إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ۩ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ۩ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ۩ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ۩ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ۩ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ۩ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَٰهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ۩ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ۩ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ۩ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
أبدأ بتساؤلات: لِمَ لا تسير الأمور على النحو الذي يتشهى البشر ويهوون؟ لِمَ لا ينجو أحد، وليس بيد أحد ضمانة، من ضربات القدر؟ فكم ذا رأينا وكم ذا نرى تبدل أحوال بين ليلة وضحاها! يبيت أحدهم صحيحاً مُعافى، فيُصبِح وقد أضر به السقم. ويُصبِح صحيحاً مُقتدِراً، فلا يُمسي إلا هو قعيد عاجز. يبيت غنياً، ويُصبِح فقيراً مُملِقاً. يبيت بحواسه تامة، ويُصبِح وقد نُقصت من أطرافها.
لا أحد في مأمن من ضربات القدر، وضربات القدر التي لا تأتي على وجه خطي، بحيث تُفهَم لمَن أوتيَ النظر وقوة البصر، فلا يبقى أمامها إلا أن يُجدِّف مُجدِّف، ويستريب مُشكِّك مُستريب، أو يُسلِّم ويُذعِن مُؤمِن صادق في إيمانه، مُوقِن راسخ في يقينه.
لِمَ ابتلى الله – تبارك وتعالى – وقضى على صفوة عباده وخِلصانه، وهم أنبياؤه ورُسله، بأن يكون آباؤهم أو أعمامهم أو أبناؤهم أو زوجاتهم أو ذوو قراباتهم من الكفّار الجاحدين؟ فنوح زوجته كافرة، وابنه كافر. ولوط زوجته جاحدة كافرة. وإبراهيم عمه – أو أبوه في التفسير المشهور، أخذاً بظاهر النص – كان كافراً وثنياً، عابد صنم، بل صانعاً للتماثيل والأوثان، مُجمِّعاً الناس عليها. ومحمد – صلوات ربي وتسليماته على محمد وسائر إخوانه من النبيين والمُرسَلين وآل كل – كان عمه كافراً وقضى كافراً. لِمَ؟ شيئ عجيب، شيئ عجيب يا إخواني.
يلوح أن لهذه الخُطبة تعلقاً بوجه لا يخفى، بخُطبة أسرار القدر، أو سر الأقدار. يا إخواني العبودية كما قال أحد الأئمة الصالحين، العبودية جوهرها الربوبية. فما فُقد في العبودية، وُجد في الربوبية. وما خفيَ من الربوبية، أُصيب في العبودية. هذه هي القضية!
وعلى هذا الأساس الذي ينبغي أن يكون أساساً صُلباً متيناً وراسخاً غائراً عميقاً، يبتني المُؤمِن بنية وعمارة إيمانه ويقينه، وإلا إيمانه في مهب الريح. والكلام عن الإيمان بمعناه المرضي المقصود لله – تبارك وتعالى -، لا الإيمان الموهوم ولا الإيمان المُدّعى المُتخيَّل، إنما الإيمان كما ينبغي له أن يكون، كما ينبغي أن يكون الإيمان! على هذا الأساس.
ولذلك الميز والفرق بين حدود العبودية، بل معرفة حدود العبودية، مُجرَّد معرفة حدود العبودية، يتحصل منه معرفة وقار الربوبية، مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ۩. يحصل التعظيم اللائق بالرب الجليل – لا إله إلا هو -، بمُجرَّد معرفة حدود العبودية.
وقد يقول قائل وهل أوضح من هذه المسألة؟ والجوب لا أغمض ولا أشكل ولا أعقد من هذه المسألة. ومنشأ الوثنيات والكفريات والشركيات والتجديفات والإلحاد والأوهام والظنون في الإيمان، إنما هو من عدم معرفة حدود العبودية.
يُعجِبني في هذا الإطار – إخواني وأخواتي – تعليق الفيلسوف الفرنسي الشهير باسكال Pascal (بليز باسكال Blaise Pascal) على الفيلسوف الروماني المُوحِّد – كان مُوحِّداً، لأنه وُلد في عصر المسيحية – إبكتيتوس Epictetus، العبد العتيق، وهو من أشهر الفلاسفة الرواقيين، الذين عظَّموا الله – تبارك وتعالى -، ودعوا بنفس صادق إلى مُطابَقة إرادتنا مع إرادة الله، وإلى ضرورة التسليم التام لمُراد الله – تبارك وتعالى -. حتى أنه ذهب يُبشِّر، لا يني، ليله ونهاره، بأن مَن أُسعِد ووُفِّق إلى هذه الخُطة في تلقي أقدار الله وأقضيته – سُبحانه وتعالى -، لم يتشك، وغاب عنه التذمر، وبطل التسخط.
وكان يقول إذا أُصيب أحدكم في ابنه أو زوجه أو أخيه أو وديده أو في ماله ومُلكه، فلا يقولن فقدت كذا وكذا، بل عليه أن يقول رددت إلى الرب الجليل كذا وكذا. إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩. عارية مُسترَدة، عارية مُسترَدة! الأموال والأولاد، بل الحياة، النفس، إنما هي عوارٍ مُسترَدة، سيستردها مالكها – لا إله إلا هو -، وهو بها أولى، وبها أحق.
إلى هذه الدرجة كان هذا الرجل يُوقِّر الله – تبارك وتعالى -، وتتلخَّص فلسفته الأخلاقية في قضية الواجب، وقد صنَّف الواجب ثلاثة أصناف: واجبات إزاء الله – تبارك وتعالى -، وواجبات إزاء الذات، وأُخرى – الثالثة – إزاء المخلوقات، البشر وغير البشر. وتكلَّم كلاماً واسعاً مُستجاداً طويلاً في هذه الثلاثة الأصناف.
إلا أن باسكال Pascal علَّق على خُطة إبكتيتوس Epictetus الإيمانية بالقول هذا الرجل كان يُمكِن أن يكون وأن يُعَد قدّيساً في رأس القدّيسين، إلا أنه انزلق إلى أُسس شيطانية. عجيب! كيف؟ الرجل واضح أنه ممحوض الإيمان، صادق التسليم. وهذا جوهر الإسلام، تُسلِم وجهك وكيانك كله لله – تبارك وتعالى -. لِمَ يدّعي باسكال Pascal في هذا الفيلسوف الرواقي الشهير، أنه أسَّس قضيته على أُسس شيطانية، انتهت به إلى نتائج إبليسية؟ النتائج من مثل إباحة إبكتيتوس Epictetus الانتحار. إذا واجهتك أقدار أذلتك وأهانتك، ولم تعد معها مُستطيعاً أن تُحقِّق كمالك وعزتك وقوتك، فانتحر. قال هذه خُطة إبليسية، هذه نتيجة إبليسية، مُبتناة ومُستَلة ومُستجَرة؛ مُستجَرة عن ومن، أُسس شيطانية. ما هي الأُسس الشيطانية؟ ركِّزوا معي.
