حين يتسع النص للاجتهاد: قراءة في خطبة “لا اجتهاد مع النص”

audio

المقدمة: بين النص والاجتهاد، أين تكمن الحقيقة؟

“لا اجتهاد مع النص”، عبارة تتردد كثيرًا في الأوساط الفقهية والشعبية على حد سواء، وكأنها قاعدة قاطعة لا تحتمل النقاش أو التفصيل. إلا أن الدكتور عدنان إبراهيم، في خطبته الشهيرة التي ألقاها في 19 أبريل 2013، يكشف أن هذه العبارة أُسيء فهمها واستخدامها على مر العصور. فالخطبة لا تسعى فقط لتوضيح مفهوم النص والاجتهاد، بل تقدم رؤية متوازنة لكيفية التفاعل مع النصوص الشرعية ضمن إطار قواعد أصول الفقه وروح الشريعة.


1. النصوص بين الحقيقة والمجاز: اختلاف الصحابة نموذجًا

أحد أبرز الأمثلة التي قدمها الدكتور عدنان لتوضيح الفارق بين التعامل الحرفي والمجازي مع النصوص هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يُصلين العصر إلا في بني قريظة”. في هذا السياق، انقسم الصحابة إلى فريقين:

  • الفريق الأول: التزم بالنص حرفيًا ولم يصل العصر إلا عند وصوله إلى بني قريظة، حتى لو تأخر عن وقتها.
  • الفريق الثاني: فهم الحديث كناية عن الإسراع، فصلوا العصر في الطريق حرصًا على أدائها في وقتها.

قال الدكتور عدنان: “إن اختلاف الصحابة هنا ليس خطأً، بل هو تأكيد على أن النصوص قد تحتمل تأويلات متعددة.” وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن تعنيف أيٍّ من الفريقين يُظهر أن الاجتهاد، ضمن حدود الفهم الشرعي، مشروع ومقبول.


2. اجتهاد الصحابة: بين النصوص ومقاصد الشريعة

تناولت الخطبة العديد من مواقف الصحابة التي أظهرت كيف أن الاجتهاد كان جزءًا أصيلًا من تعاملهم مع النصوص. ومن أبرز الأمثلة التي طرحها الدكتور عدنان:

  • منع سهم المؤلفة قلوبهم: رغم وجود نص قرآني يحدد نصيبًا للمؤلفة قلوبهم في الزكاة، اجتهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في منع هذا السهم، مبررًا ذلك بأن الإسلام أصبح قويًا ولم تعد هناك حاجة لهذه الفئة.
  • تعليق حد السرقة في عام المجاعة: قرر عمر رضي الله عنه عدم تطبيق حد السرقة أثناء المجاعة، معتبرًا أن تطبيق الحد في ظروف كهذه يتعارض مع مقاصد الشريعة التي تهدف إلى العدل والرحمة.

علق الدكتور عدنان قائلاً: “هذه الأمثلة تظهر بوضوح كيف أن الصحابة لم يكونوا مجرد نُسَّاخٍ للنصوص، بل كانوا عقلاء يوازنون بين النصوص وظروف الزمان والمكان.”


3. قواعد الاجتهاد: أدوات لفهم النصوص لا لتجاوزها

أشار الدكتور عدنان إلى أن العلماء طوروا قواعد أصولية تساعد في استنباط الأحكام من النصوص الشرعية. ومن بين هذه القواعد:

  • قاعدة العام والخاص: كما في تفسير عمر بن الخطاب لآية: “لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ”، حيث رأى أن هذه الآية تشمل المطلَّقات رجعيًا فقط، وليس المطلَّقات بائنًا.
  • قاعدة النسخ والتخصيص: استخدمها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عند تفسير آيات العدة، حيث رأى أن آية سورة الطلاق تخصِّص آية سورة البقرة.

أوضح الدكتور عدنان أن هذه القواعد ليست نصوصًا شرعية بحد ذاتها، بل هي أدوات استنباطية طورها العلماء لضمان فهم النصوص بما يتناسب مع مقاصد الشريعة.


4. تعدد الآراء الفقهية: رحمة وتيسير

ذكر الدكتور عدنان أمثلة أخرى لاختلاف الصحابة في مسائل فقهية متعددة، منها:

  • عدة المرأة الحامل المتوفى عنها زوجها: اختلف الصحابة بين رأي يقول بأن عدتها تنتهي بوضع الحمل (عبد الله بن مسعود)، ورأي آخر يقول بأنها تعتد بأبعد الأجلين (علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس).
  • ميراث الجد والإخوة: رأى بعض الصحابة، مثل أبي بكر الصديق وابن عباس، أن الجد يحجب الإخوة كالأب، بينما رأى آخرون، مثل زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب، أن الجد يشارك الإخوة في الميراث.

علق الدكتور عدنان: “إن هذه الاختلافات ليست دليلًا على قصور الصحابة، بل هي انعكاس لمرونة الشريعة ورحمتها التي تتيح تعدد الحلول لمواجهة اختلاف الأحوال والظروف.”


5. التواضع العلمي: مفتاح قبول الاختلاف

اقتبس الدكتور عدنان قول الإمام الشافعي: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، لتوضيح أهمية التواضع عند تناول المسائل الشرعية. ووجّه انتقادًا حادًا لأولئك الذين يهاجمون اجتهادات الصحابة والعلماء دون معرفة حقيقية بأصول الفقه، قائلًا: “إن من يُخطِّئ الصحابة دون علم إنما يُسقِط ذاته قبل أن يُسقِط غيره.”

كما استشهد بقوله: “الفطانة البتراء أضرّ من الجهل؛ نصف عالم هلاكٌ للأديان.”، محذرًا من خطورة استسهال الفتوى والاجتهاد من غير أهل العلم المتخصصين.


الخاتمة: الاجتهاد ليس تجاوزًا للنص بل امتدادًا له

تؤكد خطبة الدكتور عدنان إبراهيم أن مقولة “لا اجتهاد مع النص” ليست قاعدة مُطلقة تُغلِق باب الاجتهاد، بل هي دعوة لفهم النصوص بشكل أكثر عمقًا واتساعًا. فالاجتهاد هو السبيل لتحقيق مقاصد الشريعة التي تقوم على العدل والرحمة. ومن خلال استعراض أمثلة الصحابة والعلماء، يتبين أن الشريعة الإسلامية ليست نظامًا جامدًا، بل هي منهج حي يتفاعل مع الواقع المتغير.

قال الدكتور عدنان في نهاية خطبته: “الشريعة وُضعت لتتسع طرقها على الناس، لا لتضيق عليهم حياتهم.”

هذه الخطبة ليست فقط دعوة للتفكير العميق في النصوص الشرعية، بل هي أيضًا رسالة للتواضع واحترام تنوع الآراء والاجتهادات في سبيل تحقيق الخير للأمة.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: