الحلقة 14 من برنامج#تفسير_القرآن_الكريم والتي فسر فيها الدكتور#عدنان_إبراهيم سورة فاطر الآيات 18-22
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، يا ربي لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه، كما تُحِب وترضى، حمداً يليق بجلال وجهك وبعظيم سُلطانك. لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين الميامين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
ربنا تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركوعنا وسجودنا ودعاءنا، واختم بالسعادة آجالنا وبالباقيات الصالحات أعمالنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا. اللهم آمين.
۞ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ۞
أما بعد، إخواني وأخواتي:
وقفنا عند قوله – تبارك وتعالى – من سورة فاطر وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۩، وبلغنا قوله إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩ من الآية ذاتها، وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ۩.
وكانت استطرادة وعظية، نسأل الله أن يكون نفعنا جميعاً بها، دارت على معنى – إخواني وأخواتي -، أن معاني وأنوار وبركات ودلالات هذا الكتاب الأعز الأكرم تقريباً محجوبة عمَن لم يتمتع بالأحوال الإيمانية، حتى وإن كان مُؤمِناً بحسب الظاهر وبحسب المُعتقَد أيضاً، لكنه ذو إيمان ضعيف جداً، لا يُنتِج أحوالاً قويةً، من الخشية والمحبة والإنابة والرجاء والإحساب والتوكل وما إلى ذلكم.
الكتاب في حق مثل هذا تقريباً مُغلَق، وهذه محنة، هذه محنة عظيمة على فكرة، يعيشها كثيرٌ من المُسلِمين والمُسلِمات، وهم لا يتفطنون لها. يسمعون القرآن ويقرأونه، وفعلاً تأثير القرآن جد ضعيف في حياتهم، يخرون عليه صُماً وعُمياناً، لا يكادون يستفيدون منه بشيئ، لماذا؟ لأنهم لا يُقبِلون عليه بهذه الأحوال، الله يقول إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩، مَن كان مِن أهل الخشية، ينتفع بالكتاب، ينتفع بالنذارة، تُزلزِله آيات النذارة، التذكير بالقيامة والحساب والموازين وجهنم، تُزلزِله! بعض الناس يُغشى عليه، في بعض السلف الصالحين كثيرون ماتوا، والقصص هذه معروفة، ومعروف كيف ماتوا، ماتوا وهم يسمعون أو يقرأون القرآن، صُعقوا وماتوا، إذن هم فعلاً تحققوا بالخشية، هؤلاء يا إخواني تحققوا بمقام الخشية، بشكل سليم، لذلك انتفعوا بالنذارة في أعلى مُستوى لها.
وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ ۩، أيضاً لكي تتذكَّر، لابد وأن نكون من أهل الإنابة. عمر بن الخطاب – هذا الرجل القوي العظيم الواثق، رضوان الله تعالى عليه – كان يخر على ركبتيه مثل طفل صغير، مثل عبد حقير، إذا ذُكِّر بآية. يُقال له يا أمير المُؤمِنين قال الله تعالى كذا، فمُباشَرةً يخر، لأنه من أهل الإنابة، وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ ۩، يتذكَّر مُباشَرةً! إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا ۩.
المحنة – حتى لا أُطيل في شرح هذا المعنى، وأترك الباقي لكم، فكِّروا أنتم واحرثوا أرض هذه المعنى بمسحاة الاعتبار والاتعاظ إن شاء الله تعالى، مُستعينين على هذا بالتوبة الصادقة، وسوف يُفتَح عليكم، على كلٍ بحسبه إن شاء الله تعالى – في أقسى وأبشع صورها تكون إذا تذكرنا أن الله – تبارك وتعالى – وصف الكفّار ونعتهم بأنهم موتى، لا يسمعون، ووصفهم في آيات أُخرى بأنهم لا يُبصِرون ولا يسمعون، وعلى قلوبهم غشاوة، وقلوبهم في وقر، وأسماعهم في وقر، وقلوبهم مطبوع عليها وعليها غشاوة، كأنهم ما سمعوا أبداً، وكأنهم ما ذُكِّروا، وكأنهم ما أُنذِروا، ولا شيئ! وللأسف يبدو أن المُسلِمين أيضاً والمُؤمِنين عندهم حظ كبير من هذا الصمم، من هذا العمى، من هذا – والعياذ بالله – عمى القلب أيضاً، لماذا؟ لأنهم لا يتمتعون بالأحوال الإيمانية، التي هي شرط في فهم الكتاب والاتعاظ به.
لذلك – كما قلت أمس، وهذا خُلاصة موعظة أمس القصيرة أو الطويلة، هذا كما قلت يا إخواني – كفى، أقول لنفسي أولاً وأعظ نفسي أولاً، كفى! كفى تفلسفاً وكفى مُطارَدة للشُبهات والدفاع عن الإسلام وإثبات صلوحية الإسلام وحقانية الإسلام وأنه أحسن دين وأفضل دين. هيا للعمل بالدين، كفى! كفى كلاماً وتفلسفاً، وهذا هروب كله على فكرة، هذا هروب لئلا نعمل بالدين، وأنا لمست هذا الآن، أصبحت ألمسه فعلاً لمس اليد في الشباب بالذات للأسف، الشباب مُستغرَقون في هذه القضية، شُبهات في كل شيئ! هل تعرف لماذا؟ والواحد منهم لا يُصلي، لا يُصلي! وإذا صلى، صلى وكأنه لا يُصلي، وربما لا يصوم أيضاً، وليس له أي علاقة بكل الفرائض الدينية، ولكن هو يقول لك أنا مُسلِم. وهذا جميل، ونسأل الله أن يُعظِّم جذوة الإيمان في قلبه وأن يُشعِلها حتى تُورِث هذه الأحوال والمواجيد الراقية العالية النبيلة المُهِمة المُقدَّسة، ولكن هو مُسلِم بلا شك، مُسلِم ويُحِب دينه ويغار على دينه، ولكن إبليس يستزله، وإبليس يستهويه، وإبليس يُلبِّس عليه من حيث لا يعلم، من أي باب؟ من باب الدفاع عن الإسلام، وحُب الإسلام، ومُناظَرة الملاحدة والكفّار والملاعين ومَن لا أعرف. إلى متى؟ متى أنت ستعمل كمُسلِم؟ بما أنك مُقتنِع بالإسلام وتغار على الإسلام، متى ستعمل أنت بالإسلام؟
وعلى فكرة حين تعمل أنت بالإسلام، تُصبِح لك قوة هدائية، أنت لا تتوقعها، وهذا ليس باللسان، هذا بمُجرَّد أن تُصبِح عبداً صالحاً، عبداً مُنوَّراً، ذا أحوال، ذا صلة حقيقية بالله – تبارك وتعالى -، هناك علاقة، جذوة الإيمان اشتعلت! اشتعلت، اشتعلت، اشتعلت. هذه الجذوة اشتعلت، أو سراج الإيمان استنار، وارجع إلى آية المشكاة من سورة النور، اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۩، هذه ستُورِث إنارة كبيرة، لك ولكل مَن اتصل بك – بإذن الله تبارك وتعالى -.