قال بكلمة واحدة، هذا الرجل كاد يكون قدّيساً في رأس نُبلاء القدّيسين، لو أنه جمع الجناح الثاني إلى الجناح الأول، جناح الواجبات، التسليم لله. قال لكنه لم يُدرِك عجز الإنسان أبداً! ظن أن الإنسان يستطيع أن يخط حياته كما يُريد، بالإرادة. إن لم يستطع أن يخلق مصيره، فهو يستطيع أن يستجيب للمصير المرسوم له، من قِبل الله، من قِبل السماء، بكامل إرادته. وما من قوة، ليس ثمة قوة، تستطيع أن تُثنيه عن ذلك؟
يقول باسكال Pascal إبكتيتوس Epictetus لم يُدرِك عجز الإنسان. وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ۩. لم يُدرِك، بالعكس! بنى خُطته على أن الإنسان شبه رب أو شبه إله، يُمكِنه فقط إذا أراد وصحت منه الإرادة والنية، أن يفعل ما يشاء وأن يسعد وأن يغتصب توفيقه ونجاته وخلاصه وسعادته بكامل إرادته. قال هذه أُسس إبليسية. غير صحيح! الإنسان ليس لديه هذه القدرة. وهذا الكلام في عُمقه صحيح وصحيح وصحيح، ليس مرة، بل ألف مرة، بل مليون مرة، بل مليون مرة!
وإذا تصفحنا آيات الكتاب الأجل وأحاديث وابتهالات ودعوات النبي الضارعات – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله -، وجدنا مصداق هذا القيل، وسطع أمامنا نور العرفان الحق، نور العرفان الحق غير المُبتنى على الظن بالإنسان ما يذهب به المذاهب، بحيث تُرهِقه بالآلهة الزائفة. والإنسان كما تعلمون مهما ابتغى أن يتأله أو يتربب، لا يعود لا بإلهية منقوصة ولا تامة طبعاً، ولا بربوبية منقوصة، إنما يعود بوثنية. يعود وثناً، يعود حجراً! والوثنية يُمكِن أن تكون في الأحجار أو في الحجر والشجر، كما يُمكِن أن تكون في الناس والبشر، وثنية! يعود وثناً، يفقد حتى إنسانيته، يفقد حتى الجميل في إنسانيته، نعم يا إخواني.
إذن – كما قلنا – ما فُقد في العبودية، وُجد في الربوبية. وما خفيَ من الربوبية، أُصيب في العبودية. تحقَّق بأوصافك، يُمدِك بأوصافه. يقول مولانا ابن عطاء الله السكندري – قدَّس الله سره -، تحقَّق بذُلك، يُمدِك بعزه – لا إله إلا هو -. طبعاً! ما فُقد هنا، يُوجد هنا. وما خفيَ هنا، يُصاب هنا. تحقَّق بعجزك، يُمدِك بقوته وحوله. تحقَّق بضعفك، يُمدِك بقدرته. هكذا قال.
وفي الحقيقة الذي أطمئن إليه جداً، أن الضعف البشري توهم أيضاً. أي الله – تبارك وتعالى – ناغى أهواءنا وناغى ضعفنا، حين أثبت لنا ضعفاً، لأن الحق يا إخواني أن ضعفنا ماذا؟ عجز. أنت لست مُجرَّد ضعيف فحسب، بل عاجز، عاجز! وهذا معنى لا حول ولا قوة إلا بالله، وكل نكرة في سياق النفي تعم. لا حول ولا قوة إلا بالله!
وفرق بين الضعف والعجز، الضعف أنني أضعف عن حمل هذا الثقل، أحمل إلى سبعين أو ثمانين كيلاً، لكن أضعف عن حمل مائة كيل – مثلاً، مائة كيل، أي كيلوجرام -. هذا ضعف، هذا توهم. أنت عاجز عن أن تحمل ذرة – والله -، أنت عاجز عن أن تحمل فكرة. كل شيئ بإرادته وبإذنه – لا إله إلا هو -.
أورد الإمام الشمس بن قيم الجوزية – رحمة الله تعالى عليه – في الإغاثة وفي غيرها، أوحى الله – تبارك وتعالى – إلى بعض النبيين، أي يا فلان، أدرك لي لطيف الفطنة وخفي اللُطف، فإني أُحِب ذلك من عبدي. فقال هذا النبي الكريم – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا رب وما هو لطيف الفطنة؟ الفطنة هي الذكاء، هي الفهم الزكن، واللطيف هو الشيئ الخفي إلى حدٍ ما، وإذا وُصِف به العمل، فإنما هو الرفق وحُسن التحيل في إنجازه، وإيصال الأشياء إلى مُستحقيها. هذا هو اللُطف، لطيف الفطنة! ما هو لطيف الفطنة؟
قال لطيف الفطنة إذا وقعت عليك ذبابة، أن تعلم أني أنا أوقعتها – ذبابة! ذبابة أو بعوضة تلدغك -، فسلني أرفعها. سلني أرفعها، ولا تقل هذه ذبابة، أنا قادر عليها. فربما قبل أن تقول بيدك هكذا – أي لتضربها -، تكون يدك فقدت قدرتها، شُلت! أُصبت بجلطة دماغية – Stroke -، لذا أنت انتهيت، لا تستطيع شيئاً. حتى الفكرة، لا تكمل في ذهنك. انتبه!
شاهدنا في وثائقيات عجيبة قبل سنين بعيدة، كيف يُحرِق الله غابة… بماذا؟ ليس بعود كبريت، هذا سهل، بقطرة ماء، نعم! في الوثائقيات، في البي بي سي BBC، قطرة ماء! قطرة ماء يا إخواني كانت في الليل – في عتمة الليل – جُزءاً من بلورة ثلجية، فلما أشرقت الشمس، ذابت هذه البلورة، التي كانت كبيرة نسبياً، وبقيت منها قطرة، عملت عمل عدسة، جمّعت أشعة الشمس في يوم قائظ أو في صبيحة ضحيانة قائظة، فاشتعلت حرارة، فاحترقت الغابة. الله أكبر! وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۩، وهو قادر على ما هو أعجب من هذا، وأخفى من هذا، ولكن هذا تعليم لنا، وسُجّل هذا. هذا مُسجَّل، وأنا رأيت هذا في وثائقي فعلاً، لأن المُصوِّر مكث هنا ثلاث سنوات يُصوِّر، فصوَّر أشياء عجيبة في عالم النبات والحيوان، وكان من أعجب ما صوَّر هذه الواقعة! كيف نشب حريق عظيم، أضرب بالغابة، من قطرة ماء؟ لا إله إلا الله.
