إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَالْفَجْرِ ۩ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ۩ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ۩ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ۩ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ۩ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ۩ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ۩ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ۩ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ۩ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ۩ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ۩ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ۩ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ۩ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ۩ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ۩ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ۩ كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ۩ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ۩ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ۩ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ۩ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ۩ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ۩ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ۩ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ۩ فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ۩ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ۩ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ۩ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ۩فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ۩ وَادْخُلِي جَنَّتِي ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
أُبارِك لكم شهركم الفضيل هذا، والله الكريم أدعو أن يجعله علينا وعلى سائر أمة حبيبه محمدٍ – صَلَىَ الله عليه وآله وسَلَّمَ تسليماً كثيراً – شهر أمنٍ وإيمانٍ وسلامةٍ وإسلامٍ وبركةٍ وخيرٍ وعفوٍ ومُعافاةٍ دائمة وأن يجعلنا فيه من المقبولين المسعودين وأنت يُعيننا فيه على ذكره وشُكره وحُسن عبادته.
إخواني وأخواتي:
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ۩ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ۩ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ۩ وَادْخُلِي جَنَّتِي ۩، هل هذه النفس المُطمئنة هى النفس التي أقسم الله – تبارك وتعالى – بها في سورة الشمس حين قال وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩؟!
وإذا كان كذلك فما موضع النفس الأمّارة بالسوء حيث قال الله في كتابه إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ ۩ ؟!
ثم ما موضع النفس اللوّامة حيث قال الله وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ۩ ؟!
هل ينطوي كل واحدٍ منا على أنفس، على ثلاث أنفس مثلاً؟!
بالضرورة يجد واحدنا من نفسه أنه واحد، أي أنه كيانٌ واحد وليس كياناتٍ ثلاثة، وهذه النفوس المذكورة في كتاب الله تبارك وتعالى – أي النفس الأمّارة بالسوء والنفس اللوّامة والنفس المُطمئنة – هى نفسٌ واحدة وهذه أنحاء ثلاثة لها، هذه وجوه ثلاثة لها، يغلب نحوٌ منها فيغدو ويُصبِحُ صاحبها صاحب نفس أمّارة بالسوء – مثلاً – وقد يغلب عليه النحو الثاني وهو النفس اللوّامة شديدة اللوم والعتب والحساب لصاحبها فيُصبِح صاحب نفس لوّامة، وقد ينتهي به الأمر إلى النهاية السعيدة ويغلب عليه النحو الثالث العالي الراقي وهو النفس المُطمئنة – اللهم اجعلنا ذوي نفوسٍ مُطمئنة – فيُصبِح صاحب نفسٍ مُطمئنة.
إخواني وأخواتي:
إذا رغبنا أن نتحدَّث عن تزكية النفس فبلا شك أن الظرف الزماني الذي أكرمنا الله – تبارك وتعالى – بالعيش فيه يُعَد مُناسِباً، فكرامةٌ عظيمة أن يُبلِّغنا الله – تبارك وتعالى – رمضان، فهناك مَن مات قبل رمضان بساعات وهناك مَن مات في اليوم الأول، كان معنا شابٌ في نحو السادسة أو السابعة والأربعين من عمره، في صحة جيدة، في قوة وعافية، وكنا مع بعضنا زُهاء أسبوعين إلا قليلاً وتسحَّر لأول يوم من رمضان في القاهرة على أن يُسافِر إلى بلده في تاليه، فجاءوا في تمام الساعة الرابعة عصراً لكي يأخذ أُهبته فإذا به قد قضى كما هو، شاب قضى ومضى إلى الله – تبارك وتعالى – في أول يوم صائماً – وهنيئاً له – غير مُفطِر، وكان بفضل الله مُقيماً للصلاة فرحمة الله عليه رحمة واسعة، وهذا المصير ينتظر كل واحد منا على غير موعدٍ مضروب، لذلك قضية العود إلى الله – تبارك وتعالى – وتزكية النفس أعتقد أنها ينبغي أن تُقدَّم في رأس القضايا التي يُوليها المرء اهتمامه وعنايته، لأن ما سيتبقى لك وليس يعني كثيراً ما يتبقى منك، الحياة تسير بك وبغيرك، أصعب ما في هذه الدنيا وأصعب ما في هذا العالم أن العالم لا يتوقَّف لأحد حتى ولو كان نبياً، الأنبياء كانوا يموتون والعالم لا يتوقَّف، تظل الشمس تُشرِق وتُغرِب على سَننها المعهود والناس يروحون ويجيئون ويأكلون ويشربون ويأتون أهليهم ويسعون في مرمة معاشهم، الدنيا لا تتوقَّف لا لنبي ولا لرسول ولا لملك ولا لعالم ولا لجاهل ولا لغني ولا لفقير ولا لأحد، الدنيا لا تتوقَّف حتى لموت جماعة من الناس أو أمة، أهل بلد يُقتَلون من عند آخرهم والدنيا تمضي، الدنيا قاسية، وهذا سر قسوتها، ولذلك إياك أن تجعلها معبودة من دون الله، هذه الدنيا لا تستأهل، لا تستأهل أن تجعل وجهك لها وأن تعمل لها، لأنك حين تُغادِرها لن تتوقَّف لك ثانية واحدة حتى، ولذلك اعمل لوجه مَن تقدم عليه وتُقبِل عليه لا إله إلا هو، فما يتبقى لك هو ما استثمرته في نفسك وليس ما استثمرته عند الآخرين من مكانتك وشهرتك وحُب الناس لك، كل هذا كلام فارغ في نهاية المطاف، كل هذا حين يأتي عرضاً وليس غرضاً ويأتي على خلفية إحسانك وتقواك لله وعملك الصالحات يكون من المُبشِّرات – بإذن الله تعالى – كما قال مولانا رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الشريف “عاجل بُشرى المُؤمِن”، المُؤمِن الصالح التقي – اللهم اجعلنا صالحين طيبين مُبارَكين مُتقين – حين يمدحه الناس ويذكرونه بالخير هذه عاجل بُشراه لأن ألسنة الخلق أقلام الحق، أما ما يأتي من المدحة والتعظيم والإجلال والمحبة والشُهرة والمثابة عند الناس والاعتبار – شتى وجوه الاعتبار – على غير خلفية إحسان العمل وتقوى الله – والله – لا قيمة له، كله هباء وهواء وخيال وكلام فارغ.
ولذلك إذا أردنا أن نتحدَّث عن تزكية النفس لابد أن نبدأ من هذه البداية: عن أي نفس أتحدَّث؟!
هل أتحدَّث عن النفس الأمّارة أم عن النفس اللوّامة أم عن النفس المُطمئنة؟!
وكيف أفعل؟!
من أين أبدأ؟!
ما هى الحكاية؟!
النفس الأمّارة بالسوء هى ذات الجاذبية الأثقل في الإنسان، والدليل مُشاهَد بالعيان وهو أنك ترى مُعظَم الناس إلى التحلل والانحراف عن طريق الله – تبارك وتعالى – ومعصية الله أقرب وأدنى، وطبعاً الناس ليس يغلب عليهم الصلاح فترى كثرة الصالحين وكثرة المُتقين وكثرة أولياء الله، هذا غير صحيح لأن هؤلاء نُدرة، هؤلاء امتياز، صلاحهم امتياز لهم، وهم قلة فاللهم اجعلنا منهم، مُعظَم الناس يحطبون في حبل المعاصي لا يلوون على شيئ، أحياء كأموات كما قال تبارك وتعالى، لأن جاذبية النفس الأمّارة بالسوء ثقيلة جداً، لها جاذبية فائقة، فالأمّارة بالسوء تتضمَّن وتُشير إلى الجانب الغرزي الحيواني البهيمي فينا، ما يتعلَّق بالأكل والشرب والتعاطي مع ذلك الشأن الذي تعرفون، النساء وأيضاً السُلطة والسطوة والقوة وما يتفرَّع عنها من الغضب والانتصار للنفس والانتقام للذات ومحبة الامتياز على عباد الله، وهذا مُلاحَظ في كل واحد منا، الإنسان بما هو إنسان فيه هذه الجوانب، وقد تذهب بالإنسان مذهباً يُلحِقه بالمجانين أو الحمقى، فبعض الناس إن رأى من نفسه تميزاً على أخيه أو صاحبه أو جاره بشيئ يسير من المال شمخ وذهبت به نفسه كل مذهب، لأنه أعلى قليلاً في باب المال، وهذا شيئ عجيب جداً، ما هذا؟!
هل حقيقة الإنسان فيما يُحصِّله من مال؟!
بعض الناس إذا حفظ شيئاً يسيراً أزيد من أخيه – طالب العلم مثلاً – يرى نفسه عليه، فالإنسان يُحِب أن يمتاز وهذا من حمقه ومن أنانيته، يدور حول نفسه بطريقة مجنونة الإنسان، يُحِب أن يمتاز بأي شيئ، كأن يقول أحدهم أنني أعرف ما لا تعرف وأملك ما لا تملك وأُحسِن ما لا تُحسِن، فكان ماذا؟!
ما هى النتيجة؟!
أهم شيئ بعد ذلك: ما هى النتيجة؟!
ما هى النتيجة في الدنيا؟!
ما هى النتيجة في الآخرة؟!
ليس يهم أن لديك ما ليس لدي وأنك تُحسِن ما لا أُحسِن، ولكن المُهِم هو كيف تُصرِّف هذا وكيف تستثمره في خدمة الناس، في خدمة عباد الله تبارك وتعالى، هذا هو المُهِم، ثم كيف تستذخره عند الله – تبارك وتعالى – إلى يوم لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ۩ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ۩ ، هذه هى الحكمة وهذا هو العقل.
فالنفس الأمّارة ذات ثقل فائق وجاذبية مُتعِبة، ومن الأسهل على الإنسان أن يستجيب لها طبعاً، من الأسهل على الإنسان ألا يُقاوِمها لأنها ذات جاذبية هائلة فينتهي إليها وينتهي إلى ما تُريد، أما النفس اللوّامة فتأتي في برزخ أو في منطقة وسط بين النفس الأمّارة والنفس المُطمئنة، حين ينجذب الإنسان على وجهٍ لا يُرضي الله – تبارك وتعالى – للنفس الأمّارة تقوم له هذه النفس اللوّامة فتُقرِّعه وتُبكِّته وتُثرِّب عليه وتعتب عليه، الحسن البصري – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – قال “إن المُؤمِن جمع إحساناً وشفقة – أي دائماً يُقرِّع نفسه مع أنه مُحسِن ما شاء الله، فغالب أمره الإحسان – وإن المُنافِق جمع إساءةً وأمناً “، المُنافِق هذا كالكافر، هذا الذي استنام واطمأن للنفس الأمّارة، لنفسه الأمّارة وانجذب إليها بالكُلية فلا يكاد يُقاوِمها إلا فيما ندر وفيما قل ويكون عظيم الثقة أن الله يُحِبه ويغفر له وأنه إن رُدَّ أو رُجِع إلى ربه إن له عنده للحُسنى أكثر منك ومني ومن كل هؤلاء الذين دأبوا أنفسهم وأتعبوها في ذات الله تبارك وتعالى – اللهم اجعلنا منهم – وهذا شيئ عجيب بل أن هذا من العمى، قال – تبارك وتعالى – في صفة عباده الصالحين الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ۩، فكأن الحسن البصري تلمَّح معنى هذه الآية، قالت أم المُؤمِنين – رضوان الله عليها – عائشة: يا رسول الله الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ – هم في حال الوجل والخوف مما آتوا – أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ۩– أنهم إلى الله يعني – هو الرجل الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟!
قال “كلا يا ابنة الصدّيق، بل هو الذي يُصلي ويصوم ويتصدَّق ويخاف ألا يُقبَل منه”، فهذا هو، المُؤمِن جمع إحساناً وشفقة بفعل نشاط النفس اللوّامة فيه، لا يكاد يُغلِّب حُسن الظن بنفسه، يُسيء دائماً في أكثر الأوقات والأحوال الظن بنفسه، يخاف منها لأنه يخاف من جذب النفس الأمّارة، يخاف إن استنام قليلاً تجذبه تلك الملعونة، وكم قد رأينا ذلك، ولذلك يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم – عليهم صلوات ربي وتسليماته أجمعين وعلى نبينا وآل كلٍ – قال تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ۩، هل هذه مُنيتك أن تموت مسلماً؟!
طبعاً مُنية كل عاقل لأن الحي لا تُؤمَن عليه الفتنة، وهذا يوسف – عليه السلام – الذي قال تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ۩، أي أن أهم شيئ أن أموت مُسلِماً – يالله – لأن الحي قد يُفتَن – والعياذ بالله – لأنه إن لم يصل إلى المُعاَدلة المطلوبة في مُعامَلة هذه النفوس قد يُفتَن وقد يُكَب على وجهه ويتردى – علماً بأن هذا جُزء من معنى خُطبة اليوم – ولكن الآلم والأبأس هو أنه لا يفطن إلى هذا ولا يتأثَّر به، كم ذا قد رأى أحدنا رجلاً كان عليه سيماء الصالحين وبهجة القرآن وجمال الإيمان ثم حار وانقلب وبدأ يتعاطى المعاصي وبدأ يندر نفسه لأذية عباد الله وهتك حُرماتهم وتغوّل حقوقهم فاسود وجهه – أسوداً كان أم أبيضاً، يسود السواد المعنوي – وابشعت خلقته وأصبح فيه – سبحان الله – هكذا حين تنظر إليه يظهر فيه شيئٌ يُنفِّرك منه واختبط، يتخبَّط كالذي مسه الشيطان – والعياذ بالله – وهو راضٍ مسرور بنفسه، وهذه الحالة مُخيفة فتجعلك تخشى على نفسك أنني يُمكِن أن اُغمَر في مثل هذه الحالة ثم لا أفطن إلى التغير المُريع الذي طرأ على كياني، على نفسي، على ذاتي، وكل واحد مُمكِن تحدث له هذه الحالة، فنسأل الله الحفظ والسلامة والتسديد، التوفيق من الله شيئ مُهِم، فقبل أن تصل إلى هذه المُعادَلة أنت في خطر ووضعك كله في خطر ومشوارك كله ومسيرتك في خطر، فعليك أن تكون واعياً باستمرار، ومن هنا عليك بمُحاسَبة النفس كما تُحاسِب شريكك الشحيح الخوّان، مثل لو دخلت مع شريك ثم لم يرعك إلا خيانته، اكتشفت أنه خائن يتغوَّل حقك وربحك وربما يأتي على رأس المال إن غفلت عن مُحاسَبته ومُحاقَقته أولاً بأول كما يُقال، النفس لابد أن تُحاسَب أكثر مما يُحاسَب الشريك الخوّان الشحيح، ومن هنا كان الصحابة شديدي الحساب لأنفسهم في دقائق الأمور وكذلك التابعون وتابعو التابعين، الصالحون عموماً هذه سمتهم، والنبي نفسه هو الذي سنَّ لنا هذه السُنة ونهج لنا هذه الطريق في تزكية النفس فقال “والله الذي نفسي بيده لن يُدخِل أحدكم الجنة عمله”، أي لا تذهبن بنفسك المذاهب فتُعجَب بعملك وصلاحك وأنك مُتدين وأنك تتصدَّق وتصوم، هذا غير صحيح فالنبي يُقسِم بالله ويقول هذا لن يُدخِلك الجنة، إذن ما الذي سيُدخِلني الجنة؟!
