إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
قُبيل قليل أيام أرسل إلىّ أحدُ إخواني مقطعاً لمُلحِدٍ غربي يُقارِنُ فيه بين جدوى الرغبِ إلى اللهِ ودعائه من جهة وبين دعاءِ حدوة فرس التي يعتقد بعض الناس هنا في الغرب مِن باب الاسترسال مع الأوهام والخُرافات أنها مجلبة للحظ، وإذا بنتيجة المُقارَنة التجريبية الإحصائية واحدة، بمعنى أنك تتوجَّه إلى الله مائة مرة داعياً فربما يتفق أن يتحقَّق مطلوبك في مرةٍ أو ثنتين أو ثلاث، والأمر نفسه يتكرَّر مع حدوة الفرس، وإذا كان الاعتقاد بكون حدوة الفرس مجلبة للحظِ خُرافةٌ حقيقة فينبغي أن يكون إذن بالتوازي والمُقارَنة – والعياذ بالله – الاعتقادُ باستجابة الله للدعاء خُرافةٌ حقيقة.
للأسف ساءني هذا المقطع وساءني أن يتداوله أبناؤنا – شبابنا وشوابنا – لأنه سيُثير على الكثيرين غبارَ شُبهٍ وتشغيب يضعفُ معهما أو معها إيمانهم، الإيمان غير المُؤسَّس لا على العلم الوثيق ولا على التجربة الروحية الصادقة، فالشباب لم يلمسوا ما كان يلمسه جيل آبائنا وأجدادنا فضلاً عن أسلافنا في القرون الخوالي من المشيخة الحقيقية ومن الربانية والتأله والخشية وعدم التدكين والمُتاجَرة بالدين، لم يلمسوا هذا، وأنا أعذر هذا المُلحِد الغربي في موضوع الدعاء وموضوع حدوة الفرس في هذا المقطع المُصيبة والسخيف جداً طبعاً والغبي، فمِن أين له أن يعرف الله؟!
مِن أين له أن يفقه وأن يفهم عن الله؟!
ليس له من هذا شيئ ولا شروى نقير ولا قدر قطمير، هذا المسكين ليس عنده شيئاً، وهذا مفهوم، لكن ما القول في أبنائنا وفينا؟!
الإمام الذهبي – رحمة الله عليه أوسع رحمة – يحكي قصة في سير النُبلاء عن الإمام الحاكم الذي ترجم للشيخ أبي عثمان الحيري من أهل خُراسان والذي كان للخُراسانيين كما ورد في ترجمته كأبي القاسم بن محمد الجُنيد للعراقيين، إذن هو شيخ تلكم الأنحاء – رضوان الله عليه – المُتوفى سنة ثماني وثمانين ومائتين من الهجرة، ترجمه الحاكم في خمس وعشرين صحيفة، وذكر العجائب من قدر هذا الرجل وتألهه وصدقه، يحكي الإمام الذهبي عن الحاكم أن حاكم الري – كأني أظن أن إسمه أحمد بن عبد الله وكان طاغيةً مسرِفاً مُجرِماً والعياذ بالله – أمر يوماً بأن تُركَز الحربة – وُضِعت الحرب الطويلة التي تعرفونها ورُكِزت في الأرض – ثم أقسم بالله إن لم يصبوا عليها الدراهم صباً حتى يُغطى رأسها فقد أحلوا دماءهم، علماً بأنه يُخاطِب الأغنياء والتجّار، وهذا نوع من الظلم وأكل أموال الناس بالباطل، وعنده جيش وعنده شرطة طبعاً فيستطيع أن يذبح الناس في المساجد وفي الطرق، هو رجل مُجرِم ومُستبِد ولعين ومريد، والحربة ربما طولها متر ونصف، فإلى متى سنضع حتى يُغمَر رأسها أو سنها بالدراهم؟!
إذن هو يُريد مئات ألوف الدراهم، فأحد هؤلاء التجّار المساكين لم يهتد إلى جمع إلا ثلاثة آلاف درهم، هذا الذي اهتدى إليه فقط وهذا هو كل ما عنده، فأتى يائساً وقد قُطِعَ به إلى الشيخ أبي عثمان – قدَّس الله سره – وهو يقول “يا شيخنا والله لم اهتد إلا إلى ثلاثة آلاف، ونصيبي الذي وقع علىّ ثلاثون ألفاً”، فالمساكين التجّار والأغنياء تقاسموا المبلغ ومن ثم كل شخص عليه ترتب عليه مبلغاً مُعيَّناً ينبغي أن يُؤديه، وهذا التاجر ترتب عليه ثلاثون ألف درهم فضي لكنه لم يهتد إلى جمع سوى ثلاثة آلاف فقط، أي العُشر من المبلغ المطلوب منه.
نحن الآن في خُطبة حدوة الفرس، ومن ثم علينا أن ننتبه حتى نفهم الجواب مُباشَرةً، فقد ضاع الدين وتسرَّب وضعنا، والآن يضيع الإيمان من أبنائنا وبناتنا دون أن نشعر، ولا نزال كما نحن.
قال الشيخ له: هل تجعلني في حِل كيف أتصرَّف فيها؟!
فقال التاجر “أنت في حِل”، فأمر أبو عثمان بها فُوزِّعَت، قال “وزِّعوها في الفقراء والمساكين والمحاويج”، فالرجل تعجَّب، إذن الثلاثة الآلاف ذهبت أيضاً، ثم قال الشيخ للتاجر”اجلس عندي”، فجلس وظل الشيخ أبو عثمان الحيري يتردَّد بين السكة والمسجد ضارعاً إلى الله ومُبتهِلاً إليه – يقول يا ربُ يا ربُ، يا ربُ يا ربُ، يا ربُ يا ربُ – حتى دخل وقت صلاة الفجر – أُذِّنَ بصلاة الصبح – فقال أبو عثمان لغُلامه “اخرج إلى السوق وانظر ماذا حصل وماذا وقع” فخرج غُلامه الفرغاني وعاد ثم قال “يا مولانا لم يقع شيئ”، فجلس مكانه وقال مُخاطِباً ربه لا إله إلا هو “وعزتك وجلالك لا أقمت الصلاة حتى تُفرِّج عن المكروبين”، قال النبي “إن مِن عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبره”.
الآن نحن في موضوعة حدوة فرس، والآن كل ملاحدة العالم وكل ماديو العالم سوف يقولون “هذه قصص قديمة”، وهذا غير صحيح لأن عندنا منها الكثير من القصص الحية وأصحابها أحياء يُرزَقون، فنحن عايشيناهم ونعرفهم وانتفعنا ببركاتهم، وتباً للمحرومين، علماً بأن المحرومين لم يعودوا هم الملاحدة وحدهم، فوالله أكثر هؤلاء المُتطرِّفين المُتزمِتين دينياً محرومون ويسخرون من هذه الأشياء، سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ۩، لكن الأحداث والماجريات تسخر منهم بشدقٍ مفتوح على مصراعيه، فهم أصبحوا مسخرة دون أن يدروا وهذه مُصيبة، قال “وعزتك وجلالك لا أقمت الصلاة حتى تُفرِّج عن المكروبين”، ثم قال “اذهب يا فلان إلى السوق”، فذهب وعاد من فوره يقول “الله أكبر، الله أكبر، شُقَّ بطن أحمد بن عبد الله، لقد قُتِل”، فقام الرجل يقول “قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة” ودخل في صلاته، قال الإمام الذهبي رضوان الله عليه “بمثل هذا يعظم مشائخ الوقت”، أنت الآن تتحدَّث عن ورّاث محمد لا عن الكذبة على محمد وتراث محمد وقرآن محمد، ومن هنا قال الإمام الذهبي “بمثل هذا يعظم مشائخ الوقت”، بمثل هذا يثبت الإيمان في قلوب الناس، بمثل هذا يعلم الناس علم يقين لا علم ارتيابٍ وتظنين أن هؤلاء لو لم يكونوا على حقٍ باتباع الدين الحق والنبي الحق والكتاب الحق للإله الحق – لا إله إلا هو – ما أُعطوا هذا المدد وما فُتِح عليهم هذه الفتوح.
يحكي الشيخ محمود الرنكوسي – رحمة الله عليه – الرجل العارف بالله والفقيه الجليل الشامي – فرَّج الله عن الشام ما هى فيه وحسبنا الله ونعم الوكيل على كل ظالم، أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، الشام آية من آيات الله في هذا الباب والله، ولله در مشائخ الشام، دُرر علماء هذه الأمة، لأنهم يأبون إلا أن يجمعوا في مُعظمهم إلى علمهم الوثيق الإيمان الصادق والقُربى والزُلفى من رب العالمين، هؤلاء آية من آيات الله، كم كان وكم بالشام من أولياء وعلماء ومن علماء عُرفاء؟! – قصة جميلة، علماً بأن العهد به قريب فهو لم يُتوف من عقود طويلة، وهو كان ذلك الشيخ الفاضل والرجل الصالح تلميذ مولانا حُجة الله على خلقه في هذه الأزمان الآخرة وشيخ الحفّاظ والمُحدِّثين وإمام الإسلام والمُسلِمين وسيدي ومولاي وحبيب قلبي بدر الدين الحسني قدَّس الله سره الكريم، ماذا أُحدِّثكم عن بدر الدين والحديث عنه – والله العظيم – لا ينتهي؟!