وكم ذا سمعنا، وربما رأى بعضنا، مَن مات بشرقة! غص بالماء، شرق، مات بشرقة. وإنما يعتصر الإنسان الذي يغص بشيئ بالماء، فبماذا يعتصر مَن كان بالماء اعتصاره وشرقانه؟ لا إله إلا الله.
إذن أدرك لي لطيف الفطنة وخفي اللُطف، فإني أُحِب هذا أو ذلك من عبدي. قال يا ربي فما هو خفي اللُطف؟ هذا لطيف الفطنة، إذا وقعت ذبابة، أن تعلم أني أنا أوقعتها، فسلني أرفعها، فماذا عن خفي اللُطف؟ قال خفي اللُطف إذا أتتك حبة – جُزء من الدرهم، فقط جُزء من الدرهم، ليس درهماً وإنما هذا جُزء من الدرهم، لا يسوى شيئاً -، فاعلم أني أنا أهديتها إليك. أهديتها إليك! هذا خفي اللُطف.
مَن يعيش هذا المشهد؟ العارفون، النبيون، الصدّيقون، العارفون بالله. يعيشون هذا المشهد حقاً، ويعلمون أنه لا حول لهم ولا قوة، وأن حظ الله منهم إنما هو النية الصالحة الصادقة، ثم يعلمون من وراء هذا العلم – علَّمني إياه وإياكم، ما نصير به من صفوة العارفين الصادقية – أن النية الصادقة الطهور البارئة الطيبة، إن لم يُيسّرها الله، لا تتيسَّر. فصار الأمر له مُبتدأً ومُنتهىً – لا إله إلا هو -، صار الأمر له من قبل ومن بعد. شيئ غريب وعجيب! هذا إيمان الأنبياء، وهذا إيمان العرفاء، هذا إيمان النبيين، وربما في المقام ما لا تتسع له العبارة. لكن هل حال كل المُؤمِنين أو مُدّعي الإيمان هي هذه الحال؟ طبعاً كلا، كلا، كلا. الحال عكس هذا تماماً، وثنيات وأنواع من الشرك عجيبة يا إخواني وأخواتي.
ما بقيَ من الخُطبة، سأجزئه جُزئين: جُزءاً أستعرض فيه الأسباب التي أوجبت الحجاب، لِمَ حُجبنا عن التحقق بهذه المعرفة؟ وهي جوهر الإيمان، جوهر العبودية. العبودية حين تتجوهر، ينتهي الأمر، يكمل ما ينبغي للربوبية من التوقير والاحتشام والإقرار والرضوخ والخشوع والبخوع. لِمَ؟ وجُزءاً – الجُزء الثاني – عود على بدء وتفصيل في مقام هؤلاء العارفين، الذين عبدوا الله بهذا التحقق، وفي رأسهم، وربما نكتفي به، وهو غناء وكفاء، سيدنا ومولانا رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً -.
السبب الأول فيما يظهر – والله تبارك وتعالى عنده العلم والحُكم – السيادة، التي آنسها ويُؤنسها البشر من أنفسهم في هذا العالم الذي استُخلفوا فيه، وكان مُقتضى الاستخلاف المُسخرية، أن يُسخَّر لهم! أنا سأُستخلَف في عالم، يكون مُسخَّراً لي. إن تأبى علىّ وامتنع واستغلق، فكيف سأكون مُستخلَفاً فيه؟ فالمُسخرية مُقتضى الاستخلاف.
فأوجب هذا عندنا – عند بني آدم – وهماً، أن لهم تصرفاً وقدرةً، أحياناً بلا حدود. وأن ما نُريد، يكون. وما لا نُريد، لا يكون. وهذه النزعة الشركية الوثنية القرآن أشار إليها، وَظَنَّ أَهْلُهَا ۩، حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۩. وقد رأيتم قد يجعلها حصيداً بقطرة ماء. لا إله إلا الله، لا إله إلا الله! وأنت حرثت، وزرعت، وبذرت، واعتنيت، وسقيت، واصطنعت الآلات الضخمة المُتخصِّصة – تُوجَد تقنيات حديثة الآن في الزراعة -، أربعة أشهر أو خمسة أشهر، ثم أتى الله على كل أولئكم، بقطرة ماء، أو بأقل من هذا، أو بميكروب Microbe بسيط، أفسد لك كل شيئ، واجتاح لك كل شيئ. أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ۩، لأنهم ماذا؟ ذهبوا بأنفسهم، ظنوا أنهم على كل شيئ قادرون. لا! فهذا يُعطي الإنسان هذا الوهم.
ما المنجاة؟ لا! المنجاة هي إدراك المُعادَلة بطرفيها، كما فعل الإمام المُجدِّد والمُصلِح محمد عبده – رحمه الله تعالى -، قال أن يُدرِك المُؤمِن أنه في هذا الوجود سيد لكل شيئ، لكن عدا الله – تبارك وتعالى -، الذي هو عبد له. عبد لله وحده – بتعبير محمد عبده -، سيد على كل شيئ بعده. لكن بعده! وبمُقتضى ماذا؟ بمُقتضى تسييد الله له، بمُقتضى تسخير الله المخلوقات والموجودات له. لا بمُقتضى ماذا؟ ذاته. عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ۩، قدرات عندي، تقنيات من لدني. لا! ليس هذا، هذه أسباب وحُجب يا مسكين. وما يسَّرها وما أقدرها وما سخَّر أسبابها وموادها، إلا الله الواحد – لا إله إلا هو -، أين التوحيد؟ هذا الشرك على فكرة، هذه الشركيات، شركيات!
وقد نهانا الله – كما سمعتم – في السياق الجليل من سورة النحل، نهانا عن اتخاذ إلهين، فمن باب أولى أن ينسحب النهي على ثلاثة وأربعة وخمسة وملايين. وفي الحقيقة الآلهة بالملايين! في وهم بعض الناس وفي حياتهم المُلتاثة إيمانياً الآلهة بعدد الأسباب، لأن ظنه ورجاءه وخوفه وتعويله في كل أمرٍ أمرٍ على كل سببٍ سببٍ، فهذا المسكين مُشرِك بعدد هذه الأسباب، على أنه يرفع ماذا؟ راية الإيمان. أنا مُؤمِن بالله. بالكلام، بالكلام! حقيقةً هو يفعل ماذا؟ العكس. عملياً ومسلكياً!
حين ترجو خيراً أو نوالاً من أحد، ثم تذهب وقلبك فيه هوى وخوف شديد، وأنت غير مُتماسِك، تُرعَد، وتتعرق، وتسكب ماء وجهك، وتتذلل، وتتملق، وتُداهِن، وتُنافِق، وتُداجي، فأنت مُشرِك هنا، بصراحة! بمنطق الإيمان الحقيقي هذا شرك. لكن لو أدركت لله خفي اللُطف، لعلمت أنه لو أتتك حبة، إنما الله وحده هو الذي أوصلها إليك. وهذا Tube، هذا قناة، قناة! لا نبخسها حظها ولا حقها، بالعكس! هذه القناة مُحترَمة، ولولا أن لها عند الله مزية، لما جعلها قناةً للخير. كما قال مولانا – صلى الله عليه وآله وسلم – طوبى لمَن جعله الله مفتاحاً للخير، مغلاقاً للشر. طوبى له! الله يُحِبه وأراد به الخير، فجعله قناةً للخير. أوصل النفع والنعمة إلى عباده عبره، عبر هذه القناة! نحن نعرف هذا لها، لكن نتحقَّق ونعيش حقاً أن صاحب النعمة ومُورِد النعمة حقاً هو الرب – لا إله إلا هو -، وهذه القناة لها احترامها ولها توقيرها أيضاً ولها الشكر منا. هذا هو، فانتبه! لأن بعض الناس باسم منطق التحقق بالإيمان، يجحد ماذا؟ فضل نعم الوسائل. لا! الله ما علَّمك هذا، لكن أيضاً في الوقت نفسه وعينه أرشدك وذكَّرك ألا تغيب بشهود الوسيلة – أي هذه القناة -، عن ماذا؟ عن المُورِد الأول – لا إله إلا هو -.
وكذلك الخوف، تخاف من الفقر، وتخاف من الموت، وتخاف من العلل، من الميكروبات Microbes والفيروسات Viruses، وتخاف من العدو، وتخاف من الحروب، وتخاف… وتخاف… وتخاف… وتخاف… لو وحَّدت الله حقاً، ما خفت إلا الله. طبعاً! لماذا أخاف من كل هذه الأشياء؟ مَن الذي يأذن لها أن تفعل؟ الله – تبارك وتعالى -. هل تفعل بغير إذنه؟ يستحيل. قال فسلني أرفعها. حتى الذبابة، أرفعها – أي هو -.
إذن وحَّدت الخوف، ووحَّدت الرجاء أيضاً. فرجائي حقاً في الله، طمعي حقاً في الله، رغبتي حقاً في الله، خوفي وخشيتي ورهبتي حقاً من الله، ومن الله وحده. هذا التوحيد، هذا التوحيد! ومَن وحَّد، أمن. يشعر بالأمان، يشعر بالراحة. على أن المسألة أبعد غوراً، حتى لو وحَّد هذا التوحيد، يبقى في غير مأمن من ضربات القدر. لا إله إلا الله! هذا هو طبعاً، وسوف نرى لماذا؛ لأنه لو ظن أن توحيده هذا يُعطيه الإيمان ويُعطيه القدرة على مُعامَلة الله خطياً بمُعادَلات واضحة – واحد زائد واحد يُساوي اثنين -، وقع في الشرك مرة أُخرى. أشرك هذه المرة ماذا؟ أشرك ذاته وعمله واجتهاده وتحققه وعرفانه. فعوض أن يُكمِل مراحل العرفان على طريق العارفين، عاد في حافرته وثنياً مُشرِكاً. أشرك نفسه وعرفانه، فلا عرفان، بل هو شرك.
لكن العجيبة هي الآتية، ونسأل الله التوفيق. ولذلك النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان يبتهل في الأصابح والأماسي باستمرار بالآتي. في حديث أبي أُمامة الباهلي، عند الإمام الطبراني – رحمة الله تعالى عليه -، الذي بدأه – عليه الصلاة وأفضل السلام -، قال أبو أُمامة كان – صلى الله عليه وآله وسلم – إذا أصبح وإذا أمسى، ابتهل بهذه الدعوات. يبتهل إلى الله، ابتهال ضارع صادق واج، وليس محفوظات مسجوعات مُغنيات في المحاريب، اللهم واللهم. لا! ضراعة حقيقية، من قلب مليء بالعرفان الحق. اللهم أنت أحق مَن ذُكر، أنت أحق مَن عُبد، وأنت أنصر مَن ابتُغيَ، وأنت أوسع مَن أعطى، وأنت… وأنت… وأنت… إلى أن يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا تُطاع إلا بإذنك، ولا تُعصى إلا بعلمك. تُطاع فتشكر، وتُعصى فتغفر. أقرب شهيد، وأدنى حفيظ.
أقرب شهيد! وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ۩، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ. القلوب لك مُفضية، والسر عندك علانية. بالله، بالله الذي لا إله إلا هو، هل سمعتم بشراً ناجى ربك بمثل هذا المنطق؟ اللهم لا، إلا ما كان من محمد – صلى الله على محمد وآل محمد -. الله أكبر!
القلوب لك مُفضية، والسر عندك علانية. حُلت بين القلوب، وأخذت بالنواصي. لا إله إلا الله! مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۩. ولذلك لا خوف من أي شيئ عدا الله، الخوف من الله وحده، لأنه ما من دابة، ما من عقرب، ما من حية، ما من بشر، ما من ديكتاتور، ما من مُجرِم، ما من مسعر حرب، إلا الله آخذ بناصيته أو بناصيتها. هذا هو، فلا تخف، خل خوفك من الله، وحِّد، هذا التوحيد!
لا إله إلا الله حصني، ومَن دخل حصني، أمن عذابي. أتُريد الأمن؟ لمَن الأمن؟ لــ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ۩. والظلم هو الشرك. النبي قال، الشرك! وليس إلهين، كل الآلهة منفية. لا إله إلا الله، كلها منفية. وهذه كلها آلهة! كل ما جعلته وكدك في الرغبة والرهبة هو إله عندك وأنت لا تدري، هذا ليس التوحيد. التوحيد حصن، هذا الحصن! ومَن دخل حصني، أمن عذابي. اللهم أمنا من عذابك، بتحقيقنا توحيدك على الوجه الذي يُرضيك وينبغي لك. لا إله إلا الله، سُبحانك إنا كنا من الظالمين.
إذن هو هذا – إخواني وأخواتي -، قال حُلت بين القلوب، وأخذت بالنواصي. كتبت الآثار، ونسخت الآجال، وقدَّرت الأعمار. لا إله إلا هو! النبي يعرف هذا، ويُناجي ربه بهذا، يعيش هذه الحقيقة، يعيشها! هذا الإيمان المعيش، وليس الإيمان المقول، الإيمان المعيش يا إخواني!
فإذن حقيقة المُسخرية والسيادة للإنسان على هذا العالم، جعلته يذهب بنفسه. ذهب بنفسه، فظن أن الربوبية شركة، ولو بقدر ما، بينه وبين الرب – لا إله إلا هو -. هذا لك وهذا لنا! كأنه يقول له هذا تقدر عليه، وهذا نقدر عليه. أعوذ بالله، أعوذ بالله! إذن هذا السبب الأول.
السبب الثاني خطر المعرفة. المعرفة خطيرة جداً! ولذلك في العهد القديم – وإن كان لنا طبعاً تنظير مُختلِف إلى حد بعيد، لكن هذا في العهد القديم، في الجينيسيس Genesis، أي في سفر التكوين – أن الرب – لا إله إلا هو – أمر آدم بأن يأكل من كل شجر الجنة، قال له إلا من هذه الشجرة، فلا تأكل منها، فإنك إن أكلت منها موتاً، تموت. وصرَّح السفر – أي الجينيسيس Genesis -، صرَّح بأنها شجرة معرفة الخير والشر. التصوير القرآني بريء تماماً من هذه النظرية، لكن على كل حال القدر الذي يُمكِن أن نُوافِق ونتفق معه – أي نُوافِق عليه ونتفق معه -، هو أن المعرفة خطرة. المعرفة خطرة!
وذكرت في الخُطبة السابقة عن أبي يزيد البُسطامي – قدَّس الله سره – أن أشد العباد حجاباً، أي محجوبيةً، مَن هم؟ العلماء، والعبّاد، والزهّاد. أول الحُجب العلم، العلم! لماذا؟ المعرفة يا إخواني بطبيعتها سبيل وطريق ووسيلة تعبيد المعروف للعارف. طبعاً! أنت حين تعرف قانون الجاذبية، تتحكَّم في أشياء كثيرة. تُطلِق القمر الصناعي إلى الجوزاء، ثم تُرسِل السفينة الفضائية إلى القمر، فتحط عليه، ثم إلى المُشترى، وإلى المريخ، وإلى غير ذلك، انتهى، لا يُمكِن غير هذا أبداً، هذا قانون الارتفاق. فالمعرفة تُمكِّنك من ماذا؟ من تعبيد المعروف، من تعبيد المعروف! وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ۩.
الآن يزرعون رأساً بشرية، هم بسبيل – في هذه السنة – زراعة الرأس، عجيب! كنا نقول يأخذون قلوب الأموات ويضعونها في صدور الأحياء، الله أكبر، عجيبة! قال لك لا، أصبحت من الماضي. والحقيقة أعجب من الخيال، الآن يأخذون رؤوس الأموات، ليضعوها على أبدان الأحياء. شيئ عجيب! فطبعاً يذهبون بأنفسهم، يظنون أنهم يُحييون ويميتون، يظنون ظن الضليل، ظن الغرير الضليل التائه الضائع المسكين، نعم! الذي ما أدرك الحدود وما ميَّز.
وهذا منشأ الشركية والوثنية يا إخواني، منشأ الشركية والوثنية! فالمعرفة طريق التحكم، فرانسيس بيكون Francis Bacon – أحد فلاسفة المنهج التجريبي، من أوائل هؤلاء – قال المعرفة قوة. ليست فقط نور، ليست فقط نور! المعرفة قوة، Power، تحكم. وهذا واضح، واضح! فالعلم والتقنيات الحديثة تُؤكِّد هذه المقولة، لكن انتبهوا، حين يضل الإنسان الطريق، يظن أيضاً أنه حين شارك الله في المعرفة، أنه شاركه في ماذا؟ في القدرة والربوبية. كما قلنا شركة أيضاً، هذا الوجود شركة بيننا وبينك، هذا لك وهذا لنا. بسبب ماذا؟ المعرفة. نحن نعرف! وسفر التكوين نبّه على هذه المسألة، قال لك وهذا ليس الأفضل. وهذا الكلام أيضاً القرآن لا يعترف به أبداً، القرآن يُنظِّر لعكس هذه الخُطة، ولكن يُحذِّر من ماذا؟ من العقابيل ومن سوء التوظيف. في التوراة قال لك لا، الله يُريد أن يمنع آدم وبنيه من ماذا؟ من تمييز الخير من الشر، من المعرفة. لكن آدم أكل وأصاب من الشجرة، فطرده الله من الجنة، وراقبه. وبعد ذلك بآيات قليلة في سفر التكوين وقال الرب فلعله بعد أن أصاب من شجرة المعرفة، أن يمد يده، فيُصيب من شجرة الحياة، فيخلد. ونحن لا نُريد هذا، لا نُريده يخلد! والآن هناك أبحاث الشباب وإطالة الأعمار، فلا يُمكِن هذا. الكلام هذا موجود وله أصل بلا شك، لكن في الحقيقة معرفة الرب – لا إله إلا هو – تُعطي غير هذا، في الحقيقة! لمَن عرفه، وليس لمَن توهم أنه عرفه، مَن عرف الرب الجليل – لا إله إلا هو -، وجد أن معرفته تسير في الطريق المُعاكِسة تماماً.
إذا عرفت الأشياء، إذا عرفت الكوائن، الحوادث، المخلوقات، المُبدَعات، فبلا شك معرفتك لها وإياها سبيلاً لتعبيدها لك، وتحكمك فيها. إذا عرفت الله كما ينبغي له، كانت معرفتك إياه – لا إله إلا هو -، سبيلاً لتعبيدك له. هنا تعبيد المعروف للعارف! معرفة الله تسير في الاتجاه المُعاكِس تماماً، تعبيد العارف للمعروف. كلما عرفته أزيد – كلما عرفته أزيد، لا إله إلا هو -، كلما عُبدت له أزيد، وكلما انتهيت إلى ما انتهى إليه النبي في النهاية – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن أسعدك الله، لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ ۩، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۩، وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَل بِي وَلَا بِكُمْ ۩. تنتهي إلى هذا! لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك، وإنك إن تكلني إلى نفسي، تكلني إلى ضعف وعورة، وفي رواية عوزة، وحاجة، وإني لا أثق إلا برحمتك.
