أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، يا ربي لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما تُحِب وترضى. نعوذ برضاك من سخطك، ونعوذ بمُعافتك من عقوبتك، ونعوذ بك منك. لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. صل وسلم وبارك على حبيبك من خلقك وصفيك من عبادك ونجيبك لوحيك، وعلى آله الطيبين، إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين. اللهم اجز محمداً عنا ما هو أهله، اللهم اجزه خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً في رسالته، اللهم أحينا على سُنته، وأمِتنا على مِلته، واحشرنا يوم القيامة في زُمرته وتحت لوائه، وأسعِدنا بشفاعته، وأوردنا حوضه، واسقنا بيده الشريفة شربةً لا نظمأ بعدها أبداً.
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، اجعلنا هُداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضِلين، سلماً لأوليائك وعدواً لأعدائك، نُحِب بحُبك مَن أحبك، ونُعادي بعداوتك مَن خالفك.
أما بعد، أحبتي في الله، إخواني وأخواتي:
قبل أن نُكمِل تفسير آية الاصطفاء من سورة فاطر، أُريد فقط بناءً أو نزولاً على طلب جماعة من أحبابي وإخواني، أن أذكر لكم بقية الخصال الخمسة التي نوّهت به في خُطبة الجُمعة اليوم (خُطبة النفحات الربانية والتجليات العلوية)، سُبحان الله! أنساني الشيطان أن أُكمِل بقيتها، وهي الخصال الخمسة التي بها عمارة القلوب، التي بها عمارة القلوب كما رُويت عن العلم الكبير والعارف الخطير سيدنا إبراهيم الخوَّاص – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، من أقران السيد الجُنيد وأبي الحُسين النوري – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -.
قال عمارة القلوب خمسة أشياء: الأولى تلاوة القرآن بالتدبر. اللهم أعطنا ذلك. الثانية خلاء البطن. قدر ما تستطيع، قدر ما تستطيع! كل في ثُلث بطنك، وقدر ما تستطيع تتطوَّع بالصيام، قدر ما تستطيع! لأن الإنسان شئنا أم أبينا وبغض النظر عن كل التنقيدات والتعقيبات التي تُقال على هذه النظرية التي هي في الحقيقة حقيقة وليست مُجرَّد نظرية، الإنسان كائن ثانوي، بدن وروح! وَنَفَخْتُ فِيهِ ۩، في ماذا نفخ؟ في البدن، في قبضة الطين. وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ۩، وهذه نسبة تشريف طبعاً، ليست نسبة جُزئية تبعيضية، وإلا هذا كفر، أي ليس فينا جُزءاً إلهياً، وهذا كفر طبعاً، وإنما هذه الروح منسوبة إلى الله نسبة تشريف، كما ذكرناها في الخُطبة، كبيت الله وناقة الله ورجال الله وأولياء الله، وهكذا! نسبة تشريف على كل حال.
فمهما آتيت البدن سؤله وتتايعت وتتابعت في خدمته وإشباعه وإلهائه، خمدت الروح. ضعفت المسكينة! والعكس صحيح، وطبعاً ليس ثمة خصومة بين البدن والروح في المنظور الإسلامي، ليست هناك خصومة أبداً أبداً، وإنما العلاقة علاقة توظيفية، ينبغي أن يكون البدن مُوظَّفاً لصالح الروح. الروح لا تستطيع في هذا العالم أن تدخل ساحة الابتلاء وأن تنجح في الامتحان إلا عبر هذا البدن، هذا البدن هو بشكل أساسي محل الابتلاء، وهو المطلوب منه أن يركع ويسجد ويطوف ويعبد، وهو المطلوب منه أيضاً أن ينظر إلى الناس وأن يستمع إليهم وأن يتحمَّل إساءتهم وغلاظتهم كما يقول الإخوة السوريون، وهو المطلوب منه أن يُجاهِد في سبيل الله، والمطلوب أشياء كثيرة! ومن أجله تخاف أنت من العُري، إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ۩ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ۩، تخاف أنت من الضحيان ومن العُري ومن الجوع ومن العطش ومن الكلم – أي الجُرح – والإصابة والأدواء والابتلاءات المُختلِفة.
إذن هي علاقة توظيف في الحقيقة، علاقة توظيف! إذا عكسنا هذه العلاقة وصار الكيان الإنساني كله مُوظَّفاً من أجل البدن، فستكون هذه خيبة ما بعدها خيبة، هذا هو الخُسران المُبين – والعياذ بالله -، وهذا إلحاق الإنسان لنفسه بأُفق البهيمية، البهائم كذلك، تأكل وتتمتع، أليس كذلك؟ والله قال الكفّار يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ ۩، حياتهم أكل وشرب وشهوات، وفقط، لا! أنت مخلوق لأمر أعظم من هذا بكثير، ولذلك لا خصومة.
فإذن هذا موضوع خلاء البطن، والآن طبعاً معروف الكثير عن هذا، لن نتحدَّث عن التجويع والــ Diät وما يتعلَّق بالــ Diät وما إلى ذلك، لا! لكن تقريباً الفلسفات الشائعة الآن – أي الفلسفات التغذوية – جوهرها على التقليل من ماذا؟ من مُهلِكات الأكل. أليس كذلك؟ فالأكل مُهلِك، والنبي قال ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لُقيمات يُقيمن صُلبه، فإن كان لابد فاعلاً، فثُلث لطعامه وثُلث لشرابه وثُلث لنفسه. والحديث معروف لنا جميعاً مُذ كنا صغاراً، فلا نُطوِّل بذكره. إذن خلاء البطن.
أولاً قراءة القرآن أو تلاوة القرآن بالتدبر، ثانياً خلاء البطن، ثالثاً قيام الليل، الخصلة الثالثة قيام الليل، والخاصة الرابعة مُرتبِطة بها، وهي التضرع بالأسحار. بعض الناس يُمكِن أن يقوم الليل، ولكنه لا يتضرَّع بالأسحار، يقوم عند الساعة الواحدة وينام، فيقوم – مثلاً – لنصف ساعة وينام، لا! أحسن شيئ أن تجعل قيامك لليل موصولاً بتضرع السحر، هذا إذا لم تكن تستطيع أن تقوم، ثم تنام، ثم تقوم، والنبي كان يقوم، ثم ينام، ثم يقوم، وهكذا! وبعض الناس صعب عليه أن يقوم في مُنتصف الليل ويُصلي ثم يعود ينام ثم يعود يستيقظ، صعب عليه! لكن النبي كان يفعل هذا – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
إذن التضرع بالأسحار، خامساً وأخيراً صُحبة الصالحين. ويا لها من خصلة! ويا لها من خصلة! وهي لا تقل عن الأربع، لا تقل عن الأربع – والله العظيم -.
بعِشْرَتِكَ الكِرامَ تُعَدُّ مِنْهُمْ فلا تُرَيَنْ لغَيرِهِمُ أَلُوفَا.
يقول سيدنا ابن عطاء الله السكندري لا تصحب مَن لا يُنهِضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله. اصحب مَن يدلك على الله مقاله، حين يتكلَّم يتكلَّم فقط في الدين والحقائق والعرفان والأشياء الطيبة والأخلاق العالية والقيم الرفيعة، لا يذكر إلا الخير، هذا مُمتاز! وبعد ذلك هناك حاله، انظر إلى حاله وإخباته وخشوعه ومُواظَبته على الطاعات وبُعده عن المعاصي والقاذورات، ومن ثم تتشجع أنت، تتنافسان، تقول سأكون مثله. أليس كذلك؟ حاله يُعطيك هذا، من غير أن يتكلَّم، سُبحان الله! لأنه يكون عبداً مُنوَّراً من كثرة العبادة والذكر والبُعد عن المعصية. والله مُجرَّد أن تراه، أنت تخشع، تشعر براحة. هذا هو طبعاً، من أهل الله هذا، هذا إنسان دائماً مع الله، موصول بالله.
اصحب مثل هؤلاء الناس، وإذا أسعدك الدهر بواحد منهم، فاعقد عليه الخناصر، فقلما يجود الدهر بمثله. وعمر قال إذا رأيت من أخيك مودةً صادقةً – يعني أخاً صالحاً طبعاً -، فلا تُفرِّط فيه، فقلما تظفر بمثله. أين تجد إنساناً صالحاً؟ أين تجده في هذا الزمن (هذا الزمن الرديء الخائب)؟ إذا لقيت إنساناً صالحاً يُعينك على طاعة الله، فتشبث به، فتشبث به أبداً! لأنك – بعون الله تعالى – تكون رفيقه إلى الجنة. أليس كذلك؟ ثم إنه رفيق، وشرط المُرافَقة المُوافَقة، وهو أقوى منك، وهو صاحب حال، وهو إنسان رباني، إذا اقتربت منه لتكون رفيقه، فستُوافِقه على الرُغم منك – بإذن الله -. ونعمت المُوافَقة! سوف تعمل مثله، وسوف تتوقَّف عن الأشياء التي هو مُتوقِّف عنها، أي سوف تصير مثله، وسوف تلتحق به. شرط المُرافَقة المُوافَقة! وما أفلح مَن أفلح، إلا بصُحبة مَن أفلح. يقول السادة العارفون ما أفلح مَن أفلح، إلا بصُحبة مَن أفلح. اللهم دلنا على مَن يدلنا عليك، وصلنا بمَن وصلته بك، اللهم بكرمك في نعمة وعافية تامتين يا رب العالمين.