أنا أدعو إخواني من طلبة العلم أن يقرأوا فقط عن الشيخ بدر الدين لكي يبكوا على أنفسهم، لكي يعلموا أنهم ما عرفوا الدين ولا عرفوا الله ولا شموا رائحة العلم.
أنتم ما عرفتم لا علماً ولا ديناً، اقرأوا عن الشيخ بدر الدين لكي تعرفوا كيف يكون العلم وكيف يكون الدين، الشيخ بدر الدين – قدَّس الله سره الكريم وروَّح الله روحه في أعلى مقاماتِ عليين – مكث بالمدرسة الأشرفية التي بناها أحد سلاطين الدولة الأيوبية للإمام أبي عمرو بن الصلاح الذي كان أول مَن رأسها وفيها وضع كتابه الشهير في مُقدِّمة علم الحديث، ودرَّس فيها شيخ مشائخ المُسلِمين مُحيي الدين النووي – قدَّس الله سره الكريم – والشيخ بدر الدين درَّس فيها أيضاً، وهو آخر مَن درَّس فيها علم الحديث بالإسناد وعلومه كلها للخاصة، علماً بأنه كان لا يُدرِّس إلا للخاصة، أما دروس العامة فكانت تحت قُبة النسر طبعاً لكن هذه للخاصة، وتقريباً يكاد يكون مدار الإسناد في بلاد الشام وفي غيرها طبعاً لكن يُوجَد ذلك في بلاد الشام بشكل خاص على مولانا وشيخ مشائخ المُسلِمين بدر الدين الحسني.
يأتيه الشيخ العلّامة راغب الطبّاخ – رحمة الله عليه – مرةً في دار الحديث الأشرفية وهى في الطابق الثاني – أي في العلية – فيدخل عليه ويسر إليه بشيئ، يقول له “يا مولانا، يا سيدنا نُريد شفاعتك ووساطتك في أمر كذا كذا” فلم يُجِبه الشيخ بكلمة، لم ينبس ببنت شفة، فاستغرب الشيخ راغب لأنه لم يُجِبه لا بنعم ولا بلا، ثم بعد ذلك لما انفض المجلس العلمي قام الشيخ وقاموا ونزل الشيخ ونزلوا على الدرج فقال الشيخ راغب: ما هناك؟!
قالوا “الشيخ بدر الدين – قدَّس الله سره – له ثلاثون سنة في هذه المدرسة لم يثبت عليه مرة أنه نطق بكلمة واحدة في شأنٍ دُنيوي، ليس إلا ذكر الله والعلم الشرعي فقط، ولذلك هو أنهى مجلسه بسرعة على عجل ونزل معك ليخرج منها ليُجيبك خارج المدرسة لأن الوساطة في أمر دُنيوي”، فما هذا الورع وهذه الربانية؟!
الشيخ بدر الدين – قدَّس الله سره – دخل في شرخ التسعين – مُتوفى سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة، أي قبل زُهاء ثمانين سنة – ولم يسمعه أحدٌ يوماً مرةً من الدهر اغتاب أحداً بكُليمة أو سمح أن يُغتاب أحد في مجلس بكلمة، لو كان أكبر كبير يذكر أحداً بكلمة يقول له “اسكت، أصلحك الله، هذا ممنوع”، هذا هو الشيخ بدر الدين، ولذلك لما آتاه أحد تلاميذه وكان صديقاً له وقال: يا مولانا هل نحن في زمن القبض فيه على الدين كقبضنا على الجمر؟!
فُزِعَ الشيخ وقال “لا يا بُني لا تقل هذا، نحن في زمن يُصبِح فيه المرء مُؤمِناً ويُمسي كافراً، ويُمسي مُؤمِناً ويُصبِح كافراً”، هذا هو الشيخ بدر الدين الذي لا يتكلَّم الكلمة إلا بميزان وهو يعرف – قدَّس الله سره – ماذا يقول، وهو القائل “يا حسرةً على المُسلِمين مِن بعدنا”، ولولا ما علم مِن مقامه عند الله ودالته على مولاه – والله – ما قال – قدَّس الله سره – هذه الجُملة.
يقول الشيخ محمود الرنكوسي أن الشيخ بدر الدين آتاه أحد تلاميذه – وهو الشيخ والعالم أيضاً محمود الأشقر – باكياً شاكياً يقول “يا مولانا، يا سيدنا، يا شيخنا، يدي هذه”، قال: ما لها يا بُني؟!
قال “يدي هذه كُسِرَت فجبَّرها الطبيب ثم آلامتني ولما فُكَّ الجبار إذا بها قد سرت إليها الغرغرينا – Gangrene – وحتَّم الأطباء قطعها حتى لا تسري هذه المُنتِنة – والعياذ بالله – إلى سائر البدن وضربوا لي موعداً لقطعها، فيا سيدي ادع الله لي يا سيدي”، علماً بأنك سترى الآن الفاريق بين الدعاء وحدوة الفرس، وإذا لم يُعجِبك الحديث فلتجعل حدوة الفرس تنفع الشيخ محمود الأشقر، المُهِم هو أن الشيخ بدر الدين ابتسم من فوره وقال “لا تُقطَع بإذن الله تعالى”، وانظر الآن إلى المشيخة، هذه هى المشيخة وهذا هو العلم، هذا معنى قول الإمام الذهبي “بمثل هذا يعظم مشائخ الوقت” وهذا لا يتأتى بالصراخ أو بالعويل أو بالصياح، أو بالدعاوى العريضة الطويلة، وإنما بمثل هذه الأشياء.
إذن قال الشيخ بدر الدين “لا تُقطَع إن شاء الله تعالى”، ثم أقبل عليه يرقيه نحو ثُلث ساعة ثم قال له “قُم على بركة الله”، يقول الشيخ محمود “فذهبت إلى بيتي ونمتُ ليلتي تلك، فلما أصبحت فلا والله ما وُجَدت بيدي بأساً، ولهى كما كانت قبل أن تُكسَر فليس بها شيئ وأصبحت كأحسن ما يكون”.
ذُهِل طبعاً الشيخ محمود لأن هذه مدهشة، هذه هى مداهش أولياء الله وعجائب أولياء الله وكرامات أولياء الله على الله، قال الله وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ۩، ومُباشَرةً أتى إلى مولانا بدر الدين الحسني – قدَّس الله سره – وجعل يُقبِّل نعليه، ولك أن تتخيَّل أن شيخاً وعالماً من العلماء ولديه لحية وجُبة وعمة ومع ذلك يُقبِّل نعلي الشيخ ويرقص فرحاً لأنه فقد عقله وفقد صوابه كما نقول، هذا أمر غير معقول، والشيخ بدر الدين يبكي ويقول “أصلحك الله، أصلحك الله، أصلحك الله”.
هذا موجود في مشائخ الشام وغير مشائخ الشام، وعنهم – والله – ما هو أعجب من هذا، وهذا طبعاً عجيب لكن هناك أيضاً ما هو أعجب، فلأُذكِّركم بما حكيته لكم عشرات المرار ولكني لا أمل من هذا لأن ذكري له وذكراه في قلبي تُحيي إيماني، فهل أُحدِّثكم أيضاً بما حكاه أحد فُضلاء وصُلحاء مُتأخِّري فقهاء الشافعية الشيخ محمد الحفّار الذي تُوفيَ – رحمة الله عليه – قبل سنين عديدة، ربما سنتين أو ثلاث سنوات؟!