قال يا فاطمة بنت محمد وعلَّمها أن تدعو ربها بهذا الدعاء – علَّم ابنته البتول الزهراء، عليها السلام -؛ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك ولا إلى أحد من خلقك. نعم! إذن هي معرفة تُعبِّد العارف للمعروف، عكس معرفة ماذا؟ المخلوفات. تُعبِّد المعروف للعارف. لا إله إلا الله! هذه هي المُعادَلة الصحيحة، لمَن فقه وفقَّهه الله – فقَّهنا الله وإياكم -، نعم!
الفهم الخطي لله – إخواني وأخواتي -، هذه مسألة خطيرة، وربما تكون من أدق وأعوص، لكن من أفيد، النقاط في خُطبة اليوم. إياكَ يا أخي، إياكِ يا أختي، أن تُعامِل أو تُعامِلي، الله – تبارك وتعالى -، بمنطق خطي، أي منطق حسابي رياضي، أي ميكانيكي آلي، أبداً! لماذا؟
الذي يُمكِن أن يُعامَل بهذا المنطق، هو عالم محدود، كيان محدود، معروف مبتدأه ومُنتهاه، ومعروف قانون تشغيله، أليس كذلك؟ هذا هو! لذلك في عالم الخلق نفسه وعينه، هذه الخُطة الخطية، تصدق على ماذا؟ تصدق على رُتب الموجودات، بحسب دنوها وتسافلها. أسفلها إطلاقاً المادة، المادة! الخاضعة للإنيرشا Inertia، للقصور الذاتي. مادة! تضع المادة مكانها، لا تتحرَّك، ولا تعمل أي شيئ. الساكن يبقى ساكناً، والمُحرّك يبقى مُتحرِّكاً، إلا إذا تدخل ماذا؟ عامل خارجي. وتعرفون قوانين نيوتن Newton الثلاثة للحركة. هذه القوانين تتعامل مع ماذا؟ مع المادة في أسفل آفاقها. الخاضعة للقصور الذاتي، والقصور هو ماذا؟ أحد القوانين الثلاثة. الإنيرشا Inertia! هو أحد القوانين الثلاثة، صحيح، هذه مُعامَلة خطية، على أن القرن العشرين صدعنا بشيئ لم يكن في حُسباننا، قال لك حتى هذه المادة لا تخضع لهذه الخطية، وهي أسفل رُتب الموجودات على الإطلاق! النبات أعلى من المادة الجامدة، والحيوان أعلى من النبات، والإنسان أعلى رُتب الحيوان، أليس كذلك؟ ومع ذلك هذه المادة الجامدة الصماء العمياء الطخياء لا تخضع لهذه الخطية. وأين هذا؟ في فيزياء الكم، ميكانيكا الكم. لا تخضع! هناك الــ Nonlocality principle، أي مبدأ عدم المحلية، هناك الــ Entanglement principle، أي مبدأ عدم التعالق، هناك الــ Superposition principle، أي مبدأ التراكب. وادخل في هذا إلى آخر القضية، فهذا الشيئ، حطَّم ماذا؟ المنطق السليم، الــ Common sense، والمنطق الأرسطي. حتى المادة! فمعناها إذن أن من الصعب أن يخضع النبات أيضاً إلى هذه الخطية، ولكنه في الظاهر إلى الآن يخضع. وطبعاً هذا أفضى بنا إلى فيزياء الــ Chaos – الــ Chaos بالألماني -، أي الفوضى.
هذه الفوضوية العرفان الإسلامي حدس بها، بل عاشها وحقَّقها، قبل أكثر من ألف سنة وألف ومائتي سنة وألف وثلاثمائة سنة، من يوم الإسلام الأول! ما رأيكم؟ مع توحيد القرآن. ورأينا الشاعر العارف بالله، يقول يا رب لو ذرة زُحزحت من مكانها، لاختلف نظام الوجود كله. أف! قبل أن يحدس أحد بشيئ اسمه ماذا؟ فيزياء الــ Chaos أو فيزياء الفوضى. هذا الشاعر العارف هو حافظ الشيرازي، قال هذا، ذرة – قال – تجعل الوجود يختلف. والآن تجد علماء يتحدَّثون بلُغته، هذه ترجمتها العامية، كل شيئ مُرتبِط بكل شيئ. ولتحريك ذرة في هذا النطاق أو في هذه الورقة، تتغيَّر أشياء في مُجمَل الكون كله. عجيب!
الآن مَن الذي يُمكِنه إجراء هذه الحسابات كلها؟ وطبعاً في كل لحظة لا تتحرَّك فقط ذرة، تتحرَّك ملايير ملايير الكيانات، أي الــ Entities، ملايير! نجوم وكواكب وبشر وسيارات وأشياء وحيوانات وكواكب في مداراتها، وكله يتحرَّك، وكل شيئ يُعاد حسابه من جديد. الله أكبر! الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ۩، قال مُجاهِد بن جبر جماعة الحساب. أي مجموع Plural، جماعة الحساب! الله يعرف أن هناك حسابات كثيرة، من أجل ضبط حركة الشمس والقمر هناك أكثر من حساب، حسابات كثيرة. فكيف حين تتحرَّك ذرة واحدة، يتحرَّك كل شيئ ويتبدَّل كل شيئ؟ مَن العالم بهذه الحسابات كلها؟ مَن خلقها – لا إله إلا هو -.
ثانياً – والعلم مسألة أولى، وهذه المسألة الثانية – مَن القادر على أن يضبط الوضع من جديد؟ أي الوضع المُتجدِّد، وهو ليس مُتجدِّداً في كسر ثانية، وإنما فيما لا يعلمه إلا الله، وليس في النانو ثانية Nanosecond أو في الفيمتو ثانية Femtosecond، في الكرونون ثانية Chrononsecond ربما، فيما لا يعلمه إلا الله. ولذلك هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ۩، خلّاقية الله لا تتوقَّف.
وعلى فكرة يا إخواني، لابد وأن تنتبهوا إلى خطر المعرفة وذهاب الإنسان بنفسه حين يعرف ويظن أنه عرف وقرأ الكثير في اللاهوت أو علم العقيدة وأنه قرأ الكثير في الفلسفة وفي العلم، للأسف القليل من هذه المعرفة مع عدم البصيرة لا يفيد. نسأل الله أن يُعطينا بصيرة، انتبهوا! العلاقة مع الله، الإيمان بالله – تبارك وتعالى -، عرفان الله، ليست مسألة جدل عقلي، ولا جُهد ذهني. مسألة ماذا؟ بصيرة حية يقظة بكر عذراء، لم تتلوَّث لا بفلسفة ولا بغير فلسفة، ولا حتى بالذنوب. وإليه الإشارة بأُمية النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، التي أوجبت له قبل تنبئته والإيحاء إليه حالة من الغفلة، النبي كان غافلاً، غارقاً في غفلاته، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ۩، مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۩، وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ۩، لم يكن لا فيلسوفاً ولا كاتباً ولا مُفكِّراً ولا مُنظِّراً ولا مُتأمِّلاً، كان لا شيئ – الله يقول له -، لا شيئ وأُمي، وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ۩ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۩، كان أُمياً.
هذه الأُمية عنوان ماذا؟ عنوان سلبية القابل، لعطاء المُعطي الفاعل – لا إله إلا هو -. النبي بكر، لديه بصيرة عذراء بكر طهور، تماماً كمريم – عليها السلام – البكر العذراء البتول، استقبل رحمها ماذا؟ سر الله وكلمة الله، مُحيي الموتى، عيسى – عليه السلام -. أرأيتم؟ محمد الشيئ نفسه، ساحة بكر عذراء طهور ربانية، استقبلت وحي الله – تبارك وتعالى -، فتفجرت ينابيع العرفان وينابيع العلوم. ونحن هنا – والله الذي لا إله إلا هو – قطرة في هذا المُحيط، وكل هذا الكلام وكل هذا التنظير وكل هذه الأشياء قطرة في هذا المُحيط، بل مُحيطات تفجرت، باستقبال الصدر الشريف للوحي الرباني العلوي الطهور، لا إله إلا الله! أُمية، أُمي مُتلقِّن، ليس مُتفلسِفاً مُقترِحاً مُشارِكاً لله في الخُطة أبداً أبداً. هذه القضية بكل بساطة، فهذه القضية خطيرة.
بعض الناس الذين لا يُدرِكون هذا الجوهر الثمين جداً، يذهبون بأنفسهم. سأجتزئ بقصة واحدة، والموضوع يستحق، وصبراً إخواني، وكله بأجره.
الأستاذ عباس العقاد، مَن يُنكِر مثابته وحيثيته في العلم، في دنيا العلم والفكر والثقافة والأدب والفلسفة؟ قارئ السبعين ألف كتاب – رحمة الله عليه -. قرأ سبعين ألف كتاب! مكتبة حية. جامعات كُبرى في العالم العربي على الأقل لا يُوجَد فيها سبعون ألف كتاب، يُوجَد فيها أربعون أو خمسون ألفاً. هذا قرأ سبعين ألف كتاب ووحده – رحمة الله عليه -.
لكن للأسف، للأسف غاب عنه مثل هذه المفاهيم وهي جوهر الإيمان وحقيقة العرفان. غابت عنه للأسف بشكل مُحزِن، نحزن ونرثي له، غفر الله لنا وله ورحمه ورحمنا من بعده.
يدخل عليه الذي سيصير أحد مُرتادي صالونه الجُمعي وتَلميذاً له، الفيلسوف الكبير زكي نجيب محمود، ولكن كان شاباً في بداية مشواره الفلسفي. يقرأ له في البلاغ مقالة، يقول فيها الكمال الإنساني ليس له تحقق وجودي إلا في الأذهان. الإنسان لن يبلغ الكمال! وطبعاً هذه تُصيب في مقتل ماذا؟ غرور الشاب. الشباب عنده اعتقاد في الكمالات وما بعد الكمالات أيضاً، أليس كذلك؟ وأنت ترى اليوم أكثر ما يستشري الإلحاد في الشباب! إنكار وجود الله، مُقارَعة الله، التجديف في حق الله! شباب صغار، لا قرأوا سبعين ألف كتاب ولا سبعة آلاف كتاب، وربما ولا ألف كتاب بصراحة.
فقال فدخلت عليه في مكتبه بجريدة البلاغ. أي التي كتب فيها المقالة. والمُهِم، واجهته بالسؤال، يا أستاذ أنت قلت كذا وكذا وكذا! أي أنت تُيئسنا من الكمال ومن بلوغ الكمال؟ والعقاد كان فيه نرفزة وكان غضوباً، وهذا شأن الأذكياء جداً على فكرة، أي صبرهم قليل بعض الشيئ، صدرهم ضيق. فقال له بغضب يا مولانا ماذا تُريد؟ تُريد في مسار الزمان أن تبلغ الكمال يا إنسان، والله نفسه لم يبلغه إلا في الأبد؟ قال فضربني برصاصة، أزاغت بصري من هول ما سمعت.
ما التجديف هذا؟ Blasphemy هذا! تجديف رهيب في حق الله. أتقول لي الله لم يبلغ الكمال ولا يبلغه إلا في الأبد؟ قال فقلت له كيف يا مولانا؟ فازداد غضباً وحدة، قال له نعم، لو بلغ الله الكمال في الأزل، لِمَ خلق وخلق إذن؟ لما خلق شيئاً، ولما خلقنا، ولما خلق السماوات والأرضين، ولبقيَ مشغولاً في كماله. ولكنه يعلم – لا إله إلا هو – أنه لن يبلغ الكمال إلا في آخر الأبد. ثم قال في آخر الشوط، لا في أوله. ليس في أول الأزل، بل في آخر الأبد، حين يفرغ من هذه القصة أو الرواية الإلهية الكبيرة، قصة الخلائق والسماوات والأرضين والدنيا والقيامة.
للأسف قال هذا، وهذا عجيب، عجيب! عجيب أن الأستاذ الكبير العملاق يُخطئ مثل هذا الخطأ ويعثر مثل هذه العثرة، ولكن أي الرجال المُهذّب! أي الرجال المُهذّب! مكتوب علينا النقص أيضاً. لم يعلم فقط العقاد، أو هو بالأحرى يعلم، ولكنه لم يفطن هنا، إلى كيف أن الله – لا إله إلا هو، الله الذي ما زلنا نتحدَّث عنه – بعلمه يعلم حساب تغيير أوضاع الموجودات كلها، في الكون على الأقل الذي ندرسه، بقطر مائة وثمانين مليار سنة ضوئية، بتحريك ذرة واحدة، أو جُسيم – Particle – أو جُسيم دون ذري – Subatomic particle – واحد، كل شيئ لابد أن يتغيَّر حاله ويُعاد حسابه، وله القدرة وكامل التصرف – لا إله إلا هو – أن يفعل. لا يُمكِن أن يكون بهذا الوصف إلا الرب وحده – لا إله إلا هو -، العالم بكل شيئ، المالك لكل شيئ، المُتصرِّف في كل شيئ، على جهة الفرادة، وحده لا شريك له، وحده لا شريك له! لا وزير، لا مُعين، ولا مُشير. ولا يُمكِن أن يكون كذلك عقلاً، إلا مَن هو خارج الزمان وخارج المكان وخارج الأسباب. هو وحده – لا إله إلا هو -، خالق الزمان وخالق المكان وخالق الأسباب وخالق الأشياء بأسبابها طبعاً، وحده!
