إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله سبحانه من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَالْفَجْرِ ۩ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ۩ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ۩ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ۩ هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ۩ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ۩ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ۩ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ۩ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ۩ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ۩ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ۩ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ۩ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ۩ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ۩ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ۩ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ۩ كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ۩ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ۩ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ۩ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
يحتج كل مسلمٍ له قولٌ في الإسلام بالنص الإلهي الجليل وبحديث المعصوم – صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – وهذا لا نقول لا بأس به بل لا مناص منه ولا محيد عنه، ولكن الذي به البأس كل البأس أن يُنظَر إلى أفهام البشر وإدراكاتهم وآرائهم ووجهات أنظارهم في النصوص على أنها عديلٌ للنصوص.
يُوشِك أن تكون هذه جريمة دينية وخطيئةً دينية قبل أن تكون جريمةً معرفية، لذا يحتاج كل مَن يتكلَّم في دين الله – تبارك وتعالى – أن يُدرِك حقيقةً مبدئية، وهى كما أن له الحق في الكلام فينبغي أن يتسم بواجبِ الاستماع لكلام الآخرين في كلامه، هناك قاعدة تقول كل ناقدٍ منقود، فإذا لم نسمح ولم نتعاط بهذه الروحية وبهذه العقلية في أن نتكلَّم ويُتكلَّم معنا وفي أن نتوجَّه بالنقد وبالنظر وفي أن توَّجه إلينا النقود والأنظار استحلنا إلى سُلطات معرفية وهذه مُصيبة، وطبعاً السُلطات المعرفية الآن كثيرة جداً في عالم المسلمين على اختلاف طوائفهم ونحلهم، وما معنى أن يستحيل العالم أو الدارس أو الباحث أو القائل في دين الله إلى سُلطةً معرفية؟ وما هى السُلطة؟
في أبسط تعاريفها وأظهرها السُلطة هى الجهة التي تُملي أو الجهة التي من حقها أن تُملي ولا يُملى عليها ومن حقها أن تفرض ولا يُفرَض عليها ومن حقها أن تقول ولا يُقال لها، فالأب في أسرته والأب في العائلة سُلطة على أولاده، فهو يُملي عليهم ولكنهم لا يملون عليه، لأن أولاده الصغار أعجز وأضعف من أن يُملوا عليه، فهو السُلطة إذن، لذلك يُقال السُلطة الأبوية وسُلطة الأب وهكذا، لأنه سُلطة يُملي ولا يُملى عليه ويقول ولا يُقال له، ولكن في عالم العلم والمعرفة هذه جريمة، أي أن يتحوَّل شخصٌ ما وإن كان في جلالة الأئمة العظام الأربعة والصادق وغيرهم – رضوان الله عنهم أجمعين – إلى سُلطة معرفية بحيث إذا قال فقوله الفصل، وبالتالي حوَّلناه إلى معصوم وإلى سُلطة معصومة تقطع بقولٍ واحد في كل مسألة وفي أي مسألة، وهذا لا يجوز، هذا يُصيب البيئة الفكرية والثقافية بسرطان مُخيف يجعلها تتآكل وتتمزَّق وتتشظَّى بعد ذلك، وهذا من أخطر السرطانات التي تعرض للبيئة الثقافية والمعرفية، يُمكِن أن يظل العالم والمُتحدِّث والباحث والدارس مُستشاراً، وحتى هذه كانت مرجعية نخاف منها، فيُمكِن أن يُقال الكتاب مرجعية والسُنة مرجعية، ولكن من الصعب أن يُقال أن أقوال العلماء وآراء العلماء مرجعيات، لأن كلمة مرجعية مشوبة بروائح السُلطة وبنكهة السُلطة، فلا نقول مرجعية – Reference – وإنما نقول مُستشاراً، فهو يُستشار ويُرجَع إلى قوله كاستشارة، ولنا أن نقول على قوله ومن وراء قوله ومن بعد قوله سواء أصابنا أو أخطأنا وسواء أصاب أو أخطأ، لكن هذه الروحية غير موجودة الآن في العالم الإسلامي، بالعكس الموجود بشكل فاقع عكسها، ولذلك تتداخل السُلطات.
في الخُطبة السابقة أشرنا إلى تداخل صلاحيات الله حتى – والعياذ بالله – مع صلاحيات هؤلاء، إنهم ينتحلون صلاحيات الله – تبارك وتعالى – وطبعاً من باب أولى أن ينتحل مَن يتكلَّم صلاحيات المُفتي وهو ليس مُفتياً، هو مُجرَّد إنسان يتكلَّم ويظن أنه إذا خرج في التلفزيون Television أو الفضائية أو في اليوتيوب YouTube أنه أصبح مُفتياً، وهو ليس عنده لياقات المُفتي، فأنت لا تُحسِن تتكلَّم العربية وأنت لا تُحسِن أن تُعرِب آية يا أخي – رحم الله امرأً عرف قدر نفسه – فكيف تُفتي؟ لكن هو لا يقنع بأنه مُفتٍ فقط بل هو يتجاوز دور المُفتي إلى دور القاضي، يبقى فقط أن يأخذ بسيف الجلَّاد، أما أنه قاضٍ فهو قاضٍ يقضي ولذلك يقول هذا كافر وهذا مسلم وهذا زنديق وهذا صالح، لكن هذا يقوله القاضي، فليس من شأن المُفتي أن يتكلَّم وأن يقول هذا كافر، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فأنا أحكي لكم عن بديهيات – للأسف الشديد – تعلَّمناها في نعومة أظفارنا وفي الدروس الأولى التي تلقيناها في أصول الفقه، فنحن تعلَّمنا هذا، وفي آخر الأبواب من كل كتاب في أصول الفقه هناك باب مُتسِع ضافي الذيول عن الاجتهاد والتقليد وعن الإفتاء والقضاء والفرق بين المُفتي والقاضي، وهذا يتلقاه كل طالب علم في المراحل الأولى، ولكن هؤلاء يزعمون أنهم مرجعيات وسُلطات معرفية، ويخبطون خبط عشواء، فلا يُميِّزون بين هذا ولا هذا ولا ذاك ولا شيئ، وهذاشيئ عجيب جداً، فلماذا إذن؟!
قصار عمل المُفتي أن يقول لك الفُتية، هذا وإذا كان مُفتياً وله لياقة أن يُفتي، وقوله ليس مُلزِماً، فالإفتاء ليس مُلزِماً أصلاً، حتى ولو كان مُفتي الجمهورية أو مُفتي المملكة، إفت على كيفك فأنت لست قاضياً، والمُفتي ليس مُلزِماً إلا إن ألزم ولي الأمر الأمة بشيئٍ ما، فهذا من صلاحيات ولي الأمر، وكما يقول علماء الأصول رأي الإمام يرفعُ الخلاف، وذلك في مسائل الخلاف التي فيها منادح للنظر فتجول فيها أنظار وآراء المُجتهِدين من السادة الفقهاء والعلماء، وبالتالي لا بأس، ولكن فيما دون ذلك المُفتي قصاره أن يقول هذا القول على ما أعلم وأُحقِّق كفرٌ، فهذا القول كفرٌ، أما أن الذي يقول به يُعَد كافراً فهذا لا يجوز، وهذا إن قال به أصلاً، لأن بعد ذلك لابد أن نُحرِّر هل قال به أو لم يقل به، فهذه ليست وظيفة مُفتٍ على الفضائيات وفي الهواء، وإلا ما هذا الخبط؟ وما هذه الدعاوى؟ وما هذه الفوضى؟ ولكن هذه وظيفة القاضي، فالقاضي هو الذي يفعل هذا، فالقاضي يستدعي الشهود ويتقصى البيِّنات، وبعد ذلك يعمل بما انتهى إليه اجتهاده في المسألة، فالمسألة عينية مخصوصة، ومن ثم يقول بعد التقصي والتحقق والتثبث ثبت عندنا أن فلاناً كافرٌ مُرتَّدٌ، فهو كافر بانتحاله كذا وكذا، وقد أقمنا عليه الحُجة، فإما تاب ونزع وإلا أقمنا فيه أمر الله تبارك وتعالى وهكذا، فهذا عمل القاضي فقط، ولكن هؤلاء ليسوا مُفتين أصلاً وليسوا قضاة ويفعلون هذا، وهذا شيئ عجيب، ولكنني أذكر لكم هذا حتى تعلموا مدى الخبط وارتفاع الضبط الذي تُعاني منه الساحة الثقافية الإسلامية بطريقة تأصيلية، فهذا هو الواقع، وعلى كل حال ليس كلامي في الحقيقة في هذا الموضوع، وإنما هذه مُقدِّمة فقط أردت أن أُمهِّد بها لتقبل كل طرح جديد أو كل طرح قد يبدو جديداً – كما قلت في الخُطبة السابقة – في موضوعات قديمة، طرح بخصوص تفسير آية أو تفسير حديث أو إعادة تفسيرها أو تفسيره، فلا بأس وعلينا أن نكون مُهيَّأين أن نستمع إلى الجديد وأن نتقبَّل الجديد، وليس لنا أن ننظر إلى أقول العلماء وكتب العلماء على أنها سُلط أو سُلطات معرفية لا يُخرَج عنها وتتلَّقى بالبخوع والخشوع وانتهى الأمر، هذا غير صحيح، فلا يتطوَّر شأن أمة ولا فكرها ولا تتحرَّر شخصيتها بمثل هذه التعاطيات وبمثل هذه المُقارَبات التقليدية البائدة الرثة.
