إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ۩ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ۩ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ۩ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ۩ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ۩ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۩ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ۩، حُب الذين آمنوا لربهم – سُبحانه وتعالى – آيةٌ من آيات حُبه لهم. ولولا أنه سبق منه الحُب لهم، ما تيسَّر أن يُحِبوه قط. فالفضل دائماً، مُبتدأً ومُنتهىً، أولاً وآخراً، لصاحب الفضل – لا إله إلا هو -؛ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ۩.
يقول أبو اليزيد البُسطامي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – في بدايتي أخطأت في أمور أربعة: أحببت أن أذكره – سُبحانه -، وأن أعرفه، وأن أُحِبه، وأن أسعى إليه. فلما انتهيت إلى غايتي – هذا كان في البداية، أي هذا الخطأ، خطأ هذا التوهم، لكن اختلف الأمر لما انتهى وكمل، لما انتهى إلى غايته -، علمت أنه ذكرني قبل أن أذكره، وعرفني قبل أن أعرفه، وأحبني قبل أن أُحِبه، وسعى إلىّ قبل أن أسعى إليه.
ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۩، لولا أنه تاب، ما تابوا. لولا أنه تاب عليهم، ما تابوا! لولا أنه اجتباهم واصطفاهم وأحبهم، ما كانوا مُجتبين ولا مُصطفين ولا مُحِبين له – لا إله إلا هو -.
إذن فالفضل كله بيده – لا إله إلا هو -. وكيف لا يكون كذلك – لا إله إلا هو – ولا يكون ذلك منه، وهو الذي خلقنا وأوجدنا وأعدنا وأمدنا ولا يزال دون سؤال منا؟ دون سؤال منا! فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ ۩، يقول أحد العارفين أوصاك الله – تبارك وتعالى – بوالديك، وحرَّج في الوصاة بأمك، أمك ثم أمك ثم أمك، وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ ۩، حرَّج في الوصاة بالأم – لا إله إلا هو -، وذلك أنها هي التي حملت ووضعت وأرضعت، سهرت لتغفو وتنام، تعبت لتهنأ وتسعد وترتاح، وربما أرضعت، فشبعت وجاعت هي، وكانت ترجو حياتك وتوفيقك وهناءتك.
وقد يقول قائل – هذا غير بعيد، ولا أدري إن كان غير نادر أو غير ذلك – الآتي. قد يقول قائل قد اعتنى بي والداي، وأمي على وجه الخصوص، بضع عشرة سنة، لكنهم في كفالتي من ثلاثين سنة، أُنفِق وأُعطي وأتعب وأدأب، وبكل ممنونية، بكل محبة، بكل رضا وطواعية وسماح نفس، ألا أكون بذلك قد وفيتهم ما لهم علىّ من دين؟ كلا، ولا أقله، ولا أنزره، ولا أصغره.
لماذا؟ لماذا؟ أنت بذلت إليهم في حال كهولتهم وشيخوختهم وكبرهم وتهدمهم أضعاف أضعاف ربما ما تُقدِّر أنه من جنس ما قدَّموه إليك، بذلت! فلماذا؟ لسبب واحد بسيط ومُزلزِل يا إخواني، أن أمك حين كانت تفعل ما ذُكر وغير ما ذُكر، كانت ترجو طول عمرك وبقاء أيامك، وأنت الآن تتربص بها ساعتها وحينها، لكي تستريح وتحس أنك أديت ما عليك من فريضة. ولذلك لا مجال للمُقايَسة، لا مجال للمُوازَنة، بين هذا البذل وهذا البذل، بين هذا العطاء وهذا العطاء. هي فعلت كل ما ذُكر وغير ما ذُكر، أضعافاً مُضاعَفة، وهي ترجو طول عمرك وبقاء أيامك، وأنت تفعل ما تفعل ولعلك تتحين ساعتها، لا ترجوها ولكنك تتربص بها، لكي تتخفف من كل هذا التعب وهذا العناء، وربما لكي تُفسِح مكاناً أوسع وأرحب في بيتك لأولادك وربما لأحفادك. فرق كبير!
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ ۩، فكيف إذا تعلَّق الأمر برب العالمين – لا إله إلا هو -؟ هذه حملت ووضعت وأرضعت، فكيف بمَن خلق مِن عَدم، وأمد مِن عُدم – لا إله إلا هو -؟ وهو لا يُريد منك ولا يرجو منك، لا جزاءً ولا مثوبةً ولا عطاءً، أبداً! حتى الفرائض التي افترضها عليك، إن وقفت مع ظاهرها، وجدتها فرائض، وإن تعمقت باطنها، وجدتها عطايا.
خاسر ومبخوس الحظ مَن يظن أن الصلاة مثلاً – وهي رأس العبادات وأم الخيرات -في الحقيقة والجوهر تكليف وفريضة، تؤودنا. أو يراها تؤوده وتبهظه وتثقله! خاسر المسكين هذا، مغبون الصفقة، لم يفهم، جائل على الظواهر السطحية. هذه هديته – لا إله إلا هو – لهذه الأمة المرحومة، أتحف بها محمداً وأمته ليلة المعراج، ليلة قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ ۩، تُحفة! هذه تُحفة هذه الأمة، وسنقول لماذا.
لكن لن يفقه هو – هذا الخاسر المغبون الصفقة -، لن يفهم أنها تُحفة، وأي تحفة؟ لا ضريع لها، لا ضريب لها، لا مثيل لها. لن يفهم هذا يا إخواني وأخواتي، ما لم يفهم أمراً من وراء الظواهر، من وراء الظواهر! وهو أن الله – تبارك وتعالى – لا يحتاج منا شيئاً، هو الغني عن العالمين. لا يحتاج وجودنا كله أصلاً، نحن الذين نحتاجه. نحتاج ربنا ونحتاج وجودنا، عطية الله! والصلاة أم العطايا، أم العطايا يا إخواني وأخواتي.
أرادت بلقيس أن تدرأ عن نفسها خطر سُليمان (النبي الملك)، وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ۩، وتعلمون النبأ الشهير. وبلغت هداياها قبل أن يبلغ موكبها هي سُليمان، بعد أن رد عليهم بما حكاه الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه. فجاءت، ولما دخلت ديار سُليمان ومملكة سُليمان، رأت ما لم يخطر منها من قبل على بالٍ، مما أزرى، ليس فقط بهديتها، بل بمُلكها برُمته. رأت مظاهر الأُبهة والعظمة والمُلك الفخيم، مما لم يخطر منها من قبل على بالٍ. وهذا غير الصرح المُمرَّد من قوارير، الذي حَسِبَتْهُ لُجَّةً ۩.
وبين هي ذات يوم تُماشي سُليمان – عليه الصلاة وأفضل السلام – في مُلكه الجليل العظيم المهيب الباذخ، التفت إليها وقال لها متى طلبت منكِ هدايا؟ أنا لا أبتغي الهدايا. أنا لا أبتغي هذا! مَن عنده مثل هذا المُلك الواسع العريض، لا يحتاج إلى هدايا الملوك الصغار المساكين، فقراء الملوك – إن جاز التعبير -. متى ابتغيت منكِ الهدايا؟ أنا أبتغي الهدايا، وإنما كل ما أبتغيه، أن تصيري أنتِ لائقة بما سأُقدِّم إليكِ من هدايا. الله أكبر!
ولله المثل الأعلى مرة أُخرى، وهذا ما يبتغيه الله منا، أن نصير لائقين بتُحف الله، بهدايا الله. وفي رأس هذه التُحف بعد التوحيد – لأن التوحيد رأس الأمر كله، في باب العبادة والزُلفى – الصلاة، الصلاة! ولا خير في دين لا صلاة فيه. لا خير في دين لا صلاة فيه، ولا خير في تدين لا معنى للصلاة حقيقياً فيه، في تدين هذا المُتدين المسكين، لا خير. فالصلاة يا إخواني – كما سلفت الإشارة في الخُطبة السابقة – ليست مُجرَّد معرفة علمية، تُحصَّل بالاستماع والتزود، تتزوَّد هذه المعرفة من كتاب أو من درس وعظ وتذكير، لا! الصلاة – كما سلفت الإشارة في موضوعنا – أعم، الصلاة هي حضور، مجال حضور، فُرصة حضور، أن يحضر العبد بين يدي الرب – لا إله إلا هو -، يُسمَح له بهذا، كيف لا تكون رأس التُحف وأعظم وأجزل الهدايا والأثوبة طراً؟ يُسمَح لك، وأنت العبد الضعيف الفقير الحقير المُحتاج المُفتاق من كل وجه إلى نعم الله وعطاياه ومنحه ومواهبه الجزيلة الجسيمة – لا إله إلا هو -، يُسمَح لك بأن تكون في الحضرة، الله أكبر! أن تُنادِم ملك الملوك – لا إله إلا هو -. فماذا إن حصل هذا المعنى وصرت في الحضرة بالصلاة؟ وفي الصحيحين إذا وقف العبد بين يدي الله – تبارك وتعالى -، أقبل الله إليه بوجهه. فإن التفت، أعرض الله عنه. وليس التفات الرأس والوجه والحواس فقط، بل التفات القلب أيضاً، يُقبِل بجسمه والقلب ساهٍ لاهٍ غافل مُلتفِت، للأسف الشديد! جوّال في أشياء أُخرى، لم يتعوَّد أن يحضر، لم يطلب أن يحضر أصلاً هو، ولعله لم يفهم قيمة أن يحضر، ونفاسة هذا الغرض الجزيل.
بعض الناس – وواحسرتاه! واحسرتاه على العباد يا إخواني! – يعيشون ويقضون، يمضون من هذه الحياة ويترحلون، دون أن يفهموا ما كان ينبغي أن يضنوا به وأن يحرصوا عليه وأن يطلبوا أعز ما يُطلَب، لم يفهموا هذا، لم يفهموا! وسيُبعَثون يوم يُبعَثون غير فاهمين، وسيُبعَثون على ما قضوا حياتهم وأنفاسهم في طلبه والضن به. الله أكبر! بعض الناس طلب مُلكاً، بعض الناس طلب مثابةً وحيثيةً، بعض الناس طلب مالاً، بعض الناس طلب مالاً حقيراً وشيئاً يسيراً، وسيُبعَث على هذا، ويجد أنه – أي هذا المسكين – يُلازِمه، يَلزمه مُلازَمة الغريم الشحيح لغريمه، ولعله يلهج هو باسمه.
يُقال إن روح الله عيسى – عليه الصلاة وعلى نبينا وسائر أنبياء الله جميعاً وآلهم وسلم تسليماً كثيراً – مر يوماً بقرية وادعة فقيرة مسكينة، ومر هو وادعاً مُسالِماً. هو روح الله وكلمته، كأنفاس الزهر في فجر الربيع، كأنفاس الزهر في فجر الربيع! عيسى – عليه الصلاة وأفضل السلام -، المُبارَك، العبد المُبارَك أينما كان، دعوة استجابها الله – تبارك وتعالى – ومنّة سبق بها وتفضَّل.
فأحدق به بعض الناس ورجوه، يا روح الله سمعنا عن معاجزك وعن خوارقك، وقد تُوفيَ لنا قبل أيام رجل مسكين (غلبان) نُحِبه، اختُرم أجله – أي هكذا ظنوا -، مات في شبابه، فأحيه لنا يا روح الله. نحتاج أن نرى هذه المُعجِزة!
فقال دلوني على قبره. فقصدوا به المقبُرة – مقبُرة البلدة الصغيرة الوادعة المسكينة الفقيرة -، فلما وقفوا به على قبره، توجَّه إلى الله – تبارك وتعالى – داعياً مُبتهِلاً، اللهم… اللهم… اللهم… يا رب… يا رب…. يا رب… يا سيدي ومولاي… وإذا بالقبر يتحرَّك، يرتجف وحده، من بين سائر القبور.
بدأ القبر يرتجف، وإذا بالرجل يخرج، وينفض عنه التراب الكثير. فلما استتم واقفاً، إذا به المسكين يصيح: حماري، حماري، أين حماري؟
الرجل كان فقيراً معدماً معوزاً، وأعظم ما تموَّل وأعظم ما تأثَّل هو هذا الحمار. ومات المسكين، ولعله حين مات، كان الحمار برفقته، أو كان تحته، مركوباً له. ظل مُتلهِّفاً عليه، ومُتعلِّقاً به. هو عاش وهذا أعظم وأجل ما طلب واقتنى وتموَّل. المسكين مات على ذلك، وبُعث على ذلك. حماري، حماري!
فكم من عباد سيُبعثون يوم القيامة، وهم يُنادون: حماري، درهمي، ديناري، بيتي، مُلكي، شهادتي، سيارتي، سُمعتي، عزتي! وحينئذ سيبدو لهم من الله – نعوذ بالله من الخذلان – ما لم يكونوا يحتسبون، ما لم يُعدوا له حساباً، للأسف الشديد، هكذا!
بعض الناس يعيش ويقضي دون أن يعلم أعز ما يُطلَب. أعز ما يُطلَب هو وجه الله – تبارك وتعالى -. أعز ما يُطلَب ليس حتى النفس، أبداً! لا تجعل من نفسك هي المطلوب، فتجعلها إلهاً من دون الله. إياك، إياك! هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۩، أفرِده ووحِّده بالعبودية، فهو صاحب القدرة المُقتدِرة، صاحب الربوبية القادرة، أفرِده بالدعاء والمسألة والرغب إليه والرهب منه والاعتماد عليه والثقة به والتوكل عليه والاحتساب منه، وحده دون سائر الموجودات – لا إله إلا هو -، فهو حقيقٌ بهذا – سُبحانه وتعالى -. أحِب ما يُحِب، واكره ما يكره. وإن أحببت ما أحب – لا إله إلا هو -، وجدت نفسك ملهوفاً على أهل الله وأولياء الله وعباد الله، وتستدل عليهم دون أن يدلك دليل، لأن قلوب العارفين تتراسل. المعنى الذي حل فيها ضوَّأها ونوَّرها وباركها وثمَّرها، مُشترَك، قسمة بين أولياء الله وأهل الله. فإن رأى أحدهم أخاً له في الله، على البداهة ولأول مرة – هناك القلوب، قلوب العارفين -، عرف قلبه المعنى الذي شركه فيه أخوه، وأنست روحه بما أنس به أخوه من ذكر الله والقُربى والازدلاف إليه – لا إله إلا هو -، فأحبه وعشقه، ولعله لا يشركه في عرق ولا لُغة ولا بلد، من بلد آخر ومن عرق آخر ويرطن بلُغة أُخرى، ولكنه يُحِبه، لأن الله هو الجامع – لا إله إلا هو -، لأن الله هو الحاضر عند الجميع، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۩. لا إله إلا هو! هكذا، وهذه إحدى الأمارات على أنك من أهل الله، على أنك من أهل قُربانه، على أنك من أوليائه. جعلنا الله وإياكم من خاصة عباده وأوليائه.
يُحكى أن إبراهيم بن أدهم – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، الزاهد الكبير، والعابد الجليل، والولي الصالح – رأى ذات ليلة في منامه سفير السماء، جبريل – عليه الصلاة وأفضل السلام -، قد هبط إلى الأرض، وبيده صحيفة، فهو يكتب. فقال يا جبريل سلام الله عليك، تكتب ماذا؟ قال أكتب في هذه الصحيفة أسماء أحباب الله، أسماء أولياء الله. قال أمنهم أنا؟ قال كلا. لم يُصدَم، لم يُرَع؛ لأنه لم يكن عند نفسه بهذه المثابة، أنه ولي من أولياء الله، لا! أبداً، أبداً! هو العبد الفقير، الحقير، المُفتقِر إلى رحمة الله، والمُقبِل على الله، بعنوان وبغير عنوان، لا يطمع في عنوان الولاية هو أصلاً، لم يُصدَم، ولم ينكسر.
قال ولكن يا جبريل حسبي أني أُحِب أولياء الله. أنا أعرف نفسي، أنا أُحِبهم، أُحِبهم جداً، أعشقهم، وأبحث عنهم في البلاد. وكان يُسافِر، لكي يبحث عنهم ويلتقيهم، يتضوَّأ بهم ويتنوَّر بهم ويتعلَّم منهم ما لا يُتعلَّم في كتاب. فالتفت جبريل وقال له الآن أكتب اسمك في رأي قائمتهم. حين تُحِب أولياء الله بصدق، تكون النفس هنا غير حاضرة، انتبهوا! لو كانت النفس حاضرة وقال له كلا، لست منهم، لانكسر. أليس كذلك؟ لانكسر، لأسف، لركبه الحُزن والغم. بعد كل هذه العبادة يا رب؟ بعد كل ما سُمته نفسي من مرائر العبادات، من صوم وصلاة وسهر وقيام ليل وانسلاخ من الدنيا، زهادة مريرة وصيام قاسٍ مُتعِب في حر ونحر الظهيرة؟ أهكذا؟ لست من أوليائك؟ لم تجعلني منهم – وهم كثر بحمد الله -؟ لا، لا! سأعتب عليك. لم يقل هذا أبداً، هو عبد، عنوانه العبودية، عبد! لن ينقلب العبد رباً، هو عبد، يبقى في العبودية، شاء أم أبى، فهو يشاء أن يبقى في العبودية، ومن هنا صدق عبوديته لله، التي تُرفَع بها المنازل وتُعلى بها الدرجات وتعظم بها المثوبات عند الله – تبارك وتعالى -. هو يُريد هذا، عن إرادة تامة، لا يخلط نفسه، لا يجعل نفسه إلهاً.
عودة مرة أُخرى يا أحبابي – إخواني وأخواتي – إلى حُب الله – تبارك وتعالى – لنا. جعلنا الله من أحبابه، ورزقنا حُبه وحُب مَن أحب وحُب العمل الذي يُقرِّبنا ويُدنينا إلى حُبه – لا إله إلا هو -. لا يقدر على هذا ولا شيء منه إلا هو بفضله ومنّه.
