إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَعَظيمَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول المولى الجليل – سُبحانه وتعالى – في مُحكَم التنزيل بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ۩ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۩ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۩، والله حقاً وصدقاً وفعلاً مُنجِزٌ وعده وناصرٌ جُنده، إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ۩، سُبحانه وتعالى.
ولو استقرينا تاريخنا الإسلامي – أيها الإخوة والأخوات – على طوله وتشعب مجارياته وكثرة أحداثه لوجدنا أن أجلى وأصدق وأوضح وأظهر مصداق لهذه الآية بعد رحيل رسول الله – صلى الله عليهوآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – إنما تبدى في عهد الفاروق عمر رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، لا يستطيع مَن يحترم الحقيقة ويحترم التاريخ ويحترم نفسه إلا أن يخضع لهذه الحقيقة.
وقد نقلنا أو استشهدنا في الخُطبة الماضية بقولٍ للإمام عليّ عليه السلام وكرَّم الله وجهه، حين قال وهو الصادق بلا شك المُصدَّق، قال ووليهم والٍ فقام واستقام حتى ضرب الدين بجِرانه في نهج البلاغة! قال حتى ضرب الدين بجِرانه، استتب الأمر، واستقر الحال، وأمنت السُبل، ودرت المعايش، ورغد عيش الناس، وكثرت أرزاقهم واتسعت، وبُورِكت حياتهم، وأمنوا على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وضُمِنت حرياتهم، حتى ضرب الدين بجِرانه! ومتى ضرب الدين بعد رسول الله بجِرانه كما ضرب في عهد الفاروق؟
ولذلك ومرة أُخرى أبو الحسن – الإمام عليّ عليه السلام – يشهد أن هذا الوعد الرباني – وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۩ – إنما تحقَّق وأتى زمانه وأطل عهده في عهد الفاروق، أين؟ أين ومتى قال الإمام عليّ هذا؟ في نهج البلاغة أيضاً، يقول الإمام – كرَّم الله وجهه ورضيَ الله تعالى عنه – وقد علم بنية الفاروق – رضوان الله تعالى عليه – بالشخوص لقتال ومُلاقاة الفُرس، فأشفق عليه وأشفق على الأمة من هذا الشخوص، ونصح له نُصح وامق مُحِب مُخلِص في نُصحه ألا يفعل، يقول يا أمير المُؤمِنين لا تفعل، وكان من ضمن ما قال له ناصحاً – رضيَ الله تعالى عنهما، وجمعنا في فراديس الجنان بهما، وشفَّعهما فينا، اللهم آمين، أي هذين الجليلين الكبيرين، رضيَ الله تعالى عنهما – يا أمير المُؤمِنين إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة، النصر فيه ليس بالكثرة والخذلان ليس بسبب القلة، ويعني بهذا الأمر الدين، الإسلام! إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة، وهو دين الله الذي أظهره وجُنده الذي أعده وأمده حتى بلغ ما بلغ وطلع حيث طلع.
ومكان القيّم بالأمر – مَن هو؟ الفاروق عمر، أنت الآن القائم على أمر المُسلِمين – مكان النظام من الخرز، يجمعه ويضمه، فإذا انقطع النظام تفرَّق الخرز، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً، الله أكبر! هذا في نهج البلاغة، انتبهوا! والله كلام يقف له شعر البدن، والله! لأنه الحق، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، النظام هو الخيط، ما معنى النظام؟ النظام هو الخيط الذي تُنظَم فيه حبات الخرز في العقد، هذا الخيط يُسمى نظاماً، انتبهوا! يُسمى النظام، إذا انقطع هذا الخيط انفرط العقد.
ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز، يجمعه ويضمه، فإذا انقطع النظام تفرَّق الخرز، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً، والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع، فكُن قطباً واستدر الرحى بالعرب، الله أكبر! يقول له أنت القطب، الله أكبر! هل تدور الرحى من غير قطب؟ تعرفون الرحى، من غير قطب يستحيل أن تدور، لأنه مدارها ومحورها، يقول له انت قطب العرب، أنت قطب المُسلِمين اليوم يا أمير المُؤمِنين، الله أكبر! هل عليّ يقول هذا؟ نعم، فكُن قطباً واستدر الرحى بالعرب.
إن الأعاجم يا أمير المُؤمِنين إن ينظروا إليك غداً – إن شخصت وذهبت ورآك الفُرس – يقولوا – الجواب – هذا أصل العرب، فإن اقتطعتموه – أي استأصلتموه – استرحتم، فيكون أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك.
هذا أبو الحسن – عليه السلام – يُخاطِب أخاه وختنه – زوج ابنته أم كلثوم عليها السلام – وحبيبه في الله بهذا الخطاب المُحِب الشفوق النصوح الصدوق، ويعلم أن عمر إن ذهب واستؤصِل لن يجتمع أمر هذه الأمة بعده، الله أكبر! أليس هذا مُطابِقاً ومُصدِّقاً لما قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه – فيما أخبر أمين سر رسول الله وفيما أخرج البخاري وغيره أن عمر هو قفل الفتنة؟ عمر هو قفل الفتنة، وإن انكسر عمت هذه الفتنة الأمة، والنبي أخبر أنه سيُكسَر، وارتاع عمر وقال ويحك، أقال يُفتَح أو قال يُكسَر؟ قال بل قال يُكسَر، قال كسره قتله، وعلم – رضوان الله عنه – أنه مقتول.
قد يقول قائل حقاً وصدقاً إلى هذا المدى بلغ ثناء أبي الحسن – عليه السلام – على أخيه عمر وختنه وصهره؟ نعم، كيف لا وهو القائل أيضاً في نهج البلاغة – كل هذا من كلام الإمام عليّ في نهجه، رضيَ الله تعاللى عنه وأرضاه – لله بلاد فلان؟ العرب تقول لله بلاد فلان بمعنى لله دره، كما تقول لله أبوه، أي طيَّب الله ثراه، سقا الله أيامه، قال لله بلاد فلان، والآن سترون مَن هو هذا الفلان، للأسف بعضهم لم يذكر اسمه، عز عليه، طبعاً الإمام عليّ ذكر اسمه وقال لله بلاد عمر، والشرّاح الكبار لم يجدوا بُداً من أن يُذعِنوا بأنه إنما أراد عمر، يقول شارح النهج ابن أبي الحديد – العلّامة المُعتزِلي الكبير – في أوسع الشروح هذا، ابن ميثيم البحراني أقر أيضاً أن هذا الفلان هو عمر، وهذا شيعي إمامي، رحمة الله عليه، ابن أبي الحديد يقول لله بلاد فلان، رأيت بخط الشريف أبي الحسن الرضي جامع النهج – مَن الذي جمع نهج البلاغة وصنَّفه كتاباً؟ الشريف الرضي، أبو الحسن رضيَ الله عنه، قال رأيت بخط الشريف أبي الحسن الرضي جامع النهج، في النُسخة التي بيده – تحت فلان عمر، الرضي كتب عمر، هو يعرف أنه عمر، بعضهم حذفها من باب الشنآن، كبر عليه أن يذكر ما قال أبو الحسن في أخيه، قالوا فلان، مَن هو فلان؟ اقرأوا التاريخ، اقرأوا تاريخ مَن قبل الإمام عليّ عليه السلام، مَن ينطبق عليه هذا؟ قال لله بلاد عمر إذن.
لله بلاد فلان، فقد قوَّم الأود – أي أقام الأود – وداوى العمد – أي المرض والداء – وأقام السُنة – قال وأقام السُنة، عمر لم يكن ضد محمد، ولا ضد سُنة محمد أبداً، وإنما أقام سُنة محمد، وأقام السُنة – وخلَّف البدعة – هذا في نهج البلاغة – وذهب نقي الثوب، قليل العيب – قال ذهب نقي الثوب، ما أحسن هذه المدحة! وذهب نقي الثوب، قليل العيب -، أصاب خيرها وخلَّف شرها – يعني الخلافة والولاية، أصاب خيرها الذي تقرَّب به إلى الله، وخلَّف شرها، أي ما وقع فيها من فتن وإحن وأمور عظام ومحن، قال وأصاب خيرها وخلَّف شرها -، رحل وتركهم في شعوب مُظلِمة، لا يهتدي بها الضال ولا يستيقن المُهتدي، أي فُتِنت الأمة بعد عمر، الإمام عليّ يقول هذا، وهذا ما قاله الرسول من قبل، إن كُسِر هذا الباب فُتِنت الأمة، ستُفتَن وستبقى مُصطرِعة مُحترِبة، فما أعظم هذا النظام وأبركه – أي عمر – على هذه الأمة!
إذن في الخُطبة الأولى أشار بشكل واضح – أشار بشكل واضح ولعلي نسيت هذا – إلى أن عهد عمر هو عهد التمكين وعهد إنجاز الوعد الإلهي، حين قال وهذا دين الله الذي أظهره وجُنده الذي أعده وأمده، حتى بلغ ما بلغ وطلع حيث طلع، ونحن – لعلي أسقطت هذا، وهذا هو بيت القصيد – على موعود من الله، والله مُنجِز وعده وناصر جُنده، ما هو موعود الله؟ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۩، هذا هو! يقول له يا أمير المُؤمِنين نحن الآن في هذه الدورة، في هذه الدورة التاريخية التي سيُنجِز الله فيها وعده، والإمام عليّ إمام مُلهَم عليه السلام، مُلهَم! يستشف الغيب من خلف ستر رقيق، لأنه الرباني العريق، هذا الإمام عليّ، وكيف يشهد بهذا؟ يشهد بهذا على نور من ربه، يقول نحن الآن يا أمير المُؤمِنين في زمانك، في مُدتك، في خلافتك، وفي الوقت الذي أظل لإنجاز الله وعده لنا إن شاء الله تعالى، والله مُنجِز وعده – يقول – وناصر جُنده، وانتصر عمر على كسرى، وانتصر عمر على الروم، لم تُفتَح فتوحات كما فُتِحت في عهد عمر أبداً، لم يستتب الأمر – كما قلنا – ولم يرغد العيش كما كان في عهد عمر رضيَ الله عنه وأرضاه، وهذه شهادة أخيه أبي الحسن وختنه وصهره، وكما قلنا في نهج البلاغة، لا يمتري فيها اثنان بحمد الله تبارك وتعالى.
ولذلك ابن أبي الحديد نفسه تعجَّب في عهده، قال سألت النقيب – نقيب العلويين، رئيس الأشراف العلويين جميعاً في العراق – أبا جعفر بن يحيى بن أبي زيد العلوي، قلت له لله بلاد فلان، قال عمر، قلت وأثنى عليه الأمير – أي أمير المُؤمِنين عليه السلام -؟ قال نعم، ما الذي تُنكِر؟ نعم، هذا ثناء من عليّ على عمر، لأن الناس يظنون أن عليّاً يُبغِض عمر وعمر يكره عليّاً والنزاع بينهما على أشده، غير صحيح! والله إنها لأفائك وعظائم، قد يختلفان في صغير أو كبير، لكنهما بعد أخوان مُتحابان مُتصافيان، جمعهما الحق والسبيل الواحدة والمُنطلَقات الواحدة وصدق النية، وليس مَن أراد الحق فأخطأه كمَن أراد الباطل فأصابه كما يقول الإمام عليّ عليه السلام، قد يُخطئ الإنسان – الإنسان ليس معصوماً – في اجتهاده في أمر يصغر أو يكبر، لكن إنما الأعمال بالنيات.
ولذلك في كُتب إخواننا الإمامية كما في بحار الأنوار للمجلسي – الباقر المجلسي – عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام – وهو أبو الإمام جعفر الصادق عليه السلام – أنه قال قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، الإمام الباقر ينقل هذا عن رسول الله، عن جده رسول الله! يقول النبي دعا أن يعز الإسلام بعمر بن الخطاب، صح الحديث أم لم يصح – وهو عندنا أيضاً، أي أهل السُنة – التاريخ يُصحِّح معناه، ما عز الإسلام ما عز في زمان عمر، اقرأوا التاريخ! متى عز الإسلام مثل ذاكم العز؟ أبداً لم يحدث، لم يحدث! فعلاً فهو العبقري الذي لا يفري أحد فريه كما قال النبي عليه الصلاة وأفضل السلام.
ولذلك يروي أئمة إخواننا الشيعة الكبار – ابن بابويه القمي، الإمام الطوسي، ابن أبي الحديد شارح النهج، الشريف المُرتضى في شرف الإمامة، وغيرهم وغيرهم – أن الإمام عليّاً – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – دخل على أخيه عمر بعدما طُعِن وقد كُفِّن وسُجّيَ في ثوبه، رضوان الله عليه، دخل عليه يُودِّعه وقال كلمات واضحات صريحات صادقات، قال والله ما أحدٌ أحب إلىّ من أن ألقى الله بصحيفته من هذا المُسجّى بين أظهركم، نعم! وهذا صحيح في دواوين أهل السُنة بحمد الله تعالى، صحيح عندنا وموجود في هاته الدواوين وغيرها من دواوين إخواننا الشيعة الإمامية، موجود هنا وموجود هنا، إلى هذه الدرجة؟ مَن يُغامِر ويقول أنا أود أن ألقى بصحيفة فلان – أي ألقى الله بعمل فلان -؟ لعلك غير واثق، لا تقولها إلا وأنت واثق تمام الثقة، من ماذا؟ من قبول عمله ورفعة درجته وصدق نيته وسلامة طويته وحُسن مقصده، أليس كذلك؟ وجميل نهجه وسيرته وأحدوثته، تكون مُتقيِّناً! وإلا لا يُمكِن أن تُغامِر وأن تقول أنا أُريد وأود وأُحِب أن ألقى الله بصحيفة فلان، أي يتمنى مثل درجته وعمله، شيئ غريب، قال هذا وكما ذكرناه لكم بهذه المصادرة معزوة، شيئ عجيب، شيئ غريب! كيف لا؟ هذا هو الحق الذي كان يجمعهما رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما.
فلقائل أن يقول ولسائل أن يسأل إذا كان الأمر كذلك فلِمَ كل هذا الاحتراب وهذا التضاغن والشنآن والكره والحقد والآن هذه الحروب والاقتتالات الدموية باسم عمر وعليّ؟ وهذا عمر وهذا عليّ! أخوان مُتحابان مُتكامِلان مُتصالِحان تماماً، لم يكونا مُتخاصِمين وليسا بمُتخاصِمين إلا في أذهاننا وفي تصوراتنا، في الواقع وحقيقة الأمر لم يكونا كذلك – بحمد الله تبارك وتعالى – أبداً، مُستحيل! لكن لِمَ هما مُتخاصِمان؟ أنا أقول لكم بكلمة واحدة بسبب آفتنا، نحن أمة أصابتها آفة ولا تزال تنخر في عظامها، آفة المُطابَقة، آفة التنافي، وما العلاقة بين المُطابَقة والتنافي؟ صدِّقوني في نظري المُطابَقة هي التنافي، بعض الناس يُقابِل بين المُطابَقة والتنافي، يقول المُطابَقة في مُقابِل التنافي، كلا! في نظري كل مُطابَقة هي تنافٍ، لكن ليس كل تنافٍ مُطابَقة، كيف؟ سأُوضِّح هذا وليس بصعب.
آفتنا – أي المُطابَقة – كالتالي، نُثبِت أصلاً ونُقرِّر أُنموذجاً ثم نُريد بعد من الجميع أن يتطابق معه، إن ضاق عنه أبيناه، إن اتسع عنه كفرناه، نُريد المُطابَقة، ونحن في عشقنا للمُطابَقة بمقدار ما نظن أننا نعشق الإثبات، نتشوَّف حقاً إلى النفي وإلى الإقصاء، هل تعلمون لماذا؟ لأنه ما من أصيلين يتطابقان، الأصالة تأبى المُطابَقة، يستحيل! حين تكون أنت أصيلاً في بابك وأنا أصيلاً في بابي لا يُمكِن أن نتطابق، نتفق ولا نتطابق، لأن الأصالة تعني ماذا؟ التفرد، تعني التفرد، التوحد، والإبداع، هذا معنى الأصالة! عكس الأصالة ماذا؟ الزيف، التقليد، والمرآوية، الزيف والمرآوية! أن تكون صورة مرآوية، ولا يُمكِن أن تكون مرآوياً إلا وأنت صورة، ظلال فقط وانعكاسات! ليس لك وجود حقيقي شاخص، فالذي يطلب المُطابَقة التامة إنما يُؤكِّد نفي كل ما عدا النموذج بالكامل، هو يُريد نموذجاً واحداً يبقى يتيماً، ويُريد من الآخرين أن يكونوا ظلالاً وصوراً مرآوية ووجودات زائفة لا معنى لها، لا قوام لها، ولا أصالة فيها.
ولذلك المُطابَقة آفة مُخيفة جداً جداً، انتبهوا! المُطابَقة آفة مُخيفة، اليوم كل الذين يُنادون – وهم كثيرون، لعل الجميع يُنادون بهذا، لكن هذا أفن، أفن في الرأي وضيق في العطن – بوحدة الأمة وتوحيد الأمة لعلهم يفعلون هذا وعينهم على المُطابَقة، كيف؟ يُريد أن تتوحَّد على شرطه، بشرط أن تتطابق معه، لا تتسع ولا تضيق، في الحقيقة هذه ليست مُطابَقة، وإن كانت فهي تنافٍ، ما معنى أنها تنافٍ؟ هي نفي مُتبادَل.
أزعم – وحُقَّ لي الزعم – أنه ما من نفي خالص، يستحيل! في علاقات الاجتماع، حتى في أحداث التاريخ، في المفاهيم النظرية، وفي الأيديولوجيات والمفاهيم العقدية ما من نفي – أي Negation – خالص، كيف؟ النفي دائماً يستدعي نفياً مُتبادَلاً، نفياً بالإزاء، فيغدو كل نفي تنافياً، ما من نفي خالص! ما من نفي خالص حتى في الطبيعيات وحتى في الحسيات، فأنت الآن حين تنفي شيئاً تُبعِده وتُقصيه وتجعله كأنه غير موجود أمامك، شيئاً كان أو شخصاً، فإن كان شخصاً فأنت بنفيه وإبعاده وإقصائه حتى كأنه لم يُوجَد ولا يحق له الوجود إنما تُغامِر بجعل ذاتك أيضاً منفية في منظوره، هو من موقع إقصائه لن يراك أيضاً، لن يراك! أنت غير موجود، وهكذا مُباشَرةً يتولَّد التنافي – أي النفي المُتبادَل – من النفي، فما من نفي خالص، ما من نفي خالص! على الذين يعشقون النفي أن يُدرِكوا أنهم مأفونون بآفة التنافي وأنهم يُغامِرون بمُستقبَلهم هم وبحرياتهم هم.
حين تفكَّرت رأيت الآتي، وكل مَن تفكَّر طويلاً وعميقاً رأى هذا، رأى من وجوه التشابه – ما يُعرَف بالمشابه، أي رأى من المشابه – ورأى من الجوامع بين عليّ وعمر الشيئ العجيب، أنا شخصياً لم أر بين شخصيتين في تاريخ الإسلام من المشابه كما رأيت بين عليّ وعمر، ما رأيكم؟ لم أر حتى بين أبي بكر وعمر كما رأيت بين عليّ وعمر، صدِّقوني! لا أقول هذا وأنا أُغامِر بكلام لا أدري ما الذي أُخرِجه من رأسي على لساني، بالعكس! أعلم تماماً ما ذا أقول، صدِّقوني! الروح العمرية في حقيقتها هي الروح العلوية، نفس الشيئ! مشابه عجيبة جداً جداً جداً، ليس فقط العدل، العدل العجيب الذي ميَّز الشخصيتين، ليس الزُهد والمتربة التي ميَّزت ووسمت الشخصيتين بميسمها أبداً، وليس الشدة في الحق على الأقارب والذوين والأقربين من الأبناء فمَن دون ومَن بعد في الشخصيتين، أكثر من هذا! الإمساك بالوسط الذهبي، الإمساك بالخيط الذهبي الضامن لثنائية الأمن والحرية، في عهد عمر كما في عهد عليّ المحروب والمكروب والذي تألَّب عليه كل كلب، في عهد هذا وفي عهد هذا رضيَ الله تعالى عنهما، الاثنان ضربا أروع الأمثال بإقرار هذه الثنائية العزيزة والعزيزة جداً.
فعمر بن الخطاب – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – يطلب أن تُصنَع له رحى، فيقول له الذي قتله – العبد يقول له – لأصنعن لك رحى لا يزال الناس يتحدَّثون بها، ويمضي عمر! فيقول له عليّ – عليه السلام – يا أمير المُؤمِنين لقد تهددك العبد، هو لم يعدك بأن يصنع لك رحى حقيقية، يُريد أن يقتلك، نعم! وهكذا كان، بعد أسبوع واحد طُعِن عمر في المسجد وهو يُصلي صلاة الفجر، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ۩، وبالمُناسَبة هنا نفتح قوسين (وبعد ذلك حُمِل وثعب جرحه دماً عبيطاً وأراد أن يتحامل وأن يُصلي ولم يقدر، المُهِم أمر ابنه ثلاث مراراً أن يضع خده على الأرض، فظن أنه يهجر، لكن علم أنه مُستجمِع العقل بعد ذلك فوضعه، فدخل عليّ وابن عبّاس – رضوان الله تعالى عنهما – عليه في تلكم الساعة، فوجداه يقول ويل عمر وأم عمر إن لم يغفر الله لعمر! يخشى بعد كل هذا العدل وهذا الزُهد وهذه التقوى، يخشى! يخشى على نفسه، المُؤمِن الخاشي الخائف من الله والمُوقِّر لله، فيقول له ابن عبّاس والله يا أمير المُؤمِنين إن كنا لا نرجو ألا تراها – أي جهنم – إلا كما قال الله – تبارك وتعالى – وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۩، وإن كنت يا أمير المُؤمِنين على ما نعلم لأمير المُؤمِنين وسيد المُسلِمين، عملت بالكتاب وقسمت بالسوية، قال ابن عبّاس فكأنها أعجبته، وهذا مذكور في كُتب إخواننا الشيعة، انتبهوا! هذا النقل أيضاً من كُتب إخواننا الشيعة وموجود عندنا في ابن سعده وفي غيره، قال فكأنها أعجبته، فاستوى، قال أتشهد لي بهذا يا عبد الله؟ الله أكبر! هل تشهد لي بهذه الشهادة عند الله – عز وجل – يوم القيامة؟ أنا أضعف من أن أشهد لنفسي، قال فكعكعت، أي جبنت وخفت، الموضوع خطير، عند الله! في الدنيا الواحد يتكلَّم لأن هناك فُسحة، قال فضرب الإمام عليّ – أمير المُؤمِنين – بين كتفي بيده وقال اشهد وأنا معك، اشهد! لماذا تكع؟ هذا عمر، ويلك! هذا عمر).
ولذلك قال بعضهم أهل بيت سوء كل مَن لم يجدوا فقد عمر، بعدما اغتيل كل أهل بيت لم يحسوا بالنقص في كل شيئ بقتل عمر هم أهل بيت سوء، في إيمانهم وإسلامهم دغل، عمر! عمر الذي أُريد أن يُصوَّر على أن بني أُمية امتداد له، قرأت هذا لشيوعيين ملاحدة، لا يُؤمِنون بالله العظيم ولا بنبيه الكريم، يقولون عمر أراد أن يمهد لبني أُمية، أين بنو أُمية من عمر وأين عمر منهم؟ هل عمر يلتقي بيزيد؟ هل يزيد بن مُعاوية وعبد الملك وأمثال هؤلاء امتداد لابن الخطاب؟ والله والله لا يجتمع عمر ويزيد إلا في ذهن مأفون، إلا بالأفائك، واختلاق الأفائك لا يُمكِن له أن يخدم الحقائق أبداً، وإنما يخدم البواطين، هذه أفائك لا معنى لها، كيف يُمكِن أن يكون بنو أُمية امتداداً لعمر وابن كثير والطبري يرويان في تاريخهما أن عبد الملك بن مروان أمر أمراً رسمياً – كما نقول هذا مرسوم ميري رسمي خلافي على أعلى مُستوى – منع بمُقتضاه الخُطباء والقُصّاص أن يُذكِّروا الناس بأيام عمر؟ نعم! هل عبد الملك امتداد عمر؟ هل تعلمون لماذا سُمِّم عمر بن عبد العزيز؟ لنزعته العمرية، كان أكثر ما يكره منه وفيه بنو أُمية نزعته العمرية، يكرهون اسم عمر وذكر عمر، لأن عمر يُمثِّل العدل، عمر يُمثِّل العدل ويُمثِّل عشق الحق والحقيقة.
يروي إخواننا الإمامية في كُتبهم أن عمر قال للحُسين عليه السلام – الحُسين بن عليّ – يا ابن أخي ائتني اليوم، أحتاجك في أمر، ائتني! فقصده الإمام الحُسين عشيةً، فألفى في الطريق عبد الله بن عمر، قال من أين؟ قال ذهبت لاستأذن على أبي فلم يُؤذَن لي عليه، قال هذا ابنه ولم يُؤذَن له! قال فرجعت، فلقيه عمر من الغد، فقال يا ابن أخي لِمَ لَمْ تأتني البارحة؟ قال يا أمير المُؤمِنين بلى، قد أتيتك ولكنني رأيت ابنك عبد الله، فقال لي كذا وكذا، فرجعت! قال وأنت عندي مثله؟ أي هل تظن نفسك في مكانة عبد الله؟ أنت أرفع بكثير، مَن هو عبد الله هذا؟ الله أكبر! إلى هذه الدرجة يُوقِّر أهل البيت ويُحِب أهل البيت، قال وأنت عندي مثله؟ وهل أنبت الشعر في رؤوسنا إلا أنتم؟ أنتم تيجاننا، يقول له – أي للحُسين – أنتم تيجاننا، أنتم أعلام رؤوسنا!
أكثر من هذا يا إخواني، في مصادر السُنة كما في مصادر إخواننا الشيعة وفي تاريخ اليعقوبي وهو يتشيَّع بلا شك لما دوَّن عمر الديوان وأراد أن يقسم للناس أعطياتهم قال أبدأ بالناس على منازلهم، الله أكبر! لم يبدأ بنفسه، قال أبدأ بالناس على شرفهم ومنازلهم وسابقتهم في الإسلام ومكانتهم عند الله ورسوله، فقال له عبد الرحمن بن عوف يبدأ أمير المُؤمِنين بنفسه، قال لا، ضعوا عمر حيث وضعه الله، أنزلوه منزلته، مَن هو عمر؟ هل تعرفون بدأ بمَن؟ بدأ ببني عبد مناف، وبدأ بأول بطونها وأشرفها، ببني هاشم، ومنهم بدأ بالإمام عليّ – عليه السلام – وبالحسنين، ما رأيكم؟ في التاريخ هذا عند الشيعة والسُنة يا أخي، لِمَ لا يُقال هذا الناس؟ لِمَ لا يُبعَث هذا التاريخ الصحيح للناس؟ حتى نعلم الحقيقة، وحتى تتصادق الوقائع والأحداث، وحتى تصطلح الأدمغة والأوهام، حتى تزول الهواجس والأمراض من نفوسنا وعقولنا، فكما أقول دائماً نحن أمة فقيرة جداً إلى الوحدة، غنية جداً بالفرقة وأسبابها، كفانا فرقةً، كفانا ضغناً وإحناً، كفانا سودويةً، كفانا عمىً، كفانا طلباً للمُطابَقة والتنافي، كفانا تنافياً!
المُهِم بدأ ببني هاشم، وهكذا بسائر البطون وسائر الأفخاذ حتى أنزل نفسه في منزلة خامسة بعد بيوتات وأسر كبيرات، قال هذا موضع عمر، ليس عمر الأول، الأول خادم، هو الآن أمير المُؤمِنين، أي خادم، هو كان ينظر إلى نفسه على أنه خادم أمين لهذه الأمة، تعلمون في أول مُدته في الخلافة لم يكن قد فُرِض له شيئ، كان يعمل بالمجان لوجه الله تبارك وتعالى، حتى أضر هذا به وبأسرته، الآن وقفت تجارته، ليس عنده مورد، فاستشار الصحابة، وأخذ بشورى مَن؟ بشورى الإمام عليّ عليه السلام، قال له أنزل نفسك منزلة واحد من أوسط المُسلِمين، ليس بأعلاهم ولا بأدناهم، من غير وكس ولا شطط، فرضيَ به وعمل بمشورته، الله أكبر! هذا هو الخادم الأمين، الذي لا يتغوَّل أموال الأمة، هذا عمر يا إخواني، هذا عمر!
المُهِم قال له عليّ قد تهددك العبد، فما الإجراء الذي اتخذه واجترحه عمر؟ لم يُقبَض على هذا المجوسي، أبي لؤلؤة لعنة الله عليه، لم يقبَض عليه ولم يُودَع السجن ريثما تتبيَّن حقيقة نواياه على الأقل، ولعل عمر قد فعل قد يقول بعضنا من حقه، هذا إنسان تهدده بالقتل يا أخي بشهادة الإمام عليّ، يُمكِن أن نحبسه على الأقل، لكي نرى ماذا يُريد هذا الرجل، هل هناك مُؤامَرة؟ هل هناك حزب؟ هل هناك شيئ ما؟ ولم يُجر معه استقصاء وتحقيق قاسٍ على طريقة الاستخبارات العالم ثالثية اليوم، لم يُجر معه! تُرِك وحده ليجد نُهزةً مُناسِبة لاغتيال أمير المُؤمِنين وسيد المُسلِمين، لماذا؟ لأن عمر كان يعلم وبعبقرية أيضاً أنه إن غامر بالحريات من أجل ما يُسمى بالأمن فهو في الحقيقة مُقامِر بالاثنين معاً ومُعرِّض للاثنين جميعاً للضياع والخسران، تماماً كدول العالم الثالث، بما فيها الدول العربية، باسم الأمن يُشطَب على الحريات، انتبهوا! فلا أمن ولا حريات، أين الأمن؟ بالعكس! لا يُوجَد أمن، الأمن لمَن اليوم؟
الإمام عليّ فعل الشيئ نفسه، الخوارج كانوا يُكفِّرونه ويستحلون دمه ويلعنونه، وكان يعلم ذلك، ولم يتخذ معهم أي إجراء سوى الدفاع عن النفس فقط في الحروب، وسبه أحدهم إمام إخوانه وشيعته وأحبابه سباً ذريعاً مُقذِعاً، قبَّحه الله البعيد، أي هذا الساب، فقام أحدهم لكي ينال منه، فقال خل عنه، إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب، أنا واحد منكم، مثلكم! حتى لو سبني لا يُقتَل لأنه سبني، والآن يأتيك أحد هؤلاء الذين لا أدري بما أصفهم حقيقةً – منا أيضاً، من أهل السُنة – ويقول لك ساب الصحابة كافر، ما هذا الكلام الفارغ؟ هل الإيمان بالصحابة هكذا من أصول الإيمان؟ لو إنسان وقع في صحابي حتى وإن اخطأ هل يكون كافراً؟ من أين لكم هذا الكلام الفارغ؟ هذا كلام فارغ، وكل أدلتهم – وأنا لا أُغامِر، أنا أُراهِن وأتحدى – فارغة، كل أدلتهم فارغة – والله العظيم – ومُخالفة لمنصوص الفقهاء العظام، في حاشية ابن عابدين – آخر مُحقِّقي السادة الحنفية، علّامة الأحناف في عصره وفي قرنه – قال قال العلماء أو قال علماؤنا مَن سب أباب بكر عُزِّر – نُعزِّره ونضربه – ومَن قذف عائشة كُفِّر، لأن مَن سب أبا بكر سب شخصاً عظيماً جليلاً، فنعم نُعزِّره ونضربه ونبهدله وما إلى ذلك، لكنه ليس كافراً، لا نقطع رأسه، لكن مَن قذف عائشة كذَّب القرآن، لذلك هو كافر، لأنه كذَّب القرآن، القرآن برأها وأنت تتهمها، فأنت كافر، ليس لأنها عائشة، بل لهذه القضية، انتبهوا! وعائشة تبقى عائشة رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها، وعي! يُوجَد وعي حقيقي، يُوجَد إنصاف للحقائق، لا يُوجَد تهويش وعصبيات!
ولذلك خطيرة هذه الطريقة في التنافي وطلب المُطابَقة البلهاء الحمقاء الغبية وأيضاً ما يتأدى إليه ذلك، كل تنافٍ هو خطير جداً، لأنه يتأدى بأصحابه وبأهله وبعشّاقه إلى الحوار المُسلَّح إن جاز أن يُسمى حواراً، إلى الحوار الأحمر الدموي! وقد قلنا مرة – وأعود أُذكِّر في آخر هذه الخُطبة بما قلت، لأنه كلام حقيق أن يُذكَّر به – يوم تجد هذه الخُطة السوء طريقها في الأمة وتتنفَّس من رئتين مسمومتين مدغولتين في الأمة وفي أجنحة الأمة لن يبقى أحد معصوماً، لا أنا ولا أنت ولا هو ولا هي ولا ذاك، لا أحد! مهما حاولت ومهما اجتهدت لن تبقى عصمة لأحد، الكل سيغدو مُعرَّضاً للإفناء والاستئصال، هل تعلمون لماذا؟ لأن عليّاً لم يُشكِّل استثناءً، الله أكبر! أي إزاء هذا الفكر المسموم، فكر الخوارج، فكر التطرف، فكر التكفير، فكر الاستحلال، فكر التطابق، وفكر التنافي، عليّ نفسه لم يُشكِّل استثناءً، وهو ابن عم رسول الله، أخو رسول الله، ختن رسول الله، أبو الحسنين، وأحد العشرة، ماذا نقول فيه؟ عليّ هو عليّ، الذي قال فيه الإمام أحمد وغيره لم يُرو في فضائل أحد من الصحابة كما رُويَ في فضائل عليّ، والنسائي قال هذا وإسحاق بن راهويه وغيرهما، رحمة الله عليهم أجمعين، عليّ هو عليّ، ولكن أبداً لم يُشكِّل استثناءً، كان لُقمة سائغة لهم، وقُتِل عليّ غيلةً.
أيضاً وهو يلفظ أنفاسه ماذا قال؟ عليّ تماماً كأخيه عمر، كما قلت لكم المشابه بينهما عجيبة ومُعجِبة جداً، عمر سأل مَن؟ فقال له فلان، أبو لؤلؤة المجوسي، فقال الله أكبر، الحمد لله الذي لم يجعل قتلي على يد رجل ركع لله ركعة أو سجد له سجدة يُحاجِني بها عند الله يوم القيامة، الحمد لله! مت على يد كافر، أهلاً وسهلاً، لكن لو كان هذا على يد إنسان مُسلِم مُصلٍ لكانت مُصيبة، والحمد لله برأه الله من ذلك، لكن الإمام عليّاً – عليه السلام – قُتِل على يد مَن يدّعي الإسلام، لكن بطريق ماذا؟ بطريق الاحتياز، ملكية الخاصة! أي الخوارج، بنو أُمية كلهم كفّار، العلويون وفي رأسهم عليّ كفّار، مَن المُسلِمون؟ نحن فقط، بضعة آلاف اسمهم الخوارج المأفونون، فعلوا هذا بطريقة الاحتياز والتملك، اختطاف الإسلام! ما يُدعى اليوم اختطاف الإسلام، اختطفوا الإسلام، انتبهوا! كل مُكفِّر بهذه الطريقة ومُندلِع في التكفير هو مُختطِف للإسلام حقيقةً، وهؤلاء… بماذا نصفهم؟ على كل حال ماذا قال عليّ؟ قال احبسوه، امسكوه بأيديكم، وأحسنوا إليه في طعامه وشرابه، الله أكبر يا أخي! قتلك يا إمام، قتلك يا أمير المُؤمِنين، وتقول هذا؟ هذا عدل الإسلام، قال وأحسنوا إليه في طعامه وشرابه، فإن أعش فشأني – أي قضيتي، أنا أُصفيها معه بما أُريد، لعله كان ينتوي العفو عنه، لا تعرف! شيئ عجيب، قال فشأني – وإن أمت فإنما هي ضربة بضربة، ولا أراكم تتخوَّضون في دماء المُسلِمين، تقولون قُتِل أمير المُؤمِنين، انتبهوا! لا يُقتَل إلا قاتلي، عليه السلام، هذا عليّ وهذا عمر، نفس الشيئ! حتى إذا تعلَّق الأمر برقبته، حتى إذا تعلَّق الأمر بدمه وبعُنقه يبقى مع العدل والإنصاف.
أيها الإخوة:
لا إنصاف لمُغالٍ، الغُلواء ضد الإنصاف تماماً، الغُلواء – أي الغُلو، التطرف كما نقول بلُغة العصر الآن – ضد الإنصاف، لا يُمكِن! الإنصاف هو المعدلة، المعدلة هي الاعتدال والاتزان، المُغالي لا يعرف الاعتدال، ولذلك لا يُمكِن إلا أن يُستجَر المُغالي بغلوه إلى الزيف والإفلك، ولذلك قال المُصطفى المُحمَّد الصادق المصدوق – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، كل غالٍ مُحرِّف، كل مَن يُبالِغ في شيئ هو كذّاب، يستجره ذلك إلى الكذب، إلى الإفك، إلى الاختلاق، وإلى التزييف، يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المُبطِلين، وتأويل الجاهلين، اللهم اجعلنا منهم، اللهم آمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة والأخوات:
في الجُمعة الماضية مُنصرَفي من هذه الخُطبة أو من مقام هذه الخُطبة أو مثلها سألتني بُنيتي يا أبتِ عما كانت الخُطبة؟ فسُررت بهذا السؤال، وجدتني مُرتاحاً أن أُجيب، قلت كانت عن أصحاب رسول الله وأهل البيت والمودة والمحبة التي كانت تجمعهم، ارتحت جداً وقلت يا خيبةً لمَن يُعطي صورة مُعاكَسة لو سألته ابنته أو ابنه الصغير وقال كانت خُطبتي أو درسي أو وعظي أو تأليفي عن أصحاب رسول الله وأهل بيته وكيف كانوا مُتعادِين مُتباغِضين مُتناحِرين مُتلاعِنين! ما هو السُم الذي يسري في نفس هذه البنت الصغيرة البريئة؟ ما هو السُم؟ ما هو العقم؟ ما هو الكُره والأحقاد التي ستُزرَع؟ ثم كيف ستستأصل – إن جاز لك أن تستأصل – شأفة الشك من هذه النفس الغضة الطرية البارئة الطاهرة الصغيرة حين تقول لنفسها إن رب أسرة يكون أولاده مُتحارِبين لفاشل؟ لمُربٍ فاشل، وقطعاً هو ناقص ومُقصِّر، فلِمَ يكون محمد استثناءً؟ محمد لم ينجح في أسرته الداخلية، فشل أن يُؤلِّف أسرة واحدة مُوحَّدة من أقرب المُقرَّبين إليه من ذوي قراباته وأصحابه الأدنين الأقربين، فشل! طبعاً هذا فشل، قطعاً هو فشل، هذا سيبعث على الشك!
خُطة سوء جداً جداً أن يُصوَّر تاريخنا الزاهر – خاصة تاريخ تلكم الكوكبة الدُرية النُخبوية – بهذه الطريقة، ولذلك نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُبيِّض وجوهنا وغُررنا وصحائفنا وقلوبنا وألسنتنا بذكر محاب هؤلاء وتواد هؤلاء وتكامل أولئكم، اللهم آمين.
اللهم انهج بنا نهجهم، واسلك بنا سبيلهم، وخُط بنا خُطتهم يا رب العالمين، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ۩.
اهدنا بما هديت به عبادك الصالحين، ولا تفتنا ولا تجعلنا مِمَن ينقلبون على أعقابهم برحمتك يا أرحم الراحمين، حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
______________
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(28/12/2007)
http://www.facebook.com/Dr.Ibrahimadnan
أضف تعليق