلِدّهم في قوانينهم ومُعظَم هذه القوانين تتطابق مع الشريعة لأنها بنت الشريعة، بضاعتنا رُدَّت إلينا، فهو قال القانون الروماني الجديد، وأصبح بعد ذلك قانون نابليون Napoléon، هذا هو سيلڤستر Sylvester، فكان يُوجَد سبع عشرة جامعة، وكما قلت لكم جامعة قرطبة وحدها كان فيها أربعة آلاف طالب أوروبي، حين بنى فريدريك الثاني Frederick II – الإمبراطور الروماني المُقدَّس – جامعة نابولي Napoli استعان بأساتذة مُسلِمين، أتى بأستاذ في الطب وأستاذ في الفلسفة وأستاذ في العلوم، ووضعوا المناهج – كما قلنا – على طراز مناهج بغداد، وكانوا يُدرِّسون ويُخرِّجون الطلاب، وبعد ذلك حين خرَّجوا جيلاً يُمكِن أن يضطلع بالمسئولية انسحبوا وعاد كل أحد إلى بلده وأكملوا هم المسيرة، فحدِّثونا عن جامعة نابولي Napoli، حدِّثونا عن جامعة ساليرنو Salerno، أول كلية للطب في العالم الأوروبي كان فيها مناهج إسلامية محض، مناهج إسلامية محض كانت هنا، حدِّثونا كيف دخل أرسطو إلى الغرب الأوروبي؟ أرسطو Aristotle كان ملعوناً هنا، ممنوع أن يُسمَع Aristotle لأرسطو، لكن كان يُقال لأفلاطون Plato أهلاً وسهلاً بسبب نظرية المُثُل الأفلاطونية ولأنه أقرب إلى الروح الغربية المسيحية، لكن أرسطو Aristotle ممنوع أن يُسمَع له، المُسلِمون هم الذين صدَّروا أرسطو Aristotle إلى الغرب الأوروبي.
أرنست رينان Ernest Renan تحدَّث عن ألبيرت Albert الكبير، مَن هو المُفكِر ألبيرت Albert الكبير؟ هذا اللاهوتي العظيم هو أستاذ توما الأكوينى Thomas Aquinas، توما الأكوينى أستاذه ألبيرت Albert الكبير، يقول أرنست رينان Ernest Renan إن ألبيرت Albert الكبير يدين بكل شيئ لابن سينا، ألبيرت Albert ليس عنده أي شيئ، وإلى وقت قريب طُبِعَ زهاء أربعين مُجلَداً من أعماله وكان معروفاً بكثرة التآليف، رينان Renan يقول يدين بكل شئ لابن سينا، هو مُجرَّد عالة على ابن سينا، ومع ذلك قالوا ليس لنا تأثير، وأما توما الأكوينى Thomas Aquinas فيقول عنه أرنست رينان Ernest Renan أيضاً يدين بكل ما قال لابن رشد، وهنا قد يقول لي مَن توما الأكوينى Thomas Aquinas؟ القديس Saint توماس الأكوينى Thomas Aquinas – من أكويناس Aquinas – هو أبو الفلسفة المسيحية المدرسية Scholastic، هو هذا، هو المُؤسِّس تقريباً لهذه الفلسفة المدرسية التي أصبحت بعد ذلك هي الوصية على التفكير الكاثوليكي Catholic في العالم الغربي، توما الأكوينى Thomas Aquinas هو تلميذ ألبيرت Albert، وألبيرت Albert هو تلميذ ابن سينا، لكن كما يقتبس أحياناً توما الأكوينى Thomas Aquinas ابن سينا يقول أرنست رينان Ernest Renan فإنه أيضاً يدين بكل ما قال لابن رشد، لدي الخلاصة اللاهوتية وقرأت الكثير منها بفضل الله، وفعلاً هذا ابن رشد، ابن رشد بصياغة أخرى، ابن رشد بوجه مسيحي، الرسومات الأوروبية – الرسومات Paints – كانت تُدرِك هذا بخصوص النُسخة الإسلامية للفكر، كانت تُدرِك أنه لا يُمكِن التعرف – مثلاً – على أبُقـراط Hippocrates إلا إسلامياً، لا يُمكِن لأن المُسلِمين لم يُترجموا أبُقـراط Hippocrates فقط بل أحيوه وأعطوه أبعاداً جديدة، هذا في الطب الإسلامي، ولذلك في كتاب طُبِعَ في القرن الرابع عشر – أول كتاب يؤلفه أوروبي في الجراحة – تُوجَد رسومات، في إحدى هاته الرسوم أو الترسيمات – جمع ترسيمة – يظهر أبُقـراط Hippocrates وهو يُدرِّس تلاميذه برداء عربي وعمامة، يتساءل المُؤرِّخون لماذا اختار الرسام الكاثوليكي Catholic الأوروبي أن يُصوِر أبُقـراط Hippocrates برداء عربي وعمامة؟ إشارة إلى فضل العرب، وأنه لولا العرب ما عاش هذا الطب ولاندثر.
الإمبراطور زينون Zeno في أواخر القرن الخامس أغلق مدرسة إديسا Edessa أو الرُها – يُسمونها الرُها، فإديسا Edessa هي الرُها، وأنتم تعرفون الرُها التي كانت في بلاد الشام الكُبرى – للطب الأبُقراطي، قال لا نُريد طباً يتعارض مع الإنجيل، وبعده بأٌقل من نصف قرن يُغلِق جستنيان Justinian أكاديمة أثينا Athens لأفلاطون Plato، انتهى كل شيئ، الآن أوروبا ليس فيها لا طب ولا فلسفة ولا أي شيئ، ليس لهم أي علاقة بهذه المسائل، وهرب الطلاب إلى جندي شابور Jundishapur باليونانية – العرب بيسموها جندي سابور – ولكن لم يتقدمَّ الطب هناك، حاولوا فقط أن يُحافِظوا عليه، ثم جاء الإسلام وإذا بالطب والفلسفة ينبعثان من جديد وبعنفٍ شديد، ولذلك يقول بعض هؤلاء المُؤرِّخين المُنصِفين لولا المسلمون وما قدموه لكان على أوروبا أن تبدأ لا من حيث العرب بل من حيث اليونان والهنود، أي من الصفر، ستبدأ من الصفر.
نرجع إلى نهضة شارلمان Charlemagne، يُقال لك شارلمان Charlemagne هو الذي وصل بين التراث الكلاسيكي Classical ومَهَّد الطريق لليوناردو دافنشي Leonardo da Vinci و نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus، قالوا شارلمان Charlemagne فعل هذا، وصدَّق الأوربيون هذه الأسطور السخيفة الساذجة والتي – كما قلت لكم – لن يُصدِّقها شارلمان Charlemagne لو بُعِثَ حياً، وقد بعث للرشيد والرشيد بعث له بهدايا، تُحف عجيبة غريبة ليس لها نظير في أوروبا، ولكن في قمة هذه التُحف تقف الساعة المائية الميكانيكية، بعث له ساعة جننته، حتى بعض الذين كانوا معه في البلاط فروا مذعورين، ظنوا أن بها جِناً، ساعة تُؤدي حركات وفي وقت الصلاة يخرج اثنا عَشَرَ فارساً، يظهرون ويقفون في الزجاج الأمامي الخاص بها، وهذه الساعة كانت تتحرك وحدها، ما هذه التكنولوجيا؟ هذه ساعة الرشيد، وهي ساعة مائية ميكانيكة أعطاها لشارلمان Charlemagne، والرشيد عاش في إمبراطوريته اليهود والنصارى والمجوس والغنوصيون – اللاأدريون – وكان عنده فلسفات الهند وفلسفات فارس وفلسفات كذا وكذا، والكل عاش آمناً على قاعدة لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، لكن شارلمان Charlemagne ذهب إلى السكسون Saxons يُدخِلهم في انصرانية وأباد منهم ألوف الألوف، لا تُوجَد حضارة، حضارة ماذا؟ ثم أن السؤال الآن إذا كان شارلمان Charlemagne هو أبو الحضارة هذه وهو الذي مَهَّد للنهضة Renaissance – طبعاً متى مات هو؟ مات الرجل في عام ثمانمائة وأربعة عشر،أي في أول القرن التاسع، إذن عندنا زهاء خمسة قرون كاملة أو ستة – وهو الذي بعث التراث ووصل حاضر أوروبا بماضيها فأين النظريات بعد ذلك؟ نُريد أن نرى هذا، هل جاءت نظريات جديدة؟ هل جاءت مؤلَفات جديدة؟ هل جاءت مُخترَعات جديدة؟ لم يُوجَد هذا أبداً، عادت أوروبا تغط في نومتها ولم تُقدِّم شيئاً، إذن هذا غير صحيح، شارلمان Charlemagne لم يُقدِّم نهضة حقيقية، فقط حاول الرجل، لكن في الحقيقة نهضته اقتصرت فقط على إحياء بعض الآداب الرومانية وليس اليونانية، فقط أدب روماني، بدأ تدريسه والاعتناء به، وجاء الرهبان – رهبان شارلمان Charlemagne – يكتبون هذه الآداب الرومانية على الجلود – جلود الحيوانات -وهذا مُكلِف وغير عملي، بعد ثلاثمائة سنة سيتسوردون ويتعلَّمون الكتابة على الورق العربي، مصانع الورق كانت في بغداد في الشرق، وطبعاً بعد ذلك وصلت إلى مصر ووصلت إلى الأندلس وإلى آخره، ثم صُدِّرَت إلى العالم مصانع الورق، فكانوا يكتبون على الجلود وهذه أشياء مُكلِفة وغير عملية، وفي بغداد – في ضواحي بغداد – أكثر من مائة دار للوراقة، وهذه ليست دوراً فقط تصنع الورق وتستنسخ الكتب وإنما كانت أشبه بالمقاهي الثقافية، هل تسمعون بالمقهى الثقافي؟ كان موجوداً في مصر هذا، في أول القرن العشرين المُنصَرِم كانت تُوجَد مقاهي ثقافية، وعُرِف في الغرب بالذات في فترة الحرب وما بعد الحرب العالمية الثانية مقاهي الوجوديين والفلاسفة الوجوديون وخاصة سارتر Sartre وسيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir، حيث كانو يجلسون في المقاهي، كانت دور الوراقة المائة في بغداد وضواحيها أشبه بمقاهي ثقافية، يأتي الجاحظ وأمثال الجاحظ ويجلسون ويتناقشون في شؤون الفكر المُختلِفة بحرية شبه تامة، يتحدَّثون عن الأديان والأفكار والحضارات وما إلى ذلك وكان عندهم الورق، يقول جراهام Graham – وهذه كلمة أنا لو قرأتها لعربي لما صدقتها، لأننا نُجازِف، لكن حين قرأتها من الآخرين استغربت منها، والحق ما شهدت به الأعداء – في ذروة النشر الإسلامي في بغداد العباسية كانت الكُتب التي تُنسَخ وتُنشَر جديدة في كل سنة تفوق عدداً ما تُنشره مطابع نيويورك New York اليوم، شيئ لا يكاد يُصدَق، وهذا يعني وجود أعداد هائلة، كانت تُوجَد أعداد هائلة جداً من الكُتب، هل تعرفون أكبر مكتبة في مصر الفاطمية احتوت على كم كتاب؟ احتوت على اثنين مليون كتاب، أي ألفي ألف كتاب، وكانت أوروبا هنا لا تملك هذا، هل تعرفون كم كتاب كان يُوجَد في القرن الرابع عشر كلية الطب في جامعة باريس Paris؟ تسعة، فقط تسعة كتب، وجاء الملك الفرنسي لويس الحادي عشر Louis XI وأراد أن يستعير كتاب Rhazès – أي كتاب أبي بكر الرازي – وقال لهم نُريد الحاوي Al-Hawi لأنه يهمنا ونرغب في أن نراه ونتعلَّم منه فقالوا له لا، لا نعيرك هذا الكتاب، هذا أهم كتاب لدينا، قال أنا أريده وأنا الملك، قالوا ادفع ضمانة كُبرى وهي عبارة عن مبلغ هائل من الذهب، فلو فُقِد الكتاب نقدر على أن نكتب آخر مثله، واضطُرَ الملك لويس الحادي عشر Louis XI أن يدفع مبلغاً ضخماً من المال لكلية الطب في جامعة باريس Paris لكي يستعير كتاب الحاوي Al-Hawi لأبي بكر الرازي مُترجَماً إلى اللاتينية، في حين أن نحن كان عندنا أكبر مكتبة في مصر الفاطمية وقد احتوت على اثنين مليون كتاب، باني الزهراء أنشأ مكتبةً في مشفى في الأندلس – مُستشفى أنشأ فيها مكتبة طبية – يُقال بلغت الكتب فيها نصف مليون، شيئ لا يكاد يُصدَّق، أليس كذلك؟ هكذا كُنا، هذا هو الإسلام، هؤلاء هم المُسلِمون، وهكذا كانوا، كيف انقلبت الآية؟ انقلبت والله، انقلبت – سبحان الله العظيم – تماماً، اليوم العرب أقل ناس تقرأ وأقل ناس تُترجِم، حدثتكم قبل فترة عن آخر إحصائية صدرت في ألفين وأربعة عشر، قالوت الأمريكي يقرأ ثمانية عشر كتاباً والأوروبي يقرأ خمسة عشر كتاباً في السنة والعربي يقرأ نصف صحيفة، وبارك الله فيما رزق، نصف صحيفة تُعتبَر كثيرة بالنسبة له فانقلبت الآية، قال الله وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُها بَينَ النَّاسِ ۩.
هذا الحديث لا ينتهي يا إخواني، ومن الصعب أن نبلغ فيه شيئاً يُرضي النفس ولكن هي هتامات وشذرات وإلمعات من هنا وهناك لعل الله ينفع بها ويُحيي ميت الهمم ويُوقِظ ويُشعِل خامد العزم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
إخواني وأخواتي:
كما قُلت لكم في مُقدِّمة الخُطبة لقد تركت أيضاً طُرز وأنماط الحياة الإسلامية في الحواضر الإسلامية التي كانت تُعَد الأكثر رقياً وتحضراً على مستوى البسيطة في الأندلس التي تتبع الغرب في نهاية المطاف وتتبع أوروبا – جبال البيرينيه Pyrenees – أيضاً تأثيرها وطبعت بطابعها الحياة الغربية الأوروبية إلى يوم الناس هذا، اليوم في أوروبا إذا أردت أن تذهب إلى مطعم فاخر سوف تُقدَّم لك الوجبات على مراحل، وحتى في الطائرات – خاصة طبقة رجال الأعمال Business class – تُقدَّم لك الوجبات على مراحل، أليس كذلك؟ لا تُقدَّم الوجبة على مرة واحدة، وهذا اختراع إسلامي، الناس قبل ذلك – المُسلِمون وغير المُسلِمين – يأكلون مرة واحدة، يأتون بكل شيئ ويأكلون وينتهى كل شيئ، لكن تقديم الوجبات على مراحل هو اختراع إسلامي، اخترعه رجل اسود اللون هو الشحرور الهارب زرياب Zeryab، هل تعرفون زرياب Zeryab؟ الموسيقار والمُغني العظيم، تلميذ إسحاق الموصلي -إسحاق إبراهيم الموصلي – وقد فر طبعاً، فر بسبب أستاذه لوقوع التحاسد وما إلى ذلك، هو تلميذه النجيب لكنه تفوَّق على أستاذه، العود – عود إسحاق – زاد فيه زرياب Zeryab وتراً خامساً جهير الصوت، واستبدل بالريشة الخشبية – الباء تدخل على المُبدَل منه – ريشة مصنوعة من مخلب النسر، فأصبح الصوت الناتج أكثر جمالاً وحدة، شيئ غريب، وحتى الأوتار صنعها