الشيخ محمد الحفّار هو هذا العالم السوري الجليل الذي هو من تلاميذ مولانا أبي النصر ابن الشيخ محمد سليم خلف النقشبندي – ولي الله الكبير الجليل والعالم العلّامة والحبر الفهّامة أبو النصر النقشبندي – بل كان من أصغر تلاميذه، يقول الشيخ الحفّار عن نفسه “لما ذهبت إلى مولانا الشيخ أبي النصر لأستمع إليه لأول مرة كنت غُلاماً حدثاً صغيراً جداً، وكان المجلس غاصٌ ملآن بالمشائخ وطلّاب الصلاح وطلّاب العلم، فكنت مُنتحٍ ناحيةً وأجلس في جانب، فلما انفض المجلس وأردت أن أقوم قلت في نفسي لابد أن أترك شيئاً إذا رآه الشيخ ذكر مجلسي وموقعي فربما ذكرني بدعوة صالحة تُسعِدني في الدنيا والآخرة”، وانظروا إلى عظمة فهم هؤلاء البشر، فطبعاً دعوة الرجل الصالح خيرٌ لك من أشياء كثيرة يا سيدي، وأنت قد تدعو مائة سنة ولا يُستجاب لك لأنك لست من الصالحين وهذه مُشكِلة، لذلك قال رجل مرة للإمام جعفر الصادق – عليه السلام – ابن رسول الله “يا أبا عبد الله ما لي أدعو ربي ولا أرى الإجابة؟!” قال “لأنك تدعو مَن لا تعرف”، الله أكبر، قال الله وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي ۩، أي ادعه هو ولا تدع هواك، لا تدع مصلحتك ولا تدع غضبك ولا تدع حزبك ولا تدع شهوتك ولا تدع وهماً أفهمك شيطانك أنه هو الله ولذلك تستجيز أن تدعوه بظلم عباد الله وتستجيز أن تدعوه بلعنة صالحي عباد الله، فهل عرفت أنت – ما شاء الله عليك – الله؟!
أنت مسكين، أنت تدعو وهماً وتدعو صنماً، ولذلك عليك أن تيأس من أن يُستجاب لك ومن أن ترى الإجابة إذا كنت كذلك، وهذا معنى قول جعفر الصادق الذي لخَّصه كلمة واحدة “لأنك تدعو مَن لا تعرف”، الله يقول ادْعُونِي ۩، أي ادع الله، لكن أنت تدعو شيئاً آخراً تظن أنه الله، فأنت تعرف من الله إسمه فقط، تعرف هذه الحروف فقط – حروف كلمة “الله” – ولكن لا تعرف الله – لا إله إلا هو – كما تعرَّف إلينا.
ومرة أُخرى آتى جماعة إلى جعفر الصادق وقالوا له “يا أبا عبد الله لم ندعو ولا يُستجاب لنا؟!”، فقال “لأنكم لم توفوا لله بعهده، والله لو أوفيتم له لأوفى لكم، قال تعالى وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ۩، لكنكم لم توفوا لله بعهده”.
ماذا قال تعالى في آيات الصيام الجليلة؟!
قال الله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩.
قال السادة المُفسِّرون – رحمة الله عليهم جميعاً – أن فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي ۩ قد يكون المُراد في باب الأفعال، فاستجب لله بالأفعال، لكن وَلْيُؤْمِنُواْ بِي ۩ في باب العقد، في باب عقد القلب، في العمليات وفي العقديات، في النظريات، فيكون عطف وَلْيُؤْمِنُواْ بِي ۩ عطف مُغايرة، لأن الاستجابة هنا شيئ والإيمان شيئ آخر، فالاستجابة بالعمل غير الاستجابة بالإيمان، وقد يكون فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي ۩ الأمر العام الإلهي في العمليات والنظريات فيدخل فيها أول دخولٍ – ولا أقول دخولاً أولياً بل أول دخول – الاستجابة لتوحيده لا إله إلا هو، الإيمان والاستجابة لـ”لا إله إلا الله، محمد رسول الله”، فيكون من باب عطف الخاص على العام تنويهاً بمثابته، لأن قد يقول قائل “كان يكفي أن يقول فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي ۩ لأن أول شيئ يدخل فيه هو الإيمان”، ولكن هذا من باب عطف الخاص على العام، وهذا من أفراده، فلماذا أُفرِدَ على أنه من أفراد العام؟!
تنويهاً بمثابته ورفعاً لمقامه واعتباره، كما قال عز من قائل فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ ۩، أليس جبريل من الملائكة؟!
جبريل من الملائكة ومن ثم هذا خاص، والملائكة عام فتعم جبريل وغير جبريل، لكنه ذكر الخاص قبل العام تنويهاً به أيضاً وإفراداً له بالذكر وإلا فهو مَلك، وهذا كثير في كتاب الله وفي كلام الأبيناء الفُصحاء.
نعود إلى ما كنا فيه:
إذن قال جعفر الصادق لهم “أنتم لم توفوا لله بعهده، والله لو أوفيتم لله بعهده لأوفى لكم”، ولذلك انتبهوا إلى أن حدوة الفرس وإلحاد الغربيين وإلحاد الشرقيين تالله لا يستطيع أن يُفسِّر لنا – انتبهوا – لماذا يُستجاب لبعضنا، هو قد يُفسِّر لنا نحن وأمثالنا لماذا لا يُستجاب لنا، فمُمكِن فعلاً يكون مثل حدوة الفرس لأنك قد تعمل تجربة ويُستجاب لك في دعوة واحدة من بين مائة دعوة،و كذلك لو ذهبت لكي تدعو الخشب سوف يُستجاب لك في دعوة واحدة من بين كل مائة، وسوف يُقال أت هذا حدث بالصُدفة، ولكن هناك أولياء، هناك رجال وإماء نساء يعيشون بيننا كلما أراد أحدهم شيئاً وألح في الدعاء يرى الفلاح قبل الصباح، فما رأيكم؟!
أقول لكم مُؤكِّداً هناك مداهش تحدث، وعزة الله مداهش يدهش لها مَن خبرها وعاشها وذاقها مرة ومرتين وثلاث وأربع وخمس ومائة ومائتين مرة، لأن الله يبعث رسالة ويقول له “أنت عبدي، أنت تدعوني، أنت استجبت لي ولبَّيتني، وأنا أيضاً بدوري سوف أستجيب لك وأُلبّيك، لبيك عبدي”، إذن اجعل حدوة الفرس واجعل فلسفة الإلحاد تُفسِّر هذا، علماً بأنه لا يعنيني أن يُقال فيلسوف ومُفكِّر وعالم – كل هذا لا يعنيني – لكن أنا يعنيني أن أكون عبد الله وأن أدلكم كيف تكونون عباداً لله، أنا أُريد لكم ما أُريد لنفسي، سأكون أنانياً وكذّاباً وبخيلاً إن أخفيت عنكم الحقائق، فيا أحبابي بعزة جلال الله هذه حقائق معيشة، ودعوكم من الكذّابين ودعوكم من المحجوبين المحرومين، فوالله إنهم محرومون، أسأل الله أن يكشف عنهم وأن يصلهم وإلا هم محرومون ومن ثم يُشوِّشون على الناس، هم قطّاع طرق على الله وليس على عدنان، عدنان لا يعنيني أنا في شيئ، عدنان أكثر شخص يُغري الناس بسبه ولعنه وزندقته، مَن أنا؟!
أنا غابر، أنا راحل، أنا سريع الزوال، ومن ثم هذا لا يعنيني، وإنما يعنيني أن تعرفوا الله وأن تعيشوا بسعادة حقيقية بالوصلة بالله، اتصلوا بالله وكونوا مع الله واطلبوا الله، لا تطلبوا الكذب والتمثيل والمظاهر، فالدين ليس مظاهر وقشوراً وطقوساً ولباساً ولحىً، الدين قلب، قال مولانا رسول الله – صلى الله عليه وآله – ثلاث مرات “ألا أن التقوى ها هنا”.
نعود إلى مولانا الشيخ محمد الحفّار – رحمة الله على روحه الطاهرة – حيث يقول “المُهِم وأنا مُنتحٍ في ناحية في طرف الغُرفة استخرجت منديلاً – لم يكن هناك Taschentücher طبعاً وإنما كان يُوجَد منديل قماش – ووضعته من غير أن يراني أحد أو يُحس بي أحد تحت المرتبة ثم اذهب، وبعد ذلك حين تُقَم الغُرفة ويُعاد ترتيبها وتهيئتها قد يرى الشيخ المنديل حين تُرفَع المرتبة، فإذا رآه ربما تذكَّر أنني كنت أجلس في تلك الناحية فيدعو لي”.
يقول الرجل الصالح الفقيه الشافعي الجليل المُعمَّر – رضوان الله عليه – الشيخ محمد الحفّار “لا والله، حين قام الناس وقمت وأردت أن أنصرف نظر إلىّ الشيخ – قدَّس الله سره – وقال يا بُني يا محمد نذكرك بلا منديل، يا بُني نذكرك وندعو لك بلا منديل”، فكيف عرف هذا؟!
كيف شعر بهذا؟!