من أعظم ما يدل على محبة الرب الجليل لعباده، أنه لا يُسقِطهم، لا يُلغيهم، لا يسد الباب أمامهم، لا يُعلِن يأس السماء منهم، حتى آخر لحظة. عجيب! ما هذا الحُب العجيب؟ في عالم العباد، الأب والأم لا يكونان كذلك، حتى الأم في لحظة مُعيَّنة تغضب على ابنها وربما تلعنه، اذهب كذا وكذا فيك، أسأل الله أن يُريني فيك كذا وكذا. إذا بلغ منها أذاه ذلك المبلغ الذي لا يُحتمَل، تدعو عليه باللعن، بالويل والثبور وعظائم الأمور. فالأم قد تفعل هذا، لكن الرب الجليل – مالك المُلك، لا إله إلا هو! كل هذه العوالم في قبضته، وهو غني، غير مُحتاج إلى أحد منا أصلاً أو إلى أحد سواه – لا يُعلِن يأس السماء منك حتى آخر لحظة، وأنت تكفر وتُجدِّف وتُشكِّك وتسخر منه ومن شرعه وأوليائه وأنبيائه ودينه ووصاياه، لأنه يُحِبك أعظم مما تتخيَّل.
يقول الشاعر العارف سنائي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، يقول هو لطيف جداً، ألطف بك من نفسك بنفسك، ولُطفه يجعل مَن لا قيمة له ذا قيمة. ثم هو يقبل امتنانا وصبرنا وعباداتنا القليلة. يقبل هذا القليل، ويُثيب عليه بالكثير، غير المُتناهي. لا إله إلا هو!
يقول يُحِبك أكثر مما تُحِب نفسك، ويحرص عليك أكثر مما تحرص على نفسك. يقول في ساعة ما، في لحظة ما، قد تُعلِن عن كفك عن الإيمان به، تقول لا، هذا انتهى، بعد هذه الأشياء – لم يُلبني، ابتلاني، أخسرني، أتعبني – لم أعد مُؤمِناً به. تُعلِن هذا على رؤوس الأشهاد ربما! رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ۩. أما هو فلا يُعلِن مثل ذلك منك. لا! يبقى حريصاً عليك، ضنيناً بك. أنت تسخو به، وهو الغني عنك وعن العالمين، هو لا يسخو بك.
قد يقول لي قائل من أين أتيتم بهذا؟ كيف لا يسخو بي؟ نعم، بدليل أنه يقبل توبة مَن قضى عمره كله كافراً به، جاحداً لفضله ونعمه، بل جاحداً لوجوده، ولو في آخر لحظة. يأتي في آخر سويعة، يُكشَف عنه الحجاب والغطاء، فيستعلن بالإيمان والتوبة، ويطلب الغفران والتجاوز والصحف والتكرم، فيقبله الله ويُدخِله الجنة ويُعفّي على آثاره كلها، يُعفّي على سبق منه في سبعين أو ثمانين أو تسعين سنة. لا يفعل هذا إلا إله كله محبة – لا إله إلا هو -، أليس كذلك؟ ولذلك لن يهلك، ولا يهلك على الله إلا هالك. مَن أعطاه الله فُرصة مُتجدِّدة بطول عمره – فُرصة تمتد ستين أو سبعين أو ثمانين أو تسعين سنة – ولم يتب ولا يُريد أن يتوب، هالك!
قبل أن أُغادِر هذا المقام يا إخواني وأخواتي، أقول أحزنني – لا أقول أغضبني، بل أحزنني، والله حزنت حُزناً كبيراً، الله وحده عليم به، أحزنني جداً – استماعي إلى بعض مَن يُوسَم بالعلم والفكر – وهذه تسمية عامة، يقولون لك هذا مُفكِّر وما إلى ذلك، هذا مُثقَّف -، وهو يُدافِع عن مَن؟ عن إبليس. وهذا يحتاج ربما إلى خُطبة بحيالها – إن شاء الله -. عن إبليس للأسف، للأسف! لابد أن أكون صريحاً وشفّافاً، للأسف فعل هذا كثيرٌ أو نُسب – لا أدري – إلى كثيرٍ مِمَن ينتمي أيضاً إلى طريق أهل الله وإلى الصوفية، للأسف الشديد! هناك أشعار وترسلات وكلمات وفقرات وجُمل طويلة، يُدافِعون بها عن إبليس، شيء غريب، شيء غريب!
استمعت إلى هذا المُفكِّر أو المُثقَّف، وهو يزعم أن إبليس لم يسجد لآدم وأبى أن يبخع لأمر الله؛ حُباً لله وإجلالاً لله. عجيب! كيف؟ قال لك أبى إلا أن يسجد لله، هو لا يسجد لغير الله. ما هذا التهريف؟ ما هذا التخريف؟ ما هذا الإفك؟ ما هذا الكذب؟ ما هذا الزور؟ ما هذا التلبيس؟ هذا من أعظم تلبيس إبليس على المُلبَّس عليهم، على المُشتبهين والمُلتبسين وربما أيضاً المُتأبليسين. نسأل الله الحفظ والسلامة، ونعوذ بالله من الخذلان.