هذه المرة من أمعاء شبل الأسد – الأسد الصغير – ولا ندري لماذا، فخرج العود كتحفة فنية، شيئ غير طبيعي ، الرشيد كاد يُجَن بسبب هذا الصوت، فتحرَّكت الغيرة في قلب إسحاق الموصلي، قال هذا يعني أنه سوف يأخذ الرزق كله، فقال له تترك بغداد وإلا، فهم المسكين وفر إلى الأندلس، مباشرةً سمع به الحكم بن عبد الرحمن باني الزهراء فاستضافه وأعطاه مبلغاً هائلاً من القطع الذهبية كل سنة وقصراً وخدماً وحشماً، فهم كانوا يُحِبون الفنون، الآن يُقال الموسيقى حرام وكل شيئ حرام، لكن هذا ليس حراماً، فكانوا يُحِبون الفنون والحياة الراقية والجمال وما إلى ذلك، فاستقبله الرجل حينها، وهو لم يقتصر على أنه ألَّف مدرسة موسيقية للكل – للفقراء قبل الأغنياء – وإنما أصلح المطبخ الأندلسي أيضاً، أصلح المطبخ وأدخل أطعمة كثيرة جداً وأدخل بعض المزروعات التي يعرفها أهل الأندلس، وطبعاً نظام الوجبة الواحدة انتهى الآن، ومع زرياب Zeryab سينتهي في العالم المُتحضِر إلى اليوم، قال لهم أول شيئ لابد أن نُقدِّم المُقبِلات، بعد ذلك نُقدِّم الحساء – Soup – مثلاً، وبعد ذلك نُقدِّم الصلصات والسلطات، بعد ذلك نُقدِّم الوجبة الرئيسة – Main – مثل الكوسة واللحم والكسكي والكبسة وإلى آخره، وبعد ذلك نُقدِّم الحلويات – Dessert – لكي نُحلي، وبعد ذلك نُقدِّم أنواع من المشروبات، بعد ذلك يأتي الشطرنج، فهو الذي قدَّم الشطرنج أيضاً هدية لملوك الأندلس، قال لهم هذا جيد للتسلية، فزرياب Zeryab هو الذي فعل هذا، شيئ غريب، وبعد ذلك التفت إلى عالم الأزياء، قالوا أنه أدخل أزياء جديدة للنساء وللرجال من الخدم والملوك وإلى آخره، أول دار أزياء أنشأها زرياب Zeryab، عنده عقلية كبيرة، فهذا الراعي – كما يقول بعضهم – هو قدّيس حياة الترف في الحواضر، هناك شيئ اسمه قَصة الغلمان، وقصة الغلمان مشهورة في أوروبا الوسيطة، كانت القَصة رقم واحد، وقد اخترعها زرياب Zeryab، مُزيل عرق الإبط أول مَن اخترعه في العالم هو زرياب Zeryab، وهذا معروف الآن في العالم كله، زرياب Zeryab فعل هذا فضلاً عن أشياء كثيرة، يُوجَد شيئ اسمه غزل البلاط، في أوروبا يُسمى غزل البلاط، أي الحب العذري أو الحب العطفي، لماذا يُسمى غزل البلاط؟ لأن مستحيل أن تُنشِد هذه الأشعار وتتغزل بالكلمات أمام الناس وإلا سوف تٌقتَل، الكنيسة تحرقك على الخازوق، تُخوزَق مباشرةً، لكن عند الملوك يُنشَد هذا، الملوك ممنوعون طبعاً هم والبارونات الكبار خاصة في البلاطات، المُهِم أنه كان في البلاطات، ولذا يسمونه غزل البلاط، وما هو غزل البلاط؟ غزل البلاط هو الذي مَهَّدَ للثورة على الكنيسة، ما رأيكم؟ مَهَّدَ للثورة على الكنيسة كما يقول العالِم الأكبر في علم الأساطير جوزيف كامبل Joseph Campbell، جوزيف كامبل Joseph Campbell يقول إن غزل البلاط لم يكسر احتكار الكنيسة فقط للحديث عن العواطف وإنما أدى إلى ثورة علمية، وطبعاً هو كسره مرتين، بانتقاء نوعية الحديث وبانتقاء لغة الحديث، لغة الحديث كانت هي اللاتينية التي تملكها الكنيسة، والشعب كان غير مُتعلِّم كما قلنا، فجاء غزل البلاط وشعراء التروبادور أو شعراء الجوالة أو المُتجوِّلون وقدَّموا شعراً باللغة العامية في البروفانس Provence جنوب فرنسا وتحدَّثوا عن الحب العاطفي أو الحب العذري، ليس عن حب المسيح أو حب العذراء وإنما عن حب البشر بعضهم لبعض، كحب الرجل للمرأة، كان يُوجَد شعر ولاّدة بنت المستكفي في الأندلس، امرأة تتكلَّم في هذا، كان يُوجَد كتاب محمد بن داود بن علي الظاهري، أعني كتاب الزهرة وعَرِفَ باللاتينية في الحب العذري، وكان يُوجَد كتاب ابن حزم طوق الحمامة في الأُلفة والأُلّاف، هذه الكتب كلها عُرِفَت، وطبعاً ابن حزم مشهور في أوروبا بطوق الحمامة، ليس بالمُحلى ولا بأي كتاب آخر وإنما بطوق الحمامة، هذه الكتب كلها عُرِفَت في أوروبا وأدت إلى ثورة على الكنيسة، حتى الثوة العلمية كما يقول جوزيف كامبل Joseph Campbell كانت بسبب غزل البلاط، طبعاً للأسف نيتشه Nietzsche يقول غزل البلاط أو الحب العاطفي صناعتنا نحن الأوربيون، أي أنه تخصصنا، وهذا غير صحيح، إنه صناعة مُستورَدة، صناعة إسلامية وُلِدَت في بغداد قبل أن تشهدها الأندلس وفي الحجاز قبل أن تشهدها بغداد، وهذا معروف وتاريخه مُوثَّق لدينا بفضل الله، والأمثلة عليه بالمئات، واقرأوا الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، فهم يقولون هذا مجهول الأصل، لكنه في الحقيقة ليس مجهول الأصل، إنما أعطاه المسلمون لهؤلاء الشعراء الجوالة أو شعراء تروبادور الذي كان منهم ويليم William الآكيتيني الجَد الأكبر لريتشارد قلب الأسد Richard Cœur de Lion الملك الصليبي الشهير، هذا أول تقريباً شاعر أمير مِن شعراء غزل البلاط المأخوذ من التقليد الإسلامي، على كل حال آثارنا كبيرة وعميقة وغائرة في هؤلاء الناس وفي هذه الحضارة، هذه بضاعتنا – كما قلت – رُدَّت إلينا وما زالت مُستمِرة،نحتاج إلى قدر مِن معرفة التاريخ لكي يُولِد أقداراً كثيرة من الثقة بالنفس – إن شاء الله – والتأميل في الإحياء والاستحياء من جديد، لعل الله يبلغ بنا بعض ما يكتب لهذه الأمة من مجدٍ وعزٍ مُرتقَبين إنه ولي ذلك.
اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً، اللهم اجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوماً وتفرّقنا من بعده تفرّقاً معصوماً، لا تدع فينا شقياً ولا بائساً ولا مطروداً ولا يائساً ولا محروماً، اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (23/15/2014)
أضف تعليق