لا إله إلا الله، ومع ذلك مُلحِد يأتيك غبي محجوب يعتقد أن عقله في ذكاء أينشتاين Einstein ويقول لك ” الشيخ رمقه وهو يضع المنديل، وفهم عنه لأن عنده ذكاء عاطفي”، وهذا غير صحيح، أصلح الله عاطفتك وأصلح الله قلب يا محجوب، يا مسكين، يا تائه، يا مَن ستندم على هذا، لكن أسأل الله ألا تندم، وأسأل الله أن يُسعِدك أيها المُلحِد المسكين من القوم السُدى ومن القوم الضائعين الضُيَّع، فقد ضعتم وأضعتم يا مساكين دون أن تشعروا، لكن الذنب ليس كله عليكم، بعضه عليكم وأكثره على مشائخ السوق ومشائخ الإرهاب والتزمت والقتل والتكفير.
المُهِم أن هذا الولد تأثَّر جداً وأصبح من تلاميذه، ومن هنا كان الشيخ محمد الحفّار نفسه له كرامة من أعجب كرامات هذا العصر الذي عشنا فيه، فهى كرامة من أعجب كرامات القرن العشرين ويشهد عليها المئون من أهل حلب ومن ذوي مجلس الشيخ الذين هم من أصحاب مجلسه وحضوره، حيث أتى إليه رجل مع امرأته ومعه رجل آخر يحتملان في بطانية – Blanket – فتاة مُقعَدة، هذه الفتاة مُقعَدة من زُهاء عشرين سنة، فانتهى وتليَّف كل شيئ، فلا يُوجَد عضلات سليمة أو أوتار أو أي شيئ، كل شيئ انتهى وأصبح علاجها أمراً مُستحيل علمياً، المُهِم هو أنهم دخلوا على الشيخ فقال: ما هذا؟!
قال والد الفتاة “يا شيخنا، يا مولانا، يا شيخ أبو النصر هذه ابنتي فاطمة، وهى مشلولة من عشرين سنة، ومن هنا نحن نستغيث بالله ونتبرَّك بك وبدعوتك الصالحة، فادع ربك لها”، فقال الشيخ “يفعل الله ما يشاء، الله المُستعان، ضعوها هنا”، وكان الشيخ – قدَّس الله سره – معه عُكاز فوضعه عليها – علماً بأن هذه ليست في الكتب وليست قبل ألف سنة وليست قصة أبي عثمان الحيري، لكن هذه قصة في حلب رآها المئون وعاشوها ومنهم الشيخ الحفّار – وقال “يا ابنتي يا فطوم قولي أشهد أن لا إله إلا الله”، أي أنه يقول لها قولي فقط كلمة التوحيد فقالت، ثم قال “قولي ورائي وأشهد أن محمداً عبده ورسوله”، فقالت “وأشهد أن محمداً عبده ورسوله”، قال “يا ابنتي يا فطوم قومي واحضري لي من الغُرفة الثانية إبريق الماء الخاص بالوضوء”، لكن كيف يقول لها قومي وهى مشلولة من عشرين سنة؟!
أين نعيش نحن؟!
هل نحن في عصر الأنبياء والمُرسَلين؟!
ما الذي يحدث؟!
يقول كل مَن حضر “وقامت فطوم على رجلين تسعى”، ومن ثم كل الألسنة عُقِلَت وأُخرِسَ الناس بسبب هذا المشهد، فمن المُمكِن أن يتأثَّر بعض الناس جداً بل من المُمكِن أن يموت من الرهبة الإلهية، هذا شيئ غير معقول، المُهِم فطوم قامت ودخلت الغُرفة فرأتها أمها وجُنَّت طبعاً وحُقَّ لها أن تُجَن، فقامت أُمها وقد اختُلِطَ عقلها وزايلها وجُنَّت وجعلت تقول “فطوم تمشي، فطوم تمشي”، ثم بدأت تحكي كلاماً كما يُقال غير صاحٍ وغير واعٍ، وذهبت فطوم كالمُسرنَمة أو كالذي يمشي نائماً وأحضرتا الإبريق وعادت إلى الشيخ، فقال لها “بارك الله فيكِ يا ابنتي يا فطوم، عودي إلى مجلس النساء”، وكان الشيخ لا يسمح حتى بالاختلاط في المجلس، فكان هناك غُرفة للنساء وغُرفة للرجال، لكن الزوج تململ وقال “يا مولانا”، قال: ما هناك؟!
قال “أم فطوم”، قال: ما بها؟!
قال”جُنَّت”، فضحك الشيخ وتبسَّم، علماً بأنني لم أجد ولياً لله – والله العظيم – إلا وروحه خفيفة ومرحة وهو رزينٌ ثقيل، والله لا يُعرَف أبداً في أولياء التجهم والتمثيل والافتعال والتقعر في الكلام طبعاً، هم عفويون وطبيعيون كأنهم أطفال، بل هم أطفال الله – كما قال المسيح هم أطفال الرب – لصفائهم وبركتهم وطهارتهم وصدقهم مع الله – لا إله إلا هو – ومع الناس ومع نفوسهم وضمائرهم، فاللهم أعد علينا من بركاتهم، اللهم لا تحرمنا وأعطنا كما أعطيتهم يا رب العالمين.
قال الشيخ “كنا بفطوم، والآن أصبحنا بأم فطوم”، إذن الشيخ يُنكِّت، ثم قال “ائتوا بأم فطوم”، فأتوا بها وهى مجنونة، وكانت تقول نفس الكلمة “فطوم تمشي، فطوم تمشي”، لأنها جُنَّت، فقال “يا أختي اجلسي”، فجلست المرأة مُباشَرةً، ووضع العكاز عليها وقال “قولي لا إله إلا الله”، فقالت كلمة التوحيد – اللهم اقبضنا عليها غير مُبدِّلين ولا مفتونيين ولا فاتنيبن ولا مُغيِّرين – ثم قال “قولي محمد رسول الله”، فقالت “محمد رسول الله”، فسكنت وعاد إليها عقلها كأحسن ما يكون وانتهى كل شيئ، فقدَّس الله سر مولانا وسيدنا أبي النصر النقشبندي وشفَّعه الله فينا، علماً بأن هذا الشيخ الجليل كان مُعاصِراً لمولانا الشيخ بدر الدين الحسني.
إذن نترك الآن الشيوخ والمشيخة والناس الذين قضوا حياتهم في العلم بالطريقة التقليدية ونأتي إلى مولانا أيضاً العارف بالله والرجل الصالح والطبيب والمُثقَّف والمُفكِّر مُصطفى محمود، حبيب قلبي هذا الرجل – رحمة الله عليه – لأنني أُحِبه وأعشقه مُذ كنت صغيراً وإلى الآن والله العظيم، وسعيد مَن ترحَّم عليه ابنه كما أترحَّم أنا على مُصطفى محمود، وطبعاً أترحم عليه وعلى عبد الباسط عبد الصمد وعلى بدر الدين الحسني وعلى الناس الصالحين الذين أُحِبهم في الله، مُصطفى محمود – قدَّس الله سره – أكيد كان أكيد صاحب سر وعلاقة خاصة مع الله، يقول في مقطع فيديو على اليوتيوب YouTube حديثاً مُؤثِّراً وجميلاً جداً، وهذا الحديث حكاه في مرتين بنفس الطريقة، فلا غيَّر ولا بدَّل لأنه هذا الحديث حقيقي، يقول”التقيت مرة في الرباط بالمغرب الأقصى – حفظها وحفظ كل بلاد المُسلِمين – بسيدة فرنسية وقد أسلمت، وكانت تعتب علىّ وعلى المُسلِمين وتقول يا دكتور مُصطفى أنتم لديكم كنز ضيَّعتموه وألقيتموه في التراب وفرَّطتم فيه وهو الإسلام، لديكم دين هو بمثابة كنز حقيقي لكن أنتم لم تُقدِّروه حق قدره”، وطبعاً هى لا تقصد الإسلام بالمعنى الذي نتحدَّث عنه، وإنما تُريد إسلام العلاقة بالله وإسلام معرفة الله واللجأ إلى الله والاتصال بالله، قالت “أنتم لا تعرفون هذا يا مُصطفى، ومن ثم فأنتم ضائعون”، ثم قالت “سأقص عليك يا دكتور مُصطفى – يقول الدكتور المرحوم مُصطفى محمود أن هذا كان في سنة ألف وتسعمائة وثماني وستين – قصتي، قبل ثلاثين سنة من الآن أتيت مع صواحب وأصدقاء لي من باريس بفرنسا إلى الرباط في إجازة صيفية ضمن وفد سياحي، وقبل أن تنتهي الإجازة رأيت فيما يرى النائم رؤيا غيَّرت حياتي”.
لا إله إلا الله، يا إخواني تذكَّروا دائماً وعلِّموا أولادكم وقولوا لهم “من أسماء الله الهادي، فهو هادي أهل السماوات والأرض، كما وسعت رحمته مَن في السماوات ومَن في الأرض عمَّت هدايته مَن في السماوات ومَن في الأرض”، ولكن قد يقول لي أحدكم: فما بالنا نرى الألوف والملايين كفّاراً ومُشرِكين ووثنيين ومُلحِدين؟!
