إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ونجيبه من عباده. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سبحانه ومخالفة أمره، لقوله جل من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.
ثم أما بعد/
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/
يقول الله جل مجده في كتابه العزيز، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ *
صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين، اللهم آمين.
إخوتي وأخواتي/
هذه فرصة جديدة، وهي نعمة جزيلة ومنة جسيمة من رب العباد، لا إله إلا هو! أن عمّرنا حتى أدركنا بحوله وفضله رمضان جديدا! ونسأل الله تبارك وتعالى بمنه وكرمه ألا يجعله آخر رمضان، وأن يجعل ما يتلوه من رمضانات خيرا منه وأبرك وأزيد في الخير والبر وأنفع، إلى أن نلقاه، وقد رضي عنا أتم الرضا، بفضله ومنه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، لا إله إلا هو!
إخوتي وأخواتي/
حقيق وجدير بنا أن نستثمر هذه الفرصة العظيمة الجليلة؛ لكي نُعيد ترتيب أنفسنا، توضيب أحوالنا كما يُقال! لكي نُعيد توضيب أحوالنا، وترتيب أنفسنا.
لا نُريد أن نُمعن في المواعظ والنفس المواعظي بالطريقة المُعتادة، التي لا تخلو من خير، إلا أنها ربما تُضيع كثيرا من إمكانات هذه الفرصة، أن نستفيد منها على النحو والوجه اللائق بجسامتها، نعمة ومنة من الله، لا إله إلا هو! لا نُريد أن نُفيض إذن في هذه الروحية المواعظية، التي لا تفعل أكثر من أن تُذكّرنا بما نعرف وبما سمعنا مئة مرة وألف مرة في كل عام وفي كل موسم رمضان. لا نُريد أن نختط هذه الخُطة!
لنعمد مُباشرة إلى جوهر الموضوع؛ لِمَ نصوم؟ لِمَ كان الصيام؟ لِمَ كان الصيام أصلا؟ هل بالله تبارك وتعالى من حاجة إلى إشقاء وإعنات وإيلام عباده المُكلفين؟ حاشاه وكلا! مُستحيل، أبدا! إذن لا بُد أن تكون ثمة أسرار عظيمة وثمة عوائد ومنافع جليلة من وراء هذه العبادة الكبيرة! التي مَن لم يُحسن الفهم عن الله فيها، حكمة ومقصدا، ضيع الكثير من فوائدها، وأهدر الكثير من عوائدها. ونسأل الله ألا نكون منهم.
إخوتي وأخواتي/
ربنا تبارك وتعالى أشار إلى عدة حكم وإلى جُملة مقاصد من هذه العبادة. المقصد الأعظم والأكبر، وهو مقصد العبادات طرا؛ التحقق بالتقوى، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *. كل العبادات مقصدها الأكبر هو التحقق بالتقوى، ويا لها من فائدة! ويا لها من نعمة! التقوى!
أيضا ذكرت الآيات أن من مقاصد هذه العبادة الجليلة – إخوتي وأخواتي -؛ الانتصار على النفس. وهذا ما سنخوض فيه! الانتصار على النفس! وإليها الإشارة اللطيفة بقوله تبارك وتعالى وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ *. تكبير هنا! يقولون تكبيرات الفطر. نعم، لكن لماذا؟ لماذا كانت التكبيرات في الفطر؟ لماذا؟ نُكبر على ماذا؟ نحن نُكبر مُنتصرين! أعظم انتصار يُحققه الصائم، هو الصائم الذي تحقق بجوهر الصوم، وانتصر على نفسه، انتصر على جوانب الهشاشة والضعف والسخافة في نفسه، ويا ما أكثرها فينا جميعا! لا أستثني أحدا، ولا نفسي، لا أستثني أحدا! إذن حكمة جليلة.
حكمة أُخرى مقرونة بها في السياق نفسه، بل في الآية ذاتها؛ الشكر، التحقق بشكر المولى، لا إله إلا هو! على أن النبي الأعظم الأبر الأطهر – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله – ذكر أن هذا الشهر الكريم هو شهر الصبر. وبلا شك أن الصوم آية من آيات الله في التحقق بالصبر. الطريق المُثلى، السبيل الأجل – أيها الإخوة – والأوثق والأضمن، للتحقق بالصبر، على الأقل في وجه كريم من وجوهه، في وجه كريم من وجوه هذا الصبر! وهو شهر الصبر. في حديث سلمان الفارسي، عند ابن خزيمة وغيره.
وشهر المواساة. أيضا من حكمه؛ المواساة. أن ينظر الواجد للمُعدم الفاقد، أن ينظر الغني للفقير، أن ينظر المُترف للمُترب – أيها الإخوة -. مواساة! حكم كثيرة، ما أجل هذا الشهر! ما أعظم هذا الشهر! وما أعظم ضياع وخيبة وخُسران مَن لم يستفد منه، ولم يستق منه بالإناء الأوفى!
ولذلك ثمة حديث صححه بعضهم، وظاهره شديد قاس، أن جبريل لعن على المنبر ثلاثة، والنبي يؤمن، ومنهم؛ لعنه الله مَن؟ النبي يقول آمين. مَن هو؟ مَن أدرك رمضان، ولم يُغفر له. ملعون! ومعنى ملعون مطرود من رحمة الله. إن لم يُرحم – يقول جبريل – في رمضان، فمتى سيُرحم؟ وفعلا! إذن الحديث له وجه، وإن كان شديدا، لكن له وجه! لأن هذا موسم المغفرة، موسم الكرامات والإلطافات والعطاءات الإلهية! إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها، وسلوا الله تبارك وتعالى أن يستر عوراتكم وآن يؤمن روعاتكم. اللهم استر بفضلك ومنك وكرمك عوراتنا وعورات المسلمين أجمعين وآمن روعاتنا، يا رب العالمين.
هذا من أعظم أيام الله! هذه الأيام وهذه الليالي من أعظم أيام الله وليالي الله. موسم المغفرة، موسم العطاء، موسم الجود، موسم الكرم، موسم الإتحاف. ولذلك كان نبيكم – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله – أجود الناس! في حديث ابن عباس في صحيح مُسلم، كان أجود الناس، بلا شك هو أجود الناس، ولكنه إلى ذلكم، كان إذا كان رمضان – يقول ابن عباس -، فلهو أجود بالخير من الريح المُرسلة. جبريل كان يُعارضه بالقرآن – أيها الإخوة -، وبالذات في رمضان. وطبعا في السنة التي تُوفي – صلوات ربي وتسليماته عليه – عارضه مرتين.
فكان إذا لقيه جبريل – يقول ابن عباس -، لهو أجود بالخير من الريح المُرسلة. لماذا؟ نعم طبعا، هذه المجالس الملكوتية الصمدانية، بلا شك ينفتح بها وفيها نوافذ على غيوب الله، على كرامات الله، على عطاءات الله، تهون الدنيا وما فيها في ناظر رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، لذلك يكون أجود بالخير من الريح المُرسلة. لست رسولا، ولا يُوحى إليك وإلي، ولكننا آمنا بالرسول وبرب الرسول، فلا بُد أن نُسلم بهذا ونقطعَ على غيبه، كمَن قد رأى وقد سمع. اللهم اجعلنا كذلك.
فجدير بنا أن نُواسي، وأن نرضخ، وأن نُعطي. جدير بنا أن نُواسي، وأن نرضخ، وأن نُعطي! وليس أقل من أن نُعطي ونجود بما نُوفره من طعامنا وشرابنا. وبلا شك أن الصائم، الذي تحقق بظاهر الصيام، لا بُد أن يُوفر الكثير في شهر رمضان، في ثلاثين يوما، هو وأهله، من طعامهم وشرابهم. ولا تُحدثوني عمَن يزيدون شرها وشبعا وانتفاخا في رمضان! هؤلاء لا صاموا، ولا فهموا. وهؤلاء كمَن قال فيهم إمامنا حُجة الإسلام الغزّالي كمَن بنى قصرا، وهدم مصرا – والعياذ بالله -.
والعجيب أن من المسلمين مَن لا يسمن ولا يزيد وزنه، إلا في رمضان! شيء غريب! كأنه ينتقم، كأنه ينتقم من الغذاء والطعام والشراب، الذي منعه منه شرع الله تبارك وتعالى سحابة نهار، سحابة نهار! فهو يمتلئ ويتشبع، إلى فوق الحد المُعتاد له في عادة أيامه، شيء غريب! هذا جهل، جهل بالغ يا إخواني.
طبعا وما أجهل من هؤلاء، إلا مَن يُضيع نهارات رمضان وليالي رمضان، في الحزازير والفوازير والمُسلسلات والأفلام والمُشاهدات والمقاهي والمجالس والمُجالسات! أحمق خاسر، أحمق خاسر! للأسف هؤلاء الحمقى الخُسر – هكذا سأجمعها، في مُقابل الكُمل، الذين بلغوا في الكمال غاية بعيدة، هؤلاء خُسر! هؤلاء الحمقى الخُسر – للأسف ليسوا قليلين. لا أُريد أن أقول هم كثيرون، لكن ليسوا قليلين في أمة محمد.
ولذلك هم الذين بسبب أموالهم ومُتابعاتهم وحماقتهم تمتلئ جيوب الذين يشغلون أمة محمد في هذه الأيام المُفترجة وفي هذه الليالي المُرتجاة، بهذه السخافات التي ذكرت، من حوازير وفوازير وأشياء، سُبحان الله! يغتنون، هؤلاء يغتنون في شهر رمضان؛ لأنهم يجدون جمهورا وفيرا وغزيرا وكثيرا، يتلمظ تلمظ الجائع إلى الطعام – أيها الإخوة -، على هذه السخافات! في رمضان؟ ما شاء الله! تبارك الله! ما شاء الله! تبارك الله!
لم يكفهم أحد عشر شهرا، أن يكونوا شاردين بعيدين وسادرين هائيمن، أرادوا أن يزدادوا سدورا وهياما وبعدا وضياعا في رمضان. نعوذ بالله من الخُسران، ونعوذ بالله من الضلال، ونعوذ بالله من عمى الأبصار والبصائر. فانتبهوا يا أحبتي! انتبهوا يا إخوتي وأخواتي!
الإمام مالك بن أنس – رضي الله تعالى عنه وأرضاه -، إمام دار الهجرة. ومَعروف مَن، أي معروف مَن مالك، يا ليتنا نلقى الله بواحد من ألف من عمله الصالح! الإمام مالك، وهو مَن هو! يكفي أنه أحد أئمة الإسلام، الذين وعلى مبعدة ألف وأربعمائة سنة تقريبا، لا يزال قطاع كبير من أمة محمد، يتعبد الله ويدين الله بفقهه ودلالته على الله. فهذا هو مالك! هذا هو مالك! ليس مُجرد عالم ولا فيلسوف ولا مُفكر ولا واعظ، إمام! ملايين، مئات الملايين ربما، من أمة محمد، تدين الله بفقهه وعلمه إلى اليوم. فكم في موازينه! فكم في موازينه من صالحات! رضي الله عنه وأرضاه.
يقول مَن ترجم له كان الإمام مالك إذا دخل رمضان، ترك مجالس العلم – بلا علم، بلا تدرس -، ونفر من الحديث. الله أكبر! نفر من حديث رسول الله؟ حتى من الحديث. ما هو؟ إن هو إلا القرآن. رمضان قرآن، انتهينا! لا مجالس، لا حلال، لا حرام، لا مواعظ، لا دروس، لا فلسفات، قرآن! ليل نهار قرآن.
ولذلك لا تعجبوا من هؤلاء الأئمة؛ الأئمة الأربعة، وأمثال الأئمة الأربعة، ومَن مثلهم؟ إلا القليل، القليل، النادر، اليسير – أيها الإخوة -! كانوا يختمون في رمضان ستين ختمة، ومنهم مَن يختم تسعين ختمة، بمُعدل ثلاث ختمات في اليوم والليلة، شيء لا يكاد يُصدق! وبعضهم يختم أكثر من ذلك، وأقل من ذلك، بحسب ما يفتح الله تبارك وتعالى.
لكن موضع الشاهد، وموضع العبرة اللافت الهاز المُقلقل؛ نفر من الحديث، وترك مجالس العلم، ولزم القرآن. يقول الراوي يقرأه من المُصحف. وكذا كان سُفيان الثوري، وابن عُيينة، وأبو حنيفة، وكثيرون كانوا كذلك! ينقطعون. موسم هذا، هم يعلمون! مَن تقرب فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمَن أدى فريضة فيما سواه. ومَن أدى فيه فريضة، كان كمَن أدى ستين – في رواية – فيما سواه – إن لم تخني الذاكرة -. شيء لا يكاد يُصدق! وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء *، والله غفور شكور، لا إله إلا هو! هو شكور، شكور، عز وجل، يشكر! ولا حد لشكره، إن شكر، مَن يدري! فلماذا نُضيع؟
ولنبدأ بأول هذه الحكم – أيها الإخوة – العميقة الجليلة؛ صدقوني، صدقوني الرجل الواعي، الذي أوتي شيئا من الحكمة، وَمَن يُؤْتَ ٱلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ *، هو ينتظر ويرتقب رمضان ترقبا وانتظارا، بل قد ورد على ما أذكر فيما ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمة الله تعالى عليه -، أن السلف الصالحين – رضوان الله عليهم -، كانوا يدعون الله نصف العام؛ ستة أشهر، أن يُبلغهم رمضان، ألا يقبضهم قبل رمضان، من أجل رمضان! ليس من أجل الحياة والعمر، طبعا وبالحري ليس من أجل المُسلسلات والفوازير والمقاهي والجلسات الخارجية، أبدا! من أجل رمضان.
فكانوا إذا أُسعدوا بإدراك رمضان، وأدوا ما يسر الله تبارك وتعالى وقيض لهم من وجوه الخير والبر، مكثوا بعد رمضان ستة أشهر يدعون الله تبارك وتعالى أن يتقبل منهم ما عملوا في رمضان! لأنه كثير، يعملون الكثير ويُعطون الكثير. ستة أشهر يدعون الله أن يتقبل منهم ما عملوا في رمضان!
يكفي أن فيه ليلة القدر، التي هي خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍۢ *. ليلة واحدة! هنيئا لك، إذا أُسعدت ووُفقت إليها. وبالحري، أكيد من عدل الله ومن رحمة الله، ألا يُوفق إليها مَن قضى ليالي رمضان السابقة عليها، في ماذا؟ في اللعب واللهو والقصف والفسوق. من الصعب جدا، حاشا لله! الله أعدل مَن حكم، لا إله إلا هو! لكن سيكون أدنى أن يسعد بها، وأن يحظى بها، وأن يتبارك، مَن اجتهد من أول ليلة إلى ليلة القدر، وتحقق بالصوم ظاهرا وباطنا، انتبهوا!