رحمة الله تبارك وتعالى.
ورحمة الله قريبة مِمَن؟!
مِن المُحسِنين.
ومَن هم المُحسِنون؟!
هم هؤلاء الذين في حال مُراقَبة دائمة لله – تبارك وتعالى – ومُحاسَبة دائمة لأنفسهم، مُراقَبة دائمة لله ومُحاسَبة دائبة لأنفسهم، فيُوشِك بعون الله وفضله ومّنه أن يترقوا إلى منزلة أهل المُشاهَدة، أي أن تعبد الله كأنك تراه، وهذا هو الإحسان، إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ۩، هؤلاء هم، ليس بالعمل وحده، ولكن بدون العمل تقريباً لا أمل، وعلينا أن ننتبه إلى هذا حتى نفهم الأمور فهماً سليماً، فلا يبنغي أن تترك العمل وتفعل ما تُريد وتأخذ ما تشتهي ثم تقول “الله غفور رحيم، إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ۩“، فهل أنت منهم؟!
هل كنت مُحسِناً حين ودعت الصلاة وفرَطت فيها وهى وسيط الله لأنبيائه، عيسى الذي أحيا الله على يديه وأحيا له الموتى قال وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ۩؟!
هل أنت مُحسِن وأنت لا تشتاق إلى ربك؟!
لو اشتقت إليه لما اكتفيت بخمسة أوقات فقط فتُصِف قدميك واقفاً بين يديه – لا إله إلا هو – لأن هذا لا يُشبِعك، ستأخذ في شيئٍ آخر – بإذن الله تعالى – لو كنت مُحسِناً، فإياك أن يُلبِّس عليك الشيطان الملعون. لعنة الله عليه.
الصحابي الجليل أبو عُبيدة بن الجراح أمَّ الناس مرةً، قالوا له تقدَّم يا صاحب رسول الله أُمّ فأمَّ، وهو أمين هذه الأمة، ومن هنا كان أميناً لأنه أمين حتى على خلجات نفسه، أمين على ما في قلبه وحناياه، أمين رضوان الله عليه، فأمَّ الناس وبعد قليل قال “لم يزل الشيطان بي – أي لزمني الشيطان بعد أن أمّيت الناس، فظل يُوسوِس له ويُسوِل له – حتى رأيت أن لي فضلاً على مَن كان خلفي”، أي لماذا قدَّموني؟!
كأن الشيطان يقول له “قدَّموك لأنك تُحسِن قراءة القرآن أكثر منهم وصوتك أحسن لأن فيه خشوع، ثم أن عليك سيماء التقوى والمُخبِتين، ولو لم يكن في علم الله لما يسَّر الله تقديمك”، فالشيطان لعين – لعنة الله عليه – ويُريد أن تُعجِبه نفسه، يُريد أن يغره بنفسه، فقال أبو غُبيدة “لا والله لا أؤم أبداً” ولم يؤم بعدها أحداً، ولذلك تسمع عن كبار أولياء الله في كل زمان – كبار وهم قلة قليلة جداً – أن الواحد منهم يعيش سبعين وثمانين سنة ولا يؤم أحداً، أنا أعرف اثنين عاشا إلى شرخ التسعين فقد جاوزا الثمانين ولم يؤم كل منهما بأحدٍ أبداً فلا يُصلي إلا مأموماً، وكلاهما – أستحضرهما الآن – من كبار علماء الأمة ومن أضخم مَن حمل عقلاً هائلاً ومن كبار الصالحين والأولياء المُؤيَّدين بكرمات الله – عز وجل – ومع ذلك لم يُصليا بأحدٍ مرة إمامين، أرأيت سوء الظن؟!
أبو حازم الأعرج – رضوان الله عليه – هذا لقبه، الله يقول وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۩ ولكن هذا لقبه الذي عُرِف به وهذا جائز في هذه الحالة، أبو حازم الأعرج – سلمة بن دينار – رأس من رؤوس أولياء هذه الأمة، يقول لنفسه مرةً “يا أعرج يُنادى يوم القيامة ليقم أهل خطيئة كذا وكذا فتقوم معهم – أي ستقوم لأن عندك هذه الخطيئة يا أعرج – ثم يُنادى ليقم أهل خطيئة كذا وكذا فتقوم يا أعرج، فأُراك يا أعرج تقوم مع أهل كل ذنبٍ وخطيئة” وهذا شيئ عجيب، والذي يسمع الكلام هذا سيقول هذا كان يعمل السيئات على الرغم من أن هذا كان من أولياء المُقرَّبين ولكنه كان شديد المُحاسَبة لنفسه، شديد سوء الظن في نفسه، وهذه هى النفس اللوّامة التي هى طريق النفس المُطمئنة، لا طمأنينة للنفس إلا بالنفس اللوّامة، ولذلك كيف نُحقِّق المُعادَلة التي أشرت إليها قُبيل قليل بين هذه الوجوه والأنحاء من النفس؟!
النفس الأمّارة بالسوء – كما قلت لكم – هى نفس الغريزة ونفس الشهوة، يمدها الشيطان وهى مددٌ لنفسها، الله يقول فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، فهذا مغروس ومدفون أو دفينٌ فيك، المدد من ذاتها بطبيعتها – هذا النحو من أنحاء النفس هكذا هو وهذا طبعه – والشيطان، أي اثنان، أما النفس اللوّامة المُؤمِنة المُشترِعة تستمد بدرجة أولى والتوكيد والعناية والتقديم لديها بلا تردد لشرع الله تبارك وتعالى، أما العادات والتقاليد والأعراف والمُجتمَع وضغط المُجتمَع كل هذا يُحترَم ويُعتبَر شريطة إلا يتناقض مع شرع الله، إن تناقض مع شرع الله يُوضَع تحت القدم مُباشَرةً، ويغضب المُجتمَع ويغضب الأهلون والأقربون والناس والأصحاب والجمهور ولكن صاحب النفس اللوّامة المُؤمِنة لا عليه، لأن هذا شرع الله، والرسول قال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق – لا إله إلا هو- ومع ذلك ترى بعض الناس – سبحان الله – يتديَّن تدين الظاهر والطقوس وحين يقع أمر يُغلِّب مُباشَرةً العادات والتقاليد، فتقول له “اتق الله، هذا ضد الشرع الله فلا يجوز” فلا ينثني، وأحياناً يصل الأمر إلى القتل، بعض الناس يلعب الثأر برأسه، فيقول الواحد منهم: كيف قتلوا أخي الذي كان وكان وكان؟!
وإذا قلت له “ابحث عن القاتل إذن يا أخي”، يقول لك: لا لأن القاتل لا يكفيني، القاتل من سفلة القوم أو من سفلة هذه القبيلة التي اعتدت علينا وهذا أخي، هل أنا أُساوي بين أخي وبين هذا القاتل؟!
في شرع الله لو قتل عبدٌ مملوك الخليفة الهاشمي يُقتَل به طبعاً أكيد، ولو قتل الخليفة الهاشمي العبد المملوك يُقتَل به، وهذا شيئ غريب، وعلينا أن ننتبه إلى هذا لأن هذا أهم من أهم ميزات ديننا الحنيف التي غفلنا عنها للأسف، لا أُحِب أن أقول جعلنها وإنما رمينا بها خلف ظهورنا،ولذلك بدأ الناس الآخرون يشكون في صلوحية ديننا طبعاً ويقولون: ما هذا الدين؟!
ما دين المُسلِمين هؤلاء؟!
ماذا عند هذا الدين ليُقدِّمه؟!
ما هي مزايا هذا الدين؟!
لا يرون مزاياه – صدِّقوني لا يرون هذا – بل يرون غطرسة المُسلِمين وعجرفة المُسلِمين الذين يُعبِّرون عن أنفسهم على أنهم أفضل الناس وأحسن الناس ومع ذلك ألسنتهم طويلة جداً جداً جداً بإدخال كل عباد الله النار، حريصون جداً أن نُؤكِّد أن كل الدنيا في نار محمد، فنقول نحن فقط لأننا من أمة محمد – ما شاء الله – أهل النجاة، ثم بعد ذلك الكره والتدابر والتقاتل ويذبح بعضنا بعضاً ويقتل بعضنا بعضاً ويهتك بعضنا حُرمات بعض ثم نُريد من الناس أن يُوقِّروا هذا الدين، فماذا رأوا منه ليُوقِّروه؟!
هم معذورون ونحن مُجرِمون، في هذه الوضعية هم عند الله معذورون ونحن عند الله مُجرِمون، لو فعلنا مثلما فعل الصحابة – رضوان الله عليهم – والتابعون والأجيال الطيبة هذه وأعلينا قيم الإسلام ودوسنا على العادات والتقاليد وأهواء النفوس وأهواء الجماعة وأهواء الأمة حين تتعارض وتتناقض مع شرع الله لرأى العالم منا عجباً – والله العظيم – ولثار سؤالٌ إثر سؤال: ما الذي جعلهم هكذا؟!
مِن أين لهم هذا الإنصاف؟!
مِن أين لهم هذه العدالة؟!
مِن أين لهم هذا التحسّس لكرامة الإنسان وآدميته؟!
وسيأتيهم الجواب من فورهم “من دينهم، هذه أمة صاغها الدين صوغاً جديداً”، وسيدخل الناس فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ۩ من غير سيف ومن غير فتوحات ومن غير حروب، ومُعظَم المسلمين الآن على وجه الأرض دخلوا الإسلام بغير سيف وبغير فتوحات، دخلوا بأخلاق المسلمين وليس بأخلاق العلماء الكبار والأئمة، بل بأخلاق التجّار والناس العاديين الذين كان كل منهم يرى نفسه سفيراً للإسلام وأميناً على شرعة الإسلام ومزاياه وخصائصه، يرى نفسه أميناً على دعوته وبُشراه، فهذا هو التبشير الحقيقي، لكن نحن لا نعي هذا ومن ثم يُوجَد بيننا مَن يقول – مثلاً – في موضوعة الثأر: كيف أُساوي أنا بين أخي – ونحن من آل فلان وأبناء فلان وأخي كان وكان – وبين هذا الصعلوك من هذه القبيلة من الصعاليك؟!
ثم يستتلي قائلاً: لن أنثني حتى أظفر بأكبر رأس فيهم، ماذا تُريد؟!
وهذا الثأر يحدث إلى اليوم في البلاد العربية، فهل هذا من الإسلام؟!
وتجد هذا أحياناً طبعاً وليس – إن شاء الله – كثيراً حافظاً لكتاب الله وقد يكون من أهل العلم الشرعي ولكن ذهبت النخوة القبلية العُمية الجاهلية، ذهبت واجتافت عقله واجتاحت وعيه الديني بل أكلته لأن تدينه كاذب، لأن هذا لا يُوقِّر الله، هذا لم يجعل لله وقاراً، لو وقَّر الله لوقَّر شرعه، وهذا لا ليس في موضوع الثأر فقط بل ويمتد إلى موضوعات أُخرى مثل جرائم الشرف، فقد يقتل أحدهم ابنته الصغيرة التي اغتُصِبَت، وهناك ألوف الحالات في بلاد العرب والمسلمين وقعت على هذا النحو، بنت صغيرة عمرها ثلاثة عشر سنة أو أربعة عشر سنة ولكنها اغتُصِبَتَ المسكينة وأصبحت ضحية ذئب من ذئاب البشر ومع ذلك تُقتَل، فكيف تُقتَل؟!
في أي شرع هذا؟!
في أي دين هذا؟!
من أين أتيتم بهذا؟!
يُبرِّر ذلك ويقول لك “شرف القبيلة”، والقوانين العربية الكسيحة الغبية المُناقِضة لشرع الله تُساعِد على انتشار جرائم الشرف وتقول لك نحن نُعامِلها مُعامَلة خاصة استثنائية، فيُحبَس القاتل ستة أشهر والسلام عليكم، أي أنه يُسجَن ستة أشهر ويخرج، وكان في القوانين قبل مائة سنة – علماً بأنني لن أذكر ولن أُذكِّر بدول ولكنها دول عربية كُبرى – كان القاضي يقول في الحيثية أنهم يفعلون هذا ويسدنون المُتهَم ستة أشهر فقط من أجل أن تثبت براءة العِرض، أي أنك طهَّرت عِرضك، فيسأل الناس عن فلان الذي اختفى فيُقال في السجن لأنه قتل أخته التي عابت، فيقول السائلون الحمد لله أنه قتلها ومن ثم تُصبِح العائلة شريفة والأسرة شريفة والقاتل شريف، إذن القاضي يفهم هذ ويقول أنه يفعل هذا من أجل براءة العِرض، فيعم الأمر وينتشر أن فلان قتل أخته من أجل هذا الشيئ ومن ثم تثبت براءة العِرض وبراءة صفحة العائلة، فأي جاهلية هذه؟!
أين رحمة الشرع المُحمَّدي؟!
أين رحمة الآيات الإلهية؟!
هذه جعلناها شريعة منسوخة، ألقينا بها خلفنا ظهرياً، ثم نزعم أننا مُسلِمون ومُصِرون على أننا مُسلِمون وحسنو الإسلام، لكن في الحقيقة نحن نكذب على الله وعلى الناس الذين فتناهم عن ديننا بهذه الأفاعيل، وهذا ليس فقط في جرائم الشرف وجرائم الثأر، لا والله وإلا أكون قد غششتكم، وإنما في كل شيئ، حين تكذب على أخيك، حين تفتري على أخيك أنت تكون جاهلياً أيضاً، كيف لم تخش الله حين كذبت عليه؟!
كيف تُؤمِن به وتُراقِبه وتعلم أنه مُطلِع عليك وتُؤمِن بالكتبة الكرام – بالحاسبين الكاتبين – وتكذب وتفتري وليس على أخيك فقط بل وحتى على عدوك؟!
كيف يُمكِن أن تفعل هذه الأفاعيل؟!
وهلم جرا إلى آخر الذنوب والمعاصي، ولذلك النفس اللوّامة المُؤمِنة تستمد من معينين وبالتالي طمأنينتها – طمأنينة الإيمان – بعد ذلك ستكون من نوع مُختلِف،ولكنك قد تقول لي: أيوجد أو أثمة أكثر من ضرب للطمأنينة؟!
طبعاً يُوجَد في كتاب الله أكثر من ضرب، فهناك مثلاً طمأنينة الإيمان حيث أن الله يقول يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ۩ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ۩، هذه طمأنينة الإيمان، وهناك طمأنينة أهل الهوى والدنيا المُتمثِّلة في قوله في سورة يونس – عليه السلام – إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ۩– فهذه طمأنينة ولكنها ليست طمأنينة أهل الإيمان، وإنما طمأنينة أهل الهوى والدنيا، ولكنها طمأنينة حيث أن يُمكِن للنفس أن تطمئن، لأن النفس ما لم تطمئن على وجه من الوجوه ظل صاحبها كالمجنون فيتخبَّط المسكين مثل ميزان، ترفع هذه الكفة ثم ترجح، ثم ترفع الكفة الأُخرى ثم ترجح وهكذا يتخبَّط، والناس تقول لك عن هذا الشخص أنه ليس طبيعياً، ولكن هو مجنون ومُضطرِب الشخصية، وهو فعلاً هكذا، ولكن العجيب أن أبا التحليل النفسي سيجموند فرويد Sigmund Freud – وأنتم تعرفون فرويد Freud – حين تحدَّث أيضاً عن النفس الإنسانيةأو عن الذات أو عن الشخصية تحدَّث عن مُكوِّنات ثلاثة، وأنا استغرب فعلاً من هذا جداً، فيبدو حتى أن العقل الإنساني توصَّل إلى أشياء عميقة، ولكن طبعاً هذا ليس غريباً جداً، لأنني مُتأكِّد أن الأصول الأصيلة لمثل هذا الفكر ولمثل هذا النظر الجديد في دراسة النفس الإنسانية هى أصول دينية أو أصول كتابية – أي Biblical – لأنه من المُؤكَّد أنه أخذها من التوراة والإنجيل بطريقةٍ أو بأُخرى، فحين تحدَّث أيضاً عن النفس الإنسانية أو عن الذات أو عن الشخصية تحدَّث عن مُكوِّنات ثلاثة،تماماً هى المُكوِّنات المذكورة في كتاب الله التي تتحدَّث عن النفس الأمّارة والنفس اللوّامة والنفس المُطمئنة، فسيجموند فرويد Sigmund Freud يتحدَّث عن الهو – الـ Id – وهو مجمع الغرائز والقوى المكبوتة والأشياء التي يُستحى منها والأشياء التي لا ينبغي أن تظهر، وطبعاً هو زعم أن هذا يُشكِّل أكثر من سبعة وتسعين في المائة من شخصية الإنسان وهذا موضوع ثانٍ، ثم بعد ذلك يتحدَّث عن الأنا أو الذات العُليا – الـ Super-ego – أو الضمير أو النفس اللوّامة، ويقول لك الشيئ نفسه حيث يقول أن الـ Super-ego هذا يتكوَّن من الأشياء التي يتلقاها الإنسان من المُجتمَع الصغير ومن المُجتمَع الكبير بجذورها المُختلِفة من قيم دينية وقيم مُجتمَعية وأعراف وما ينبغي وما لا ينبغي والعيب والحرام، ومن ثم يقول فرويد Freud أن كل هذا يُكوِّن الـ Super-ego عندك، وهذا شيئ عجيب، أي النفس اللوّامة، ثم تحدَّث عن النحو الثالث وهو الذات العاقلة الواعية – الـ Ego -علماً بأنه لا يتحدَّث عن ثلاثة نفوس، وإنما يتحدَّث عن ذات واحدة أو عن كيان واحد له ثلاثة وجوه أو ثلاثة أنحاء، وهذا شيئ غريب ولافت جداً، ومن هنا قد يقول لي أحدهم: ينبغي ألا نقف هنا كثيراً مع عبقرية فرويد Freud- وبلا شك هى عبقرية، بلا شك لا تستطيع أن تُقلِّل من عبقرية هذا الرجل – وكيف وصل إلى هذا الشيئ ولكن ينبغي أيضاً أن نُبدي الحسرة على طريقتنا في فهم الدين، فلماذا لم نفهم هذا نحن؟!
بالعكس كبار المُتصوِّفة والذين نظَّروا لجانب التزكية مثل أبي حامد الغزالي فهموا هذا وتحدَّثوا عن النفس حديثاً دقيقاً، وطبعاً هناك أشياء لا نُوافِق عليها لوجود خلط في بعض المسائل، ولكن الآن سيثور السؤال: وأين موضع الروح من هذا كله؟!
ما هى الروح إذن؟!
أهى النفس اللوّامة أم هى النفس المُطمئنة أم هى مجموع هذا؟!
سوف نُجيب – إن شاء الله – لأن هذا مُهِم لوجود خلط في هذه المسائل، ولكن قبل أن نُجيب سنأتي الآن إلى الذات العاقلة الواعية – الـ Ego – التي قال عنها فرويد Freud أنها خُلاصة تنظيم ومُعادَلة الوضع كله، كيف تُدير الهو بمُقتضى النفس اللوّامة أو الـ Super-ego؟!
كيف تُديرها وتكبتها وتزمها وتخطمها وتتحكَّم فيها بحيث يكون لك الـ Ego بشكل مُعيَّن؟!
ثم يقول فرويد Freud إذا أمكن أن تُدير إدارة مُعتدَلة دقيقة استقرت شخصيتك، أما إذا فشلت في هذه الإدارة فستفشل على نحو من النحوين، إما أن تكون مُدمِّراً لذاتك – أي اضطرابات في الشخصية وأمراض – وإما أن تُدمِّر المُجتمَع، أي تكون ضد المُجتمَع، وهذا شيئ عجيب، وهذا يعني إذن أن الـ Ego في حالتها المثالية هى النفس المُطمئنة التي تتعلَّق بهذه الحالة من التوازن، وهذا شيئ غريب، فهى نفس النظرية ونفس الشيئ إلى حد بعيد، ومن ثم نحن نقول الشيئ نفسه الآن، وأنت يُمكِن أيضاً أن تتوفَّر على مضمومات ومضمامين للـ Super-ego أو للنفس اللوّامة من المُجتمَع ومن شرع الله، طبعاً كما قلنا وسنعتبر كل ما أتى من المُجتمَع ومن الدنيا حتى ما لم يتعارض مع ما في شرع الله – تبارك الله – لأننا نجعل الأولوية دائماً لما في شرع الله، وبلا شك أن شرع الله لأنه من عند الله – لا إله إلا هو الواسع العليم، أوسع قوة على الإطلاق في الوجود وأعلم قوة وأحكم وأرحم قوة – سيجعلك تتوفَّر على منظور قيمي وسيع جداً وإنساني جيداً، وأيضاً سيُفضي بك إلى طمأنينة نفس من نوع مُختلِف تماماً، لأن في النفس من حيث هى تساؤل وجودي، في كل نفس بشر وفي كل نفس ابن آدم – أي كل واحد منا وفينا – تساؤل وجودي دائم عن ما وراء بوّابة الموت، عن ما هناك، عن ما سيصير، وبالتالي أي مجموعة قيم وعقائد لا تتوفَّر على أصل وجذر إلهي ستكون فاشلة وقاصرة، ويبقى الإنسان وإن اطمأن – كما قلنا – بمنظومة العقائد والقيم الدنيوية البحتة – رَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ۩ – في حالة طمأنينة منقوصة، لكن ليت نثري – ولن أقول ليت شعري لأنني لست شاعراً – ما هى الطمأنينة أصلاً؟!
