نظرية التطور
السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات
الحلقة الثالثة عشرة
مندل Mendel وبزوغ علم جديد
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المُرسَلين سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأمين وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً.
أحبابي في الله، إخواني وأخواتي: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، بعد أن استعرضت معكم في الحلقة السابقة جُملةً طائلةً من أقوى النقود والردود التي وُجِه بها داروين Darwin ونظريته في تطور الأنواع بالانتخاب الطبيعي أُحِب في صدر هذه الحلقة أن أُشير إلى مسألة على عجل وهى مسألة تطور الإنسان نفسه كنوع – بلا شك – مُهِم لنا، فهو أهم الأنواع، هو نحن، لكن ماذا ورد في أصل الأنواع عن تطور الإنسان؟ في الحقيقة لم يرد شيئ، فداروين Darwin كان مليئاً إيماناً – كما سأتلوا عليكم بُعيد قليل – بحقيقة أن الإنسان ليس استثناءً من سائر الأنواع وأنه جرى عليه ما جرى على سائر الكائنات من التطور والترقي في سُلَم الحياة أو في شجرة الحياة، ولكنه إحساساً منه وتقديراً منه لخطورة وحساسية هذه المسألة وتفجرها شاء أن يبقى وهو الشخص العالم البعيد بطبعه عن المُنازاعات والخصومات، حيث كان شخصاً هادئاً لا يُحِب أن يُورِّط نفسه في خصومات ومُنازاعات، فكيف إذا كانت الخصومة تتعلَّق بأمر خطير جلل كهذا الأمر يُمكِن أن يُثوِّر المُجتمَع عليه من قمته إلى قاعه رفضاً وإنكاراً وربما أيضاً اتهاماً وزندقةً؟ ولذلك – أحبتي في الله – اكتفى تشارلز داروين Charles Darwin في أصل الأنواع – الكتاب الكبير – بعبارة واحدة في أخر الكتاب، فهناك عبارة واحدة قال فيها في الطبعة الأولى وهى “سيُلقى ضوءٌ على أصل الإنسان وتاريخه: Light will be thrown on the origin of man and his history”، فهو قال فقط سيُلقى ضوء، ولم يقل سألقي أنا الضوء، وإنما سيُلقى ضوءٌ بصيغة المبني للمجهول Passive، ففي الطبعة الأولى قال “Light will be thrown on the origin of man and his history” وفي طبعات لاحقة زاد كلمة “كثير” أي ضوءٌ كثير، فقال “Much Light will be thrown on the origin of man and his history” أي أن في الطبعات اللاحقة قال “ضوءٌ كثير Much light” لكن في الطبعة الأولى فقط اكتفى بهذه الجُميلة القصيرة إيثاراً منه للراحة، فربما كان هذا التكتيك – Tactic – تكتيكاً مطلوباً وقت ذاك وناجحاً، فلقد نجح هذا التكتيك – Tactic – أن يُمرِّر النظرية، ولكن المُجتمَع العلمي بلا شك تعاطى بعرام وعنفوان شديدين مع النظرية أخذاً ورداً، فلم يتلقاها المُجتمَع العلمي بسلبية أو باللامبالاة أو تجاهلها، بل بالعكس، هى أقامت الدُنيا ولم تُقعِدها إلى اليوم، فكتاب أصل الأنواع أقام الدُنيا ولم يُقعِدها إلى اليوم، وهذا ما حدث فعلاً العالم الفكري والعالم العلمي، وطبعاً حين نتحدَّث عن العالم الفكري يدخل فيه أيضاً عالم اللاهوت، ما يتعلَّق بالدين والأديان وعلم الكلام والقضايا الإيمانية المُتعلِّقة بالذات بوجود الله وباختصاص الله بالخلق والتكوين والترقية والتطوير، فكل هذه المسائل لم تعد كما كانت بعد أصل الأنواع، وهذا شيئ غريب، لكن هذا قدر البشر، فكتابُ يُمكِن أن يُغيِّر مسارهم ويُؤثِّر في مسار البشرية كل البشرية من كل المِلل والِنحل، ولم ينج أحد من تأثيرات هذا الكتاب ومن تأثيرات هذه النظرية الهائلة، ولذلك نحن كما نُبديء ونُعيد دائماً نُريد أن نتعاطى معها بجدية، ولا نُحِب أن نتعاطى معها باستخفاف كأن نقول نظرية أن الإنسان أصله قرد وينتهي كل شيئ، هذا غير صحيح، فالأمر ليس على هذه الشاكلة بالمرة، وعلى كل حال ما سكت عنه تشارلز داروين Charles Darwin كان طبعاً تكتيكاً – Tactic – ناجحاً – كما قلت لكم – طبعاً، لأنه نجح في أن يُمرِّر نظرية أصل الأنواع التي أثارت كل تلكم الدوامات المُتنامية من النقاش حول مبدأ التطور بحد ذاته بالانتخاب الطبيعي لكن لا فيما يتعلق بالإنسان وإنما فيما يتعلق بسائر الأنواع، فهذا مقبول إلى حد ما، والمُجتمَع في القرن التاسع عشر تقبل هذا، وهو قرن – طبعاً بلا شك – شهد ثورة صناعية وشهد تطوراً في الأفكار وتطوراً في أنماط الحياة وفي أنماط أشياء كثيرة، ولو كان هذا في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر ربما لم ينجح داروين Darwin ولم تمر هذه النظرية، بل وربما يتم تجاهلها بالكامل أو ربما تموت في مكانها، لكنه جاء في وقته تقريباً تماماً في القرن التاسع عشر، وبعد ذلك أصبحت النفوس والعقول مُهيأة لتلقي الضربة الثانية وهى إثبات أن الإنسان أيضاً فعلاً كائن جري عليه قدر التطور وأنه ليس استثناءً، فيا للهول ويا لله وللإنسان، هل فعلاً ترقى الإنسان وانحدر من كائنات أخرى أدنى منه وأقل منه؟ هذا ما لا نحتمل أن نسمعه ولا نُحِب أن نسمعه، إنه يطعننا في الصميم، لكن كانت هذه قناعة مُطلَقة عند داروين Darwin مثل قناعته تماماً بتطور كل الأنواع، وقد كتب مرةً إلى أحدهم في خطاب يقول له “يُشعِرني بالغيظ والحنق إصرار بعض الناس ومنهم تشارلز لايل Charles Lyell – عالم الجيولوجيا Geology الكبير – على أن يتحدَّثوا عن هذا المدعو بالإنسان كأنه استثناء من بين المخلوقات ومن بين الثدييات” أي كأن هذا الإنسان لم يتطور لأنه استثناء وهذا يغيظني، فلا يُوجَد أي مُبرِر علمي يقول هذا لكي نجعل الإنسان استثناءً.
إذن داروين Darwin يُؤكِّد قناعته أن الإنسان ليس استثناءً، وما سكت عنه داروين Darwin وظل يهمس بصدده سراً في أمثال هاته الرسائل للعلماء والكبار الذين يأمن جانبهم باح به وتجرأ و تجاسر على نشره في كتاب بحياله تلميذه المُتحمِس الوفي توماس هكسلي Thomas Huxley، وأنتم تعرفون عالم المورفولوجيا – Morphology – الشاب البارع وشديد الذكاء وفق وصف داروين Darwin له هكسلي Huxley طبعاً، فداروين Darwin يقول “هو شخص بارع” وفعلاً له ذكاء كبير جداً هذا الرجل، وهو عالم كبير بل هو ثاني عالم أحياء في القرن التاسع عشر، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، حيث يُقال أنه ثاني عالم أحياء في القرن التاسع عشر بعد تشارلز داروين Charles Darwin، وطبعاً واضح أن داروين Darwin ليس أعظم عالم أحياء من كل الجهات، فهو صار أعظم عالم أحياء في القرن التاسع عشر بسبب النظرية فقط وإلا علمه في الأحياء لا يُرقيه إلى أن يكون الأول بلا نزاع، ثم يأتي هكسلي Huxley بجدارة ليكون ثاني أكبر عالم أحياء في القرن التاسع عشر، فهو عالم كبير وعالم خطير وقد ألف كتاباً ونشره عالم ألف وثمانمائة وثلاثة وستين إسمه مكان الإنسان في الطبيعة Man’s Place in Nature، وقد صرَّح في كتابه مكان الإنسان في الطبيعة Man’s Place in Nature بما أشفق داروين Darwin من التصريح به، حيث قال “الإنسان مُترقٍ من كائنات أدنى، وهو والقرود والغوريلات أبناء عمومة، أي لهم جدٌ مُشترَك”، فقد صرَّح بجُملة “لهم جدٌ مُشترَك” في هذا الكتاب الصغير الذي لم يكن مُنظَماً تنظيماً جيداً مُمنهَجاً، لكنه أتى بما سمح به الزمان وسمح به تطور العلم في وقته من أدلة، وهى بلا شك الآن من منظورنا لا تُعتبَر كافية بالمرة لكن هذه هى الأدلة المُتاحة، فأحسن العرض لها وأحسن تبويبها وترتيبها وكان صريحاً ومُباشِراً جداً، فلم يُداوِر الموضوع وإنما عمد إليه من أقرب نُقطة وبشكل خط مُستقيم مُباشرةً، إنه كان – كما قلت لكم – لا يُحاذِر كثيراً مُراعاة الجانب الديني، وتعلمون قصة حواره مع أسقف أُكْسَفُورَد – Oxford – الشهيرة، فهو لم يكن يُقيم وزناً كبيراً لرجال الدين والمُؤسَسة الدينية، وعلى كل حال بعده بزُهاء تسع سنوات – في ألف وثمانمائة واثنين وسبعين – سينشر داروين Darwin نفسه كتابه الشهير The Descent of Man أي تحدر أو انحدار الإنسان، لكن يبقى كتاب هكسلي Huxley في تقويم العلماء أفضل من كتاب داروين Darwin على أنه أصغر منه بمراحل، فكتاب داروين Darwin كتاب كبير، والنُسخة العربية المُترجَمة في ثلاث مُجلَدات كبيرة، لكن الكتاب غير مُمنهَج وغير مُنظَم تنظيماً مقبولاً عند العلماء والأخصائيين، فثلثا الكتاب – المُجلَدان الأخيران – من الكتاب لا يتحدثان عن الموضوع بشكل مُباشِر، وإنما يتحدثان عن الانتخاب الجنسي – Sexual Selection – بنوعيه، والكتاب يتناقض مع بعضه البعض في مواضع العلماء أبرزوها طبعاً، وحتى المُؤيِدون للتطور قالوا “هذا الكتاب يتناقض، فهذا الجزء فيه يُناقِض هذا، وهذا يُناقِض هذا”، فالكتاب مُختلِف كثيراً عن كتاب أصل الأنواع وهو كتاب حياة داروين Darwin، ومع ذلك الكتاب أيضاً – كما قلت لكم حين تحدثنا عن ترجمة داروين Darwin – لقيَ نجاحاً كبيراً وبيعت منه ألوف النُسخ، وكان أيضاً من أنجح كُتب داروين Darwin، وفيه بلاشك معلومات وتبصرات تُهِم العلماء التطوريين.
لماذا قلت سأتحدَّث عن هذا الموضوع – وقد فرغت الآن – على عجل؟!
لأننا – كما وعدناكم غير مرة – سنفتح ملف هذه القضية ونعرض فيه لهذا الموضوع بإسهاب شديد، أي قضية تطور الإنسان وأدلة هذه القضية، فهذا يحتاج إلى كلام بحياله، وسنفعل هذا عمل قليل – أي عما قريب – إن شاء الله تبارك وتعالى.
بإزاء النقود والردود التي عرضت لها في الحلقة السابقة ماذا كان مصير نظرية التطور بالانتخاب الطبيعي؟ هل صمدت؟ هل سدت الثغرات؟ هل تجاوزت العقبات؟ هل استجابت بشكل مقبول للتحديات أم أنها تلعثمت وتلكأت وتراجعت؟
في الحقيقة ما حدث هو شيئٌ من الأمرين جميعاً، فقد أنجزت أشياء ولكنها تلعثمت وتقلقلت وأحياناً شبه تجمدت، ولكن سيُعاد بعثها من جديد، فنحن بصدد أن نتحدث عن كيف تطورت نظرية التطور، فالنظرية نفسها خضعت للتطور وللتناسخ وللزيادة وللنقصان، وحتى نُجيب عن هذه الأسئلة سنحتاج في البداية أن نتحدَّث – وهو جزء من الجواب طبعاً لكن نوع من تنظيم الجواب – عن ثلاث شخصيات هائلة الأهمية في هذا الصدد، فسنتحدث عن جريجور مندل Gregor Mendel وهو مُؤسِس علم الوراثة أو الأب الروحي لعلم الوراثة، وسنتحدث أيضاً عن هوخو دي فريش كما يقولون بالهولندية أو هوجو دي فريس Hugo de Vries كما يتحدث الآخرون كالإنجليز وغيرهم وعن نظريته المشهورة في الطفرة،وأخيراً نُثلِث بالطبيب الألماني وعالم الحيوان أوغست فايزمان August Weismann، فسوف نتحدَّث عن فايزمان Weismann أيضاً ونظريته وإسهاماته، ولعلي ذكرت لكم مرة أن فايزمان Weismann في تقدير عالم التطور الكبير جداً إرنست ماير Ernest Mayr هو ثاني أعظم مُنظِّر تطوري في القرن التاسع عشر، ليس في علم الأحياء وإنما بالذات فيما يخص نظرية التطور، فالمُنظِّر الأول هو داروين Darwin والمُنظِّر الثاني هو الألماني أوغست وايزمان Weismann في تقدير وفي تقويم إرنست ماير Ernest Mayr، وطبعاً ماير Mayr من أكبر علماء التطور في العالم خاصة في الصيغة النهائية الشاملة وهى الصيغة التطورية المُعاصِرة أو التركيبة التطورية المُعاصِرة، وسنتحدث عنها – إن شاء الله – ربما في هذه الحلقة أو الحلقة التي تليها بعون الله تبارك وتعالى، فمَن أراد أن يفهم النظرية وأن يعود إلى بعض الكتب المُعتمَدة وإن كان الزمان أيضاً تجاوز بعض طروحاتها ضروري أن يقرأ ماير Mayr، فلابد أن تقرأ إرنست ماير Ernest Mayr حتى تفهم تماماً هذه النظرية بشكل صلب وبشكل مُعمَق.
نبدأ الآن بأول هاته الشخصيات الثلاث الهائلة وهو جريجور مندل Gregor Mendel، وأعتقد كل الذين أنهوا المرحلة الثانوية التعليمية يعرفون مندل Mendel ويعرفون عنه أشياء قد تُسعِفهم الآن في هذا الشياق الذي نحن فيه، فهذا الرجل بدأ حياته راهباً مُتواضِعاً هادئاً، فهو يميل إلى الهدوء وإلى المُسالَمة، وكان حليماً بطبعه لكن لديه مزاجٌ علمي ولديه روحية علمية ويُحِب المسائل العلمية بالذات التي تتعلَّق بعلم النبات، فكان يُحِب إجراء التجارب والأبحاث في حقل علم النبات، وكان يُمارِس الرهبنة والانقطاع إليها في دير أوجستيني في مدينة بيرنو Brno الموجودة حالياً في بلاد التشيك Czech، ووقت ذاك كانت بلاد التشيك Czech نفسها جزءً من الإمبراطورية النمساوية الكُبرى، ومن هنا السائد أن مندل Mendel هو العالم النمساوي كما يقولون، لأن بلاد التشيك Czech – كما قلت لكم – كانت في ظل الحكم النمساوي الإمبراطوي، علماً بأن ما نعرفه عن هذا الرجل المُهِم طبعاً والأب الروحي لعلم الوراثة جد قليل، بسبب أن رئيس الدير الذي تلاه أو عقَّبه أو والاه في رئاسة الدير لم يُقدِّر أهميته، إذ أن مندل Mendel بعد أن يفرغ من أبحاثه في علم الوراثة سوف يترقى إلى سُدة رئاسة الدير الأوجستيني ويُصبِح رئيس الدير وتقريباً يكف عن مُواصَلة أبحاثه العلمية التي فرغ من الجزء المُهِم منها، فهو سيُصبِح رئيساً للدير وسيكتب مُلاحَظاته ومُذكِراته وتبصراته المُختلِفة، وحين يموت يعقبه رئيس آخر للدير يُقدِّر أن سلفه لم يكن شخصاً مُهِماً، أي كان شخصاً عادياً إلى حد ما وبالتالي فلا أهمية ولا اعتبار لهذه المُذكِرات ولهذا الدشت من الأوراق وما إلى ذلك، ومن ثم كان يُطعِمها النار للأسف الشديد، وكان هذا تصرفاً غير مُوفَق بالمرة، ولذلك جريجور مندل Gregor Mendel إلى اليوم تتواصل المُحاوَلات الجادة لبعثه وإعادة إحيائه، حيث يبحث العلماء المُشتغِلون في هذا الشأن عن أي رسالة أو عن أي خطاب وجهه مندل Mendel إلى أحدهم أو عن أي مُراسَلات أو أي شيئ يتعلَّق به، ويحصلون فعلاً على أشياء تُساهِم في إضاءة جوانب خفية من حياة العالم الكبير، فهو كان راهباً ولكنه كان عالماً كبيراً، وقد مارس العلم في رهبانيته، لكن ماذا قدم مندل Mendel للعلم؟ وكيف توصل إلى ما توصل إليه؟ وما علاقة مندل Mendel بنظرية التطور أصلاً؟ هل التقى مندل Mendel بداروين Darwin مثلاً؟ هل قرأ نظرية التطور؟ نعم قرأ نظرية التطور، في تراث مندل Mendel الذي حُفِظ – بحمد الله – كُتب لداروين Darwin وفي رأسها أصل الأنواع، وعليها تهميشات وتعليقات بالموافقة أحياناً وبالنقد والنقض والتحفظ أحياناً أخرى بخط مندل Mendel، معناها ثابت يقيناً أن جريجور مندل Gregor Mendel قرأ داروين Darwin دون أي كلام أو نقاش هنا، فهذا ثابت، لكن هل قرأ داروين Darwin مندل Mendel؟ بعض الذين يغمزون قناة داروين Darwin يزعمون هذا لكي يحطوا من مصداقية الرجل، وفي الحقيقة ليس بين أيديهم على الإطلاق أي وثيقة أو دليل مادي يُمكِن أن يُعزِّز رأيهم هذا أو يشهد لموقفهم باستثناء أنهم وجدوا عملاً لمندل Mendel يبدو أنه المطبوعة الوحيدة التي طبعها وأرسلها إلى أربعين عالماً، ويبدو أن داروين Darwin كان أحد هؤلاء العلماء الذين خصهم مندل Mendel بأن يقرأوا علمه، ولكن حين وجد العلماء ورقة أو عمل مندل Mendel هذا في تركة داروين Darwin من الكُتب والأبحاث وجدوها بشكل ملازم لا تزال مُلتصِقة ببعضها، فالصفحات لم تُفتِح بعد، وهذا معناه بشكل واضح أن داروين Darwin لم يقرأ مندل Mendel، فلو قرأه على الأقل لفتح هذه الملازم المُلتصِقة، لكنه لم يفتحها ولم يقرأها، وقد حدثتكم عن طريقة داروين Darwin وكيف كان يقرأ وكيف كان يُمزِق الكتب وما إلى ذلك، فهو يقرأ قراءة درس لا يحترم معها حُرمةً لكتاب، فالمُهِم هو أن يفهم وأن يستوعِب، فهذا هو كل ما هُنالك وغاية ما هُنالك، ويُقال إن مندل Mendel – أيضاً هذا يُقال كدليل يحتجون به – ذهب في زيارة مع جماعة من الرهبان إلى إنجلترا، فلعله زار داروين Darwin هناك ورآه داروين Darwin إذن، فهو حري أن يبحث عنه وعن عمله، ولكن ليس بين أيدينا أيضاً أي دليل على أن مندل Mendel زار داروين Darwin في بيته في الداون هاوس Down House، لأن مندل Mendel كان مُجرَد راهب مُتواضِع غير معروف في القارة، بل غير معروف حتى في نطاقه الجغرافي الضيق هناك من الناحية العلمية ومن ناحية الإسهام العلمي، وهذا الرجل سيظل مجهولاً تقريباً بشكل شبه تام إلى سنة ألف وتسعمائة، أي بعد أن فرغ من عمله ونشره بخمسٍ وثلاثين سنة، فهو نشر ورقته في سنة ألف وثمانمائة وخمس وستين، وسوف تبقى هذه الورقة وهذا العمل العلمي الجاد المُحترَم مجهولاً لثلاثين سنة جائية، فهو كان غير مشهور إذن، أما داروين Darwin في تلكم الفترة التي زار فيها مندل Mendel ومُرافِقوه إنجلترا كان عالماً بعيد الصيت وعظيم الشهرة، فقد طبقت شهرته الآفاق في المملكة المُتحِدة وفي القارة بل وفي العالم الجديد، فما مِن عالم تقريباً إلا يعرف داروين Darwin لأنه أصبح مشهوراً جداً، وبالتالي لا تُوجَد في مُناسَبة بين داروين Darwin وبين مندل Mendel المُتواضِع البسيط، ولا يُوجَد عندنا أي شيئ يُشير إلى لقاء مُحتمَل بينهما، فلا يُمكِن أن نُؤكِّد على أن مندل Mendel ذهب إلى داون هاوس Down House والتقى بداروين Darwin، فهذا غير صحيح، وكل هذا تهويل بغير دليل، لكن ماذا فعل مندل Mendel؟ وكيف توصل إلى ما توصل إليه؟
باختصار لأن الموضوع تخصصي وفيه جوانب مُعقَدة وتحتاج إلى وقت طويل لبسطها وشرحها وتيسيرها نحن سنأخذ الشيئ الأساسي الذي يهمنا في فهم طبيعة تأثير المندلية – Mendelism – على النظرية التطورية فقط، وما زاد عن هذا ليس من مصلحتنا وليس ربما مما ينبغي أن نخوض فيه خوضاً مُستطيلاً، وعلى كل حال مندل Mendel اهتدى هكذا إلى أن يُجري تجاربه على نبتة مشهورة مُتواجِدة بكثرة في كل البلاد، ومن حُسن الحظ أن هذه النبتة لناحية أو لجهة التركيب الوراثي بسيطة التركيب وليست مُعقَدة التركيب، فجينومها جينوم – Genome – بسيط ومحدود، وهى نبتة البازلاء، حيث أجرى على نبتة البازلاء ألوف التجارب وألوفها على مدى ثمان سنوات تامة من الشغل جبار والشغل المُتواصِل والدؤوب والمُثابِر، لكن ما هذه التجارب؟ وماذا يُريد أن يعرف؟ هو أحب أن يختبر توريث صفات بأعيانها وكانت سبع صفات، فهناك سبع صفات أحب أن يعرف كيف يتم توريثها وأن يستخرج قوانين التوريث إن كان ثمة قوانين، ومن هذه الصفات مثلاً طول الساق وقصر الساق، وهل البذور مُجعَدة أم ملساء مُدوَرة؟ فهذه صفة مُهِمة، وكذلك لون الأزهار البازلاء وحجم الأوراق وإلى آخره من صفات مثل هذه الصفات، وبعد هذه السنوات سينتهي الرجل إلى نتائج ثورية تقفل باباً وتفتح باباً وتُغلِق مرحلة وتستشرف مرحلة جديدة في تاريخ العلم على الإطلاق، فالمرحلة السابقة كانت مرحلة قديمة تعود إلى ما قبل أرسطو Aristotle نفسه بمائة سنة وتمتد إلى أيام مندل Mendel، لكن ستنتهي هذه المرحلة، وهذا شيئ عجيب، فهذا الرجل سيضع حداً لنظريات ظللنا نستسلفها ونتوارثها ونُفكِر عبرها وعبر أُطر هذه النظريات هذه الفترة بطولها، أي من القرن الخامس قبل الميلاد إلى القرن التاسع عشر، يعني حوالي ألفين وأربعمائة سنة، ولكن هذا سينتهي كله مع أبحاث رجل واحد وراهب مُتواضِع طيب مغمور في بيرنو Brno في دير أوجستيني، وهذا هو شرف العلم وقوة الحقيقة الذي يجب أن ننتبه إليه، ولا يفهم هذا إلا العلماء ولا يُقدِّر هذا وينتشي به إلا العلماء، لكن الجُهلاء سيقولون لك منذ البداية “مَن أنت؟ أنت راهب، أنت رجل دين أصلاً، فما حجم عقلك إلى عقل ديكارت Descartes أو عقل أرسطو Aristotle أو سقراط Socrates أو داروين Darwin مثلاً؟ مَن أنت؟ اعرف قدرك ورَحِمَ اللهُ امرأً عرِفَ قدْرَ نْفسه” وهكذا، لكن العلم ليس فيه مثل هذا الكلام أبداً، فلو هذا المنطق كان يشتغل في عالم العلم ما اكتشفنا شيئاً وما اخترعنا شيئاً وما فهمنا شيئاً، تقول الآية الكريمة ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ۩، انظروا إلى هذه الآية العظيمة التي من المُمكِن الآن أن تُقتبَس ويُستشهَد بها، يقول الله ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ۩، فمن المُمكِن أن يتفضَّل الله – تبارك وتعالى – على إنسان فعلاً بسيط ومغمور مثل مندل Mendel بشيئ هكذا حجبه عن البشرية لألفين وأربعمائة سنة، فهو حجبه عن الفرس وعن الهند وعن الصينيين وعن العرب وعن اليونان وعن الأوربيين وعن كل الأجناس، وفتح به على هذا الرجل في هذه اللحظة من تاريخ العلم والفكر، لكن لماذا؟ حكمة الله، فلا ندري، هذا أمر الله تبارك وتعالى.
هناك مثلاً نظرية مشهورة بنظرية Preformation، لكن ما معنى Preformation؟ كلمة Preformation مُكوَّنة من جزئين، الجزء الأول هو Pre ويعني قبل، وهو بادئة طبعاً، والجزء الثاني Formation ويعني صياغة أو تشكيل، أي نظرية التشكيل المُسبَق أو سبق التشكيل، وهذه النظرية أرسطو Aristotle كان مخدوعاً بها، فأرسطو Aristotle كان يفترض أن في حيمن الرجل أو في ماء الرجل – الحيوانات المنوية للرجل – يوجد الطفل – سواء كان ذكراً أم أنثى – كاملاً، لكنع قزماً مُكثَفاً ومُختزَلاً وصغيراً جداً، ولذا لا تراه طبعاً بالعين، وفي رحم المرأة هناك بفعل دم الطمث – يقول أرسطو Aristotle – يبدأ ينتفخ هذا الطفل، أي أن هذا الطفل يكون صغيراً ثم ينتفخ فقط وفقاً لهذه النظرية، وهذه نظرية بسيطة وساذجة، لكن هكذا العلم يتطور، وهكذا هى نظرية سبق التكوين أو التكوين المُسبَق Preformation Theory.
هل تعرفون الهولندي أنطوني فان ليفينهوك Antonie van Leeuwenhoek؟ هذا الرجل جاء في القرن السابع عشر وقال “أرسطو Aristotle غالط، والنظرية صحيحة – Preformation – لكن هذا الولد الصغير لا يكون في الحيمن وإنما يكون في البوييضة – Egg Cell – الخاصة بالأم – علماً بأنني نبَّهت عشرات المرات طبعاً على أن من الأحسن أن نقول بوييضة وليس بويضة، فهل نحن نقول يبوض أم يبيض؟ نقول يبيض، وبالتالي إذن إسمها بوييضة، لو كنا نقول يبوض كما سنقول بويضة، فمن ناحية صرفية – أي من ناحية علم الصرف – هذا خطأ شائع – وليس في الحيمن، ومني الرجل يستحث هذا الكائن الصغير لكي ينتفخ ويكبر”، وفي الحقيقة لا أرسطو Aristotle على حق ولا ليفنهوك Leeuwenhoek وأمثاله على حق، فهذه نظرية فارغة، ومندل Mendel سيقول “هذه النظرية فارغة” وهذا شيئ عجيب، ما هذا ؟ كيف فهم مندل Mendel هذا ومن ثم قاله؟
أيضاً لدينا نظرية أصبحنا الآن مُتأنسين بها ونعرفها جيداً من خلال الحلقات وهى نظرية قابلية الصفات المُكتسَبة – Acquired – للتوريث، أي إلى أن تُورَّث، علماً بأن هذه النظرية كانت شائعة وتُنسَب طبعاً كثيراً لأحسن مَن دعمها في نظرية أوسع وهو جان باتيست دي لامارك Jean-Baptiste Lamarck صاحب النظرية الشهيرة في التطور، لكن بهذا المُحرِّك – Engine – بلامارك Lamarck وهو توريث الصفات المُكتسَبة، وهى نظرية الاستعمال والإهمال Use and disuse.
هذه النظرية أيضاً سوف تتلقى ضربةً قاتلة – لا أقول قاسمة وإنما قاتلة لأنها ستنهيها مرة وإلى الأبد – وعلى يد مندل Mendel أيضاً، وهذا شيئ عجيب، فهذا الرجل – كما قلت لكم – كان عجيباً، وتأثيره كان كبيراً جداً، أكبر مما ظن هو، وهو حدس بأنه أتى بعمل مُهِم وكان يعرف هذا، وله تجارب واضحة واستخلاصات دقيقة من ألوف ألوف التجارب، فهو علم أنه توصل إلى شيئ عظيم، علماً بأننا سنذكر الآن شيئاً بصدد هذا الشيئ.
لدينا نظرية ثالثة وأيضاً ستتلقى ضربة قاضية وهى نظرية شمولية التكوين Pangenesis، هذه النظرية كانت لأبي الطب والطبيب اليوناني الكبير السابق زمنه على زمن أرسطو Aristotle نفسه الذي يُسميه العرب بأبُقراط وهو Hippocrates، فنظرية شمولية التكوين مشهورة من أيام أبي الطب ومُؤسِّس الطب الأغريقي أبُقراط، وتشارلز داروين Charles Darwin اقتنع بها بعد أن أثبت له فليمنج جنكين Fleming janken أن نظرية الوسائط أو المُتوسِطات أو النظرية المزجية – طويل مع قصير يأتي لنا بمُتوسِط، وأسمر مع أبيض يأتي لنا برمادي Gray، ولذلك يُسمونها بنظرية المُتوسِّطات، وتُسمى بالنظرية المزجية، وذلك من خلال امتزاج الصفات السارية في خطوط الدم، فهم يظنون أن الدم يحمل الصفات، وهذا كلام فارغ، فالدم لا علاقة له بالوراثة أبداً، لا من قريب ولا من بعيد – أنها خاطئة، ف المُهندِس الإلكتروني الكبير جنكين janken – كما قلنا – سدد نقداً قوياً جداً، ومن ثم اضطر داروين Darwin أن يتنازل عنها ويتراجع واعتصم بنُسخة مُعدَّلة – عدلها هو وبسطها – من من نظرية شمولية التكوين Pangenesis، علماً بأنني شرحت لكم
الـ Pangenesis باختصار، حيث كان يرى داروين Darwin – وقد نشر هذه النظرية في كتاب من جُزئين – ويعتقد – هناك كلام كثير وصفحات كثيرة، والنظرية كلها خطأ وكلها غلط، لكن هذه كلها مُحاوَلات – يعتقد أن كل خلية من الخلايا تُرسِل بُريعمات، وهذه البُريعمات صورة مُصغَرة منها – أي من الخلية – طبعاً، ثم تذهب هذه البُريعمات كلها إلى المناسل، لكن ما معنى المناسل؟ المبايض عند المرأة والخصي عند الرجل، فهذه تُسمى المناسل التي تذهب هذه البُريعمات إليها، علماً بأن الجسم فيه خلايا كثيرة جداً وذلك قال أن كل خلية تبعث بُريعم، وهذا البُريعم صورة منها، ولكن هذا افتراض تأملي وليس علماً تجريبياً وإنما تأمل وافتراض، فداروين Darwin يتأمَّل ويقول هذا، وإلا كيف يُمكِن أن يقوله؟هذا لم يخطر على باله أصلاً، كيف يُمكِن أن تكون هذه المسألة إلا بهذه الطريقة؟ على كل حال تجتمع كل هذه البُريعمات لتُشكِل صورة أخرى مُصغَرة من الإنسان كما قال داروين Darwin، فهذه صورة من كل خلية لأنها تبعث هذا المُفوِض أو هذا البُريعم، لكن جاء مندل Mendel وقال “هذا كلام فارغ” وهذا شيئ غريب، فكيف أثبت هذا؟ وعن طريق ماذا؟ وما هى القوانين التي انتهى إليها مندل Mendel؟ سوف نرى الآن، فمندل Mendel أول ما بدأ بدأ بتهجين – Breeding، أي استنسال، فأنا أُحِب أن أُسمي التهجين بالاستنسال، أي استخراج نسل وذُرية Offspring جديدة، فهذا أفضل في تسمية الـBreeding – نبتتي بازلاء لأن هذه النبتة لها صفات مُعيَّنة، وطبعاً كان حريصاً على أن تكونا النبتتين أصيلتين، لكن ما معنى أنه كان حريصاً على أن تكونا النبتتين أصيلتين؟ أي نقيتين، لكن قد يقول أحدكم كيف عرف هذا؟ وبدوري أقول له يُمكِن أن تعرف هذا من غير ما تجري تجارب كثيرة جداً، وذلك بأن تأتي إلى نبتة مُعيَّنة وترى مثلاً صفات مُحدَدة وترى الجيل الأول والجيل الثاني، فإذا كانت تأتي نفس الصفات باستمرار اعلم أن هذا النبات أصيل، علماً بأن الآن غير واضح عنده طبعاً فكرة السائد والمُتنحي، فهذا ليس على باله، ولكن واضح أن النبات دائماً يأتي بنسخ طبق الأصل منه، فإذن هذا أصيل في صفاته أو أصيل في هذه الصفة المدروسة ونقي، وعلى كل حال هو بعد ذلك سيُسمى النبات أو الكائن طبعاً أو الفرد أياً كان – نباتاً كان أو حيواناً – بالأصيل أو النقي أو مُتماثِل الزيجوت Homozygous أو مُتماثِل اللاقحة، علماً بأن الزيجوت Zygote يسميه العرب اللاقحة، فهو سماه بمُتماثِل اللاقحة ومُتماثِل الزيجوت Homozygous، وليس عندنا مُشكِلة في هذا، فهو أتى بنبتتى بازلاء أصيلة في صفة لنفترض أنها صفة البذرة أن تكون ملساء مُدوَّرة، وهجَّنها مع نبتة أخرى أصيلة – أي نقية – خالصة في البذرة وفي صفة البذرة المُجعَدة، فكل هذا النسل والأجيال دائماً تأتي ببذور مُجعَّدة باستمرار، إذن وضح أنه نقي بدون أي كلام بعد أن هجنهما، والنتيجة الآن كالتالي: فأول جيل First Generation – في علم الوراثة يُرمَز له بـ (F1) – كان كل أفراده عندهم هذه البذور الملساء المُدوَّرة، وهذه ظاهرة غريبة، مع أنه أحد النبتتين بذورها مُجعَّدة، ولكن لا يُوجَد أي نصيب للتجعيد هنا، فأين ذهب التجعيد إذن؟ قد يكون امتزج، قد تكون صفة التجعد وعدم تمام الاستدارة امتزجت وزوت في صفة الاستدارة والملاسة وقد تكون اختفت، وسوف تُطِل برأسها فيما بعد، الله أعلم إذن، فهذا كله مُمكِن، ولكن ماذا نفعل الآن؟ نستمر في إجراء التجارب، فهو أخذ الآن نبتة من الجيل الأول التي هى ملساء البذرة مع نبتة أخرى من الجيل الأول ملساء البذرة وهجَّنهما – عمل Breeding – معاً، والآن النتيجة اختلفت، حيث وجد ثلاثة من الجيل الجديد ببذور ملساء مُدوَّرة وواحد ببذرة مُجعَّدة، ومن ثم بدأ يفهم، وتقريباً سوف تبقى هذه النسبة – Ratio – دائماً ثابتة، فسوف تبقى ثابنة بنسبة ثلاثة إلى واحد، وطبعاً هو عنده دراسات مُعمَقة أكثر من ذلك ولكنه قال “أنا أُريد أن أختبر انتقال صفتين وليس صفة واحدة، فمثلاً نفترض صفة طول الساق – وبالتالي قصر الساق طبعاً لأن الطول مع القصر – زائد صفة لون الزهرة، فأنا أُريد أن أرى نتيجة هذه الزهرة البيضاء أو قرمزية ونتيجة زهرة البازلاء” وطبعاً لو كان عندنا أي بسطة في الوقت لشرحنا هذا ورسمنا، فهذه عملية سهلة جداً وجميلة، ويُمكِن أن نفعل هذا بسهولة عبر ما يُعرَف بمُرَبع بانيت Punnett Square، فهى عملية سهلة جداً جداً وتستطيع أن تعرفها وحدك وأن تستخلص النسب، لأنها عملية سهلة بل في مُنتهى السهولة، والفضل بعد الله لمندل Mendel في ذلك، فهو الذي علَّمنا هذا، لكن ليس عندنا الوقت الكافي لفعل هذا، فتستطيعون أن تقوموا بهذا وحدكم بسهولة، فهو على كل حال عمل هذا واستخلص الأمشاج – الجاميتات Gamets – من هنا ومن هنا، علماً بأن هذا سوف يكون أكثر تعقيداً طبعاً، وسوف يكون لدينا مُرَبع بانيت Punnett Square من ست عشرة خانة الآن، وتستطيع أن تفعل هذا طبعاً، وكانت النسبة تسع إلى ثلاث إلى ثلاث إلى واحد، ثم ترجع لتُعيد توضيب هذه النسبة بحسب السائد والمُتنحي، وسوف تكون في النهاية نفس الشيئ بنسبة ثلاث إلى واحد، فهى ستبقى دائماً ثلاث إلى واحد، وحتى إذا اختبرنا توريث أكثر من صفة – أي اختبرنا صفتين معاً وليس صفة واحدة – سوف تكون النسبة ثلاث إلى واحد في نهاية المطاف، فهذه التجارب وهذه الأشياء لاحظها هذا الرجل وبدأ الآن يستخلص القوانين والمبادئ الفاعلة في هذا العالم – عالم الوراثة – الآن، وهذا هو المُهِم طبعاً، فهو عالم عجيب طبعاً!