لن أتحدث هنا عن الذين يصومون ويتكلمون، يشهدون بالزور، يغتابون، يتندرون، يستهزئون، ينمون، لا! هؤلاء عند ابن حزم صيامهم باطل، ويُروى عن سُفيان الثوري، أي مذهب! وهذا هو الإمام الخامس في الإسلام، وابن حزم له مذهب. قال لك هذه المعاصي الكبيرة؛ الغيبة، والنميمة، والكذب، تُبطل الصوم. من كبائر المعاصي هذه، هذه ليست صغائر! ولا يغرنك أن مُعظم الناس يتعاطونها كالفاكهة ليل نهار! من أعاظم ومن فواحش الكبائر! الغيبة، والنميمة، والكذب – والعياذ بالله -! هذه عند الإمام أبي سعيد سُفيان الثوري، والإمام أبي محمد بن حزم، تُبطل الصوم، الصوم باطل! ها، تفضل! ويُريد ليلة قدر! ليلة قدر ماذا؟ في الأوهام وفي الأحلام – إن شاء الله تعالى -، لا يُوجد لا قدر ولا ليلة قدر.
لا، نحن نتحدث عن الصائم الذي صام حقا وصدقا! أمسك لسانه وعينه وأذنه وفرجه ويده، ولم يُدخل بطنه إلا الحلال الصافي المُتشحر، وصدق في التوبة والنزوع عن ذنوبه، واجتهد، ودأب. هذا أحرى أن يحظى – إن شاء الله تعالى -، بلا شك من الأول، وأدنى أن يتبارك بإدراك هذه الليلة، ويُوفق إليها، ويُوفق إليها بتعبير أمنا عائشة – رضي الله عنها وأرضاها -.
أول هذه الحكم يا أحبتي؛ يا إخوتي وأخواتي، ماذا؟ أن نمتلك أنفسنا، كما قلت الحكيم، الذي أوتي الحكمة، ينتظر ويترقب رمضان، لماذا؟ لكي يُعيد برمجة نفسه. أي يعمل باللُغة التقنيةReset ، يعمل Reset لنفسه. الحاسوب حين يمتلئ بالبرامج الضارة، وربما حتى بالفيروسات وما إلى ذلك، وباللُغة المصرية (بيهنج)، يتوقف عن العمل، ماذا يفعلون له؟ Reset. انتهى، أفضل. أفضل شيء أن تعمل له Reset! كذلك نحن نحتاج إلى Reset، إعادة ضبط، إعادة توضيب. صفر، نبدأ من جديد. أحسن فرصة، أحسن نُقطة، لهذا ال Reset؛ رمضان، شهر رمضان.
وفيها، والله الذي لا إله إلا هو، فيها معونة إلهية، يعرفها أهلها. أنا أخطب من حوالي ثلاثين سنة في هذه البلدة. ودائما تقريبا في كل خُطبة، أُذكّر وأقول لكم لرمضان رائحة. مَن لم يجدها قبل قدوم رمضان، فهو محروم. ومَن لم يفقدها بحلول العيد، فهو محروم. بالله قبل أن يفد هذا الشهر الكريم، يتنسم المؤمنون هذه الرائحة، فتخشع قلوبهم، وتقترب دمعتهم، ويلين منهم ما كان قاسيا، ويجودون، ويشعرون بالخشوع والخضوع والإقبال على الله، ويشعرون ببركة المعونة الإلهية في فعل الخير، يسهل عليهم ما كان صعبا مُستصعبا، يقرب عليهم ما كان بعيدا قصيا، أليس كذلك؟
إذن رمضان حقيقة إلهية، ليس تهويمات ومواعظ – انتبهوا – وقصصا وأحاديث وأشعارا، حقيقة يعرفها أهلها – اللهم اجعلنا من أهلها -، يعرفها أهلها! ولذلك لا يُضيعونها، لا يُفرطون فيها، ويستكثرون بما يُقيض الله من الرحمة لهم، يستكثرون في هذا الشهر!
فترون البخيل يجود، سُبحان الله! تُفك يده، يجود، ويُعطي ما لا يُمكن أن يُعطيه في غير رمضان، هنيئا له! هنيئا لك أخي البخيل! وأرجو أن تستمر على الكرم في غير رمضان، لكن هنيئا لك أيها البخيل، أن قد تكرمت وكرمت في رمضان! شيء حسن جميل، فيك خير.
أما البخيل الذي ظل بخيلا، فهذا لم يشهد رمضان، هذا لم يتنسم أرواح رمضان، هذا لم تُفتح خزائن العطايا في رمضان. ظل محروما! لماذا؟ فليسأل نفسه. والمُنبعث المُنبعق المُقيم على الشهوات المُحرمة المسخوطة غير المرضية للرب، لا إله إلا هو! يكرهها ويُقلع عنها في رمضان، ويُحب أضدادها! مُوفق، زادك الله توفيقا، وحفظ لك هذا التوفيق في غير رمضان. جميل، جميل!
هناك تبدلات حقيقية. أحسن فرصة أن تعمل إعادة التوضيب هذا في رمضان. افعل هذا في رمضان. ماذا تُريد؟ ما الهدف؟ الهدف يا ربي أن أتحرر. من ماذا؟ من عبوديتي لنفسي. الهدف يا ربي أن أكسر الوثن. أي وثن؟ وثن نفسي. صحيح ليس في بيتي ولا في باحتي وثن من حجر ولا صنم من خشب، لكن يا ربي أنا أعلم أن في باحة نفسي أكبر وثن، هي نفسي. تبا لها وتبابا، وخسرا وخسارا، إن لم أغلبها وأقهرها في ذات الله تبارك وتعالى! وهنا يحق لك مع الفطر أن تكون الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. قد أحرزت النصر المؤزر، على هذا المعبود الألعن الأكبر من دون الله. أكبر ما عُبد وألعن ما عُبد من دون الله، ما هو؟ الهوى. هوى ماذا؟ النفس. أي النفس! أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ *.
مَن منا لا يعكف على وثن نفسه ليل نهار؟ مَن منا؟ يُطيبه بأنواع الطيوب والغوالي والمسوك، ويحرق له البخاخير! يا نفس، يا نفس، أنتِ ما شاء الله عليكِ! أنتَ مُتميز، أنت مُمتاز، أنت أذكى من غيرك، أنت أقوى من غيرك، أنت أجمل من غيرك، أنت أكثر تنفذا من غيرك، أنت أفهم من غيرك، أنت أكثر تقوى وخشية – ما شاء الله، حتى يستكبر بالعبادة الجاهل! – من غيرك، أنت أكرم من غيرك، أنت أسمح من غيرك. لا! أبدا! ليس هذا شأن العارفين بالله، وليس شأن مَن عادوا أنفسهم في سبيل الله! مَن عادوا أنفسهم في ذات الله تبارك وتعالى، ليس هذا شأنهم! هذا شأن الضالين، شأن الضائعين، شأن المغرورين – نعوذ بالله من الغرور -، شأن المغرورين! مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ *، غرته نفسه وغره جهله، غرته نفسه وغره جهله – والعياذ بالله أبدا -.
هذه النفس لا بُد أن تكون مقودة لنا، لا أن تكون قائدة. هذه النفس كالركوبة، لا بُد أن تُركب، لا أن تَركب. لكن مُعظم الخلق هم مراكيب لأنفسهم، وليست نفوسهم مراكيب لهم – والعياذ بالله -. مُعظم الخلق نفوسهم تركبهم، هم مراكيب لأنفسهم. وكان الحري والأجدر أن تكون نفوسهم مراكيب لهم.
