أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ۩ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ۩ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ۩ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ۩ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ۩ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ۩ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ۩
سورة سبأ، الآيات 1: 10
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط.
۞ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ۞
سورة سبأ – إخواني وأخواتي – سورة مكية، واختلف بعض العلماء في بعض آياتها. استهلها الله – تبارك وتعالى – بحمد ذاته العلية، فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ ۩، ولم يقل حمداً لله. تعريف الطرفين في البلاغة يُفيد القصر، كأنه قال الحمد على وجهه والحمد بأتم معناه وبكله ليس مُستحَقاً إلا للذات العلية – لا إله إلا هو -. هذا معنى الْحَمْدُ لِلَّهِ ۩ لُغةً.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ ۩، إذن هو حمد ثانٍ. هو حمد ثانٍ! بعض العلماء قال الحمد الأول هو حمد في الدنيا، والحمد الثاني – أي هذا – ذكرت الآية أنه في الآخرة. وبعضٌ آخرون من المُفسِّرين قالوا بل الحمد الأول حمد عام، يعم الدنيا والآخرة، ثم جرَّد منه أو خصَّ منه حمد الآخرة، لنُكتة! لماذا؟ لأن حمد الآخرة – أي هناك – يكون بعد أن تضح الأمور وتُوضَع في نصابها، فيحمده أهل الجنان وأهل النيران.
أما أهل النيران فعلى عدله – لا إله إلا هو -، لما يرون من عدله، وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، ذكر السادة المُفسِّرون أن الكفّار وأصحاب النار يُساقون إلى النار وهم يقولون الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، لما يرون من عدل الله. أما أهل الجنان – اللهم اجعلنا بفضلك ومنّك منهم أجمعين، وإخواننا وأحبابنا وأخواتنا جميعاً وجمعاوات – ففيهم ورد وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ۩، فهم في تسبيح وتحميد دائمين.
۞ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ۞
يَعْلَمُ ۩، سُبحانه وتعالى، مَا يَلِجُ ۩، الولوج هو الدخول، مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ ۩، ما الذي يلج في الأرض؟ يلج فيها المطر، يلج فيها أنواع الإشعاعات، يلج فيها أيضاً ما يقسمه الله من أرزاق للمخلوقات، ثم تخرج بعد ذلك في شكل حيوان وفي شكل نبات وفي شكل أشياء أُخرى كثيرة، أيضاَ هذا يَلِجُ فِي الأَرْضِ ۩، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ۩، وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ۩، البشر الموتى، موتى البشر خصوصاً، والموتى عموماً.
وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ۩، يخرج منها أيضاً ماذا؟ الثمرات، والأرزاق، والبركات، والخيرات، والكنوز، والركائز، والبترول، و… كل هذه الأشياء تخرج من الأرض. وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ۩، ما ينزل من الماء طبعاً بالذات، المطر، الغيث الذي يُحي به الله الحيوان والنبتة والإنسان، وما ينزل أيضاً من الملائكة ومن مقدورات الله – تبارك وتعالى -، وما ينزل من نعم الله، وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ۩، وما ينزل من مقدورات الله – تبارك وتعالى -.
وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۩، يعرج فيها من الملائكة، ومن الأدعية والأعمال الصالحة، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۩، وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۩، أيضاً من المخلوقات، كالطير والملك والجن والإشعاعات، إلى غير ما هنالك. وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ۩.
۞ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ۞
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۩، هم توصَّلوا بهذه الطريقة المُداوِرة الماكرة على أنها مُفتضَحة إلى إنكار البعث، مُرادهم ورومهم إنكار البعث، أننا لن نُبعَث، وبالتالي لن نُجازى ولن نُحاسَب على أعمالنا. لكن لماذا عبَّروا بقولهم لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۩؟ قالوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۩، عبَّروا بالملزوم، وأرادوا ماذا؟ أي عبَّروا بنفي الملزوم طبعاً، وأرادوا نفي اللازم، إذا الساعة لا تأتي، فإذن لا يُوجَد ماذا؟ لا يُوجَد بعث، لا يُوجَد نشور، ولا يُوجَد حساب. أرادوا هذا!
وطبعاً هذا يُساعِد معناهم الخبيث الماكر أكثر، لماذا؟ لأن أجيالاً تموت وأجيالاً تقضي وأجيالاً تهلك والساعة لم تقم. قالوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۩، أين الساعة؟ ولذلك كثر منهم في كتاب الله – تبارك وتعالى – أن يقولوا للنبي المُطهَّر – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله – ولأصحابه وأتباعه من المُؤمِنين مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩، متى الساعة؟ متى؟ متى؟ لا تُوجَد ساعة، نعيش ونحيا ونموت، نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ۩، ولا تُوجَد ساعة، وبالتالي فلا بعث ولا نشور ولا حساب ولا جزاء. لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۩.
قُلْ ۩ يا خيرتنا، يا صفوتنا، قُلْ ۩ لهم، أجِبهم، بَلَى ۩، بَلَى ۩ هذا الحرف ماذا عنه؟ يُثبِت ما نُفيَ قبله، يُثبِت ما نُفيَ. أليس – مثلاً – فلان بعالم؟ بلى. أي هو عالم، هو عالم! لكن لو قلت نعم، فسيكون معنى ذلك نعم هو ليس عالماً. بَلَى ۩، أي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ۩، هم نفوها، والله أثبتها، لَتَأْتِيَنَّكُمْ ۩.
قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ۩، انظر إلى القرآن، القرآن دقيق وجميل وعجيب، ومن أجمل ما يكون أن تفهم القرآن كما فهمه العلماء، القعدة في العلم، والصالحون. ما علاقة عَالِمِ الْغَيْبِ ۩ بأن الساعة تأتي؟ العلاقة واضحة يا إخواني، والقرآن أيضاً كشف عنها في آيات أُخر، وذلك أنهم كانوا يستعظمون أن يبعث الله مَن في القبور، لا يبعث الله مَن في القبور، لماذا؟ لأنهم تفرَّقوا في الأرض، أرموا طبعاً، أي صاروا رمماً، عِظَامًا وَرُفَاتًا ۩، وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ۩، دائماً هكذا! صاروا مُتفرِّقين في الأرض بعد أن أرموا، صاروا عِظَامًا وَرُفَاتًا ۩ وأرموا وتفرَّقوا في الأرض، تفرَّقوا في الأرض، ذهبوا وضلوا، ضلوا! وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ۩، ضلوا في الأرض، ذهبوا، اضمحلوا! فالله قال ولكني عَالِمِ الْغَيْبِ ۩، أنا عَالِمِ الْغَيْبِ ۩، أعلم كل جُزء وما هو أصغر من الجُزء أين تفرَّق وأين ذهب، ولذلك أنا قدير على جمعه، بعضه إلى بعض، وأقول كُن فَيَكُونُ ۩، فتعودوا كما أردت وكما أُريد.
