إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ونجيبه من عباده. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سُبحانه ومخالفة أمره، لقوله عز من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.
ثم أما بعد/
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/
يقول الله جل مجده في كتابه العزيز، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
ذَٰلِكَ مِمَّآ أَوۡحَىٰٓ إِلَيۡكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلۡحِكۡمَةِۗ وَلَا تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ فَتُلۡقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومٗا مَّدۡحُورًا * أَفَأَصۡفَىٰكُمۡ رَبُّكُم بِٱلۡبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنَٰثًاۚ إِنَّكُمۡ لَتَقُولُونَ قَوۡلًا عَظِيمٗا * وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمۡ إِلَّا نُفُورٗا * قُل لَّوۡ كَانَ مَعَهُۥٓ ءَالِهَةٞ كَمَا يَقُولُونَ إِذٗا لَّٱبۡتَغَوۡاْ إِلَىٰ ذِي ٱلۡعَرۡشِ سَبِيلٗا * سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّٗا كَبِيرٗا * تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا * وَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ جَعَلۡنَا بَيۡنَكَ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ حِجَابٗا مَّسۡتُورٗا * وَجَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۚ وَإِذَا ذَكَرۡتَ رَبَّكَ فِي ٱلۡقُرۡءَانِ وَحۡدَهُۥ وَلَّوۡاْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِمۡ نُفُورٗا * نَّحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا يَسۡتَمِعُونَ بِهِۦٓ إِذۡ يَسۡتَمِعُونَ إِلَيۡكَ وَإِذۡ هُمۡ نَجۡوَىٰٓ إِذۡ يَقُولُ ٱلظَّٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلٗا مَّسۡحُورًا * ٱنظُرۡ كَيۡفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلۡأَمۡثَالَ فَضَلُّواْ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ سَبِيلٗا *
صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين، اللهم آمين.
إخوتي وأخواتي/
موضوع اليوم، إن وصفته بأنه بسيط، أصبت، وإن وصفته بأنه شائك مُعقد، لم يُحالفنا الصواب أيضا؛ لأن هذا الموضوع يُمكن لكل أحد منا أن يتناوله حسب ووفق خلفيته العلمية والفلسفية والدينية، والمعرفية عموما.
باختصار؛ حتى لا أُطوّل بالمُقدمات، سأتكلم اليوم عن التلسكوب Telescope الفائق القدرات، الذي شغل العالم، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، في الأشهر الأخيرة، بعد أن بدأ يُرسل أولى صوره المُذهلة المُعجبة!
إنه التلسكوب الذي يعمل في الطيف غير المرئي، في طيف الأشعة تحت الحمراء، والمدعو بجيمس ويب James Webb؛ تكريما لأحد رؤساء ناسا NASA، الذي أدارها ورأسها من سنة إحدى وستين، وتسعمائة وألف طبعا، إلى سنة ثماني وستين، في فترة الرئيسين؛ المُغتال أو المغدور كينيدي Kennedy، وكامل فترة الرئيس جونسون Johnson!
تكريما له، سموا هذا التلسكوب باسمه؛ لأن أولى الرحلات المأهولة إلى الفضاء، التي خرجت من الولايات المُتحدة، خرجت في إدارته، أيام إدارته، ضمن مشروع ميركوري Mercury.
علي كل حال، هذا التلسكوب بلا شك أنه تلسكوب، إذا ما قيس بما سبقه من تلسكوبات أو مقاريب، فائق إلى حد بعيد جدا! لا أُريد أن أتحدث عنه من ناحية تقنية، وسائل التواصل واليوتيوب Youtube والمصادر المُتخصصة عاجة بذلك، فلا نُطوّل بذكر هذه المعلومات الفنية، التي يُمكن لكل أحد أن يصل إليها بسهولة، ومن أقصر طريق.
الصور التي أرسلها ليست مُذهلة لجهة وضوحها، بل شدة وضوحها، أيضا لجهة دقة التفاصيل، التي كشفت وأبانت عنها! وأيضا من ناحية أُخرى، وربما تكون أكثر إثارة وأهمية؛ لأنها صور غائرة في الزمان، مُسافرة من الزمان، كأنها أتتنا من ضمير الزمان الأغبر، الأشد غبورا – أيها الإخوة –، في الماضي السحيق! صور من ملايين السنين، وصور من ملايير السنين!
ولذلك أُطلق هذا التلسكوب، الذي اشتُغل عليه لمدة تُناهز رُبع القرن؛ لست وعشرين سنة! من عام ستة وتسعين وألف وتسعمائة، إلى أن أُطلق في ديسمبر عشرين، واحد وعشرين، لست وعشرين سنة!
واشتغلت عليه أربع عشرة دولة طبعا، في مُقدمها اليو. إس. إيه. U. S. A.، أو الولايات المُتحدة الأمريكية، وأكثر من ثلاثمائة جامعة ومؤسسة بحثية، وأيضا مؤسسات علمية خاصة، عدد لا يعلمه إلا الله! والمُختصون من العلماء والباحثين والفنيين، شيء مُذهل! وكلف زُهاء ثلاثة عشر مليار دولار! ثلاثة عشر ألف مليون! مبلغ هائل جدا جدا، يُمكن أن يُنقذ أُمما من المجاعات ومن العُدم! هذا الذي حصل!
طبعا كما قلت الصور التي كانت أكثر إثارة وإذهالا، هي التي غارت في ضمير الزمان البعيد! فكان ماذا؟ قبل أن يُرسل هذا التلسكوب هذه الصور، نحن نعلم أن الكون سحيق في مداه الزمني، سحيق في قِدم عُمره. العلماء شبه مُتوافقين على أن عُمر الكون يقرب من أربعة عشر مليار سنة، ثلاثة عشر مليار وثمانمائة أو سبعمائة مليون سنة، تقريبا! من لحظة الانفجار الكبير أو البيج بانج Big Bang، إلى اللحظة الراهنة.
فنحن نعلم هذا! لكن أن نعلمه شيء، وأن نلمس شظايا منه، هُتامات منه، شيء آخر! طبعا نُغفل هذا! وأنا هنا أتوجه بحديثي إلى بعض أبنائنا وإخوتنا، الذين تلقوا هذا المشروع الكبير، وهذه النتائج الأولية والمُحصلة المُذهلة، بشيء من التشكك، وبعضهم بشيء من الاستخفاف؛ أي However، فكان ماذا؟ ما معنى هذا؟ صور ماذا؟
بعضهم شكك، للأسف الشديد! وطبعا بلا شك أن الذين يُشككون لا علاقة لهم حقيقةً بالعلم! ليسوا علماء، وليسوا مُختصين. ائتني بواحد مُختص في هذه الشؤون، وشكك. للأسف هذه ضريبة وفداحة أن يتكلم المرء فيما لم يُحط به علما.
في الآيات التي سبقت السياق الكريم، الذي استهللت به خُطبة اليوم، قال الله تبارك وتعالى وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا *. لا تتكلم فيما لا تعرف، وستُسأل عن هذا أمام الله.
بعض الناس يظن أنه لن يُسأل، إلا إذا تكلم في شؤون وخاض وأفاض في شؤون دينية بحتة، لا! كل ما تتفوه به، ستُسأل عنه يوم القيامة. كل ما انفرجت عنه شفتاك، ستُسأل عنه يوم القيامة.
ولا تظنن غير هذا، في تشكيك في العلم، وتسخيفك للعلم، وتسخيفك للأبحاث العلمية والمُنجزات العلمية الهائلة، التي ما سبق مَن سبق مِن هذه الأقوام أو مِن هؤلاء الناس، ما سبق مَن سبق، إلا بفضلها، على أنهم في شؤون أُخرى جد مُتأخرين، لكنهم سبقوا وتفوقوا ورادوا واكتسحوا، بفضل هذه التقنيات وبفضل العلوم.
ونحن لا نزال نتجرع غُصص الجهل – أيها الإخوة – في الأصابح والأماسي، بل في مُعظم أوقاتنا، ثم بعد ذلك نُدل بهذا الجهل، ونُريد أن نُسخّف وأن نُخفّض من إنجازات الناس، الذين لا تُحركهم، من منظوري الشخصي، إلا الروح الإلهية، دروا أم لم يدروا، عرفوا ذلك هم أم لم يعرفوا! وهذا سيكون ربما أحد المحاور التي سأُدير عليها خُطبة اليوم.
هذه الشُعلة من الفضول المعرفي، التي تشتعل في جوف الإنسان، في باطن الإنسان، بما هو إنسان! لا يُمكن تفسيرها إلا بأنها من أثر النفخة الإلهية؛ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي *. لذلك هذا هو العلم، مهما زعم أصحابه أنه مادي، مُغرق في المادية، وأنه ربما يُناصر – أيها الإخوة – كل ما يُضاد النموذج الروحاني الديني التوحيدي! أبدا! العلم تبقى له جنبته الروحية، الروحية! لا أُريد أن أخوض في هذه المسألة، وهي مُثيرة ومُهمة جدا، لكن أُشير إشارة سريعة، ثم أمضي.
ريجار هوكاس أو هويكاس Reijer Hooykaas، مؤرخ العلم الهولندي المعروف على نطاق عالمي، والأستاذ المُبرّز في جامعة أوتريخت Utrecht في زمنه – تُوفيَ في مطلع في التسعينيات -، له كتاب كامل، أداره؛ ليُثبت فيه أن العلم الحديث لم ينشأ في الصين، لم ينشأ في الهند، وإنما نشأ في الغرب المسيحي، الغرب المسيحي الوسيط، بفضل الدين.
كلنا نعلم موقف الكنيسة الكاثوليكية من العلم، ومحاكم التفتيش، وهذه القصص المؤلمة الحزينة القابضة، لكن ما لا يعلمه كثيرون منا، أن هذا الدين، الذي ظُلم أيضا إلى حد ما، كان له دور تأسيسي عظيم. لولا الدين، ما نشأ العلم الحديث.
السوسيولوجي أو عالم الاجتماع الأمريكي ميلتون Milton أيضا يؤكد نفس الحقيقة. لم أُراجع هذا من سنوات طويلة؛ نيدهام Needham، أكبر مؤرخ أمريكي للصين والفكر الصيني والثقافة الصينية، على ما أذكر أيضا، تبنى المقولة ذاتها، وفسر بزوغ العلم في الغرب المسيحي الوسيط ومطلع الحديث؛ بسبب النزعة التوحيدية. دين توحيدي!
كلمة Universe أصلا – كلمة Universe! الكون – هي كلمة لا تينية، من Unus، معناها واحد، والمقطع الذي أُضيف إليه الواحد؛ Versus، بمعنى صار مُتحولا، أي تحول كل شيء إلى واحد. كلمة Universe معناها أن يتحول إلى واحد! توحيد للظواهر!
ولذلك انتبهوا، العلم كله، مهما زعم مَن زعم، وشاء أن يزعم له، المادية ودعم الإلحاد ومُساعدة ومُساندة الإلحاد والشكوكية، العلم بطبيعته يا إخوان، يقوم على مفروضات، على مُسبقات، من طبيعة إيمانية، غير مُبرهنة علميا، ولا يُمكن برهنتها علميا.
ستقول لي مثل ماذا؟ أقول لك مثل أن – مثل الاعتقاد طبعا، مثل الاعتقاد أن – قوانين الطبيعة، قوانين العالم المادي، تصح وتسري في كل مكان في الكون، على النحو نفسه. من أين لكم هذا؟ هل تقصيتم كل جنبات الكون؟ بالعكس! الكون نفسه أصلا غير قابل للرصد بكُليته. جُزء منه قابل للرصد، يُسمى الكون القابل للرصد، أي Observable universe، الكون القابل للرصد.
طبعا بما أننا سنتحدث عن هذه الناحية، وهذه هي الناحية التي أثارت هذه الخُطبة أصلا، فهذا الكون المرصود أو القابل للرصد، الآن على الأرجح أن قُطره يُساوي ثلاثة وتسعين مليار سنة ضوئية! بعضهم يُضاعف هذا، وبعضهم يقول أقل، لكن هذا تقريبا أصبح الأكثر اعتمادا الآن! ثلاثة وتسعون مليار سنة!
يقولون أما الكون كله، وهو غير قابل للرصد بطبيعته – وسأقول لماذا، بتعليل سريع جدا -، فقُطره يترجح أن يكون خمسمائة وخمسة وسبعين مليار سنة ضوئية! شيء لا يكاد يُصدق! يُصيب المرء ليس بالدوار، بشيء أشبه بالجنون! خمسمائة وخمسة وسبعون ألف مليون سنة! يظل الضوء مُنطلقا بسُرعته المهولة؛ ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية، حتى يقطع الكون!
ولن يقطعه يوما؛ لأن الكون في حالة اتساع. ولذلك الكون لا يُمكن أن يكون كله قابلا للرصد، يستحيل! جُزء منه محدود! لكن الكون هكذا لماذا؟ لأنه يتوسع باستمرار. ما معنى أنه يتوسع باستمرار؟ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ *، ويقول لك العلم قضى على الإيمان! على إيمانك أنت، على نموذجك أنت، الكسيح؛ الـ Lame!
على كل حال إذن، كلما توسع الكون، ما الذي سيحصل مع الأضواء التي تأتي من المجرات والأجرام البعيدة؟ تنزاح باستمرار نحو الأحمر. ما يُمسى بالإزاحة الحمراء، أي تحت الأحمر، Infrared shift أو Shifting. يتزيح نحو الأحمر، أي يُصبح أكثر برودة، يُصبح أكثر إعتاما، يُصبح أشد خفوتا.
ولذلك ميزة التلسكوب جيمس ويب James Webb أنه يشتغل في طيف تحت الأحمر، في الأجزاء الباردة، شديدة الخفوت، التي لا يُمكن لتلسكوبات كثيرة، مؤسسة مبنية على تقنية أُخرى، أن ترصدها أو أنها تلتقطها.
وطبعا ولذلك عند آماد مُعينة، لا يُمكن أن تصلنا هذه الأضواء، لا يُمكن أن تُرصد أصلا! ستبقى النجوم والمجرات البعيدة بعيدة في أماكنها، ولا يُمكن أن نرصدها. ستبقى أجزاء أكثر من الكون غير مرصودة. أين خمسمائة وخمسة وسبعون مليارا؟ أين منها تسعون مليارا؟ تقريبا السُدس، السُدس! شيء غريب!
قال تعالى فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ *. بالبصر المُجرد، أو بالبصر المُتسلح بالتقنيات، التي نعتها الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون Henri Bergson مرة بأنها امتداد لوسائل الحس عند الإنسان.
الميكروسكوب Microscope امتداد للبصر، نرى ما دق وضؤل، وأما التلسكوب Telescope؛ المقراب، فهو امتداد للبصر، نرى ما بعد وسحق بعدا، نرى هذا ونرى هذا! ولكن بالعين، لا بُد من العين أيضا. فهي امتداد! نحن وسعنا أنفسنا، كأننا ملأنا الكون، كأننا طاردناه بتقنياتنا، وهذا أحد الردود على الملاحدة، وسوف أَبسطه، للأسف الشديد!
يُعجبني جدا، يُعجبني إلى حد بعيد جدا، مقولة ألبرت أينشتاين Albert Einstein، العبقري النادر؛ ما التفكير إلا لُعبة مُقارنة. أي التفكير في جوهره خيال، في نهاية المطاف. على قدر ما تؤتى من الخيال، ستكون مُبدعا. على قدر ما يكون خيالك فقيرا مُجدبا، ستكون نائيا بعيدا من الإبداع.
لعله يطيب لي الآن، في هذه النُقطة، مع أنها ستُبعدني قليلا، لكنها مُهمة أيضا وفي الصميم، أن أُدلي إليكم بفكرة أقترحها، لكن تحتاج إلى تعميق وإلى بسط وإلى مد وإلى زيادة بحث، بلا شك!
الصراع – أيها الإخوة، طبعا بلا شك هذه ليست فكرتي -؛ الصراع الآن، ليس صراع أفكار، ليس صراع معلومات، فضلا عن أن يكون صراع صور؛ صور جيمس ويب James Webb، مُقارنة بصور هابل تلسكوب !Hubble telescope لا، ليس هذا أبدا، أبدا!
ولذلك سأُسمي هذه الخُطبة: جيمس ويب James Webb.. التلسكوب المُلحد!؟ علامة تعجب وعلامة استفهام طبعا، هل هو فعلا مُلحد؟ وهل صوره مُلحدة؟ لا مُلحد ولا مؤمن! جيمس ويب James Webb لا يقول شيئا، الصور لا تقول شيئا، الكون نفسه لا يقول شيئا، نحن مَن يقول باسم الكون.
كيف نقول؟ باسم ما نفهم. كيف نفهم؟ باسم ما نفترض! باسم ما نؤسِّس عليه، باسم النموذج؛ باسم الـ Model، باسم الخلفية الفلسفية التي لدينا. انتبه! الكون لا يقول شيئا. لا شيء يقول إلا الإنسان، ورب الإنسان. نحن الذين نقول.
ولذلك أمام صورة واحدة، يأتي أحدهم مُستعبرا ويقول سُبحانه في عليائه! لا إله إلا هو! يأتي آخر، يقول أين هذا الرب الذي حدثتمونا عنه؟ لقد تلاشى مع هذه الصور! عجيب! عجيب! صراع نماذج، سوف نعود إلى هذا، ونرى أي النموذجين أقرب وأدنى إلى الحقيقة.
لكن فكرتي؛ هل يخفى، ويغبى علينا – أي يغيب -، أن النموذج التوحيدي الديني الروحي الوحياني يستوعب النموذج المادي؟ أنا مُهتم جدا بالنموذج الوحياني، ليس بنموذج غنوصي أو فلسفي، لا! أنا أُريد القرآن الكريم مثلا، بصفتي مسلما، والصورة التي قدمها لله – لا إله إلا هو –، ولخلق الله؛ للعالمين، لعوالم الله، المخلوقة، المُبدعة، المصنوعة لله، هذا يهمني!
نموذج ديني روحاني توحيدي وحياني – نسبة إلى الوحي -! هل يغبى علينا أن هذا النموذج يستوعب النموذج المادي؟ بل لا يُمكن أن يقوم إلا باعتماد النموذج المادي! ما ميزته؟ هو يستوعبه، ثم يتجاوزه، بطبيعته! يستوعبه، ثم يتجاوزه. واضح أنه أكثر مرونة منه، واضح أنه أوسع، واضح أنه أشد اندياحا، واضح جدا!