أصحاب الأحوال، الكاملون بالذات من أصحاب الأحوال يا إخواني، يهدون بمرآهم – بإذن الله تبارك وتعالى -، بمُجرَّد أن تقترب منهم أيضاً بأي طريقة، تشعر بأنك أصبحت أقرب إلى الله، وأنك تُحِب الله، وتُحِب الدين، وتُحِب الفضائل، وتُحِب العفة، وتُحِب الأمانة، وتُحِب الصدق، وتُحِب العبادة، وتُحِب الذكر، وتُحِب الرسول، وتُحِب الصالحين. بمُجرَّد أن تقترب دون أن يتكلَّموا، وهم لا يتكلَّمون كثيراً شأننا، لا يتكلَّمون كثيراً، كلامهم قليل، لأنهم مأخوذ عليهم في كل ما يقولون، وهم يعلمون هذا، ويعيشون هذه الحالة، لأن ملك السيئات هذا جاهز فقط لأن يكتب، انتبه! ولذلك كلامهم قليل، ولا يكون إلا في الخير.
إذا أردت فعلاً أن تُدافِع عن دينك، فعِش دينك أولاً. ثم إذا أردت بعد ذلك أن تدعو إليه، فادع إليه بقوة أحوالك، بقوة صفائيتك وشفّافيتك، بقوة روحانيتك.
اليوم كنت أحكي لأحد أحبابي ونحن في الطريق إلى المسجد الآتي، كنت أقول له لعلك تذكر قبل سنوات أنني حدَّثتكم عن قصة العارف بالله والرجل الصالح بشر بن الحارث الحافي. ولماذا يُسمى الحافي؟ باختصار بشر هذا كان رجلاً من أهل الدنيا، عنده أموال وهم مُسرِف على نفسه، المُهِم ذات ليلة وكان قد دعا إلى بيته ضيوفاً، وكانوا في قصف ولهو، غناء وموسيقى ورقص وقينات – أي جواري مُغنيات – وشُرب – والعياذ بالله – وغير ذلك. أي قصف ولهو! إذ خرجت إحدى خوادمه بشيئ من القمامة، لكي ترميها في الخارج، فلقيها رجل، كان ماراً، وقال لها يا أمة الله، أأنتِ من هذه الدار؟ قالت نعم. قال أصحاب هذه الدار عبد أم سيد؟ قالت له سيد. قال لا، لو كان سيداً، ما تحكَّمت فيه أهواؤه، صاحب هذه الدار عبد لأهوائه. هذا عبد، رقيق في أهوائه! نفسه تتحكَّم به.
تأثَّرت هذه الجارية بهذا الكلام، وانطلق الرجل، فلما دخلت رآها بشر بن الحارث، وإلى الآن هو اسمه بشر بن الحارث، فقط! وجدها وقد تغيَّر وجهها، فقال لها ما بكِ؟ قالت له حصل كذا وكذا وكذا. فوقعت الكلمة في قلبه كالرصاصة، وخرج حافياً – خرج حافياً، ولم ينتعل – إثر الرجل، فأدركه في آخر الطريق. قال يا سيدي مَن أنت؟ قال أنا عليّ الرضا ابن رسول الله. جعل يبكي، يبكي ويُقبِّل يديه، ويقول يا سيدي ادع الله لي، يا سيدي ادع الله لي، وهكذا! قال تاب الله عليك يا أخي، تاب الله عليك. قال له أُشهِدك وأُشهِد الله أني تُبت من ساعتي هذه.
قال له أنت رقيق، أنت تظن أنك حر؟ أنت عبد، تتحكَّم فيك أهواؤك وشهواتك، وتظن أنك حر! بعض الناس يظن الواحد منهم أن الحرية هي أن يفعل ما يشاء، في حين أن هذا جوهر العبودية.
ملكت نفسي مُذ هجرت طبعي اليأس حر والرجاء عبد.
الحرية الحقيقية أن تتحرَّر من شهواتك، من غرائزك، وأن تزمها وأن تخطمها، وأن تتصرَّف بها بميزان وقانون الشريعة. فقط! أنت الآن حر، هذه الحرية. وعلى فكرة هذا تعريف الحرية عند السادة العارفين بالله، هذه الحرية! فقد يكون عبداً في رق غيره من البشر، وهو حر، وسيده الذي استرقه عبد، عبد عبودية كاملة، وهذا حر حرية خالصة. هذه هي الحرية!
عاد بعد ذلك وهو يبكي، صرف ضيوفه، كسَّر ما لديه من زجاجات خمر، وأصبح بشر بن الحارث الحافي، لم ينتعل إلى أن لقيَ الله. ويسألون لماذا لُقب بالحافي؟ قال هذه الساعة التي لقيت فيها هذا الرجل الصالح وتاب الله علىّ فيها أبرك ساعة في حياتي، وقد لقيته حافياً، فلا أنتعل حتى ألقى الله. وظل يمشي حافياً، ولُقب ببشر بن الحارث الحافي.
هل الإمام الرضا – عليه السلام – ألقى عليه مُحاضَرة امتدت نصف ساعة؟ أبداً، أبداً! كلمة هي، كلمة واحدة! ولكن من قلب مُخلِص. الإمام الرضا حين قال هذه الكلمة كان حزيناً، كان محزوناً على واحد من أمة محمد مُسرِف على نفسه، لو لقيَ الله هكذا، حريٌ أن يهلك، الأرجح أن يهلك طبعاً! أي هل سيذهب إلى الجنة حينها؟ ليس بعد الحق إلا الضلال، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۩، فكان حزيناً وتمنى له الخير، ولذلك وقعت الكلمة موقعاً من الجارية ومن الرجل مُباشَرةً، ولم يقل هذه الكلمة بقصد الشماتة أو إظهار الامتياز عليه، ولم يقل نحن آل البيت الطائعون وأنت إنسان عاص. أبداً، أبداً، أبداً، أبداً! بكل شفقة ومحبة، كما تُحِب الخير لابنك وابنتك، وهذا حال الداعية الصحيح.
ولذلك يا إخواني كفى، كفى! علينا أن نتدين، أنا أدعو إلى ما نظن أننا مُمعِنون فيه، ونحن منه على الشاطئ، فقط على الشاطئ! لم نُبحِر فيه، نحن لم نعرف الدين، ولم نُطبِّق الدين، نحن نتكلَّم فقط في الدين، نحن نُنظِّر للدين، الدين تطبيق حقيقي بشرط الصدق والإخلاص، هل هذا واضح يا إخواني؟ بشرط الصدق والإخلاص، فقط! هو هذا، والغاية أن تكسب، تكسب ماذا؟ تكسب نفسك. قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمُعتِقها أو مُوبِقها. انظروا إلى الحديث الصحيح الجميل العجيب هذا، كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمُعتِقها أو مُوبِقها. الله أكبر! فقط، قال كل الناس مع كل صباح يخرجون بالغدو، يخرجون! يبيعون أنفسهم، فمن بائع نفسه لله، يُعتِقها. أعتقها من نار جهنم! ومن بائع نفسه للشيطان، يُوبِقها، أوبقها في نار جهنم. إذن كل الناس يغدو، فبائع نفسه. الكل يبيع نفسه! ومنهم مَن يبيعها لله، فمُعتِقها، ومنهم مَن يبيعها للشيطان، فمُوبِقها. هذا معنى قوله فبائع نفسه، فمُعتِقها أو مُوبِقها. إن باعها لله، أعتقها. إن باعها للشيطان، أوبقها. نسأل الله أن نكون من المُتاجِرين مع الرحمن – لا إله إلا هو – بأنفسنا وأموالنا وكل ما خوَّلنا – تبارك وتعالى -.