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *، رمضان طريق التحقق، بماذا؟ بطمأنينة النفس، أن تطمئن النفس! لا أُريد أن أخوض في هذا الموضوع، وهو جدير بخُطبة برأسه، لكن كلمة ونمضي؛ النفس المُطمئنة، لماذا يُقال لها فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي *؟ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ *، يُخاطبها الرب، لا إله إلا هو! وتُخاطب من الرب الجليل! الفرق بين النفس المُطمئنة، والنفوس – وهي كثيرة جدا – غير المُطمئنة، حتى إن كانت نفوس العباد والزُهاد والذاكرين الله تبارك وتعالى، لكن نفوس غير مُطمئنة، ما هو؟ تعرفون ما الفرق؟
الفرق أنها نفس مُرتبطة، مربوطة إلى حبل، إلى آخية، إلى وتد، مهما انحل عنها الرسن، بطشت، وفسقت، وفجرت، وعصت الله، أترون هذه نفس مُحترمة في الملأ الأعلى، لها قدر عند الله جليل؟ هذه نفس فقط ممنوعة بالقوى؛ بقوة القانون، بقوة العقاب، بقوة مُراقبة الناس، مُراقبة مَن؟ الزوجة، والزوج، والأب، والأم، والشيخ، والأستاذ، والجيران، وجمهور المسجد، وجمهور الحارة، وجمهور الناس، وجمهور النت Net. فقط من أجل هذا! لكن إن خلا أحدهم بمحارم الله، انتهكها. هذه نفس كالأسد، السبع الضاري، وأكرمكم الله؛ كالكلاب الشرسة أيضا المسعورة، المربوطة. في حين أن النفس المُطمئنة نفس ليس لها خطام ولا زمام. متروكة، موضع ثقة! على أنها لا تأتي إلا ما أحب الرب، لا إله إلا هو!
لا تنتهي الأنفس عن غيها……..ما لم يكن لها منها وازع.
مَن كان له من قلبه واعظ، كان عليه من الله حافظ. اللهم اجعلنا بعينك وحفظك وكلاءتك وعنايتك. هذه النفس المُطمئنة، لا تحتاج إلى رسن، لا تحتاج إلى وتد، ولا إلى آخية، ولا إلى حبل. لماذا؟ لأنها مُطمئنة. اطمأنت، لا ترضى ولا تطمئن ولا تسعد ولا تفرح إلا بماذا؟ إلا بمراضي الرب الجليل، لا إله إلا هو! اللهم اجعل نفوسنا مُطمئنة إذن. شهر رمضان يُعلمك الطريق إلى التحقق بامتلاك نفس مُطمئنة، أن تُراقب نفسك.
لا! لا أُريد، ولا أُحب، ولا أُفضل أن يُراقبني أحد، وأي أحد! مَن يكون هذا الأحد؟ مَن يكون؟ رحمة الله على محمد إقبال، فيلسوف الإسلام وشاعر الإسلام في القرن العشرين، قال – رحمة الله عليه – بنفس عرفاني عال، قال لم أر كلبا ينحني لكلب. ولماذا أنحني لبشر؟ الكلاب لا تنحني بعضها لبعض، والبشر! لا ينبغي أن ينحني بشر لبشر، لا ينبغي أن يخاف بشر من بشر. الخوف من الله، والإنحناء لله، والرقابة لله، والحساب الحقيقي عند الله، ليس البشر! هذا مُعور وهذا مُعور، وهذا تائه وهذا ضال. أنا أُضيع نظر الله إلي، وأرقب الناس في؟ مجنون أنا؟ العاقل لا يفعل. يا أحبتي، العاقل لا يفعل! لا يجعل نظر الكريم إليه أهون نظر، ولا رقابته أقل رقابة، بالعكس! هو هذا. رمضان يُعلمك هذا.
ولذلك في الحديث الصحيح، حديث أبي هريرة – رضوان الله عليه – في البخاري ومُسلم، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – قال الله عز وجل كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصيام – أو قال الصوم -، فإنه لي. لماذا يا رب؟ هو هذا! طريق النفس المُطمئنة، طريق مُراقبة الله وحده، طريق العمل لله وحده. والصوم في حقيقته وجوهره، ماذا؟ سلب، لا فعل. أنت في الصوم لا تفعل شيئا، أنت تترك أن تفعل، تترك أن تأكل، تترك أن تشرب، تترك أن تأتي أهلك. يقول يترك شهوته، طعامه وشرابه وشهوته، من أجلي. في الحديث القدسي نفسه! يقول لذلك هذا لا يعلم جزاءه إلا أنا. يقول الله تبارك وتعالى! الله أكبر! هنيئا لمَن صام حقا إذن! هنيئا لمَن صام حقا وصدقا! لأنه ترك، سلب من السلوب، ترك من التروك، ولا يكون إلا لله! ولا يكون إلا لله، ممن تحقق منه! لذلك أجره لا يُقادر قدره.
إذن يا أحبتي الصوم طريق النفس المُطمئنة. النفس طريق أن تركب نفسك، أن تتحكم في نفسك، أن تزم نفسك، أن تقود نفسك، أن تُدبر نفسك، لا أن تركبك هي، وتقودك، وتزمك، وتخطمك، وتُدبرك، أبدا! أعظم خُطة لذلك الصوم، لمَن يصوم حقا، في رمضان بالذات، وفي غير رمضان أيضا من صيام التطوعات الكثيرة المعروفة للمسلمين والمسلمات، هو هذا!
العلامة الشيخ الإمام الفقيه الأجل أبو عبد الله بن قدامة المقدسي – رضوان الله تعالى عليه – له كتاب جليل، وأنصح بقراءته وإقرائه، اقرأوه وأقرئوه أولادكم وأزواجكم، فيه مواعظ جليلة وقصص حقيقية! كتاب التوابين، اسمه كتاب التوابين! يروي الإمام ابن قدامة – رضوان الله عليه – في كتاب التوابين الحكاية التي تُوضح سبب توبة أحد أولياء هذه الأمة الكبار النُبلاء الأجلاء؛ بشر بن الحارث الحافي – رضي الله تعالى عنه وأرضاه -، وحدثتكم بها غير مرة! لكن أعد ذكر نعمانا، سنُعيد ذكر نعمان، إن ذكره هو المسك، ما كررته يتضوع.
يقول ابن قدامة ويُحكى أن بشرا – رضي الله عنه وأرضاه، أي بشر بن الحارث، كان اسمه بشر بن الحارث فقط – كان ذات ليلة من الليالي في بيته، في منزله! مع أصحاب له، على خمر وشُرب وقصف وطرب ولهو! لأنه كان فاسقا – رضوان الله عليه -. فمر أحد الصالحين، رجل كبير في السن، صالح! مر في الشارع، فسمع صوت الغناء واللهو والقصف والضحكات الفاسقة المُتهتكة، فطرق الباب. ما أعظم بركات الصالحين! اللهم أصلحنا لك بما أصلحت به عبادك الصالحين. فطرق الباب، فخرجت الخادمة، فقال لها أحر صاحب هذا المنزل أم عبد؟ قالت له بل حر، وأنا خادمة من خوادمه. قال صدقت؛ لأنه لو كان عبدا – أي لله -، لاستعمل أدب العبودية. واضح أن هذا مُتهتك، حبله على غاربه! هذا ما عرف معنى أن يكون عبدا لله.
أحر صاحب هذا المنزل أم عبد؟ قالت بل حر. قال صدقت؛ لأنه لو كان عبدا – يُريد لله طبعا. ليس عبدا لسيده، شأنها هي -، لاستعمل أدب العبودية. ثم مضى! فلما عادت، أثر فيها الكلام. فقال لها سيدها بشر مَن بالباب؟ وماذا قال لك؟ فقصت عليه! قال في أي ناحية أخذ؟ قالت في هذه الناحية الفلانية. فخرج في أثره مُشتدا، غير مُنتعل، لا يُوجد وقت؛ لكي يلبس نعليه! بشر بن الحارث (الحافي)، هذه القصة! فخرج حافيا، غير مُنتعل.