أقول لك لأنهم ما طلبوه ومن ثم لم يجدوه، فالعلة في القابل لا في الفاعل، مَن علم الله يقيناً مِن قلبه أنه يُريد الحق ويتواضع له دلّه عليه، لكن مُعظَم الناس لا يُريد إلا كما يُريد قومه، فالواحد منهم يُريد أن يعيش مع الناس، قال إبراهيم عن هذا النمط من البشر مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ۩، كأن إبراهيم يقول لهم”أنا أعلم أنكم تعبدون أوثاناً ولكنكم لا تفعلون هذا عن قناعة فلسفية دينية بالأوثان، فالقضية في المقام الأول اجتماعية سوسيولوجية”، بمعنى أنك تكون مع المُجتمَع فتتماهى بالمُجتمَع وتمتثل للمُجتمَع، لأن المُجتمَع يحفظك ويصونك ويدعمك ويقبلك فيه بشروطه فقط، ومن غير المسموح لك أن تُفكِّر أو أن تُعيد تقييم عقائد المُجتمَع ودين المُجتمَع ومذهب المُجتمَع، فهذا ممنوع وإلا تُطرَد طبعاً، ولذلك علينا أن ننتبه إلى أن هكذا هى الدنيا في الشرق وفي الغرب.
نعود إلى قصة الدكتور مُصطفى محمود والسيدة الفرنسية، قالت له “قبل ثلاثين سنة يا دكتور مُصطفى قبل أن نُغادِر المغرب إذا بي أرى رؤيا غيَّرت مسار حياتي، رأيت رجلاً جميلاً صبوحاً وقوراً يلبس أبيض – لباساً أبيضاً – فتأثَّرت جداً به وبمرآه، وإذا به يمد يده ويأخذ كتاباً ويُقدِّمه إلىّ هدية، فأخذت الكتاب فإذا هو قرآن المُسلِمين، فكان أول عهدي بقرآنهم في تلك الرؤيا، وقُمت من نومتي وأنا أرتعد، فقد أثَّرت علىّ تلك الرؤيا تأثيراً كُلياً”، علماً بأن هذا طبعاً يعود إلى روحانية رسول الله، قال الرسول “مَن رآني في المنام فقد رآني حقاً”، فهذا ليس لعباً، ومن ثم إذا أتى النبي لأحد في المنام فأنه يأتيه كما هو بروحانياته وبنفسه المُقدَّسة، ولكن لماذا يأتي رسول الله إلى سيدة فرنسية؟!
لأن الله يعلم طبعاً أنها صادقة في معرفة الحق، فهذه المسكينة كان لديها نفس طاهرة طيبة لكن لم يتسن لها معرفة الحق الرباني المُتمثِّل في دين ختام الأنبياء والمُرسَلين لذلك جاءها الرسول، قالت السيدة “وقلت لصواحبي وأصحابي عُودوا، فأنا مُقيمة هنا”، قال لها أصحابها “كيف تفعلين هذا؟ هل أنتِ تخبَّلتي وجُننتي؟”، فقالت “أنا مُقيمة هنا، سوف أُمعِن في دراسة العربية والقرآن والإسلام لكي أرى هل هذا الدين حق أم ليس بحق”، ثم قالت “وفعلاً يا دكتور مُصطفى تعلَّمت العربية وجوَّدتها وقرأت القرآن وقرأت التفاسير وقرأت أشياء كثيرة واقتنعت ودخلت الإسلام بفضل الله تبارك وتعالى، والتزمت بالعبادات كلها”، أي أنها كانت مُسلِمة تماماً كأحسن ما يكون الإسلام، ثم قالت “بعد عشر أو خمس عشرة سنة – لا أدري الشك منه أو منها، لكن المُهِم هو أن الدكتور مُصطفى محمود قال هذا – ذات ليلة أتفقَّد نفسي وأتحسس صدري وإذا بشيئ غريب، فقد تغيَّر لونه وأصبح مُحمَراً، ووجدت ألماً وشيئاً مُتحجِّراً، فخشيت أن يكون سرطاناً – أي سرطان الثدي – وذهبت إلى طبيب مُختَص فقال بالفعل هو سرطان لكنه لأسف مُتأخِّر، فلا نستطيع حتى أن نُجري عملية استئصال، لقد ضرب العضلات ووصل إلى القفص الصدري، وعليكِ أن تكتبي وصيتكِ وتستعدي إلى الرحيل، لأنه تشعَّع وانتهى كل شيئ”، ثم قالت “سُبحان الله يُقدِّر الله في تلك الأيام أن يأتي في فوج سياحي بعض مَن كانوا معي قبل عشر أو خمس عشرة سنة – نفس الصواحب والأصدقاء جاءوا مرة أُخرى – والتقوا بي وفرحوا بي، وقالوا لي كيف حالك يا فلانة؟ فقلت الحمد لله كل شيئ تمام، فقالوا هل ما زلتِ مُسلِمة؟! فقلت نعم ما زلت مُسلِمة، فقالوا هل أنتِ درويشة إلى الآن؟! فقلت نعم ما زلت درويشة – يسخرون بها ومنها – ثم قالوا وماذا عن بقية الأوضاع؟ فقلت لهم أن صحتي حدث لها كذا وكذا، فقالوا أنتِ مُسلِمة وتُصلين وتدعين الله رب المُسلِمين فلماذا لم يُنقِذكِ ويشفكِ؟، ثم قالوا هيا بنا ودعكِ من هذه الدروشة ومن هذا الدين وأهله وعودي معنا إلى باريس، يُوجَد هناك أطباء وإخصائيون أكثر علماً وإتقاناً، فرفضت وقلت لأ وسأبقى هنا، قالوا هل أنت جُننتِ؟” المُهِم هو أنهم ألحوا عليها فلما يئسوا منها تركوها”، ثم قالت “قضيت تلك الليلة في حالة صعبة، فافترشت سجادتي ودعوت الله” وانظر يا أخي الآن إلى هذا، عليك أن تفهم أن هذا هو العز، فالعز مسموح لك كلما أردت، فلو أن الله حظر عليك أن تدعوه إلا مرة واحدة في السنة – قال لك مسموح لك أن تدعوني مرة واحدة فقط في يوم كذا من شهر كذا بين وقت كذا وكذا وإذا دعوتني لبّيتك – والله لترين الناس يلحم بعضهم بعضاً ويحطم بعضهم بعضاً في المساجد والطُرقات لأنهم يُريدون أن يدعوا الله، لكن من كرمه وواسع رحمته يا نائم ويا محجوب أنه يقول لك عليك بالدعاء متى أردت، فقط قليل من الماء طهِّر به جسمك ونقِّ به حالك ثم اسكن وضع السجادة وتوجَّه إلىَ وقل لي يا رب يا رب يا رب وأنا سوف أقول لك لبيك عبدي، ولكن بعدما تكون وفيت بعهدي فبعدت عن الذنوب وأعطيت الناس حقوقها ولم تقرض أديمها ولم تطعن في أعراضها ولم تُشوِّه سُمعتها واتقيتني حق تقواي، ومن ثم سوف أقول لك لبيك، فالعبد العارف لا يُرَد، وطبعاً ليس كل مَن دعا هو داعٍ!
المُهِم قالت السيدة له “صليت على السجادة صلاةً وبكيت بكاءً وشكوت هؤلاء إلى ربي، وقلت له يا رب لا تُشمِت بي هؤلاء فقد شمتوا بي وأنت ربي، لا رب لي سواك”، ثم قالت “يا دكتور مُصطفى شعرت – والله – كأن كل خلية في بدني تُصلي وتبكي، فأنا لم أُصل هذه الصلاة من قبل ولا من بعد”، قال الله أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ۩، أي دعاء المُضطَر، فهنا يُوجَد اضطرار بعد أن تقطَّعت وانقطعت الأسباب وضاعت الحيل، فلا يُمكِن أن يُفعَل أي شيئ، وبالتالي يتلبَّسك كإنسان شعور مُفعَم بالضعف وانقطاع الحيلة، فماذا تفعل إذن؟!
ليس أمامك إلا الله لا إله إلا هو، قالت السيدة الفرنسية”شعرت كأن كل خلية في بدني تُصلي وتبكي، وغلبتني سنة من النوم فنمت ولم أفق إلا مع طلوع الشمس، ثم تحسست صدري فلا والله ليس به شيئ بل رطب كل شيئ ولم يعد هناك أي شيئ مُتحجِر، فذهبت إلى المرآة ووجدت أن الحمار قد ذهب، فلم أُصدِّق ما حدث وأخذت ثيابي وهُرِعت إلى الطبيب وقلت له أعد فحصي، ففحص الطبيب المُسلِم في الرباط ودُهِش وقال هذا مُستحيل، ألستِ فلانة؟ قلت بلى، قال أنت لستِ فلانة، ثم ذهب إلى الملفات وأخذها وقارن بالإسم وبالهوية وقال أنتِ فلانة بالفعل لكنه لم يُصدِّق ما يرى، ثم قال ما الذي حصل؟”.
لا أدري هل قصت عليه القصة وقالت له أن ربك الذي لم تعرفه جيداً هو الذي تأذَّن بأن يكون هو الذي شفاني، وهو الذي بمحمد هداني، ثم قالت للدكتور مُصطفى محمود”أنتم ضائعون، أنتوا لم تفهموا دينكم، عندكم كنز أضعتموه، ففي جلسة علاج واحدة أو جلسة صلاة واحدة لرب العالمين انتهى كل شيئ”، وانظر الآن ماذا سيقول مولانا الدكتور مُصطفى محمود – رضوان عليه وقدَّس الله سره لأنه أكيد كان صاحب سر مع الله – بكل بساطة وبكل طفولية، فما أجمل هذا الرجل؟!
ما أجمل حُرية التعبير الانفعالي عنده التي تخلو من التملق ومن الافتعال ومن التمثيل ومن التقعر والتشدق؟!
يقول “وأنا كمان أيضاً حصل لي تجربتان في مُنتهى الغرابة”، ثم سيحكي لنا التجربتين قائلاً “التجربة الأولى كانت تقريباً في سنة ألف وتسعمائة وتسع وستين حيث شعرت ذات مرة بألم شديد وفظيع في ظهري، فذهبت إلى الطبيب مُباشَرةً وقال لي لابد من عملية – في تلكم الأيام لم يكن العلم مُتطوِّراً، وحتى الآن هذا الأمر صعب جداً – ولابد من الشق، يُوجَد على الكُلية حصاة كبيرة، فثلث الكُلية أصبح حصوة، وهذه الحصوة إذا تحركت تقتل الإنسان ألماً، وإذا لم تتحرَّك لا يشعر بها الإنسان، لكن لابد من عملية”.
وطبعاً المسكين مُصطفى محمود أجرى حوالي أربع وعشرين عملية في جمسه لأنه كان مُبتلىً من الله، فالله كان يُحِب هذا الرجل ويُحِب ضراعته إليه، يقول داود – عليه السلام – أبو سليمان “سُبحان مَن استخرج مِن عبده الدعاء بالبلاء، وسُبحان مَن استخرج مِن عبده الشُكر بالنعماء”، فإذا أردت ألا يبتليك الله كُن دائماً مُضطَراً وكُن دائماً ضارعاً إلى الله، إياك أن تثق بقوتك أو بجاهك أو بمالك أو بنفسك أو بعلمك أو بسُلطانك أو ببلدك، إياك أن تفعل هذا، يقول ابن عطاء الله السكندري “العارفُ لا يزول اضطراره ولا يكون بغير الله قراره”، فالعارف دائماً مُضطَر ودائماً يشعر أنه ضعيف جداً جداً جداً وأنه يحتاج إلى حماية الله باستمرار على مدار النفس ولا أقول على مدار الساعة، فمثل هذا يكون – إن شاء الله – مُعافىً – بإذن الله – ولكن يأتي البلاء لكي يُعيده إلى الله إذا غفل، وهذه نعمة طبعاً.
المُهِم هو أن الدكتور مُصطفى رفض إجراء العملية وقال ” ذهبت إلى البيت وضعت السجادة في الليل – نفس الشيئ يتكرَّر – وقلت له يا رب أنا ضعيف، أنا عبدك الضعيف، وأنا لا أستطيع أن أخضع لهذه العملية، لست مُستعِداً لها لأنني لن لا أمتلك القدرة على تحملها وبالتالي لا أُريدها، وأكيد أنت سوف تجعل لي مخرجاً”، ثم قال “وجلست أُناجي الله وأُصلي على هذه الحالة”، ثم حدث معه نفس الشيئ، ولا أدري هل هذا حدث له قبل أن يسمع قصة السيدة الفرنسية أم بعد أن سمع لكن المُهِم هو أن نفس الشيئ حدث مع الدكتور مُصطفى محمود، قال “وشعرتلأول مرة في حياتي بأن كل ذرة في بدني مُقبِلة على الله وتستنجد بالله”، لا إله إلا الله، نعم هو عاش هذه الحالة، قال “وهذا إحساس لا يُوصَف، ثم غلبني شعور بأنني أحتاج إلى الحمام – Toilet، بيت الراحة، وذلك بعد نصف ساعة فقط من الابتهال والإقبال على الله”، وهذه القصة أعجب من قصة السيدة الفرنسية، فهو أراد الذهاب إلى الحمام بعد نصف ولم يمر عليه بضع ليلة مثلما حدث مع هذه السيدة، ثم قال ” خرج مني لتر كامل مثل بودرة طحينة – طحينة السمسم – لأن الحصاة لم تتفتت فحسب بل طُحِنَت طحناً”، هذه الحصاة لو تفتت سوف تخرج طبعاً ولكنها ستكون مُؤلِمه جداً في الحالب -Ureter – لكنها خرجت بطريقة عادية مثل – أكرمكم الله وأعزكم الله جميعاً وجمعاوات – البول عادي ولكن كان معه طحينة، فالحصاة طُحِنَت وانتهى كل شيئ في نصف ساعة”، أرأيتم مَن هو الدكتور مُصطفى محمود رحمة الله عليه؟!
قال الله أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ۩، ومع ذلك يُحدِّثك أحدهم عن حدوة الفرس، إذن فلتجعل حدوة الفرس تُفسِّر لي طحن هذه الحصاة، قال الله أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ ۚ ۩ ، لا إله إلا هو.
يقول الدكتور مُصطفى محمود “في المرة الثانية كنت في طرابلس ليبيا – رحمة الله عليه – وحدث لي مرض عجيب لم أقرأ عنه في كتب الطب، وهو مرض Functional أي وظيفي أو وظفي – من ناحية صرفية – يتعلَّق بالجهاز الهضمي الذي نعرفه جميعاً طبعاً، فوظيفة الامتصاص – Absorption – توقَّفت فيه”، ولك أن تتخيَّل هذا، قال “هذا المرض كان عجيباً، فكنت آكل الشيئ وينزل كما هو لوجود إسهال مُستمِر، فإذا أكلت جزراً فإنه ينزل جزراً مع ماء، وإذا أكلت تفاحاً ينزل تفاحاً كما هو، وذلك لتوقف وظيفة الامتصاص – Absorption – تماماً، فنقص وزني عشرة كيلو جرام في خمسة أيام وأصبحت مثل سمكة الرنجة، فكدتُ أهلك ومن ثم رُعِبت رُعباً شديداً – قال رُعِبت رُعباً شديداً ولم يقل سلَّمت لله وانتهى كل شيئ – لأنني لا أدري ما الذي يحصل معي، فلم أقرأ خلال مُدة دراستي في الطب وتخصصي أي شيئ عن هذا المرض، فلا أعرف له أي علاج ولا أعرف إلى مَن أذهب لأنني لا أعرف مَن يُعالِج هذا الشيئ أصلاً، فهناك وظيفة توقَّفت عن العمل من تلقائها”، ثم ذكر نفس الشيئ وقال “أقبلت على الله وقلت ليس لي إلا الإقبال عليه لأن هذا هو الباب الذي لا يُسَد، فحين تُسَد كل الأبواب يبقى هذا الباب مفتوحاً لمَن أراد أن يلجه بشرطه”، هذا الباب يدخل منه الطاهر التائب المُخبِت وليس المُجرِم الذي يأتي بإجرامه ويُريد أن يدخل، ثم قال “وجلست ثلاث أو أربع ساعات وأنا أقول لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله”، فقط يذكر الله، فهو لم يدع بشيئ ولم يقل أبداً ارفع عني أو اشفني أو عافني، فقط قال “لا إله إلا الله” كثيراً، وهذا يُذكِّرني بحديث أبي سعيد في الترمذي الذي يقول مَن شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أُعطي السائلين أو أفضل جزاء السائلين، فمُصطفى محمود كان يفهم هذا ومن ثم فعل ما فعل، فأخذ يُردِّد كثيراً “لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله” لمدة ثلاث أو أربع ساعات، قال رحمة الله عليه”ثم غلبتني عيناي فنمت، وقُمت صباحاً وعُدت كما كُنت ليس بي شيئ، وعاد كل شيئ طبيعياً”، فبماذا أُحدِّثكم إذن؟!