ومن وراء هذا الكلام أُحِب أن أقول لي كلمة مأثورة من سنين أُردِّدها وأقولها دائماً وهى أن أولوية الأولويات هى الإنسان، وأولوية الإنسان هى الحرية،
وهذه الكلمة لها ما وراءها – كما يُقال – ودونها ما تحتها من أعماق، فبعض أحبابنا نقَّد على هذه الكلمة وقال هذا غير صحيح فأولوية الإنسان هى الله، ولكنني مُصِر على أن أولوية الإنسان هى الحرية وليست الله تبارك وتعالى، فأولوية الإنسان هى الحرية، ولكن لماذا؟ سأُجيب عن هذا، فلو قلنا أولوية الإنسان الله كما يُصِر بعض الظاهريين والنصوصيين والحروفيين وأصحاب الأفق الصغير والمُستوى القليل في عمقه في فهم النص وجوهر النص ومقاصد الشرع الكريم كما حدث عبر تاريخ الملل والأديان لما شكَّل هذا أي ضمانة تقريباً – بصعوبة سيُشكِّل ولعله لا يُشكِّل أي ضمانة – لحريات البشر وأي حصانة ضد انتهاك حريات البشر، بالعكس ظلت حريات البشر عبر الأدهار والعصور أو الأعصار تُنتهَك وتُصادَر بإسم ماذا؟ بإسم الله وبإسم المُقدَّس، فدفاعاً عن الدين وعن العقيدة وعن جناب الله – تبارك وتعالى – وعن الأيدولوجية تُصادَر حريات شعوب كاملة بإسم الله، ولكن ما الذي يحدث في الحالة المُعاكِسة؟ في الحالة المُعاكِسة إذا جعلنا أولوية الإنسان الحرية في أول خُطوة على مسيرة البحث والتنقيب والتعمق سنجد الله – لا إله إلا هو – ثابتاً مُباشَرةً، لكن لماذا؟ لأن الله لا يُنتفى، فمُستحيل إذا أثبت الإنسان أن ينتفي الله، والمقصود طبعاً اعتقاداً وليس في الواقع، فالله – لا إله إلا هو- في الواقع هو الحق المُبين، ولكن في الاعتقاد فلسفياً وميتافيزيقياً، فهذا يستحيل وسأوضِّح لكم هذا، علماً بأن هذه النُقطة عميقة جداً جداً جداً، وأكيد بالحري مثل هذا الأخ الفاضل لا يُدرِكها ولم يسمعها من قبل، ولذلك قال لك الأولوية هى الله، فلا نُريد حرية تأتينا بالإلحاد وتأتينا بالفساد وتأتينا بكذا وكذا، وهذا غير صحيح، فمَن قال لك هذا؟ نحن نتحدَّث عن الحرية بالمُطلَق وفي رأس هذه الحريات الحرية الأنطولوجية والحرية الميتافيزيقية، أي عن الـ Freedom وليس عن الـ Liberality وحريات التحرّر، أي الحرية بالمعنى الذي يُطرَح في الأدبيات الكلامية وفي الأدبيات العقدية وفي الغرب الأدبيات اللاهوتية الثيولوجية بإسم مُخيَّر أو مُسيَّر، فهذه الحرية الميتافيزيقية أو الحرية الأنطولوجية مُباشَرةً لا معنى للحديث عنها -وضروري أن نتحدَّث عنها – ولا معنى أصلاً للبحث فيها إذا افترضنا غياب الله تبارك وتعالى.
ماذا يقول الفيلسوف الألماني المُتديِّن الوجودي كارل ياسبرس Karl Jaspers صاحب عظمة الفلسفة؟ يقول لا معنى للحديث عن حرية الإنسان إذا لم نتحدَّث عن الله تبارك وتعالى، لماذا؟ لأن السؤال يثور من تلقائه: إزاء مَن؟ أنت تقول أنا حر ولكن إزاء مَن؟ إذا لم يكن هناك ثمة إله قدَّر عليك أشياء وقضى عليك بأشياء وأنت مسؤول إزاءه فإذن إزاء مَن أنت حر أو غير حر؟ سوف تنتفي المسألة أساساً من أصلها، ولا تغدو لا حراً ولا غير حر، فالمسألة ليس لها معنى أصلاً.
هذا هو، إذن الحرية الأنطولوجية والحرية الميتافيزيقية لا معنى لها مُطلَقاً بغير افتراض وجود الباري لا إله إلا هو، فإذن نحن لم نخسر الله هنا، حين ننحاز إلى الحرية ونجعلها أولوية الأولويات في الضربة الأولى وفي الخُطوة الأولى نكسب الله تبارك وتعالى، وبعد ذلك نُكمِل المشوار.
وهذه الحرية ضمانة لإتاحة الفرص الواسعة وليست الضئيلة المنزورة للبشر لكي يُطوِّروا تجارب روحية حقيقية وتجارب إيمانية حقيقية، وليست أشكالاً من التديّن الزائف والكاذب الذي لا يتغيا أكثر من الامتثالية والتطابق مع المُجتمَع،وهذا التديّن عرفته كل الشعوب وكل الجماعات، فيُوشِك أن يكون بغير قيمة أصلاً ويُوشِك أن يكون في صور من صوره هو سبب الكوارث المصائب التي تحيق بالركب البشري، ولكن إذا جعلت الأولوية للحرية أنتج ذلك نوعاً من التجربة الإيمانية الخصيبة المُتحرِّرة العميقة المُتجوهِرة بالمعنى في عمقه وليست المُتدَّثِرة بعباءة الطقوس والشعائر، وهذه هى التجربة الدينية في أفقر صورها، فالمسألة مُهِمة إذن، ولذا من وراء هذا الكلام أُحِب أن أقول أيضا إذا كانت هذه الحرية بالمُطلَق طبعاً – ليست فقط الميتافيزيقية الآن وإنما الحرية بالمُطلَق بما فيها حرية التحرّر أو التحرريات كلها بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وإلى آخره، يعني الحريات السالبة حتى المُتعلِّقة بألا وألا وألا وألا وألا وألا، فهذه حريات سالبة تدخل أيضاً في الموضوع وهى مُهِممة جداً، وهذه أكثر ما يُعنى بها الخطاب الليبرالي، فالخطاب الليبرالي يُعنى كثيراً بالحريات السالبة المُتعلِّقة بألا وألا، لأن هذا هو المعنى الأصيل لهذه الحريات لرفع القيود، وعلى كل حال أنا أتحدَّث عن حرية أو الحريات بالمُطلَق تُشكِّل أولوية – وما زلنا مُصِرين – أولويات الإنسان فإن هذه الحرية مُهدَّدة في أحوال كثيرة تجعلها تتراجع وتضئل وتنزر فرصها في أن تزدهر وأن تُورِق فضلاً عن أن تُثمِر، ومن هذه الظروف ومن هذه العوائق الفقر المادي، فالفقر المادي يتعلَّق بقلة ذات اليد ومُحارَبة الناس في أقواتهم وأرزاقهم، لكن كيف هذا؟!