كما قلت مرة في خُطبة حيوان وزيادة مَن يُنكر أننا حيوانات، وبطريقة أساسية – أي Essentially، نحن حيوانات -؟ أكيد حيوانات، لكن لسنا حيوانات ونُقطة، لسنا حيوانات وفقط، لا! حيوانات نُفخ فيها من روح الله، فصارت خلقا آخر. فنحن حيوانات بلا شك، وزيادة، والمُهم هنا الزيادة.
مَن يُنكر أن الطائرة، وهو مثل ضربته في حيوان وزيادة، مَن يُنكر أن الطائرة سيارة، وتستطيع أن تقوم بما تقوم به السيارة بشكل أساسي؟ بلا شك، بلا شك! لكنها سيارة فقط؟ مُستحيل طبعا، هذا تخفيض، تخفيض وتسخيف لهذا الابتكار العظيم جدا؛ الطائرة! لا! هي سيارة وزيادة، والأهمية والامتياز والاختصاص، تكمن كلها في ماذا؟ في هذه الزيادة. وإلا لغدت سيارة كسائر السيارات، لا! هي سيارة وزيادة.
ولذلك الآن خُذ النموذج المادي، هل النموذج الروحي الديني الوحياني، يُنكر الظاهرات الطبيعية؟ مُستحيل. هل يُنكر وجود الأجرام السماوية؟ مُستحيل. هل يُنكر وجود السماوات والأرض، الآفاق العلوية والسُفلية، النبات، المطر، الزرع، البرق، الرعد، الجبال، الزلازل، الفيضانات، البحار، المُحيطات، الأنهار، الشمس، القمر، الليل، النهار، قوانين الطبيعة، قوانين المادة، الأسباب، النظام السببي؟ أبدا، أبدا، أبدا!
النموذج الديني يتبنى هذا كله، ويُقرره، ولكنه لا يقف عنده. وهو يُفهمنا أن هذا النموذج، إذا وقفت عنده، عاجز تفسيريا، لا يُمكن أن يُقدم لك تفسيرا نهائيا مُرضيا لك كإنسان.
على كل حال، انتبهوا! هذه نُقطة دائما أنا ألح عليها! ما هي؟ مهما ارتفع ضجيج هؤلاء؛ الشكوكيين والملاحدة، وأمثال هؤلاء، مُجرد ضجيجهم، ضجيجهم بمُجرده، هو أحد البراهين على أن الله تبارك وتعالى، لا يُمكن التخلص منه، لا يُمكن!
يا سيدي، اعتبره خُرافة. أنت تقول خُرافة! اعتبره Superstition، خُرافة حقيقية من الخُرافات، أرح نفسك منه، لماذا تشغل عقلك به على مدار الساعة؟ تعرف فريد هويل Fred Hoyle، والذي بدأ أو قطع مُعظم حياته مُلحدا، عالم الفلك الإنجليزي العظيم!
على فكرة، هو الذي أعطى نظرية البيج بانج Big Bang اسمها. وأعطاها ذلك؛ لأنه كان لا يؤمن بها! هو كان أحد القائلين بنظرية الـ Steady-state؛ نظرية الحالة المُستقرة، ولما سمع بهذه النظرية، سخر منها! وقال ما معنى هذا إذن؟ بيج بانج Big Bang؟ قالها هكذا، من فوره! فأُطلقت عليها. أي انفجار كبير إذن؟ حصل إذن انفجار؟ يسخر! فأخذت هذا الاسم! فريد هويل Fred Hoyle!
فريد هويل Fred Hoyle يقول – كتب مرة يقول – مما يُثير استغرابي، أو عجبي – يُثير عجبي -، أن العلماء يُصرون على الدوام تقريبا، على أن يؤكدوا تحاشيهم عن موضوع الدين! لا علاقة لنا بالدين، هذه قضايا غيب، هذه قضايا إيمانيات، لا علاقة لنا بالإيمانيات، نحن أصحاب منهج إمبريقي علمي مادي طبيعي! هكذا – تفسيري هذا -! يُصرون!
قال وفي الواقع وجدتهم أكثر اهتماما بالديني – أي بالجانب الديني – من رجال الكهنوت! الـ Clerics، أي الـ Clergy. أكثر حتى من القساوسة والأساقفة! هذا مَن؟ فريد هويل Fred Hoyle! وعلى فكرة، الذي انتهى في آخر حياته إلى مؤمن.
قال لا بُد لي أن أُسلم في ظل كل المُعطيات المُتوافرة الآن أن هناك ذكاء فائقا للطبيعة والكون، هو مَن يُدير المسألة كلها. فريد هويل Fred Hoyle! الذي قضى مُعظم حياته مُلحدا، وهو عالم من طراز فريد، وعالم خطير، ومشهور بذكائه الفائق أيضا!
فنرجع، نقول هذا الضجيج بمُجرده دليل! أحد الأدلة طبعا، ليس دليلا جازما ونهائيا، أحد الأدلة على حقانية عقيدة الله، لا إله إلا هو! لا يستطيعون أن يُفلتوا منها، لا يستطيعون أن يُريحوا أنفسهم منها. تعرفون لماذا؟
هي تتموضع ضمن الأسئلة التي لا ينبغي أن نستخف بها. ثمة أسئلة مُعينة رافقت الإنسان من عصور بدائيته، إلى اليوم، وهو يُطلق أقماره الصناعية في الفضاء، ويُطلق تلسكوب جيمس ويب James Webb! إلى اليوم! أسئلة مُعينة!
هل وُجد الجواب النهائي المُقنع المُريح للكل عنها؟ لا. في رأسها سؤال ماذا؟ سؤال الله تبارك وتعالى، سؤال الخالق. المؤمنون وجدوا الجواب، وارتاحوا – اللهم اجعلنا منهم، بفضل الله، وأمتنا على ذلك -، الآخرون قالوا لم نجد هذا الجواب!
من خصائص الإنسان أنه يُجل – وينبغي أن يبقى مُجلا على فكرة، إلا إن أراد أن يُجن وسأقول لماذا، سأقول لماذا – الأسئلة الضخمة الكبيرة المُلحة، التي لا تُفارقه، وإن لم يجد لها الجواب الذي يُريد أن يقتنع أنه مُقنع.
الشاعر النمساوي البوهيمي راينر ماريا ريلكه Rainer Maria Rilke قال مرة عبارة عظيمة جدا! قال ينبغي أن نتعلم حُب الأسئلة. بغض النظر عن الجواب! يُوجد جواب، لا يُوجد جواب، ليست مُشكلة! المُهم أن تسأل، وينبغي أن تُعود نفسك أن تحترم وأن تُوقر الأسئلة!
ينبغي أن نتعلم حُب الأسئلة، تماما كحُب الغُرف المؤثثة المُغلقة، أو حُب الكُتب التي كُتبت بلُغات لا نعرفها. نُوقرها ونُحبها، وربما نضعها في الرفوف، لكن لا نفهم منها شيئا! وهذا يُذكّرني بأينشتاين Einstein! كأنه استوحاه؛ أينشتاين Einstein كأنه استوحى ريلكه Rilke!
ألبرت أينشتاين Albert Einstein قال مرة ما مثلنا نحن – العلماء وغير العلماء، وخاصة العلماء، وأهل الفكر -، إزاء غوامض الكون، أسرار الكون، ألغاز الكون – الـ Mysteries الخاصة بالكون -، إلا كمثل طفل صغير – طفل ابن ثلاث أو أربع سنوات، خمس سنوات، سبع سنوات، طفل! طفل صغير -، دخل مكتبة غاصة ملآى بالكُتب، من كل شكل ولون! التي دُبجت وسُطرت بلُغات لا يعرف منها شيئا! لُغات العالم المُختلفة!
هذا الطفل يُدرك أن هذا شيء مُحترم! الكتاب شيء مُحترم، شيء له أهمية. هل قرأه؟ لا يعرف. ولو أراد، لا يستطيع؛ لأنه مكتوب بلُغة هو لا يعرفها، لم يدرسها من قبل، لا يعرف رموزها. جميل! قال ومع ذلك – يقول ألبرت أينشتاين Albert Einstein – هذا الطفل يُدرك أن ثمة خُطة حكيمة في الموضوع! موضوع أن هناك مكتبة ورفوف وكُتب وألفها أُناس ووضعوها هنا، هناك خُطة مُعينة!
قال هذا هو بالضبط مثلنا نحن البشر – خاصة العلماء وأهل الفكر -! نُلاحظ ونرصد ونرى، لكن لا نملك التفسير النهائي. ليس عندنا! لكن هذا التفسير غير مُتوفر إلى الآن! ولن يتوفر يوما! تفسير نهائي يتوقف معه وعنده الفكر لن يتوفر يوما! ما رأيكم؟ ستقول لي ولا في الجنة؟ ولا في الجنة، ولا في الفردوس الأعلى!
وقد ورد في خبر أدار عليه الشيخ الأكبر جوهر أحد الفصول في الفتوحات المكية؛ وإن الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه أنتم. لا إله إلا الله! وتكلم بشيء عجيب! الشيخ الأكبر – رضوان الله عليه – تكلم بأشياء عجيبة! لكن هذا موضوع آخر عرفاني. وإن الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه أنتم.
تعرفون لماذا؟ بكل بساطة؛ لأنه تبارك وتعالى المُطلق، اللا محدود، اللا مُتناهي! معنى أن تصل يوما إلى إدراكه، الإحاطة به، أنك ساويته أو عادلته أو جاوزته، وهذا إلحاد وهرطقة، وعكس عقيدة الله تبارك وتعالى.