ولذلك قال – تبارك وتعالى – قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ۩، قال أنا أعلم كل شيئ، أعلم أين ذهبوا وأين نفدوا وأين اضمحلوا. وهذا موقع قوله لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ۩. انظر إلى القرآن، حين تفهمه يُصبِح لك مُنوّراً، ولكن حين لا تفهمه تقرأ وأنت لا تفهم ما العلاقة، كأنه صف كلام، كأنه صف كلام! أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ۩ – والعياذ بالله -.
لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ ۩، عَزَبَ يَعزُبُ، وعَزَبَ يَعزِبُ، من باب نَصَرَ، ومن باب حَسَبَ، حَسَبَ يَحسِبُ، ونَصَرَ يَنصُرُ، من البابين، هذا من البابين! أي غاب وابتعد، يُقال والفهم منك عازب. أين عزب عنك حلمك؟ كما في الحديث الشريف. أين عزب عنك حلمك؟ أين ذهب عنك عقلك؟ هل فارقك عقلك حتى تتصرَّف هذا التصرف أو تقول هذا القول؟ هذا معنى العزوب، عَزَبَ يَعزُبُ ويَعزِبُ عزوباً، إذا ابتعد وغاب.
مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ۩، والذر هو أصغر النمل، وليست الذرة طبعاً المعروفة الآن في الكيمياء الطبيعية أو في الفيزياء، أي الــ Atom، لا! الذر هو أصغر النمل، هو أصغر النمل! وقد يقول لي أحدكم ولكن هناك ما هو أصغر من النمل بكثير. طبعاً، وقد قال الله لك ماذا؟ وَلا أَصْغَرُ ۩. هناك أشياء أصغر من الذرة، وهناك أشياء أكبر. هل هذا واضح؟ إذن مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ ۩. انظر إلى هذا الآن، أَصْغَرُ ۩ هذه مفتوحة، مفتوحة إلى يوم الدين، تكتشف الذرة بالمعنى الفيزيائي، فتكون داخلة في ما هو أصغر من الذرة، بمعنى النملة الصغيرة، الذر هو صغار النمل، تكتشف ما يُسمى بالــ Sub-Atomic particles، وهي الجُسيمات دون الذرية، مثل الإلكترون Electron، والبروتون Proton، والنيوترون Neutron، والميزون Meson، تكتشف ما يتركَّب منه بعض هذه الجُسيمات، كالكوارك Quark – مثلاً -، ويكون هذا كله داخلاً في ماذا؟ في ما هو أصغر من الذرة. هذه بلاغة القرآن الكريم، هذه جامعية القرآن الكريم. مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ۩… وَلا أَصْغَرُ ۩، مفتوحة إلى يوم الدين، أي شيئ العلماء يكتشفونه ويقولون هذا أصغر شيئ موجود هو داخل في هذا، وقد يكون ما هو أَصْغَرُ ۩ أيضاً، والله أعلم. إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ۩، وهو اللوح المحفوظ.
۞ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ۞
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ۩، مُتعلِّقة بماذا؟ لَتَأْتِيَنَّكُمْ ۩. لِيَجْزِيَ ۩، هذا الفعل المُعلَّل بلام كي مُتعلِّق بقوله لَتَأْتِيَنَّكُمْ ۩، الساعة ستأتي، وبالتالي سيكون بعث وحساب ونشور، لِيَجْزِيَ ۩، يُحاسِب – تبارك وتعالى -، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۩، أي من الجزاء أحسنه وأسناه وأكمله – اللهم اجعلنا منهم -.
أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ۩، وانظر حتى إلى وصف الرزق بالكريم، وهو رزق من كريم – لا إله إلا هو -، ما يُشعِر بطمأنينة فسيحة، يُشعِر المُؤمِنين بطمأنينة فسيحة، نعم! الرزق نفسه كَرِيمٌ ۩، الرزق نفسه! وهنا – انظر إلى هذا – مُبالَغة، الرزق نفسه كريم، من كريم – لا إله إلا هو -. بمعنى ماذا؟ هذا الرزق لن تجد فيه ما يُعاب، لا من حيث الكم ولا من حيث الكيف، لا من حيث المظهر ولا من حيث المخبر. كَرِيمٌ ۩، كَرِيمٌ ۩!
۞ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ۞
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ۩، عاجزه بمعنى سابقه في اللُغة، لابد أن نفهم، عاجزه بمعنى ماذا؟ سابقه، فسبق. هذا هو! لذلك يُقال عاجزه، سابقه، ليسبقه، فسبقه. يُقال فعلاً أعجزه. لم يستطع التغلب عليه. هم يظنون وهم يسعون في آيات الله – تبارك وتعالى – التي أنزل على عبده للهداية، يسعون فيها بماذا؟ بالإبطال والنقد والتشويش والتهويش والتشغيب عليها. أن هذا لماذا؟ وكيف؟ وهذا غير صحيح، وهذا غير مُلتئم بكذا، وهذا لا يُصدِّقه التاريخ، وهذا غير مُلتئم بالعلم، وهذا يتناقض مع هذا، وهذا يتخالف مع هذا. سعي هؤلاء الكفرة العُتاة – والعياذ بالله – مُعَاجِزِينَ ۩، يظنون أنهم يفوتون الله بأنفسهم. الله يقول لهم أين ستذهبون؟ أنتم في مُلكي، أنتم على هذه الأرض، والأرض في هذا العالم، في هذا العالم! وكله مُلكي وفي قبضتي، لن تفوتونني. أي أنتم تفعلون هذا وتظنون أنكم تنجون بفعلتكم؟ أتنجون بفعلتكم؟ تُضارِبون على آياتي وعلى هديي، وتُضلون الناس بغير علم، كفراً وجحداً وبطراً وأشراً وغروراً – والعياذ بالله -، وتظنون أنكم تفوتونني بأنفسكم؟ كلا.
مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ ۩، والرجز هو العذاب أو أشد العذاب. أما الرجس فهو النجس، بالسين! أما الرجز بالزاي فهو العذاب، وليس ماذا؟ النجس.
۞ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ۞
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۩، مَن هم؟ علماء أهل الكتاب، أو مُؤمِنو أهل الكتاب. وقيل هم الصحابة. وقال بعضهم بل أمة محمد، أمة الاستجابة، التي استجابت لهذا الدين واستبشرت به واطمأنت قلوبها به – اللهم اجعلنا منهم -. الإمام القرطبي – على ما أذكر – في تفسيره قال هذا أصح أو هذا أفضل. لماذا؟ لأنه أعم، أعم! كما نقول المُسلِمون، يدخل فيها مُؤمِنو أهل الكتاب، ويدخل فيها الصحابة، ويدخل فيها التابعون وكذا، ونحن أيضاً، وكل هذه الأمة المُبارَكة.
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۩، والذي أُنزِل إليه هو القرآن العظيم طبعاً، وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ۩. هُوَ الْحَقَّ ۩، إذن هم يرون الذي أُنزِل إليه من ربه الحقَ، هذا مفعول به، وفي الحقيقة هو مفعول به ثالث، لماذا؟ لأنه مفعول للفعل يَرَى ۩. وَيَرَى ۩ هنا القلبية أم البصرية؟ لا! الرؤية البصرية تأخذ مفعولاً. رأيت المسجدَ، رأيت فلاناً. لكن رأيت فلاناً عالماً، تعني علمته، وعرفته، أي الرؤية القلبية، الرؤية العلمية كما يُسمونها، الرؤية العلمية! تأخذ ماذا؟ مفعولين وأكثر. وأين المفعول الأول؟ قال لك وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي ۩، الَّذِي ۩، هذا الاسم الموصول، وطبعاً هو مبني، ولكن في محل ماذا؟ نصب مفعول به. الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ۩، وسوف نرى ما هو هُوَ ۩، هُوَ الْحَقَّ ۩، الْحَقَّ ۩ هذا المفعول به الثاني، مفعول به ثانٍ، منصوب بالفتحة الظاهرة.
وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ ۩، المفعول به الثالث، المفعول به الثالث! وبعضهم جعلها حالاً، ولكن بتصريف نحوي مُعيَّن على كل حال، ولكن ما موقع هُوَ ۩؟ لماذا هُوَ ۩ هنا؟ هُوَ الْحَقَّ ۩، هُوَ الْحَقَّ ۩، هذا ضمير الفصل، هذا ضمير الفصل أو المُسمى بضمير العماد، وسامحوني أحياناً سأورد بعض النكات البلاغية وبعض النكات النحوية والصرفية، لكي نتدرَّب ونتأنس بفهم القرآن الكريم على أُسس اللُغة، ليس فهماً هكذا طيارياً، كما نرى الآن الكل يتكلَّم للأسف، وهم لا يعرفون لا النحو ولا الصرف ولا البلاغة ولا أي شيئ، ويتكلَّمون بأشياء خاطئة مائة في المائة، وهذا القرآن لن يُفهَم إلا بلُغته التي نزل بها، طبعاً! له مُصطلَحه، قانون العربية.
ما هذا الضمير؟ هذا ضمير الفصل، ويُسميه الكوفيون ضمير العماد. المصريون يُسمونه الفصل، ضمير الفصل! يُؤتى به في الأصل بين المُبتدأ والخبر، نقول – مثلاً – الله رحيم. مُبتدأ وخبر! الله هو الرحيم، الله هو رحيم. وحين تفهم أنت هذا أو حين تسمع الله هو رحيم أو هو الرحيم، أول شيئ لا تنتظر تتمة، تفهم، جُملة تامة، والمعنى مُستوفى، وكأنه أيضاً هناك نوع من الاختصاص والقصر، كأنه الله هو الرحيم حقاً، وأن رحمة غيره مجازية، مُستمَدة من رحمته، ولكن هو – هو نفسه -رحيم، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ۩، أصلها إن الله الرزّاق، ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ۩، وهذا ضمير الفصل، ضمير العماد. إِنَّ اللَّهَ هُوَ ۩، قد يقول لي أحدكم وهل هذا ينطبق على قول الله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۩؟ لا، هذا ضمير الشأن الآن، وضمير الشأن غير هذا، ضمير الشأن يأتي في أول الكلام، ويُسمونه ضمير القصة أو ضمير الحكاية. هو الدهر، يوم لك ويوم عليك. فهذا ضمير الحكاية، أي الحكاية أن الدهر هو هكذا، القصة أن الدهر هو هكذا. انظر إلى هذا، جميلة اللُغة، يُسمونه ضمير ماذا؟ الحكاية. أو ضمير ماذا؟ القصة. أو ضمير ماذا؟ الشأن. شأن الدنيا هي هكذا، شأن الدنيا وشأن العالم هو هكذا، الحكاية هي هكذا، أرأيت؟ الأمر هو هكذا، أي قريب من Es بالألمانية، فهذا مُمكِن.