إذن إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ۩، وطبعاً تقريباً لا يكاد الله – تبارك وتعالى – يذكر الصلاة، يندب إليها، ويأمر بها، إلا وعنونها بماذا؟ إلا وعنونها بالإقامة. ليس فقط يُصلي، بل ويُقيم، يُقيم! الله يُريد لك أن تُصلي كما هي حقيقة الصلاة، وليس كما هي رسوم الصلاة وأشكال الصلاة، حقيقة الصلاة! وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ۩.
وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ۩، الله يقول هذه هي طريق التزكية، أرأيت؟ طريق الأحوال والمواجيد والمقامات، مقام الخشية، أرأيت؟ مقام الانتفاع بالنذارة، بشرط الخشية، يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩، ما معنى يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩؟ المعنى المُتبادر لأن الله – عز وجل – غيب الغيوب، وقضايا الإيمان الكُبرى كلها ماذا؟ غيوب. ومع أن الله – جل في عليائه – هو غيب الغيوب، إلا أن عباده الصادقي الإيمان يخشونه. وقيل يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩ وهم – أي هذه في موضع النصب على الحال بهذا المعنى – في حال غيبةٍ عن أعين الرُقباء. أي وهم وحدهم، حين يكونون في الخلاء يخشون ربهم، هذا معناها! أي وهم غائبون عن الناس، باختصار هي هكذا، وهم غائبون عن الناس! حين تكون وحدك تخاف الله – تبارك وتعالى -، هناك أُناس يخافون الله أمام الناس، وإذا كان الواحد منهم وحده، فإنه لا يخاف. إذن هو يخاف الله أم يخاف الناس؟ هو يخاف الناس. إلهه هو الناس، ربه هو الناس. والله؟ هو لا يعرف الله. لو عرفه، لخافه بالغيب. لا! هو بالغيب يفعل ما يُريد، ما شاء الله عليه، وأمام الناس يدّعي أنه صالح للأسف، نعوذ بالله من النفاق والكذب في الدين.
فهذا إلهه الناس، وربه الذي يخشاه الناس. أما الله الذي هو الله الحق، فهو لم يعرفه، ولم يتصل به. لذلك هو يجترئ على أن يفعل ما يُريد بالغيب. في حديث ثوبان المعروف – رواه ابن ماجه في السُنن، حديث مُخيف! من الأحاديث المُخيفة – ليأتين أُناس من أمتي يوم القيامة بأعمال مثل جبال تهامة بيض – فما معنى هذا؟ ما معنى أنها بيض؟ معناها أن هذه أعمال خير. أي صلاة وصيام وقيام وحج وعُمرة وصدقات وقرآن ووعظ وعلم ودين. أشياء طيبة كلها -، فلا يُبالي الله بها، ويأمر بها، فتصير هباءً منثوراً. إذن هلكوا وضاعوا، ضاعوا! ماذا يبقى لهم؟ تبقى لهم صُحف السيئات، الأعمال السوداء المُدلهِمة، الأعمال البيض هذه انتهت، الله يمحقها كلها، وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ۩، هذا في حق الكفّار، هناك مُسلِمون من أمة محمد يحصل معهم الشيئ نفسه، أي مثل الذي يحصل مع الكفّار، أعمالهم الصالحة تُمحَق، ضاع كل هذا!
والصحابة طبعاً ريعوا، أخذتهم الروعة والخوف، فقالوا يا رسول الله مَن هم؟ أي مَن هؤلاء؟ ما قصتهم هؤلاء؟ قال هم منكم، من هذه الأمة! من هذه الأمة هؤلاء، أي هؤلاء ليسوا من خارجها، من هذه الأمة! قال منكم، يُصلون كما تُصلون، ويأخذون وهناً من الليل. أي ويُمكِن أن يقيم بعضهم الليل، فما القصة يا رسول الله إذا كانوا يُؤدون الفرائض ويقومون الليل في بعض المرات؟ قال ولكن كانوا إذا خلوا بمحارم الله، انتهكوها.
لذلك إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ۩ في سورة المُلك، إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩، طبعاً أنت تحتاج وأنا أحتاج وكل واحد يا أحبابي فينا يحتاج إلى مسبار، إلى مسبار وإلى معيار، يُعيِّر به صدقه. لأن الإنسان ينبغي أن يعلم حقيقته، إن الله أراد فقط أن يُكرِمنا – والله العظيم -، فإننا نُريد كرامة أن يرى كل واحد منا نفسه كما هي عند الله، فقط! طبعاً هذا هو، يا ليت! انتهى إذن، تنزل صحيفة وتقول لك يا فلان أنت فلان الفلاني الكذّاب، المُرائي، المُنافِق، المغرور، المُعجَب بنفسه. أف! فتقول نعم، أهذه حقيقتي؟ هذه حقيقتك. ولكن أنا أرى أنني مُخلِص وصادق. نعم، أنت ترى نفسك هكذا، ولكن أنت مخدوع. والله يقول لك أنت هكذا عندي، ولعلك إن مت على هذا، تُنادى يوم القيامة بفلان ابن فلان الكذّاب، المخدوع، المغرور، المُعجَب بنفسه.
مُصيبة يا إخواني، ليت شعري بِمَ نُدعى يوم القيامة! ابن عمر كان يبكي من هذا، ويقول ماذا سيكون اسمي يوم القيامة؟ عبد الله بن عمر! بماذا سأُدعى؟ أبو بكر الشبلي كان يبكي في الليل، يبكي ويقول بِمَ سُتدعى يا شبلي؟ بماذا سوف يُنادونني؟ هل سيقولون المُنافِق، الكذّاب، الزنديق، أم الصالح، الولي؟ لا نعرف! فلذلك أنت تحتاج إلى معيار، نفسك ليست معياراً، هذه معايير إلهية! انظر إلى خشيتك لله بالغيب، اطمئن إذا كنت ترى أنك تُراعي الله حين تكون وحدك أو حتى حين تكون مع الناس الذين تأنس بهم جداً جداً، هناك أصدقاء يكونون مثل نفسك، إذا كنتم تُراعون الله – تبارك وتعالى – في الكبير والصغير، وتُظهِرون من حُسن الاعتماد والتوكل وصدق التشرع أكثر مما تُظهِرون وأنتم بين الناس، أو أنت حتى بين الناس، فهذا سيكون شيئاً مُمتازاً، وضعك جيد.