هل تعرفون لماذا؟ بكل بساطة لأن الله لم يقل هذا، كذب! هذا كذب. الذي أوحى بهذا هو إبليس، شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۩، وطبعاً هذا هو الزُخرف. بعض الناس يقول لك يا سلام على التسامح، تسامح كبير، حتى الدفاع عن إبليس نفسه. إبليس أصل كل الشرور والخبائث والمُوبِقات، ما شاء الله، اتسع قلب هذا المُفكِّر، الذي ربما يدّعي حتى التصوف والقُرب من الله، لإبليس. يا سلام! معناها أن قلبك أوسع من رحمة الله، وأن لسانك هذا الجريء للأسف – لا أُريد أن أفوه بأسوأ من هذا – أصدق من وحي الله؟ الله لم يقل هذا، ولا إبليس قاله. إبليس بكل بساطة يا إخواني لم يكن كذلك.
أنا أقول لكم لو كان شأن إبليس ما ذكر هذا الرجل، حقاً وحتماً لاتسعت له رحمة الله، ولقام له عُذر عند الله – تبارك وتعالى -. تماماً على نحو ما أبى أبو بكر من البخوع لأمر رسول الله، إذ قال له مكانك يا أبا بكر، أكمِل الصلاة. أبى أبو بكر وتراجع، واضطر الرسول أن يتقدَّم ويُكمِل الصلاة في مرض موته – روحي وأرواح العالمين له الفداء، صلوات ربي وتسليماته عليه وآله -. ما منعك يا أبا بكر أن تبقى إذ أمرتك؟ قال ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدَّم رسول الله، أن يؤم برسول الله. لا أعملها! واتخذ منها العلماء والعارفون قاعدة لطيفة، قالوا مُلازَمة الأدب ومُراعاة الأدب مُقدَّمة على الصدع بالأمر. هناك أمر؛ صل بي. لا أُصلي بك يا رسول الله، ليس عصياناً ولا مُخالَفةً عن أمرك، ولكن احتشاماً لمثابتك وحفظاً لمقامك. شيء جميل!
لو إبليس على هذا النحو تصرَّف، لقام عُذراً له، أليس كذلك؟ ولربما مُدح من أجله. كلا! هو لم يأب من السجود، ضناً بالله وتوقيراً له أبداً، وإنما ضناً بنفسه وتعظيماً لنفسه. قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ۩. فما هذا؟ ما هذا الكذب؟ يُدافِعون عن إبليس، شيء غريب! ما شاء الله، هذا تجديد الدين، آخر نُسخ تجديد الدين وتجديد الخطاب الديني، الدفاع حتى عن إبليس! فإذا اتسع إبليس نفسه أن يُدافَع عنه، فطبعاً القتلة والمُجرِمون والكفرة والملاعين ومُعذِّبو البشر وكل هؤلاء والأخبث والأسوأ منهم، سيتسع الدفاع عنهم، ستُصبِح الحياة ليست فوضى فحسب، ستُصبِح لعنة حقيقية، سنفقد البوصلة، سنفقد النور، سنتفقد كل شيء، سيختلط النور بالظلام والحابل والنابل والحق بالباطل، لا! ما هذا؟ ما هذا العبث؟ ولكن هذا تلبيس، هذا من تلبيس إبليس، هذا من أعظم تلبيس إبليس على أوليائه.
قال لك هو هذا. أين هذا؟ أثبت لي هذا، وأنا سأصدع به وسأصرخ به على المنابر وستنشق به عقيرتي. أين هذا؟ والله الله – تبارك وتعالى – لم يذكر هذا ولم يُشر إليه ولو من وراء وراء مرة واحدة في الكتاب العزيز بطوله، أبداً! وإنما الذي دأب القرآن على توكيده وتقريره دائماً أن اللعين – لعائن الله مُتتابِعة عليه إلى يوم الدين – أبى من البخوع والخشوع والصدع بأمر الله، تعظيماً لنفسه. أَرَأَيْتَكَ هَذَا ۩، وهكذا يُخاطِب الله! يقول له أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ ۩، ما هذا؟ ما هذا الخطاب؟ شيء غريب! يقول له سأُفسِد عليك خُطتك الهدائية يا رب. وطبعاً هو لا يستطيع إلا أن يعترف بربوبية الله، رُغماً عنه طبعاً، وهو يعرف هذا، وهو ليس من البلاهة والغباء بأن يقول لا إله أصلاً، هو يُوحي لأوليائه، لكي يُخلِّد تيههم وضلالهم وعذابهم – والعياذ بالله – بأن لا إله، نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ۩، ولكنه – هو في ذاته – يعرف هذا، إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۩، طبعاً هو يخاف الله، ويعلم أن الله موجود – لعنة الله تعالى عليه -، ولكن ما الذي منعه؟ الكبر، الكبر!
إذن إبليس – أنا أقول لكم – ما عرف الله لحظة من الدهر، إن صحت هذه الروايات والكلمات والمأثورات، أنه كان طاووس الملائكة، وأنه كان في رأس الملائكة، لشدة ولهه وعبادته. إبليس إن صح هذا، ما عرف الله لحظة من الدهر، وإنما عرف نفسه، وأراد من الله – أستغفر الله، نعوذ بالله من زلات اللسان وزلقات اللسان – أن يكون جسراً إلى ذاته، هو الإله الأعظم عند نفسه – لعنة الله تعالى عليه -، وهكذا المُستكبِرون والكذّابون والمُرآون. ونذكر في هذا المعنى لطيفة، لكن في الخُطبة الثانية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
إخواني وأخواتي:
مَن عرف الله – تبارك وتعالى -، لم يتخذ نفسه إلهاً ولم يجعل هواه إلهاً معبوداً أبداً، وإنما يرضى بما يرضى به الله، يُحِب ما أحب الله، يكره ما كره الله، والأعظم دائماً والأكبر عنده الله، قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ ۩، يذر كل ما في الوجود لله – لا إله إلا هو -، حتى يرتقي إلى حالة كُنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصِر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي – أو قال يسعى – بها، في الحديث القدسي الجليل، هو هذا! ولا يعرف شيئاً من الشرك، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ۩، أَن يُشْرَكَ بِهِ ۩ لا يغفرها الله، مَن وافى الله – أي مَن مات – مُشرِكاً، يئس من رحمة الله، لا مكان له في رحمة الله، مَن وافى الله مُشرِكاً، يئس من رحمة الله. لماذا؟ سنضرب مثلاً، كما ضربه صاحبه تقي الدين، الحسن البِصري – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -.
يقول أبو سعيد كنت ذات ليلة جالساً – هذا في الليل، في أول الليل – على سطح داري، فإذا بي أسمع صوت امرأة من سطح آخر، تُعاتِب زوجها وتُبكته، تقول له عمري كله قضيته في هذه الدار الصغيرة القميئة، في الحر والقر، في الوجد والفقد، في السراء والضراء، لم أشكك يوماً، ولم أتذمر، ولم أتسخط، ولم يبد مني إلا كل وجه بسّام وكل نفس رضية، مُراعاةً لك، مُراعاةً لك ولخاطرك. أي ليس مُجرَّد أنها غفرت له، لم تشك أصلاً هذه المسكينة، امرأة صالحة، لم تتذمر.
ثم اليوم – تقول له هذا، والحسن يسمع – شيء واحد لا أغفره لك. أي قالت لا أستطيع، لا أستطيع أن أُسامِحك، لم أستطع أن أغفر لك هذا، ما هو؟ قالت فعلت كل ما فعلت دهري، عمري كله، من أجل أن أكون أنا وحدي في عينك، وألا تمتد عينك إلى غيري، أما وقد عرفت غيري، وامتدت عيناك إلى غيري، وعلق قلبك بغيري، فكلا، ثم كلا، لا أغفر لك.
فبكى الحسن البِصري، وقال بحثت عن مثل هذا في كتاب الله، فإذا هو إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ۩. لا إله إلا الله! هو هذا.
خلقك – كما قلنا – دون أن تسأل، من عَدم، أعدك، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ۩، وأمدك، ولا يزال – لا إله إلا هو -، وهذا بعض، بل أقل وأيسر وأنزر إمداده، سيمدك هناك في دار النعيم المُقيم، لو أحسنت أن تمضي على الطريقة، وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ۩، لو استقمت على الطريقة! ولكنك يا جاحد، يا ناسٍ، يا غافل، يا ساهٍ، يا لئيم، تأبى إلا أن تُشرِك معه غيره، أحياناً في شكل وثن أو صنم، وأحايين كثيرة تزعم أنك تُفرِده وحده بالعبادة – لا إله إلا هو -، لكنك لا تزال دائباً على أن تُشرِك معه نفسك، تُريد رضاه ومدح الناس، تُريد رضاه ونظر الناس، تُريد المقام والمكانة عنده والمكانة عند الناس، شرك!
لو فهمنا الشرك في عُمقه، سنُصدَم، سنتفاجأ، سنُصدَم بأنفسنا، أننا غارقون حتى الآذان في الشرك، ما رأيكم؟ وأختم بهذه القصة العجيبة، لذي النون المصري، ثوبان بن إبراهيم – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -.
تقول الرواية أنه أوصى أحد نُجباء مُريدي يوماً، قال له يا فلان قد أُذن لك – وهذا مُريد فقط، يتزوَّد العلم والصلاح، لا يتكلَّم، والآن قال له انطلق، ارتفعت إلى طبق آخر، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ۩، أنت الآن في طبق جديد، انطلق -، عظ الناس، اجلس إليهم، عظهم! خُذ مجلساً في المسجد، والناس ستعلم أنك تُريد أن تُدلي إليهم بشيء.
عظهم، ذكِّرهم بالله، وحذاري، حذاري من أن تجعل بينك وبينهم أناك، نفسك! إياك، اعمل هذا لله، فقط أنت مُجرَّد واسطة، مُجرَّد وسط، فقط.
إخواني وأخواتي:
والمُتكلِّم باسم الله – تبارك وتعالى – في دين الله، عن كتاب الله ورسول الله، بقدر ما يكون بارئاً من الشرك، ومن شوائب الرياء، بقدر… ماذا؟ ما تُترجَم الهدايات الإلهية عبر لسانه وقوله وحاله وفعله. ولذلك قال العارفون العيون التي لا تنظر إلا إلى الله، عبرها ينظر الله إلى عباده. الله أكبر! أنت لن ترى الله هكذا، ستراه عبر ماذا؟ عبر وجوه أوليائه، عبر كلمات أوليائه. ومَن هم أولياؤه؟ الذين لا ينظرون إلا إليه، ولا يرجون إلا وجهه، ولا يلتفتون إلا له – لا إله إلا هو -. وطبعاً هؤلاء الأدلاء على الله، هو هذا، هو هذا! هذه المرايا التي تعكس الأضواء السماوية العلوية.
قال له حذاري، أن تجعل بينك وبينهم أناك. انطلق المسكين، جلس، أتاه نفر قليلون من الناس، واستمعوا إلى موعظته. مر أسبوع ثم مر أسبوعان، وهم قلة، دائماً الناس تأتي قلة، حتى إذا كان ذات يوم، لم يأت أحد. فجلس المسكين ساهماً، كسيف البال، لم يأت أحد إلى درسه! وطبعاً هذا اختبار سماوي، أول ما يخطر على البال لماذا؟ لعل كلامي غير رغيب إلى أنفسهم، غير جميل وقعه في مسامعهم، لعلي لم أُبن، لم أُفصح، لعله لم يُفتَح علىّ، لعل الله لم يضع لي القبول في شكلي وفي منطقي وفي مجلسي، لعل… لعل… وكل هذا ماذا؟ شرك، حُزن على النفس. أرأيتم؟ بحث على النفس. ولذلك المسكين هذا سقط في الاختبار، أول مرة سقط ورسب في الاختبار، لم يجتز هذا الاختبار.
لما لم يأته أحد ذلك اليوم، جلس كاسف البال، محزوناً، أسيفاً، وظل هكذا مُطرِقاً. بعد سويعة مرت امرأة عجوز – وطبعاً هي كبيرة في السن، عالية السن -، وقالت له أي فلان، ألم يُوصك شيخك بأن تعظ الناس وتُذكِّرهم ولا تجعل أناك بينك وبينهم؟ فما الذي دهاك؟ ما هذا السكوت؟ لقد أخلفت الموعد. قالت له، فانتبه الرجل المسكين، وعلم أنه كان يُمارِس الشرك الصغير، شرك هذا! يدعو إلى الله ويدعو إلى نفسه.
كيف يا إخواني بمَن زعم أنه يدعو إلى الله ويدل على الله وهدفه عند نفسه واضح جداً، هو نفسه؟ مادياً ومعنوياً! ثم يزعم أنه غير فاهم وغير فاقه. نسأل الله أن يُفهِّمنا وأن يكشف العماية والغماء عن قلوبنا ونفوسنا.
اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. أجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك يا رب العالمين. اللهم لا تتوفنا إلا وقد رضيت عنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
نسألك فعل الخيرات، وترك المُنكَرات، وحُب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضنا إليك غير مفتونين، ولا خزايا ولا نادمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
زِدنا ولا تنقصنا، أعطِنا ولا تحرمنا، أكرِمنا ولا تُهنا، انصرنا على مَن بغى علينا، وثبِّتنا يا رب العالمين، واجعلنا هُداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضلِين، سلماً لأوليائك وعدواً لأعدائك، نُحِب بحُبك مَن أحبك ونُعادي بعداوتك مَن خالفك.
اشف مرضانا ومرضى المُسلِمين، وارحم موتانا وموتى المُسلِمين. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۩، حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا وكرِّه إليه الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا 25/1/2019
أضف تعليق