أدركه قريبا، قال يا سيدي، أنت الرجل الذي طرقت باب دارنا؟ قال نعم. قال يا سيدي، لو تتكرم وتُعيد علي ما قلته لجاريتي. قال قلت لها يا أخي أحر صاحب هذا المنزل أم عبد؟ فقالت حر. فقلت لها صدقت؛ لأنه لو كان عبدا، لاستعمل أدب العبودية. فخر بشر على الأرض، يُمرغ خده هذا وهذا مرة بالتراب، ويقول بل عبد، عبد والله. ومضى الرجل، وهام بشر، ولم يعد إلى منزله.
وعُرف بالحفاء، من يومئذ، لم ينتعل حتى لقي الله! فكان إذا كُلم في الحفاء؛ يا بشر، أنت سيد المسلمين، أنت إمام الأولياء والصالحين، لِمَ لا تنتعل؟ فيقول لأن الله صالحني على تلك الحالة، فلا أزال حافيا حتى ألقاه تبارك وتعالى. في تلك الساعة المُباركة ربي صالحني، اصطلحت مع ربي، فلا أزال على تلك الحالة، حتى ألقى الله عز وجل.
يا إخوتي، يا أحبتي/
شيء عجيب أولياء الله تبارك وتعالى! شيء عجيب عناية الله إذا حلت في قلب العبد المُوفق – وفقني الله وإياكم بعنايته وكرامته وألطافه ودلالته، اللهم آمين -! بشر بن الحارث بعد ذلك، صار آية من آيات الله. هذا الذي عرف طريق العبودية، ترك طريق الحرية! حرية مَن؟ حرية عبيد أنفسهم، وليسوا عبيد الله. عبد نفسه يفعل ما يُريد. عبد نفسه يزني ويلوط ويسرق ويكذب ويغتاب وينم ويُشاهد المُحرمات ويفعل المُحرمات ويأكل المُحرمات، ولا يُقيم وزنا لشيء؛ لأنه عبد نفسه، ليس عبد الله. والنفس تُريد أن تقوده إلى جهنم، وهو لا يدري! هذا الأحمق، هذا الأحمق لا يدري. أما عبد الله، فليس كذلك أبدا، عبد الله يتحرر من سطوة نفسه، يتحرر من زينة الفسوق والعصيان. يصير الفسوق والعصيان أقبح شيء في ناظريه. تصير المعاصي أنتن شيء أمامه. هذا الذي عرف العبودية حقا، تحرر.
كما قال سيدنا أحمد بن خضرويه – قدس الله سره الكريم، أيضا هذا من نُبلاء أولياء المسلمين، شيخ خراسان في وقته، رحمة الله عليه، ومن تلاميذ البسطامي -، قال في الحرية – في الحرية، أي الحرية من أمر الله ونهيه. الحبل على الغارب – تمام العبودية – لمَن؟ للنفس -. وفي التحقق بالعبودية – لمَن؟ لله – تمام الحرية. يا الله! كلمتان! لا يحتاج المسلمون إلى فلسفة وجودية! كيركغور Kierkegaard ومارسيل Marcel وهايدغر Heidegger وسارتر Sartre! لا نحتاج، لا نحتاج! هذه فلسفتنا الوجودية الحق! حين نتحدث عن الحرية والعبودية بنفس وجودي عال وعميق ولطيف! في الحرية تمام العبودية. وفي التحقق بالعبودية – لله – تمام الحرية. ابن خضرويه – قدس الله سره -! الله!
ابن خضرويه هذا – حتى لا أنسى، سُبحان الله! الأشياء يُذكّر بعضها ببعض -؛ كان زاهدا عجيبا. هو الذي عُمّر خمسا وتسعين سنة، خمسة وتسعين عاما عُمّر! تُوفي سنة مئتين وأربعين للهجرة على ما أذكر! وُلد مئة وخمس وأربعين، وتُوفي مئتين وأربعين، هو هذا تقريبا، نعم! عُمّر خمسا وتسعين سنة. لما احتُضر، بكى. خادمه يعرف مَن هو أحمد بن خضرويه، مَن هو هذا الولي الخطير الجليل العابد مُنقطع النظير والذاكر! فقال له تبكي يا سيدي؟ قال يا بُني لِمَ لا أبكي؟ باب أطرقه من خمس وتسعين سنة، الآن يُفتح لي، ولا أدري يُفتح لي بالسعادة أم يُفتح لي بالشقاء! الله! إلى هذه الدرجة يا سيدنا؟ إلى هذه الدرجة الخوف من مقام الله؟ ليس آمنا، يفعل كل المعاصي، وهو آمن، ويقول لك رحمة الله واسعة. نعم واسعة، واسعة! لكن الغرور خطير ومُضر بصاحبه، الغرور والجهل خطير ومُضر بأصحابه.
ابن خضرويه يستدين مرة مئة ألف درهم من رجل تاجر، مئة ألف درهم! ثروة طائلة! فيقول له التاجر يا سيدي، ألستم أنتم الزهاد في الدنيا؟ قال له بلى. أنا زاهد في الدنيا. قال فما تفعل بها؟ تستدين مئة ألف؟ قال أشتري بها لُقمة؛ لأضعها في فم مؤمن، ثم لا أتجاسر على أن أسأل الله أجرها. قال ماذا؟ لم يفهم! انظر إلى المنطق؛ منطق أهل الله، كيف هو؟ الله أكبر! انظر إلى منطق أهل الله!
منطق الذين يبيعون آخرتهم بمئة يورو اليوم؛ من أجل مئة يورو، كما قلت هنا مئة مرة، يحلف لك أعظم يمين بالله، ولا يُقيم لله وزنا! من أجل مئة يورو! انظر إلى هذا الزنديق! هذا زنديق تقريبا، هذا زنديق، ما عرف الله لحظة من زمان، والله العظيم! الذي يحلف باسم الله، وأحيانا على كتاب الله، من أجل أموال دنيوية؛ مئة يورو، ولا مئة مليار، زنديق، ما عرف الله لحظة، ما عرف الله لحظة!
وأحمد بن خضرويه يقول أنا آخذ مئة ألف دينا، قرضا! لماذا؟ قال أشتري بها لُقمة. وهو يشتري بها دُنيا، مئة ألف! قال أشتري بها لُقمة؛ لأضعها في فم مؤمن، ثم لا أتجاسر على أن أسأل الله ثوابها. قال كيف؟ لم يفهم التاجر! لم يفهم! هذا منطق غير مفهوم، لُغة مُستغلقة. قال له لأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، فلو أخذتها كلها – ليس مئة ألف، لو أخذت الدنيا كلها -، وجعلتها صدقة، أعطيتها لمؤمن أو مؤمنة، ما الذي تنتظر أن تُعطى بها بعد ذلك؟ أنت قدمت شيئا، أقل من جناح بعوضة. لا إله إلا الله!
لذلك هذا سر العارفين بالله؛ لا يُدلون على الله بما يعملون. بعض الناس يكون بخيلا كزازا مسيكا، فإذا في يوم من الأيام، غالب هواه، فغلبه – أي غلب هواه -، وأعطى ألف يورو، ولا خمسة آلاف يورو، لأول مرة في حياته! وهو لا يُعطي حتى خمسين، في حياته! يُعطي خمسة آلاف، وعنده في البنك خمسون ألفا! هيا، أعطى عُشرا، لأول مرة في حياته! يظن بعدها أنه أصبح مُستجاب الدعوة، وربما قال لكم مَن عنده دعوة، فليطلب مني، إن شاء الله لا بأس، بعون الله تعالى تُقضى. جهل، جهل!
أرأيتم أولياء الله، كيف هم؟ أولياء الله يعلمون وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ *، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *. حتى حين يتيسر لك عمل الخير، هذا من فضل الله، من عطايا الله، من منة الله عليك يا مسكين. أنت لا يُمكن أن تُدل على الله بشيء، إياك! لن تكون عارفا بالله، ستكون مُسلما أهبل، مُسلما مُغفلا، مثل هؤلاء المُغفلين الحمقى الجهلة! لكن لن تكون من عيون العارفين، لن تكون من نجوم الواصلين، الذين فهموا الحقائق.