أنا تعمَّدت أن آتي بأشياء من ناس مُعاصِرين ومن أحياء أعرفهم، وطبعاً لا أُريد أن أتحدَّث كثيراً عن أحياء أعرفهم حتى لا يُحرَم بعض الناس الانتفاع ببعض ما يسمعون لغلبة الحسد والنفاسة والتكذيب وروح الخصومة الفاجرة، لكنني أتحدَّث عن أُناس – إن شاء الله – بين أهل الله وطلّاب الحق وطلّاب الصلاح هم جامع مُشترَك، فلا أعتقد أن هناك أي شخص لديه مصلحة في أن يكره مُصطفى محمود أو يُبغِض صاحب العلم والإيمان الذي قضى كل حياته يقول لنا أن الدلائل على الله مبثوثة في كل الوجود عُلويه وسُفليه، فأينما تلفتم وأينما قصدتم وأينما ذهبتم الله – لا إله إلا هو – معكم، وهذه هى دعوة العلم والإيمان، فرحمة الله على مشائخنا وأوليائنا وعُرفائنا، ألحقنا الله بهم وشفَّعهم فينا ونفعنا ببركاتهم وأصلحنا له كما أصلحهم له بلطفه – لا إله إلا هو -إنه لطيفٌ خبير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
إذن بكلمة نُحوصِل ما قلنا حتى لا نشت ولا نتيه:
مَن يُريد أن يُجادِلكم في موضوع الدعاء وأن الاستجابة حين تدعون ربكم لا تزيد شيئاً عن الاستجابة التي يجدها ويحظى بها مَن يدعو حدوة فرس قولوا له “أنت غير فاهم مع كل الاحترام، فمن الواضح أنك تائه ولا تفهم شيئاً، أنت غير فاهم”، وحتى إن اعترض على كلامك أحدهم وقال أن تجريبياً ثبت عكسه قل له “الدعاء لا يتم على هذه الشاكلة ولا على هذا النحو، والدعاء لا يتم اختباراً لله”، وهذا الأمر يجب أن ننتبه إليه، فالدعاء لا يتم اختباراً لله ولا يُمكِن لأحد أن يختبر الله، ونفترض أنك الآن ذهبت لتستفز أحداً – مثلاً – لكي يرد عليك أو يُكلِّمك أو يُسافِهك كما تسفه عليه، فمَن الذي تستطيع أن تستفزه؟!
الخفيف مثلك، فلو كان ثقيلاً ما استطعت أن تستفزه ولقال لك “أنا أصلاً لم أرك ولم أسمعك، اذهب العب بعيد”، سيقول هذا لأنه ثقيل، هو ثقيل في شخصيته وفي علمه وفي تفكيره فلا يُستفَز، قال الله وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ۩، فالنبي – عليه السلام – كان لا يُستخَف، فهل تُريدون – أستغفر الله العظيم – مِن رب العزة والجلال، مالك الأكوان أن يُستفَز من عبد يعيش على كوكب إسمه الأرض، وهذا الكوكب لا يُساوي ذرة أو حبة رمل في الكون – الكوزموس Cosmos – المنظور؟!
هل أنت تُريد أن تختبر الله وله تقول أنا أختبرك؟!
أنت فقط عندك فُرصة واحدة ذهبية تُفضي إلى سعادة الأبد، وهى أن تختبر أداء العبودية لحقوق الربوبية ثم تنتظر النتيجة فقط، وسوف تسعد في الدنيا والآخرة، أما أن تختبر الله فهذا لن يحدث، بل ويُمكِنك أن تقف الآن في الساحة أو في مُنتصَف البلد سنة كاملة وتقول له “أنا أتحداك” ولن يحدث لك شيئاً، وهذا لا يعني أن الله غير موجود أو أنك أنت كسبت التحدي، هذا غير صحيح ومن ثم عليك أن تفهم جيداً، فهذا رب العزة لا إله إلا هو، وكما قلت لك أنت لا تستخف بشراً مثلك إذا كان رزيناً ورصيناً، فهو لن يرضى بك خصماً له حتى وإن سببته وتحديته وطلبت النزال، بل سيقول لك “العب بعيداً، أنت لست خصمي، خصمي مَن أختاره لا مَن يختارني”، فهل فهمت؟!
معروف أن كل كبير يقول لك “أنا الذي اختار خصومي، ولا يُمكِن لهم أن يختاروني، وإلا سوف يأتي لي صعلوك في كل شيئ – نصف كُم كما يُقال – ويُريد أن يُنازِلني أو أن يُنازِل أي كبير، سواء كان كبيراً في السُلطة أو كبيراً في العلم أو كبيراً في أي شيئ”، الأمور لا تسير هكذا يا بابا، فكيف الحال مع رب العزة لا إله إلا هو؟!
إذن هذه كانت النُقطة الأولى، أما النقطة الثانية فهى أنه يجب الانتباه إلى أن الدعاء لا يعمل بالطريقة الميكانيكية التي يفهمها هذا المُلحِد، فهذا المُلحِد يقول “نحن سندعوه مائة مرة، وسوف نرى في كم مرة سوف يُلبينا، فإذا لبانا في تسعة وتسعين مطاب فهذا يدل على أنه موجود، وإذا لم يُلبنا فهذا يدل على أنه غير موجود”، وهذه طبعاً طريقة ميكانيكية غبية.
طبعاّ هذه النقاط تحتاج إلى تفصيل، ولكن أنا الآن أعطيكم نقاطاً لكي تستطيعوا الإجابة عن هذه الموضوعة.
النقطة الثالثة هى أن الدعاء سببٌ شرعي وليس سبباً قدرياً، هو سببٌ شرعي سبق وأن تعلَّمناه في شرع الله من خلال ما قاله الله وقاله الرسول، فهل هذا السبب الشرعي يقطع ويتناقض ويتشاكس مع الأسباب السُننية القدرية؟!
الكون خلقٌ لله، والشرع شرعٌ لله، القرآن كتابُ متلو، والكون كتابٌ مرئي محسوس، إذن هذا كونه وهذا شرعه، وهما يتساعدان ولا يتناكدان، ويتعاضدان ولا يتضاعفان، فمَن ذهب بإسم الشرع يُسقِط الأسباب أو يشطب عليها أو يُلغيها فهو جاهل مُسيءٌ إلى الشرع وغافلٌ عن الانتفاع والارتفاق بالقدر والسُنن، قال تبارك وتعالى قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ ۩، فالله يُريد أن يُعذِّبهم وقادر على أن يُعذِّبهم بلا سبب وذلك بأن يقول لهم كلمة واحدة فقط وهى “كونوا مُعذَّبين” فيتعذَّبوا، والله يعرف العذاب الذي يُريد أن يُنزِله بهم، مثل عذاب الحشا أو عذاب القلب أو عذاب الدماغ أو عذاب الأوصاب أو عذاب الأرق أو عذاب المفاصل أو أي عذاب آخر، فقط يقول لهم “كونوا مُعذَّبين” فيتعذَّبوا إلى أن يهلكوا، لكنه لم يفعل هذا وقال أنا أُريد أن أُعذِّبهم ولكن بأيديكم، إذن المُسلِم لا يُمكِن أن يُهدِر الأسباب والسُنن الكونية بل ينبغي أن يحترمها.
اسمحوا لي يا إخواني أن أذكر لكم شيئاً من أنفس ما يكون وإن كان يحتاج إلى خُطبة ثانية لكنني أضن فعلاً أن أذهب دون أن أُلقي إليكم بهذه الفوائد العجيبة من كتاب الله،لفتنا القرآن الكريم ربما المرة بعد المرة إلى أن الدعاء المُعتبَر هو ما أتى إثر عمل، أي ينبغي عليك أن تُقدِّم العمل وأن تأخذ بالأسباب وتستوفيها وأن تفرغ منها ثم تُعقِّب بالدعاءعلى طريقة اعقلها وتوكَّل، فلا يُوجَد توكل قبل الأخذ بالأسباب، والتوكل عمل الجَنان، والدعاء عمل اللسان وإن كان أصله طبعاً في الجَنان، وهذا شيئ جميل جداً والقرآن يُؤكِّد عليه، ففي القتال قال الله وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً ۩، فهم لم يقولوا هذا إلا عندما ولم يبق أمامهم إلا الالتحام والاشتباك ومُجابَهة الأكفاء ومُقارَعة الأقران والصيال والجيال، لذا قال الله وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ – جالوت كان شيئاً رهيباً بل كان عملاقاً، فكان يصل طوله إلى اثنين متر ونصف تقريباً – وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ – الآن رفعوا أيديهم بالنصر – فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء۩، ضربه بحجر صغير فمات – قال الله كَم مِّن فِئَةٍ ۩ – ولكن هذا كله بعد الأخذ بالأسباب، ومن ثم يجب علينا أن نفهم هذا.
أكثر من هذا وأعجب من هذا وأجمل من هذا هو أن النبي ضرع إلى الله في بدر طبعاً لكن بعدما تمت كل الاستعدادات وأصبح كل إنسان وكل شيئ في مكانه بعد أن وُضِعَت الخُطة الحربية، فكان كل شيئ أربعة وعشرين قيراط كما نقول، ومن ثم قام النبي في العريش يُناشِد ربه ويستنجزه وعده وهو يبكي ويُرسِل عينيه الشريفتين ويذرف الدمع قائلاً “اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ”، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْه، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ “يا نَبِيَّ اللهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ”، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلّ َ “إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ۩”، وطبعاً هذا معروف في السيرة، لكن هذا كله حدث بعد الأخذ بكل الأسباب ومن ثم أتى الآن الدعاء، واقرأوا العجب العاجب في قوافل خواتيم سورة آل عمران التي تقول “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ ۩ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۩ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ۩ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ ۩ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ۩“، وهذه الآيات معروفة طبعاً، لكن كيف استجاب لهم الله؟!
الله لم يقل “فاستجاب لهم ربهم دعاءهم” كما قد يدّعي أحدهم على الرغم من أنهم دعوا الله وقالوا “رَبَّنَا، رَبَّنَا، رَبَّنَا، رَبَّنَا، رَبَّنَا “، وكان أكثر هذه الدعوات طلباً لخيرات الآخرة ولمنازل الآخرة الباذخة السامقة، فهذا هو المجد الحقيقي لذلك هم طلبوه، لكن الله بعث لهم ولنا برسالة وقال” عليكم أن تنتبهوا إلى أن ما كان لخير الآخرة وما كان من منازل الآخرة لا يُنال أبداً بمُجرَّد الدعاء، وإنما يُنال بالأعمال” إذن لابد من الأعمال، والنبي فهَّمنا هذا بالتفصيل وقال لنا يُوجَد باب للصائمين – مثلاً – فلن ندخله إلا إذا كنا من الصائمين، وباب آخر لكذا لن ندخله إلا إذا فعلنا كذا، وقال الله في الحديث القدسي “ادخلوا الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم”، وقال الله في القرآن الكريم فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ۩، لم يقل دعاءهم وإنما قال أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ ۩، يا الله، إذن عليك أن تخبط برأسك الآن في الحائط وأن تقول “مرة قرأت هذه الآية في القرآن الكريم وكم مرة قرأها الإمام ولكنني لم أفهمها قط”، قال الله فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ ۩، لكن قد يقول لي أحدهم “أنت جاهل ومُتنطِع، الله قال عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم ۩، والدعاء عمل باللسان” وهذا غير صحيح، فعليك أن تُكمِل الآية يا حبيبي وألا تسد الخير، قال الله عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ ۩ ، ثم فصَّل لك العمل قائلاً فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ۩، فالله يقول لك هكذا تُستحَق الجنة، بالعمل وبحسب مُقتضيات الوقت، فذلك الوقت كان يقتضي الهجرة والجهاد والنُصرة، فبغير الهجرة والجهاد والنُصرة لا يُمكِن أن تقول لي أنك تُريد منازل الجنة، فأنت بهذه الطريقة تلعب وتعبث مع ربك لا إله إلا هو.
نختم هذا الموضوع الطويل الذي يحتاج إلى مُحاضَرة برأسها لأن موضوع الدعاء في القرآن الكريم فعلاً مُهِم جداً، نختم الآن – مثلاً – بزكريا – عليه السلام – الذي طلب من ربه أن يرزقه الله الولد لكي يرث العلم والنبوة، لكن متى طلب هذا؟!
حين علت سنه ووهن عظمه واشتغل الرأس منه شيباً، حين أصبح شيخاً – علماً بأن كلمة شيخ تُقال للرجل إذا علت سنة، وكلمة عجوز تُقال للمرأة إذا علت سنها – كبيراً، يقول القرآن الكريم قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً ۩ إِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً ۩ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ۩.
هل حاولتم أن تُفكِّروا من قبل في لماذا ذكر الله لنا هذه الآية؟!
هذا الأمر تكرَّر تماماً مع نوح، يقول القرآن الكريم فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ۩ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ ۩، لكن متى دعا نوح ربه قائلاً أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ۩؟!
لم يحدث هذا بعد عشر ساعات مُناظَرة، وإنما بعد ألف سنة إلا خمسين عاماً، قال الله فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً ۩، فكان يُوجَد استعصاء شديد وبالتالي لا يُوجَد أي إمكانية أُخرى مُتاحة إلا الدعاء، فقال نوح لله أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ۩ فجاءت الإجابة مُباشَرةً وقال الله فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ ۩.
وهذا الشيئ نفسه تكرَّر مع زكريا، فزكريا لم يدع الله إلا حين كبر وعلت سنه، لكن ما معنى أن زكريا لم يدع الله بالولد إلا حين علت سنه وتهدَّمت بنيته؟!
معنى هذا أنه في كل تلك العقود والسنوات كان يستفرغ وسعه في الأسباب، وربما تزوَّج أكثر من مرة وأخذ أدوية عُشبية – Herbal Medicines – على هيئة مشروبات مثلاً.
والنبي محمد – عليه السلام – كان يهتم جداً بالطب، وأمنا عائشة كانت طبيبة – ما شاء الله – ماهرة، حتى قيل لها: يا عائشة من أين لك العلم بالطب؟!
أي أننا نعلم سر نبوغك في الشعر لكن ماذا عن الطب؟!
فقالت “من كثرة ما كان يُوصَف الأطباء لرسول الله يأتونه يُطبِّبونه”، أي أن النبي كان يسأل عن الأطباء المهرة كأطباء الأحشاء والركب – مثلاً – إذا شعر بأي وجع، وكان يطلب الإتيان بهم من أجل تطبيبه، لذا قالت السيدة عائشة أنها تعلَّمت الطب بسبب كثرة مجيء الأطباء للنبي، والنبي هنا يُعلِّمنا احترام الأسباب، فالنبي كان يستطيع أن يدعو الله طبعاً فيستجيب له لكنه لم يفعل لأنه يُريد أن يُعلِّمنا ضرورة الأخذ بالأسباب، وهذا هو الحال مع زكريا أيضاً الذي لم يدع الله إلا حين علت سنه ولم تُجد نفعاً أي أدوية عُشبية Herbal أو Merbal وبالتالي شعر بقرب الرحيل فطلب من الله الولد، فقال الله فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۩، ومعنى قوله وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۩ أي جاءتها العادة الشهرية – Menstruation – لأنها كانت مُنقطِعة عنها، وهذا ظاهر ما أفهمه من الآية، لأنها لا تستطيع أن تحمل بدون تبييض – علماً بأننا نقول تبييض وليس تبويض لأن الفعل باض يبيض وليس باض يبوض – أبداً، لكن العبرة الآن في القرآن الكريم هى وجوب استنفاذ الأسباب، ففي عدم دعاء زكريا بالولد إلا في آخر عمره إشارة إلى وجوب استنفاذ الأسباب قبل الدعاء، ورحمة الله على جمال الدين والإسلام أبي الفرج بن الجوزي حين تندَّر وسخر في صيد الخاطر مِمَن يجلس في حقله أو في مزرعته أو في بُستانه وليس بينه وبين أن يُجري الماء تحت الشجرة إلا ضربة بفأس لكنه يدعها ويستعيض عنها ومنها بقوله “اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين”، في حين أنه لو ضرب له ضربتين بالفأس سوف يأتي الماء وسوف يُسقى الزرع، ومن هنا كان يسخر ابن الجوزي منه كأنه يقول له: هل أنت أهبل؟!
هل يجوز لأحد أن يدعو الله بالذُرية الصالحة إلا بعد أن يتزوَّج؟!
هل يُعقَل أن يقول أحدهم “رب هب لي ولداً صالحاً” دون أن يتزوَّج؟!
عليك أن تتزوَّج أولاً وأن تأخذ بالأسباب يا بُني ثم تدعو الله أن يهبك الولد الصالح.
فإذن نحن أمة واعية وأمة عقل مُرتَب لكن لو فهمنا عن الله وعن رسوله جيداً، فنحن نحترم الأسباب الشرعية ونأخذ بالأسباب القدرية، ولا نضرب هذا بهذا ولا نُعطِّل هذا بهذا، ولكن ماذا عن دور الدعاء كسبب من الأسباب الشرعية؟!
الدعاء يأتي تتميماً لما عجزت عنه الأسباب وجبراً لما لم تُفلِح فيه الأسباب، فالأسباب تُنجِز بعض الأشياء وتُقصِّر عن بعض، ومن ثم يأتي الدعاء جبراً لهذا العجز وتتميماً أيضاً لهذا النقص لدى الأسباب.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (1/7/2016)
أضف تعليق