إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ۩ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ ۩ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ ۩ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ۩ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ ۩ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۩، قال وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۩، يُمثِّلها الله سُبحانه وتعالى، يضرب لها الأمثال، لأنها كما تعلمون وتعلمن مما لا يُنال بخاطر، ولا يُوصَل إليه بتوهم، لأنها فوق الخطور وأخطر من الوهم، ولذلك قال – سُبحانه – مَثَلُ الْجَنَّةِ ۩، فهي أسماء تُعلَم وتُعقَل على أنها مُشترَكة في المعنى، أما المصاديق والمُسميات والمدلولات فلا يعلم حقيقتها ولا خطرها ولا شرفها إلا الذي أنشأها وأعدها لعباده المُتقين، جعلني الله وإياكم منهم بفضله ومنّه والمُسلِمين والمُسلِمات أجمعين، اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، والأخوات الفاضلات:
وقد اختلف السادة العلماء في عدد الجنان، كم هن؟ أو كم هي؟ فقال فريق إنها سبع جنان، دار الخلد، دار المأوى، دار السلام، جنة عدن، جنة النعيم، جنة الفردوس، وجنة المأوى، وبعضهم قال بل هي أربع، لسن بسبع، إنما هن أربع جنان أو أربع جنات، وهو الأرجح، وهو الذي رجَّحه الإمام أبو عبد الله الحليمي، شارح شُعب الإيمان، الذي نسج على منواله أبو بكر البيهقي، رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما، وذلكم تصديقاً لقوله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – المُخرَّج في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وكل ما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وكل ما فيهما، إذن هن أربع، وليس بين القوم – جعلني الله وإياكم من هؤلاء القوم – وبين أن ينظروا إلى وجه ربهم – لا إله إلا هو – إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن.
والنظر إليه مما أطبق عليه أهل السُنة والجماعة، وهو مروي عن بضعة وعشرين صحابياً، وإن أنكره إخواننا المُعتزِلة والشيعة بفرقهم المُختلِفة والخوارج، لكننا نُصدِّق به، وليس ثمة ما يمنع منه، وقد تواترت هاته الأحاديث به، هذه أحاديث مُتواتِرة معنوياً، أما القيل والقال والكلام الذي يُمكِن أن يُوصَف بأنه شنشنة نعرفها من أخزم بأن هذا يقود إلى التجسيم ويقود إلى سواه فهذا كلام عاطل وباطل، عاطل عن أدلة أهل التحقيق والرسوخ، وباطل عند العارفين، وذلكم أن الله – تبارك وتعالى – ذكر في كتابه نحو قوله يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۩، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۩، الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ۩، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ ۩، فإذا أردنا أن نُشبِّه بالظواهر فلنُشبِّه بظواهر كتاب الله إذن ولنشغب عليها، لا تشغيب، نحن نُسلِّم كل ما أولئكم مع قطعنا ويقيننا في الوقت ذاته وعينه بأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ۩، القول في اليد والقول في الإتيان والقول في المجيء والقول في الاستواء ليكن مثله القول في الرؤية، حقيقة ذلك غير معلومة إلا له، لا إله إلا هو! هذا نقل، نُؤمِن بالنقل، ونبخع له، ونخضع له، ونقول بمُقتضاه تسليماً وإيماناً ويقيناً، زادنا الله وإياكم تسليماً وإيماناً ويقيناً، اللهم آمين.
إذن هي أربع جنان، وقد قال – سُبحانه وتعالى من قائل – في كتابه الأغر الأكرم وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ۩، إذن هما جنتان، ثم عاد فقال بُعيد قليل وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ۩، إذن جنتان وجنتان دونهما، إذن هما جنتان وجنتان أُخريان دونهما، فصار المجموع أربع جنان أو أربع جنات، إذن هن أربع، هذا هو الأرجح، وهذا هو الصحيح، والذي تشهد له ظواهر النصوص من كتاب وسُنة.
فبنا أن نتحدَّث عن هاته الجنان الأربع، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ۩، ثم قال وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ۩، أي الجنتين أفضل وأشرف وأعلى؟ هذا يتوقَّف على جُملة أمور، في رأسها تفسير أو تأويل قوله وَمِن دُونِهِمَا ۩، وقد ذهب السادة العلماء والمُفسِّرون في تفسيرها مذهبين مُختلِفين، مذهب مَن يقول وَمِن دُونِهِمَا ۩ أي فوقهما في الجنة، إذن فالجنتان اللتان هما دون الجنتين الأوليين أشرف وأعلى، لماذا؟ وذلكم أنهما دونهما بمعنى أدنى إلى العرش منهما، فهذا عرش الرحمن، أدنى إليه الجنتان الأُخريان، في آخر سورة الرحمن، إذن فصار معنى وَمِن دُونِهِمَا ۩ أي أقرب منهما إلى العرش، فهما فوقهما، وهذا بعيد.
أنا أظن أنه ناشئ عن الالتباس بين دون وبين أدنى، المادة واحدة لكن المعنى يختلف بلا شك، والعرب إذا قالت فلان دون فلان حتماً – بلا جمجمة – تعني أنه أسفل منه، أقل منه رُتبة، لا يفهم عربي قح له ذائقته العربية من قول قائل فلان دون فلان أو هذه المرتبة دون هذه أنها أعلى منها، هذا ليس المعنى، لكن لو قال أدنى منه وذكر المُتعلَّق – أدنى منه إلى كذا – لكان بمعنى أقرب، فلو قال – عز من قائل – وأدنى منهما إلى عرش الرحمن أو إلى العرش جنتان لقلنا بهذا، لكن الله لم يقل هذا، قال وَمِن دُونِهِمَا ۩، هذه واحدة.
هذا وجه تتلوه أوجه تسعة، تُؤكِّد أن الجنتين الأوليين أشرف وأخطر، أخطر بمعنى أعظم قدراً، أعلى منزلةً، مذكورة هذه في كتاب الله، أول هذه الوجوه، فصار المجموع عشرة أوجه إذن، في تفضيل الجنتين الأوليين على الجنتين الأُخريين، الوجه المُتعلَّق بدون، الوجه الآخر أنه – سُبحانه وتعالى – قال وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ۩، الذين يخافون مقام الله لهم أربع جنان، جنتان ودونهما جنتان أُخريان، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ۩، هذا معنى الآيات، حسنٌ!
ثم بعد ذلك وجدنا أن الذين يخافون مقام ربهم – لا إله إلا هو- ينقسمون إلى فريقين، إلى مُعسكَرين، مُعسكَر المُقرَّبين ومُعسكَر أصحاب اليمين، وأي الفريقين أعلى كعباً وأشرف منزلةً؟ المُقرَّبون بلا شك، المُقرَّبون أعلى وأشرف وأسمق وأدنى إلى رحمة الله وحُسناه ورضوانه وزيادته، ولذلك بدأ بجزائهم، فقال وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ۩، وهكذا! فبدأ بجنتي المُقرَّبين، إذن هما أشرف بلا شك.