والآن سآتيكم بقصة، يطيب لي أن أجعل عنوان الخُطبة مأخوذا من هذه القصة العجيبة، من قصص مولانا وسيدنا جلال الدين الرومي – قدس الله سره الكريم -، أحد حكماء الإسلام، بل حكماء الدنيا وحكماء البشر – رضي الله تعالى عنه وأرضاه -؛
يحكي مولانا جلال الدين الرومي في المثنوي قصة أعرابي يعيش في جوف صحراء مدوية، مهمه لا أول لها من آخر! مع عجوزه، المرأة الكبيرة في السن، وقد طعن كلاهما في السن! في خيمة، بدنيا قليلة مُقترة، راضيين سعيدين، إلى أن قضى الله تبارك وتعالى ذات يوم أن تنقلب الأحوال، وإذا بالمرأة العجوز، تقلب لزوجها الراضي، المسكين، السعيد بقدره، المُسلّم، ظهر المجن، وتبدأ تتذمر وتتشكى! أي الناس، مَن مِن الناس يعيش هذا العيش؟ عيشنا عُدم، ليس لدينا شيء، هذه دنيانا! خيمة، بعمود! ليس لديك حتى ركوبة تركبها! ما هذا؟ ما هذه الدنيا؟ إلى متى ترضى بهذا العدم، بهذه القلة، بهذا الفقر؟
قال لها يا امرأة، ما الذي دهاك؟ يا عجوز، كنت امرأة صالحة وراضية ومُسلّمة، تنقلبين الآن إلى عجوز سوء، تتسخطين أقدار الحق، لا إله إلا هو؟ قالت له هو ذاك! لا بُد أن تنظر وأن تُدبر هذا الأمر، وإلا…وإلا…! قال لها لا، لست مَن يتهددني، أنا تارك لك هذا العالم كله. سأترك الخيمة، بما فيها، وأنت فيها، وأهيم على وجهي. فلما رأت منه الصدق والجد، استبكت واستعبرت! لا يا سيدي، أنت زوجي، وأنت تاج رأسي، وأنت مَن رأيت الدنيا على ضوء عينيه، اغفر لي زلتي، كنت حمقاء، الشيطان استهواني واستغفلني، ونفسي سولت لي، ومعصيتي غلبت علي، اغفر لي يا سيدي. فغفر لها، وكان رجلا صبورا، طيبا، حسن المعشر.
ثم إنها – يقول مولانا الرومي، قدس الله سره – خطر لها خاطر! قالت له يا عبد الله، هذه الجرة. قال ما لها؟ قالت جرة حسنة جميلة، وهي جديدة. هذا كنز، كنز تُعقد عليه الخناصر كما يُقال! قال نعم. قالت وبحمد الله، والمطر لا ينزل إلا قليلا، فنحن في صحراء! قد امتلأت من ماء المطر الطهور الرقراق العذب النمير! مَن عنده مثل هذه النعمة؟ ربما السُلطان ليس عنده مثل هذه النعمة! قال ثم ماذا؟ قالت لِمَ يا زوجي الشفوق الطيب، لِمَ لا تأخذ هذه الجرة وتنزل بها إلى دار السلام؛ بغداد، وتُقدمها هدية للسُلطان، لأمير المؤمنين! فلعله أنه ينالك منه شيء من خير؟ قال لها أحسنت يا امرأة، الآن تفتق ذهنك عن شيء ذي قيمة، بدل التذمر والتشكي.
اقتنع الرجل، فأتى بقطعة من لباد – خيش، تعرفون اللباد هذا، الذي تُلف به الجرار -، ولفها على الجرة، وأحكم إغلاقها، ثم حملها على ظهره، وسلك طريقه مشيا، المسكين! لكن هو أعرابي خريت، خبير بمسارب الصحراء وقراءة نجوم السماء، يعرف طريقه! ومضى عليه أسابيع، يقتات بالقديد، حتى بلغ بغداد، لأول مرة! فطفق يسأل عن قصر الخليفة، أمير المؤمنين! هذا في الخلافة العباسية الأولى، فدُل. بعد حين، دُل، قيل له هذا هو القصر.
فأتى واثقا من نفسه كما يُقال، شادا ظهره بجرته! فسأله الحرص مَن؟ وماذا تُريد؟ قال أنا أعرابي، عبد الله الفقير المسكين، من جوف الصحراء، أتيت لأُقابل أمير المؤمنين. تُقابل أمير المؤمنين؟ لماذا؟ في ماذا؟ قال أُريد أن أُقدم له هدية، يندر مثالها! يعز نظيرها في العالم! قالوا عجيب! ما هي؟ ظنوا أنه سيُقدم له اللؤلؤ، أو الذهب النادر، المصنوع صناعة ربما غير مُتوفرة في بغداد، دار السلام، سُرة العالم، مركز الدنيا، حاضرة الحواضر في وقتها، وأكثر مدينة مأهولة كانت في العالم! قال جرة. قالوا جرة؟ وماذا فيها؟ قال ماء. ماء؟ ماء ماذا؟ قال ماء مطر. ماء مطر صاف عجيب!
فتضاحكوا، من غفلة المسكين – أدركوا أنه مُغفل، صاحب تغفيل -، ومن سلامة قلبه! قلبه سليم ومُغفل! إلا أن الله هداهم أن يُبلغوا رسالته إلى الخليفة. وفي الحقيقة هذا الجانب الإنساني في خلفاء المسلمين، والله عجب! أي تقرأون مثل هذه القصص بالمئات، وفعلا تكشف أحيانا عن جانب إنساني رائع جدا جدا، على الظلم الذي كان أيضا فيهم ولديهم، لكن سُبحان الله! أي لا بُد أن يُذكر كل شيء. فالخليفة لم يشأ أن يكسر بخاطره، قال ائذنوا له بالدخول علي. فدخل! ألقى التحية وهو مُتهيب مُرتجف، ووضع جرته، وجعل يمتدحها! يا سيدي، يا سُلطان الخافقين، هذه جرة – قال له – جديدة، عز نظيرها، وليس لها مثيل في الجرار، ومملوءة بماء السماء، ماء طهور مُبارك، أين مثله؟
فابتسم الخليفة، وشكره على هذه الهدية، وأعلن عن قبوله، ثم أمر الخازن؛ خازن بيت المال، قال له قد قبلنا الماء. أفرغوا الماء؛ لكي نشرب هذا الماء المُبارك الطهور، وأعيدوا الجرة لهذا الأعرابي الطيب الكريم الشهم، بعد أن تملأوها له بالذهب، بأنفس ذهب لديكم. املأوها ذهبا، ثم أعيدوها إليه. وهو الآن لا بُد أن يعود، فنخاف عليه من قطاع الطرق والعيارين – الشطار هؤلاء، المسالحة كما يُقال -، فأركبوه في قرقور – في قارب صغير -. ودجلة، دجلة تجري تحت قصر الخليفة، طبعا! قصر أمير المؤمنين مبني على دجلة، بمائها الفوار العذب النمير فعلا.
قال أركبوه في قرقور، تحت قصري، وجوزوا به إلى مكان كذا، فهذا يُقرب المسافة جدا ويُقربه من قلب صحرائه، ويكون بمأمن. الفقير هذا الأعرابي لم يفهم! دجلة ماذا؟ وماء ماذا؟ لم يفهم شيئا! لم يسمع في حياته بدجلة! وحين ملأوا الجرة ذهبا، وأخذوها واحتملوها طبعا – رجال أشداء، أصبحت ثقيلة جدا -، ونزلوا إلى أسفل القصر، وأتوا بقرقور، ووضعوا القرقور في الماء، فرأى الماء هو، ماء دفاقا، يتدفق كثيرا، عذبا جميلا باردا، قال ما هذا؟ ما هذا الماء العجيب؟ أنحن في الجنة؟ في جنة عدن؟ قالوا لا، أنت في بغداد، دار السلام! وهذا نهر دجلة، وقصر الخليفة مبني عليه.
