حرية الإنسان، وهم جميل أم نفخة ربانية؟
-الجزء الثاني-
عن اي حرية نتحدث
هناك التباس شائع للأسف، يقع فيه الكثيرون حتى في أوساط بعض المثقفين، عندما يجري الحديث عن الحرية، فلا بد منذ البداية أن نعمل على توضيحه ورفعه.
منذ مطالع العصور الحديثة، كثر الحديث والصراع حول الحريات وترسخت في الأذهان ضرورة ضمان هذه الحريات للأفراد وتوسيع نطقها. حريات عقدية، نقابية، اقتصادية، سياسية، حرية التعبير والاعتقاد والاستثمار وأيضا حرية السلوك كالتوجه الجنسي ونمط التزين واللباس والتوالد والتناكح وهلم جرا. هاته الحريات هي ما أصطلح على تسميتها منذ أشعيا برلينIsaiah Berlin بالحريات السالبة. إنها الماركة المسجلة للعصور الحديثة الليبرالية التوجه، وهي تشير حين المناداة بها الى توسيع نطاق الممكنات الصرف المتاحة للأفراد وتضييق نطاق الوصاية الاجتماعية والقانونية عليهم.
ليست هذه الحريات ما يعنينا في مبحثنا، فإن ما يستأثر باهتمامنا قبلها وبعدها هو تلك الملكة العجيبة التي لدي كآدمي والتي أستطيع بواسطتها، بل لا أملك إلا، أن أنتقي سلوكا بعينه وسط أعداد كثيرة من السلوكات المتاحة. بل إن ما يعنينا تحديدا هو تلك القدرة التي ندعي انها بحوزتنا والتي تَنْحَتُ نمطا معينا من السلوك من بين أنماط كثيرة ممكنة، نمطا للحياة برمتها يكون كمنهج أو شريعة أو سراط. إنها حرية الاختيار بإطلاق، أو الحرية الأنطولوجية أو الحرية الموجبة.
فكيف أصوغ منهجي في الحياة، وهل فعلا أصوغه، أم أن ذلك مجرد وهم؟ وإذا كنت فاعلا على الحقيقة لا الوهم، فكيف يتأتى لي ذلك؟ وما هي أهدافي وما الضوابط والمؤثرات؟ وهل هناك طريقة مثلى لهذه الصياغة تصلح لي ولغيري؟ وابتداء وانتهاء، ما الذي يجب علي أن أفعله؟
ماذا يجب علي أن أفعل؟
هذا السؤال هو الشعار الذي جعل الفيلسوف الألماني كانت- KANT الإجابة عنه محور فلسفته العملية. وكما هو جلي، فالسؤال يتضمن الإقرار بتعدد إمكانات الفعل ويومئ بأن ما يجب فعله، اي اختياره من بين ممكنات الفعل، شيء يمكن تحصيله ربما بواسطة مبدإ عقلاني لا يحتمل الاختلاف فيه بين العقلاء، مبدإ يلزمني إلزاما ويجعلني قادرا على الدوام على اختيار ما يجب فعله وسط ما شأت من المعطيات والحيثيات.
مقصلة هيوم: أما معاصره الأسكتلندي HUME فينبهنا بدهاء ماكر أن فلاسفة الأخلاق دائما ما يستغفلون يقظتنا حين يدسون كلمات من طراز »إذن يجب« أو »لا يجدر بنا أن« وسط جملهم التقريرية التي مناطها وصف ما هو كائن وقائم. وهذا الإقحام حسب هيوم مغالطة لا تغتفر وتدليس لا بد من فضحه إذ لا يصح منطقيا القفز من معاينة الواقع إلى إقرار اللازم، أو بعارة أخرى إن علم ما هو كائن لا يفيدنا في علم ما يجب أن يكون.
هذا الاعتراض هو ما عرف في تاريخ الفلسفة بمقصلة هيوم، وللحق فإن الصورة المنطقية للمقولة التي تعترض عليها فعلا ناقصة وباطلة ان كنا من المتشددين المنطقيين. بالفعل، لا يسوغ الانتقال من النظر إلى العمل إلا عبر تحديد شرط غاية العمل، أما الصيغة السليمة منطقيا فكمثل ان نقول: اذا كانت الظروف القائمة هي »أ« و إذا كنت تريد تحقيق غاية »ب« ، اذن و عندها فقط يجب عيك أن تفعل »ج« ، و هذه بامتياز هي طريقة اشتغال العقل الأداتي الصرف.
لكن سؤالا حرجا يلوح هنا، فإذا كان العقل ساري المفعول، يدلنا على الفعل فقط إذا علمت الظروف وحددت الغايات، فما الذي يجعلني أختار غاية أو وجهة معينة وسط طيف ربما لانهائي من الغايات الممكنة؟ اهي الصدفة، أم الطبيعة، أم العقل ذاته بعد أن يبني سلما قيميا يرجح بواسطته الغاية التي تحقق اعلى قيمة. إن جوهر المسألة هنا قابع في تحديد العلاقة بين الغايات والمعطيات.
يمكن أن نفهم من اعتراض هيوم، أننا عندما نقرر واقعا ملموسا أو معقولا ثم نتبعه بتقرير ما يلزم فعله، فإننا ضمنيا نكون قد كتمنا أننا اخترنا أحدا من الأهداف الممكنة وألزمنا به الجميع خلسة. وبالمقابل، إذا افترضنا كما هو الراجح عند هيوم، أنه لا امكانية لإلزام أحد بغاية بعينها إذ هي مرتبطة بشروط ذاتية خاصة، فالباب أصبح مفتوحا على مصراعيه لقبول شرعية كافة الغايات وقبلنا بنسبية أخلاقية واسعة النطاق. هذا المنحى الطبيعي أو الطبيعوي (naturalism)الذي يرفض أي طاقات مفارقة للإنسان، ويلحق وعيه وإرادته وفعله بظواهر الطبيعة، قد أصبح في ايامنا هذه منحى محترما بل شائعا مهيمنا ولو لم يدرك غالبية معتنقيه خطورة المأزق الفكري والوجودي الذي يزجنا في خضمه.
للخلاصة، نقول إننا إذا سلمنا بسهولة لغرض هيوم البعيد وشيعته من المعاصرين، تحت غطاء سلامة مقصلته المنطقية، بأن آفاقنا الإرادية مرتبطة بل تابعة لميولاتنا الذاتية وبواعثنا الواعية والمستترة في عماء اللاوعي، فلربما نكون قد جزمنا في ذات الوقت أننا أمام معضلة لا منجاة منها. أفلسنا نقر إذن في المجال الإنساني برمته، السلوكي والأخلاقي والتشريعي والسياسي، بسببية صارمة المنفذ لا راد لقضائها ولا مناص من الرضوخ لسطوتها رغم ادعاءاتنا الزائفة والواهمة بعكس ذلك. انها بمثابة اسقاط مشبوه للحتمية المادية للقرن التاسع عشر الخاصة بظواهر الطبيعة على مجال الفعل الانساني. ولست ارى اي بشر يقول بهذه الحتمية الا ان أعلن انتحاره النفسي، وقرر شلل ارادته وهي التي لا تنفك عن العمل فادعى زيفها، وقرر نسف ذاته وجعلها مفعولا بها عوضا عن فاعلة، على منوال المقولة الشهيرة لعالم النفس التحليلي لاكان Jaques Lacan : «أنا مُتَكلَّمٌ بي»(je suis parlé) ، معبرا بذلك عن أقصى درجات اغتراب النفس عن ذاتها.
الفلسفة الأخلاقية والسياسية بين المعطيات والمقاصد
هناك مثالين ثقيلين في الفلسفة الأخلاقية والسياسية المعاصرة يعكسان بعمق وعورة سؤال العمل وسؤال المنهج الأمثل، قد يساعدانا على استشراف حل قد يكون مرضيا.
-1حجاب الجهل: المثال الأول يتجلى في الطريقة الذكية التي لجأ إليها الفيلسوف الامريكي Rawls في سبعينات القرن العشرين في استنباط مبدأيه الشهيرين المعتمدين في إقامة مجتمع عادل. يلجأ Rawls بدهاء إلى حيلة »حجاب الجهل(veil of ignorance)-« التي بمقتضاها يجتمع أفراد المجتمع في مرحلة تأسيسية (افتراضيا- فهذه خطوة عقلية لا ضرورة إجرائية) وقد تجردوا طواعية عن أي معرفة عن أهم معطياتهم و مكوناتهم الذاتية أو الاجتماعية و التي من شان العلم بها أن يعوق أي توافق حول ما ينبغي البحث عنه من مبادئ تعاقدية لتأسيس المجتمع العادل. عند هذه التسوية الافتراضية، وعندها فقط، يستطيع المتعاقدون، بإعمال ملكات العقل التي تكون في هذه الظروف محايدة تماما، أن يسنوا باطمئنان المبادئ العامة المبتغاة لإنارة الطريق لبعض أشكال المجتمعات، وتحديدا الليبرالية النزعة.
إن هذا المنهج، كما يبوح بذلك Rawls نفسه، هو ترجمة، في إطار المبحث السياسي للمجتمعات الليبرالية، للطريقة الكانتية في الإقرار العقلي للمبادئ المؤسسة للأخلاق.
-2التعميم : اما طريقة كانت Kant في تأسيس القاعدة الذهبية للسلوك الاخلاقي فإنها مبنية على ثقة راسخة في قدرة العقل المتسامي Vernumft على التعرف على الحق و إدراك كل معنى و بلوغ اقوم منهج. حين يبحث العقل عن أقوم منهاج للعمل، فلا يصح مبدئيا أن يلجأ هذا المنهاج إلى اية خاصية قد تحضر عند هذا وتغيب عند آخر. وعليه، فطريقة كانت تقوم مبدئيا على الاستبعاد الصارم لأي دوافع شخصية أو معطيات امبيريقية، وبمقتضى هذا الاستبعاد للخصوصيات الذاتية، ينتج عقليا، ضرورة اللجوء الى قبول مبدا التعميم Universalization الذي ينتهي إلى تقرير القاعدة الذهبية التي يوردها Kant في صياغات متعددة. إحدى الصياغات تقضي باقتران المشروعية الاخلاقية لأي توجه سلوكي بقابليته ان يصبح مقبولا بل شريعة لكل انسان بل ولكل كائن عاقل. ثم يأتي عند هذا التقرير دور “الارادة الطيبة” وقد نترجمها في حقلنا التداولي ب “النية الحسنة” وهي مناط الحرية الأنطولوجية، القاضي بإخضاع سلوكاتنا للقاعدة الأخلاقية.
في الحقيقة، نحن امام مفارقة عجيبة ولافتة بالنسبة للطرح الرولزي، فرولز، اللبرالي النزعة الفرداني المفرط في تعظيم شأن الحريات الفردية دون اكتراث بأية ضوابط اخلاقية سلوكية لم يستطع التأسيس النظري لشرعيتها (كل السلوكات سائغة ما لم تتعارض مع المبدأين المؤسسين) الا مبتدئا بنسفها ونسيانها إبان مرحلة التعاقد. اما كانت، فمنطقه سوي لا مراوغة فيه حيث تكمن حرية الإنسان الحقيقية بل وكرامته، ابتداء في مرحلة التأسيس وانتهاء في مراحل التطبيق، في الاستقلال الحازم عن كل باعث ذاتيا كان ام خارجيا.
الحاصل: يتضح من خلال مثالينا ان أن المبادئ التي من شأنها أن تحدد لنا «الوجهة – الغاية – المقصد – الهدف» المثلى، سواء على الصعيد الفردي في مجال الأخلاق أم الجمعي في مجال السياسة تنطلق ابتداءً بشكل أو بآخر من أشكال التعميم والتنكر للدوافع الفردية وبالتالي فهي تبدو لنا وكأنها تطلع علينا من خارجنا. مهما بدا لنا هذا في حد ذاته مكسبا ثمينا، فإننا في حقيقة الأمر لم نبرح مكاننا لأن السؤال الأهم ما يزال قائما: ماذا نفعل بعد ان يقرر العقل المتسامي وجهته التي ارتضاها؟ أنجيب سذاجة انه ما ان يهتدي العقل اليها الا وقد حسم الامر فكبح الافراد جماح أنفسهم وتمنعوا من ضغوطات المجتمع وايحاءاته ومن وساوس الجن والانس؟ فحتى لو علمت الحق يقينا، فلا يمتنع أن أزيغ عنه. فما الذي يرجح كفة الحق على الباطل أو العكس؟
سنرى في الجزء القادم جوابي كانت ورولز ونقدنا لهما.
أضف تعليق