هل هذا واضح يا إخواني؟ وأخيراً أُعلِّق أيضاً بكلمة، والأفضل أن أقول أُعلِّق كلمةً، والأفصح أن تقول أُعلِّق مُلاحَظةً، وليس أُعلِّق بمُلاحَظة، أو أُعلِّق بتعليق، لا! أُعلِّق كلمةً أو أُعلِّق مُلاحَظةً، وهذا التعبير الفصيح أو الأفصح.
أُعلِّق أيضاً كلمةً عن سيدنا ابن عطاء الله – قدَّس الله سره -، هذا الرجل عجيب، وحكمه عجيبة جداً جداً جداً، سُبحان الله! لم يجد الزمان على أمة محمد من زمنه إلى اليوم برجل تكلَّم في العرفان بمثل هذه الكلمات الدُرر اللئلالئ اليواقيت، على وجازة واكتناز وتكثيف وتركيز وبُعد غور. عشرات الشروحات! شُرحت الحكم العطائية، حتى بالغ بعضهم فقال كادت الحكم أن تكون قرآناً. ونسبه بعضهم للإمام النووي، وهو خطأ، لأن ابن عطاء مُتأخِّر عن النووي تقريباً بنصف قرن. أي زُهاء أو أقل من نصف قرن. فهذا مُستحيل، والنووي لم يقل هذا، ولكن قاله غير النووي، كادت الحكم تكون قرآناً!
ماذا قال؟ ربما كنت مُسيئاً – ربما كنت مُسيئاً، أي حالتك ليست (ولا بُد) كما يُقال بالعامية، أي ليست جيدة -، فأراك الإحسان منك صُحبتك مَن هو أحسن حالاً منك. حكمة! حكمة! انتبه وإياك أن تصحب مَن هم أسوأ منك، وإلا سترى أنك من العارفين، أنت نرى أنه خربان، هو خربان بالمرة، هو خربان! وأنت لست كذلك إلى هذه الدرجة، فترى أنك – ما شاء الله – صالح، وتقول الحمد لله، أنا مُمتاز. وأنت لست مُمتازاً، أنت سيئ – قال ابن عطاء الله -. إذن ربما كنت مُسيئاً، فأراك الإحسان منك صُحبتك مَن هو أحسن حالاً منك. ولذلك اعمل العكس.
وهذا المعنى مُؤسَّس ومُشيَّد على حديث نبوي صحيح، من حديث أبي ذر – رضوان الله عليه -، عن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، انظروا – في شؤون الدنيا – إلى مَن هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى مَن هو أعلى منكم، فإنه أجدر ألا تحتقروا – أو قال تزدروا – نعمة الله عليكم. في الشؤون الدنيوية دائماً انظر إلى مَن هو أقل منك، ومن ثم سوف تقول الحمد لله، أنا ملك، أنا ملك! عندي شقة مساحتها مائة متر، وهذا للأسف يعيش في مكان مساحته ثلاثون متراً. فدائماً قل الحمد لله، أنت عندك شقة مساحتها مائة متر، فقل الحمد لله، مائة متر مُربَّع، مَن يُمكِنه أن يحصل على مثلها؟ هذا يعيش في ثلاثين متراً، يا رب وسِّع عليه. احزن وادع له، قل يا رب وسِّع عليه، يا رب أعطه. أرأيت؟ انتبه.
عندك عشرة آلاف، فقل الحمد لله، هذا مديون، يا رب اقض عنه دينه، يا ربي اقض عنه دينه. أنا لست مديوناً، وعندي عشرة آلاف والحمد لله. لكن لو نظرت إلى غيرك، فسوف تقول أوه! هذا عنده فيلا مساحتها ألف متر مُربَّع، وعنده أرض وحديقة مساحتها ثلاثة آلاف متر، معناها أين أنا؟ أنا ضائع. وتحتقر النعمة التي أعطاك الله إياه، انتبه وإياك أن تفعل هذا.
والعكس في شؤون الدين، انظر إلى مَن هو أعلى منك، ولا تنظر إلى مَن هو أدنى منك. لا تقل هذا سكّير، زانٍ، لا يُصلي، ولا يصوم. ما علاقتك به؟ هداه الله وأسعده، انظر إلى الناس الصالحين الطيبين، واقرأ عنهم وانظر، وابحث عنهم، وافعل هذا على النت Net وفي الكُتب، وقل أُريد أن أصير مثلهم. أليس كذلك؟ هو هذا.
في القرآن الكريم كلب – أعزكم الله وأعزكن -، كلب يا إخواني ذُكِر في كتاب الله، في أشرف ذكر وخاتمة الأذكار الإلهية، هذا خاتم الأذكار، انتهى إذن، انتهى! ليس بعده أي ذكر، آخر ذكر مُوحى هذا، وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ۩، قيل وسيدخل الجنة معهم. بماذا؟ ببركة ماذا؟ كلب هذا وهو غير مُكلَّف! ببركة رُفقة الصالحين، صاحب الصالحين. نحن يا سيدي بصراحة نُريد أن نكون – لن أقول تعبيراً شديداً – أحباب الصالحين، نُريد أن نكون – إن شاء الله – أحباب الصالحين.
وقلت لكم مرة شيئاً عن هذا في القصة العجيبة عن السيد الجليل، الأمير التائب، وسيد العارفين في وقته إبراهيم بن أدهم – رضوان الله تعالى عليه -، الأمير التائب هذا! مرة رأى في المنام جبريل، في المنام! ومعه كتاب، قال يا جبريل ما هذا؟ قال له هذا الكتاب أكتب فيه أسماء أولياء الله، أهل الله الكبار. أهل الله وخاصته هؤلاء، هؤلاء أحباب الله، جماعة الله هؤلاء – اللهم اجعلنا منهم يا ربي -، جماعة الله! وغيرهم هناك جماعة الدنيا والشهوات، دعهم! هم أحرار، وهناك جماعة الله، وسوف نرى، الدنيا سوف تذهب، ومُتاعها سوف تذهب، يبقى الله، وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ۩، قال كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ۩ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ۩، مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ۩، يبقى الله، ويبقى مَن كان مع الله، ويبقى ما عُمل لله. انتهى! والله والكل سوف يذهب، الكل سوف يذهب، أليس كذلك؟
فقال له أكتب أسماء أهل الله، الأولياء. قال له وأنا منهم؟ قال له لا. قال له الحمد لله على كل حال. وعادي! لم يُصدَم، لأن أكيد اعتقاده في نفسه أنه أسوأ من هذا. قال له ولكن أنا يا جبريل أُحِبهم – بحمد الله تبارك وتعالى -، أنا أُحِب أهل الله، وأتقرَّب إلى الله بحُبهم. قال له ها أنا قد أُمرت أن أجعلهم في رأسهم. واحد: إبراهيم بن أدهم. هذا كان اختبار، وهو منهم، هو منهم أكيد، ولكنه يُريد أن يُفهِمه أنك ما بلغت ما بلغت ولا رُقيت ما رُقيت إلا بحُبك أهل الله.
قال سُفيان الثوري عند ذكر الصالحين تتنزَّل الرحمة. هذا سُفيان الثوري، انتبهوا! هذا ليس حديثاً. والكلام – كما تعلمون – عن الصالحين، فماذا يحصل عند ذكر رسول الله؟ إذا كان هذا يحصل مع الصالحين، مع سيدي وسيدي، فكيف بسيد الكل – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟ ماذا يحصل حين يُذكَر الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟ فكيف إذا ذُكِر الله؟ فكيف إذا تُليَ كلامه – لا إله إلا هو -، الذي هو أفضل من سائر الكلام كأفضلية الله على كل الخلق؟ ونعود إلى آيتنا.
۞ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ۞
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ۩، وذكرنا فيها طرفاً من اختلاف السادة العلماء والمُفسِّرين – روَّح الله أرواحهم جميعاً في عليين -، وقلنا المسألة يا إخواني مناطها على تعريف الظالم، مناط المسألة ومدارها على تعريف الظالم هنا بالذات، الظالم لنفسه! مَن هو الظالم لنفسه؟
ووقفنا عند قول الإمام أبي سعيد تقي الدين الحسن البِصري – رضيَ الله عنه وأرضاه -، قال الظالم لنفسه مَن رجحت سيئاته بحسناته، والمُقتصِد مَن تساوت سيئاته وحسناته، والسابق بالخيرات مَن رجحت حسناته سيئاته. وعلَّقنا! وقلنا كلاماً حول أن المُقتصِد هو مَن تساوت سيئاته وحسناته، فهذا فيه نظر، والقلب لا يرتاح إلى هذا، لا! أيضاً المُقتصِد رجحت حسناته بسيئاته، وتكلَّمنا كلاماً فيه شيئ من إسهاب، والله يغفر لنا إن كنا أخطأنا. وأما أن الظالم مَن رجحت سيئاته بحسناته، ثم قال في آخر كلامه – أي تقي الدين الحسن البِصر – وكلهم في الجنة، فلا يستقيم، إلا بتأويل. لا نُسلِّم هذا الكلام إلا بتأويل، لابد أن يُؤوَّل، ولابد من التأويل، والتأويل وارد قريب، هناك تأويل وارد قريب، ما هو؟ لأنه – انتبهوا – إذا قال إنه رجحت سيئاته بحسناته ومع ذلك هو في الجنة، فسيكون هذا مُخالِفاً لكلام الله، هذا مُخالِف للقرآن، القرآن أفهمنا في آيات كثيرة أن مَن خفت موازينه أمه هاوية، يذهب إلى جهنم، ولا يُمكِن غير هذا، الذي رجحت سيئاته بحسناته سيذهب إلى جهنم، حتى وإن كان مُوحِّداً، حتى وإن كان من أمة لا إله إلا الله، محمد رسول الله. وهذه قضية الموازين، وهذه كل آيات الموازين، انتبهوا!