هذا هو الوجه الثاني، في معناه يتضافر معه ويتجارى إلى تقرير الغاية ذاتها قوله في آخر سياق الأوليين هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ۩، فدل على أن الله – تبارك وتعالى – أعد هاتين الجنتين جزاءً للمُحسِنين، والإحسان هو مقام المُقرَّبين، الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا كذلك فلا أقل من علمهم ويقينهم ورسوخهم ونفاذهم بصيرةً في حقيقة أنه يراهم، لا إله إلا هو! وجزاء هؤلاء – وهم الأعلى كعباً – خير الجزاء، فلابد أن تكون الجنتان الأوليان خيراً من الجنتين اللتين هما دونهما، فهذه ثلاثة أوجه.
رابعها قوله – تبارك وتعالى – ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ۩، جمع فنن وهو الغصن العالي، ولم يذكر مثل هذا في الجنتين الأُخريين، ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩، ثم قال فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ۩، وذكر في الأُخريين فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ۩، النضّاختان هما الفوّارتان، والجاريتان – اللتان تجريان – أفضل منهما، لأن الجارية تفور وتسرح، تفور وتنساح، أما الفوّارة فتفور وتظل مكانها، فاللتان تجريان خيرٌ من اللتين هما نضّاختان، أي تنضخان، خيرٌ من اللتين تنضخان، هذا هو الوجه الرابع.
الوجه الخامس أنه – سُبحانه وتعالى – قال في الأوليين فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ۩، وقال في الأُخريين فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ۩، فذكر أشياء بأعيانها، أما في الأوليين فقال فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ۩، وبلا شك أن هذه الصفة أفضل وهذا النعت أشرف وأشهى وألذ للسامع، فضلاً عن المُتناوِل الخارف، الخارف المُتناوِل الذي يختطف هذه الأثمار ويخترفها، بلا شك هذا أشهى وألذ وأسعد له، وهو بها أسر.
ثم اختلفوا في معنى قوله – عز من قائل – فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ۩، قيل زَوْجَانِ ۩ أي رطب ويابس، فاكهة رطبة وأُخرى يابسة، وقيل زَوْجَانِ ۩ أي شكل معروف وشكل آخر من جنسه غير معروف، هذا تعرفه وهذا لا تعرفه، وقيل أحمر وأبيض، أبيض وأسود، وهكذا! وتنوع واختلاف ومُجاذَبة هذه الأثمار للألوان على اختلافها أشهى للعين أيضاً، هذا أشهى للعين، وربما في الأُكل، أي وربما أشهى في الأُكل، والعين تأكل قبل الفم أحياناً – إن جاز التعبير -، فهذا هو الوجه الخامس.
بعد ذلك قوله – سُبحانه وتعالى – مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ۩، قال بَطَائِنُهَا ۩، قال عبد الله بن مسعود الاستبرق هو خالص الحرير، خالص الحرير! خشنه قيل أيضاً، بَطَائِنُهَا ۩، قال عبد الله بن مسعود هذا حال البطائن، فكيف حال الظهائر؟ لأنه مما لا يُمكِن حتى ربما أن يُمثَّل، الله ضرب عنه الذكر صفحاً، لأنه فوق حتى التمثيل الذي يتناوله الإدراك البشري، قال سأضرب مثلاً فقط للبطائن، أما الظهائر فشيئ لا يُوصَف، فوق الوصف! قال إذا كان هذا الحال البطائن، فكيف يكون حال الظهائر؟ إذا هذه البطانة من استبرق فكيف بالظهار؟ وفي الإزاء أو بالإزاء قال – سُبحانه وتعالى – مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ۩، فُسِّر هذا العبقري الحسان بالمحابس، وفُسِّر بالبُسط، وفُسِّر بالفُرش، وفُسِّر بالفُرش عليها المحابس، أو بالمحابس على الفُرش، فهي أربعة أقوال مشهورة في تفسير العبقري الحسان، وبلا شك أن حال الأوليين أشرف بهذا الاعتبار من حال الأُخريين.
قال – سُبحانه من قائل – أيضاً وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ۩، ولم يذكر مثل هذا في الجنتين الأُخريين، هذا عدل الرحمن، انتبهوا! طبعاً الكل – إن شاء الله – مِمَن سبقت له السعادة والتوفيق من رب العزة – اللهم اجعلنا منهم بفضلك ومنّك – سيدخل الجنة، لكن هناك تفاوت كبير، انتبهوا! القرآن يقول هذا، هاتان جنتان، وتلكما أيضاً جنتان، لكن أين هاتان من هاتين؟ تختلفان – القرآن يُعطيكم مثل هذه الإشارات – بحسب العمل، ولذلك الأمر يحتاج إلى العمل ويستأهل، يستحق! حقيق بالعمل، لابد أن نعمل، لكن بالراحة والنوم والأكل والشرب والدعة والأماني لا والله، لابد من العمل، لابد من العمل الحقيقي، إذا آمنا بهذا وأيقننا فلابد أن نعمل له حقيقةً.
أشار مرة الإمام الجليل ابن قدامة المقدسي – روَّح الله روحه وقدَّس الله سره الكريم – إلى هذا، وتحدَّث – رحمة الله تعالى عليه – عن كل دقيقة أو كل ساعة، والساعة في لُغة العرب يُقصَد بها أحياناً اللحظة، ويُقصَد بها اللحظات القصار، كما نقول عشر دقائق أو رُبع ساعة، وأحياناً اللحظة الواحدة، يُقال ساعة، أي كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ۩، لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ۩، ما هي الساعة؟ هل هي ستون دقيقة أو عشر دقائق؟ لا! الساعة هي اللحظة، قال المُفسِّرون لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ۩ أي لحظة، الساعة هنا يُراد بها اللحظة، كل لحظة أو كل ساعة من لحاظ أو من ساعات الدنيا – من لحظات الدنيا أو من ثواني الدنيا – تعمل فيها عملاً صالحاً وتُملأ بعمل صالح يُقابِلها ماذا؟ يُقابِلها نعيم ودرجات وتنعيم في مُلك مُخلَّد مُؤبَّد، لا ينقضي، إذن كل شيئ تعمله أنت هنا ولو تسبيحة – تقول سُبحان الله – له جزاء مُؤبَّد هناك، فلذلك لابد من الإكثار، لابد من الجد، لابد من الاجتهاد، ولابد من الصدق، نسأل الله الصدق في القول والنية والأعمال، فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۩، أن نصدق حتى في العمل، أن نكون جادين وصادقين في العمل أيضاً، وليس في مُجرَّد التمني، ونحن نتمنى – إن شاء الله – على الله رحمته ومغفرته وجزيل مواهبه وواسع عطاياه وسابغ نعمه، لا إله إلا هو! ليس لنا إلا هو سُبحانه وتعالى.