كيف تطمئن النفس؟!
الطمأنينة هى السكون، الطمأنينة في الأصل هى السكون، سكون الشيئ الحسي كسكون البدن، فإذا سكن بدنك يُقال اطمأن، فهى حقيقة في سكون البدن ومجاز في سكون العقل والقلب والنفس، اطمأن قلبك واطمأنت نفسك مجاز، ولكن لشيوع هذا المجاز أصبح مُعادِلاً للحقيقة، فيقول لك أحدهم اطمأن باله أو أنك طمنته وطامنته، ويُقال أيضاً المُطمئن من الأرض أو المُطمأن بالفتح وليس إسم مفعول، لأن اطمأن لازم وليس مُتعدياً، فهذا ليس إسم مفعول ولكن هذا إسم مكان، فيُقال لك – مثلاً – المُطمأن من الأرض أو المُطمئن على زنة إسم فاعل وهذا شيئ غريب، والفعل لازم وليس مُتعدياً، وذلك من باب الإسناد المجازي المعروف بالإسناد العقلي، مثل قول الله عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ۩، والعيشة لا تكون راضية، لأن الذي يرضى هو مَن يعيش هذه العيشة، فهذا إسناد مجازي، كذلك الإسناد إلى الأرض، في الحقيقة يطمئن ساكنها، إذن كلمة مُطمئنة – قال الله يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ۩ وقال أيضاً وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا ۩– لم اختارها الله تبارك وتعالى؟!
وهى تعني ماذا؟!
القرار والسكون في اللغة الشرعية الفقهية، الطمأنينة في الصلاة ركن من أركان الصلاة بقدر أُسبوحة – أي بقدر تسبيحة واحدة – وبالتالي حين تركع ينبغي أن تطمئن بقدر تسبيحة كما قال السادة الفقهاء، هذا هو السكون، وإذا اطمأننت أنت إلى أرض – مثلاً – أن تُقيم بها لم تُغادِرها إلى غيرها، إذا اطمأننت إلى حالة لن تطلب غيرها لأنك سكنت وانتهى الأمر حيث حدث نوع من التوازن ومن ثم كفتا الميزان ستكفان إذن عن الحركة، فلن تطيش هذه ولن ترجح هذه، بل سيطمئن الميزان الآن.
الطمأنينة الكاملة هى طمأننية الإيمان التي تأتي على جميع وجوه القلق الإنساني بما فيه القلق الميتافيزيقي، فهذا قلق حقيقي علماً بأن هذه ليست فلسفة ولكن هذه حقيقتنا أنا وأنت، هذه حقيقتنا – والله – التي يفهمها الكهول والشيوخ أكثر مما يفهمها الشباب، فالشاب يطير مُندفِعاً لأن أهم شيئ عنده أن ينجح وأن يأتي بالأموال وأن يشتري السيارة وأن يخطب الفتاة الجميلة هذه وأن يحتاز هذا القصر – أي يملك هذا القصر- وهو يعتقد أن هذه هى السعادة، ولكنه سيتبين له عكس هذا كله بعد ما يُحقِّق كل شيئ حيث أنه سيطرح سؤال مُباشَرةً: وماذا بعد؟!
هل هذا هو فقط وانتهى كل شيئ؟!
وماذا بعد؟!
يأتيه الآن ويلح عليه القلق الميتافيزيقي ويبدأ يشيب طبعاً ويضعف وتضعف قواه الحسية والعقلية والبدينة، فيتساءل الواحد منهم: وماذا بعد؟!
نحن فعلنا كل ما نُريد لنا ولأولادنا فماذا بعد؟!
هذا هو السؤال، إذن طمأنينة الإيمان هنا تأتي عبر تحكيم النفس اللوّامة في النفس الأمّارة بشرع الله لا بالهوى وقيم المُجتمَع وحدهما، بل بشرع الله أولاً وأخيراً، أهم شيئ شرع الله – عز وجل – لكي يحدث التصالح الأكبر مع النفس والطمأنينة الأعظم بإذن الله تبارك وتعالى.
إذن نستطيع أن نصل إلى أُفق – وصَّلنا الله وإياكم – النفس المُطمئنة بتسليط وتحكيم النفس اللوّامة في النفس الأمّارة.
تبقى مسألة مُهِمة نجعلها موضوع الخُطبة الثانية في دقائق ونمضي – إن شاء الله – رحمةً بي وبكم في هذا الشهر الفضيل – فنسأل الله القبول – وهى: كيف لي أن أُميِّز؟!
هل يُمكِن فعلاً أن أُميِّز بين هذه الأنحاء الثلاثة في نفسي؟!
هل هذا أمر مقدور ومُمكِن أم أنه ضرب من ضروب الخيال؟!
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
إخواني وأخواتي:
نحسب أن الجواب عن هذا السؤال الذي ختمت به الخُطبة الأولى نجده في موضوعة وفي مفهوم الروح، حيث يقول الله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩، فالروح ليست هى النفس وليست نحواً من أنحاء النفس الثلاثة وإنما هى شيئ خارج هذا ومُسيطِر على المشهد كله، هذه هى النفخة الرحمانية أو النفخة الربانية، وهى اختصاص كما لا أزال أُكرِّر دائماً وأُذكِّر بالإنسان، ومن ثم مَن يقول لك أن الحيوانات فيها روح عليك أن تقول له أنت تكذب على الله وعلى القرآن، الحيوانات ليس فيها روح، الروح خصيصة إنسانية فقط وهذا أمر معروف، الحيوانات فيها نفوس، تعيش وتموت بالنفوس، والتي تموت في القرآن الكريم هى النفس، فليس هناك آية واحدة تُفيد بأن الروح هى التي تموت، لا يُوجَد ولا آية تدل على هذا، ولكن الموجود هو أن النفس هى التي تموت وليست الروح حيث يقول الله كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ۩، علماً بأن الروح ليست عنصراً من العناصر، هى معنى عجيب غريب لا نُدرِك سره ولكن نفخه الله فينا، وبهذا المعنى فسَّرنا في الخُطب السابقة كيفية العقل والوعي عند الإنسان، وهذا صحيح وفي موضعه بنسبة مائة في المائة، وبنفس هذا الوعي والعقل أنت تتمكَّن من وتقتدر على أن ترى نفسك في مرآة نفسك وهذا شيئ عجيب، كيف ترى نفسك في مرآة نفسك؟!
يُفهَم أنني أستطيع أن أرى الآخرين – وليس حتى الرؤية البصرية فقط وإنما الرؤية العقلية – وأن اُدرِك الأشياء الأُخرى غير نفسي لأن هناك مسافةً بين المُدرِك والمُدرَك أو بين الواعي والذي وقع عليه الوعي – إن جاز التعبير- أي المُوعى به أو الموعي، فمعنى أن هناك مسافة أنني إذن لا يُمكِن أن أُدرِك نفسي، سقرط Socrates من قديم قال “اعرف نفسك”، فهذا هو شعاره الذي كُتِبَ على مُقدِّمة معبد دلفي Delphi بأثينا – Athens – القديمة، أي أن خُلاصة فلسفة الحكيم الشهير الكبير سقراط Socrates هى عبارة “اعرف نفسك”، ونحن عندنا السري السقطي خال الجُنيد – أي خال أبو القاسم بن محمد الجُنيد شيخ الطائفتين، شيخ أهل الشريعة وأهل الطريقة والحقيقة – الذي علَّمه وبه تخرَّج وعلى يديه والذي كان يقول “ما رأيتُ أفسد للقلب ولا أحبط للعمل ولا أجلب للهم والغم ولا أسرع بابن آدم إلى الهلاك مِن إعجابه بنفسه”، ولكن متى يُعجَب الإنسان بنفسه؟!
حينما لا ترى نفسك، أي أنك مُعجَب بنفسك لأنك لا تراها، لكن لو رأيت فستراها بحجمها الحقيقي ومن ثم ستتواضع جداً، وسوف ترى أن في البشر الكثر مِمَن هم أفضل منك، وذلك عندما ترى أن عندك قدرة على أنك تُقارِن فيثور السؤال من فوره: كيف أرى نفسي؟!
إذا لم تر نفسك أنت هلكت – بين الناس هلكت وعند الله هلكت – وأصبحت شخصاً مقيتاً مُمقَّتاً، ومن ثم الناس سوف يكرهونك لأنك ترى نفسك على أنك أحسن واحد وأعلى واحد بل وتُبرِز التعالي والعُجب والغرور والانتفاخ على الناس، لكن الناس يكرهون مَن يتعالى عليهم – والله العظيم – ولا يخشعون له ما لم يكن لديهم مصلحة لديه أو رهبة منه، أما إذا لم يكن ثمة مصلحة أو رهبة أبداً يكرهونه وينفرون منه، فمثل هذا الشخص كريه عند الله وعند الناس لأنه لم ير نفسه ولم ير حجمه الحقيقي وهو غير مرحوم، ومن هنا قولهم رحم الله امرأً عرف قدر نفسه، ولكن كيف أرى نفسي لأعرف حجمي بالضبط؟!
هذا السؤال كبير، ولكن الجواب عنه بكلمة تتمثَّل في”الوعي”.
كيف أنا أعي نفسي؟!
ما الذي يُمكِّنني من هذ الوعي؟!
الذي يُمكِننا من هذا – كما قلنا – هذه النفخة الروحانية، حيث قال الله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩، فهى شاهدة على المشهد كله وعلى الأنحاء الثلاثة للنفس بإذن الله تبارك وتعالى، وبالتالي تستطيع أنت بهذه النفخة الربانية أن تعي نفسك، ولكن عليك أن تُزكيها طبعاً لأنها تحتاج إلى تزكية، ومن هنا أهمية العبادة والذكر والاستغفار باستمرار لكي تزكو الروح، فإذا زكت يزدد هيمنتها وسيطرتها على المشهد الثلاثي هذا وتبدأ ترى كل نحو من أنحاء النفس بحجم الطبيعي، أي أنها تستطيع أن تُحدِث أو أن تُوجِد مسافة، إذن الروح تستطيع أن تُوجِد مسافة بينك وبين ذاتك، وهذا شيئ عجيب كأنك ترى إلى نفسك في المرآة كما ترى الآخر، فترى نفسك هكذا – وهذا شيئ عجيب – بفضل الروح هذه لأنها ليست نفساً، لأن الروح لو كانت نفسك ما أمكنك أن ترى نفسك، الروح لو كانت محض نفس أو وجه من وجوه لكام من المُستحيل أن أحداً يرى نفسه فضلاً عن أن يُحاسِبها وأن يُراقِبها وأن يلومها، هذا أمر مُستحيل، ولكنها شيئ خارج هذه الأنحاء ومُسيطِرة عليه، وكلما كانت هذه الروح قوية ومُسيطِرة وزكية كلما استطاعت أن تخلق وأن تُوجِد هذه المسافة وأن تنظر وأن تقول لك “الزم دورك، أنت تعديت، أنت مُسيء الآن، أنت المُخطيء وليس أخوك”، علماً بأن أكثر ما يُرعِب – شخصياً يُرعِبني جداً جداً جداً هذا – من وجهة نظري هو حين نرى بعض الناس يُواصِلون صدورهم في غيهم وعماهم دون أن يلووا على شيئ وكأنهم على الحق المُطلَق، فيما يراهم الآخرون هم على الباطل الكامل التام، باطل من جميع الجواني يحتوشهم ولكن هم مُطمئنون بالحالة هذه، بل ويعتقد الواحد منهم أنه الأحسن والأفضل، والعرب كانت تعتقد – وهذا من ذكاء العرب الفطري – أن المُعجَب بنفسه مجنون وهذا صحيح، هو مجنون مائة في المائة، وكم أعجبني هذا التحليل الذي أورده الشاعر الجاهلي العدّاء الشنفرى وهو يصف محبوبته – امرأة جميلة – قائلاً:
فدقت وجلَّت واسبكرت وأُكمِلَتت فلو جُنَّ إنسانٌ من الحُسن جُنت
لأن الذي يُعجَب بنفسه يكون مجنوناً، فهى لو ترى جمال نفسها وكمال خلقتها وبنيتها الذي يبعث على الجنون فستكون هى أول المجانين، فالمُعجَب بنفسه مجنون لأنه لا يستطيع أن يُحدِث هذه المسافة ليرى نفسه في حجمها الحقيقي فلا يُجَن، المجنون الحقيقي مُشكِلته تتمثَّل في أنه لا يستطيع أن يُحدِث هذه المسافة، ولذلك المجنون عنده استعداد مُطلَق أن يُقدِّم نفسه على أنه أذكى البشر الآن يقول لك حتى وإن قلت له أن كلامك غير صحيح وهناك مَن يُعارِضه مثل فلان قال وقال الفيلسوف فلان وقال النبي وقال عمر وقال أينشتاين Einstein، ومع ذلك سيقول لك هذا المجنون دع عنك كل هذا واستمع إلىّ فقط، خُذ مني وبس اسمع مني، فهو واثق تماماً أن ما عنده ليس عند غيره فهو الأذكى والأفظع – ما شاء الله – ولكن في الحقيقة هو ليس كما يظن بل هو مجنون، فلا يستطيع المسكين أن يُحدِث هذه المسافة لكي يرى حجمه الفكري والفلسفي والعلمي على أنه حجم ضئيل جداً وحقير وأن هذا الآخر هو عملاق وجبل أما هو فمُجرَّد حجرة في سفح الجبل، ومن هنا ستقول لي أن هذه مُصيبة – والله – لأن كثير من الناس على هذا النحو، فهل هم مجانين إذن؟!
نعم بهذ المعنى كثير من الناس مجانين، لأن كل مُعجَب بنفسه وكل مُتكبِّر وكل تيّاه وكل إنسان لا يُحاسِب نفسه وكل إنسان مُطمئن بالحياة الدنيا وغافل عن آيات الله – عز وجل – هو مجنون، إذن ستقولون “لا إله إلا الله، فليس عبثاً وليس مجازاً أو مُبالَغةً إذن أن الله – تبارك وتعالى – أطلق على صنوف من البشر أنهم لا عقل لهم، الله قال أَفَلَا يَعْقِلُونَ ۩، وقال أيضاً أَفَلَا تَعْقِلُونَ ۩، وقال على لسان الكفّار لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ۩، فهذا هو القرآن حين تتعمَّقه، فهو ليس كلاماً مجازياً أو كلاماً مُؤلَّفاً، بل هو كلام عميق جداً جداً جداً “، علماً بأن هذا هو سطح العمق فقط، فنحن أكيد لم نذهب إلا إلى سطح العمق فقط، أما عمق العمق لا يعلمه ربما إلا الله ومَن علَّمه الله فاللهم ألحقنا بهم وزِدنا علماً، قال الله وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ۩.