فانكسر الرجل، واستشعر التصاغر! أنه صغير وحقير، وأن عطاءه حقير جدا! ما الذي فعلته أنا؟ ما الذي قلته عن جرتي وعن ماء المطر؟ ما هذا؟ الماء يجري تحت قصر الخليفة، نهر! وهو أول مرة يسمع بالنهر، ويرى النهر أمامه! فنحن يا أحبابي مثل هذا الفقير. أما العارفون، فهم مثل هذا الأعرابي، بعد أن نزل القرقور، وركب دجلة. يعلمون أن كل ما لديهم، وكل ما أوتوا، وكل ما أتوا، وكل ما آتوا، إنما هو جرة في دجلة الله، لا إله إلا هو! هذه دجلة الله، وهذه جرارنا.
ولذلك انتبهوا، هنا الآن أفضى بنا التحليل إلى معنى من ألطف وأعمق وأبدع ما يكون! ما هو؟ إلا الصوم، فأنه لي. تعرفون لماذا؟ لأن ما عدا الصوم من العبادات؛ الصلاة، والزكاة، والحج، والذكر، والعطاء، والبذل! كلها أفعال مُوجبة، أفعال إيجابية. أما الصوم، فكما قلت هو ليس فعلا أصلا. هو ترك، امتناع، سلب، نفي للفعل. أليس كذلك؟ مُشكلة البشر؛ مُشكلتي، ومُشكلتكَ، ومُشكلتكِ، أننا كذاك الأعرابي المُغفل الأهبل. نحن هُبلان الله، والله! نحن دراويش الله! نظن – أيها الإخوة – أننا حين نُصلي، وحين نُزكي، وحين نتصدق، وحين نذكر، وحين نحفظ العلم، ونتلو القرآن، ونفعل…ونفعل…أننا قدمنا لله شيئا له قيمة، شيئا كبيرا! ولا نكاد نتخلص من هذا الغباء والهبل الذي فينا!
تُقدم ماذا؟ تُقدم ماذا؟ أنت كلك مخلوق لله، مُبدع لله! كل ما فيك لله، مُلك لله! ستقول لي يا أخي لا تقس علي. نعم، لك الحق. الله نفسه راعى ظرفي وشرطي، ودللني، وقال لي مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللَّهَ *. أقول لك نعم، نعم، نعم. الله دللك ودلعك وأراد أن يُخاطب فيك هذه النفس الهبلة، هذه النفس المُغفلة! لكن العارفين – بفضل الله – انقطعوا عن ساحة الهبل هذه، وخرجوا إلى ساحة الحكمة والوعي، وعلموا أنه أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ *.
تحققوا بأنهم مُجرد فقر، مُجرد لا شيء، مُجرد وهم! وأنه مالك المُلك، وكل ما في المُلك والملكوت له، لا إله إلا هو! وهو أولى بنا من أنفسنا، فلا يرون أنفسهم إلا كابن خضرويه – قدس الله سره -، لو قدم الدنيا كلها لُقمة، ما تجاسر أن يسأل الله ثوابها! لأن الدنيا لا تسوى عند الله ولا تزن عند الله جناح بعوضة، ونحن من ضمنها! لكن الذي يزن عند الله أكثر من الدنيا، لا من جناح البعوضة، تعرفون ما هو؟ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ *. لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا *، لن ينال الله جرتك ولا ماء جرتك، وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ *.
قال دواد – عليه الصلاة وأفضل السلام – النبي الملك يا ربي أمرتنا بشكرك، وحثثتنا عليه، كيف نشكرك يا رب، وما بالنعمة، فإنما هو منك، وإذا قيضت لنا شكرك عليها، فإنما هو بنعمة متجددة منك؟ أنت أنعمت علينا، ألهمتنا الشكر! قال يا داود الآن شكرتني. إذا علمت أن شكرك على النعمة نعمة وتستحق الشكر، لم يبق لك من الشكر إلا درك هذا القدر، أن كل نعمة هي من الله! انتهى! أنت الآن من الشاكرين.
لكن حذار، ثم حذار، ثم حذار أن تكون كصاحب الجرة! لن تُعذب، سيُقبل منك، صدقني! وستُملأ لك جرتك ذهبا، لكنك لن تلتحق بعيون العارفين، لن تكون من رؤوس الأولياء الصالحين، ستبقى في المسلمين الهُبل المُغفلين. اربأ بنفسك أن تبقى من المُغفلين؛ لأن الحكماء العارفين يُبسط لهم ويُكشف لهم ويُمنحون ما لا يخطر ببال هؤلاء القُنع المُغفلين. اللهم اجعلنا من الحكماء العارفين، ولا تجعلنا من القُنع المُغفلين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.
الحمد لله، الحمد لله الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا محمدا عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وعلينا وعليكم والمسلمين والمسلمات معهم بفضله ومنه أجمعين.
إخوتي وأخواتي/
قبل أن أُغادر هذا المقام وهذا المكان الكريم، أُريد أن أذكر قصة عن بركة أولياء الله. ولذلك هنيئا، إذا أسعدكم الله تبارك وتعالى؛ إذا أسعدك الله يا أخي، إذا أسعدك الله يا أختي، يوما بمعرفة أحد أهل الله! وأهل الله لا يُعرفون من المظاهر، حذار! لن تعرف رجل الله أو أمة الله من طول لحيته، أو تكور عمامته، أو كثرة حفظه؛ يحفظ الكتاب والسُنن، أو قوة بيانه وحُسن ملافظه وتعبيراته، أو تظاهره بأنه من أهل الله، أو إرساله الرسائل لك من وراء وراء أنه من تلك الطائفة! كل هذا الغرور، كل هذا الاختداع، كل هذا الكذب – أيها الإخوة -، لا يُمكن أن يدل على أهل الله، ليس من علامة أهل الله!
ستقول لي كيف؟ حيرتنا! صدقوني، وهذه خُلاصة عمري، وأنا مُعلق ومُتعلق بأهل الله من صغري، وأُحب هؤلاء حُبا لا مزيد عليه! إلا أن ما تعلمته في آخر حياتي، أن ولاية الله هي الاستقامة الحقة. أي شيء يُمكن أن تراه، لا تغتر به. لو رأيته يمشي على الماء، لا تغتر به. يطير في الهواء، لا تغتر به. يُنفق من الغيب، لا تغتر به. هناك شياطين، هناك جن، وهناك قوى خفية، تُعين أولياءها. حصل لنا وحصل لغيرنا كثيرا كثيرا! أن اغتروا ببعض عباد الله، ثم أبى الله إلا أن يُبين لهم أنهم أولياء للشياطين، وليسوا للرحمن الرحيم، لا إله إلا هو! والشياطين تُعينهم على هذه الأفعال – والعياذ بالله -.
ولذلك الطريقة المضمونة، والمعيار الذي لا يتخلف؛ الاستقامة. إن رأيت عبدا أو امرأة لله تبارك وتعالى، من عبيد الله وإماء الله، مُستقيما حقا، يقشعر بدنه من ذكر الناس بالسوء، من الغيبة، من النميمة، من الكذب، لا يتغول ولو فلسا، فلسا واحدا، من حقوق الناس أبدا، ليس من الناس إلا في خير، يُعطي ولا يأخذ، يُسب ثم هو يمدح، يُظلم ثم هو يعدل، يُكذب عليه ثم هو يشهد بالقسط والحق، تُراد فضيحته ثم يستر على مَن فضح، فاعلم أنك أمام ولي حقيقي لله تبارك وتعالى.