ولذلك أين يا أستاذنا العقاد – رحمة الله عليك – أول الأزل؟ أين أول الأزل؟ وهل للأزل أول؟ وأين آخر الأبد؟ وهل للأبد آخر؟ وكيف تجعل الله في كماله محكوماً بآخر الأبد؟ وكأن الله مُتزمّن، يجري عليه الزمن، وهو ليس كذلك. هو الذي قال هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩. لا إله إلا هو!
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يدلنا عليه دلالة الصادقين، وأن يُعرِّفنا به تعريف العارفين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
إخواني وأخواتي:
لن أفي بوعدي للأسف، فما زلنا في النصف الأول من نصفي الخُطبة. النصف الثاني بدرت منه شذرات بسيطة، نذر ميسور، في تضاعيف الكلام الأول. فنكتفي به في هذا المقام، لئلا أُطيل عليكم، لكن أُريد أن أُعطيكم خُلاصة وحوصلة مُهِمة لآخر نُقطة وقفنا عندها، وهي مسألة المُحاذَرة ثم المُحاذَرة ثم المُحاذَرة، من التعاطي مع الله بالطريقة الخطية الحسابية. انتبهوا واحذروا!
ألم تروا يا إخواني، ألم تأنسوا من أنفسكم، أنكم تُحسِنون وتجتهدون فيما تعبدون وفيما تفعلون، ثم تأتيكم أحياناً مُنغصات، تأتيكم تنقصات، في المال والنفس والولد؟ أليس كذلك؟ فتعجبون! ثم تُؤنسون من أنفسكم شيئاً من تقصير وشيئاً من فتور أو فترة كما قال النبي – هناك فتور وضعف عن العبادة والعمل الصالح -، وشيئاً من إساءة وتجاوز، فتأتيكم النعم والعطايا والمواهب الجزيلة والمنح الكريمة؟ عجيب!
المنفي هنا، منفي بنص القرآن، في حيثيات منفية، حيثية الإحسان وحيثية العمل وحيثية الإتقان وحيثية العبادة وحيثية الاجتهاد، منفي أن تكون هنا حيثية للكرامة، كل شيئ يأتي بتوقع، لن يأتي، أي مع الله، انتبه! لماذا؟ لأن له كامل التصرف – لا إله إلا هو -، ولا يُعامِلنا خطياً، وأيضاً لأن الله واحد أحد، لا يقبل الشركة. لا يقبل أن تُشرِك معه تعبدك له، بماذا؟ بربوبيته، وأنه المُعطي المانع المُتصرِّف، يختار ما كان لنا الخيرة. ليس لنا الخيرة! تُشرِك معه ماذا؟ عرفانك وعبادتك وركعاتك والحج والعُمرة وصدقاتك. فيقول لك لا، غلطت، لم تأت من الطريق، ارجع. نعم! فتُحرَم وأنت لا تدري من أين حرمانك. حرمانك من حيث ظننت أنك أحسنت.
ولذلك العارفون بالله يا إخواني، الذين عرفوا هذه الحقيقة وتحققوها وبها عاشوا وبها نموا ونضجوا روحياً، لا ينقص رجاؤهم في الله إذا أساءوا. الله أكبر، شيئ عجيب يا أخي! هذا في أول حكمة من حكم سيدنا ابن عطاء الله السكندري، وأدعوكم دائماً إلى قراءة هذه الحكم وقراءة شروحها، آيات من آيات الله العرفانية، والله! أجراها الله على لسان هذا الرجل الصالح، ووافقه عليها المُوافِقون والمُخالِفون، حتى شيخ الإسلام ابن تيمية أعلى من قدره، وشهد فيه شهادة عالية جداً، على موقفه المعروف من الصوفية والمُتصوِّفة.
ابن عطاء الله السكندري أول حكمة افتتح بها الحكم: من علامة الاعتماد على العمل، نُقصان الرجاء عند وجود الزلل. الله! مُشرِك، أنت أشركت عملك مع الله. تقول عندي عبادة وعندي كذا ووضعي مُمتاز ومكثت على ذلك ستة أشهر. وبعد ذلك اخطأت ووقعت في ذنب، أياً كان هذا الذنب! فينقص رجائي في الله، وأظن أن الله – تبارك وتعالى – سيتقلص ظل نعمه علىّ. قال لك هذا علامة على أنك ماذا؟ أشركت مع الله عملك، وأن اعتمادك ليس على فضل الله، وليس على كرم الله، وليس على… ماذا؟ طلاقة العطاء الإلهي ووساعة العطاء، وإنما على ماذا؟ على عملك. أنت خطي! يقول لك بلُغتنا هذه أنت خطي. والخطية لا تشتغل مع الله، غلط! الخطية لا تشتغل مع الله.
ولذلك قال لك وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ ۩، عليك أن تتقي الله، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۩، ليست خطية – قال لك – هذه. مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۩، الحيثية المنفية حيثية ماذا؟ حيثية الاجتهاد، العمل، الذكر، البكاء، الخضوع، الصدقة. قال لك لا، لن أُعطيك. وبعد ذلك أنت تُسيء وينقص عملك واجتهادك وتفتر، فيأتيك العطاء، لكي يُعلِّمك أن العطاء من الفضل، من عين الجود، بتمام الاختيار وكماله، لا بإرهاقه شرط من الشروط. الله لا يُرهِقه شيئ ولا يُلزِمه شيئ، كما قال النبي فإن لا مُستكرِه له – لا إله إلا هو -.
نسأل الله أن يدلنا عليه، وأن يُعرِّفنا به، وأن يُحقِّقنا بحقائق العرفان العالية ولطائف الإيمان الصادقة.
اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً. اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر. اهدِنا واهدِ بنا.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات. ولا تُؤاخذنا بما فعل السُفهاء منا. اللهم أصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم أكفنا ما أهمنا من أمر دنيانا وأمر أُخرانا، واختم بالسعادة آجالنا وبالباقيات الصالحات أعمالنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، إلهنا ومولانا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
_________
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا 23/8/2019
أضف تعليق