قال وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ۩، ولم يذكر أيضاً هذا النعت في الأُخريين، وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ۩، يأكل صاحب هاتين الجنتين على أي حال كان وشاء، مُضطجِعاً أو مُستلقياً أو على جنب أو واقفاً أو ربما طائراً في الهواء، دائماً! وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ۩، في مُتناوَله باستمرار، لا يحتاج أن يتخذ وضعاً آخر لكي يناله أو يخترفه، لا يحتاج، الله أكبر! قال وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ۩، دائماً! ثمار نضيجة في مُتناوَل المُتناوِل، هي في مُتناوَل المُتناوِل، ولم يذكر هذا النعت في الأُخريين، قال وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ۩، ربما كان هذا هو الوجه السابع.
الوجه الثامن قوله – سُبحانه وتعالى – في صفة الحور العين فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ۩، وما معنى قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ۩؟ انظر إلى هذا الوصف الإلهي العجيب، قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ۩ يقتضي معنيين، قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ۩ يقتضي معنيين لأن الإضافة لأدنى مُناسَبة، نقول فلان الآن تكلَّم – مثلاً نقول – فأرهف السمع وأيقظ العقل، مثلاً! أو تكلَّم مُوقِظ العقل ومُرهِف السمع، يجوز أن يُضاف هذا إليه باعتبار، ويُضاف إلى مُستمِعيه باعتبار أيضاً، أن كلامه يقتضي منهم كذا وكذا، الإضافة لأدنى مُلابَسة، ولما كانت الإضافة بهذه المثابة صح في التفسير أن معنى قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ۩ اللائي قصرن طرفهن أو نظرهن على أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم، لا تنظر هذه الحوراء العيناء إلى غير زوجها أبداً، هكذا هي! مخلوقة بهذه المثابة وبهذه الدرجة من العفة وقصر الطرف، ولما كانت في النهاية والغاية والأمد الأقصى من الحُسن والجمال فإنها أيضاً قصرت طرف بعلها عليها، فلا ينظر إلى غيرها، تكفيه وزيادة، تكفيه وزيادة! هو مُعلَّق بها ومُتيَّم بها لجمالها، فهذا معنى قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ۩، اللائي قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم، واللائي قصرن طرف أزواجهن عليهن، لبلوغهن من الحُسن والبهاء المكانة الأسنى والمقام الأسمى.
أما في الأُخريين اللاتين هما دون الأوليين فقال – جل من قائل – حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ۩، وبلا شك هذا دقيق، هذا قرآن! البشر لا يُمكِن أن يُعبِّر هذه التعبيرات ولا يخطر على باله، نحن إنما فهمنا هذا بعد أن سمعنا هذا التعبير وبدأنا نفتن – نقول بالعامية نتفنن، لكن الأفصح نفتن -، بدأنا نفتن في اشتقاق واستنباط المعاني، بعد أن حصل البيان من الذي هو الأصدق والأقوم قيلاً وحديثاً، لا إله إلا هو! قال حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ۩، نعم لا تنظر إلى غير زوجها، لماذا؟ لأنها مقصورة في خيمتها، وبلا شك أن حال مَن انقصر طرفها على زوجها بذاته أشرف وأدخل في معنى الوفاء والعفة من التي قُصِرت بوسيلة، وهي الكون في الخيام، انتبهوا! هناك قال قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ۩، هنا قال مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ۩، كونها في خيمتها لا تُغادِرها ولا تريم فهذا يجعلها قاصرة الطرف على زوجها، لكن بوسيلة، وهي الكون في الخيمة، الأولى أعلى مقاماً، عجيب! إشارة عجيبة جداً، لكن في الاثنتين قال لَمْ يَطْمِثْهُنَّ ۩، من الافتضاض، لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ۩.
ثم قال – سُبحانه وتعالى – وهذا هو الوجه العاشر ربما كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ۩، نعت بياضهن وملاستهن ونعومتهن بأن شبَّههن ومثَّلهن بالياقوت والمرجان، في الصفاء والملاسة والبيضاء، ولم يذكر هذا النعت في حور الجنتين الأُخريين، لم يقل هذا، لم يذكر هذا! قال فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ۩، ولم يذكر كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ۩، أما هنا فذكر شبههن بالياقون والمرجان بياضاً وصفاءً ونعومةً، اللهم اجعلنا من أهل ذلك بفضلك ومنّك.
فبلا شك – والله تبارك وتعالى وحده عنده العلم والحُكم – أن الجنتين الأوليين أعلى وأشرف من الجنتين الأُخريين اللتين هما دونهما، ويكفي قوله وَمِن دُونِهِمَا ۩، يكفي في ظاهر العربية لتفضيل الأوليين، والله – تبارك وتعالى – أعلم.
نأتي الآن إلى درجات الجنة، إذن هما أربع جنان، هناك جنتان للمُقرَّبين، اللهم اجعلنا منهم، فالمُقرَّبون قليل، اللهم اجعلنا من هذا القليل، المُقرَّبون قليل، قال – سُبحانه وتعالى – ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ ۩ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ ۩، طبعاً! المُقرَّبون في الآخرين – في مثل هذه الأعصار وما إلى ذلك، وما سبق حتى إلى وقت لا يعلمه إلا الله – قليل، أما في الأولين – من أصحاب رسول الله وتبعه وتبع أتباعهم – فكانوا كثيرين بفضل الله، لقوله خير القرون قرني – أي جيلي، ليس مائة سنة، وإنما الجيل، القرن هو الجيل من الناس، يقولون إِذَا مَا مَضَى الْقَرْنُ الَّذِي أَنْتَ مِنْهُمْ ★ وَخُلِّفْتَ فِي قَرْنٍ فَأَنْتَ غَرِيبُ، أي في جيل آخر من الناس، وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ ۩، أي من الأجيال، ليس من مئات السنين طبعاً، وإنما من أجيال الناس، لا يُقال أهلك السنين، المقصود البشر والأجيال، وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ ۩، من قرن أي من جيل، مِنَ الْقُرُونِ ۩ أي من الأجيال – ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، والمُقرَّبون هم السابقون، اللهم اجعلنا من السابقين، المُقرَّبون هم السابقون إلى كل خير ونعمة، لكن قد يُطرَح هنا أو ينطرح بذاته سؤال في هذا المقام، إذا كانت أربع جنان أو جنات فهل يشترك فيهما أربعتهما كل أهل الجنة أم لكل مُؤمِن ومُؤمِنة جنتان بحياله – إن كان من المُقرَّبين فله جنتان بالنعت الأول، إن كان من أصحاب اليمين فله جنتان على النعت الثاني -؟ الأصح القول الثاني، لسن أربع جنات تشترك الأمة فيها، لا! بل لكل جنتان بإذن الله تبارك وتعالى، ولكن هنا الجنتان يصير معناهما ماذا؟ البساتين، والمجموع كله جنة، تِلْكَ الْجَنَّةُ ۩، أو جنات أيضاً، لكن فيها بساتين، لذلك ورد عنه هذا النقل، لهذا يترجَّح المعنى نقلاً، قال – صلى الله عليه وسلم – في معنى جَنَّتَانِ ۩ إنهما بستانان لكل مُؤمِن، فتفسيره – عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه وأتباعه – الجنتين بالبُستانين دل على أن لكل جنتين، دل على أن لكل جنتين، أي أن جنتين لكل، ومن هنا أتى معنى النص.
على كلٍ بعد ذلك دخلنا – إن شاء الله تبارك وتعالى – بفضله ومنّه هاته الجنات، هناك تفاوت، في الجنة درجات، في جنة المُقرَّبين أو في جنتي المُقرَّبين درجات، في جنتي أصحاب اليمين درجات، قال – عز من قائل – وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۩، دَرَجَاتٌ ۩ أين؟ في الجنة، دَرَجَاتٌ ۩! نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۩، مُمكِن في الدنيا، بالعلم، بالنبوة، بالاصطفاء، ومُمكِن أيضاً في الآخرة، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۩، وترك هاته الدرجات مُطلَقةً من القيد، لم يُقيِّدها بكونها في الدنيا – مثلاً – أو بكونها في العلم أو بكرامة الإصطفاء، إلى آخره! إنما قال دَرَجَاتٍ ۩، فعمت بإذن الله تبارك وتعالى، الرفعة درجات في الدنيا والرفعة درجات – وهي الأهم والأخطر – في الآخرة، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۩، بلا شك أهل العلم رفعاء شرفاء أسنياء في الدنيا، وبلا ريب هم رفعاء شرفاء أسنياء في مقام عالٍ بهي في الآخرة، وتعرفون حديث يُؤتى بصاحب القرآن، يُقال له اقرأ وارق ورتِّل كما كنت تُرتِّل في الدنيا، فإن منزلتك في الجنة عند آخر آية قرأتها في الدنيا، الله أكبر!
كم مرة ختمت المُصحَف؟ قد يقول أحدكم مائة مرة، مُمتاز! مائة مرة، اضرب في عدد آيات القرآن الكريم، مع كل آية ترتفع بإذن الله، بعض الناس ختم ألف مرة، بعضهم عشرة آلاف مرة، حدَّثتكم مرة عن أبي بكر بن عيّاش، المُحدِّث الجليل، العلّامة الورع التقي، قدَّس الله سره، قال النووي في المنهاج لما حضرته الوفاة أظهر ابنه – وفي رواية ابنته أيضاً – الجزع، حزن وما إلى ذلك، كيف يموت؟ وكان عالي السن جداً، عُمِّر طويلاً، فقال يا بُني لِمَ تجزع؟ أي هل أنت خائف علىّ؟ أتجزع علىّ أنا؟ قال لا تجزع وأبشِر، انظر إلى تلك الزواية – في البيت -، قد ختمت فيها كتاب الله خمسين ألف مرة، الله أكبر! خمسون ألف مرة، شيئ عجيب، هناك مَن يعيش خمسين سنة، هل تعرفون كم يوماً يتحصَّل من خمسين سنة؟ زُهاء خمسة وعشرين ألف يوم، هناك خمسة وعشرون ألف يوم في خمسين سنة، متى ختم خمسين ألف مرة؟ نعم هو عُمِّر زُهاء المائة – هو عُمِّر فعلاً زُهاء المائة – لكن هؤلاء كان عملهم التلاوة، بعد الصلاة وما إلى ذلك تأتي التلاوة، ليل نهار!
سُئلت أخت الإمام مالك – مالك بن أنس، مُؤسِّس المذهب، المُحدِّث والإمام الجليل، أمير المُؤمِنين في الحديث، إمام دار الهجرة – ما كان عمل أبي عبد الله إذا دخل البيت؟ قالت المُصحَف، التلاوة! لا يشتغل حتى بالأسانيد والمتون الخاصة بالأحاديث، لا! الأسانيد والمتون انتهى وقتها، هذا كان يأتي قديماً ويأتي الآن في الدروس، لكن في البيت يأتي القرآن، القرآن له المكانة الأولى قبل أي شيئ.
اليوم هناك علماء – باركهم الله إن شاء الله وبارك علمهم وأنفاسهم – للأسف نسمعهم حتى في التسجيلات لا يُحسِنون النزع بآية، يُخطئون كثيراً جداً بالآي، ولكن ينزعون أحسن نزع بالأحاديث، إهمال! أهملوا القرآن وجعلوا وكدهم في الحديث، وهذا لا يجوز، انقلبت القضية، كلا! لا ينبغي، هذا ليس بالحسن، بالعكس! ولذلك قال أحد تَلاميذ الإمام مالك، قال – وهو البهلول بن راشد – ما رأيت أنزع بآية من كتاب الله من أبي عبد الله مالك، على علمه الراسخ بصحيح الحديث وسقيمه، لكن دائماً يُكثِر الاستشهاد بالقرآن، القرآن القرآن القرآن، القرآن يأتي دائماً، حتى الاستشهاد والاستدلال يكون من القرآن، مع أنه يعرف عشرات آلاف الأحاديث، لا يكاد يستشهد إلا بالقرآن كما قال، ويُحسِن الاستشهاد، هذا معنى أنه يُحسِن النزع، ينتزع الآيات تماماً في الموضع، يُحسِن إيرادها والاستشهاد بها، قدَّس الله سره، علينا أن نتعلَّم هذا.
ولذلك كان العلماء الربانيون إذا جاءهم طالب يطلب العلم يسألونه هل أحكمت كتاب الله؟ أنت أتيت لكي تطلب الأحاديث والأسانيد، لكن هل أحكمت كتاب الله؟ فإن قال لا قالوا اذهب، ليس لك علم عندنا، أُس العلم كله الكتاب الكريم، اذهب أحكِم كتاب الله، احفظه! احفظه وتفقَّه فيه ثم تعال، فإن أتى كرة أُخرى سألوه هل تعرف الفرائض؟ أي علم المواريث، النبي قال العلم آية من كتاب الله، وفريضة مُحكَمة، وسُنة قائمة، بعد ذلك – بعد الفرائض – تأتي السُنة، الفرائض قبلها، لابد من علم الفرائض، حتى لا ينتهي أمره، والنبي قال تعلَّموا الفرائض، فإني امرؤٌ مقبوض، وإن العلم مرفوع، وإنه يُوشِك أن يختلف اثنان في الفريضة والمسألة فلا يجدان أحداً يُخبِرهما، إذن قال تعلَّموا الفرائض، هذا الأدب، هذا العلم، العلم ليس للتظهر، العلم ليس للشهادات، والعلم ليس للتزيد، ليس ليُقال إنه مُحدِّث ويعرف كذا وكذا، لا! هذا هو العلم، العلم على أصوله، القرآن أولاً، ثم علم الفرائض، وبعد ذلك علم السُنة، الأحاديث رقم ثلاثة، بعد القرآن والفريضة، انتبهوا! النبي رتَّب الشرف هكذا، رتَّب شرف هاته العلوم هذا الترتيب، صلى الله عليه وآله وأصحابه، فإن أتى ثالثاً قالوا له الآن، الآن نبدأ في التعليم، أحكمت الفريضة ومن قبل أحكمت الكتاب، الآن نبدأ، الآن وليس العكس.