وماذا عن الذي استوت حسناته وسيئاته؟ هذا يبقى في الأعراف، يبقى في الأعراف! ينظر إلى أهل النار فيخاف، يقول آه، الحمد لله، نحن لسنا منهم. وحين ينظر إلى الجنة يسيل لُعابه، يقول آخ، أين هذا؟ ما هذه الثمرات؟ وما هذه المسائل والأشياء؟ يا رب، آخ، آخ! ويتحسَّر، وحين ينظر إلى الناحية الثانية بعد ذلك يقول الحمد لله. وهكذا يفعل المسكين، وبعد ذلك يضع الله رحمته – تبارك وتعالى – عليهم، ويقول لهم ادخلوا الجنة، ادخلوا الجنة. وهناك سورة الأعراف.
هذا ليس المُقتصِد، لا! هذا شيئ ثانٍ، وهناك كلام كثير، لكن على كل حال هو مَن استوت حسناته وسيئاته، هذا صاحب الأعراف، أما الذي ترجح – والعياذ بالله – سيئاته بحسناته، فسيذهب إلى أين؟ إلى جهنم. إلا أن نُؤوِّل، وكيف سنُوؤِّل؟ سنقول قصد الحسن البِصري – رضوان الله عليه – أن مآله إلى الجنة، أليس مُوحِّداً هو؟ هو مُوحِّد. لكن غلبت سيئاته حسناته، فلابد وأن يدخل النار، لماذا إذن؟ لكي يتطهَّر. لأن الجنة لا يدخلها إلا طيب، طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ۩، الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۩، هذه في سورة النحل، وتلك في الزُمر. إذن لابد أن تكون طيباً، والخُبث والذنوب والرجس (رجس الذنوب) – والعياذ بالله -، هذا كله لابد وأن يتطهَّر بالنار، تحرقه جهنم، وتحرق حتى رجس القلوب والنوايا السيئة الوسخة والشهوات المُحرَّمة، تُحرَق في جهنم هذه، وبعد ذلك يضع الله رحمته والشفاعة عليهم، فيُخرِجهم. وهناك أحاديث في البخاري ومُسلِم تعرفونها، حول أنهم سيُلقون في نهر الحياة وينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، وأشياء كثيرة واردة في الصحاح، نُسلِّمها – الحمد لله – ونُؤمِن بها، ويدخل الجنة.
إذن بهذا التأويل مقبول، بهذا التأويل مقبول! ولكن أنتم رأيتم أن الكلام مُضعضع، وهذا معناه أن هناك خطأ، ولعل الحسن البِصري لم يقل هذا أصلاً، لأن هناك أشياء كثيرة تُنسَب جُزافاً.
من المُعاصِرين هناك العلّامة المُفسِّر الشيخ حسنين مخلوف – طيَّب الله ذكره وثراه، وأعلى مقامه في عليين -، هذا علّامة بارع ورجل صالح وفقيه مالكي جليل، كان هكذا! وكان مُفتي مصر – رحمة الله عليه – في وقته، من العلماء الكبار، وعنده تفسير أنا طالما نصحت به وأحلت عليه، وهو مُوجَز، أحسن تفسير مُوجَز إلى الآن وهو موجود في الأسواق تفسير الشيخ مخلوف، أحسن من الجلالين في النظري، لا يُوجَد تفسير مُختصَر بنفاسة تفسير الشيخ مخلوف – رحمة الله تعالى عليه -، ولكن قل مَن يُعرِّف به، وقل مَن يعرف مكانة هذا التفسير، وأنا لا أدري لماذا، أفضل تفسير موجود بهذا الحجم، فجزاه الله عن الإسلام وعن آيات الله خير جزاء العلماء المُفسِّرين الصالحين – رحمة الله عليه -، تفسير مُوجَز، في مُجلَّد واحد فقط، شيئ من أروع ما يكون.
وله اجتهاد في هذه الآية، أيضاً لم نُسلِّمه له، والله أعلم بالحق، في أي الضفتين. قال فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ۩، أي مُرتكِب الصغائر. ولا نُوافِق على هذا، هل تعرفون لماذا؟ لأن أمة محمد المُصطفاة الواقع يقول والنصوص القرآنية والنبوية تشهد أن منهم مَن يرتكب الكبائر، إذا صار الظالم لنفسه هو مَن يرتكب الصغائر، فهل معنى هذا أن المُقتصِد لا يرتكب صغائر؟ يرتكب. فهل السابق لا يرتكب صغائر؟ يرتكب. فالسؤال إذن أين موضع مَن يرتكب الكبائر يا شيخنا؟ فهي وهلة، هذه وهلة منه، ولذلك هذا التفسير ضعيف جداً، على قوة تفسيره، ولكن هنا – أي في هذا الموضع – كما يُقال كبا به جواده، لا! لا تقل لي إن الظالم مَن يرتكب الصغائر، لا! الموضوع ليس هكذا.
انظروا إلى الآتي حتى لا نُطوِّل عليكم، أنا – والعياذ بالله من كلمة أنا – سأقول لكم ماذا أعتقد، قرأت تقريباً جُملة طائلة من أقوال السادة العلماء والمُفسِّرين في القديم والحديث في تفسير هذه الآية المُشكِلة، وبلا شك هي مُشكِلة كما قال الإمام ابن جزي وغيره، تعرفون كيف فهمت الآية؟
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ۩، حتى لا تنسى هذا الوجه من التأويل أو الفهم شبّه هذا بالثوب، قال وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ۩ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ۩. كالثوب! فرق بين ثوب نظيف، أبيض، مُطيَّب، فيه بخور وعطور، شيئ من أجمل ما يكون! وبين ثوب أبيض، غير مُبخَّر. وبين ثوب مُتسِخ، صار صاحبه إلى تنظيفه. هؤلاء الأصناف الثلاثة! السابق بالخيرات صاحب ثوب أبيض، مُطهَّر، مُبخَّر. المُقتصِد ثوبه أبيض، لكن غير مُبخَّر، وغير مُطيَّب. والظالم لنفسه ثوبه مُقطَّع، مُخرَّق، مُتسِخ، مُرقَّع، مُلفَّق، وهو يعمل فيه التنظيف، ذهب لكي يُنظِّفه! هل هذا واضح؟
وهذه الآية تتحدَّث عن أمة محمد في حال ماذا؟ مُصطفويتها. قال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا ۩، حقاً وبالفعل وواقعاً أمة محمد منهم مَن يظلم نفسه بارتكاب الكبائر واحتقاب الآثام العظيمة، باستثناء الشرك طبعاً، لأن هذا من أمة محمد طبعاً، أي هو ليس مُشرِكاً، هو مُوحِّد، فقط! وأنت تعرف أن هناك زنا وشُرب خمر وسرقة وغيبة ونميمة ووشاية وسعاية وأذية للناس وأكل لأموال الناس وباطلاً ورشوة وحلف أيمان كاذبة و… و… و… كبائر كبائر كبائر، كثيرة الكبائر – والعياذ بالله -. وبعضهم قال هي إلى السبعمائة، أدنى منها إلى السبعة. وبعضهم قال هي إلى السبعين، أدنى منها إلى السبعة. وهذه سبع مُوبِقات، هذه طبعاً مُهلِكة تماماً، أي هذه السبع.
على كل حال هذا هو، ولذلك المقصود هنا بالظالم لنفسه مَن؟ الذي ظلم – انظر – نفسه. وهناك قرينة، قال لك الظالم لنفسه. أدرك هو ظالميته، أدرك أنه أخطأ، أدرك أنه زل، أدرك أنه تنكب الطريق، فيعود المسكين يستدرك ويغسل ماذا؟ ثوبه. ويرقعه ويرفوه ويرثوه، وهذا حال أبوينا، قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ۩، انظر إلى هذا، قشعر بدني، شيئ عجيب، لا إله إله إلا الله! القرآن أعطاك لكل شيئ حلاً، قال هذا هو المُراد بالظالم لنفسه. الذي ظلم وعاد، ونظَّف وحاول، يظل من الأمة المُصطفاة – إن شاء الله -، ويدخل الجنة، وأنا جبرت خاطره – الله يقول – ورفعت شأنه فبدأت به. وسوف نقول لماذا، هذا من باب الإشارة.
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ۩، ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ۩، قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۩، في الأعراف! ماذا قال الله عن موسى – عليه السلام -؟ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ۩ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ۩، ظَلَمْتُ نَفْسِي ۩، ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ۩، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۩، هذا هو، فهذا معناه أنه ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ۩، أليس كذلك؟ وأكيد وضعه عظيم وكريم، إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۩، وليس هذا فحسب، قال وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۩ الَّذِينَ ۩… مَن هم هؤلاء المُتقون؟ سوف نرى، هناك التعريف بالموصول، التعريف بالموصول! الَّذِينَ ۩… وَالَّذِينَ ۩… وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ۩، هذا هو، فتفضَّل! هؤلاء من المُتقين الموعودين بجنة عرضها السماوات والأرض.
فرقٌ بين إنسان زنى وسرق وفعل وفعل ثم تاب ونظَّف، وبين إنسان لم يفعل. فطبعاً هذا أفضل بكثير، أي الثاني هذا، هذا الذي لم يفعل، طبعاً! وفرق بين هذا الذي لم يفعل، وهو مُقتصِد في الطاعة، وبين واحد مُسارِع بالخيرات، صاروخ! صاروخ إلى الله، وأين هذا يا حبيبي؟ هذا سابق، اللهم اجعلنا منهم، مُقرَّبون! هؤلاء الثُلة القليلة مِّنَ الْآخِرِينَ ۩.
قال أبو الفرج ابن الجوزي شتان بين مَن ثوبه صحيح وثوبه مُرقَّع. جيد أنك رقعت، ولكن هذا مُرقَّع، ثوبك يظل مُرقَّعاً، أليس كذلك؟ انظر، الله – تبارك وتعالى – بالتوبة النصوح الصادقة يُنسي الملائكة، وبالذات كاتب الشمال طبعاً، وهذا يرى طبعاً، هذا يرى! لكنه يُنسي الملائكة ماذا فعلت، ويُنسي الأرض ماذا فعلت عليها، يُنسي كل الشواهد! ولكن هل أنت تنسى؟ لا، لا تنسى. هذا هو، لا تقدر، لا تنسى، وتظل تتذكَّر، تقول في هذا اليوم عملت كذا، في هذا اليوم فعلت كذا، كنت شاباً صغيراً يا ربي، فاغفر لي، كنت ابن سبع عشرة سنة، غلبتني نفسي، غلبني غضبي أو شهوتي أو جهلي أو كذا. أليس كذلك؟ تظل تتذكر وعمرك ثمانون سنة ماذا عملت وعمرك سبع عشرة سنة، وتزعل من نفسك، وتقول لماذا عملت هذا؟ وهم نسوا – بعون الله -، ويوم القيامة الله لن يقول لك الكلام هذا، وسيكتم عليه، ولن تجده في الصحيفة، ولن تشهد عليك الأرض ولا أعضاؤك – بإذن الله تعالى -، ولكن أنت ذاكر، هل تعرف لماذا؟ لكي تعظم منّة الله عليك، ويعظم شكرك لها. تتذكَّر كيف عملت كذا وكيف هو كافأك – لا إله إلا هو -. هل هذا واضح يا إخواني؟ ففرقٌ بين مَن ثوبه سليم ومَن ثوبه مرقوع أو مُرقَّع، فرق كبير! يظل مُرقَّعاً أيضاً.
فنرجع، إذن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ۩، أرأيت؟ هو لم يظلم فقط، وإلا كيف سيكون من الأمة المُصطفاة؟ وهو ظالم؟ وهل سيموت على الظالم؟ لا، صعب! فلابد وأنه تاب، وهذا يبقى في خطر المشيئة، لأن الذي يكون من أمة محمد مُوحِّداً ثم يموت وهو يرتكب الكبائر بحسب مذهب المُعتزِلة هو في جهنم، خالداً مُخلَّداً فيها. وهم تسامحوا معه قليلاً، عندهم تسامح! وقالوا لا نُسميه كافراً. فهل هو مُؤمِن؟ قالوا لك وهو ليس مُؤمِناً، هو في منزلة بين المنزلتين. إخواننا الإباضية قالوا إنه في جهنم، خالداً مُخلَّداً فيها. إخواننا الخوارج قالوا إنه في جهنم، خالدً مُخلَّداً فيها. وكل واحد يموت وهو يرتكب الكبائر هذا مصيره، وعلى فكرة ينبغي أن تأخذوا هذا الأمر بجد، هؤلاء ليسوا كفّاراً، وليسوا زنادقة. هذه فئات إسلامية، وبصراحة مُحترَمة، فالإباضية أُناس مُحترَمون، والمُعتزِلة مُحترَمون، لكن الخوارج ليسوا مُحترَمين بصراحة، عندهم شذوذات وقتل وإجرام في حق الأمة، فهؤلاء ليسوا مُحترَمين بدرجة كبيرة بصراحة، ولكن بالنسبة للإباضية – والله – والمُعتزِلة، هم على العين والرأس، هم مُسلِمون صالحون، و- ما شاء الله – يُدافِعون عن الإسلام وما إلى ذلك، أي لا نتكلَّم فيهم ولا نقعد لكي نتفلسف عليهم، على العين والرأس! وخذوا كلامهم أيضاً بمحمل الجد، ماذا لو كان صحيحاً؟ والله هذه مُصيبة، أليس كذلك؟ افرض هذا، افرض أنه قد يكون صحيحاً، مُصيبة كبيرة هذه، مُصيبة كبيرة! فلذلك سيكون هذا البعيد على خطر لو مات وهو مُقيم على كبائر ومُصِر على كبائر. احذر، لأنك تُعرِّض نفسك لخطر لست قده، لست قده! وهذه القد طبعاً كلمة فصيحة، لست قده، لست تحتمله، أي هذا الخطر، هل هذا واضح يا إخواني؟ لذلك بادر بالتوبة، ولا تُسوِّف التوبة، خلها من قريب، خلها ماذا؟ من قريب. هل هذا واضح يا إخواني؟
وعلى كل حال على مذهب أهل السُنة والجماعة المُوحِّد الذي يموت مُصِّراً على كبار المعاصي، إن رجحت سيئاته بحسناته، دخل جهنم، إلا أن تُدرِكه الشفاعة، ويُمكِن ألا تُدرِكه، لا نعرف! فيذهب إلى جهنم، ولكن مآله إلى الجنة. قد يقول لي أحدكم لا، أليس في خطر المشيئة؟ طبعاً في خطير المشيئة، وها نحن نقول لك يُمكِن أن تُدرِكه الشفاعة، يُمكِن أن يعفو عنه ربنا لسبب أو لآخر، لا ندري! قد يكون عمل حسنات، وإن تكن قليلة، لكن وقعت من الله موقعاً عظيماً، يُوجَد في بعض المرات نوع من الحسنات هكذا، تكون فيه الحسنات عند الله هائلة القيمة، سُبحان الله! هكذا هي، أنواع خاصة من الحسنات، هل هذا واضح؟ في ظروف مُعيَّنة. ففرق بين واحد مليونير، وأعطى مائة ألف، وبين واحد فقير فقير فقير، وعنده عشر دُريهمات في جيبه، وهو ذاهب لكي يُحضِر لابنه حليباً – وهذا ابنه الصغير الذي عمره سنة -، رأى امرأة ومعها اثنان من الأيتام، وهناك عيون مُقذاة وألم وبكاء وشحوب وكذا، فآثر هذين اليتيمين على ابنه، وقال لها خُذي يا أختي. وعاد إلى بيته من غير شيئ. هذه يُمكِن أن تُدخِله الجنة ركضاً، هذه يُمكِن أن تُدخِله الجنة ركضاً – بإذن الله تعالى -، ويُمكِن أن ترجح بسيئات كثيرة عنده. ولذلك احرص على الأعمال الطيبة هذه، التي لها وقع خاص، هذه لها وقع خاص وهناك أنواع منها.
على كل حال لا نُريد أن نُطوِّل، إذن أنت ستظل في خطر المشيئة، فلماذ تُعرِّض نفسك للخطر؟ هذا خطر، هذه جهنم، هذه هي الحكاية! ثم إن هناك غضباً ونزولاً من عين الرب – لا إله إلا هو -، أي الله حتى لا يحترمك ولا يُحِبك، كبائر – أعوذ بالله – ولا تتوب، ومت وأنت على الكبائر ولم تتب، أي ليس لك أي مكان عند الله أصلاً وليس لك أي منزلة، عبد حقير، حتى ولو عفا عنك، أنت حقير. شيئ صعب، أترضى على نفسك أن تكون هكذا؟ هذه مسألة صعبة.
ونرجع إذن، إذن – والله تبارك وتعالى أعلم – الظالم لنفسه هنا، الموعود بدخول جنات عدن، والتحلية فيها وكذا، هو الذي ظلم نفسه ثم عاد، بما جعله فعلاً في ماذا؟ في فئات الأمة المُصطفاة، والأمة المُصطفوية أيضاً، نسبة إلى مَن؟ إلى المُصطفى – عليه الصلاة وأفضل السلام -. هو هذا، الظالم لنفسه من هذا النوع، مثل أبوينا، ومثل المُتقين، ومثل موسى – عليه السلام -، وأمثال هؤلاء، وما منا أحد إلا ظلم نفسه بطريقة أو بأُخرى، فيرجع ويرفو ويرقع ويغسل ويُطيِّب – إن شاء الله – ويجتهد ويُصلِح – كما قلنا -، والقرآن دائماً يُؤكِّد أن التوبة تحتاج إلى ماذا؟ التوبة تحتاج إلى رجوع وإنابة، وتحتاج إلى ماذا؟ تحتاج إلى إصلاح. وَأَصْلَحُوا ۩… وَأَصْلَحُوا ۩… وَأَصْلَحَ ۩… لابد وأن تُصلِح، تُصلِح ماذا أفسدت، تُصلِح ما أفسدت!
إذن هذا هو الظالم لنفسه، والمُقتصِد؟ نعم، المُقتصِد – بفضل الله – مُمتنِع عن الكبائر، يقع في بعض الصغائر، أكيد! وليس مُمعِناً في الخيرات، يُصلي الخمس، يصوم رمضان، يحج حجة الإسلام، يعتمر عُمرة الإسلام، يفعل الخيرات – والحمد لله -، ولكن باقتصاد، أليس كذلك؟ ومُعظَم الناس من المُسلِمين الطيبين مُقتصِدون بصراحة، فلا تقل لي إنهم سابقون، والله قال هذا، قال السابقون قلة. ونحن نُحِب أن نكون من القلة هذه، لابد من هذا، لابد وأن نغار، أليس كذلك؟ هذا المُقتصِد يا إخواني.