في القرن السادس عشر للفيلسوف الفرنسي الشكَّاك ميشيل دي مونتين Michel de Montaigne – أكيد سمعتم عنه أكثر من مرة، فقد تحدَّث عنه في خُطب الجمعة أكثر من مرة – كلام من أجمل ما يكون، وقد تحدَّث فيه عن الوراثة، لكن الحديث عن اللغز وعن السر وعن السحر، وكان من الواضح أنه يتحدَّث بعقلية عالم وبمزاج عالم، على أنه كان فيلسوفاً شكّاكاً وُمفكِراً ولم يكن عالماً، فكان يستغرب ويطرح أسئلة جميلة جداً بصدد علم الوراثة لأنه يُريد أن يفهم لماذا يحصل هذا وكيف يحصل هذا، أبوه – مثلاً – عانى من مرض ما، وهذا المرض لم يظهر على أبيه إلا بعد أن جاوز الخامسة والأربعين لكنه يقول: هذا ظهر عليه بعد الخامسة والأربعين، فلماذا أبتُليت به أنا منذ الصغر؟ كيف انتقل لي؟ ما القصة؟ لأن هذا المرض قد يكون أتى لأبي من البيئة مثلاً – هو هكذا افترض – فلماذا أنا أوُلَد به وأُعاني، في حين أن سائر إخواني لم يُعانوا منه؟
فكان يطرح ميشيل دي مونتين Michel de Montaigne أسئلة ذكية جدا، وتستطيع أن تقرأها الآن ومن المُمكِن أن يقرأها أي إنسان في أولى ثانوي ويقول وهو مُشفِقاً على الرجل “الجواب عندي” ولكن الجواب عند مندل Mendel في الحقيقة وعند خلفاء مندل Mendel، نحن مُجرَّد أُناس استوعبنا هذا التراث أو استوعبنا القليل جداً منه، لكن هذا فضل العلم وفضل العلماء، فمندل Mendel استخلص أول شيئ هام الاستخلاصات وهو التالي: قال “توريث الصفات أو الخِلال أو السمات – Traits – يتم ليس عن طريق خطوط الدم والامتزاج والفانتازيا – Fantasy – العلمية وهذا الكلام الفارغ أبداً، وليس عن طريق بُريعمات تحكي أو يحكي كلٌ منها خليته التي تبرعم منها – Pangenesis – أبداً، وإنما يتم توريث السمات عن طريق عوامل – هو سماها هكذا بالعوامل Factors – وراثية”، وكما تعلمون ستُسمى هذه بدءاً من عام ألف وتسعمائة وتسعة بالجينات Genes طبعاً، لكن هو لم يُسمها بالجينات Genes وإنما قال أنها عوامل التوريث، وهذه العوامل مثل النظام الرقمي الديجيتال Digital الآن، فما أن تفعل وإما ألا تفعل، فلا مكان لقصة الامتزاج هنا والفعل بطريقة التوسط والخلط، فهذا ليس صحيحاً، أي إما أن تفعل ويظهر أثرها وإما ألا تفعل ولا يظهر أثرها، فتكون النتيحة إما واحداً أو صفراً – Zero أو None – فقط، وهذا معناه حين تُمرَر هذه العوامل وتتحكم في الصفات وإظهار الصفات أنها تُمرَر سليمة كما هى، فهى تُمرَر سليمة غير مُخفَفة أو ممزوجة، أي جواهر صغيرة فردة لا تتجزأ، وهذا هو الصحيح، والجين Gene لا يعمل إلا بهذه الطريقة، فلا يُمكِن أن تأخذ نصف جين Gene أو ربع جين Gene وتخلطه مع ربع جين Gene آخر وتقول سوف يحدث كذا وكذا، فهذا غير صحيح، ومن ثم نكون دخلنا في الطفرات ودخلنا في الخلط، لكن على كل حال العوامل الوراثية تعمل – كما قلت – وتمر سليمة، وهى إما أن تعمل وإما ألا تعمل، وهذا كان تبصراً هائل الأهمية من مندل Mendel.
أيضاً أدرك جريجور مندل Gregor Mendel أن كل صفة من الصفات يتحكم فيها عاملان وراثيان – فهمنا الآن ما هو العامل الوراثي – وليس عاملاً واحدا، لكن كيف هذا؟ هو فهم – وأيضاً هذا كان سابقاً لأوانه – أن كل صفة من الصفات يتحكم فيها أليلان 2 Alleles، لكن ما هو الأليل Allele؟ الأليل Allele هو الجين Gene كما نُسميه نحن الآن، ولكن هذا مأخوذ من حيمن الأب، والأليل Allele الأخر مأخوذ من بوييضة الأم، وليس شرطاً أن يكونا مُتطابقين تماماً، فمن المُمكِن أن يتطابقا وان يتماثلا، ومن المُمكِن أن يختلفا، وسوف نفهم بعد قليل أن لدينا مثلاً الصفات تأتي في شكل أزواج، كالعيون العسلية – مثلاً – أو العيون الزرقاء، والشعر الأشقر أو الشعر الأسود، والقامة الطويلة أو القامة القصيرة، فلنفترض مثلاً هذه الأزواج الآن، وطبعاً هناك صفات ثلاثية، ومن ثم قد ندخل في وراثة غير مندلية، فهناك شيئ ثانٍ طبعاً إسمه الوراثة غير المندلية، فمندل Mendel لم يكتشف هذا العلم كله بضربة واحدة، ولكن هو أسس له ونهج طريقه بشكل واضح ثم بعد ذلك تتالت الخطوات، قلدينا علم كامل إسمه علم الوراثة غير المندلية، وعلى كل حال نفترض الآن أن الصفة الاول هى صفة الطول، وللتسهيل يُرمَز في علم الوراثة دائماً للصفة بأول حرف منها، فمثلاً صفة الطول سنرمز لها بحرف (T) لكن Capital، أي حرف (T) ولكن كبير أو مُكبَر، والصفة الثانية الآن هى صفة القصر، ويُرمَز لها بالحرف ذاته وهو حرف الـ (t) ولكن Small Letter، فهذا حرف (T) كبير وهذا حرف (t) صغير، فمُمكِن أليل Allele الأب يكون (T) كبير، أي الطول، وأليل Allele الأم يكون (T) كبير أيضاً، وفي هذه الحالة يقول مندل Mendel قطعاً سوف يأتي الناتج والذُرية طوالاً بدون أي كلام، لوجود حرف (T) كبير مع حرف (T) كبير، ولو كان حرف (T) كبيراً، أي أن أليل Allele الأب – مثلاً – كان يُمثِّل حرف ((T Capital لكن كان أليل Allele الأم يُمثِّل حرف (t) Small، أي جاء من الأم أليل Allele (t) صغير، فهى ساهمت بهذا الأليل Allele إذن، فكيف يأتي الولد؟ يأتي طويلاً أيضاً، فقال هذا معناه أن الكبير دائماً الذي سيكون رمزاً للصفة المعروفة بالصفة السائدة – أتت كلمة السائد Dominant من كلمة السيادة والهيمنة والسيطرة Dominance – هو الطول – يقول هذه صفة سائدة أو أليل Allele سائد أو جين Gene سائد – أما الصفة غير سائدة فهى القصر، ونفس الشيئ يحدث الآن لو أخذنا مثالاً على البشر، أي علينا أنفسنا، فنحن فينا صفات سائدة وفينا صفات مُتنحية، وقد يتساءل أحدكم الآن قائلاً كيف عرف هذا؟ لكن هذه مسألة مُعقَدة وهى تُعرف بالاستقراء، فالصفات التي نراها أكثر في الناس تكون دائماً سائدة، والصفات التي تظهر في الناس أقل تكون هى الصفات المُتنحية، فحين تنظر في أعين الناس هل تجد أن اللون العسلي هو السائد أم اللون الأزرق؟ واضح أن العسلي هو السائد طبعاً، وبالتالي هذه هى الصفة السائدة إذن، فإذا قال لك أحدهم أي الصفتين سائد وأيهما مُتنحي: اللون العسلي أم اللون الأزرق؟ قل له العسلي طبعاً لأنه سائد أكثر، وكذلك الحال مع الطول والقصر، فهل أكثر البشر شبه قصار وأقزام أم أن طولهم يُعَد معقولاً؟ طولهم يُعَد معقولاً، وبالتالي الطول هو الصفة السائدة في البشر إذن، والقصر هو الصفة المُتنحية Recessive، علماً بأن هذا إسمه الصفات السائدة والصفات المُتنحية Dominant And Recessive Traits، فكلمة Recessive تعني مُتنحي، وعلى كل حال هذا ينطبق أيضاً على الكثير من الصفات مثل الشعر، فهل السائد هو الشعر المُجعَّد أم الشعر الأملس الناعم؟ الشعر المُجعَّد لأن أكثر شعر الناس يكون مُجعَّداً وأقله يكون أملساً ناعماً، فإذن المُجعَّد هو السائد والناعم عو المُتنحي في علم الوراثة، وهذا أمر معروف بالاستقراء، وطبعاً هناك كتب ضخمة – قد تصل عدد الصفحات إلى ألف صفحة – أُلِفَت في الستينيات عن هذا، ومن ثم سُدَّ هذا الباب، ولك أن تتخيَّل هذا، وهذه الكتب تتحدَّث تقريباً عن كل الصفات وبنسب ودراسات في علم الوراثة، فهذا شيئ عجيب وتخصص كبير، علماً بأن الآن لا يُوجَد علم وراثة واحد وإنما تُوجَد علوم تُسمى بالوراثيات، فهذه أصبحت علوماً كثيرة جداً جداً، وعلى كل حال لا علينا من هذا، نرجع الآن إلى موضوعنا، فهل من الصفات السائدة في البشر – مثلاً – كثافة الشعر أم خفة الشعر؟ أي هل يكون الشعر كثيفاً فعلاً فيملأ الرأس أم يكون خفيفاً وقريباً من الصلع؟ يكون كثيفاً طبعاً، فالكثافة صفة سائدة والخفة صفة مُتنحية، وكذلك الحال مع شحمة الأذن، ففي بعض الناس تجدها مُلتحِمة غير حرة وهذه صفة مُتنحية، وتأتي شحمة الأذن أيضاً حرة غير مُلتحِمة عند الكثير من الناس فتكون صفة سائدة، وكذلك قدرة الإنسان على أن يلوي لسانه ويُدوِّره ويجعله كهيئة الأنبوب، فهذه صفة سائدة، لكن بعض الناس يعجز عن هذا ويقول كيف تأتي؟ كيف تفعلون هذا؟ لأنه لا يقدر على أن يفعل هذا، وهذا لا يأتي بالتدريب، فهو ليس عنده هذه الصفة وليس عنده هذا الجين Gene، فإذن الذي عنده هو الجين Gene المُتنحي وبالتالي الذي يشتغل هنا هو المُتنحي، فهو ليس عنده الجين Gene السائد، وبالتالي لا يقدر على أن يلوي لسانه ولو أعطيته ألف يورو Euro، فلن يستطيع لأنه صعب جداً عليه، وبالتالي لي اللسان وجعله مثل الأنبوب – أي كهيئة الأنبوب – صفة سائدة إذن، فمُعظمنا يستطيع أن يفعل هذا، وعدم القدرة على ذلك هى صفة مُتنحية، والقائمة طويلة طويلاً طبعاً، لكن ها هو السائد وهذا هو المُتنحي، علماً بأن كلمة السائد هى إسم على مُسمى، فالسائد هو الذي يسود ويُهيمن، ومن هنا يُقال لنا – مثلاً – الهيمنة الأمريكية، فهذه هيمنة الصفات إذن، ومن ثم السائد هو الذي يُريد أن يهيمن، لكن هذا المُتنحي المسكين يُسمى الصاغر، فكلمة الـ Recessive تعني أيضاً الصاغر، فهو يُراد به الصاغر والمُتنحي والمُخبَّأ والكامن، فالمعنى واحد، وعلى كل حال هذا الـ Recessive يُريد أن يتخبأ ولا يظهر، لكن متى سوف يظهر هذا المسكين؟ أليس له حظ؟ سوف يكون له حظ إذا اجتمع Recessive مع Recessive، أي أليلان – 2 Alleles – مُتنحيان، فالصفة المُتنحية لا تظهر إلا باجتماع أليلين – 2 Alleles – مُتنحيين، أي لابد من (t) Small مع (t) Small، أي كلاهما ـ Both – لابد وأن يكون Small، وبالتالي في هذه اللحظة سوف يأتيك الولد قصيراً أو يأتيك بأي صفة مُتنحية أُخرى، بحسب الصفة المُتنحية.
هذا كله لاحظه مندل Mendel وفهمه وسجَّله، ثم صاغه فيما بعد في شكل قوانين، فيُقال لك القانون الأول والقانون الثاني والقانون الثالث عند بعض العلماء وفي بعض الكتب الجامعية أو المدرسية.
أدركنا الوقت، نكتفي في هذه الحلقة بهذا القدر، فإلى أن ألقاكم في حلقةٍ مُقبِلة السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
(تمت المُحاضَرة بحمد الله)
أضف تعليق