حين تأتي تُصلي بين الناس هنا، تُصلي وتقعد في الركعتين – مثلاً نفترض – ثلاث دقائق، وحين تكون وحدك في البيت تقعد خمس دقائق. هذا أحسن كثيراً، وضعك مُمتاز! بين الناس بصعوبة تبكي، أي حين يغلبك البكاء رغماً عنك، لكن في البيت كل ليلة تبكي، ومَن يرونك يقولون مُستحيل، أهذا هو؟ هذا بيننا يضحك وكأنه إنسان عادي، وفي الليل بل وطيلة الليل تبكي، أنت تقضيه وأنت تبكي هكذا وتشهق! الحمد لله، هذا معناه أن وضعك جيد.
هذا المعيار لا يغلط – بفضل الله -، هذا معيار دقيق بنسبة مائة في المائة يا إخواني، فعيّروا أنفسكم به، عيّروا أنفسكم به! نعم، هذا معنى يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩.
قال وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ۩، ولا تنسوا أن التزكية من الزكاة، والزكاة النماء. وقلناها في الخُطبة قبل أسبوعين، ولذلك المُؤمِن أوسع مخلوق، أنا لا أرى أوسع من المُؤمِن، بالنسبة لي أوسع خلق في الكون هو المُؤمِن، والله العظيم! ولذلك أوسع عقل وأوسع نفسية لدى المُؤمِن، يُمكِن أن ترى واحداً ويكون مُؤمِناً ضعيفاً أو غير مُؤمِن طبعاً، وهو فيلسوف كبير، فيلسوف وعالم وحاصل على نوبل Nobel، وتجد أنه حقير في المُستوى النفسي، لا يُسامِح في أدنى الحقوق، أليس كذلك؟ أبداً! وحياته كلها هل تعرف كيف يقضيها؟ يقضيها كلها وهو في قضايا مع الناس. كل واحد يرد عليه، يرد على هذا وعلى هذا وعلى هذا وعلى هذا، فصار حقيراً، وهو شخص حقير على فكرة، مع أنه في المُستوى الفكري كبير. وتجد أن المُؤمِن قد يكون إنساناً بسيطاً، ربما يكون بائعاً أو أي شيئاً كهذا، ولكنه كون، صدره هذا كون، يتحمَّل الإساءة، ويتحمَّل السباب، ويتحمَّل الظُلم، ويتحمَّل أشياء كثيرة، ويُحسِن إلى مَن أساء إليه، ويُعطي مَن حرمه، ويصل مَن قطعه، وصمته فكر، ونُطقه ذكر، وحالة! هو كون، كون!
ولذلك أنا قلت لكم – ودائماً أرغب في أن أوضح المعنى هذا، ولكنني غير قادر – إنني لا أرى أن هناك مَن هو أجمل من المُؤمِن، أجمل خلق الله في نظري، فيه جمال، جمال! الجمال المُطلَق بصراحة بعد جمال الله هو جمال المُؤمِن، لأن جماله من جمال الله، أليس كذلك؟ وخاصة لما يكون ذا شيبة، عاش ستين أو سبعين أو ثمانين سنة، وشابت لحيته في الإسلام والأعمال الصالحة، وقد أخذ الطريق الجادة الجادة الجادة، وليس البُينات. يا أخي ترى فيه جمالاً – والله العظيم – لا يُوصَف، أُقسِم بالله! وبركة وربانية وقدسية، شيئ لا يُوصَف، وتجد أنه قاعد دائماً – أي هذا الكبير أو الشيخ الوقور – وسبحته معه، في أي لحظة فارغة يأتي بالذكر، يذكر الله، ليس عنده إلا هذا.
والله العظيم يا إخواني – جيدة هذه المعاني – حين كان عمري زُهاء سنتين كان يحصل الآتي، وكنت أستغرب من هذا، وطبعاً هناك أشياء كثيرة في حياتي عندما كان عمري سنتين أذكرها بشكل واضح، وكأنها حصلت بالأمس، وأُحدِّث بها أهلي، المُهِم كان عُمري زُهاء سنتين وأكثر من سنتين بعد ذلك، وكان يُوجَد عندنا رجل في الحارة نُحِبه حُباً جماً، أعرف أنه من آل غراب – أُناس اسمهم آل غراب – فقط، ولا أعرف عنه أي شيئ، انظر إلى هذا، عمري سنتان، هل أفهم شيئاً؟ سنتان! وإلى اليوم بالله العظيم هو أمامي باستمرار، دائماً! دائماً ما أراه أمامي، ويكون بلباسه الوقور وشكله وكذا، أُحِبه وعمري سنتان، أي بالكاد أمشي، ودائماً ما أُحِب هذا الشيخ الكبير، أُحِبه جداً جداً.
كبرت ومات – رحمة الله عليه -، سمعت وأنا كبير بعد ذلك أنه كان صالحاً، قالوا أين هذا؟ هذا – أي الحاج غراب – كان من الصالحين. قلت لهم بالله؟ قالوا كان صالحاً كبيراً، وكان رجلاً على طريقة من الاستقامة صعبة، لم يذكر أحداً في حياته بكلمة. قالوا هذا! ولم يكن يسمح لأحد أن يتكلَّم عن أحد في حضرته. تقول كنته – أي زوجة ابنته – ما هذا الرجل؟ عشت معه – قالت – وكان أعجوبة، كان ملاكاً يمشي على الأرض. رحمة الله عليه وقدَّس الله سره! قالت يوم تُوفيَ أو ساعة تُوفيَ الفرشة التي قضى عليها غرقت بالعرق. تُقسِم بالله وتقول كان أطيب من المسك. العرق الذي ينزل منه مسك، مسك! قالت رائحة ما شم الشامون مثلها.
قلت هذا سر حُبي له وأنا طفل صغير، أي وعمري سنتان، سنتان! ولكن الطفل روح، هذا روح، هذا روح! هؤلاء الأطفال أطهار، أنا في بعض المرات أُحاوِل حين أدعو بدعاء أن أُحضِر ابني الصغير، وأقول له قل آمين. وهو لا يفهم شيئاً، أو أقول هذا لابنتي، أقول لها قولي آمين. وأنصحكم أن تعملوا هذا، اجعلوا الطفل يُؤمِّن، أحسن من الكبير، لأن هذا لم يبلغ الحنث. هذا لم يبلغ ماذا؟ الحنث. هذا لم يتدنس ويتقذر بمعصية، الطفل روح، الطفل ماذا؟ روح.
وعلى فكرة – وانظر إلى الأطفال – الأطفال يُقبِلون على الصالحين، أي طفل إذا رأى امرأً أو امرأةً صالحاً أو صالحةً يُقبِل عليه ويهفو عليه، ويُحِب أن يذهب إليه وأن يقعد في حجره، أليس كذلك؟ الطفل لا يعرف شيئاً، لكن هذه روح تتحرَّك، هذه روح، هي ليست عقلاً وليست كذا، فيشعر بهذا.
والأمر نفسه مع الحيوانات، أنا أعرف أن أحد الصالحين حصل له هذا مع أرنب، كان هناك أرنب، أرنب! وكان هذا الأرنب شموساً، لا يستقر ولا يرضى في يد أي طفل أبداً، مع أنهم يستأنسونه، إلا في حجر هذا الرجل الصالح، شيخ كبير! إذا كان جالساً في الحديقة، فإنه يأتيه مُباشَرةً، والله العظيم! يهرب من كل الأطفال، وهم صغار، ولا يأتي إلا عند هذا، ويمكث عنده، وينام في حجره. وذكر لي هذا الصالح – هو نفسه ذكر لي هذا – قصة الإمام الغزّالي حين أخذ الطريق على شيخه الطوسي، وكأنه استعجل، قال له الشيخ ليس بعد. قال له اكتفيت يا شيخي. قال له على كل حال اذهب يا أبا حامد، وأنت سترى الإشارة. قصة! سواء صحت أو لم تصح، المعنى سليم وصحيح.
فذهب الإمام الغزّالي، وقد ظن من نفسه أن الأمر اكتمل وانتهى، كفاية! ذهب – سُبحان في الله – وفي الطريق أراد أن يقيل، أي لم يُمعِن كثيراً، في الطريق أراد أن يقيل تحت شجرة، ورأى هذه الشجرة قد حطت عليها عصافير كثيرة، حين اقترب منها، فرت العصافير. أدرك الإمام الغزّالي! قال هذه الإشارة. قال لا تزال في شوائب. في شوائب! مثل مرآتك التي تنظر فيها، فترى أنها ليست نظيفة بنسبة مائة في المائة، لا يزال فيها شوائب، أليس كذلك؟ فيها بعض البُقع الدُهنية وبعض الخطوط، وهذا يعني أن هناك شوائب! لماذا الطيور تهرب مني إذا كنت روحاً صادقةً؟ المفروض أن تُقبِل علىّ! فعاد إلى شيخه مُعتذِراً، وأكمل عنده، حتى صرفه الشيخ بعد حين، قال له الآن أنت انتهيت من هذا، الآن أنت على الطريق، اذهب.
مر بالشجرة، وكان عليها عصافير. اقترب منها، لم تطر. اقترب ثم اقترب أكثر ثم جلس، فجعلت أُخرى عصافير أُخرى تأتي وتحط على الشجرة. فأدرك! وهذه معايير على فكرة، وفعلاً هذا هو، والأطفال يُدرِكون هذا، نحن نتذكَّر هذا، وأنت تُدرِك هذا دون أن تعرف معناه، حين تأنس بأي صالح أو حين ترى أي إنسان – كما قلت لك – وتشعر بهذه الراحة والسكينة، والنبي قال هذا، والنبي عرَّف أولياء الله وقال ماذا؟ مَن إذا رُأوا، ذُكِر الله. أليس كذلك؟ مَن إذا رُأوا، ذُكِر الله. اللهم اجعلنا من أوليائك.
ولذلك النفس الزاكية – وَمَن تَزَكَّىٰ ۩ – نفس كبيرة، بسعة الكون، بسعة الكون! يتيه فيها الكون، بل الأكوان، هذه نفس المُؤمِن. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ۩.
۞ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ۞
ثم شرع الله – تبارك وتعالى – في ضرب أمثال مُتوالية، للكافر والمُؤمِن والكفر والإيمان وعاقبة الكفر وعاقبة الإيمان، هكذا أفهمها! فبدأ فقال وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ۩، الأَعْمَى ۩ هو الكافر، الْبَصِيرُ ۩ هو المُؤمِن. وبعضهم قال الأَعْمَى ۩ هو الجاهل، الْبَصِيرُ ۩ هو العالم والعاقل. لا! الأفضل أن نقول بالرأي الأول، لأن القضية في ماذا كلها صارت الآن؟ في الإيمان والكفر. نعم! إذن وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى ۩، هو الكفر، وَالْبَصِيرُ ۩ هو المُؤمِن، أكيد!
۞ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ ۞
وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ ۩، لا ۩ الثانية هذه زائدة، أي المفروض أنها في الأصل ماذا؟ ولا الظُلمات والنور. أي وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ۩، ولا الظُلمات والنور. قال وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ ۩. لا ۩ الثانية هذه التي هي قبل النُّورُ ۩ اسمها ماذا؟ الزائدة. لماذا أُوتيَ بها؟ هي على فكرة زائدة، أي يُسمونها زائدة من حيث الإعراب، لكن من حيث المعنى هي ليست زائدة، من حيث المعنى يُؤتى بــ لا ۩ الزائدة لتأكيد نفي الاستواء، وَمَا يَسْتَوِي ۩، لتأكيد نفي هذا الاستواء أوتيَ بــ لا ۩ الزائدة، وفعلاً أنت حين تسمعها تشعر بأن فيها تأكيداً زائداً، أي وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ۩ واضحة، أكيد! واحد أعمى وواحد بصير، لا يستويان! المُشكِلة الآن في الظُّلُمَاتُ ۩ و: النُّورُ ۩. الأَعْمَى ۩ كافر وَالْبَصِيرُ ۩ مُؤمِن، الظُّلُمَاتُ ۩ ما هي؟ الكفر نفسه. الكفر! براهينه وأدلته وحُجه وشُبهاته وتشغيباته وتسويلاته وتزييناته وعروضه ودعاواه، كل هذه ماذا؟ ظُلمات – والعياذ بالله -. و: النُّورُ ۩ نور واحد – كما قلنا -، لأن الحق لا يتعدد، الحق واحد، لم يقل ولا الأنوار، لا! قال وَلا النُّورُ ۩.
قال وَلا النُّورُ ۩، لماذا قال الآن هذا هنا؟ لأن زُين: لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ۩، ولأن الإنسان لما يكون في الظلام ويعيش في الظلام ويُمعِن في الظلام، لا يُدرِك أنه في ظلام، هو يكون تماماً كالسمكة التي تُولَد طبعاً أو تفقس في الماء وتعيش وتهلك في الماء، لا تُدرِك أنها في الماء، ولا تُدرِك أن الماء يُمارِس علينا ضغطاً من جميع الجهات، كما نحن! يُمارِس علينا الهواء ضغطاً يصل إلى ستة عشر رطلاً على كل بوصة مُكعَّبة، ولا نشعر به، لأننا نعيش فيه طيلة حياتنا، أليس كذلك؟ لكن لو فرَّغنا الهواء من جهة واحدة فقط – أي إذا قدرنا على هذا -، فسوف تشعر بالضغط من الجهة الثانية، ومن ثم سوف تقول أف، أوه! هو هذا. وكذلك الذي يعيش في الكفر وعالم الكفر وثقافة الكفر ومِزاج الكفر ووضع الكفر، فعلاً مثلما لفتنا الله في قضية قوم لوط، أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ۩، يطلبون الطهارة هؤلاء الحمقى الأغبياء! انظر إلى هذا، صار عندهم النجاسة والوساخة شيئاً مُقدَّساً وجميلاً، أرأيت؟ تنحرف الفطرة الآن، ولا تعمى الأبصار فقط، بل وتعمى البصائر، الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ۩.