والحاصل؛ لَّا تُدْرِكُهُ ٱلْأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلْأَبْصَٰرَ *، لا إله إلا هو! وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ *. ما عرف الله حق معرفته، إلا الله. الأنبياء عرفوا الله، بمقدار ما أوتوا من معرفة الله! لكن حق المعرفة اللائقة بجلال الله ليست مُتوفرة إلا لله، لا إله إلا هو! فقط.
أما نحن، فنتشارك جُزءا من المعرفة، يعظم حظ هذا، ويقل حظ هذا، ويتوسط هذا في حظه، وهكذا! طيف لا يعلمه إلا الله أيضا! طيف الحظوظ هذا والأنصباء، طيف الأنصباء المقسمومة، لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى.
ولذلك – وإن شاء الله نحن من أهل الأبد، بعون الله، في جنات النعيم – إلى أبد الآبدين لن تأتي لحظة يتوقف فيها طلبه – لا إله إلا هو -، ونقول قد بلغنا المُنتهى. لن نبلغ المُنتهى، لا إله إلا الله! وفي هذا سعادة!
وعلى فكرة، سعادة الكبار والمُبدعين الذين يُنشئون النظريات في الفلسفة والعلم وغير ذلك، سعادتهم في الأسئلة أكثر ربما من سعادتهم في الجوابات، أي الأجوبة، أحيانا! فينبغي ألا نستخف بمثل هذه الأسئلة.
لكن لماذا هذه الأسئلة تؤرق الإنسان باستمرار؟ لماذا لا يستطيع أن يتخفف منها، أن يتحرر منها؟ لماذا؟ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي *، هذه روح إلهية. يُريد هذا! روح إلهية، روح المُطلق، لا إله إلا هو!
يُريد أن يُحيط، يُريد أن يقبض على كل شيء، أن يُهيمن على كل شيء، أن يُدبر كل شيء، ولو معرفيا! لأنها روح رب العالمين، لا إله إلا هو! روح من رب العالمين، من المُهيمن، الرقيب، القادر على كل شيء، المُبدع لكل شيء. شيء عجيب! هذه الروح الإلهية!
الإنسان يُمكن أن يفعل ما يُريد، لكن لا يُمكن أن يُريد ما يُريد. في رأس قائمة ما تُريد؛ إرادة المعرفة. هذه لا تملكها، هي تملكك، هي تفرض نفسها عليك. وعلى كل حال، بمقدار ما فيك من شوق المعرفة وفضول المعرفة، فيك من روح الله. هذا هو!
مقدار ما فيك من المعرفة وفضول المعرفة، هو مقدارك وحظك من الله، لا إله إلا هو! ولذلك بعض الناس الذين لا تجد لديهم أي شغف معرفي، أي فضول معرفي، لكن عندهم فضول في الطعام والشراب والجنس والكذا – والعياذ بالله -، هم أقرب إلى أُفق البهائم والأنعام – أعزكم الله -. أما الآخر، صاحب الفضول المعرفي المؤرق المُمض المُتعب المُقيم المُقعد، فهو أقرب إلى الأُفق الملائكي، وفي ترجيحي؛ بل يتعداه، بل يتعداه!
أعود إلى فكرتي المُقترحة، ولم أُعرب عنها إلى الآن؛ النموذج الوحياني، النموذج الديني الروحي، يستوعب المادي، بلا شك، ويتجاوزه! يتجاوزه مُقدما تفسيرات من طبيعة روحية دينية ما ورائية غيبية إيمانية، بلا شك طبعا! ليست مادية قابلة للاختبار بالآليات المادية، وإلا لأصبحت ماذا؟ تفسيرات مادية. هذه ميزته!
الآن مُقترحي؛ هذا النموذج بحد ذاته، الذي يشتغل على الاستيعاب والتجاوز، وهو أكثر اندياحا واتساعا ومرونة، وفاعلية أيضا وقابلية للتفسير، هذا النموذج أقرب إلى العقلانية وإلى استقرار الإنسان النفسي والعقلي. لماذا؟
أقترح أن الجنون بطبيعته – أيها الإخوة – ليس فقدانا للمنطق كما قد يظن بعضنا. بعض الناس يقول لك الجنون هو التفكك المنطقي. غير صحيح أبدا، أبدا، أبدا! وعلى فكرة، الآن الجنون ما هو؟ لا يُوجد مُصطلح جنون – أي Madness أو كذا – في الطب النفسي.
يُوجد مُصطلح شيزوفرينيا Schizophrenia أو سكيزوفرينيا؛ الفُصام! هو الفُصام! هو المُصطلح اللبق، والمُخيف قليلا! شيزوفرينيا Schizophrenia، سكيزوفرينيا؛ مُصطلح يُخوف قليلا!
الفُصام! طبعا فُعال، ليس فِصاما، فُعال! مثل كل هذه الأشياء. الفُصام هو ماذا؟ الجنون. هو الجنون! الذي يُصيب واحدا في المئة من الناس حول العالم. المفصوم قد يكون أستاذا جامعيا كبيرا، قد يكون مُبدعا، حائزا على جائزة نوبل Nobel، مثل جون ناش John Nash، نظرية الألعاب! طبعا! قد يكون أستاذا في الطب النفسي، وهو مفصوم الشخصية، لا، انتبه!
إذن ما حيثية الجنون؟ ما خصيصة الجنون الأكثر تمييزا له وتخصيصا له؟ الضيق! الضيق! الآن تعال اسأل أي طبيب نفسي، قل له يتظاهر الفُصام بماذا؟ يقل لك Symptoms؛ الأعراض! الفُصام يتظاهر، أكثر ما يتظاهر، بدرجة أولى، بالانفصال عن الواقع!
الواقع الثري العظيم العميق الكبير هذا، المُركب! ينفصل عنه، ويعيش في واقع آخر، مُتخيل مُفترض، يعيش فيه! وهو دائما أضيق من الواقع الحقيقي. انتبهوا! هذه الصفة الحقيقية للجنون، أضيق! دائما!
سردية المجنون، رواية المجنون، نموذج المجنون أضيق من الحقيقة، أضيق بكثير! وقد يكون إلغاء، أو شبه إلغاء، للحقيقة الوجودية! شيء غريب! طبعا! كالذين يعتقدون أنه لا يوجد في العالم إلا هم. أنا وفقط!
إذن وما هؤلاء كلهم؟ أفكاري! أنا أولّدها! كل هذا! جيمس ويب James Webb، والقمر، والشمس، والنجوم، والكون، وهذه الخُطبة، وهذا الخطيب، وهؤلاء المخطوب فيهم؛ كل هؤلاء أفكاري أنا!
إن كان بيننا أحد هؤلاء، فندعو الله له بالشفاء. هذا سيكون مفصوما، مجنونا، وسيُصدّق هذا! وعلى كل حال، انتبه! إذا أردت أن تختبر صحة هذا المعيار، وتقول لي أنا سأُثبت لك أن الجنون تفكك! فلا، انتبه! طبعا هناك الهلوسات السمعية والبصرية والشمية والذوقية، هناك الضلالات التي يعيشها المفصوم، ظواهر أُخرى! إذا أردت أن تختبر هذا، فستفشل دائما!
تعرف، جرب أن تختبر مفصوما مثلا، وقع في وهم الميجالومينيا Megalomania، اعتقد حتى أنه إله. طبعا موجودون هؤلاء! يقول لك أنا الإله، أنا الرب! تقول له عجيب! أنت الرب؟ أنت الرب بطول متر وثمانين سم مثلا؟ ما هذا الرب؟ هذا الأصغر من أرضه، وأقصر مني!
أنا مثلا متر وتسعون – تقول له -، وأنت متر وثمانون! يقول لك عادي، ما المُشكلة؟ الرب يتجلى! أنا تجليت. لديك في العالم أكثر من ملياري مسيحي، يعتقدون أن الرب تجلى في يسوع، وربما كان أقصر مني! لا تُوجد مُشكلة، أتجلى! وقد أتجلى في بعوضة.
سيسحقك بمنطقه، عنده منطق مُتماسك، انتبه! لا تستطيع أن تقضي عليه. سيقول لك الرب يتجلى! عند المسلمين تجلى، أئمة السلف والمُحدثين يُصرون على تمرير حديث الشاب الأمرد! يقولون ما المُشكلة؟ الله تجلى، ليست هذه هي الحقيقة في ذاتها، لكن تجليات! كما تجلى لموسى، تجلى في أشكال! أنا أحد تجلياته، تجل لله! وأنا الله – أستغفر الله العظيم -.
تقول له جميل! الرب على كل شيء قدير، الآن لو بطشنا بك، لو أقدمت وصفعتك علي وجهك صفعات، وأنا أقوى منك بكثير، أتحداك أن تنتصر لنفسك، ولن تستطيع! يقول لك لا، مَن قال لك إن الرب دائما يخضع لتحديات البشر السفهاء؟
أنت أحد هؤلاء السفهاء! أليس في كتابكم، وفي كتاب اليهود والنصارى، أن الكفار دائما يتحدون رُسل الله، أن يطلبوا من ربهم، أن يفعل لهم كذا أو كذا أو كذا أو كذا أو كذا، ولم يفعل الله؟ لماذا؟ يقول لك لأن الموضوع قائم على فكرة الابتلاء، سُنة الابتلاء! وأنا لن أرد الصفعة، وحتى لو سفكت دمي؛ لأنني أبلوك وأبتليك! لأنني أبتليك الآن، وسأسحقك في الوقت المُناسب.
لن تستطيع أن تكسب الجولة مع مفصوم أو مجنون. إذن دائما، إذا أردت أن تحتكم إلى المنطق، فهو منطقي، وهو مُتماسك، ولديه سرديته، لديه روايته! لكن ما مُشكلته؟ مُشكلته أن كل العوامل التي تتعلق به، وتؤدي إليه، تؤكد أنه أصغر بكثير، وأضيق بكثير، من أن يُثبت أنه فعلا إله، المسكين! روايته ضيقة جدا جدا جدا، لكنها تتسع له، وفصلته عن الواقع.
ستقول لي الآن أنا أدركت فكرتك! أدركت فكرتك! قبل أن أُترجم هذه الفكرة إلى ما له علاقة بالنموذج الديني والنموذج المادي، وأن النموذج الديني يقي حتى من الجنون، وأن النموذج المادي يُتاخم الجنون أكثر، ويُنذر به، أُريد أن أُعمّق قليلا الفكرة.
كيف؟ تساءلت قبل أسابيع، وفعلا حين أجريت تقصيا سريعا، وجدت أن كلامي في مكانه! تذكرت هكذا: لم أُلاحظ في حياتي، لم أُلاحظ في حياتي أن طفلا دون العاشرة مثلا من عمره، أُصيب بالفصام! طفل مجنون!
هناك أطفال يُولدون بتخلف عقلي، هذا شيء ثان! هذه موضوعات جينية، Genetically وكذا، موضوع ثان! هذه بطريقة جينية تحدث، انس! لا أتحدث عن تخلف عقلي، وقد يتظاهر بعوق جسمي، لا! أتحدث عن المرض العقلي، الفصام، الجنون! تقريبا لا يوجد أطفال مجانين.
لما رجعت أتقصى، وجدت أن العلماء المُختصين، الأطباء النفسيين بالذات، قالوا لك تقريبا لم تُسجل حالات فصام أطفال دون الثانية عشرة، وبعضهم ذكر حتى الخامسة عشرة. وهذا شيء جميل جدا جدا، أثبت ما حدست به!
لماذا؟ لماذا لا يُجن الأطفال؟ لماذا لا يُفصم الأطفال؟ الأطفال لا يُجنون، الأطفال لا يُفصمون؛ لأنهم شعراء! لأن ثروتهم من الخيال – أيها الإخوة – وفيرة جدا جدا جدا جدا! الطفل يعيش بالخيال أكثر مما يعيش بالواقع، على أنه لا يُنكر الواقع! يمتلك الواقع، بقدر ما تسمح له ظروفه وإمكاناته، ويتجاوزه دائما بالخيال، أليس كذلك؟
ولذلك ليو تولستوي Leo Tolstoy عنده دراسة بسيطة عن الرواية، يقول فيها أعظم روائي هو الطفل! وفعلا، نحن كلنا نلحظ هذا! ابنك يعود من المدرسة، وقد وقع له حادث بسيط، مع زميله في المدرسة، تسأله، لا يقص عليك الوقائع كما هي، أبدا! يأتيك بعشرة في المئة وقائع، وتسعين في المئة تبهيرات خيالية! رواية عجيبة غريبة! الطفل خيالي.
لذلك اقترح بعض الأذكياء أن الشعراء الحقيقيين، خصبي الخيال، أبعد جدا من الجنون، من المناطقة والعلماء، وحتى الفلاسفة! كل الذين يُريدون أن يكون تفكيرهم وإبداعهم محكوما بقواعد صارمة، بحدود محدودة، أقرب إلى الجنون، من الذين تسمح لهم مواهبهم الإبداعية أن يُحلقوا بجناحي ماذا؟ الخيال!
اعترض بعضهم، بواقعة إدغار آلان بو Edgar Allan Poe، القصّاص والروائي الأمريكي الشهير، والمشهور جدا على مُستوى عالمي! إدغار آلان بو Edgar Allan Poe! لقد جُن الرجل!
عند تفحص حالة إدغار آلان بو Edgar Allan Poe، صُدم الناس أن هذا الرجل الذي كان يتظاهر بأنه قصّاص وروائي، في الحقيقة منطقي إلى درجة مُقلقة! منطقي جدا! صارم جدا في قواعد تفكيره! حتى أنه كان يحتقر لعبة الشطرنج، كما هي!
ولما سُئل لماذا؟ قال لأن فيها فرسانا وخيولا وقلاعا، أكثر مما يجب، كالشعر! أُفضل لوحة بقطع صغيرة سوداء، كالتي تكون في الرسوم الهندسية! قالوا هذا هو سبب جنونه! لم يكن شاعرا حقيقيا، لم يكن صاحب خيال مُحلق حقيقي، كان يفتعل تقريبا! لذلك جُن، عجيب! شيء غريب هذا!
إذن لا يُجن الأطفال، ولا يُجن كل مَن بقيت فيه روح الطفولية. أقول لك: النموذج الديني يُعطيك هذه الروح، يُعطيك إمكانية تفسير لا مُتناهية دائما، حتى للأحداث التي تخصك شخصيا؛ عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء، شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر – والضراء هذه قد تكون ماذا؟ قد تكون فقدا للمال، فقدا للحميم، فقدا للابن! وقد يكون الابن الوحيد، كما قصصنا أكثر من مرة! وقد يكون فقدا للصحة والعافية؛ شللا مُقعدا! أو غير ذلك! ومع ذلك صبر -، فكان خيرا له.
يقول – عليه السلام – وليس ذلك إلا للمؤمن. ليس ذلك إلا للمؤمن! عجيب! مرونة نفسية، تقيك من ماذا؟ من أن تُجن. لماذا؟ لأن الغضب الذي يبعثك على الانتقام وعلى رد الـ Hit أو الضربة، سيُفضي بك إلى الجنون؛ لأنك تُحاول المُستحيل، تُحاول الذي لا يُحاول! الله: شَدِيدُ الْمِحَالِ *!
رأيت الله أكبرَ كل شيء؛ أي أكبر من كل شيء! أكبرَ كل شيء، وأشده محالا! والله: شَدِيدُ الْمِحَالِ *. مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ *، غضبان على الله هو! غضبان؛ لأن الله لم ينصره، الله لم ينتصر لضحاياه، الله لم يُنجح ابنه في الامتحان، الله لم يوفقه في زيجته، الله … الله … الله …
ماذا تُريد؟ غضبان؟ تُريد أن تنتصر؟ أن ترد الضربة كما يُقال؟ الله قال مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ *. ما السبب؟ الحبل. أحضر حبلا، ارتبطه في السماء، واشنق نفسك! فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ *، لام الأمر! ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ *. هل هذا الغضب وهذا الكيد وهذا الاحتيال، سيُذهب غيظك، يُحقق لك الانتصار من شديد المحال – لا إله إلا هو -؟ أبدا!
لهذا الآن خطر لي، وأنا أتكلم، كلمة قرأتها للراحل الكبير – هو أحد كبار علماء الفلك، وله فضل كبير فيما يتعلق بالبحث عن الذكاء خارج الأرض – كارل ساغان Carl Sagan! كارل ساغان Carl Sagan صاحب برنامج وكتاب الكون المعروف جدا جدا، وصاحب الروايات المشهورة: تنانين عدن، وأيضا Contact؛ رواية الاتصال العجيبة المُمتازة.
في الاتصال؛ في Contact، قال عبارة! قال الكون واسع جدا – Pretty big place قال! واسع جدا -، ولو لم نكن إلا نحن – إذا كان لا يُوجد في هذا الكون كله، إلا نحن؛ البشر -، فسيكون هدرا فظيعا للفضاء؛ Awful waste of space!
سيكون هدرا فظيعا للفضاء! ما هذا؟ فضاءات وتقول لي بتسعين مليار سنة ضوئية، وربما يكون الفضاء الحقيقي بخمسمائة وخمسة وسبعين مليار سنة ضوئية! والأرض – ليس الإنسان، وإنما الأرض – يقطعها الضوء، في كم مليار سنة؟ في كم مليار؟! في كم دقيقة؟ في كم ثانية؟ في ثمن ثانية! في ثمن ثانية!
الضوء يقطعك ويقطع كوكبك في ثمن ثانية! لكن ليقطع الكون، الآن على الأقل، يحتاج إلى خمسمائة وخمسة وسبعين مليار، الكون المرصود وغير المرصود! قال لو لم يُوجد إلا نحن، فهذا هدر عظيم للفضاء! Awful waste of space.
جميل! سؤالي هنا – خطر لي – بمعيار مَن؟ ولماذا كان هدرا؟ لأن كارل ساغان Carl Sagan عاش ومات مُلحدا، للأسف الشديد! هذا أحزنني جدا جدا، أن يموت مثل هذا العبقري، الجميل في كُتبه وفي أفكاره، وفي لُغته ورطانته حتى بالإنجليزية، من أروع ما يكون! للأسف! أمر الله! أن يموت مُلحدا! أحزنني جدا حين مات مُلحدا، كنت أتمنى له غير ذلك.
على كل حال، بمقياس مَن؟ بمعيار مَن؟ مِن منظور مَن؟ أنت كمُلحد لا ينبغي لك أصلا أن تستخدم هذه العبارة؛ أنه هدر! هدر ماذا؟ هدر وتوفير واقتصادية: هذه معايير تشي بماذا؟ بالحكمة والعقلانية.