هؤلاء أولياء الله؛ أهل الاستقامة الحقة! وأين هم؟ وكم هم؟ عزوا جدا في هذا الزمان، عزوا! حتى أنك ترى مَن يتظاهر بالصلاح والانتساب إلى الصالحين والأولياء والذاكرين، لا يستحي من أن يخرج على الناس ويُسجل تسجيلات بالمعصية. يتكلم كلاما هو معصية! يذكر عباد الله، يشمت في عباد الله، يسب عباد الله الآخرين، ويظن ويُريد أن تفهم أن هذا لوجه الله وأمرا بالمعروف! على مَن تضحك يا رجل؟ أنت رجل غارق في الإثم، أنت رجل مقطوع بك. ويُريد أن تفهم أنه من أصحاب الأسرار! أي أسرار؟ سرك مفضوح، سرك مفضوح! وهو سر ماذا؟ سجيني، ليس عليينيا. هو سر سجيني، وليس سرا عليينيا. مفهوم، أمرك مفضوح ومفهوم يا رجل، خلنا عنك، وخلنا منك. أسأل الله لنا ولك الهداية.
أما أهل الاستقامة الصعبة، الاستقامة الساطعة، والذين لا يُبالون الخلق بالا في جنب الله تبارك وتعالى، وإنما يُبالون الله، فاشدد، فاشدد يديك بهم، هؤلاء هم أهل الله، اقترب منهم، فإنهم يُلقنون الحكمة، اقف قفوهم، احذ حذوهم، تعلم منهم، خير لك من الدنيا وما فيها، وبركتهم أعز مما تظن، بالله العظيم! والله لو أن أحدهم دعا لك بصدق في ظهر الغيب، لأسعدك الله. ولو اقترب أحدهم منك، أو اقتربت منه، واستشعر شيئا، ثم أقبل على الله من أجلك، لظفرت بسعادة عُظمى يا رجل.
ولذلك أختم كما قلت لكم بهذه القصة العجيبة! حدثتكم عن سيدنا بشر بن الحارث الحافي، صاحب الحفاء! القصص التي تُحكى في بركة سره، في قدرته في التأثير وقلب جواهر الناس، من جواهر ظلمانية إلى جواهر نورانية، شيء عجب! نكتفي بقصة واحدة، وهي قصص كثيرة، يرويها الإمام ابن قدامة، في كتابه الذي ذكرته لكم، عن شيخه شيخ الإسلام وإمام المُحدثين في عصره أبي طاهر السِلفي – قدس الله سره الكريم -.
أبو طاهر السِلفي إمام المُحدثين، عُمّر قريبا من مئة، لم يضطرب له وتر كما يُقال أو عرق، ولم تنزل له قذاة من عين، وكان يجلس جلسة الشباب في العشرين من أعمارهم، وهو قريب من مئة! يُحدث عنه! حافظ دواوين الإسلام في دماغه، أبو طاهر السِلفي! إذا سُئلتم مَن الشيخ، مَن الإمام، مَن المُحدث، الذي سافر له السُلطان؛ ليحضر مجلسه، ويسمع حديثه؟ فقولوا أبو طاهر السِلفي. طبعا ليس السَلفي، السِلفي. سِلف بالفارسية معناها مشقوق الشفة، مشقوق! هذا معنى سِلفي، مشقوق الشفة! وكان مشقوق الشفة – رضوان الله عليه -. سافر له السُلطان صلاح الدين الأيوبي، واستمع إلى مجلسه؛ ليتبارك.
هذا أحد أساتيذ مولانا أبي عبد الله بن قدامة المقدسي، يروي عنه – عن الشيخ أبي طاهر السِلفي – بإسناده قصة بشر بن الحارث مع رجل، رجل كان شديد الأسر، قوي البدن، مُجرما، مُجرما شرسا! سطا بامرأة من بنات الشام، في العراق. أخدها بيده، وبيده الأُخرى خنجر، لا يقترب أحد، إلا عقره! أي جرحه. فبين هو كذلك، والناس تُذكّره بالله؛ اتق الله، لا يجوز، كذا. إذ أقبل الشيخ، فحاكه. حاك كتفه بكتف الرجل، والرجل الخنجر بيده! الشيخ لم يهب منه! حاكه، وسر له بكلمة. ثم مضى الشيخ، فهوى هذا على الأرض، مُباشرة لم تحتمله قدماه! هوى على الأرض، ووقع الخنجر من يده، ومضت المرأة في سبيلها.
فأقبل الناس عليه؛ يا رجل، ما بك؟ ما الذي حدث لك؟ قال لا أدري! حين حاكني هذا الرجل، الشيخ الكبير، أسر لي بكلمة! قال لي الله ناظر إليك وإلى ما تعمل. قال فأثرت كلمته في تأثيرا عظيما، وداخلتني هيبة رهيبة، ولم تقو قدماي على حملي، فوقعت إلى الأرض.
قلها أنت، أقولها أنا، كلام فارغ! يقولها بشر بن الحارث؛ الله ناظر إليك، تسعد بها! أرأيت الصدق أين؟ الصدق الساطع! ليس المواعظ وكلام المنابر وكلام اليوتيوب YouTube، الصدق الساطع، من أهل الخشية الحقة. كلمة واحدة! الله ناظر إليك – قال له – وإلى ما تعمل. وبصوت بسيط، همس! لم يسمعها أحد إلا هو. لم تحتمله قدماه، ووجده الناس يرفض عرقا، يرشح عرقا شديدا! ثم قال لهم أتعلمون مَن هذا الرجل؟ قالوا بشر بن الحارث. قال بشر؟ واسوأتاه! كيف أنظر إليه بعد اليوم؟ معروف مَن هو! الرجل الصالح! احتملوه إلى بيته محموما، بقي محموما أسبوعا، ثم انتقل إلى رحمة الله. كلمة! الله! يا للسعادة! يا للسعادة!
ستقول لي إذن هذه أقصر طريق ليس لموعظة الناس، أقصر طريق لتربية أولادنا! بالضبط. تُريد تربية أولادك، هدايتهم، إصلاحهم؟ اتق الله. وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا *. ليتقوا الله، لا ليتقوا الأولاد، ولا ليتقوا الزوجات والأزواج. إياك أن تُظهر التقوى لزوجك وأولادك، ثم أنت تهجم على المعاصي في غيبة الأهل والولد! تدّعي أنك تقي! أنت تُفسدهم، ولا تُصلحهم.
اللهم أصلحنا بما أصلحت به عبادك الصالحين. اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا وما جنينا على أنفسنا، أنت المُقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ *. اللهم بلغنا برحمتك وفضلك رمضان يا رب العالمين، واجعلنا فيه من أسعد عبادك بذكرك وعبادتك وخشيتك على الوجه الذي يُرضيك عنا، اللهم اجعلنا فيه مِمَن قام ليله وصام نهاره وتحقق به على الوجه الذي يُرضيك، ثم قيض لنا ووفقنا إلى ليلة القدر، وأعظم لنا فيها الأجر، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تُهنا، وزدنا ولا تنقصنا، وارض عنا وأرضنا، وخذّل عنا ولا تخذلنا، برحمتك يا أرحم الراحمين. لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم، في هذه الساعة المُباركة، ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا كربا إلا نفسته، ولا ميتا إلا رحمته، ولا مريضا إلا شفيته، ولا مدينا إلا قضيت عنه دينه، ولا أسيرا إلا أطلقته، ولا غائبا إلا رددته، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله/
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، وأقم الصلاة.
(1/4/2022)
أضف تعليق