مَن يتحدَّث عن حق الشعوب وحق الأفراد في الحرية والتحرّر عليه أن يضع نُصب عينه – وبدرجة أولى أيضاً – حق الشعوب أن تتجاوز الضرورات، ولي كلمة سأقولها اليوم وهى حين يفرغ الإنسان من الضرورات – وفقط حين يفرغ من الضرورات – تبدأ كرامته، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أن لا كرامة لمَن يُستغرَق يومه – نهاره وليله – في تحصيل وإحراز الضرورة، هذا مُستحيل، فهذا المسكين أشبه بحيوانٍ يبحث عن علف، والعجب من الخطاب العام بما فيه الخطاب الديني السُلطاني أنه يقول بعكس هذا، علماً بأنني سأنعته بالخطاب السُلطاني الخوَّان – ليس الخائن بل الخوَّان – لأنه ظل وأدمن على أن يخون الأمة في قضاياها وفي مصالحها وفي أرزاقها، فضلاً عن خيانتها في حرياتها بالمُطلَق أيضاً مرة أخرى ثانية أو ثالثة أو رابعة، فهذا الخطاب السُلطاني الخوَّان يفشل في أن يقرأ النص قراءةً تُقارَب مراد الله من إنزال النص أصلاً أو تقترب من مُراد الله ومن مقصود الله في إنزال هذا النص أصلاً، فهو يفشل ويعجز لأنه أعجز من أن يلتفت وأعجز من أن يتنبَّه، لأنه غير مُهتَم، وسوف أقول لكم عبارة جديدة الآن وهى أن الانتباه والالتفات هو ابن الاهتمام، أي الابن الشرعي للاهتمام، وبطريقة أخرى الاهتمام هو المُموِّن الأكبر للانتباه، وهذا المعنى يُمكِن أن نختبره بسهولة – ونحن نختبره يومياً دون أن نفطن إليه – في الظهور المُفاجيء للأفكار والآراء واللمحات وللأشياء أيضاً، فقط تتلو آية وفجأة ترى أن الآية التي تلوتها من قبل ألف مرة أو أزيد شرعت أن تقول شيئاً لم تقله من قبل قط، فهى لأول مرة تفوه به، ومن ثم تتعجَّب أنت وتكون في حالة من الانتشاء والفرح المعرفي والحبور المعرفي، وتقول كيف قالت الآية هذا؟ لقد قرأتها أزيد من ألف مرة، ولكن لأول مرة بدأت تُدلي وتُموِّن بآراء جديدة وبإيقاظات وبتلميحات وباستبصارات – Insights كما يُقال – وتبصرات جديدة، وكذلك في الشارع تظهر سيارات من ماركة الميني Mini أو الأوبل Opel أو المرسيدس Mercedes، فتقول لأول مرة تظهر بشكل غير طبيعي أمامي، وفي الحقيقة لا الآية قالت هذا لأول مرة ولا الشارع غص وازدحم واكتظ بمثل هذه السيارات لأول مرة، فتقريباً لا جديد، لكن الجديد في عينيك وفي دماغك، أنت تُريد أن تشتري سيارة من ماركة ميني Mini – مثلاً – البي إم دابليو BMW، ففقط ساعة أو لحظة تهتم باشترائها سيُموِّن هذا الاهتمام وينُعِش ويستفز الانتباه والالتفات والتلمح، وسوف ترى هذه السيارة كأنك تراها لأول مرة تغص وتزدحم بهذه الشوارع، فتقول هذه ميني Mini وهذه ميني Mini وهذه ميني Mini، فأنت من قبل لم ترها وفي الحقيقة هى لم تظهر فجأة، لكن الانتباه هو الذي أظهرها، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، ومن هنا الخطاب السُلطاني الخوَّان المنكور يفشل في أن يستمع لما تقوله الآيات بصوتٍ زاعق وصادح مُبين، فهو يفشل ولا يستطيع في هذا، لكن لماذا؟
هناك سبب أعمق في التعليل وهو لأن هؤلاء السُلطانيين عديمو الإحساس الإنساني تقريباً – أكيد عندهم القليل منه ولكنه يظل قليلاً – بإخواتهم من بني الإنسان وبمُعاناة الآخرين وبمرائر الآخرين وببالألاقيهم وبمُكابَداتهم وبعذباتهم وبإهاناتهم وبذلهم وبوجوه حرمانهم، فهم عديمو الإحساس، بمعنى أنهم لا يجدون أدنى غضاضة – وهم أصلاً لا يلتفتون إلى أن في الأمر غضاضة – أن يتحدَّثوا مائة ألف ساعة وأن يُبيِّضوا مائة ألف صحيفة وورقة في الحديث عن ما ينبغي أن يُقال عن عرش الرحمن وكيف استوى وهل هناك كيفية أم لا يُوجَد كيفية، ثم يذكرون المذاهب والآراء والشعوب والفضول والذيول التي غصت بها كتب الإسلاميين عبر القرون في مسألة عرش الرحمن، ولو كتبوا عُشر بُعيشير ما كتبوه عن عرش الرحمن وكيف استوى أو هل هناك كيفية أم ليس هناك كيفية وما معنى الاستواء فقط عن عرش السُلطان – علماً بأنه ليس شرطاً أن يكون ملكاً هذا السُلطان، فقد يكون أميراً وقد يكون رئيساً جمهورياً مُنتخباً وهكذا، فما علينا من هذا لأنه لا يهمنا – وعن معنى السُلطان والتسلط وكيف استوى هذا السُلطان على عرشه – ومعروف طبعاً كيف استوى، فمرة يأتي عن طريق الدم والوراثة من طبقة Schicht مُعيَّنة سبحان الله، وهذه الطبقة مكتوب علينا أن تحكمنا وأن تملكنا وأن تسوسنا – لكان لهم الويل كل الويل، فالويل لك لو مسست هذا الجناب الأقدس الأعظم ولو من بعيد ولو بالحديث عن الفقر والخصاصة، فلو فعل أحدهم هذا سيقول الناس عما قليل عنه فك الله أسره أو رحمة الله على روحه الطاهرة، لأنك ستلقى حتفك أو يُزَّج بك في غيابات السجون، وما سوريا الآن منا ببعيد، حيث يُلِّح الناس حول حديث السؤال السوري أو المسألة السورية وعن حديث المُؤامَرات الداخلية والخارجية والاستعمار والصهيونية والصليبية، وكل هذا هناك مجال للحديث فيه من الأطراف المُختلِفة إثباتاً ونفياً، ولكن ليس هذا هو محل النزاع، محل النزاع – ونقولها للمرة المائة – شيئ آخر، وبالأمس يتصل بي أحدهم بي قائلاً “صدقني يا شيخ – والمسألة لا تتعلَّق فقط صدقني لأن بعضهم يحلف أيضاً، لكن سواء حلفت أو لم تحلف وسواء صدقتك أو كذبتك هذا لا يزيد ولا ينقص في المسألة، فما هكذا تُورَد يا سعد الإبل – بالله العظيم ليس هكذا الأمر، صدقني الشعب السوري يُحِب هذه السُلطة ويُحِب هذا النظام، يُحِبه حقيقةً كثيراً”، لكن من الصعب أن أُصدِّقه، فهل تعرفون لماذا؟ يعلم الله أن ليس لي أي غرض أن أُصدِّق أو لا أُصدِّق أبداً، وإنما أنا سأُصدِّق لأن لي عقلاً بشرياً بسيطاً جداً – ليس عقل المثقَّف وإنما بالعقل بشري عادي Standard – أن الشعب يُحِب نظاماً يُكرِمه ولا يُهينه، يُعطيه ولا يحرمه، يُعزِه ولا يُذِله، ومن ثم سأحترم نظاماً جاء بطرق شرعية وهو قابع بطرق شرعية، فهذا سأحترمه وسأُصدِّق أن الشعب يُحِبه، أما أن تقول لي أن الشعب وإن المُواطِن يُحِب مَن يُهينه ومَن يُذِله ومَن يُرعِبه ومَن يُفزِع في حقه ومَن يُفزِّعه ومَن ومَن ومَن ومَن فسوف أقول لك أنت لست الكاذب لكن هذا المسكين الذي يدعي محبة هذا النظام هو الكاذب، والذي حمله على الكذب هو الخوف، أي جرعات الخوف الزائدة التي شلَّت فيه حتى إمكانية أن يهمس بالحقيقة مع ضميره، ولذلك هو يخون ضميره!
من هنا أقول لكم أن الفقر كما الخوف، وقد يكون الخوف أحد الأبناء غير الشرعيين – أبناء الحرام – للفقر، فالفقر هذا يلد أبناء كثيرين غير شرعيين لأن الفقر غير شرعي، ولذا تساءلت أمس مع نفسي ما هو الفقر لو أردت أن أوصِّف توصيفاً علمياً للفقر؟ بعضهم يقول هو ظاهرة، وهذا التوصيف واسع جداً ومطاطي جداً جداً جداً فكأنه لا يقول شيئاً، ومن ثم يجب أن ننتبه إلى هذا، فكلمة ظاهرة لا تقول شيئاً مع أنها كلمة دارجة في الأبحاث العلمية، مثل ظاهرة الفقر وظاهرة الكذا، فهذا لا يقول شيئاً، ولكن ماذا نقول إذا أردنا توصيف أدق وأعمق قليلاً؟ هل نقول مُصيبة الفقر مثلاً؟ هذه ليست مُصيبة، فقرآنياً المُصيبة تقريباً هى التي للقدر إسهام واضح فيها، وللإنسان أيضاً إسهام ولكن القدر يتدخل هنا، فهذه ليست مُصيبة، لكن هل نقول بلية أو كارثة؟ ماذا نقول؟ أعتقد أن أحسن توصيف هو خطيئة الفقر، فقد انتهيت بيني وبين نفسي إلى أن أُسميه خطيئة الفقر، وطبعاً بالحري وعدلاً وقسطاً الفقر ليس خطيئة الفقراء وإنما هو خطيئة المُجتمَع، وفي مثل الدول العالم ثالثية هو خطيئة النظم بالذات بدرجة أولى، وبدرجة ثانية هو خطيئة النظام الاجتماعي، أي هو خطيئة النظام السياسي أولاً ثم خطيئة النظام الاجتماعي ثانياً، وعلى كل حال هو خطيئة، والدليل على أنه خطيئة ما صح عنه عليه الصلاة وأفضل السلام، حيث قال “أيما أهلِ عِرْصَةٍ أصبحوا وفيهم امرؤٌ جائع فقد برئت منهم ذمة الله”، الله أكبر، وطبعاً هذا النص يكرهه فقهاء السُلطان، هم يكرهونه جداً جداً جداً ولا يُحِبونه، فمن الصعب أن تسمعوا هذا على المنابر وبالتالي يجب أن تنتبهوا، وحتى إذا سمعتموه سوف ترون أنهم مُباشَرة يكرون عليهم بتأويلات وتمحلات وتعليلات ومجازات وتشبيهات واستعارات وكنايات تُفرِغه من مضمونه، وفي النهاية يخرج الفقير المسكين بعزاء أُخروي، فيقولون له الجنة لك في الآخر يا مسكين، أما الجيب فليس به أي شيئ، فنعم ليس في الجيب شيئاً ولكن الجنة لك في الآخرة، فأنت هنا لا شيئ لك، بل بالعكس هذه حسنةٌ لك، فأنت تكون محروماً هذا يُعتبَر شيئاً طيباً، فمن الأفضل لك أن تُحرَم لأن الإنسان يطغى – أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ۩ – إذا لم يُحرَم، فهل تُريد أن تطغى وأن تُصبِح طاغية؟
وهكذا يكذبون على الله، فهل القرآن قال هذا؟ هل القرآن يقول كلا إن الإنسان ليطغى أن استغنى؟ هذا غير صحيح، الله لم يقل هذا، ولكن الله قال كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ۩ فالله قال أَنْ رَآهُ ۩، إذن موضوع طغيان الإنسان كتالٍ من توالي النعمة والإفضال الرباني عليه ليس كذلك كما يُصوَّر، وإنما هو تالٍ ليس للنعمة ولكن للمنظور الخاطيء المُنحرِف، فالمنظور أَنْ رَآهُ ۩، أي حسب رؤيتك – Vision – ونظرتك واستبصارك، فكيف ترى الأمور أنت؟ هو يرى أن الله أغناه لأنه أفضل من غيره وأكرم من غيره وقلبه حليب أبيض مثل الجبن ما شاء الله، ولأن الله أراد به هذا لأنه اصطفاه كما اصطفى الأنبياء، ويقول أما الفقراء فجريمتهم أنهم فقراء، نعم هذه خطيئة ولكن خطيئة الفقراء، أما أنا الغني المُتموِّل المُثري الواجد فذلك لأنني من جنس آخر، قلبي – على الأقل – من نوع آخر، فقلبي ذهبي لكن قلوب الناس حديد وصادئة، وهذا كله غير صحيح، لأن القرآن يرفض هذا ويقول كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ۩، فالله يقول أن البلية من هذه الرؤية الخاطئة، فمن أين أتت هذه الرؤية الخاطئة؟ هل تعرفون من أين؟ من كفر النعمة.
الآن اليوم سألت أهلي وقلت لها لو أن الله – تبارك وتعالى – أعطى بشراً نعمةً – ولتكن نعمة المال، أي أنه موَّله وأتاه مالاً عظيماً – ما هو المنظور الصحيح الذي ينبغي عليه أن يتسلَّح به في النظر إلى هذه المسألة؟ فكَّرت طويلاً وأجابت بجوابات لم أقبلها للأسف، فقلت لها المنظور الصحيح ليس إكراماً وليس إهانة، إنما هو امتحان، فالله يفعل هذا امتحاناً فقط، وبالتالي إياك أن تقول الله أعطاني لأنه يُحِبني، فمَن قال لك هذا؟ والله لو نعلم أنه يُعطينا ويُحِبنا لما حتى التفتنا إلى هذا العطاء، فلن نُريده إذن لأننا سوف نُريد فقط أن يُحِبنا، فلو أنه أعطانا قل هذا أو كثر وهو يرضى عنا أو لأنه يرضى عنا لما عبأنا أبداً ولا بالينا هذا العطاء ولا هذا المُعطى أبداً.
قليلُ منك يكفيني ولكن قليلك لا يقال له قليل
من أين لنا أن نعلم إذن؟
العابد والراهب الكبير مالك بن دينار – رضوان الله عليه – يقول “والله لوددت أنه إذا جمع الناس يوم القيامة يُنادي علىّ يا مالك بن دينار فأقول لبيك ربي فيقول أذنت لك أن تسجد بين يدي سجدة فأسجد بين يده سجدة ثم يقول لي كُن تراباً أعلم أنه رضى عني”، وذلك لأنه سمح لي أن أسجد بين يدي جلاله سجدة، فالرضا شيئٌ عظيم جداً جداً، يقول الله وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۩، فهذا أكبر من الجنة ومَن في الجنة.
إذن من أين لك أنه يرضى عنك؟ علماً بأن هذا المنطق لا يتسلَّح به إلا الكفار الجحدة الناكبون عن سواء السبيل، قال الله فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ۩– أي لي كرامتي على الله، فأنا كريم على الله وأنا مرضي محبوب – وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ – ضيَّق وقتَّر – رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ۩ كَلاَّ ۩ – فالله يقول امتنعوا ولا تُفرِغوا عن مثل هذا الفهم وعن مثل هذا المنطق أبداً، وهذا هو معنى كَلاَّ ۩، لأن كَلاَّ ۩ أداة ردع، فالله يقول إياكم وأُحذِّركم أنت تقولوا هذا، حذاري ثم حذاري ثم حذاري أن تُفكِّروا على هذا النحو، وطبعاً هذا التحذير ليس للكفار ولكنه حتى للمُؤمِنين المسلمين، فلا تقل الله أكرمني لأن الله يُحِبني والله يرضى عني ولذا أعطاني، إياك أن تُفكِّر بهذه الطريقة، فسوف تهلك الآن وتسعى في اتلاف نفسك وفي تدمير مصيرك – بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ۩ – ونحن نعرف الآن أن ما بعد أداة الإضراب “بل” هو الصحيح، وما قبلها ليس صحيحاً، فليس العطاء بالضرورة إكراماً أو علامة كرامة للعبد عن ربه، وليس المنع علامة أو سمة إهانة ومقت أبداً، وبالتالي المعنى اختلف الآن – وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ۩، لكننا لم نفهم المعنى، فهو ليس واضحاً!
نحن نستطيع أن نفهم الإضراب كأن يُقال فلان يزعم أنه يُحِبني وأنه وديدي وأنه صادقٌ في نُصحي، كلا بل هو غاشٌ لي وماقتٌ لي ومُنحرِفٌ عني، فهذا الإضراب مفهوم، والآن تأملوا في كتاب الله دائماً وحاولوا أن تفهموا كتاب الله ولا تخروا عليه صماً وعمياً أو عمياناً، حاول أن تفهم وأن تقول ما سر الإضراب؟ ما معنى كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ ۩؟
لم نفهم لأن المعنى عميقٌ جداً، لكن الذي لاح لي – بفضل الله تبارك وتعالى ومنه، فإن يكن صواباً فله الفضل والمنة، وإن يكن غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان ، والله بريٌ منه ورسوله – أن سر هذا الإضراب يُمكِن أن نُكثِّفه بجُملة واحدة وهى أن الله يقول كفركم بما أنعمت به عليكم وتبرمكم وسخطكم لدى المنع ابتلاءً في الحالين حرمكم حُسن الفهم عني وحُسن الفهم لسر العطاء والمنع مني، فأنتم لم تفهموا هذا، ولو قد فعلتم لفهمتم.
لكن ما معنى هذا؟ الله – تبارك وتعالى – قد يُعطي عبداً نعمة، وهذا العبد قد يستجيب لهذه النعمة بشكرها لأن الله يقول وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ ۩، فهو أعلمكم بهذا ويُريد منا أن نعلم هذا، لذا قال لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ ۩، لكن ما هذه اللام؟ هذه لام القسم، فالله يقول وعزتي وجلالي ومجدي وكبريائي في عليائي لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ ۩، وهذا شيئ عجيب، فالله – لا إله إلا هو – يُقسِم على هذا، لأنه يعلم ضعف اليقين البشري وعظم الارتياب والشك، وكلنا ذلكم الضعيف، ولذلك يقول لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ ۩، لكن السؤال الآن ما هو الشكر؟!
باختصار الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، أي بالجنان واللسان والأركان، وشكر كل نعمة لا يكون إلا من جنسها، فشكر نعمة الصحة يكون باستخدام هذه الآلات وهذا البدن في عبادة الله وطاعته، فلا أسير بقدمي إلى ما يُسخِط الله، ولا أنظر بعيني إلى ما لا يُرضي الله، ولا أبطش بيدي بغير أمر الله وشرعه وإذنه وسماحه، فهذا هو شكر نعمة الصحة، بمعنى ألا يُعصى الله بنعمه، ولا يقتصر الأمر على المعنى السالب “ألا يُعصى” بل لابد من المعنى المُوجَب “أن يُطاع”، فيجب ألا يُعصى بها وأن يُطاع بها، وكذلك الحال مع شكر نعمة العلم، فإذا أعطى الله أحدهم العلم والبداهة والحافظة والقوة الناقدة ماذا يفعل؟ عليه أن يلتزم بالحقيقة سواء غضب الناس أم سخطوا لأن هذا لا يعنيه، فيلتزم بالحقيقة أمام ربه أولاً وأمام ضميره ثانياً وأمام مَن يتعلَّم منه أو يتلقَّى العلم ثالثاً، وهذا التزام بالحقيقة كما يعتقدها من غير دخول في مُحاسابات ومُضارَبات وأخماس وأسداس، فضلاً عن ضرورة أن يعمل بعلمه بعد أن يُزكِّيه بالتعليم وعدم البخل به، فلا ينبعي أن يبخل به وأن يعمل به أيضاً، فهذا هو شكر نعمة العلم، وبالتالي سيزداد علماً وفتوحاً.
الآن يسألونك كيف نتعلَّم؟ كيف يُفتَح علينا؟ وهذه مسألة سهلة جداً جداً جداً، فقط اشكر نعمة ما عندك من علم، فإذا كان عند قليل من العلم عليك أن تشكر هذه النعمة ومن ثم سوف تزداد علماً بإذن الله تعالى، فإذا رأيت عالماً يتراجع في علمه ولا يُفتَح عليه ويتعَّثر فاعلم أنه لا يشكر نعمة ما عنده من علم، قال الله ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ ۩، فالله يقول هذه نعمةً، ونحن دائماً ما نسمع قول الله إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۩، والمعنى الصحيح لها أنه لا يُغيِّر ما بهم من نعمة حتى يُغيِّروا ما عندهم من الشكر فيتحوَّلوا إلى الكفر والجحود بالنعمة، فهذا مُؤذِن بحرمانهم من هذه النعمة.
في حديث الطبراني في الكبير والأوسط بإسنادٍ حسن – والحديث مقبول لذا ذكره في صحيح الجامع – أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال إن لله أقواماً اختصهم بنعمه لمنافع العباد يُقِرّهم فيها، وانظر الآن إلى هذا التعبير العجيب، حقاً ما أعظمك يا رسول الله، والله لا يقول هذا إلا نبيٌ، والله لا يُعبِّر هذا التعبير إلا نبي، فهو يقول يُقرِّهم فيها، لكن ما معنى يُقِرّهم فيها؟ النبي يقول الغنى إذن هو ليس مُجرَّد نعمة أو كرامة وإنما هو وظيفة اجتماعية، لكن كان على البشرية أن تنتظر زُهاء ثلاثة عشر قرناً حتى يأتي مُؤسِّس علم الاجتماع الأوروبي الحديث السوسيولوجي الفرنسي أوجست كونت Auguste Comte ليقول “الغنى وظيفة اجتماعية”، فليس الغنى مُتعاً وأترافاً فردية ومن ثم يحق لأحد أن يقول هذا مالي وأنا حر، ومن ثم سوف أكنزه أو أُغرِّقه أو أُحرِقه، هذا غير صحيح بالمرة، هذا المال في نهاية المطاف يعود إلى المُجتمَع، فهو مال الأمة ومال المُجتمَع، وعلى الغني أن يكون مرقوباً جيداً من المُجتمَع ومن قوى المُجتمَع الرسمية وغير الرسمية لنرى كيف يتصرَّف في هذا المال، وفي الطرح الإسلامي إذا احتاج الناس فلا مال لأحد، فيُمكِن للدولة أن تُصادِر ما شاءت وأن تُعيد التوزيع، والفاروق عمر – رضوان الله تعالى عليه وقدَّس الله سره – في آخر حياته – ولكن القدر لم يُمهِله – كان يقول “لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فرددتها على فقراء المُهاجِرين”، أي أنني سأُعيد تفتيت الثروة!
عمر أدرك خطأه هنا، فالفاروق المُلهَم وصاحب السياسات العجيبة المُدهِشة في الحكم وفي السياسة والاقتصاد أدرك أنه أخطأ حين لم يُسوي بين الناس في العطايا، فرأى في آخر حياته أن هذه التفرقة والتمييز – مثلاً هذا يُعطى عشرة وهذا يُعطى ثلاثة – سمحت بمُراكَمة ثروات هائلة عند بعض الناس فاتسعت الفروق الطبقية بين الناس، والمفروض في الطرح الإسلامي فقط هو – المسموح والسائغ فقط – أن تتسع نسبياً الدرجات في الطبقة الواحدة، لا أن تُوجَد طبقات تتسع بينها الفروق، فهذا غير صحيح، لكن هذا هو الطرح الرأسمالي، أما في الطرح الإسلامي فيُوجَد درجات لا طبقات، وإن بقيت فضلة وقت سأُوضِّح لكم هذا وسأُحدِّثكم عن الفرق بين مفهوم الدرجة قرآنياً ومفهوم الطبقة في السياق الرأسمالي تاريخياً على أن مفهوم مُتطوِّر جداً جداً جداً وحيوي، لكن على كل حال الفاروق عمرفعل هذا لأنه طبعاً يُدرِك مقاصد الإسلام.
نحن طبعاً إلى الآن ما زلنا في صلب حديثنا عن الفقر وكيف أنه يعتقل إمكانات الإنسان ويُشوِّه شخصية الإنسان ويشل قدرات الإنسان وينتقص آدمية الإنسان، فالإنسان الفقير منقوص الآدمية – إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۩ – طبعاً، فهذا المسكين منقوص الآدمية لأنه صاحب ضروارات ومن ثم هو مُستهلَك في تأمين وإحراز الضرورات اليومية، فلو سألت أي مسلم عادي – وأنا مُتأكِّد من أن بنسبة تسعة وتسعين في المائة لن يُجيب أحد عنه بطريقة صحيحة، ولكنني الآن سأطرح السؤال هذا، وافعلوا هذا خارج المسجد – مَن الفقير؟ ومَن الغني؟ فإن المُتعلِّم تعليماً فقهياً مقبولاً سوف يقول لك الغني هو الذي يملك النصاب، ولكنه لن يفهم دلالة هذا الجواب، فهذا له دلالة واسعة جداً جداً، هل تعرف ما معنى أن الغني هو الذي يملك النصاب؟ هذا رجل عنده كفاية سنة، أي عنده ما يكفيه وأهله ومَن يعول لسنة كاملة، لكن كيف هذا؟ سواء عنده بالجُملة أو بالمُفرَّق هو على كل حال يُعَد مكفياً على مدى سنة كاملة، لأن النصاب بحد ذاته لا يُوجِب الزكاة وإنما مشروط بحولان الحول، وهذا في لغة أصول الفقه سبب، وهناك طبعاً الشرط، فالسبب يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم، أما الشرط فيلزم من عدمه العدم ولكن لا يلزم من وجوده لا عدمٌ ولا وجود لذاته خارجاً – أي حال كونه خارجاً – عن حقيقة المشروط، فهذا هو الفهم الأصولي، فالشرط إذن هو حولان الحول، وهذا أمرٌ عجيب، وهذا يدل على أن للإسلام في ذلك نظرية غير طبيعية، وهذا الذي يجعلني أميل بكل أريحية وبكل سعة صدر ومقبولية إلى القول الذي يذهب إلى سائغية إعطاء الفقير غنى سنة على الأقل، فلا تعطه خمسين يورو أو مائة يورو وإنما أعطه ما يُغنيه سنة، فماذا كان يقول الفاروق رضوان الله عليه؟ كان يقول أعطوا الفقراء حتى تُغنوهم، أي لا تُعطه القليل من الدراهم والدُريهمات ولكن أعطه لكي يغنى ويغتني لسنة على الأقل، حتى يُصبِح في الحد الأدنى من حدود الغنى، أي غنى سنة وكفاية سنة.
أنا أقول للإخوة الذين عندهم تحفظات على سيدنا عمر من إخواننا الشيعة وغيرهم والله والله هذا الرجل لو درستموه بنزاهة لأحببمتوه، واتركوا قضية الإمامة والنزاع مع الإمام عليّ – عليه السلام – وهذه القضايا كبيرة وسوف نعود إليها – إن شاء الله بعون الله – لأنها لابد أن تُناقَش وأن يُفتَح ملفاتها، ولكن اقرأوا هذا الرجل وكأنه ليس من هذه الأمة، اقرأوه كما تقرأون سيرة بسمارك Bismarck نابليون Napoléon ويوليوس قيصر Julius Caesar، وأنا أقول مُتأكِّداً من قولي أنكم ستُعجَبون به أشد الإعجاب، ولكن اقرأوا تاريخه ولا تقرأوا فقط فصل النزاع كما يُعرَض في كتبكم بينه وبين الإمام عليّ – عليه السلام – وبينه وبين أهل البيت، وإلا لن تُحِبوه طبعاً بهذه الطريقة، فهذا أمر واضح، لكن ليس هكذا الأمر.
خطر لي اليوم وأمس في الحقيقة خاطر جديد وجميل جداً، لأنني أفعل هذا حتى مع الماركسية ومع الوجودية ومع الإلحاد، وهو أن كل نظرية وكل فكرة وكل شيئ أتعاطى معه أقرأه بروحية مَن يُريد أن يتبناه لا مَن يُريد أن ينقده أبداً، فأفترض مبدئياً أنه قد يكون حقاً وصواباً وأنه أحسن مما عندي، ولذلك أدخل بحيدة كاملة وموضوعية غير مُتهِم لنفسي بالانحياز، ولكن حين يفشل هذا الشيئ أن يُقنِعني أعلم أنه فاشل وأستطيع أن أُناضَل وأن أُجادِل أهله وأحسن مَن يُدافِع عنه وأُثبِت لهم أنه فاشل، لماذا؟ لأنني جرَّبت أن أتبناه بصدق فلم يُفلِح، وهكذا ينبغي أن يكون الباحث إلى هذه الدرجة، فإذا لم تكن كذلك فليس لك علاقة بالبحث ولا بالبحث عن الحقيقة ولن تفهم الحقيقة لأن المسألة صعبة جداً، وفي نهاية المطاف الحق الذي هو ثابت – حق الشيئ ويحق أي إذا ثبت – في ذاته سوف يفرض نفسه، ولكن بمثل هذه الموضوعية والجراءة والتجرد والنزاهة الكاملة.
إذن الفاروق أراد أن يفرض للناس كفاياتهم، وطبعاً هو إلى آخر حياته كان يُعطيهم العطاء الشهري، ثم في آخر حياته قال “لو أننا جمَّعنا هذا المال وأعطيناه للناس في كل سنة مرة لكان أبرك”، وفعلاً هذه الخُطة أحسن أيضاً، أي أن تُعطي الناس العطاء مرة واحدة في السنة، فيُمكِن لهم أن يفتحوا مشروعات وأن يُساهِموا في مُساهَمات كبيرة وأن يُنعِشوا أحوالهم، فهذا أحسن من أن تُعطيهم مُفرَّقاً ثم تُستهلَك أولاً بأول، ولذا عمر – رضوان الله تعالى عليه – أراد أن يفعل هذا، وهذا يدل على عظم هذا العقل، فعمر عنده عقل جبار في الإدارة والسياسة، فهذا الرجل كان شيئاً عجيباً ومنته – والله – على هذه الأمة عظيمة حقيقةً، فلا نقول هذا تعصباً أبداً لأننا لسنا من المُتعصِّبين بفضل الله عز وجل.
الفاروق ماذا فعل؟ أراد – كما يقول أبو عبيد في كتاب الأموال – أن يفرض للناس ما يكفيهم – الحد الأدنى من الكفاية، أي كفاية البطن مثلاً شهرياً – فأتى بثلاثين رجلاً بكل بساطة – خُطة بسيطة جداً ولكنها ألمعية – وجعلهم يتناولون طعام الغداء وطعام العشاء، فوجد ذلك يأتي جريبين، إذن جريبان في ثلاثين؟ سيأتي في النهاية تسعة عشر صاعاً، وهذا ما يُسمّى المدى، فخرج ووقف على المنبر وقال “أيها الناس قد عزمت على أن أفرض لكل نفسٍ مدى تسعة عشر صاعاً من الحنطة – حنطةً – وقسطين من الخل وقسطين من الزيت”، يقول الراوي “وأخذ المدى بيده، وأخذ القسط بالأخرى وحرَّكهما وقال هذا المدى وهذا القسط، فمَن انتقص شيئاً منهما فعل الله به وفعل”، يُريد من الحكام والمسئولين والمُديرين، فقال لهم ممنوع أن تنتقصوا من أقوات الناس، وهذا هو الحد الأدنى للكفاية.
إلى هذه الدرجة؟ وطبعاً اليوم الناس يظنون عمر مُجرَّد إنسان درويش وصحابي يحفظ بعض الأحاديث والآيات ومعه الدرة التي يضرب بها ويبكي في الليل وانتهى الأمر، وهذا غير صحيح، فعمر رجل دولة حقيقي، وكان مُهتَماً إلى أبعد الحدود بمسائل الضروروات والكفايات، فهذا الرجل لا يلعب أبداً.
سألني أحد الإخوة قبل ربما أسابيع يسيرة – أذكر هذا الموقف لأن بعض الناس قد يتساءل هكذا، فهذا السؤال يثور دائماً وهو الآن خطر لي – قائلاً كيف يقول المولى تبارك وتعالى وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ۩ ويقول يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ ۩ ويقول وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ۩ وهناك ألوف الناس التي تموت وألوف الحيوانات التي تنفق أيضاً كل يوم؟ فتقريباً كل يوم يموت خمسةٌ وعشرون ألف طفل بتوالي الفقر وبالأمراض والكوارث الناتجة عن الفقر، يعني كأن تقريباً في أقل من أربعة أيام يُوجَد مثل زلزال هايتي Haiti الذي ذهب فيه ثلاثمائة ألف فضلاً عن عشرات المليارات، لكنهم جمعوا مليارات في شهر بحيث يكون لكل فرد من المنكوبين عشرة آلاف دولار، والآن يموت خمسة وعشرون ألفاً من الأطفال ولا أحد ينتبه لأنها بالمُفرَّق وبالمُوزَّع، فماذا عنهم؟
لا فرق بين أن تموت بجرعة سم واحدة أو تموت بالسم على خمسة أيام أو أربعة أيام، فأنت ستموت في النهاية، ولكن هكذا يُخدَع الذهن البشري، فالذهن البشري بليد وإلى حدٍ ما كسول، فهو يريد مَن يستفزه، ولذلك هذه مسألة استفزاز للوعي بالنقد وبالجسارة وبالجرأة وبكسر بعض المُحرَّمات وباختبار بعض المُقرَّرات والمقبولات والمفروضات، فلابد أن يُعاد اختبارها حتى يتحرَّك هذا الذهن الكسول النَؤوم.
فنعود إلى موضوعنا، قد يختبر العبدُ هذا المعيار القرآني فيُقابِل نعمة الله بشكرها، وشكر النعمة من جنسها كما قلنا، فنعمة المال كيف تُشكَر؟ لا تُشكَر بكنزه ومُراكَمته وإعائه – السد عليه في وعاء – ثم تقول لك الحمد والشكر يا رب على نعمة المال وتبكي خشوعاً يا بخيل يا مسّيك، فأنت الآن لا تشكر النعمة بل أنت تجحدها، فعليك أن تنتبه إلى أنك جاحد لهذه نعمة، لأن بعض الناس يقول نعم أنا بخيل ولكن الحمد لله المال موجود مُحرَز، وأنا أقول له انتظر قارعةً من قريب من رب العزة وليس من عندي، والإمام عليّ – عليه السلام – ماذا يقول؟ الإمام عليّ يقول “إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم ما يكفي فقراءهم، فإذا جاع فقراؤهم أو عروا أو جهدوا فإنما هو بما منع الأغنياء وإن الله حقٌ عليه أن يُحاسِبهم يوم القيامة وأن يُعذِّبهم”، لا ندري هل يُريد يُعذِّبهم بالدنيا وفي الآخرة أو يوم القيامة لأنه تركها مفتوحة، لكن الأرجح في الدنيا أيضاً قبل يوم القيامة، ففي الدارين سيُعذَّبون، وهذا هو الصحيح وهذا هو ما يجب أن ننتبه إليه، فالقارعة ليست في الآخرة فقط، وإنما هى في الدنيا قبل الآخرة لقوله تعالى لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ – يُقسِم ويقول وجلالي سأزيدكم – وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ۩، إذن لابد من عقلية ذرية – كما يُقال – تفكيكية لكي تُفكِّك الآيات، فلا تستطيع أن تنظر نظرة شاملة بانورامية إلى الآيات، فهذه الآية واضحة جداً جداً جداً من سورة إبراهيم ولكن لابد من أن تُفكَّك، فالآن إذا أردنا أن نتساءل ما هو شكر النعمة سنجد أننا قد عرَّفناه وفرغنا منه، لكن ما هو كفر النعمة؟ هو ما ليس بشكر، فكل مَن لم يشكر النعمة فقد كفرها، وكل مَن كفر النعمة فقد عرَّض نفسه لسخط الله وعذابه، لأن الله قال وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ۩، أي أنه يقول سأُعذِّبكم بهذه الأموال، فسأبتليك في صحتك وربما أبتلي زوجتك وأبتلي أطفالك وربما أُذهِب مالك أو شطره أو أكثر أو أقل في المتالف والمهالك، سأجعل هذا المال مرارةً وحسرةً عليك في الدنيا قبل الآخرة، ومن هنا تقول الآية الكريمة فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ ۩، وهذا شيئ عجيب وسوف يحدث في الدنيا، فلا تقل لي أن هذا في الآخرة لأنالآية واضحة، فإن لم تكن شاكراً فأنت كافر للنعمة.
إذن هذا ما للشاكر وهذا ما للكافر، فلو أن العبد تعاطى مع نعم الله التي يُبتلى بها هذا العبد وفق هذا المعيار القرآني لأحسن الفهم عن الله ولعلم بصيغة تجريبية أن هذا بمثابة اختبار، ومن ثم سوف يقول أنا سوف أخوض هذه التجربة، فكلما أعطيت نمى وزاد مالي، فسبحان الله، هذا شيئ عجيب، فالمال يزداد مع العطاء مع أنني أُعطي الكثير والجزيل ولا أُعطي القليل، قال رسول الله وفي المال حقٌ سوى الزكاة، لكن بعض الناس من هؤلاء الأشحاء المسّيكين يقول “لا يا حبيبي، والله من الصعب أن أُخرِج اثنين ونصف المائة، هذه صعبة جداً، فسوف اذهب وأحتال وأسأل الفقيه هذا والمذهب هذا لكي نُحاوِل أن نجد أي مخرج، لأن من الصعب أن أدفع اثنين ونصف، هذا المبلغ كثير”، وفعلاً اثنان ونصف فعلاً ليس قليلاً وليس كثيراً، لكنه كثير على الغني وقليل على الفقير، فكم سيدفع – مثلاً – المسكين الذي عنده عشرة آلاف يورو؟ وكم سيدفع مَن عنده مليون يورو؟ مَن عنده مليون يورو سوف يدفع خمسة وعشرين ألف فقط، لكن هذا البخيل سوف يستكثر هذا، ويقول كيف أدفع خمسة وعشرين ألف يورو؟ هذا خراب لبيتي، وكذلك الحال مع مَن عنده اثنان مليون – مليونان – سوف يدفع خمسين ألف، لكنه سوف يستكثر هذا ويقول “يا أخي الناس دكاترة والواحد منهم يعمل رئيساً للأطباء لمدة ثمان ساعات يومياً على مدار السنة ومُرتَّبه لا يزيد عن ألفين وسبعمائة فقط، فلا يتحصَّل على خمسين ألف في السنة، فكيف أنا أُعطي خمسين ألف كزكاة؟ هذا كثير”، لكنني أقول له يجب أن تُعطيها كزكاة مال، فهذا ليس مالك هذا، هذا أنت مُستخلَف فيه فقط، قال الله وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ ۩وقال أيضاً وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۩، لكن مثل هذا يقول لك “والله هذا كثير يا أخي”، فماذا إذن عن زكاة عشرة مليون؟ أي أنه سوف يدفع مائتين وخمسين ألف، الله أكبر، ولذلك فعلاً لو أن هذه الأمة – على الأقل – جدت في إخراج الزكاوات لما جاع فقير كما قال الإمام عليّ، ولكن أحياناً حتى الزكاوات لا تكفي، فإذا كانت الزكاوات لا تكفي فلابد من المصارف الأخرى، فلتدفع إذن، قال الله تعالى لَيْسَ الْبِرَّ – أي كما يفهم اليوم كثير من المسلمين، فما هو البر كما يفهم الواحد منهم؟ هو يعتقد أن البر هو أن يحج كل سنة وأن يعتمر في كل رمضان وأن يُصلي في الصف الأول وأن يرتدي الطاقية وكرافتة وأن يبكي وما إلى ذلك، فهو هذا فقط البر لأنه ما شاء الله مُحافِظ ويُصلي في الصف الأول – أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ – الله يقول أنت مُهتَم بالصلاة في الصف الأول لكن ليس هذا هو البر، نعم هذا من البر بلا شك ولكنه ليس هو البر، فنحن نُريد جِماع أو جُماع البر – وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ – الله يقول أعلم أنك تُحِبه، فالقلب يتمزَّق حين تُعطي المال، ولكن هذا في البداية فقط والله، لكن بعد ذلك تُصبِح اللذة والسعادة في العطاء والله العظيم، لأن الله سوف يُثيبك شيئاً عظيماً ليس حتى من المال وإنما من التقوى والفتوح والراحة الروحية، وبالتالي عليك أن تُعطي، قال رسول الله “أَنْفِقْ بِلَالُ وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا” – ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ۩، وهذا شيئ عجيب، فهل تتحدَّث يا رب العالمين عن إيتاء المال على حبه وتتحدَّث عن إيتاء المال؟ قال نعم لأن هناك زكاة وهناك إيتاء المال، فهذا مقامان مُختلَفان، فإذن ليست الزكاة هى المُرادة هنا، ولذلك في سُنن ابن ماجه حين سُئل عليه السلام يا رسول الله أفي المال حقٌ سوى الزكاة؟ قال نعم، فليست الزكاة هى الحق الوحيد في المال، فهناك حقوق أخرى غير الزكاة، لكن الزكاة هى الحد الأدنى، فهناك أشياء غير الزكاة وخاصة إذا حقت الحاجة ودعت الضرورة، يقول الراوي ثم تلا لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ۩.
فانظر إلى الفهم النبوي في الآية، فهذا الفهم الذي فهمه النبي ليس من عنده وإنما من الآية، فكل سُنة النبي هى فهم النبي في القرآن الكريم، فهذا هو الاستنباط كما قال الفقهاء وهذا هو الفقيه الأعظم وهو رسول الله، فالقرآن يقول وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ۩ وقال قبل ذلك في نفس الآية في سورة البقرة وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ۩، فإذن هذا شيئ وهذا شيئ، وبالآية ذاتها احتج عمر على أن في المال حقاً سوى الزكاة، وبالآية نفسها احتج الإمام طاووس والإمام عامر بن شراحيل الشعبي رحمة الله على الجميع، وعلى كل حال قال رسول الله ففي المال حقٌ سوى الزكاة.
للأسف تضيَّق الوقت، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
ذات مرة اقتبسنا من جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau قولته العظيمة التي تقول “لا ينبغي أن يُسمَح لفريقٍ من الناس أن يغتنوا إلى الحد الذي يتمكَّنون معه من شراء فريق آخر من الناس”، فهم يشترون البشر، وطبعاً هو لا يتحدَّث عن عبودية الأبدان أبداً وإنما يتحدَّث عن عبودية الآراء والألسنة والضمائر، كأن تبيع ضميرك وتبيع ذمتك وتبيع رأيك وصوتك وتبيع كرامتك لغني من أجل أنه غني وأنت فقيرٌ جداً، ثم يقول جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau “ولا ينبغي أن يُسمَح لفريقٍ من الناس أن يفتقروا إلى الحد الذي يُضطَّرون معه وعنده أن يبيعوا أنفسهم للأغنياء”، أي أن هذا التفاوت كارثة تُؤذِن بمُستقبَل مليء بالغيوم والرجوم للأمة، فهذه الكارثة تُهدِّد الاستقرار والأمن الاجتماعي والسياسي من ورائها أيضاً، فطبعاً لا ينبغي أن تقع، ولكن – للأسف – هذا ما يحصل في بلاد العُرب والمسلمين، فبعض الناس لم يُحِب أن يلتقط أن سباباً من أعظم أسباب ثورات العرب هو هذا التفاوت الصارخ المُجرِم المنكور بين الطبقات المُخملية كما يُقال، فهناك طبقات بسيطة جداً جداً جداً بنسبة تصل ربما إلى عشرة في المائة ولكنها تمتلك كل شيئ، وبقية الشعب وسائر الشعب لا يجد قوت يومه.