ومن هنا أيضاً قال لك القرآن الكريم – وأختم بهذا – أن هذا القرآن النذير لا ينفع ولا يشتغل إلا مع الأحياء، قال الله لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ۩، ولكن ما الفائدة إذن إذا هو يُنذِر مَن كَانَ حَيًّا ۩ فالميت لن ينتفع بهذا إذن؟!
هناك حالة واحدة للانتفاع عليك أن تنتبه إليها لأن القرآن دقيق جداً، فأعظم فلسفة هدائية لا نستمدها من كانط Kant ولا من أينشتاين Einstein ولا من أرسطو Aristotle ولا من سقراط Socrates ولا من ابن رشد ولا من كل هذا الكلام الفارغ، وإنما نستمدها من كتاب الله طبعاً، فالله هو الهادي وكتابه هذا هو الهُدى الذي قال الله عنه أنه المُبين المُستقيم، الله يقول في كتابه إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ۩، فالقرآن إذن هو الهُدى المُبين المُستقيم، ومن هنا الذي لا يكون حياً لا ينتفع بالقرآن، ولكنك ولا تكون حياً إلا بحياة الروح، أي حين تكون الروح شغالة وتعمل، وهذا معنى قول الله لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا ۩، فمَن عنده روح شغّالة ونشطة ويعتني بها يستطيع أن يُميِّز – بإذن الله تعالى – وأن يعرف هاته الأمور مُباشَرةً لأن هذه الروح عندها القدرة على أن تعرف جوانب النقص في صاحبها، أما الميت فيُمكِن في حالة أن ينتفع بالموعظة الإلهية والهداية الربانية حتى ولو كانت روحه خامدة ومن هنا قال الله أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً ۩، هذه الحالة تتمثَّل في أن يكون لديه النية فقط، وبالتالي يقع الانتفاع ويبدأ يبكي على نفسه المسكين ويتساءل كيف كان هكذا لأنه بدأ يُدرِك الآن بعد أن استيقظت الروح من سُباتها وغفوتها، إذن يُمكِن أن ينتفع الميت ولكن بشرط واحد صغير ومُهِم جداً بمقدار أهمية المسألة كلها – الهداية – وهو النية، أن يكون لدى هذا المسكين النية في ذلك، مثل إنسان جاهل وتائه وضال وضائع لكن عنده نية ويقول “أنا أُريد إن كان ثمة مخرج، إن كان ثمة شيئ آخر لا أشعر به ولا أجده، إن كان ثمة فأنا أُريده” على أنه لا يجده ولا يشعر به، ومن هنا النبي – هو أعظم مُعلِّم وأعظم فيلسوف هداية في تاريخ الدنيا والله – حين أتاه رجل كافر قال له “أسلم يا فلان” على الرغم من أنه كان كافراً وكانت روحه خامدة ولا يشعر بأي شيئ فضلاً عن أن يشعر بالمزية التي عند دين محمد، فهو فقط سعيد بما عنده، ولذلك رد على الرسول قائلاً “أجدني كارهاً يا محمد”، أي أنني أكره دينك هذا، فقال له النبي “أسلم ولو كنت كارهاً”، أي أعط فقط نفسك فُرصة أنت تفتح هذا الباب وأنت تخطو خُطوة في هذا الطريق لأن عليك أن تُجرِّب، فمَن يفعل هذا ويسير خُطوة واحدة في هذا الطريق فسوف يعمه النور – بإذن الله تعالى – الشعشعاني وسوف يندم على حالته ويفرح بالحالة الجديدة، أي النبي لم يكن مُراده أن يُكثِّر سواد المسلمين بإضافة مُسلِم زائد على أمة محمد ولكنه قال له هذا القيل لأنه يعرف أن هذا المسكين كان مغموراً في حالة يصعب عليه أن يخرج منها، ولكن إن كانت لديه النية فقط – مُجرَّد النية – فسوف يخرج منها، ومن هنا كان الأئمة المُجتهِدون كذلك، فيقول لك أحدهم أنا في المسألة الفلانية ملآن ومُتشبِّع بقناعة أن اجتهادي فيها هو الصحيح ولكن أعلم بعقلي أيضاً أن ثمة احتمال أن يكون اجتهادي خاطئاً على الرغم من أن الخطأ ليس واضحاً لي حتى الآن ولكن عندي النية إذا وضح خطئي أن أدع خطئي لصواب غيري، ونقول له بدورنا هذا يكفي لأن هذا هو الذي يُريده الله منك، فعبَّر الله – عز وجل – عن هذا المعنى بقوله وَلَوْ عَلِمَ اللَّه فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ ۩، فالمقصود بالخير هنا هو إرادة الخير أو إرادة إصابة الخير، ولذلك في القرآن الكريم آيات كثيرة جداً يشرط الله ويرهن مُستقبَل الإنسان الهدائي بالإرادة، فيقول لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ۩، ويقول أيضاً وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا ۩، أي أن هذا لمَن يريد، فهل تُريد أم لا تُريد؟!
ستقول “أُريد يارب ولكنني لم أر ولم أشعر ولم أُحس ولم أتبين”، ولكن الله سيقول لك “هذه ليست مُشكِلة، فالمُهِم هو أنك تُريد، ومن ثم – بعون الله – حين يُعرَض عليك الحق ستراه وسيُزايلك هذا العمى وسيغيب عنك هذا الصمم وستُخلَق لك حالة جديدة.
اللهم نوِّرنا بأنوارك ودلّنا عليك كما دللت عبادك الصادقين وارفعنا إلى مراتب أوليائك الصالحين من أهل القيام والاستقامة والمُراقِبة والمُحاسَبة والإحسان بفضلك يا مُفضِلُ، يا مُنعِمُ، يا مُجمِلُ، يا غفور، يا كريم، يا رب العالمين، علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، أصلِحنا وأصلِح بنا واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر برحمتك يا أرحم الراحمين، لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرَّجته ولا كرباً إلا نفَّسته ولا ميتاً إلا رحمته ولا مريضاً إلا شفيته ولا غائباً إلا ردتته ولا أسيراً إلا أطلقته ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه برحمتك وفضلك وجودك يا رب العالمين.
اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المُنكَرات وحُب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، لا تجعل مُصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تُسلِّط علينا بذنوبنا مَن لا يخافك فينا ولا يرحمنا إلهنا ومولانا رب العالمين، أعِنا في هذا الشهر الكريم في هذه الأيام الزاهرة والليالي المُبارَكة على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك يا رب العالمين، اللهم وفِّر لنا في هذا الشهر الأجر وأنلنا فيه شرف ليلة القدر برحمتك وفضلك يا رب العالمين ولا تجعلنا من المحرومين، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بسوء ما عندنا.
عباد الله:
إِنَّ اللَّه يَأْمُر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَر وَالْبَغْي يَعِظكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ۩
اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وسلوه من أفضاله يُعطكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (10/6/2016)
أضف تعليق