إذن تلا خمسين ألف مرة كتاب الله، الآن في عصرنا هذا نحن نعرف جماعة – نحسبهم إن شاء الله على خير، والله حسيبهم، ولا يُزكى أحد على الله – من الصالحين، يختمون كتاب الله في اليوم مرتين وأحياناً مرتين ونصف المرة، كل يوم! ما رأيكم؟ موجودون، موجودون بين ظهرانينا والله! من هؤلاء رجل رأيناه قبل بضع عشرة سنة، عالم مصري عامل صالح، الشيخ المُجاهِد الفاضل الصالح محمود عيد، أمد الله في فُسحته إن كان في قيد الحياة – الأفصح هو في قيد الحياة وليس على قيد الحياة -، والرجل مواليد سنة أربع وتسعمائة وألف، أتانا في الأربع والتسعين تقريباً، وعلمنا من أحواله الشيئ العجب، وهو حدَّثني بهذا فماً لفم، من فيه لفيه، قال لي أنا أختم كتاب الله مرة وأحياناً أبلغ المرتين، وأعرف مَن يختمه مرتين – تقريباً مرتين كل يوم وليس مرة – وأحياناً مرتين ونصف المرة، هذه بركة وآية من آيات الله، طبعاً يستطيع أي واحد أن يختمه في عشر ساعات بقراءة الحدر، إذن يختمه في عشر ساعات مرة، وفي عشرين ساعة يختمه مرتين، فأين النوم؟ أين الأكل؟ وأين الأشياء الأُخرى؟ لكن هؤلاء يُبارَك لهم في وقتهم، إي بالله، إنها كرامة من أظهر الكرامات، ينامون ويأكلون ويُصلون الجماعات ويتعاطون بعض الأشياء مع الناس، ويختمون مرتين ونصف المرة، شيئ عجيب! اللهم ألحقنا بهم وأقدِرنا على ما أقدرتهم على مثله، طبعاً هذا هو، قرآن! بكل آية لكم منزلة في الجنة يا أحبابي، أرأيتم كيف نحن أضعنا أوقاتنا؟ لنبك حسرةً على أنفسنا، والله العظيم! لنبك حسرةً، لنتقطَّع حسرات، مجالس الغيبة والنميمة والكلام الفارغ والمقاهي والتلفزيونات Televisions والأفلام والإنترنت Internet، وكله كلام فارغ هذا، والله العظيم كله كلام فارغ هذا، كله كلام فارغ حتى وإن كان باسم الإسلام، يجلس في المسجد على مدار الأربع والعشرين ساعة، ماذا يفعل في المسجد؟ هل يقرأ القرآن؟ لا، يتكلَّم فقط، كما نقول يطق حنك، في المسجد يا أخي، في المسجد! كلام فارغ هذا، اجتهد يا رجل، اجتهد فهناك الدرجات.
روى الإمام أبو عيسى الترمذي – قدَّس الله سره – في جامعه من حديث عبد الله بن عمر – رضيَ الله تعالى عنهما -، قال قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – تسليماً كثيراً إن أدنى أهل الجنة منزلةً – مَن هو؟ – مَن ينظر إلى جنانه وقصوره وأزواجه وسُرره وخدمه ونعيمه مسيرة ألف سنة، هذا أقل واحد! هذا كله له، إذن إذا كان هذا الأدنى فكيف بالأعلى؟ قال – صلى الله عليه وسلم – في تتمة الحديث وإن أكرمهم – لأن لا يكون العلو إلا بالكرامة، إن كرَّمك الله أعلى منزلتك، هذا لكي تفهم كيف يكون العلو، انظر إلى هذا، هذا من بديع بيان رسول الله، كان يقدر على أن يقول وإن أعلاهم، ومن المُمكِن أن يكون بعض الحفّاظ رواها هكذا، ترواها هكذا، وتأثَّرها هكذا، لا بأس، لكن هنا أيضاً موجود وإن أكرمهم، لأنه إنما أصاب العلو بالكرامة على الله، والكرامة مفتاحها ماذا؟ التقوى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۩، التقوى! لابد من التقوى، قال وإن أكرمهم، اللهم اجعلنا من أكرم عبادك وأوثقهم يقيناً بك وبموعودك، لا إله إلا أنت سُبحانك – مَن ينظر إلى وجه ربه غُدوةً وعشيةً، أي ينظر كل يوم مرتين، الله أكبر! ليس حكاية خدم وسُرر وحور وجنات، لا! شيئ أعلى، قال وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۩، الله قال أَكْبَرُ ۩، رضوان الله أَكْبَرُ ۩، وفي أعلى ذُرى الرضوان ماذا؟ النظر إلى وجه الكريم، لا إله إلا هو!
كان من دعاء نبيكم أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مُضِرة ولا فتنة مُضِلة، قال هذا هو، هذا دعاء النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى ۩، وهي الجنة، الْحُسْنَى ۩ هي الجنة، في يونس! وَزِيَادَةٌ ۩، في حديث صُهيب الرومي في صحيح مُسلِم الزيادة النظر إلى وجه الكريم، لا إله إلا هو! هذا للأسف أدنى أهل الجنة، ورد في بعض الآثار أن هذا ينظر ربه مرة واحدة فقط في الأبد، لا إله إلا هو! يا حسرة، والله يا حسرة، حسرة عُظمى هذه، لكن الجنة ليس فيها حسرات، الحسرة في الدنيا الآن، في الجنة لا تُوجَد حسرات، لكن المسكين ينظر مرة وينتهي الأمر، ضاع عليه هذا، مرة واحدة! الأكرم كل يوم ينظر، بالغدو والعشي، ينظر بالغدو والعشي، اللهم اجعلنا منهم بحقك، بنور قدسك، بجلالك، وببهائك، يا رب العالمين، هذا الشرف يا إخواني، هذا الشرف! هذا أدنى أهل الجنة منزلة.
في الصحيح من حديث أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – أعد الله – تبارك وتعالى – للمُجاهِدين في سبيله في الجنة مائة درجة، المُجاهِدون مُجاهِدون، والشهداء شهداء، لكن ليسوا ينزلون في درجة واحدة، لا ينزلون كلهم في درجة واحدة، إنما يتوزَّعون أو تتوزَّعهم الدرجات، كيف؟ قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، وكيف بمائة درجة؟ طبعاً لأن هناك فرقاً بين مُجاهِد جاهل مسكين لم يعمل أعمالاً صالحاً كثيرةً – جاهل! كان في أول حياته وانتهى عمره – وبين مُجاهِد طال عمره في سبيل الله وفي قيام الليل وصيام الهواجر والصدقات والجهاد المُستمِر والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر وإصلاح أحوال الناس والقيام بحق النصيحة للإخوة والمنفعة لعباد الله، ثم إنه عالم من أهل العلم، وبعد ذلك مات مُجاهِداً في سبيل الله، أو حتى جاهد ولم يُستشهَد، هذا مقام عظيم جداً جداً، طبعاً ليس مثل أي إنسان، لكن كلهم في مقامات المُجاهِدين، اللهم اجعلنا منهم.
أيضاً في حديث الترمذي قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – إن في الجنة مائة درجة – بشكل عام – لو نزل العالمون في درجة واحدة لوسعتهم، لأنها وسيعة وكبيرة وفسيحة وسحيقة طولاً وعُرضاً وعُمقاً، سحيقة! درجة عظيمة، لو نزل العالمون – ليس أهل الجنة، وإنما كل العالمين، من إنس وجن وملائكة ومُؤمِن وكافر وحور عين وما لا نعلم مما خلق الله، العالمون! الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، لا يدري ما العالمون على حقيقته إلا الله، نحن ندري منها عوالم الإنس والجن والملائكة والطير والوحش والبشر، إلى آخره! عوالم كثيرة – في درجة واحدة لوسعتهم، لو نزل العالمون في إحداهن لوسعتهم كما قال، لكفتهم هذه الدرجة، درجة واحدة! لذلك هن درجات.
من أعظم وأطيب وأكرم البُشرى وتفرح بها نفوس المُؤمِنين – بفضل الله تبارك وتعالى – وتنشرح بها الصدور ما رواه الإمام أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الله بن عباس – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – مرفوعاً إلى رسول الله، أذكر هذا لأن هنّاد بن السري – رحمة الله عليه، هنّاد بن السري صاحب الزُهد – ذكره عن ابن عباس موقوفاً عليه، فالمرفوع أحب إلينا، هذا مرفوع عن رسول الله، وليس من حديث ابن عباس كما عند هنّاد بن السري في الزُهد، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – يُلحِق الله – تبارك وتعالى – بالعبد المُؤمِن في الجنة ذُريته، وإن لم يبلغوا مقامه أو قال درجته بعملهم، هم أدنى منه، يقول – عليه السلام – يفعل الله ذلك لتقر عينه، حبيب! المُؤمِن حبيب إلى الرحمن، والله العظيم!
جرِّبوا طاعة الله، أطيعوا الله حقاً وصدقاً، وسوف ترون الدلال، سوف يرى كل واحد منكم – والله – كم هو قريب وكم هو مُدلَّل عند الله! أنت تبدأ تلحظ الدلال الإلهي، ما رأيك؟ لكن لا تغتر ولا تعجب، انتبه! تلحظ الدلال، تُعطى قبل أن تسأل، تهم بالشيئ فيحدث لهمك، ما رأيك؟ هذا هو! فكيف بالآخرة؟ الآخرة ليست دار تكليف، دار الكرامة هناك، هو أعدها ليُكرِمنا، ولذلك يُريد أن تقر عين المُؤمِن، فيرفع له أولاده – أبناءه وبناته وأحفاده ذكوراً وإناثاً – في نفس الدرجة، يعيشون في نفس السُرر والفُرش والقصور، لتقر عينه.
ثم تلا – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ۩، من سورة الطور! كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ۩، تلا النبي إلى مِنْ شَيْءٍ ۩، قرأ إلى مِنْ شَيْءٍ ۩، ثم قال – صلى الله عليه وسلم – يقول – أي الله تبارك وتعالى يقول – ما نقصنا الآباء بما أعطينا البنين، أي ما نقصنا الوالدين بما أعطينا الأولاد، أعطينا الأولاد ورفعناهم إلى مقام والديهم، ولم ننقص – نقص يأتي لازماً ومُتعدياً، هنا جاء مُتعدياً – الوالدين بما أعطينا أولادهم، قال وَمَا أَلَتْنَاهُمْ ۩، أي الوالدين، الآباء والأمهات، وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ۩، لا! لكن هذه كرامة من الله، لكي تقر أعينهم.
حضور الجُمعة، هذه الصلاة التي يُفرِّط فيها بعض الناس، والتفريط فيها عنوان سوء وشارة حرمان وفسوق، مَن ترك ثلاث جُمع تهاوناً بهن طبع الله على قلبه، وشتت شمله، طبعاً! الله لا يطبع إلا على قلوب المُعتدين، على قلوب الفاسقين، وعلى قلوب الكافرين، هذا شابههم، هو فاسق بلا شك، ليس كافراً، لكن هو فاسق، وهو مُعتدٍ، تعدى حُرمات الله بترك الجُمعة، قال وَذَرُوا الْبَيْعَ ۩، مُباشَرةً اترك، اترك كل شيئ، اترك الربح، ذره وتعال إلى الصلاة.
روى أبوعبد الله الحاكم في مُستدرَكه – وقال صحيح ووافقه الذهبي في المُلخَّص، رحمة الله تعالى عليهما – عن سمرة، قال – صلى الله عليه وسلم – احضروا الجُمعة، وادنوا من الإمام، بعض الناس يأتي ويجلس في الآخر، يُريد أن يستريح، استرح يا حبيبي، وستتأخَّر يا مسكين، أنت مسكين! لا يُوجَد فقه في الدين يا أخي، لا يُوجَد وعي، لماذا التأخر هذا؟ يأتي أول الناس ويجلس في الأخير، يقول إنه تعبان، فلتكُن تعبان، وستظل تعبان، النبي قال احضروا الجُمعة، وادنوا من الإمام، فلا يزال رجال يتأخَّرون – أي في الجُمعة، ويجلسون حتى في المُؤخَّرات، ويتأخَّرون عن الجُمعات أيضاً – حتى يُؤخِّرهم الله يوم القيامة وإن أدخلهم الجنة، كيف يُؤخِّرهم؟ درجاتهم واطئة، درجات نازلة!
لذلك دائماً في مجالس العلم والذكر كُن من أول الناس، ثافن العلماء بالركب، ضع الركبة على الركبة، مثلما فعل جبريل مع رسول الله، أليس كذلك؟ أسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، وقال يا محمد أخبرني… إلى آخره! سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وأشراط الساعة، هكذا! ادن من العلماء في مجالس الذكر، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۩، شرف! إن الله ليرفع بهذا القرآن أُناساً ويخفض به آخرين، هذا في الدنيا والآخرة، مَن لم يرفع به رأساً لم يرفع الله له منزلةً يوم القيامة.
مما يُوجِب شرف الدرجات – أي مما يُوجِب رفعة الدرجات – كثرة الصلاة على الحبيب، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، بكل صلاة تُصلونها عليه تُرفَعون في الجنة درجة، هذا غير الحسنات والسيئات الممحوة، وغير عشر صلوات يُصليهن الله بصلاتكم واحدة على حبيبه وخليله، عشر مرات! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ۩، مَن صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً، وسجد النبي شُكراً لله لما بُشِّر بهذا، ويُرفَع درجة! في حديث أبي طلحة – أذكر أنه عند النسائي، من مُدة راجعته، لكن إن شاء الله هو هكذا – يُرفَع درجة أيضاً بالصلاة على رسول الله.
في صحيح مُسلِم من حديث عمرو بن العاص قال – صلى الله عليه وسلم – إذا سمعتم النداء – أي الأذان – فقولوا مثلما يقول المُؤذِّن، ثم – المعنى إذا فرغ وانتهى، لا إله إلا الله – صلوا علىّ، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، كل هذا تعليم لنا، كل هذا إنما أتى تعليماً لنا لكي نُحاوِل نُقارِب أن نُدرِك منزلته وشرفه، صلى الله عليه وسلم، النبي لا يقول أي كلام وهو ليس كأي بشر، هذا تعليم من الله لنا، الله يقول لنا أنا أُصلي عليه والملائكة، وأنتم صلوا عليه، لماذا؟ لكي تُحاوِل تفهم مَن هو محمد، استنقذنا به الله من النار يا أحبابي، ما كنا لنعرف الله ولا لنتقرَّب إليه على الوجه الذي يرضاه ولا نعرف ما نبغي له من الأسماء والصفات والنعوت الشريفة الجلالية الجمالية إلا برسول الله، هذا رسول الله، انتبهوا! هذا رسول الله، الله طلب منا الصلاة عليه، هذا ليس أي كلام.
قال أحد المُعثَّرين من المُعاصِرين، قال لماذا هذه المُبالَغة؟ كلما ذُكِر صليتم عليهم! يغار منه هذا المسكين المُعثَّر، محروم أنت! هذا ليس منا وليس منه، الله أمرنا بهذا، قال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا ۩، وأكَّدها بالمصدر، وهذا من أقوى الأوامر، أكَّده بالمصدر، قال صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ۩، أو بالأحرى أكَّده باسم المصدر، هكذا! صلى الله عليه وسلم.
في حديث عمرو ما قلناه، قال ثم سلوا لي الوسيلة، وهي منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد – أي واحد – من عباد الله، النبي يرجو أن يكون هو، وفي رواية وإني لأرجو أن أكون هو، فمَن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة، اللهم اجعلنا من أهل شفاعته، صلى الله عليه وسلم، هذا بعد كل أذان، وهذه سهلة، سهلة جداً.
في حديث الإمام أحمد في المُسنَد – وهذا من حديث عُباد بن الصامت أيضاً – قال – صلى الله عليه وسلم – إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها ادخلي الجنة من أي أبوابها الثمانية شئتِ، أعمال هذه، أعمال طيبة، ذكرنا نظير هذا في الدروس السابقة، إذن هن درجات وهي أبواب، أبواب مُتعدِّدة ودرجات مُتعدِّدة، هذا وقف على العمل، ما هو عملك؟
روى الإمام الحاكم – نعود إلى رفعة الدرجات – من حديث أُبي بن كعب، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – مَن أحب أن يُشرَف له البُنيان، وتُرفَع له الدرجات – قال يُشرَف له البُنيان، ما معنى هذا؟ أي يُجعَل مُشرِفاً عالياً، يقول فلان شريف الناس، أي عاليهم، عنده مكانة عالية، في النسب أو في العلم أو في المال أو في السُلطان، إلى آخره! هذا هو الشرف، الشرف هو العلو في الأصل، الشرف هو العلو، وقف على شرف يُؤذِّن أي على مكان مُرتفِع، قال مَن أحب أن يُشرَف له البُنيان، وتُرفَع له الدرجات – فليصل مَن قطعه، وليُعط مَن حرمه، وليعف عمَن ظلمه، أتُريد هذا؟ أتُريد درجات عالية في الجنة؟ أتُريد بُنياناً سامقاً وقصوراً شريفةً؟ عليك بهذا.
وأخيراً – للأسف أدركنا الوقت، ولا يزال يُدرِكنا سريعاً – حديث الجنة، من الجنة، كيف؟ أنا أتحدَّث عن ماذا؟ هل تحدَّث عن أشجارها أم عن أنهارها الطريدة أم عن رَوْحها – أي رائحتها -؟ هناك أحاديث فقط عن رائحة الجنة، رائحة الجنة! رائحة الجنة تُشَم من أربعين سنة، تخيَّلوا! أتشمها من أربعين سنة؟ من أربعين سنة تشمها، فكيف بالجنة؟ لكن لدي كلمة لأخواتي وهي أيضاً لرجالنا، لست مُنحازاً وتعرفون هذا، قال – صلى الله عليه وسلم – أيما امرأة طلبت الطلاق من زوجها من غير كُنهه – أو قال في غير كُنهه، وفي حديث آخر من غير بأس، أي من غير سبب مُوجِب، هكذا شطر بطر – فحرام عليها رائحة الجنة، هو فقط لا يُعجِبها، تُريد الطلاق بسبب الــ Langeweile، أي الملل، عندها ملل منه، ملت – قالت – منه وتُريد أن تُغيِّر، كيف هذا يا ابنة الناس؟ كيف هذا يا أمة الله؟ هناك عشرون أو ثلاثون سنة من الزواج، وعندكم أولاد وبنات، ما هذا؟ أنتِ هددت حيل عبد الله هذا، هذا المسكين الضعيف ينحت في الصخر من ثلاثين سنة، اتقي الله يا أختي، أين الوفاء؟ وأقول مثل هذا للرجال، انتبهوا! أبو شنب هذا حين يحصل على بعض المال يذهب ويُطلِّق دون أن يهمه أي شيئ، انتبهوا! لأن هم أسوأ بصراحة.
النبي قال عن هذه المرأة لم تَرَح – طبعاً يُقال تَرَح وتَرِح وتُرِح، هناك ثلاثة وجوه في الضبط، على كل حال يُقال تَرَح أو تَرِح أو تُرِح، ويُقال تُرَح أيضاً – رائحة الجنة، وإن ريحها ليُوجَد من مسيرة أربعين سنة، النبي قال حرام عليها أن تشم الجنة، أتطلب الطلاق وتُريد أن تُخرِّب البيوت؟ لن تشم رائحة الجنة، ونفس الشيئ نقوله له أيضاً، يُريد أن يُطلِّق من غير كُنهه أو في غير كُنهه أو من غير بأس، لماذا طلَّقت يا رجل؟ قال إنها أصبحت لا تُعجِبه، لا تُعجِبه الآن هذه العجوز (المُهكعة) كما يُقال، يُريد فتاة بنت عشرين سنة، وهم عمره ستون سنة، ماذا تُريد أنت؟ أُحِب أن أحكي الكلام هذا بوضوح لكي نستيقظ، هذا الكلام لي وغيري، استيقظ يا أخي، استيقظ يا رجل، أين الوفاء؟ أين التذمم؟ أين الوفاء؟ وأين التذمم؟ الطلاق أبغض الحلال إلى الله تبارك وتعالى.
عن ماذا نتحدَّث؟ أنتحدَّث عن ثمارها أم عن طعامها أم عن شرابها أم عن حورها أم عن قصورها؟ هيا نتحدَّث عن أمرين يسيرين، لنتحدَّث كيف نتعرَّف على أزواجنا وعلى قصورنا في الجنة، سيقول لي أحدكم والله هذا الشيئ يُحيِّر، أنت تقول لنا هذا الشخص المسكين ينظر مسيرة ألف سنة، ينظر مسيرة ألف سنة! فكيف سيذهب هذا؟ هل عنده Navigationssystem؟ كيف سيذهب هذا؟ كيف سيتحرَّك هذا؟ كيف سيصل هذا إلى الجنة؟ اسمعوا الحديث العجيب، وهو في البخاري، في صحيح البخاري.
قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – والذي بعثني بالحق لأهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم أعرف منكم – قال أعرف منكم – بأزواجكم ومساكنكم، يعرف الواحد منهم كل هذا، الله يقول له خُذ هذا الكتاب، براءة من النار، أرأيت هذا المنشور؟ كتاب من الرحمن الرحيم إلى فلان ابن فلان، أن أدخلوا عبدي الجنة، أنتم تعرفونه – أي المنشور -، تحدَّثنا عنه في الخُطبة السابقة، قال يكون معه المنشور، فيذهب به ويجري، يقول هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ۩، فرحان! وحُقَّ له الفرح، والله العظيم! ليس فرح الدنيا، ليس شهادات الدنيا، وليس نجاح الدنيا، كله كلام فارغ، هذا نجاح الآخرة يا جماعة، نجاح الآخرة! اللهم أنجِح مقاصدنا، اللهم أظفرنا بمرغوبنا، يا جميل العطية، يا مُحسِن، يا مُفضِل، يا مُجمِل، يا مَن لا إله إلا أنت، يا واحدي وأحد.
يأخذ المنشور ويقول هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ۩، نجوت نجوت، وحُقَّ له والله، حُقَّ له أن يُجَن فرحاً، ويأتي إلى الجنة، يُفتَح له الباب، ووُصِفت أبواب الجنة كما سمعتم، بين مصراعي الباب أربعين سنة، باب عظيم ومُخيف، مثل الدنيا كلها هذه عشرات مرات، هذا الباب الواحد فقط! بين مصراعي الباب أربعين سنة، يُفتَح له، وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ۩، تُفتَّح لهم من باب الكرامة، وَفُتِحَتْ ۩، معناها ماذا؟ هناك ملائكة لا تزال واقفة، تنتظر أن تُكرِمهم بفتحها لهم، مثلما يأتي الملك أو الأمير أو الإنسان العالي ويُفتَح له من باب التكرمة، هذه مراسيم كما يُسمونها، أي بروتوكول Protocol، هذا بروتوكول Protocol، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ۩، تفضَّلوا، أهلاً وسهلاً، اللهم اجعلنا منهم.
يدخل وأمامه مد البصر – آلاف السنين ربما إذا كان من المُقرَّبين – مما ذكرنا، لكنه يعرف، يعرف هذا مُباشَرةً، والله أعلم طبعاً كيف يذهبون، ربما لا يمشون مثلنا، ربما يطير هذا، يطير ويأتي إلى قصره، ثم يقول السلام عليكم على حورائه وعلى زوجه، يعرف هذا تماماً، قال عبد الله بن عباس – رضوان الله تعالى عليه – لأهل الجنة بمنازلهم أعرف من أهل الجُمعة إذا انقضت جُمعتهم وعادوا إلى منازلهم، قال أرأيتم ما يحدث في الجُمعة؟ هم أعرف منكم، يُنهون الحساب – إن شاء الله – على خير – بإذن الله تعالى – وبنجاة ثم ينطلقون إلى الجنة وهم يعرفون تماماً.
هل تعرفون هذا مذكور أين؟ في كتاب الله، قال – عز من قائل – في القتال – أي في سورة محمد، صلى الله على محمد وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – وَالَّذينَ قُتِلوا في سَبيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعمالَهُم ۩ سَيَهديهِم وَيُصلِحُ بالَهُم ۩ وَيُدخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُم ۩، الله أكبر! هذا تفسير الآية، وَيُدخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُم ۩، مُعرَّفة كلها، هي Geplant، أي مُخطَّطة، هناك تخطيط أو اختطاط كامل في مُخه وفي دماغه فيعرف.
في سورة يونس – عليه السلام – إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ۩ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩.
استغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسان وعلينا وعليكم والمُسلِمين والمُسلِمات معهم بفضله ومنّه وكرمه أجمعين، اللهم آمين.
لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۩، تجري من تحتهم الأنهار، غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ ۩، أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ۩، في سبأ أيضاً وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ۩، صح عنه – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً – قوله إن في الجنة لغُرفاً يُرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها، قال أعرابي لمَن هي يا رسول الله؟ قال لمَن أفشى السلام، وأطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى بالليل – قيام الليل – والناس نيام، اللهم اجعلنا من أهل الغُرف الذين يحلونها وينزلونها آمنين، وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ۩، هكذا! هذه هي الغُرف.
وعن أبي سعيد الخُدري قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – إن أهل الجنة لينظرون إلى الغُرفة – غُرفة من الغُرف هذه، عالية جداً – كما ينظرون إلى الكوكب الدُري الغارب من الشرق أو الغرب، الآفل النازل! بعيدة، قالوا يا رسول الله لمَن هي؟ ما هذه الغُرفة؟ شيئ عجيب هذا، وهي عالية جداً جداً جداً، قال للمُتحابين في الله عز وجل، يُقال هذه غُرفة أو غُرف للمُتحابين فيه، اللهم اجعلنا من المُتآخين المُتحابين المُتباذِلين المُتقارِبين فيك.
اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما جنينا على أنفسنا وما أنت أعلم به منا.
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تُعذِّبنا فأنت علينا قادر، والطف بنا فيما جرت به المقادير.
اللهم يا رحمن الدنيا ورحيمهما، نسألك يا الله، يا ذا الجلال والإكرام، يا رحمن، يا رحيم، أن ترزقنا حُسن النظر فيما يُرضيك عنا.
اللهم زِدنا ولا تنقصنا، وأعطِنا ولا تحرمنا، وأكرِمنا ولا تُهينا، وآثِرنا ولا تُؤثِر علينا، وانصرنا على مَن بغى علينا، وارض عنا وأرضِنا، وارض عنا وأرضِنا، وارض عنا وأرضِنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(5/6/2009)
أضف تعليق