لما يكون هذا الكون مُبدعا لخالق – لا إله إلا هو – عاقل حكيم مُقدر؛ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً *، حينئذ تكلم لي عن الهدر والاقتصاد، لكن أن تكون مُلحدا، وتقول الكون جاء من تلقائه، والكون أزلي بطريقة ما، ولا تملك إلا هذا – وهذا ليس تفسيرا مُقنعا لأي حد -، ثم تتحدث عن الهدر، فليست اللُغة، وإنما الفكر، لا يسمح لك، العلم! نموذجك المادي لا يسمح لك!
لكنه فعلها! وهذا من تناقضاتهم، وهي كثيرة جدا، دون أن يتنبهوا إليها! واضح؟ إذن هدر ماذا؟ الكلمة هذه تشي بشيء آخر، هو يبدو أنه لم يكن واعيا به! واضح يا إخواني؟ على كل حال، نعود.
أعتقد أنني أبرزت فكرتي، في قرب النماذج الضيقة من جوهر الجنون. ولذلك الدراسات الطب نفسية تؤكد طبعا أن المُتدينين، في مُعظمهم كذلك! ليس كل مُتدين طبعا؛ لأن التدين أنماط كثيرة جدا جدا، بعض الناس عنده تدين شكلاني، لا علاقة له بالدين، أقرب إلى الإلحاد، سميته إلحاد المُؤمنين!
إلحاد المُؤمنين! لا، هناك التدين الحقيقي الجوهري، القائم على الإيمان والرضا والتسليم: أمل وعزاء، أمل وعزاء! الدين أمل وعزاء، الإيمان أمل وعزاء. هؤلاء في مُجملهم، أكثر صحة واستقرارا وسعادة، من غيرهم. دراسات غربية، يقوم بها حتى ملاحدة! قال لك هذا الواقع، ماذا نعمل؟ هذا الواقع.
وفعلا بلا شك هم كذلك! لماذا؟ النموذج الواسع المرن، عنده قدرة استيعابية، وهو أقرب على فكرة إلى أن يمدك بأسباب خصوبة الخيال، أن يجعلك أكثر عبقرية، أكثر عبقرية بلا شك!
نعود الآن؛ الفكرة الأساسية في خُطبة اليوم، عن جيمس ويب James Webb، لما نشر المسؤولون في ناسا NASA صوره الأولى، التي خلبت عقول وأبصار كل مَن وقف عليها ورآها! وهي، بلا شك، فعلا شيء جميل جدا جدا!
فهناك سديم Nebula، سديم كبير جدا! وعلى فكرة، هو أكبر سديم إلى الآن! كان يُظن أن أوريون Orion هو أكبر سديم، لا! هذا السديم الآن هو أكبر سديم على الإطلاق! كارينا Carina، اسمه Eta Carinae Nebula! أي سديم كارينا العظيم! Eta! Eta Carinae Nebula!
هذا السديم يبعد عنا سبعة آلاف وستمائة سنة ضوئية، سبعة آلاف وستمائة سنة! يُعتبر قريبا جدا جدا جدا! لأن مجرتنا؛ الـ Milky Way Galaxy، بين طرفيها الأقصوين، مئة ألف سنة! إذن هذا قريب جدا، سبعة آلاف وستمائة، لكنه عظيم جدا!
يمتد – أيها الإخوة – ملايين السنين الضوئية! نحن مئة ألف؛ المجرة. هو لا، ملايين السنين! وبعد ذلك حين تراه أنت في الصورة – اكتب أنت، وانظر! موجود آلاف الصور الآن، في كل مكان -، يبدو كأنه جبل، مثل جبل أُحد هكذا!
جبل مُمتد طولا، وإن شئت عرضا، هكذا! ولكن له قمم وانخفاضات وكذا، لذلك حتى أسموه – أسموا هذه الصورة بالذات – بالمُنحدرات الكونية؛ Cosmic cliffs. Cosmic cliffs؛ المُنحدرات الكونية! كأنه جبال، سلسلة جبال!
أعلى قمة في الـ Cosmic cliffs هذا، ضمن سديم كارينا Carina؛Eta Carinae ، تعرفون كم؟ أربع وخمسون سنة ضوئية! أي إذا أردت أن تُسافر إلى الشمس أنت، فالشمس تبعد عنك تسعين مليون Mile، أي مئة وخمسون مليون كم، مئة وخمسون مليون كم! تستطيع أن تبلغ الشمس في ثماني دقائق ضوئية!
تقول لي وهذا الجبل السديمي – في شكل جبل! هذه مُنحدرات – لكي أبلغ آخر قمة، أو أرفع ذروة، أحتاج إلى كم؟ أربع وخمسين سنة ضوئية! تركب الضوء، والضوء يظل مُنطلقا بك أربع وخمسين سنة! ليس ثماني دقائق!
فلذلك لما – قشعر بدني الآن – رأينا هذه الصورة، قلنا شيء تقشعر له الأبدان! المُؤمنون تنهمل دموعهم! يقول لك قدير يا رب! وهذا لا يزال لا شيء! ولا شيء في الكون هذا، ولا شيء! سبعة آلاف وستمائة!
يوجد عندنا مئتان وتسعون مليون صورة لمجموعة من المجرات، لمجموعة من المجرات خُماسية؛ Quintet! Stephan’s Quintet؛ خماسية ستيفان! خمس مجرات، وواحدة قريبة، أقرب! والأربعة أقرب إلى بعضها. هذه أقرب إلينا كثيرا، لكن تظهر كأنها قريبة منهن، في الصورة فقط! وهي بعيدة جدا.
وهذه المجرات الأربعة لا تزال تقترب من بعضها، عبر ملايين السنين. اثنتان منهما تقريبا على وشك الانصهار؛ الــ Fusion، الاندماج! تندمجان معا. تقول هذا يحدث؟ يحدث، هناك زواج! زواج، هذا Marriage! زواج كوني! هذه المجرة، مع هذا المجرة، ويحدث هناك زواج!
ولذلك يُوجد عندك مجرات إهليلجية عملاقة، تحتوي علي تريليون نجم! ألف مليار نجم! يُسمونها مجرات إهليلجية عملاقة. وهناك مجرات إهليلجية قزمة، تحتوي على بضعة ملايين من النجوم؛ عشرة، عشرين، ثلاثين مليونا! هذه ألف مليار؛ ألف مليار، تريليون، عشرة أس ثنتي عشرة، أي مليون مليون! شيء لا يُصدق! شيء لا يكاد يُصدق! ستقول لي الكون إذن كله كم فيه؟
طبعا علي فكرة من الصورة العجيبة أيضا، وعودا إليها، صورة مجرة عجلة العربة؛ الـ Cartwheel Galaxy. الـ Cart، أي الـ Chariot! الـ !Cartwheel Galaxy كم تبعد عنا هذه؟ خماسية ستيفان Stephan هذه، تبعد عنا، كما قلنا، مئتان وتسعون مليون سنة ضوئية، مئتان وتسعون مليون! ثُلث مليار! لا، الـ Cartwheel Galaxy – وصورة من جيمس ويب James Webb، من أروع ما يكون! وفعلا شكل عجلة – تبعد عنا أكثر من خمسمائة مليون سنة ضوئية! نصف مليار! أكثر من نصف مليار! شيء مُذهل، شيء مُذهل!
طبعا هذا السديم – أيها الإخوة – فيه ما لا يعلمه إلا الله، من النجوم والمجرات؛ لأن النجوم والمجرات أصلا تتشكل في السُدم، تتشكل في السُدم! وحين تنفجر في شكل سوبرنوفا Supernova، تُكوّن السُدم! فالـ Nebulas أو السُدم في نهاية المطاف هي ماذا؟ هي سُحب عظيمة، سُحب كونية! سُحب كونية جدا، من الغازات والأغبرة! مُخلفات النجوم، والمادة أيضا الأولية لصناعة النجوم والكون، لا إله إلا الله! هذه السُدم. يقول لك سديم كذا!
جيد، الآن السؤال: تقول لي أنت قلت ثلاثة وتسعون مليار سنة؛ قطر الكون المرصود! وغير المرصود خمسمائة وخمسة وسبعون مليار سنة! الآن آخر التقديرات؛ كم مجرة في الكون؟ في سنة ألف وتسعمائة وخمس وخمسين، كان تقدير العلماء المُختصين في هذا الباب، في ناسا NASA وغير ناسا NASA، في العالم الغربي، لعدد المجرات في الكون، كم؟
المجرات، انتبه! المجرة قد تحتوي على ماذا؟ كما قلنا تريليون نجم. مجرتنا؛ الـMilky Way ، كم فيها تقريبا؟ بين ثُلث إلى نصف تريليون نجم. يُمكن أن يكون فيها خمسمائة مليار، خمسمائة مليار!
هذا الكلام طبعا، نحن الآن نقوله ونسمعه! لو سأل سائل ما علاقة هذا بالدين؟ ما علاقة هذا بالدين؟! إذا لم تفهم هذا، فأنت لم تفهم شيئا في الدين أصلا! أنت لا علاقة لك حتى بالله حقيقية. القرآن أكثر من ألف آية تتحدث عن عوالم الخلق، عن السماوات والأرضين وما فيهن، أكثر من ألف آية! القرآن لا يزال يأمرك، بين الحين والحين، بأن تُغلغل النظر، في ماذا؟ في ملكوت السماوات والأرض.
طبعا لم يكن يخطر على بال أبي بكر وعمر، ولا بال ابن سينا، ولا بال ابن النفيس، ولا بال أبي الحسن بن الشاطر، ولا البيروني، ولا … ولا … ولا … أي واحد! أن الكون بهذه السعة، بهذا الغناء، بهذه الخصوبة، بهذا التركيب! شيء لا يكاد يُصدق يا إخواني!
معناها ما هو الله – لا إله إلا هو -؟ ما هو جلال الله؟ ما هي عظمة الله؟ وتقول له القرآن يقول لي هناك سبع سماوات، ويقول لي وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ *! هذا مُهم جدا، ومحور أساسي أيضا في خُطبة اليوم، لكن سوف يكون في درس اليوم!
محور أساسي؛ لأن هناك الملاحدة الذين ظنوا أن المؤمنين الوحيانيين ضاعوا، ضاعوا لما تبين أن الأرض، ولا تأتي حتى هباءة في الكون! لا تأتي حبة رمل! لا تأتي! أصغر من ذلك بكثير! بالقياس طبعا إلى حجم الأرض! حبة رمل، بالنسبة إلى الأرض! الأرض أصغر بكثير من أن تكون حبة رمل في أرض الكون، في رمال الكون، أصغر من ذلك!
فيقولون لك أين؟ أين الإله الخاص بكم؟ أين الإنسان؟ وكرمنا الإنسان، وخليفة الرحمن؛ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً *! مساكين هؤلاء! والخُطبة اليوم للجواب عن هذه الشُبهة على فكرة، وبفضل الله من زوايا سوف تقفون عليها!
وجوهرها ليس دينيا، لكنها تخدم الجوهر الديني، جوهرها فلسفي وعلمي وتأملي، ومُقارناتي! يتناولها المُلحد والمؤمن والشكوكي وكل مَن شاء، ويُجيب! نحن نقول، ولهم أن يقولوا، ونرى مَن أقرب إلى المنطق، ومَن أقرب إلى الحقيقة الحاكمة في الوجود – إن شاء الله تبارك وتعالى -؛ في الوجود البشري، وجودنا المعرفي الفلسفي الفكري النماذجي، سوف نرى – بإذن الله -.
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ *! حديث ابن حبان، وهو صحيح، وصححه غير واحد، حتى الشيخ الألباني، من المُعاصرين، أيضا صححه، وهو حديث أبي ذر الطويل! وفي هذا الحديث يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا أبا ذر ما السماوات السبع، إلى الكرسي – وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ * -، إلا كحلقة مُلقاة بأرض فلاة! بصحراء! تخيل خاتما؛ خاتم أصبع! الختام هذا، بقطر واحد سم أو سم ونصف، ومرمي في الصحراء الكُبرى! ما حجمه هذا؟
إذن انتبهوا، هذه ضربة شديدة للملاحدة! القرآن يقول وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ *، بلا شك أن السماوات كانت عظيمة دائما! مهما كانت صغيرة، في ذهن الناس الغابرين، إلا أنها عظيمة! الأرض عظيمة! الأرض عظيمة جدا جدا جدا!
الأرض يُمكن أن تحتمل ليس سبعين مليارا، وإنما أكثر من سبعمائة مليار بشر، يعيشون عليها! وأكثر بكثير أيضا، لا يملأونها! سبعمائة مليار لا يملأونها! تخيل! والأرض عظيمة جدا جدا بالنسبة إلى الإنسان! والسماء أعظم من الأرض بمراحل، الكل يعلم هذا! ولكن، مع ذلك، الله يقول الكرسي الذي لا تعرفونه ولم ترونه ولا تتوهمونه، يسع السماوات والأرض، وبسهولة! كم يفضل منه؟ لا يعلم هذا إلا الله.
العجيب أن الله قال لنا هي ليست سماء واحدة، هناك سماوات، وليست أرضا واحدة، هناك أرضون! لا إله إلا الله! فالنبي يقول لأبي ذر انتبه! أي الدين يُلح، ومن مصلحته هذا، وقد سبق الملاحدة، وسبق هؤلاء الذين ظنوا أن الأبعاد السحيقة، يتلاشى معها وهم الإيمان!
بالعكس، بالعكس! الدين من أول يوم كان يُصر على أن الكون سحيق، والكون هائل، والكون ضخم جدا جدا! أضخم مما يسمح به الخيال العادي اليومي. إلا كحلقة مُلقاة بأرض فلاة! بفلاة، بصحراء!
في حديث أبي داود في السنن، والضياء المقدسي في المُختارة، من حديث جابر، ومثله عن أنس عند الطبراني في الأوسط، وأيضا هذا رواه الطبراني في الأوسط! المُهم؛ حديث أبي داود، والضياء المقدسي، عن جابر – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – أُذن لي!
والإشارة موحية جدا: أُذن لي! كأنه يقول لو لم يؤذن، ما تكلمت. لأن من الناس مَن سيُكذب! وخاصة في ذلك العصر. اليوم من الناس مَن سيتصغر، ويقول فكان ماذا؟ ما هذا؟ ولا شيء هذا أيضا! لا، هو شيء كبير، كان وما زال! وهذا للتقريب.
أُذن لي أن أُحدّث – والحديث هذا أيضا صحيح، بفضل الله. صححه الهيثمي والألباني وغير واحد! حديث صحيح أيضا – عن ملك، من حملة العرش!
ثم – على فكرة لم نُكمل – النبي قال في الحديث الأول وما الكرسي في عرش الرحمن إلا كالسماوات إلى الكرسي! لا إله إلا الله! لا يزال العرش أعظم من الكرسي، بما لا يعلمه إلا الله! لا إله إلا الله! إذن معناها ما العرش هذا؟ ما هو العرش هذا؟ لا نعرف.
خيالك البسيط؛ أنه كرسي كبير، قد هذا المسجد مئتي مرة! السماوات والأرض كلها بالنسبة إلى الكرسي، مثل خاتم في الصحراء! والكرسي بالنسبة إلى العرش مثل السماوات والأرض بالنسبة إلى الكرسي! لا إله إلا الله! تُريد أحسن من هذا؟
هذا النبي محمد، قبل جيمس ويب James Webb، وقبل الإلحاد، وقبل كل هذه المعارك العجيبة الغريبة! النفسانية! كلها معارك نفسية، هي ردود فعل عاطفية، ليس أكثر! ليست فلسفية، وليست علمية! سأقول لماذا.
جيد، نرجع؛ أُذن لي أن أُحدّث عن ملك، من حملة العرش، بين شحمة أُذنه وعاتقه – العاتق هو الكتف، أي هذه المسافة، نحن بين الشحمة والعاتق كم؟ فتر! هذا اسمه الفتر. هناك الشبر: من هنا إلى هنا: من الإبهام إلى الخنصر، وهذا هكذا، اسمه الفتر. فتر! فتر واحد! أي تقريبا اثنا عشر سم، الملك هذا، من حملة العرش، كم؟ – مسيرة سبعمائة سنة!
الله أكبر! ليس الملك، لا! المسافة هذه فقط. إذن المسافة من أعلى رأسه، إلى أسفل بدنه، أو جثمانه أو جثته، أي جِرمه، كم هي؟ لا يعلمها إلا الله. هذا عالم، عالم قائم بذاته، هذا واحد فقط من حملة العرش!
خلائق الله عجيبة! القرآن دائما يؤكد هذا! ولذلك قال الله – تبارك وتعالى – لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ *! أَكْبَرُ * في الدلالة على ماذا؟ على عِظم الله، وجلال الله، ومُطلقية الله! أَكْبَرُ * بكثير، لا يزال! وأَكْبَرُ * من نواح كثيرة!
أعجبني جدا الإمام الراغب الأصفهاني في مُفرداته – وله تفسير، طُبع منه أجزاء الآن، مُحققة في رسائل دكتوراة -! في مُفرداته لاحظ مُلاحظة في مُنتهى الذكاء! قال لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ * من حيث ما أودع الله فيهما – في السماوات والأرض – من بدائع صُنعه وحكمته!
وإلا، من حيث الجثة – هو يقول الجثة، إي الجِرم، من حيث الجِرم، الحجم -، فمنهم مَن يعلم هذا. الكفار يعرفون أن السماوات أكبر، والأرض أكبر، وأكبر من خلق الإنسان، أكيد! من ناحية ماذا؟ من ناحية الحجم، الجسم! لكن من ناحية الحكمة والدلالة، هم لا يفهمون، ويغترون بحالهم، ويجعلون حالهم المركز النهائي للكون والحُكم على الكون وعلى رب الكون! وهذا ما سُنفيض فيه – إن شاء الله – بعد صلاة الجُمعة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.
(الخطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا.
إذن، إخوتي وأخواتي، المؤمن مبدئيا – وأنا أتحدث عن المؤمن القرآني، الذي يستمد نموذجه التفسيري من القرآن العظيم – مسألة الحجوم والأجسام والاتساع السحيق المهول، لا تُزعجه أبدا! المفروض أنها تزيده إيمانا، ولا تنقص من إيمانه.
أما، الجواب عن الشُبهات الأُخرى، وعن حجمنا ومكاننا وأهميتنا وخطورتنا والتكليف والمبدأ الأنثروبي والتسخير وكل شيء مُسخر، فهذا سيأتي – إن شاء الله – في مُحاضرة بعد الجُمعة بالتفصيل – بإذن الله -! مُهم جدا!
وعلى فكرة، الإضافات هناك. في الخُطبة إلى الآن تقريبا لم نُضف شيئا حقيقيا، الإضافات ستأتي في المُحاضرة؛ للجواب عن كل الشُبهات، من الزوايا الجديدة – بإذن الله تبارك وتعالى -.
فالمؤمن لا يهوله هذا، ولا يُزعزعه، ولا يُقلقل إيمانه. المفروض أنه يزيده إيمانا، وهو يعلم هذا. في نهاية المطاف، نحن شعارنا في كل صلاة: الله أكبر! ليس فقط أكبر من السلاطين، من الجبارين، ليس أكبر من الأرض والليل والنهار، ليس أكبر من شهواتنا وغضبنا، أكبر من كل ما يُمكن أن تتوهمه، أكبر من كل ما عداه! تقول لي الكون والأكوان ومئات الملايين! من كل ما عداه! يبقى أكبر، لا إله إلا هو! وأكبر على جميع المُستويات.
إذن، أنت إذا شعارك هذا؛ الله أكبر، فلن يُزلزلك شيء، إطلاقا! يبقى الله أكبر، إلى أبد الآبدين، لا إله إلا هو! يبقى! كما كان، الأكبر، لا إله إلا هو! أبدا!
واضح يا إخواني؟ هذا لا يزيدنا إلا إيمانا – بإذن الله تبارك وتعالى -. فقط أُريد أن ألفت إلى أن من المُفيد جدا لتدعيم الإيمان وتثبيت الإيمان، إطالة التفكير وغلغلة النظر في عجائب الكون، وبالذات الكون!
انظر؛ يُوجد عندك عالمان – لا إله إلا هو -:
عالم البدن الإنساني؛ لأن وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ *. وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ *: هذا عالم كبير، أيضا شبه لا مُتناه، للوقوف على عجائب الإبداع الإلهي! شيء غريب!
والإنسان فيه امتياز، ليس فقط خطورة، وهذه نُقطة أيضا محورية سأعود إليها! فيه ليس فقط خطورة وأهمية، لا! فيه امتياز واختصاص، وهذا الشيء مُهم جدا، سوف نُفصله أيضا في محور وحده!
لكن في المُقابل أيضا ماذا؟ الملكوت؛ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا ۚ *! ماذا؟ إشارة أَم مَّنْ خَلَقْنَا ۚ * إلى ماذا؟ قال أبو جعفر بن جرير، عن قتادة – وهذا الذي اعتمده أبو جعفر تقريبا، عن قتادة -، قال السماوات والأرض. مَن أشد؛ خلقهم، أم خلق السماوات والأرض؟ وتشهد لها آية مؤمن، أو آية غافر؛ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ *.
ولذلك أختم بما ورد عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام -؛ تعليقا على الآيات التي أُنزلت عليه تلك الليلة الكريمة السماوية العلوية، آيات أواخر آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ * … إلى آخر السياق الكريم!
النبي دخل عليه بلال، وقد بللت دموعه حجره الشريف، ونزلت على الأرض! يبدو أنه قضى جُزءا كبيرا من ليلته يبكي؛ بسبب هذه الآيات العظيمة! وأخبر بلالا بما حصل، ثم علق فقال ويل لمَن قرأها ثم لم يتفكر فيها، ويل لمَن قرأها ثم لم يتفكر فيها، ويل لمَن قرأها ثم لم يتفكر فيها!
وربما شاهدتم جميعا المقطع الرائع جدا لكارل ساغان Carl Sagan، الذي يُعلق فيه على الأرض وقد بدت كنُقطة صغيرة باهتة، كذرة غُبار! في مشهد كوني، شديد الإثارة والإعجاب والإدهاش!
في نهاية المطاف، يقول – معنى كلامه – إن الدرس الأكبر من هذا أن نتعلم كيف يُحب بعضنا بعضا، وأن نتواضع، وألا نُبالغ في كراهية بعضنا البعض، واستئصال بعضنا البعض! يبدو أن الأمر لا يستأهل، لا يستأهل! لكن هناك أمر آخر يستأهل، كارل ساغان Carl Sagan لم يُحاول أن يُحققه، للأسف الشديد! وارتحل عن هذا العالم، دون أن يُحققه، ومن أسف شديد!
هناك شاعر أمريكي – مات سنة ألف وتسعمائة، أمريكي – اسمه ستيفن كرين Stephen Crane. كرين Crane عنده أبيات جميلة، لفتتني! يقول فيها الآتي، على لسان رجل يُخاطب الكون – هذا كارل ساغان Carl Sagan، على فكرة! وهذا كل مُلحد، وكل واحد صاحب نموذج مادي، لم يتجاوزه إلى نموذج توحيدي إيماني -!
ماذا يقول الرجل هذا للكون؟ يقول له ماذا؟ يقول له Sir, I exist! أي يا سيدي، أنا موجود! يقول للكون، يقول لصور هابل Hubble هذه، يقول لهذا العالم العجيب: Sir, I exist!
قال له However, replied the universe! أجاب الكون! فكان ماذا؟ وماذا بعد؟ ماذا يعني؟ موجود! ماذا أعمل لك؟ The fact has not created in me a sense of obligation. ذلك لم يُوجد في إحساسا بالالتزام! موجود، غير موجود، ماذا أعمل لك؟
وفعلا هذا المنطق الذي يُفرغ عنه كل مُلحد اليوم، وكل شكوكي، وكل كافر بالنموذج الوحياني التوحيدي! يقول لك مَن نحن؟ وما نحن؟ نحن ليس لنا مكانة! نحن! نحن لا شيء، كوكبنا لا شيء! تُحدثوننا عن كرامة الإنسان، وعن الـ Morality، وعن الأخلاقية!
شيء غريب، على فكرة! أليس كذلك؟ إذن انتبهوا، الإلحاد وعد بسحق الإنسان، وعد بنزع ما تبقى من Dignity أو كرامة للإنسان، وعد نهائي، ولا يُمكن الرجوع عنه على فكرة، الإلحاد! إلا بأن يرجع عن نفسه الإلحاد، أن يكفر بذاته، يُلحد بإلحاده، وإلا أبدا، هذا وعده! عكس الوعد الإيماني.
إذن هل الكون فعلا لا يتلزم؟ نعم، لا يلتزم! لكن النموذج التوحيدي يقول لك الله مُلتزم، لا إله إلا هو! الله! الله رب الأكوان كلها، رب السماوات والأرضين، رب العرشي والكرسي الذي وسع السماوات والأرضين، مُلتزم معك. تقول لي أي كلام هذا؟
المُلحد يقول لك مُلتزم؟ والله العظيم مُلتزم، والله مُلتزم، لا إله إلا هو! ويتواصل معنا. وكل مَن له تجربة دينية حقيقية، روحية حقيقية، أنا أقول لكم هو يعلم أن الله مُلتزم إزاءه، لا إله إلا هو! إن جاز هذا التعبير.
وهو المعنى الحقاني؛ أتدري يا مُعاذ حق الله على العباد، وحق العباد على الله؟ هذا هو! المعنى الاستحقاقي، الحقاني. هذا مجاز كله، مجازات! لذلك Obligation؛ التزام، كذا! Commitment، أقرب حتى من Obligation، أي نوع من الـ Commitment. يُوجد التزام، يُوجد!
كل مَن له هذه التجربة، يعلم ويسعد بأن الله مُهتم به، مهتم به! يسمعه، ويُبصره، ويتواصل معه، لا إله إلا هو! ويُجيبه، لا إله إلا هو! شيء عجيب! الذي عنده تجربة حقيقية! الذي ليس عنده تجربة، فليذهب وليبحث عنه. يُصحح النموذج، لا يكفر بالرب الكبير، لا إله إلا هو!
يُوجد خلل في نموذجك، يُوجد خلل في العدسة، يُوجد خلل في المرآة. صحح المرآة، اصقل العدسة، والذي أهم من كل هذا؛ أن تكون لك النية الصافية، والتواضع اللائق بنا كبشر، في كوكب مُتواضع جدا! أن نخضع ونبخع للحقيقة، إذا أطلت برأسها، ولو أول طلول.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وفقها ورشدا. اهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي مَن تشاء إلى صراط مُستقيم. رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ *. حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم، في هذه الساعة المُباركة، ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا كربا إلا نفسته، ولا ميتا إلا رحمته، ولا مريضا إلا شفيته، ولا غائبا إلا رددته، ولا أسيرا إلا أطلقته، ولا مدينا إلا قضيت عنه دينه، وأذهبت همه وغمه وحُزنه، برحمتك وفضلك وكرمك ومنّك، إلهنا ومولانا، رب العالمين.
لا إله إلا أنت، سُبحانك، إنا كنا من الظالمين. نبوء إليك بنعمتك علينا، ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب، إلا أنت.
عباد الله/
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ *، وأقم الصلاة.
(جزء من تسجيل الصلاة)
بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ * ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ * إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ * ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ * صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ *
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ *
بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ * ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ * إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ * ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ * صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ *
وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمۡ إِلَّا نُفُورٗا * قُل لَّوۡ كَانَ مَعَهُۥٓ ءَالِهَةٞ كَمَا يَقُولُونَ إِذٗا لَّٱبۡتَغَوۡاْ إِلَىٰ ذِي ٱلۡعَرۡشِ سَبِيلٗا * سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّٗا كَبِيرٗا * تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا *
(2/9/2022)
أضف تعليق