استمعت إلى برلماني بالأمس – أحدهم بعث لي الرابط Link – أبكاني والله، وأنا أتحدَّى مَن يسمع إلى هذا الرجل المسكين ألا يبكي، فقد تحدَّث زُهاء بضعة دقائق وهدَّد بقتل أولاده وهو برلماني، وقال “إن لم تسنوا قوانين ترفع هذا الظلم وتُؤمِّن لنا معاشنا وترفع مُستوانا حتى نعيش بكرامة نحن وأبناؤنا فسنوا قوانين بإعدامنا“، أي أعدمونا واقتلونا لأن هذا سوف يكون أرحم، وهذا كلام مُؤثِّر جداً، لكنلماذا يحصل ها في بلاد العرب؟ لماذا يحصل هذا في أقطارنا؟ لأن الفقه السُلطاني المُخيِّم – كما قلت لكم – يتحدَّث عن عرش الرحمن ولا يتحدَّث مرة عن عرش السُلطان وأعوان السُلطان، فهذا هو سبب البلاء أو بالأحرى هو سبب من أسباب البلاء المُخيِّم علينا والضارب بأطنابه في بلادنا، فعلينا أن نستبدل خطاباً آخراً، لأن هذا الخطاب السُلطاني الخوَّان الأثيم المنكور – والله – لا يُمكِن أن يتعمَّم أو يُعمَّم للعالم، فلو عُمِّمَ سوف يقول لنا الشرق والغرب عودوا من حيث أتيتم لأن لا حاجة لنا بمثل هذا الخطاب ولا بمثل هذا الدين الذي يُعبِّر عنه هذا الخطاب، فهذا دين المُتخلَّفين ودين المُستعبَدين ودين المُهانين المُذَلين.
الفقر مفضوح، الفقر يبين ويضح سريعاً، فمهما تهندَّم الفقير وأحسن الامتشاط وفاح بالروائح الباريسية الباهظة فإنه سيضح بسرعة وقريباً ذلٌ كامن واستكانة ظاهرة ومرارة طافحة واستعدادٌ كبير للمُساوَمة على ما لا ينبغي أن يدخل بورصة المُساوَمة مثل الضمير والرأي والشرف، لكن هذا المسكين يُساوِم على كل شيئ، فمهما تهندَّم وامتشط يضح أنه فقير.
وأختم حتى لا أُطيل – وقد اطلت والعذر منكم ومنكن جميعاً وجمعاوات – بأن هذا أبدى لي عن سبب جديد أيضاً في سبب تناقض الشخصية المسلمة، فلماذا هى شخصية مُتشاكِسة مُتناقِضة؟ فسواء ثمثَّلت في شكل علماء ومشائخ ووعاظ وأدعياء صلاح أو في عامة وإخصائيين في مُختلَف الميادين يُوجَد تناقض واضح جداً في هذه الشخصية، وطبعاً من السهل التقاط هذا التناقض في الشخصيات المُتديِّنة، لأنها كثيرة الظهور إلى حد الثمالة في الفضائيات وفي المساجد وفي المنابر، فعلى الأقل أنتم تُبتلون بنا مرة في الأسبوع ولا فائدة، لابد من أن ترونا وأن تسمعونا فالله يعينكم، وبالتالي هذا كله يظهر، لكن هل تعرفون لماذا؟!
سأشرح لكم هذا ببساطة ثم أمضي والله، هل سمعتم بهرم ماسلو Maslow – أبراهام ماسلو Abraham Maslow – للحاجات – Needs – الإنسانية؟ هذه فكرة عبقرية، وهذه الفكرة تسحرني مع الاطلاع طبعاً على النقود الكثيرة التي سُجِّلَت بصددها، ولكن أساس الفكرة صحيح مائة في المائة، فهذه الفكرة تجد أصلها في كتاب الله الذي – كما قلت لكم – يفشل الفقيه السُلطاني في التنبه لهذه الإشارات الإلهية الزاعقة، قال الله تعالى رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ۩، فإبراهيم يقول يا رب إن كنت تُريد من ذريتي وأبنائي أن يعبدوك وأن يشكروك وفِّر لهم الضروروات، فإذا حُرِموا الضروروات لا تنتظر أن يعبدوك، فلا معنى للعبادة للمحروم من ضرورته، فذهنه وعقله وروحه شاردة فضلاً عن شكه في الله عظيم وشكه في الله كبير، لأنه سوف يقول لك أين الرزاق؟ علماً بأنني لم أُجِب عن السؤال، لكن الجواب باختصار هو أن الله يقول وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ – انتبه إلى الصيغة الإسمية – رِزْقُهَا ۩، ويقول أيضاً وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ۩، يُقسِم ذو الجلال والإكرام هنا، والصيغة إسمية طبعاً، لكن هناك صيغة فعلية في قوله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ۩،وذلك مثل وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء ۩ وإلى آخر هذه الأشياء، فما معنى ذلك؟!
الله – لا إله إلا هو – شاء بحكمته البالغة أن يفعل هذه الأشياء بأسباب، فإذا أراد أن ينزع ملكاً من ملكه كيف ينزعه؟ ليس شرطاً أن ينزعه بالموت، فقد ينزعه بثورة كالثورات المُبارَكة – كثَّر الله الثورات في بلاد العرب – هذه، فلا يُقال إن الله لم ينزعه لأن الله نزعه فعلاً ولكن بالشعوب، وكذلك الله رزقك بهذا وبي ورزقني بك، فهذه أسباب، ولذلك هنا يأتي البلاء، فهنا تُوجَد فرصة للابتلاء وللاختبار، حيث أن الله يختبر بعضنا ببعض، وإلا رزق العباد – إنسهم وجنهم وحيوانهم الأعجم وكائنهم العاقل – كله مضمون على الله ومُقدَّر في الأرض قبل خلق الخليقة، أي قبل خلق البشر والإنس والجن وكل هذا، لأن الله قال وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ۩، لذلك طاحت وفشلت نظرية توماس مالتوس Thomas Malthus في القرن التاسع عشر وهى أن الرزق لن يعود كافياً مع هذا الازدياد المُضطرد بمُتوالية هندسية للنسل، فهذا كلام فارغ، ولذلك هذه النظرية طاحت عملياً وتجريبياً، فكلام الله هو الصحيح.
الله يقول وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ۩، وهذا هو الفرق بين المقامين، أي المقام الإسمي والمقام الفعلي، فالبشر يُبتَلون بعضهم ببعض، وبالتالي العتب ليس على الله الذي قدَّ – لا إله إلا هو – وكفى، وإنما على البشر الذين ابتُلوا وفشلوا، وحقٌ على الله – كما قال أبو الحسن عليه السلام – أن يُحاسِبهم يوم القيامة وأن يُعذِّبهم، فهذا الفرق بين هذا وهذا.
مرة أخرى علينا أن نستفز الوعي بطرح هاته الموضوعات مرةً ومائة مرة وألف مرة باستمرار، على أن هذا الطرح يقع ويمثل في صميم وقلب وجوهر الخطاب الديني، فهذا من الخطاب الديني لوجود هذه الإشارة في قول الله فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ۩، فبما أنني أطعمتكم وآمنتكم بقى الآن أن تعبدوا، كأنه يقول ما لم تطعموا وما لم تأمنوا من الصعب أن تعبدوا ومن الصعب أن تُطالَبوا بالعبادة، ولذلك يُعجِّب الله – تبارك وتعالى – في كتابه من شأن قريةٍ كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ۩، هذا أمرٌ عجيب، فهل هذا هو الشأن؟ الشأن أن تعبدوا وأن تشكروا، لكن أنتم كفرتم ولذلك حقٌ أن تذوقوا لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ۩، فلماذا أذاقهم الله هذا؟ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ۩ وهذه إشارات قرآنية عجيبة جداً جداً جداً جداً لكن يفشل الوعي السُلطاني في التقاطها لأنه غير مُتنبِّه، فلماذا غير مُتنبِّه؟ لأنه غير مُهتَم أصلاً، ولماذا هو غير مُهتَم؟ لأن إحساسه بالله خابٍ، فهذا إحساسٌ خابٍ باهتٌ ضعيف، لكن كيف هذا؟!
لأن ما هى أعظم توالي ولوازم الإحساس بالله – تبارك وتعالى – لو أحسستَ يا أخي المُؤمِن ولو أحسستِ يا أختي المُؤمِنة بالله؟ أعظم مظاهر ومجالي هذا الإحساس بالله الإحساس بالرحمانية، تقول الآية الكريمة وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً ۩، فمَن أحس بالله حقاً ومَن يدعي أنه مُتديِّن وأنه رباني وأنه مُتألِّه أول ما ينبغي أن يطفح في جنبات نفسه إحساساً فيّاضاً وانفعالاً وهو الإحساس الرحماني والانفعال الرحموتي بالعباد، فيبدأ يستشعر مرارات العباد وظلم الناس ومهانة الناس، ويبكي عليهم ويعمل على رفع هذه المهانات وهذه المرائر والألاقي بكل وسيلة.
(27/1/2012)
http://fb.me/Dr.IbrahimAdnan
أضف تعليق