لذلك – انتبه – انتفاء استواء الظُلمات والنور ليس بوضوح انتفاء استواء الأعمى والبصير، هذا لم يحتج فيه إلى التأكيد، في الموضوع الثاني أكَّد، قال وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ ۩، وبيني وبينك بصراحة ما لم يقذف الله في قلب عبده شيئاً من نوره، فلن يُدرِك معنى النور ولن يُدرِك ورطة الظُلمات، وسوف يظل سعيداً بظُلماته، وسوف يكون (متجلي) – أي فرحاً – بها. سوف تقول لي هذه ورطة كبيرة. طبعاً ورطة ومحنة! فما الحل؟ الحل عندك وعنده وعند الكافر وعند أي واحد، الحل أن يكون هناك النية الصادقة، النية الصادقة! ونحن قلنا نحن الآن – الحمد لله – مُسلِمون ومُؤمِنون، ونرى من أنفسنا أننا كذلك، ولكننا نقول يُمكِن أن نكون مغرورين ومخدوعين. ونتوجَّه له بصدق ونقول له يا ربي اكشفنا لأنفسنا، يا ربي عرِّفنا بأنفسنا، يا ربي افضحنا أمام أنفسنا، يا ربي لا تكلنا إلى أنفسنا. أليس كذلك؟ حين تدعو بهذا صادقاً، الله يُعطيك هذا، يُنقِذك – بإذن الله تعالى -، وتبدأ مشوارك الجديد وتعتني بنفسك.
هل تعرف ماذا ستصير؟ كل نقمتك وكل نقدك سيصير على نفسك. يا خبيث، لماذا فعلت هذا؟ يا مُرائي، لماذا فعلت هذا؟ دائماً دائماً دائماً! وفي الأول كل نقدك ودائماً ما كانت عينك على الناس، أنت الكامل، أي الــ Perfect. لم تكن ترى أن في نفسك أي غلط بالمرة، ولماذا هذا يفعل هكذا؟ ولماذا هذا يقعد هكذا؟ ولماذا هذا يعمل هكذا؟ ولماذا هذا شكله هكذا؟ و… تتكلَّم في الناس، أليس كذلك؟ طيلة حياتك! وأنت – ما شاء الله عليك – كامل، لكن الآن انقلبت الحالة، ترى أن كل الناس طيبون وما شاء الله عليهم سعداء، ونفسك ليست مثلهم، وكذلك الكافر، إذا طلب الحقيقة بإخلاص وتوجَّه هكذا، فسوف يُعطاها. وهذا حتى للمُلحِد! قد يقول لي أحدكم وحتى المُلحِد؟ وحتى المُلحِد. المُلحِد لو قال يا ربي أنا سأُخاطِبك على أنك معدوم، أنت غير موجود أصلاً، وأنت عدم ووهم وأكذوبة، لكن قد تكون موجوداً، ولو بنسبة واحد في المائة، فإن كنت موجوداً، أطلب منك كذا وكذا. لو بصدق فعل هذا، الله سيُعطيه الحُجة والدليل، ما رأيكم؟ الله هادي أهل السماوات والأرضين. والله العظيم! لا يُمكِن غير هذا أبداً، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۩، هو هذا! فدائماً الحُجة لله على عباده، ولا يُوجَد واحد له حُجة على الله أبداً، والقضية جد. ولذلك قال وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ ۩.
۞ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ ۞
وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ ۩، الظِّلُّ ۩ معروف، و: الْحَرُورُ ۩؟ هو شدة الحر، سواء أكان هذا الحر أو أكانت هذه الشدة بالليل أم بالنهار. هذا هو الأرجح من أقوال علماء اللُغة، لأن هناك اختلافاً طبعاً في تفسير الْحَرُورُ ۩، أما السَّمُوم، فلا يكون إلا بالنهار. لكن الْحَرُورُ ۩ يكون بالنهار وبالليل. هل هذا واضح؟ وهذا أبلغ! أبلغ من ماذا؟ من السموم الذي لا يكون إلا في النهار فقط.
إذن المثل بالظل وبالحرور مثل لعاقبة الكفر والإيمان، والشيئ نفسه مع لا ۩، هذه لا ۩ زائدة أيضاً، وَلا الْحَرُورُ ۩، زائدة! مثل لعاقبة الكفر والإيمان، لا إله إلا الله! أوه، هذا ترتيب عجيب، فأول شيئ مثل بالكافر والمُؤمِن، وبعد ذلك مثل بالكفر والإيمان، وبعد ذلك بعاقبة الإيمان وعاقبة الكفر. وعكس! أرأيت؟ لا إله إلا الله. هذه هي الأمثلة، كما أفهمها.
قال وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ ۩، وطبعاً العلماء قالوا الظِّلُّ ۩ ظلال الجنان، ظلال الجنات أو الجنان! وفعلاً هي كذلك، ظل ظليل، و: الْحَرُورُ ۩ جهنم – والعياذ بالله -. وأيضاً أنا أقول لكم الظِّلُّ ۩ و: الْحَرُورُ ۩ في الدنيا، المُؤمِن في الدنيا يعيش في ظل جنة إيمانه، المُؤمِن الحق! وإذا لم يمر في حياتك يا أخي ويا أختي المُؤمِنة مثل هذه المشاعر، فاسأل الله أن يُعطيك منها، وهي التي عبَّر عنها أحد الصالحين، وكان يقول إنه لتمر بنا أوقات نقول لو أن أهل الجنة في مثل ما نحن فيه، إنهم لفي عيش طيب. والله العظيم! أي هذا إذا كان أهل الجنة هكذا، فيا هنئاً – ما شاء الله – لهم، هذا يعني أنهم سعداء، فمن أين هذا إذن؟ أنت زاهد وفقير و(غلبان) و(على قد حالك)، أي سعادة؟ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ۩، فرحه بالله يا حبيبي، فرحه بالله، علاقته بالله، العطايا الإلهية التي تأتي إليه ليست في شكل ذهب وفضة وأملاك، لا! تأتي على قلبه، معارف وأنوار إلهية تترى باستمرار، باستمرار! مع كل ركعة، مع كل آية يتأمل فيها، مع كل شيئ ينظر فيه، شيئ عجيب، شيئ عجيب وسعادة غريبة طبعاً ويقين واتصال طبعاً ومرائي وكشوف وفتوح، قصة كبيرة هذه! فعندهم سعادة غير عادية، يقول لك إذا أهل الجنة كانوا هكذا سعداء، فيا هنيئاً لهم، هنيئاً لهم! أي لأهل الجنة، عندهم سعادة مثل هذه؟ إن شاء الله يكون عندهم سعادة مثل هذه.
ولذلك قالوا إن في الدنيا مَن لم يدخلها، لم يتنعم بجنة الآخرة، وهي جنة الذكر (ذكر الله). ولذلك في الأحاديث عن رسول الله وعن أصحابه إذا مررتم برياض الجنة، فارتعوا. قالوا ما رياض الجنة؟ قال حلق الذكر. لا إله إلا الله! هذه رياض، هذه جنة، هذا المجلس الآن روضة جنائنية، لمَن أتى ولمَن تكلَّم ولمَن يسمع ولمَن يقعد بنية أن هذا لله، نحن أتينا لله، أتينا وأردنا أن نتعرَّف على الله فقط، فقط! وليس هناك ما هو أكثر من هذا، ولا يُوجَد أي غرض آخر – إن شاء الله تعالى -. أنت ستكون في جنة، وتشعر أنك في جنة، وكما قلنا أمس هذه المجالس – كثَّرها الله في أمة محمد – مُبارَكة.
يُقال الإمام الغزّالي في رحلته الخمسية – في خمس سنوات، حين ترك المكان المعروف بطوس ودار، طبعاً مُعظَمها قضاها في دمشق الشام، ما شاء الله! حين أتى بيت المقدس لأول مرة بكى، وطبعاً قضى فترة في بيت المقدس، وألَّف تحت الصخرة جُزء من إحياء علوم الدين، يُقال إنه حين أتى بيت المقدس لأول مرة بكى. لماذا إذن؟ رأى ثلاثمائة وخمسين حلقة علم، فلماذا تبكي؟ قالوا له. قال أبكي على ضياع العلم. أهذا بيت المقدس؟ فيه ثلاثمائة وخمسون حلقة فقط؟ ويبكي، تعال وانظر اليوم، تعال وانظر اليوم! الآن حين تذهب إلى مكة أو المدينة، يُمكِن أن تجد درساً أو درسين في المسجدين فقط! وهذا بيت المقدس، أي ليس دمشقاً، بيت المقدس عبر العصور الإسلامية لم يُعرف يوماً كحاضرة كبيرة للعلم، كان حاضرة بسيطة من حواضر العلم. هذا كما ذكر الإمام الذهبي في كتابه عن البُلدان، قال إنها كانت كذلك. وفعلاً ه ا صحيح، حواضر العلم هي القاهرة، بغداد، دمشق، وبعد ذلك طبعاً الغرب الأندلسي. هذه حواضر العلم، العلم كان رهيباً، وبيت المقدس كان مُتواضِعاً، ومع ذلك حين رأى ثلاثمائة وخمسين حلقة كان يبكي، أي الإمام الغزّالي، كان يبكي من أجل ضياع العلم، قال ضاع العلم، راح العلم، علم محمد راح، ولا يُوجَد اهتمام بالعلم. ثلاثمائة وخمسون حلقة؟ مساكين! والله المُستعان.
إذن نقول إن الظِّلُّ ۩ أيضاً عاقبة الإيمان في الدنيا، الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ۩، أرأيت؟ إذن هناك طمأنينة، هناك سكينة، هناك برد اليقين كما يقول لك، هناك ثلج الصدر وبرد اليقين وطمأنينة القلب! هذا الظِّلُّ ۩، ظلال الإيمان هذه. والكافر ماذا عنه؟ كل شيئ في الدنيا هم له، أي لهذا المسكين، كل شيئ هم عنده، كل شيئ عنده هم! وليس عنده الملاذ والمُستغاث الذي دائماً ما يلوذ به ويستغيث به، وهو رب العالمين، ليس عنده هذا، ليس عنده! عنده (شطارته) ومكره ووسائطه وماله وقوته وعُنجهيته، وهذا دائماً لا ينجح، لا ينجح دائماً! فهناك حر، وحياته كلها حر، ويحترق هذا المسكين؟ أليس كذلك؟ يحترق، يحترق ويكون تعباناً، لا تُوجَد سعادة عنده، ويشيخ قبل أوانه. والمُؤمِن عنده هذه السكينة.
ولذلك قلت لك – قلتها في الخُطبة، وها أنا أرجع وأقولها – الآتي، ولاحظها، لاحظها! ادخل على النت Net واكتب – مثلاً – المشايخ العارفون في القرن العشرين، وهؤلاء من مصر أو من العراق أو من سوريا. هناك ظاهرة لا تكاد تُفهَم، كلهم تقريباً – تقريباً كلهم كذلك – تجدهم في في الثمانين أو في التسعين من أعمارهم، عندهم لحى هكذا – ما شاء الله – كبيرة وبيضاء كلها، والوجه يا أخي جديد كالصحيفة، وكأنه وجه ابن خمس عشرة سنة، وأنا أستغرب من الشيئ هذا، أُقسم بالله شيئ غريب، هذه الظاهرة تحيرني طيلة حياتي، ولكن أنا أعرف طبعاً سببها، هناك السعادة بالله، السعادة بالله! هؤلاء مع الله باستمرار، كيف تكون ابن ثمانين سنة، وعمرك ووجهك مثل شاب صغير؟ ولا تُوجَد تجاعيد، ولا تُوجَد هذه الأشياء، أبداً أبداً أبداً، ووجهك هكذا غضاً، واللحى هكذا كبيرة وبيضاء، ثمانون أو تسعون سنة، والوجه جديد كالصحيفة، كالورقة! لأنهم سُعداء بالله، هناك فرح، فرح بالله دائم ويقين وكفاية.
قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن جعل الهم هماً واحداً – وما الهم هذا؟ الله. أي يصير همك الله، فقط! أنه يرضى فقط ولا يغضب، وفقط! همك الله، لذا قال مَن جعل الهم هماً واحداً – كفاه الله هموم الدنيا جميعها. انتهى إذن، وتمشي أمورك – ما شاء الله – كالساعة، ومَن تشعبت به الهموم – فهذا الله لا يهمه، وعنده هموم أُخرى طبعاً -، لم يُبال الله في أي الأودية هلك. تهلك مرة بوادي الدين، مرة بوادي زوجتك، مرة بوادي ابنك، مرة بوادي مُديرك في الشركة، مرة بوادي الجريمة التي تقع فيها أو يقع فيها ابنك أو يقع فيها قريبك. خمسون ألف قصة يُمكِن أن تقع، الله قال لك أنت حر، ماذا أعمل لك؟ أنا غني، أنا غني وحفي. قال لك أنا غني وأحفي، أنا أُريد أن أحتفي بك، ولكنك لا تُريد، أنت مُعرِض، فماذا أعمل لك؟ وأنا أُناديك، أكثر من ستة آلاف آية، كلها لك مُوجَّهة، هذا نداء وأقول لك تعال، وأنت لا تأتي، ولا تُريد، ماذا أعمل لك؟ اذهب! ضاع عليك هذا.
فإذن الظِّلُّ ۩ و: الْحَرُورُ ۩، الظِّلُّ ۩ حالة المُؤمِنين في الدنيا وفي الآخرة، و: الْحَرُورُ ۩ حالة الكفّار في الدنيا والآخرة.
۞ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ۞
نختم بهذه الآية، وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ ۩، أيضاً منهم مَن قال الأَحْيَاء ۩ هم العُلماء، و: الأَمْوَاتُ ۩ الجُهلاء. صحيح! هذا صحيح، ولكن سياق الآيات يُؤكِّد أن الأَحْيَاء ۩ المُؤمِنون، و: الأَمْوَاتُ ۩ الكافرون. والقرآن يقول هذا، أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۩، وهو الكافر، صاحب الظُلمات هذا، أليس كذلك؟ ميت! ميت في الظُلمات، أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ۩، مثلهم مثل أصنامهم، وأصنامهم هكذا كانت، وهذه الآية في الأصنام طبعاً، هذه الآية في الأصنام وهي في سورة النحل، أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ۩، وهم مثل آلهتهم المدعوة والمزعومة، أيضاً أحياء كأموات، قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ۩، وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ۩، هم مقبورون، وهم الموتى، أنت ترى أنهم أحياء هكذا، ولكن هم موتى – والعياذ بالله تبارك وتعالى -.
أما أن العلم بلا شك نوع من الحياة والجهل نوع من الموت، فهذا صحيح كمعنى، هذا المعنى بحد ذاته صحيح، ولكن ليس هو الأليق بالآية، وعليه يُحمَل قول الإمام عليّ – عليه السلام – في حديثه المشهور جداً، وقد ذكره على ما أعتقد أبو حامد في أول الإحياء وغيره، فهناك كثيرون طبعاً! يا كُميل – قال لكُميل بن زياد يا كُميل – العلم خيرٌ من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال. العلم يحكم على كل شيئ، والمال محكوم عليه. العلم يزيد بالنفقة – حين تتعلَّمه أنت يزيد، يصير عندك وعند هذا وعند ذاك، أليس كذلك؟ – والمال ينقص بالنفقة. حين تُنفِقه يروح، أي المال، العلم ليس كذلك، حين تُعطيه يزيد ويزيد ويزيد.
ثم سكت وأنشد من نظمه – عليه السلام، وكرَّم الله وجهه -:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمَن استهدى أدلاء.
وقدر كل امرئ ما كان يُحسِنه والجاهـلون لأهل العـلم أعداء.
فـفـز بعلم تعش حيـاً به أبـدا الناس موتى وأهل العلم أحياء.
فهذه هي، إذن الأحياء والأموات! الأحياء أهل العلم، والأموات أهل ماذا؟ الجهالة. نعوذ بالله من ظُلمات الجهالة.
إذن هذا هو، إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء ۩، قد يقول لي أحدكم ما علاقة إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء ۩ بــ أحياء وأموات، وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ ۩ ؟ واضحة طبعاً، الحي هو المُؤمِن، يسمع وينتفع، الكافر ميت، ولا يسمع. فالله قال هو ميت. أي هذا الكافر، ميت! حتى لو كان حياً جثمانياً، هو ميت، روحه وعقله وكيانه المعنوي ميت، إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء ۩.
وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ۩، قال هؤلاء مثل الأموات المقبورين، هل تُسمِع المقبورين؟ وتُوجَد مُشكِلة هنا طبعاً. قد يقول لي أحدكم لا، هذه الآية ضد الحديث الصحيح الذي يرويه عمر وعبد الله بن عمر (ابنه) وغيرهما طبعاً أن النبي وقف على قبر المُشرِكين في قليب بدر – والقليب هو ماذا؟ البئر -، وقال لهم يا فلان ابن فلان، يا فلان ابن فلان، يا فلان ابن فلان، هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً. قالوا يا رسول الله أتُخاطِبهم وقد جيَّفوا؟ هم أرموا، وهذه جيف، جيف بالية! قال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن حيل بينهم وبين الجواب. هم يسمعون ولكن لا يتكلَّمون!
عائشة ردت هذا الحديث، أرأيت؟ اليوم يعتبون علينا إذا تكلَّمنا على حديث في البخاري أو في مُسلِم يختلف مع قطعيات عقلية أو مع ضرورات – مثلاً – واقعية وحتى مع ظواهر قرآنية أو نصوص قرآنية، يُكفِّرونك ويُزندِقونك! عائشة ردت أحاديث مُباشَرةً، أي بين الرسول وبين راويها لا يُوجَد واسطة، وابن عمر سمع النبي، سمع النبي يقول هذا، قالت لا، هو غلطان، أكيد لم يفهم، أكيد أساء سمعاً. أي مثلما قالت في أبي هُريرة، قالت هناك مُشكِلة. فلماذا؟ لأن هناك منهجاً عندها، وهو منهج قوي! أن القرآن حاكم، القرآن هذا حاكم على كل شيئ، حتى على ما يُنسَب للرسول من أقوال، تُعيِّرها بماذا؟ بالقرآن. إذا اتفقت مع القرآن، فإنها ستكون صحيحة. إذا تناقضت مع القرآن، فسنعرف أن هناك غلطاً إذن. حتى ولو كان الراوي ليس البخاري وبينه وبين الرسول ست أو سبع رجال، لا! الصحابي مُباشَرةً، قالت لهم حسبنا كتاب الله، قال الله تعالى وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ۩. الله يقول إنهم لا يسمعون، وأنت تقول لي إنهم يسمعون وقال النبي إنهم يسمعون! أنا غير مُصدِّقة – قالت لهم -، فدعوا عنكم الكلام هذا.
وطبعاً كلام أمنا – رضوان الله عليها – يُمكِن أن يُناقَش، يُمكِن أن يُناقَش! لماذا؟ قوله – عز من قائل – وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ۩ ليس نصاً (ليس نصاً بلُغة أصول الفقه) في عدم أصل السماع، وهو ماذا؟ سماع الأُذنين. لا! وإنما قد يُراد به سماع الاستجابة، وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ۩، أي سماع استجابة! بحيث يسمع فيستجيب، أي ينتفع بما يتأدى إليه عن طريق سمعه، هل هذا واضح؟ والآن المقصود بالآية أصلاً إسماع المقبورين حقاً أو إسماع الكافرين؟ إسماع الكافرين الذين شُبّهوا بالمقبورين. ألم يكونوا حقاً يسمعون ماذا يقول الرسول؟ كانوا يسمعون. هل كانوا ينتفعون؟ ما كانوا ينتفعون. إذن ليس المنفي سماع الأُذن، وإنما سماع ماذا؟ الانتفاع والاستجابة.
على كل حال القضية إذن قابلة للتأويل، والآية ليست نصاً، بل ظاهرة، ظاهر من الظواهر! والمسألة موضع خلاف، رأي جماهير علماء أهل السُنة والجماعة أن الموتى يسمعون، في أحوال مُعيَّنة! ورأي السادة الحنفية الماتريدية أن الموتى لا يسمعون، الميت حين ينقطع عن العالم، لا يسمع شيئاً. يأخذون بماذا؟ بظاهر القرآن وبظاهر قول أمنا عائشة الصدّيقة. وهناك كتاب للشيخ نُعمانى الآلوسي – ابن الآلوسي الكبير، أي أبي الثناء محمود، رحمة الله عليه، صاحب روح المعاني، ابنه اسمه نُعمان الآلوسي – مُهِم، عنده غالية المواعظ، وعنده جلاء العينين في مُحاكَمة الأحمدين (أحمد بن تيمية، وأحمد بن حجر الهيتمي). وعنده هذا الكتاب: الآيات البيّنات في عدم سماع الأموات على مذهب الحنفية السادات. فهو قال لك الأموات لا يسمعون. فالقضية تبقى خلافية، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۩.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين. سُبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله، عدد كمال الله، وكما هو أهل لكماله.
أضف تعليق