وأما السابق فهو كما ذكرنا حاله أمس، السابق هذا الذي يقول لك وقفت على باب قلبي تسعين سنة، لم يدخله إلا الله. وهذا ليس الجُنيد الذي ذكرته قبل أسبوعين، لا! هذا واحد ثانٍ، أعتقد أنه ابن عصرون، قال لك وقفت على باب قلبي تسعين سنة، لم يدخله إلا الله. الجُنيد قال لك إنه من أربعين سنة وظَّف بوّاباً على قلبه، فلم يُدخِله أحد إلا الله. وهذا قال لك إنه وقف على باب قلبه تسعين سنة. قالها وهو يموت، هذا آخر شيئ، قاله في آخر حياتي، قال لك تسعون سنة، وأنا على باب قلبي، لم أسمح أن يدخل إلا الله – تبارك وتعالى -. قال هذا! هذا السابق، هذا من عيون السابقين، أرأيت؟ هذا من عيون السابقين.
وحدَّثتكم مرة بقصة سمعتها من الداعية السوري المُوفَّق الدكتور محمد خير الشعال – بارك الله فيه -، عن تاجر يعرفه هو، وهذا التاجر حكى له الآتي، وهذا التاجر من الصالحين، وواضح أنه من الصالحين، ولكن هذه – والله – أعجوبة، والله حين تسمع القصة من هذا الداعية المُوفَّق، تبكي، أن أمة محمد فيها أمثال هؤلاء المُوفَّقين المسعودين.
قال له يا دكتور محمد أنا – بفضل الله – في نعمة كبيرة من الله، وحالتي المادية (فوق الريح) كما نقول، الله وسَّع كثيراً كثيراً كثيراً كثيراً. فقال ذات مرة أسر لي بالآتي. لا تعرف لماذا، الله ألهمه هذا! فقال له تعرف يا دكتور محمد لماذا أنا وضعي هكذا؟ لم يحتج مرة، لم يستدن مرة، لم يفتقر مرة، دائماً وضعه مُمتاز، ودائماً ما يُعطي! قال له لماذا؟ قال له هذا سري بيني وبين الله – عز وجل -. انظر إلى هذا، هذا السر، هناك سر خاصة، مُعامَلة خاصة، انظر إلى السر هذا، يا الله! هذا واحد يعيش بيننا الآن، أتمنى أن أراه وأن أُقبِّل يديه – والله -، أياً يكن. قال له بفضل الله – وهو تاجر – كل يوم أُتاجِر، وسواء دخل لي في اليوم عشرة آلاف أو مائة ألف أو مائتا ألف – تاجر! هو تاجِر، ويُمكِن أن يربح اليوم نصف مليون بورقة، عادي -، لا أعود إلى البيت بشيئ مما دخل. قال له ماذا؟ قال له أتصدَّق به كله. قال له ماذا؟ الدكتور الشعال صُدم، قال له كله – بفضل الله -، أتصدَّق به كله، هكذا تعوَّدت.
هو يشتغل هكذا، هو مُوظَّف عند الناس، عند الفقراء والمساكين، أي هو وظَّف نفسه لمصلحة الأمة، يشتغل ويعمل ويأخذ أموالاً وكذا، وبعد ذلك يأتي في آخر اليوم يُعطي كل ما معه. قال أنا ذُهلت. أي الدكتور الشعال قال لك أنا ذُهلت، لا إله إلا الله! قال له إذن ماذا عن الأولاد؟ ماذا عن أولادك وكذا؟ قال له الحمد لله. قال له وضعهم مُمتاز، هناك مَن هو مُتزوّج، وكل واحد عنده فيلا وعنده بيت، والحمد لله، والأمور مُمتازة، وأنا عندي كل شيئ، ولا ينقصني شيئ.
وقال له أزيدك يا دكتور محمد. قال له سيدي عوَّدني – لا إله إلا هو – لا أحتاج شيئاً مهما عظم إلا يُهيئه في الوقت. قال له أنا هكذا عادتي، وهو – أي سيدي، عز وجل – عوَّدني لا أحتاج شيئاً مهما عظم إلا يُهيئه في الوقت. قال له والله – وهو رجل صادق، وهذا واضح، من الصالحين هذا، حين يقول والله، يكون صادقاً في يمينه – يا دكتور آتي إلى مكتبي، وليس عندي أي شيئ، بعد قليل يتهيأ لي – مثلاً – مائتا وسبعون ألف ليرة سوري، بعد قليل! وبالكاد تمر دقائق حتى يأتي إلىّ أحدهم، ويكون فقيراً مديوناً مكسوراً أو شخصاً يُريد أن يتعلَّم، فيقول لي يا أخي، يا أبا فلان أرجوك، أُريد كذا وكذا، أحتاج إلى كذا. فأقول له كم تحتاج؟ فيقول أحتاج مائتين وسبعين ألفاً. يحتاج إلى مائتين وسبعين ألفاً! وهن مُهيئات، فأقول له تفضَّل. أي الله يُهيء له ما يُطلَب منه وإليه، فكيف حين يطلب هو أو زوجته أو أولاده؟ سيُعطى بنسبة مائة في المائة، لا يُوجَد إلا هذا، هذه المُعامَلة مع الله، أرأيتم كيف هو الدين والولاية والثقة بالله؟ ثقة!
فهو ليس مثل صاحبنا هذا الذي حكى عنه الشيخ أبو إسحاق الحويني – أتم الله شفاءه وعافيته -، قال ذات مرة بعد الجُمعة هكذا ألقيت موعظة عن الإنفاق والعطاء، فذهب أحدهم وقد أخذه المجد هكذا – أخذه المجد كما يقولون -، وأخرج ما في جيبه، ثم ألقى به. وعلى بركة الله، تقبَّل الله! قال بعد ذلك جلس حزيناً. الشيخ الحويني كان يحكيها، قال وبعد ذلك حين قل عدد الناس، قال له يا شيخ أنا دفعت كل ما عندي. قال له نعم. قال له أُريد أن أرجع هذا. مسكين، عامي! ولذلك صدق مَن قال لا يبلغ العوام ما بلغوا مبلغ العلماء.
كان سيدنا الشيخ أبو شمس الدين عيسى الكُردى – ذكرته اليوم في الخُطبة، قدَّس الله سره – يروي هذا عن مُفتي الشام، الشيخ الحمزاوي محمود – قدَّس الله سره -، وهو العلّامة الكبير، من أكبر علماء سوريا في تاريخها، هذا الشيخ الحمزاوي! عالم كبير وصالح، كان يقول لا يبلغ العوام ما بلغوا مبلغ العلماء. حين يكون هناك عالم صالح وعامي صالح، يكون من الصعب جداً أن يبلغ العامي ما يبلغه العالم، لأن العالم بفهمه لطائف وأسرار الكتاب والسُنة والخطاب يصل إلى أغوار مُستحيل أن تصل إليها أنت بفهمك العادي ومن خلال آيات الوجود العادية، هذا كلام الملك الجليل – لا إله إلا هو -، وهذا عنده القدرة على الفهم، عنده النحو والصرف والبديع والمعاني والعرفان والكثير من الأشياء، وقرأ كلام العلماء وكلام العرفاء والآن يقرأ، فهذا غير، غير غير غير غير! والعالم عنده لُطف غريب على فكرة، العالم الحقيقي يكون عنده لُطف ورقة وفهم ونفاذ في الأشياء، مُستحيل تتهيأ للفدم العامي، العامي يكون فدماً، هذا المسكين يكون مُكودناً هكذا، وهو يظن أنه ليس هكذا، حتى ولو كان صالحاً للأسف تخرج منه في بعض المرات أشياء غريبة جداً، على صالحه! فكان هذا الشيخ يقول لا، العامي مهما مهما بلغ لا يبلغ مبلغ العلماء. أي مع استواء ماذا؟ مع استواء الحد الأدنى من الصالح. يظل العالم أكبر!
وهذا كلام القرآن، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ۩، الله الذي قال إنهما لا يستويان. فلا تضحك على نفسك، أنت تقول أنا عامي ولكنني صالح. حلو! أنت على عيني وعلى رأسي، صالح ونتبرك بك، ولكنك لا تصل إلى درجة الصالحين من العلماء، العالم عنده أنظار غير أنظارك يا أخي، وعنده فهوم مُختلِفة. الله يُعطيه هذا، ويُكافئه على علمه، هذا مُشتغِل بكلام الله وبكلام رسوله، فهل أنت تفهم مثله؟ مُستحيل.
ولا يبلغ العلماء ما بلغوا مبلغ الأنبياء. مُستحيل! ائت لي بأكبر عالم أو أكبر عارف من العلماء، ولن يصل إلى أدنى درجة نبي من الأنبياء. فهذه مقامات إلهية، أليس كذلك؟ يبقى النبي أعلى من الكل باستمرار. اللهم أعطنا ولا تحرمنا يا رب العالمين.
إذن وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۩، رأينا هذا، وتحدَّثنا عن السابقين، وأتينا بقصة الدكتور الشعال، السابقون عندهم إعطاء وكرم وكذا، لابد وأن يسبق الواحد منهم يا أخي، هذا يعمل للآخرة فعلاً، يعمل للآخرة! في الدنيا أنت تتعب كثيراً إذا أردت أن تعمل لنفسك شيئاً كبيراً، فمثلاً أنت تُريد أن تعيش في بيت غير ما تعيش فيه، أنت تعيش في بيت مساحته مائة متر، وتُريد أن تبني فيلا مساحتها خمسمائة متر مُربَّع، مع جنينة أيضاً هكذا مساحتها ألف متر، هذا شيئ كبير، وشيئ حلو! فتقعد عشر سنوات حتى تحقق هذا، أليس كذلك؟ وأنت طبيب جرّاح – مثلاً – أو مُهندس كبير، تقعد عشر سنوات، تُوفِّر وتحط وتُوفِّر، وبعد ذلك تشتري قطعة، وبعد ذلك تخططها، أي تضع لها المُخطَّط، وبعد ذلك تبدأ في الإنشاءات، وشيئاً فشيئاً تجهزها، وتحط لبنة على لبنة، وتقول هنا سيُوجَد جدار، وهنا سيُوجَد باب، وهنا سيُوجَد كذا، وهنا سيُوجَد كذا. تحتاج إلى سبع أو ثماني أو تسع أو عشر سنوات حتى تنتهي من أمر الفيلا هذه، ومن ثم ستذهب وتنتقل إليها. وحينها ستكون تعبت وهُلكت واقتصدت وعملت الكثير! الآخرة أولى أن تعمل لها مثل هذا المُخطَّط، أليس كذلك؟ وأنت بعد ذلك كم ستعيش؟ أنت عمرك الآن خمسون سنة، وأنت جرَّح كبير أو مُهندس خطير، وستمكث فيها عشر سنوات، أي إلى أن تصل إلى الستين، ثم كم ستعيش؟ راحت الدنيا! أليس كذلك؟ راحت الدنيا! تلك – أي فيلا الآخرة – للأبد، تعيش فيها للأبد، اعمل! فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ۩، امهد لنفسك هناك.
ذات مرة دخل واحد على أبي الدرداء وهو الصحابي الجليل، وأبو الدرداء كان في الشام في تلك الأيام، لأنه كان مع جُند الفتح، وكان يعيش مع زوجته وأولاده وكذا، فجاء صحابي من المدينة ونزل عليه، أي زاره، فأكلوا مما تيسَّر، كان هناك خُبز هكذا وزيت، لا شيئ عنده، زاهد! فأين غنائم الفتوح؟ لا تُوجَد. الغنائم! هناك غنائم وهي كثيرة، ولكنه يتصدَّق بها كله، هل هو أتى لكي يعمل للدنيا؟ هذه فتوح لوجه الله، والغنائم كلها لله أيضاً. وبعد ذلك قال له نُريد أن ندخل لكي ننام، فهيا، حتى نستطيع أن نقوم الليل بعد ذلك، أنت ستنام هنا وأنا سأنام هنا. فقال له أين سأنام؟ قال له هنا. قال له ألا يُوجَد مرتبة؟ أي قال له ألا تُوجَد Matratze؟ قال له نحن ننام هكذا على الأرض. يضعون شيئاً مثل هذا الغطاء (الشرشف)، يضعونه ثم ينامون ويتوكلون على الله. قال له أنت تنام هكذا؟ قال له أنام هكذا. قال له وزوجتك؟ قال له وزوجتي. أنا وزوجتي هكذا، وكلنا هكذا، نحن ننام هكذا، هذا الذي عندنا. ليس عندهم حتى مرتبة، ولا يُوجَد عندهم سرير بأربعة أرجل، لا!
قال له أين متاعك؟ أليس لديك متاع؟ قال له عندي، بلى، كيف لا يُوجَد عندي؟ قال له عندي متاع كثير. قال له عندي هذا. أي أبو الدرداء، يا أخي هؤلاء أُناس عجيبون، يا أخي هؤلاء تَلاميذ رسول الله – رضوان الله عليهم -، تَلاميذ رسول الله هؤلاء، هذا ليس لعباً! قال له فأين هو؟ قال له نُرسِله إلى دار أُخرى. عندنا دار أُخرى ونُرسِل إليها كل المتاع! قال له أين هي؟ يُريد أن يذهب لكي يرى هذا القصر. قال له عند الله. قال له ألم تفهم إلى الآن؟ عند الله – قال له -. قال له كل المتاع أنا أُرسِله إلى داري الأُخرى.
كلها أيام وتنقضي الدنيا، أيام! ونحن لا نُطالِبكم ولا نُطالِب أنفسنا بهذا، ولا نقدر! صعب علينا هذا، مع أن هناك أُناساً قادرون على أن يعيشوا هكذا، وهم قلة قليلة، نحن نتبرك بهم – والله -، نحن – والله – نتبرك بهم ونرجو دعواتهم. لا نُطالِب أنفسنا بهذا المُستوى، يا ليت! لكن هذا صعب علينا وصعب على أولادنا، لا نكذب عليكم، يُمكِن أن يشتهي بعضنا هذا، يشتهيه ويعشقه، أي أن يعيش هذا المُستوى من الزُهد والتقلل، ولكن لو عاشه، سيفتن أولاده، وربما يفتن زوجته، أليس كذلك؟ ونحن لا نُريد أن نفتن أهالينا، حتى يتمسكوا على الأقل بالدين قليلاً، وخاصة الصغار كما تعرف. فهل هذا واضح؟ فقال له هذا نُرسِله إلى الدار الأُخرى.
أنا كنت أعرف رجلاً صومالياً عجيباً، وكان وزيراً، وكان سفيراً، وكان أخاً لنا وصديقنا، هو كان يأتي إلى هنا، وأنتم تعرفونه، وهو رجل من الصالحين، من الصالحين – بعون الله تعالى -، ونحسبه كذلك.
قبل أن يُودِّعني قال لي الآتي، وذلك حين انتهى عمله، وطبعاً أنا حزنت، حتى أنني بكيت، لأنه أخ عزيز وحبيب جداً إلى قلبي حقيقةً، بيننا مودة في الله، فلما رآني بكيت وتأثَّرت قال لي انظر يا أخي، أنا أُطمئنك، أنا مُرتبي كذا وكذا. وذكر مُرتباً خيالياً، ولم أكن أعلم أن مُرتبه – ما شاء الله – هكذا، لأنه كان عميد السُفراء العرب، هذا الصومالي كان عميد السُفراء العرب، وسوف نقول اسمه، ولماذا لا نقوله؟ وهو ليس موجوداً هنا، وإن شاء الله مَن يسمع المُحاضَرة هذه، يدلنا على رقم تليفونه، اسمه الدكتور حسن شيخ عثمان الصومالي، الرجل الصالح – إن شاء الله تعالى -، وهو في أمريكا الآن، ولكن ليس عندنا أي تواصل معه للأسف الشديد من سنوات.
فقال لي انظر يا أخي، أنا أُطمئنك، أنا مُرتبي كذا وكذا. قلت له زاد الله وبارك، اللهم زِد وبارك. قال لي ولكن يا فلان – بفضل الله تبارك وتعالى – أنا أُرسِل القليل منهم إلى زوجتي وأبنائي – وهم كانوا في كندا، أي في تلك الأيام -، وأُعطي بعض أرحامي وقراباتي، وأتبلَّغ شهرياً بكذا وكذا. وفي تلك الأيام ذكر لي مبلغاً يُساوي الآن أقل من مائتي يورو، عميد السُفراء العرب يعيش بأقل من مائتي يورو! لأنه يعيش في جرسونيرة مساحتها كلها لا تتجاوز ربما الخمسة عشر متراً، وهي حقيرة. وهو قال لي لم تسمح له أن يستقبل ضيفاً واحداً، ولا أنا أيضاً! لأنها لا تليق بالمرة، وهو يُريد هذا، لأنه زاهد، حلو! فاستغربت أنا، ما هذا؟ ويلبس بدلة زرقاء، لم أر عليه غيرها، عنده بدلة واحدة، كان يُقابِل بها الرئيس، وكان يُقابِل بها السُفراء، وكان يُقابِل بها كل الدنيا، وهو كان سفيراً مُمتازاً، دائما تقديره مُمتاز، دائماً هو يأخذ الامتياز. الامتياز الامتياز الامتياز الامتياز! على أعلى درجة، هو كان دبلوماسياً عريقاً، عريقاً! ويحمل دكتوراة في الطب البيطيري، ويُجيد أربع أو خمس لُغات، وألَّف كُتباً في الدفاع عن الدين، وحالة! رجل – ما شاء الله – صالح.
قال لي والباقي يا فلان – بفضل الله تبارك وتعالى – أُرسِله إلى الدار الآخرة. وقال لي أنا أزيدك بيتاً من الشعر. قلت له نعم. قال لي وليس عندي حساب بنكي. قلت له ماذا؟ قال لي ليس عندي حساب بنكي، لا أحتاجه، أنا أبعث الأموال دائماً عن طريق أشخاص، وأستلم مُرتبي من الجامعة العربية عن طريق الحقيبة الدبلوماسية، وليس عندي حساب. قال لي وباقي مُرتبي – وربما طبعاً يُمثِّل ثمانين في المائة منه، أو أقل أو أكثر بقليل – أُرسِله إلى الدار الآخرة. الله أكبر! قلت معنا أُناس يعيشون في المُستوى هذا! وفعلاً مسح على كبدي كما يقول الإخوة الليبيون، مسح لي على كبدي هكذا، وارتحت واطمئننت أنه بعين الله، وأنه لن يُضام – بإذن الله تعالى -، ولن يضيع، وأينما ذهب هذا، سوف يقع واقفاً – بعون الله تعالى -.
اتصل لي بي مرة من الـ USA، وكان فرحاً، قال لي يا فلان. فقلت له نعم يا دكتور. قال لي أبشر، أبشر. وكان يبكي! قال لي رأيت سيدي رسول الله. وكان يتمنى أن يراه. تخيَّل! وعلى فكرة أُريد أن أُعطيكم معلومة ثم نختم:
إياكَ يا أخي المُسلِم ويا أختي المُسلِمة أن تحزن أو تيأس أو تبتئس إذا كنت مُجِداً في العبادة والطاعة وسلوك سبيل الصالحين، ولا تحدث لك مُكاشَفات أو كرامات أو مُنازَلات أو واردات أو خواطر إلهية، فأنت لم تر النبي – مثلاً -، لم يحدث لك أن رأيت النبي، إياك أن تحزن أو تبتئس وما إلى ذلك، بالعكس! والله – وأنا أحلف بالله – أنت على خير ما دُمت في خير. ألست في خير؟ أنت بعيد عن المعاصي، وتعمل الصالحات، ونيتك طيبة – إن شاء الله -، إذن أنت في خير. بل وجدت في كلام العرفاء وكبار العرفاء التحذير الشديد والتخويف من الكرامات والإلهامات والرؤى والمنامات، هذه أشياء خطيرة، وكم قطعت بأُناس! وكم دمَّرتهم! وكم ألحقتهم بالفاسقين والمُنقطِعين! والله العظيم، هذا هو طبعاً، غرتهم ولم يقدروا على أن يتعاملوا معها للأسف، ضاعوا! ضيَّعتهم، فربما الله يُريد بأكثرنا الخير حين يحجب عنا هذه الكرامات والمُكاشَفات والفتوحات وحتى رؤيا الرسول، لأننا لسنا قد الشيئ هذا إلى الآن، فيقول هذا رحمة بنا. والاستقامة عين الكرامة.
فانظر إلى هذا الرجل الصالح العجيب، أنا رأيت العجب من صلاحه وعبادته، كان يقرأ القرآن من سنوات طويلة ويختمه كل ثلاثة أيام مرة، كل ثلاثة أيام! ويقوم الليل بجُزئين ونصف. هو أسر لي بهذا لما ودَّعني، لكي يُطيّب خاطري، وكأنه يقول لي لا تخف علىّ، لا تخف على أخيك، على حبيبك في الله. ما دمت مع الله، فلا تخف علىّ. يختم القرآن كل ثلاثة أيام باستمرار باستمرار باستمرار، تخيَّل! وقد قرأ عدة تفاسير بالعربية، مع أنه صومالي، قرأ عدة تفاسير بالعربية، قرأها وعلَّق عليها وكذا، وكان مُجتهِداً – ما شاء الله – في العلم والفهم، شيئ مثل السكر، تمر! شيئ من أحلى ما يكون! ويقوم الليل بجُزئين ونصف، كل ليلة يفعل هذا، كل ليلة! قال لي على الأقل هذا من عشرين سنة. ولا أزال أذكر هذا، قال لي يا شيخي هذا من عشرين سنة – بفضل الله تبارك وتعالى -. تخيَّل!
إذن هو لم ير الرسول طيلة هذه المُدة، معنى هذا أنه حين قال لي إنه رأى الرسول، أنه لم يره من أكثر من عشرين سنة، ومع ذلك لم ينقطع ولم ييأس ولم يبتئس وما إلى ذلك، أبداً أبداً أبداً! الله طلب منا الاستقامة، وهو يُحاوِل. وبعد ذلك جاءه النبي، ثم انظر ماذا حصل حين جاءه بعد ذلك، ويا لها من رؤيا! كان يُحدِّثني في التليفون ويبكي، قال لي جاءني. قلت له حدِّثني. وأنا استعبرت، قلت له حدِّثني، كيف؟ ماذا قال لك؟ قال لي خلع رداءه – أي ثوبه – وألبسنيه. يا الله! هذه هي الرؤيا، هذه هي الرؤيا، تستأهل ليس عشرين سنة، بل تستأهل مائتي سنة، ما معنى أنه ألبسه ثوبه؟ أنه وارث محمدي كامل. قال له أنت الآن وارث لي، وارث لعلمي وحالي. وهذا يُسمونه الوارث المُحمَّدي، وهو معروف! إذا النبي ألبس أحدهما ثوبه، فسيكون تفسيرها هكذا، وهو تفسير واحد، أنه وارث محمدي كامل، عامل رباني كامل، بعد عشرين سنة!
هناك الشيخ كشك – رحمة الله على روحه -، الواعظ، الصالح، ولي الله، الصدّاح والصدّاع بالحق، الذي كان يتمنى أن يموت ساجداً، ومات ساجداً، وقبل أن يموت كان يعرف أنه سيموت، وقال لزوجته يا فلانة استعدي. قالت له ما الأمر؟ عمره ثلاثة وستون سنة، وهو قوي، هو أقوى منا، وكان عنده – ما شاء الله – صحة مُمتازة، وصحته كانت سليمة. قال لها اليوم لقاء الأحبة، محمداً وصحبه. حزنت وقالت له يا شيخ عبد الحميد! قال لها أهبلتِ يا امرأة؟ أنا أقول لك إنه لقاء رسول الله، أنتِ حزينة لماذا؟ والرجل كان يأخذ الأمور بجدية، وهذه المسكينة كانت حزينة، لأنه زوجها وأبو أولادها. قال لها هيا ادعكي جسمي – أي (افعكيني) كما يُقال -. قال لها قومي بتحميمي وادعكي جسمي دعكاً قوياً. قالت أعطاني الليفة ودعكت جسمه أكثر من مرة، ولبس ثيابه وتعطَّر وما إلى ذلك، ثم قام إلى صلاته، وهو ساجد أسلم الروح – قدَّس الله سره -.
هذا الشيخ عبد الحميد كشك، هذا ولي الله الكبير، والرجل الصالح العجيب – رضوان الله عليه -. هذا حصل معه الشيئ نفسه، قال مر علىّ دهر طويل، ولم أر فيه رسول الله. وانظر إلى أي درجة بلغ الصدق، قال ولم أر فيه رسول الله، ولا مرة!
جاء واحد لابن سيرين وقال له يا إمام، يا إمام رأيت الرسول. نظر إليه ابن سيرين وعلم حقيقته، لأنه من أهل الله، انتبه وإياك أن تلعب مع أهل الله، أهل الله ليسوا أهل العلم مثلنا وما إلى ذلك، لا! يرون بنور القلب، أنت حين تأتيه، يرى حقيقتك، والله العظيم! هذه فضيحة، ولكن هم قلوبهم كالبحر، فلا يتكلَّمون. هو يرى حقيقتك، وأنت تظن أنك خدعته عن حقيقة وضعك، ولكن هو يرى حقيقتك.
فنظر إليه ابن سيرين وهو عالم رباني، ثم قال له على أي هيئة رأيته؟ قال رأيته عارياً. قال له نعم. قال له وأنا أستره. قال له اغرب عن وجهي. قال له عرفتك مُذ رأيتك، أنت رجل يستر الحق. تقول رأيته، ولكن كيف رأيته؟ انتبهوا، هذا شيئ مُخيف، مع أنه قال رأيت النبي، وهناك أُناس يتوهم الواحد منهم أنه رأى النبي، يغمض عينيه هكذا ثم ينام ويقوم هذا المسكين وهو يتخيَّل، ثم يقول لك رأيت النبي وقال لي كذا. أنت لم تره، أنت تكذب يا مسكين، أنت تكذب على نفسك، أنت لم تره، أنت كنت تنام وتقوم وكنت تتخيَّل، كنت تقول لنفسك كيف لو جاءني؟ وما إلى ذلك، رؤية النبي لا تكون هكذا، رؤية النبي عالم آخر، وحين تراه حقاً ويأتيك ليُبشِّرك، ينقلب كيانك، ما رأيك؟ ينقلب كيانك! إذا أتاك فعلاً مُبشِّراً مُحِباً مُثنياً عليك، فإن حقيقتك تنقلب – بإذن الله – إلى خير ونور وبر وسر، مسألة كبيرة رؤية النبي، هذا ليس أي كلام يا أخي، أنت تتوهم وتقول لي هذا رآه هكذا وهذا رآه هكذا. ليست هكذا القضية، هل هذا واضح يا إخواني؟
فالمُهِم أنه قال لي رأيته وألبسني ثوبه. ولم أعرف طبعاً ماذا قال له بالضبط، نسيت الآن هذا بصراحة، فهو أيضاً قال له كلمات، لكن الآن نسيتها، ولا أستطيع أن أتكلَّم، لأن هذا افتراء، انتبهوا! أي واحد يتكلَّم ويقول رأيت أو لم أر، ولا يكون دقيقاً أو حتى لم ير من الأصل، سيُحاسِب يوم القيامة وكأنه ادّعى النبوة، يا حبيبي أنت مع مُسيلمة، أرأيت؟ تعالوا وائتوا بمُسيلمة وائتوا بهذا معه. يا ربي أنا مُسلِم! يقول له مُسلِم؟ أنت من جماعة مُسيلمة. يا ربي أنا مُسلِم مُوحِّد، أنا كنت أُصلي بالناس، أنا كنت إماماً. يقول له كذّاب، أنت كنت تتحلم بأحلام لم ترها، كنت تدّعي وجود مرائي لم ترها. والنبي قال ماذا؟ ذهبت النبوة ولم تبق إلا المُبشِّرات، الرؤيا الصالحة يراها المُؤمِن أو تُرى له. إذن النبي قال الرؤيا الصالحة جُزء من النبوة، وفي رواية جُزء من أربعة وأربعين جُزءاً، وفي رواية جُزء من أربعين جُزءاً، وفي رواية جُزء من ستة وأربعين جُزءاً، وهناك روايات أُخرى! فهي جُزء من أجزاء النبوة، الذي يدّعيها كذباً، كأنما ادّعى ماذا إذن؟ النبوة. يا ويله!
وفي الحديث الصحيح – هذا في الصحيح مُخرَّج – قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن تحلَّم بحلم لم يره، كُلف يوم القيامة أن يعقد بين شُعيرتين. تخيَّل أنك تعقد بين شَعرتين طويلتين، والشَعرة هذه ملساء، فكيف تعقد شَعرة على شَعرة؟ مُستحيل! فكيف إذن بشُعيرتين؟ أي هناك واحدة طولها – مثلاً – واحد سنتيمتر وهناك واحدة طولها واحد سنتيمتر، ويقول لك اعقد بينهما. وهناك أُناس ضبطوها ضبطاً آخر، ولكن لم أقتنع بهذا، هي شُعيرتين، واضح أنها ماذا؟ شُعيرتين. يُقال لك اعقد. فتقول لا أقدر. فيُقال لك لا تقدر؟ إذن النار، اذهب إلى النار يا كذّاب – أي هذا البعيد -. مسألة خطيرة، مسألة خطيرة! أي المرائي هذه، فإياك وهذا، إياك!
واكتم، والرؤيا تسر ولا تغر، الرؤيا تسر ولا تغر! واحد قال لآخر رأيت أنني وإياك في الجنة، في أعلى عليين. فقال له أما وجد الشيطان مَن يتلاعب به غيري وغيرك؟ قال له هو أتى لكي يلعب عليك وعلىّ، وهو أراد أن يلعب علىّ عن طريقك، اذهب، وقم من هنا، دع هذا الهبل، كيف نكون في عليين أو في غير عليين؟ أنا أعرف نفسي – قال له -، نحن نحتاج إلى شغل كثير، نحتاج إلى دعك، لا نزال نحتاج إلى دعك، فكيف نكون في عليين أو في غير عليين يا رجل؟ قال له اذهب، وقم من هنا.
فالرؤيا تسر ولا تغر، إياك أن تغتر بها، إياك! وقلنا اليوم الغرور والاغترار هو التعويل على ما لا حقيقة له. فانتبه وإياك أن تُعوِّل على أشياء ليس لها حقائق، عوِّل على الحقائق القوية الصُلبة، هل هذا واضح؟ حتى ولو جاءك النبي، وقال لك يا فلان أُحِبك، وأنت من الصالحين، وأنت من أهل الله، وأُبشِّرك بالجنة. جيد! افرح بهذا، ولا تركن إليه. والآن سوف نقول لماذا، ثم نختم الدرس.
انتبه، قال لك مَن اطمأن إلى المنامات، تحت جناح المُنى مات. تحت جناح المُنى مات! ومَن اطمأن إلى الكرامات – الله عمل له كرامة وخراقة -، تحت جناح الكرا مات. يذهب وينام عليها! أنت تعرف الكرا، فهو يذهب وينام، ومن ثم يهلك. وذاك أبو المنامات، يقول لك كل يوم رأيت لكَ ورأيت لي ورأيت لكَ ورأيت لكِ. وهو يُسجِّل هذا ويفرح بالرؤى كلها، لأن هناك أُناساً يكتبون كل رؤاهم كما يقولون.
ولذلك مَن اطمأن إلى المنامات، تحت جناح أو جُنح المُنى مات. يصير يتمنى فقط، يهتم بالأُمنيات، أُمنيات أُمنيات أُمنيات! ثم ينتهي أمره، أليس كذلك؟ لا تفعل هذا، اطمئن إلى الحقائق، إلى العمل، إلى تجديد النية. والحي لا تُؤمَن عليه الفتنة. والنبي – عليه السلام – حين كان الله يعده موعدة، لم يكن يطمئن اطمئناناً مُطلَقاً لها، فلماذا إذن؟ لأنه كان يعرف بواسع علمه وغوص فهمه للأسرار الربانية أن كل موعدة أو كل وعد رباني يكون مُعلَّقاً على شروط، تحقيق شروط وانتفاء موانع! أليس كذلك؟ إن حصل مانع أو تخلَّف الشرط، فإن العِدة لا تتحقَّق. هل فهمتم؟ اتضح أن هذه مسألة مُخيفة، وهذا كان يفهمه النبي.
ولذلك يقول سيدنا ابن عجيبة في شرح الحكم النبي غداة بدر كان يدعو الله ويستنجزه وعده ويبكي ويُرسِل دموعه ويرفع يديه، كان اللهم أنجزنا وعدك، اللهم وعدك ونصرك، اللهم إن تهلك هذه العصابة… اللهم… اللهم… حتى وقع بُرده الشريف عن عاتقيه الشريفين. وأبو بكر كان يقول له يا رسول الله اربع على نفسك، هوِّن على نفسك، فإن الله مُنجِزك ما وعدك. والنبي لا يُعوِّل على كلام أبي بكر، ويقول اللهم… اللهم… فالعلماء قالوا لك أين أبو بكر من رسول الله؟ أبو بكر أخذ ظاهر المسائل، أن الله وعده، لكن النبي يفهم بواطن الأشياء، وعدني وكل وعد يكون مُعلَّقاً على انتفاء موانع وتحقق شرائط، إن وُجد مانع أو تخلَّف شرط، فلن يتحقَّق الوعد، والله سوف يقول لك ليس هذا العهد. لأن هذه صفقة، هي هكذا، أي Deal، صفقة! إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ ۩، أليس كذلك؟ يقول لك هذه صفقة، وأنت لم تف بشروط الصفقة، فليس عندك البدل. أليس كذلك؟ افهموا.
ولذلك لا تغتر، ولا تقل إن النبي جاءني وقال لي أنت صالح وأنت رفيقي في الجنة. لا تغتر بها! أنت صالح ورفيقه في الجنة لو استقمت على ما أنت فيه – بإذن الله – ولم تُغيِّر ولم تُبدِّل وازددت في الخير. إذا بعد ذلك غيَّرت وبدَّلت و(خربطت)، فلن يحدث ما قاله لك، مَن قال لك إنك ستظل رفيقه؟ هذا الشيئ نفسه، هناك شروط وموانع يا حبيبي، فالمسألة خطيرة، والأفضل ألا تُعوِّل كثيراً على موضوع المنامات والكرامات والخوارق والفتوح والكشوفات، وعوِّل على الاستقامة.
والله أكبر كرامة هي الاستقامة، ولماذا حلفت؟ لأن في هذا الزمان الصعب الرديء يا إخواني الاستقامة (الاستقامة القاطعة الصارمة) صعبة جداً جداً جداً، أليس كذلك؟ أصعب شيئ أن تستقيم، دواعي الفتنة ودواعي الزلل والخطل والغلط كثيرة جداً، والناس لا يُعينون، أليس كذلك؟
أنت اليوم حين تُحاوِل أن تعمل بدينك وأن تعمل بتقواك – مثلاً – وألا تُسيء إلى مَن أساء إليك وألا تسب مَن يسبك وألا تنال مِمَن ينال منك، الكل يصير ضدك، يُقال لك لماذا؟ تكلَّم، قل، سب، رد. يا جماعة لا نُريد هذا، هذا ليس لله، لو عملناه، فسيكون لنا، وليس لله. يقول لك أحدهم لا، أنت ليس عندك الحق، لعلك تكون خائفاً، لعلك تكون غلطاناً، لعلك تكون محقوقاً، لعلك غير فاهم، ولعلك… كلهم يصيرون ضدك، لا عليك منهم، أُقسِم بالله! إياك أن يستخفوك، وقل اللهم قوّني، اللهم قوّني، اللهم لا أضعف فأنتصر لنفسي ولهواي وأُغضِبك. حاشا لله!
قديماً كان يحدث العكس، مُعظَم الناس كان فيهم صلاح، كانوا يقولون لك لا، اسكت، اتق الله، اكظم الغيظ، لا تفعل هذا، فتّش النية. الإمام النووي – قدَّس الله سره – هل تعرفون كيف كان يُحاسِب نفسه؟ وهو يتكلَّم، ليس بعد أن يتكلَّم أو قبل أن يتكلَّم فقط، وهو يتكلَّم أيضاً كان يُحاسِب نفسه، قال لك أحياناً وهو يتكلَّم بالجُملة، يسكت فجأة ولا يُكمِلها، لماذا؟ يلتفت إلى أن نيته صار فيها تغير. أوه! هناك انحراف.
فماذا لو أردت الآن – مثلاً – أن أقتدي بالنووي؟ أين أنا من النووي طبعاً؟ أين البقل من النخل الطوال؟ لابد وأن تقتدي بهؤلاء الكبار العظام، انتبه إلى نيتك وأنت تتكلَّم الآن، إذا كنت تعني نفسك، فيا حياهلاً، (انزل على رأسك) واضرب كما يُقال – أي تحدَّث بصراحة واذكر ما شئت عن نفسك -، فلا تُوجَد مُشكِلة. ولكن إذا تغيَّرت نيتك وأنت تتكلَّم، فقلت لنفسك نعم، وفلان هذا أيضاً، فلان هذا ينطبق عليه الكلام، سأتكلَّم لكي يفهم. فلا تُكمِل! توقف عن الكلام، كلامك لم يعد الآن لله، صار نوعاً من التعيير، نوعاً من (تلقيح الكلام) كما يُسمونه بالعامية، نوعاً من الشماتة، بمعنى أنك تقول له أنت عندك الشيئ هذا، ولكن أنا سأسكت، لن أقول هذا، ولكن أنت فاهم وأنا فاهم. لا! لا تقلها، وامسك لسانك. أرأيت؟
فقالوا لك إن النووي كان هكذا حاله، وهو يتكلَّم، يسكت فجأة. لماذا؟ الكلمة لم تعد لله، كانت لله في الأول، والآن لم تعد لله، ومن ثم توقفنا عن الكلام. أوه! هؤلاء الناس الربانيون. اللهم ألحقنا بهم، وسلِّكنا كما سلَّكتهم، واغفر لنا ولهم أجمعين، ولا تُؤاخذنا يا ربي بما فعل السُفهاء منا.
الحمد لله رب العالمين، وصلَى اللهم وسلِم وبارَك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وجزاكم الله خيراً.
أضف تعليق