لكن هُوَ ۩ هذا ضمير الفصل أو ضمير العماد، يأتي بين المُبتدأ والخبر، أو ما كان أصلهما مُبتدأً وخبراً، لأن يُمكِن أن تُنسَخ، تدخل عليها النواسخ، كان وأخواتها، إن وأخواتها، ظن وأخواتها، إلى آخره! هل هذا واضح؟ نفس الشيئ، يأتي بينهما، يأتي بينهما لماذا؟ للتمييز. تمييز الخبر من التابع. ونحن نقول بين المُبتدأ والخبر، أو ما كان أصله مُبتدأً وخبراً، أو لتمييز الخبر من التابع. نحن حين نقول الله الرحيم، يُمكِن أن تنتظر أنت، ما له؟ الله الرحيم – مثلاً -، رحمنا فأنزل لنا كذا وكذا، الله الرحيم، برحمته فعل بنا كذا وكذا. أليس كذلك؟ يُمكِن أن تكون الرحيم تابعاً، أي يُمكِن أن تكون نعتاً، أو تكون عطف بيان، وهو ما يُسمونه ماذا؟ البدل. هذا يُسمونه البدل، محمد أخوك. هذا عطف بيان، بدل! أليس كذلك؟ ما له؟ يقول أنا أردت أن أُخبِر. نقول له في هذه الحالة سيكون الأحسن أن تقول محمد هو أخوك. سوف نفهم حينها، انتهى الأمر. لكن محمد أخوك. تختلف، ما له؟ يُمكِن أن ننتظر، هل هذا واضح؟ ولذلك نأتي بضمير الفصل أو ضمير العماد، لكي نُزيل هذا اللبس، ونُميِّز الخبرية من التابعية، أن هذا ليس تابعاً، هذا ليس نعتاً، وليس بدلاً، هذا خبر. هل هذا واضح؟ هذا هو، هذا المقصود.
إذن الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ۩.
۞ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ۞
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ۩، طبعاً فهمنا قُبيل قليل أين يُمزَّقون هذا التمزيق، في القبور! يُمزَّقون، يُفرَّقون، يضمحلون، يزوون، يذهبون، ويضلون في الأرض، في بطون الأرض ومجاريها، أو في بطون السباع ربما، أو في أشياء أُخرى، بغض النظر! لكن مَن الرجل المُنكَّر هنا؟ عَلَى رَجُلٍ ۩، مُنكَّر! مَن هذا الرجل الذي نكَّروه؟ واضح أنه سيد الكل، إمام الكل – صلوات ربي وتسليماته عليه -. تباً لهم، تباً لهم وتباباً وخساراً إلى يوم الدين. لماذا نكَّروه وهو بينهم وفيهم وعندهم أشهر من نار على علم؟
قال الإمام الزمخشري – رحمة الله عليه رحمة واسعة – في تفسيره فعلوا هذا ونكَّروه من باب الطنز. أي الهزؤ والسخرية! من باب الطنز – يقول -، أي الهزؤ والسخرية. أي كأنهم أُلقوا به كأُحجية، مما يتحاجى به أهل اللهو واللعب. أي هل تعرفون أنتم ذلك الرجل؟ أو هل تعرفون واحداً يقول كذا وكذا وكذا؟ ومعرف على مَن هذا الكلام. مما يتحاجى به أهل اللهو. فتباً لهم، وإلا هو معروف – عليه الصلاة وأفضل السلام -. نعم!
طبعاً كان بودي التفصيل في الآتي، ولكن هذه تحتاج إلى مُحاضَرة، والحمد لله أنا فعلت هذا لُماماً في بعض الخُطب وبعض المُحاضَرات. الله – تبارك وتعالى – حين برهن على أن الساعة ستقوم والبعث سيتلو الساعة ويُحاسَب الناس ويُنشأون من جديد – سيُعيدهم تبارك وتعالى -، احتج بأنه عالم، عَالِمِ الْغَيْبِ ۩، لم يحتج بالقدرة، وكان يُمكِن أن يقول لك إنه قادر، قادر على كل شيئ. لكن لماذا احتج بالعلم؟ هذا من ألطف ومن أعجب بدائع القرآن الكريم، كأنه يقول لك مدار الأمر كله المعلومة. المعلومات! وهذه الآن أصبحت نظرية المعلومات، مائة في المائة! حتى أن هناك أهمية خاصة للمعلومات – كما شرحت في دروس التفسير في سورة النمل قبل حوالي تسع سنوات أو عشر سنوات -، نعم! قضية النقل الآني – أي الــ Teleportation – حتى للجُسيمات أو للأجسام ربما في قابل الزمان، مسألة مدارها فقط على المعلومات. إذا عملت أنت Scanning لكل معلومات الشيئ المُراد نقه، فسوف يهلك في مكانه، أي ينتهي، يُفنى. ثم سوف يتجسَّد في مكان آخر، بالمعلومات! إذن هي المعلومة كل شيئ، المعلومة سر الخلق، سر التكوين المعلومة. فالله قال لك أنا: عَالِمِ الْغَيْبِ ۩، أنا: عَلَّامُ الْغُيُوبِ ۩، علّام كل شيئ، المعلومات عندي. مَن عنده المعلومات أمره انتهى، يستطيع أن يُنشيء من جديد، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۩، لأن الإعادة بحُكم العقل أهون، عند الله كله هيّن، لأن كله رهن كُن فَيَكُونُ ۩، لكن في حُكم العقل، بقياس العقل، أيهما أصعب: الإبداء – أي الخلق ابتداءً – أم الإعادة؟ لا، طبعاً الإبداء. شيئ ليس له منوال يُنسَج عليه، شيئ مُبتدَع على غير نموذج، أما وقد خُلِق أول مرة، فبعد ذلك سهل تجميعه مرة ثانية، أو خلق مثله. لذلك حتى الآن أول نُسخة من أي شيئ مُكلِفة جداً جداً جداً، من الصحيفة اليومية، من الكتاب، من سيارة، من جهاز. أول نُسخة قد يكون ثمنها عشرات الملايين أو ربما مئات الملايين، ثم بعد ذلك النُسخ الأُخرى تُصبِح رخيصة وفي المُتناوَل، ولذلك دائماً يُشير إلى هذا، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۩، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۩، في الروم وفي غيرها.
فهذا أيضاً مما يدل على تناهي غباوتهم، تناهيهم في الغباوة! سلَّموا لله حين سُئلوا مَن خلقكم؟ وحين تسألهم مَن خلق السماوات والأرض؟ يقولون لك الله، الله! وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۩. فإذن أنتم سلَّمتم بأنه الخالق ابتداءً، أستصعبتم بعد ذلك عليه الإعادة أيها المُتناهون في الغباوة؟ أغبياء كانوا، ولكن هذه ليست فقط قضية غباوة وذكاوة في الحقيقة، هي قضية هوى، لا هوى لهم في أن يكون هناك يوم بعث وحساب، يُسألون فيه عن النقير والقطمير والفتيل، لا يُريدون هذا، يُريدون أن يعيشوا ويموتوا وهم يفعلون ما شاءوا، كما شاءوا، دون أن يكون عليهم حساب أو سؤال.
بسم الله الرحمن الرحيم
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ۩ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ۩ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ۩ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۩ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ۩ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ۩ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ۩
صدق الله العظيم.
۞ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ۞
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ۩، يتساءلون، طبعاً الهمزة هنا ليست همزة الوصل، هذه همزة الاستفهام، وحقها – حق أَفْتَرَى ۩ – أن يكون فيها ماذا؟ همزة الوصل. وهمزة الوصل تكون مكسورة، لأن ما قبلها مجرور، خَلْقٍ جَدِيدٍ ۩ أَفْتَرَى ۩، ولكن استُغنيَ بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل، والعلامة الفارقة الفتح، لأنها مفتوحة، فعُلِم أنها همزة الاستفهام، مثل قوله أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ۩ في سورة مريم، هل هذا واضح يا إخواني؟ إذن هذه ليست هزة الوصل، يُسمونها ألف الوصل، وفي الحقيقة هي همزة، المُهِم همزة الوصل أو ألف الوصل.
أَفْتَرَى ۩، عليه الصلاة وأفضل السلام، والافتراء هو الاختلاق والكذب، الاختلاق والكذب! أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۩، يتساءلون هم، أَم بِهِ جِنَّةٌ ۩، احتج بهذه الآية أبو عثمان الجاحظ، تعرفونه، صاحب البيان والتبيين، العالم المُعتزِلي الكبير! احتج وكان ذكياً – من أذكياء البشر – بهذه الآية، على أن بين الصدق والكذب واسطة، وكان المشهور بين العلماء والناس أنه ليس بين الكذب والصدق واسطة، في الخبر طبعاً، الكذب والصدق يكون في ماذا؟ يكون في الأخبار، وليس في الإنشاءات، أي ليس في الأمر، وليس في النهي، وليس في الالتماس، وليس في الدعاء، وليس… إلى آخره! وإنما يكون في الأخبار. صحيح! قد يكون طبعاً في الإنشاءات، لكن بتدخيل معنى خبري، وهذه قضية معروفة في البلاغة، لكن هذا موضوع آخر، فكانوا يظنون أن الخبر – كل خبر – إما أن يكون صادقاً، أو يكون كاذباً. فإن لم يكن صادقاً فهو ماذا؟ فهو كاذب. فمثلاً نقول وصل فلان. هذا خبر، وصل فلان. فلان وصل من السفر. خبر! إما أن يكون وصل، فيُطابِق الخَبر الخُبر، أي يكون فعلاً في الحقيقة وصل، فهو صادق، وإما ألا يكون وصل، فيكون ماذا؟ كذباً. الجاحظ قال لك لا. قال لك هناك واسطة، هناك واسطة لأن الله قال أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۩، والكذب يُقابِله الصدق، هذا التقابل طبعاً سوف نرى هل هو تقابل الضد أو تقابل النقيض؟ لأن هناك علاقة، صار يُوجَد هنا واسطة، قضية ثانية هذه، المُهِم يُقابِله الصدق، فما ليس بكذب، فهو صدق، قال لك لا، وهناك واسطة، يُمكِن أن يكون ليس صدقاً وليس كذباً، أن يكون ماذا؟ جنوناً. أن يكون جنوناً، أَم بِهِ جِنَّةٌ ۩، وقطعاً هذه الجنة – أي الجنون – ليست هي الكذب، لماذا؟ لأنه قابل الكذب في الآية بما قلت. أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ۩.
إذن الجنة غير الكذب، الجنة غير الكذب! المجنون يهرف بما لا يعرف، ويقول كلاماً لا يدريه، ومن حق هذا الكلام ألا يُوصَف لا بصدق ولا بكذب، فكأنهم قالوا إن برأنا محمداً من الكذب، فلن نُبرئه من الجنون. قد لا يكون كاذباً، لأنهم يعلمون أنه الصادق الأمين، بل الصدّيق الصدوق الأمين – صلوات ربي وتسليماته عليه -، ولبث فيهم عُمراً من قبل، لبث أربعين سنة، ما جرَّبوا عليه كذبة في كلمة واحدة، يعلمون! أي اخرجوا من هذه، اخرجوا من هذه، فلم يكن ليكذب، أو ما كذب على الناس يوماً أو مرة، فما كان ليكذب على رب الناس، والعقل يقول هذا، أي تنزَّه عن الكذب على الناس العاديين، الفقراء (الغلابة)، ويكذب على رب الناس؟ مُستحيلة، بالعقل مُستحيلة فعلاً، مُستحيلة في العادة على الأقل، مُستحيلة في العادة!
فقالوا لك لن نذكر الكذب، أَم بِهِ جِنَّةٌ ۩، هو ليس كذّاباً، لكن الرجل مُتوهِّم، ويحكي أشياء كالمجانين، والمجانين لا يُؤاخذون بما قالوا، فربما هو يهرف بما لا يعرف. عجيب! وكأن الذي أُنزِل عليه وتلاه عليهم هو هرف وكلام لا معنى له، وقد أعجزهم وقطع بهم، أي هذا الكلام، حتى تساءلوا في شأنه مُتحيِّرين، ما الروح؟ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ (الرُّوحِ) ۩، الذي أرتضيه ومُطمئن إليه أنها القرآن. الله قال لهم قُلِ(الرُّوحُ)(مِنْ أَمْرِ) رَبِّي ۩، قال لهم هذا ليس بنظم محمد ولا بكلام محمد ولا بشعر ولا بنثر ولا بسجع ولا… أبداً! هذا كلام من أمر الله، والدليل قوله – تبارك وتعالى – وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ (رُوحًا) (مِنْ أَمْرِنَا) ۩، القرآن! أليس كذلك؟ في هذه الآية (آية الشورى) ما قال أحد إن الروح هنا هي الروح التي تكون بها الحياة، أبداً! الكل قال الروح في الشورى هي ماذا؟ القرآن. ونفس الآية، آية الشورى هي آية الإسراء، تماماً! وعقدنا عليها خُطبة مرة، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ (الرُّوحِ) قُلِ (الرُّوحُ) (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ۩، وبعد ذلك: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ (الْعِلْمِ) إِلَّا قَلِيلًا ۩، العلم عند سيدنا – لا إله إلا هو -، سيد الكل! وهناك قال وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ (رُوحًا) (مِنْ أَمْرِنَا) ۩، (الرُّوحُ) (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ۩، مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا (الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ) ۩، العلم كله عند الله، وليس منك، نفس الشيئ! القرآن يُفسِّر بعضه بعضاً، فيبدو أن الروح المسؤول عنها خلافاً لما شاع عبر القرون هي القرآن، وليست الروح التي يكون بها حياة النفوس، القرآن! فتهوكوا، ما الروح؟ ما الروح هذه؟ ما الكتاب هذا؟ ما هذا التنزيل؟ شيئ قطع بهم، قطع بهم! سُبحان مَن أنزله على كل حال.
ولذلك يُمكِن أن يُعاد فيُقال هناك الصدق وهناك الكذب، وهناك الخطأ. لا صدق ولا كذب، وهذا الاصطلاح، ومبني على الوضع اللُغوي، العرب تكون كذباً لما لا يُخالِف الواقع على أنه مُفترى مُختلَق، وإنما لما يغلط فيه صاحبه مُتوهِّماً، فأبو طالب – مثلاً – ماذا قال؟
كَذَبْتُم وبيتِ اللَّهِ نُبَزى محمداً ولمّا نُقاتِلُ دونَهُ ونُناضِلِ.
فهذا هو، فــ كَذَبْتُم ليس معناها أنهم قالوا شيئاً يُخالِف الواقع، لا! أن هذا لن يكون بين أيديكم، ونحن لن نتركه. ولذلك النبي قال كذب أبو السنابل بن بعكك. وهو صحابي جليل، هذا في حديث فاطمة بنت قيس في الصحيح، لن نقوله، موضوع ثانٍ هذا، حتى لا ندخل في الفقه والعدة وما العدة والتعرض لخِطبة المُعتدة، هذا حديث مشهور في الصحاح، فأبو السنابل قال لفاطمة لا، لا يحل لكِ كذا وكذا. فقالت للنبي، قال كذب أبو السنابل. ما دمت وضعت حملك، قد حللت للخطّاب، تجمّلي ولا تُوجَد أي مُشكِلة. لأنها وضعت ماذا؟ حملها. وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۩، وهو قال لها لا، انتظري. أردت أن تنكحي؟ قال لها، أتُريدن أن تتزوَّجي؟ أبو السنابل يقول هذا لهذه الصحابية الجليلة، قال لها لا يحل لكِ حتى يمضي عليكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۩. لأن مات زوجها، فالنبي قال لها كذب أبو السنابل. ما معنى كذب؟ النبي قال لها أخطأ، قال لها غلط، لا! النبي قال لها هو غير فاهم، هو أخذ شيئاً ونسيَ شيئاً، هو أخذ بآية أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۩، ونسيَ ماذا؟ أن آية الطلاق – في سورة الطلاق الصُغرى – مُحكَّمة فيها، وهذه قضية خلافية بين الصحابة على كل حال، هل تعتد بأبعد الأجلين أو بكذا؟
مرة أُخرى أيضاً عائشة قالت غير مرة كذب أبو هُريرة. ولا تقصد أنه اختلق، أبداً! ما كان لهذا الصحابي الجليل أن يختلق على رسول الله، وإنما تقصد ماذا؟ أخطأ. لا! هو لم يفهم، لم يفهم كلام النبي! تقول كذب. والصحابة لا يُبكِّتون، لا يقولون لها كيف تُكذِّبينه. يعلمون أنها تقصد ماذا؟ أخطأ. فالكذب بمعنى الخطأ، لو جاء واحد وقال لك والله أنا أظن أن عمرك – مثلاً – أربعون سنة. وأنت كنت ابن خمسين، يُمكِن أن تقول له كذبت. صح! لُغةً صح، كذبت، وهو ليس قصده أن يُزوّر عمرك، هو ظن وتوهَّم أنك ابن أربعين، فأنت تقول له كذبت. بمعنى ماذا؟ غلطت، أخطأت. فيقول لك كم؟ فتقول له خمسون. عادي! اللُغة تسمح بهذا، ولذلك فعلاً يبدو أن مذهب الجاحظ صحيح، لدينا الصدق، لدينا الكذب المُختلَق، ولدينا ماذا؟ الغلط. أي الكذب الذي يكون بمعنى الغلط.
بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ۩، الله يقول ليس الأمر كما توهَّمتم، لا هو بكاذب مُفترٍ، ولا هو بمجنون يهرف بما لا يعرف. ليست هذه القضية! القضية أنكم كفرة، لأنكم كفرة، أنكرت قلوبكم الحق، ضللتم عن معرفة الهُدى، وضللتم عن معرفة الحق من الباطل، والمُحِق من المُبطِل، فلم تستفيدوا بشيئ من هذا النبي الكريم، لأنكم في ضلال بعيد.
۞ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ۞
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ۩، ما المقصود بهذا التعبير الإلهي العجيب؟ أي ألم يروا أنهم أحاطت بهم الأرض والسماوات، فلا مخرج لهم منهما؟ كأن الآية تقول – كما قلت في الخُطبة -، بل هي تقول هذا، تقول إن شئتم هذا، فاخرجوا من مُلك الله. أي لا يُوجَد إنسان لا يعيش على الأرض، وقد يقول لي أحدكم لا، هذا قبل عصر الفضاء. لكن الله قال لك والسماوات أيضاً. وقلت لك القرآن هذا كلام مُنزِله – لا إله إلا هو -، لا يُمكِن لأحد أن يقول لك لا، الله قال لك أنا أستطيع أن أخسف بسكان الأرض، وها هم طلعوا على المريخ. الله قال وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ۩. والفخر الرازي – انظر، من بداية القرن السابع، رحمة الله عليه، أي نقول هو كان في القرن السابع، هذا معناها، أو حتى في السادس – تحدَّث عن فُرض مُكنة لهم، وفهم هو أن القرآن يفتح باب إمكان، يُمكِن في يوم من الأيام أن يستعمر البشر السماوات، فهمها! كان ذكياً وفيلسوفاً كبيراً وعالم كلام لا يُشَق له غبار – رحمة الله عليه -، هذا الفخر الرازي (ابن خطيب الري) في التفسير الكبير. قال فمعناها أنهم يُمكِن أن يعيشوا في السماوات. قال نفس الشيئ! الله قال لهم إلى أين ستذهبون؟ السماوات لي والأرضون لي، إلى أين ستذهبون؟
نفس الشيئ تقوله هذه الآية العجيبة، قال أنتم أُحيط بكم، أنتم داخل العالم، داخل السماوات، وعلى الأرض. إن كنتم على الأرض، خسفت بكم الأرض. إن كنتم في السماء، أسقطت عليكم كسافاً من السماء، ولن تذهبوا. لا إله إلا الله! أين تذهب من ملك الكل في قبضته، والكل في قهره؟ لا إله إلا هو!
إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا ۩، أي قطعاً، جمع كسفة، وهي القطعة. مِّنَ السَّمَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ۩، من أناب، إذا رجع إلى الله بالتوبة النصوح الصادقة. اللهم اجعلنا رجّاعين إليك.
۞ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ۞
وَلَقَدْ آتَيْنَا ۩، هذه اللام المُوطئة للقسم طبعاً، يُوجَد معنى القسم هنا، الله يحلف، لا إله إلا الله! وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ ۩، لماذا لم يقل داووداً؟ اسم عجمي. موانع الصرف معروفة، عندك تسع صور يُمنَع فيها صرف الاسم، والصرف هو التنوين، يقول لك اسم مصروف، واسم غير مصروف. فلو أراد أن يقول محمد، لقال ماذا؟ ولقد آتينا محمداً. لأنه مصروف، مع عدنان نقول عدنانَ، مع عثمان نقول عثمانَ. نقول عثمانَ وسُفيانَ، لأنه اسم آخره ألف ونون، حتى الصفة التي آخرها أيضاً ألف ونون، ولكن المُؤنث يكون فُعلى، ممنوعة من الصرف. المُهِم قال لك اسم مصروف، واسم غير مصروف. فلماذا سموا الاسم الذي يُنوَّن – أي يقبل التنوين – بهذا الاسم؟ وطبعاً هو يقبل التنوين ويُجر بالكسرة، هذا المصروف! غير المصروف أو غير المُنصرِف – مُتمكِّن غير أمكن، كما يُسميه النُحاة القدماء – ممنوع أن يُنوَّن ويُجَر بالفتحة عوض الكسرة. فيقول لك – مثلاً – استعنت بعمرَ. لا تقل استعنت بعمرٍ. غلط! لأن عمر هذا اسم معدول، عن عامر. عامر! أصله عامر، عامر صار عمر، فاعل صارت فُعل، مثل قُثم وزُحل وعُمر. هذه كلها أسماء معدولة، بالعدل! وهو أحدها، المُهِم فتقول ماذا؟ استعنت بعمرَ. مررت بعمرَ بن الخطابِ. ممنوع أن تقول بعمرِ بن الخطاب. ممنوع! بعمرَ بن الخطابِ. لأنه اسم ممنوع من الصرف.
والاسم الممنوع من الصرف إذا صرفته، فأنت تحقره، أي يُمكِن أن يأتي إليك نحوي، يفهم النحو جيداً، وعن عمد يقول لك إن عمراً بن الخطاب. نقول هذا جاهل، وحين يُكمِل كلامه نجد أنه ليس كذلك، أنه لوذعي، كلامه صحيح مائة في المائة، يتكلَّم من غير لحن، يُعرِب كل شيئ حق إعرابه، سوف نقول إن هذا الخبيث ضاغن على عمر. وفعلاً هذه حصلت على فكرة، في القرن التاسع عشر حصلت مُتعمَّدة، كان هناك مُؤتمَّر مُعيَّن هكذا بين علماء السُنة وعلماء آخرين، فقام العالم الآخر، وقال لك إن عمراً. فقال له العلّامة السويدي يا خبيث. وكان من أكبر علماء العراق، يا خبيث – قال له -، صرفته؟ فأطرق. خجلان! قال له علينا؟ أنت عالم ونحن نعرفك، وأنت تعرف الأشياء هذه وعمرك سبع سنوات، أنت تعرف أحكام الممنوع من الصرف، صرفته لماذا؟ لأنك ضاغن عليه. فالاسم الذي لا يُصرَف، إذا صرفته، فقد حقَّرته. فاحذر وانتبه، قضية أُخرى، المُهِم أن نرجع إلى موضوعنا.
إذن وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ ۩، هذا لماذا ممنوع من الصرف؟ لأنه اسم أعجمي. وكل الأسماء الأعجمية تُصرَف، إلا إذا كانت من ثلاثة أحرف وسطها ساكن، مثل نوح، فتُصرَف. هل هذا اضح؟ إن نوحاً كذا وكذا، عادي! لأن هذه ثلاثة أحرف. لن ندخل في النحو إذن، لكن قد يسألني أحدكم ويقول لي لماذا سموا الاسم الذي لا يُنوَّن ممنوعاً من الصرف؟ هل تعرفون لماذا؟
ما التنوين؟ التنوين نون ساكنة، تظهر في اللفظ، ويُستعاض عنها في الكتابة بماذا؟ بمُضاعفة الحركة. أليس كذلك؟ حين نقول محمدٌ، نكتب الدال، وبعد ذلك نكتب ماذا؟ ضمتين. صح! أي محمدٌ. لكننا حين نلفظه نقول محمدٌ، نننننن، ننننن، أليس كذلك؟ نون! تثبت لفظاً، وتُسقَط في الكتابة. أهذا جميل؟ هذه النون – نونننن، نونننن – مثل الدراهم، إذا رميت بها على الأرض، أصدرت مثل هذا الصوت. ولذلك هذا يُسمونه ماذا؟ المصروف. الصرف! أي صرف العملة، صرف العملة! لأنهم يرمونها، لكي يعلموا أزائفة أم حقيقية. هذا لكي تفهموا أصل المُصطلَحات، جميل أن يعرف الواحد أصل هذه الأشياء، لكي يستوعب ويفهم ما الصرف، ولن ينسى بعد ذلك أن الممنوع من الصرف معناه الممنوع من التنوين، ولماذا التنوين صرف؟ لأنه مثل صوت الدرهم، ننننن. هل هذا واضح؟ هذه القضية!
دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا ۩، تنكير الفضل هنا للتفخيم، فَضْلا ۩، اذهب وقدِّر ما حجم هذا الفضل إذن، بعضهم قال النبوة أو الرسالة. بعضهم قال المُلك الواسع العريض. بعضهم قال العدل في الحكومة. وكان يقضي، فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ۩، فعدله في الحكومات والقضايا هو ماذا؟ هذا الفضل. بعضهم قال إلانة الحديد له. بعضهم قال تأويب الجبال معه – إذا سبح والآن سنُفسِّرها -. بعضهم… بعضهم… وبعضهم… أقوال كثيرة! سُبحان الله، أنا أعتقد أن أفضل هذه الأقوال ما يعمها جميعاً، لأن داوود أوتيَ كل ما ذُكِر، كل ما ذُكِر! وهذا من فضل الله عليه، وهذا فضل عظيم فخيم، لذلك نكَّره! قال فَضْلا ۩، اذهب وقدِّر بعد ذلك حجم هذا الفضل، مِنَّا فَضْلا ۩.
وقال هنا هذا، أرأيت؟ ها هو فسَّر، يَا جِبَالُ ۩، أي وقلنا، الله يقول وقلنا للجبال، خاطبناها. يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۩، وفي قراءة والطيرُ. فيختلف المعنى. إذن يَا جِبَالُ أَوِّبِي ۩، ما هو التأويب؟ التأويب هو الترجيع، والترديد. أي واحد يتكلَّم، والآخر ماذا؟ يُرجِّع كلامه، يُردِّد كلامه. هذا يقول سُبحان الله، وهذا يقول سُبحان الله. مثل بعض المُبلِّغين في المساجد قديماً، يقول أحد الله أكبر، فيقول آخر الــــاـــه أكــبــرررر. ولم يكن هناك ميكروفونات Microphones، يُرجِّع، يُؤوِّب، مثل رجع الصدى، يقول لك مثل رجع الصدى. هذا الترجيع! أصل هذا الفعل المُضعَّف، أصله آب، آب يؤوب، إذا رجع. إذا رجع! يقول لك رجع الصدى. يذهب الصوت ويرجع لك، يضرب في الجدار أو في الجبل أو في أي شيئ، ثم يعود، يقول رجع الصدى. أصل آب رجع، فأوَّب إذن عُديَ بالتضعيف، إذا الشيئ يرجع من نفسه، هذا فعل لازم، أليس كذلك؟ فماذا إذا كنا نُريد أن نجعل الفعل اللازم مُتعدياً – مُتعدياً، أي له فاعل ومفعول، يأخذ مفعولاً -؟ ماذا نفعل؟ هناك الهمزة، وهناك التضعيف. هنا التضعيف، قال لك آب وأوَّب. أوَّب! إذن تضعيفه هو الذي تعدى به الفعل، تعدى بالتضعيف.
يَا جِبَالُ ۩، الله يُخاطِب الجبال، يَا جِبَالُ ۩، ردِّدي معه، رجِّعي. يا الله! ما هذا المقام الجليل العجيب؟ الرجل – عليه صلوات ربي وتسليماته عليه – يقول – مثلاً – سُبحان الله. فيسمع التسبيح مُرجَّع من ماذا؟ من الجبال. الجبال تُسبِّح، تقول سُبحان الله. ويسمعها داوود، البشر العاديون لا يسمعون، والله أعلم مَن الذي أسمع سواه من صالحي الإنس والجن والملائكة، الله أعلم! ولكن هو كان يسمع هذا، الجبال تُردِّد، وهذا مُستحيل أن يكون إلا لأن الرجل طبعاً نبي بلا شك ورسول، وهو نبي مُعلَّق قلبه بالله بالكُلية، فإذا ذكر الله أو سبَّح الله أو حمد الله، كان ذلك من حُشاشة قلبه، من قعر روحه ونفسه. وكان ذا صوتٍ حسنٍ جداً، وما بعث الله نبياً إلا بعثه حسن الصورة، حسن الصوت. وداوود كان من أحسن الأنبياء صوتاً، لذلك في الصحيح – في الحديث المُخرَّج في الصحيح – ماذا قال النبي لأبي موسى حين سمعه من الليل يتلو من كتاب الله؟ النبي وقف سُويعة يستمع ويتسمَّع، وفي اليوم التالي قال له يا أبا موسى لقد استمعت إلى تلاوتك الليلة الماضية، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل دواوود. قال له يا رسول الله لو أعلم أنك كنت تستمع، لحبَّرته لك تحبيراً. هذه قراءة هكذا – قال له -، أي (على السريع). الله أعطاه الصوت هذا، أي الأشعري الجليل هذا، قال له أنا لا أعرف أنك تقف، لو كنت أعرف أنك تقف، لقرأت لك بصوت أحلى من هذا بكثير. قال لك ما أذِن الله – أذِن بمعنى استمع، استمع! وليس من الإذن، وإنما من الأذن، وهو الاستماع – لشيئ أذنه – أي استماعه – لنبي حسن الصوت يترنم بالقرآن. والقرآن هنا أعم من أن يكون هذا الكتاب الجليل، وإنما ما يُقرأ من الكُتب المُنزَّلة على أنبياء الله.
أعتقد أدركنا الوقت في هذه الحلقة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولإخواننا المُسلِمين والمُسلِمات أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق