أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ۩ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ۩ قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ۩ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ۩ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ ۩ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ۩ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ ۩
بسم الله الرحمن الرحيم.
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً.
إخواني وأخواتي:
۞ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ۞
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ۩، قال السادة العلماء المُفسِّرون قذف الله – تبارك وتعالى – بالحق بمعنى أنه يُوحي إلى أنبيائه، يَقْذِفُ بِالْحَقِّ ۩ أي يُلقي الوحي إلى أنبيائه، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۩ بمعنى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ ۩. وقيل يَقْذِفُ بِالْحَقِّ ۩ يقذف الحق على الباطل، يقذف الحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، كما في الأنبياء بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۩. وقيل أيضاً أشياء أُخرى، من بينها يحكم، القذف بالحق هو الحُكم، أي فصل القضاء، يحكم في القضايا المُختلَف فيها بين عباده بالحق – لا إله إلا هو -. عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ۩.
۞ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ۞
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ۩، قال وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ۩، الإبداء هو خلق الشيئ وإنشاؤه أول مرة، والإعادة خلقه ثانياً. والمقصود أن الباطل قد اضمحل بالمرة، اضمحل إلى الغاية، فلم يبق له شيئ ليقوم به وليفعل فيه تأثيره. وقيل إن مَا ۩ هنا استفهامية. فيصير المعنى ما الذي بقيَ بعد المجيء الحق للباطل لكي يُؤثِّره ولكي يفعله؟ والجواب لا شيئ، لأن الباطل يزهق من تلقائه بمُجرَّد مجيء الحق، الحق يا إخواني مثل النور، والباطل هو الظلام، إنما يتلصص الباطل والضلال في الظلام، إن جاء نور الحق، انقشع الظلام مرة واحدة، ولذلك وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۩، ولم يقل جاء الحق وأزهق الباطل أبداً، أبداً! الباطل يزهق من تلقائه، بمُجرَّد أن يظهر الحق يزهق الباطل، وكأن حتى لا تُوجَد معركة، لا تُوجَد معركة! سوف يقول لي أحدكم وماذا عن المعركة بين أهل الحق وأهل الباطل؟ نعم، هذا بمقدار ما يتحمَّل أهل الحق من الحق، ولو أن أهل الحق تحمَّلوا على الوجه الذي يُريد الله تحمل الأنبياء ما أخذ معهم جولة ولا جويلة. نسأل الله أن نكون مِمَن تحقَّق بالحق على الوجه الذي يُريد صاحب الحق – لا إله إلا هو -، الملك الحق، نعم!
۞ قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ۞
قُلْ إِن ضَلَلْتُ ۩، الله يُلقِّن محمداً، خيرته من خلقه، حُجته ليُفلِج بها، فيقول له قُلْ ۩ لهم، إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي ۩، وذلك أنهم عيَّروه، عيَّروه فقالوا قد خالفت عن دين آبائك وأجدادك فضللت، فالله علَّمه أن يقول لهم إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا ۩ معرة ضلالي هذا تقف علىّ وتلحقني وحدي من دونهم. ولكنه ذهب ليُعرِّض بضلالهم، فقال وَإِنِ اهْتَدَيْتُ ۩، أي وأنتم في المُقابِل لابد أن تكونوا ضالين، لأننا على طرفي نقيض، مقولتنا ودعوانا غير مُتحِدة، بل مُختلِفة، أنا أقول لا إله إلا الله. وأنتم تقولون بل معه شركاء، وهم شفعاء.
وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ۩، إذن مصدر ضلالهم ما هو؟ ليس الوحي، كل شيئ آخر إلا الوحي، مثل المصلحة، الأهواء، الآراء، تقليد الآباء والأجداد، الكبر، الجحود، والجهل. إلا الوحي! الوحي مصدر النور والعلم القطعي، إِنَّهُ ۩ سُبحانه وتعالى، سَمِيعٌ قَرِيبٌ ۩.
۞ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ۞
وَلَوْ تَرَى ۩، يا خيرتنا، إِذْ فَزِعُوا ۩، والفزع هو الخوف، الفزع هو الخوف الشديد، وَلَوْ تَرَى ۩، والكلام عن الكفّار المُشرِكين، إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ ۩، لا مهرب ولا مناص. الفوت هو ماذا؟ المهرب والمنجاة والمناص. نعم! فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ۩، قيل هو مخرجهم من قبورهم. وقيل هو مصرعهم في بدر وفي الوقائع الأُخرى. وقيل يوم القيامة حين يعاينون العذاب. على كل حال لعل أضعف هذه الأقوال القول الثاني، أي مصرعهم يوم بدر. يُمكِن أن يكون الأخذ من قبورهم ساعة النشور، أو الأخذ من مشاهد القيامة إلى جهنم – والعياذ بالله – وحطيمها.
۞ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ ۞
وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ ۩، أي بالله، أو بالرسول، أو بالقرآن. ثلاثة أقوال! وَقَالُوا ۩، أي يومئذ وحينئذ وحالة إذ، حين يُؤخذون، وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ ۩، التَّنَاوُشُ ۩ هو الأخذ والتناول، يُقال ناشته الرماح. يُقال ناشته الرماح، إذا أخذته. نعم! ورجل نووش. أي رجل غليظ شديد قوي مُصارِع، يُقال نووش. التناوش والتناؤش، وهناك قراءة وهي ليست طبعاً من المُتواتِر فيها التناؤش، أي وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ ۩، التناوش والتناؤش هو ماذا؟ الأخذ أو الأخذ بشدة، وما إلى ذلك.
وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ ۩، تناوش ماذا؟ تناوش الإيمان. فمن أين تأخذون الإيمان؟ كيف ستقبسون الآن الإيمان؟ أنتم في مواقف الحساب، أنتم يوم القيامة، وهذا مكان بعيد جداً جداً، وليس هذا مأخذ الإيمان، مأخذ الإيمان فاتكم وراءكم في الدنيا، تركتم الدنيا وضيَّعتم فُرصتكم المُمتدة الطويلة، وأما هذا فهو موضع الحساب، هذا فضاء الحساب والمُحاققة، وليس فضاءً لأخذ الإيمان.
وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ ۩، أنى لهم تناول وأخذ الإيمان في ساحات القيامة. قال لا، هذا كان وراءكم، مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ ۩. طبعاً ما أبعد من الدنيا إلا الآخرة، أبعد شيئ من الدنيا هي الآخرة.
۞ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ۞
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ ۩، أي بالذي فُسِّر به الإيمان بِهِ ۩، إما بالله، إما بالرسول، إما بالقرآن. وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ ۩، على جهة التمثيل، انظر إلى هذا، القرآن جميل، والتمثيلات في القرآن جميلة وبالغة.
وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ۩، العرب تقول لمَن يتكلَّم في أمر لا يَحُقه إنه يقذف به، وإنه يرجم به. ويقولون يقذف بالغيب، ويرجم بالغيب. ما معنى حق الأمر، يَحُقه. وأحقه، يُحِقه؟ إذا كان منه على يقين. فلا تتكلَّم فيما لا تَحُق. ليس لا تَحِق، لا تَحُق. حق الأمر، يَحُقه حقاً، إذا أيقن به وتكلَّم عن علم قطعي ويقين. فالعرب تقول لمَن يتكلَّم بما لا يَحُقه أو لا يُحِقه إنه يقذف بالغيب، أو يرجم بالغيب.
الله – تبارك وتعالى – مثَّل لهم بهذه الحالة، كأنهم يُريدون إصابة العلم في هذه الأبواب كمَن يقذف هدفاً، لكن مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ۩. أرجى أن يُصيب أو أرجى أن يخيب؟ لا، أرجى وأدنى أن يخيب، لأنه مكان بعيد، لو كان الهدف قريباً، لربما أصابه. ولكن هو يقذف مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ۩، يستهدف هدفاً على مبعدة، فهذا أحرى أن يخيب ولا يُصيب، انظر إلى هذا، هذا القرآن، وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ ۩، جميل جداً! يقذفون وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ۩، تعبير عجيب، من أعجب ما يكون، كلام رب العالمين!
۞ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ ۞
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ ۩، والعياذ بالله، وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ۩، ما الذي اشتهوه؟ إما الإيمان، أن يتناولوا الإيمان، وهذا الذي يُعطيه السياق، وإما التوبة المقبولة، والآخرة ليست دار توبة طبعاً، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ۩، لا يُوجَد إيمان هناك، ولا تُوجَد توبة مقبولة، وإما النجاة من العذاب، وقد حرَّم الله على المُشرِكين ومَن لقيه مُشرِكاً كافراً دخول الجنة، فهذا لا يُوجَد أيضاً، لا هذا مُمكِن ولا هذا مُمكِن ولا هذا مُمكِن، شيئ مُخيف! انظر إلى الآية.
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم ۩، أشياع جمع الجمع، أشياع هي جمع الجمع! لأن الجمع شيعة، لأن الجمع هو ماذا؟ شيعة. وجمعها أشياع، جمع الجمع! وشيعة الرجل هم مَن؟ هم نصراؤه. هم نصراؤه الذين يُعزِّرونه وينصرونه ويُوقِّرونه. نعم! فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ۩.
كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم ۩، لهم أشياع يوم القيامة أيضاً، هي أرسال وأفواج، أفواج إلى جهنم، يتلو بعضها بعضاً – والعياذ بالله -، وهم رأوا كيف فُعِل بأشياعهم من قبلهم، من الأمم السابقة، من الكفّار والملاحدة والثانوية والوثنية وأعداء الأنبياء، كلهم يُساقون سوقاً إلى جهنم، يتهافتون فيها – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، وهم هذا هو مصيرهم.
كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ ۩، من أرابه، وليس رابه. يُقال رابني الأمر. رابني الأمر، أي خالجني فيه شك. ولذلك دع ما يَريبك. ثلاثي! راب يَريب، وليس رباعياً، أي ليس أراب. هذا من أراب، هذا من الرباعي، ولذلك مُضارِعه مضموم الأول، أراب يُريب، أي أوقعه في الريبة، وليس خالجه فيه ريبة، أوقعه في الريبة! كأنه طرَّق له طريقاً، مشى فيه، فأوقعه في ماذا؟ في الشك والارتياب. هذا مُريب، ولذلك قال ماذا؟ مُّرِيبٍ ۩. لم يقل مَريب، قال مُّرِيبٍ ۩، بضم الميم، من الرباعي، إذن من أراب يُريب، وليس من راب يَريب، كما في حديث الحسن بن عليّ – عليهما السلام – عن رسول الله، دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك. لكن هذا ليس كذلك.
إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ ۩، أي في أمرٍ كان هذا وصفه، أي ببساطة كانوا يسلكون المسالك ويأخذون الطرائق التي تُوقِعهم في ماذا؟ في الشك والتهوك والحيرة والارتياب. لأن في نهاية المطاف طريق الإيمان وطريق غير الإيمان هي ماذا؟ طرق وسُبل. تسلك سبيلاً، حتماً ستنتهي بك إلى غايتها. لا يُمكِن أن تسلك سبيل التكذيب وتنتهي إلى التصديق، ستنتهي إلى التكذيب، إن سلكت سبيل التصديق بتواضع وإخبات وصدق، فسوف تنتهي إلى ماذا؟ إلى التصديق. هذه طرق كلها، كلها طرق!
انتهينا من سورة سبأ – بحمد الله تبارك وتعالى -، نأتي إلى سورة فاطر، وهي عند الجميع بالاتفاق مكية، لم يذكروا فيها حتى آيات مدنيات، وتُسمى عند بعضهم سورة الملائكة، إذا وجدتم في بعض الكُتب سورة الملائكة، فهي سورة فاطر، لأنها تبدأ بماذا؟ بذكر الملائكة.
۞ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۞
الْحَمْدُ لِلَّهِ ۩، تكلَّمنا في أول سبأ عن تفسير الْحَمْدُ لِلَّهِ ۩، الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ ۩، ما هو الفطر؟ فطر فطراً، الفطر هو الشق. يُقال فطر قلبي، أي شق قلبي. إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ۩، السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ ۩، أليس كذلك؟ في الإنسان! مُنشقة، مُنفَطِرٌ بِهِ ۩، أي مُنشقة. انفطرت، أي انشقت. فطر الناب، إذا شق اللِّثة. ليس اللِّثّة، اسمها اللِّثة، هكذا! إذا شق اللِّثة وخرج، يُقال فطر الناب. إذن فطر معناها شق، وتُطلَق على ماذا؟ تُطلَق على الإنشاء والخلق والإبداع من غير مثال يُحتذى ولا قانون يُنتحى. أي الله حين خلق السماوات والأرض هل خلقها على مثال سابق؟ أبداً، أبداً! لا يُوجَد مثال يُحتذى – أي يعمل مثله – ولا يُوجَد قانون يُنتحى، لماذا؟ لأن الله هو مُقنن القانون، وهو واضع الخُطة – لا إله إلا هو -.
اليوم العقل الفلسفي والعقل العلمي دائماً يرفع الراية ويُسلِّم، لا يستطيع أن يتجاوز القضية الأول: قضية مصدر القوانين، مصدر قوانين العالم! قضية بسيطة جداً، وهي أساس أكبر من عظيم في قضايا الإيمان والإلحاد. إن أحكمت فهمها بشكل دقيق، انتهيت رُغماً عنك إلى الإيمان، مهما دلسوا عليك وأتوا لك بنظريات فلسفية وفيزيائية وحدَّثوك عنك هوكينج Hawking، كله كلام فارغ! هذه القضية بحد ذاتها هي الأساس، وانظر إلى هذه، يُشير إليها الفطر، الخلق على غير مثال سابق، لماذا؟ لأن مصدر هذا الخلق هو مصدر كل شيئ ومصدر ذاته – لا إله إلا هو -، سبب غير مُسبَّب، علة غير معلولة، ووجودها من ذاتها. وكل المسائل تقف في النهاية ولا يُمكِن أن تُفهَم ولا يُمكِن أن تُقدَّم أو يُقدَّم لها تفسير إلا بتسليم ماذا؟ تسليم هذه البداية: وجود من ذاته، غير معلول، وغير مُسبَّب، وهو سبب كل وجود آخر. قضية كبيرة وبسيطة، وفي نفس الوقت مُعقَّدة على هؤلاء المُتهوكين و(الغلابة). نسأل الله الهداية للجميع.
قال عبد الله بن عباس فيما يرويه الإمام أبو بكر البيهقي في كتابه الأسماء والصفات، قال عبد الله بن عباس – رضيَ الله تعالى عنهما – كنت لا أدري ما معنى فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩. لم أكن أفهم بالضبط ما معنى فَاطِرِ ۩ بالضبط. كلمة فَاطِرِ ۩! طبعاً سوف تقول لي أهذا ابن عباس؟ هذا ابن عباس طبعاً. ابن عباس حبر الأمة، المدعو له بالفقه في الدين ومعرفة التأويل من رسول الله كما في صحيح البخاري، لا يتكلَّم في لفظة أو في حرف – يُسمونه حرفاً، علماء العربية يقولون لك هذا حرف. أي لفظة واحدة، كلمة – بغير علم، لا يتكلَّم في حرف من حروف كتاب الله بغير علم، فهو ليس مثل بعض المُتهوكين، هناك مَن يتكلَّم بأي شيئ مما يخطر على باله، يقول لك فــ فَاطِرِ ۩ معناها كذا وكذا. فهل أنت تعرف هذا؟ هل عندك دليل؟ لكن هو لم يكن كذلك، قال لك لم أعرف، أنا لم أكن أعرف بالضبط ما معنى فَاطِرِ ۩.
قال حتى رأيت أعرابيين يتخاصمان في بئر – هناك بئر ووقع خصومة -، فقال أحدهما أنا فطرتها. قال فعلمت. فما معنى فطرتها؟ شققتها. لم تكن مشقوقة، لم تكن محفورة، وأنا الذي حفرتها أو احتفرتها وشققتها في الأرض، فإذن هذا هو معنى الفطر، هذا معنى الفطر! وفعلاً هذا ما يُعطيه اشتقاق هذه اللفظة الكريم، نعم!
فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩، والمقصود العوالم، ليس الأرض هذه وحدها فقط والسماء التي فوق الأرض أو السماوات، وإنما كل العوالم! ما علمنا منها وما لم نعلم، وبما فيها ماذا؟ العرش. الله فاطر كل شيئ، وعلى غير مثال – لا إله إلا هو -، لكن ذكر السماوات والأرض لأنها أقرب إلى الناس، وهي محسوسة وما إلى ذلك، لكي يتقرَّب بها المعنى.
فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا ۩، إلى مَن؟ إما إلى أنبيائه بوحيه، وإما إلى عموم عباده بنعمه ونقمه. أي إما للأنبياء بالوحي، وإما للعباد بالنعم والنقم، فهي تُرسَل بالنعم والنقم، نعم!
جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا ۩، وطبعاً قيل الملائكة مُشتَقة حتى من الألوكة، وقلنا هذا في تفسير سورة البقرة على ما أعتقد قديماً، وذلك في سنة ألفين وكذا، لا أعرف التاريخ بالضبط، الملائكة قيل إنها مأخوذة من الألوكة. والألوكة هي الرسالة، لأنها حاملة رسائل، الملائكة حاملة ماذا؟ رسائل. حاملة رسائل!
رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ ۩، هناك أولو، وهذه طبعاً منصوبة، الملائكة منصوبة، و: أُولِي ۩ كذلك، أُولِي ۩، جمع ماذا؟ جمع ذو. مثل أُولَاءِ ۩، أي هؤلاء، ها: للتنبيه، ولكن هي أولاء، ها + أولاء. جمع ماذا؟ أيضاً جمع ذا. هذه جمع ذو. ونقول ذوو. ذو وذوو، ونقول ماذا؟ أولو. أي أصحاب، أصحاب!
أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ۩، إذن مَّثْنَى ۩ مكسورة، نعم! وَثُلاثَ ۩ ماذا عنها؟ لماذا لم يقل وثلاثاً ورباعاً؟ هذا ممنوع من الصرف. مثنى وثلاث ورباع ومخمس وسداس وسباع. كل هذا! أو مسبع ومسدس وما إلى ذلك، إلى آخره! كل هذا ممنوع من الصرف، لأنه معدول. هذه معدولة! معدولة عن ماذا؟ عن اثنين اثنين، ثلاثة ثلاثة، أربعة أربعة. فهذا المعدول، صفة هذه، صفة معدولة، ممنوعة من الصرف. مثل الأسماء المعدولة: زُحل، عُمر، قُثم. معدولة عن ماذا؟ عن زاحل، عن عامر، وعن قاثم. ممنوعة من الصرف، ولذلك مُنعت من الصرف، فقال ثُلاثَ ۩، وليس ثلاثاً، وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ۩، بمعنى أن هذه الملائكة منها ملائكة مُجنَّحة، أي بماذا؟ بجناحين. منها ملائكة مُجنَّحة بثلاثة أجنحة. عجيب! مثل الطائرات الآن، تجد جناحين على الجانبين وجناحاً يُمثِّل الزعنفة الخلفية، أليس كذلك؟ هذا هو، شيئ غريب! ومنها ملائكة بأربعة أجنحة، فقط؟ هذا أكثر شيئ؟ لا. قال السادة المُفسِّرون – بارك الله فيهم، ونفعنا الله بعلومهم وأنوارهم -، قالوا هذا تنبيه على التعدد. أي هناك أجنحة مُتعدِّدة، وهي أكثر من هذا، فليست النهاية عند أربعة، لما ثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، أن رسول الله – صلوات ربي وتسليمات عليه وآله – رأى جبريل وله ستمائة جناح. ستمائة جناح! والجناح الواحد يسد الفضاء، فضاء المشرق. وقد رآه النبي مرتين على هذه الهيئة فقط في حياته، شيئ مهول ومُخيف، النبي رآه فقط مرتين بهذه الطريقة، فيما عدا ذلك كان يأتيه في شكل آخر، في شكل بشر، وعموماً في شكل دحية الكلبي، أي الصحابي الجليل، كان يأتيه في شكل بشري، وربما رآه الصحابة، كما في حديث جبريل أتاكم يُعلِّمكم دينكم، حديث الإسلام، الإيمان، الإحسان، وعلامات الساعات. ولكن رآه في شكله الحقيقي بالأجنحىة المهيبة هذه والمُخيفة فقط مرتين في حياته، هل هذا واضح؟
في حديث – وطبعاً هذا من مراسيل الزُهري، والقول فيها معروف، أي مراسيل الزُهري (ابن شهاب الزُهري)، رحمة الله عليه – أن جبريل قال للنبي يا أخي يا محمد لو رأيت إسرافيل، وإن له لاثني عشر ألف جناح. ليس حتى ستمائة، وإنما هناك اثنا عشر ألف جناح لإسرافيل، قال له هذا، قال له لو تراه. بمعنى ماذا؟ لرأيت شيئاً مهولاً عظيماً رهيباً. سُبحان الله! هذه قدرة الله، القدير – لا إله إلا هو -، نعم.
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء ۩، الفاعل طبعاً ضمير مُستتر جوازاً، تقديره ماذا؟ يزيد هو. أي الفاعل هو، مَن هو؟ الله – عز وجل -، أي يَزِيدُ ۩ الله.
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء ۩، قيل احتراماً للسياق أو تساوقاً مع السياق يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء ۩، أي في خلق الملائكة. فبعضها له خمسة أجنحة، بعضها له عشرة أجنحة، بعضها له ألف جناح، بعضها له عشرة آلاف جناح، بعضها له مائة ألف جناح. لا ندري! وهذا مقبول، وهذا السياق يُعين عليه. وقيل يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء ۩، أي الصوت الحسن. وقال به كثيرون، إن الله يُعطي بعض الناس صوتاً حسناً، وهذا من الزيادة في الخلق. وقيل الوجه الحسن. وقيل الخط الحسن. ويُمكِن أن تكون عامة. أي يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء ۩، ما شاء الله من الزيادة فِي الْخَلْقِ ۩، وليس حتى من جهة الحُسن والكمالات والفنون والصنائع والملكات والمواهب والنحائز والطبائع فقط، في كل شيئ! لا إله إلا هو، حتى في الأنواع الآن، أليس كذلك؟ حتى في الأنواع! الأرض لم تُعمَر بأنواع واحدة مُحدَّدة، هناك أنواع يستجد خلقها، الله – عز وجل – يخلقها خلقاً جديداً كل فترة، باستمرار! أنواع جديدة، لا إله إلا الله، يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء ۩، وكله يدخل في ماذا؟ في الخلق أيضاً.
مصنوعات البشر من طائرات وسُفن فضاء وبوارج وبواخر وعربات وسيارات وأشياء، كلها زيادة في ماذا؟ فِي الْخَلْقِ ۩. وإليها الإشارة بقوله – عز من قائل – في سورة النحل وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۩، والحديث – ولك أن تتخيَّل هذا – عن ماذا؟ وسائل الركوب. المراكب! الله قال وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۩، وقال وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۩. هذه هي، هناك سيارات وسُفن فضاء وما إلى ذلك، وكله داخل في ماذا؟ في الزيادة فِي الْخَلْقِ ۩. بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ۩، اليوم الحضارة الغربية والبشر الذين ألحدوا وكفروا وظنوا أنهم قادرون عليها، إنما ألحدوا وظنوا هذا الظن السوء لماذا؟ لأنهم: فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ۩. ظنوا أنهم هم الذين فعلوا هذا، وهذا لم يحدث أبداً، هم استعملوا فقط قوانين الله ودساتير الله – تبارك وتعالى – والمادة التي خلقها الله – عز وجل -، وليس أكثر من هذا.
وطبعاً إذا كان الله يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء ۩، فإذن هو بالضرورة ينقص من الخلق ما يشاء، أليس كذلك؟ فالذي لا يُزاد بالقياس إلى ما زيد فيه، يصير منقوصاً. أي إذا قلنا الزيادة في الخلق – مثلاً – هي الصوت الحسن، فالذي ليس عنده صوت حسن عنده نقص بهذا المعنى، وهذا عنده ماذا؟ زيادة. وهكذا! وهذا كله بحسب الحكمة، أي وفق ماذا؟ وفق ما تقتضيه الحكمة الإلهية. لا إله إلا هو!
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، قدرة! هذه قدرة.
۞ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۞
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا ۩، هذه شرطية جازمة طبعاً، مَا ۩ هذه الشرطية الجازمة المبنية على السكون، والتي لا محل لها من الإعراب. مَا يَفْتَحِ ۩، ولذلك قال مَا يَفْتَحِ اللَّهُ ۩، أي هي ما يفتحْ، طبعاً هي مجزومة، ولكن وقع هنا التقاء الساكنين، وللتخلص من التقاء الساكنين نكسر دائماً الأول، أليس كذلك؟ ولذلك قال مَا يَفْتَحِ اللَّهُ ۩، فلا تقل لي ما يفتحْ الله للناس. فهذا لا ينفع، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ ۩، مجزوم! مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ ۩، وهذا واضح، هذه إشارة واضحة إلى خزائن القدرة، إلى خزائن القدرة! كل شيئ مخزون في قدرة الله – تبارك وتعالى -، هذه خزائن، خزائن! وهذا في كل شيئ، ليس فقط في المطر وكذا، في كل شيئ، وهذه الخزائن يفتحها الله – تبارك وتعالى – أيضاً بحسب حكمته، يفتح لهذا بهذا القدر، يفتح لهذا بقدر أوسع، ويُغلِق على هذا، أليس كذلك؟ يُعطي ويمنع أو يمنح ويمنع.
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ ۩، نكَّرها، للشيوع والإبهام. أي شيئ يخطر على بالك أنه رحمة يدخل في قوله مِن رَّحْمَةٍ ۩، سوف تقول لي ماذا عن الأرزاق؟ داخلة. ماذا عن العلم؟ داخل. ماذا عن القوة، السُلطان، النفوذ، الحضارة، المدنية، الآلات، الوسائل، القوة، الجمال، والكذا؟ كله داخل، كله داخل في الرحمة. وفعلاً هذه مُقسَّمة بحكمة إلهية.
فَلا مُمْسِكَ لَهَا ۩، يا سلام على القرآن، والله يا إخواني هذا يفطر القلب، والله! ولكن نحن لا نعي هذا. اللهم لا تحرمنا، وعلِّمنا وفقِّهنا، ولا تتركنا في قيد الجهل وفي ربقة الجهل. والله يفطر القلب! اليوم كنت أحكي لأخ فاضل عن هذا، كنت أقول له فقط مُجرَّد استحضار هذه الفكرة يفطر القلب، فكيف للقلب المُؤمِن أن يتحمَّل الشيئ هذا؟ أعني أننا بين أيدينا كلام الله، هذا كلام الله! هذا ليس كلام الرسول أو كلام صحابي أو كلام رجل صالح أو كلام عارف أو كلام فيلسوف، كلام رب العالمين، الذي يتكلَّم هنا هو الله نفسه – لا إله إلا هو -، أنزل هذا الكلام، وهذا محفوظ كما هو، بالحرف، وبالنُقطة. لا إله إلا هو! فما معنى أن الله يقول لك هذا؟ هو يقول لك هذا، يقول لك إذا شئت أن أفتح لك رحمة، فلن يستطيع الخلق جميعاً – ليس فقط البشر، الإنس والجن والملائكة وما علمت وما لم تعلم – أن يُمسِكوها. لا يستطيعون ماذا؟ إغلاقها وإمساكها. ألا يُعطيك هذا طمأنينةً، يقيناً، سكينةً؟ ولن تضارب ولن تُعاتب ولن تُخاصِم ولن تقلق ولن تأرق أثناء النوم ولن تقول لا، يُمكِن أن يقطعوا رزقي. مَن بإمكانهم أن يقطعوا رزقك؟ والله لا تقدر الدنيا كلها على هذا. لو الحكومة التابعة للدولة التي أنت تعيش فيها – حكومة كاملة، من الرئيس إلى أصغر بوّاب – أرادت هذا وتآمروا عليك، فوالله لن يقدروا على هذا، إذا كان الله لا يُريد.
فلذلك القرآن مَن يفهمه – لكن لابد وأن يُوقِن به، أي يأخذه بيقين – يُصبِح مثل الجبل، ساكناً، مُطمئناً، رزيناً، ويُصبِح شخصاً جميلاً، فلا يجزي بالسيئة السيئة، ولا يدفع السيئة بالسيئة، لماذا؟ عنده يقين، لا تُوجَد مُشكِلة! يُقال له هم يُحارِبونك ويشنون عليك الغارة ويشوِّهون صورتك! ولكنه يقول حارب، شوِّه، احك ما تُريد، المكتوب لي عند الله لابد وأن يأتي إلىّ. أليس كذلك؟ وما قدَّره الله لي لابد وأن يقع، حتى ولو العالم كله وقف أمامه. فلا تُوجَد مُشكِلة، لا تُوجَد مُشكِلة تستدعي أن تُصبِح مُزعزعاً مُزلزلاً قلقاً، أنت لن تكون كذلك أبداً، لأن هناك يقيناً، أليس كذلك؟ اللهم أعطنا هذا اليقين، أعطنا هذا اليقين.
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ ۩، اذهب أنت إذن، اكتب تقارير، تعامل مع المُخابَرات وأجهزة المباحث، بع نفسك لشياطين الإنس والجن، بع دينك، تخل عن شرفك، وافعل كذا وكذا، ووالله لن يحصل لي إلا ما كُتب لي. بل أقول لك إنك ستُحرَم حتى الرزق أو جُزاءً منه، أي الذي كان مُقدَّراً لك أن يأتيك حلالاً طيباً. لأن عندنا – وهذا ليس في الصحيح، لكنه ثبت عن رسول الله، وصححه بعض العلماء – أن العبد يُحرَم الرزق بالذنب يُذنِبه. أنت ذهبت الآن تستكثر الذنوب لكي تُعظِّم رزقك؟ حتى رزقك الذي كان مكتوباً لك سوف ينقص، وما تُؤمِّل فيه أنت لن تحصل عليه، ضاع عليك، كُن كما أنت، أنت تستأهل هذا. العقاب في الدنيا قبل الآخرة، ولذلك يعرف هذا مَن يفهم القرآن جيداً، ليس فقط مَن يقرأه ويتغنى به، لا! يفهمه ويعيش به جيداً، وهذه فُرصة يا أحبابي – إخواني وأخواتي – في رمضان، عيشوا مع هذا الكتاب العزيز، ولا أجمل منه، ولا أجمل والله العظيم! في الليل والنهار تدارسوه وتفكَّروا فيه وافتحوا واقرأوا وفسِّروا وانظروا، من أجمل ما يكون، مَن عاش مع هذا القرآن الكريم، فقد قعد على قمة هرم الحكمة، انتهى! وهذه حكمة إلهية، وليست حكمة بشرية.
وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ ۩، أوه! قال لك أنا عزيز. انظر إلى هذا، فهو لم يقل حتى العليم، أي لم يُذيل – وهذا اسمه التذييل طبعاً، أي لآخر الآية – بها الآية، لم يُذيل بقوله وهو العليم الحكيم. لماذا؟ لأن الكلام عن ماذا؟ الكلام عن الفتح والإمساك. أليس كذلك؟ والإمساك والفتح. قال لك أنا الْعَزِيزُ ۩. و: الْعَزِيزُ ۩ من ماذا؟ من ماذا مُشتَقة؟ من أرض عزاز. يُقال أرض عزاز، أرض صُلبة قوية، صخرية قوية، لا يعمل فيها حتى الفأس والمساحي، لا تعمل فيها الفئوس والمساحي، أرض عزاز! يُقال أرض عزاز. فهذه العزة، والعزة هي المنعة، القوة. أي لا أحد يستطيع أن يُغالِب الغلّاب – لا إله إلا هو -، وكما أقول أنا دائماً مُغالِب الغلّاب مغلوب. خل الدنيا كلها تُحاوِل هذا، أتُغالِب الله؟ لا أحد يغلب الله، أليس كذلك؟ ولك هذا إن كان الله في صفك، ومتى يكون في صفك؟ حين تكون أنت في صف الله. فقط! إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ۩، كُن أنت في جانب الله، واعمل بما يُريد الله، وكَن مُوقِناً – أي أيقن – بأنه سيكون في جانبك. إذا كان في جنبك، منعك وأعزك. وهذه السورة ستقول هذا بعد قليل أيضاً، فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ۩، المنعة والقوة والحصانة الكاملة المُطلَقة لمَن؟ لله. وبالتالي لمَن لاذ بالله واعتز وتعزز بالله – لا إله لا هو -. هذه هي! وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩.
۞ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ۞
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۩، انظر إلى هذا، الخطاب للناس جميعاً طبعاً، لأن النعمة ليست على المُؤمِن فقط وللمُؤمِن فقط، للناس جميعاً! وهم غارقون في نعم الله.
اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ ۩، قال السادة المُفسِّرون ليس ذكر اللسان فقط، هذا أهون الذكر! وإنما ذكر الجنان. أولاً هذا بالقلب، أن تُوقِن بأن مصدر هذا النعمة، مُعطي هذه النعمة، مُولي هذه النعمة، مُسدي هذه النعمة، ومُهدي هذه النعمة هو الله وحده، لا أحد غيره أبداً، فتعترف له بالمولوية الكاملة، تعترف له بالمولوية التامة الكاملة، لله! من غير ومن دون الشركاء جميعهم، من الإنس والجن والحجر والملك، لا يُوجَد غيره، موُلي النعمة! إذن بالقلب وباللسان، وبعد ذلك صدِّق هذا بالعمل بالأركان، أي الشُكر، فكأنه يقول اشكروا نِعْمَتَ اللَّهِ ۩. وهذا ما قاله المُفسِّرون، قالوا معنى الذكر هنا الشُكر، أي يُفسَّر بالشُكر.
اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ ۩، يقول هل مِنْ خَالِقٍ ۩، وطبعاً الــ مِنْ ۩ هنا زائدة، ولذلك خَالِقٍ ۩ محلها الرفع على الابتداء، أي تكون مبتدأً هذه، تكون مُبتدأً! وطبعاً هي مجرورة الآن، لأن الإعراب هذا محلي، مجرورة لأن هناك مِنْ ۩، حرف جر زائد، لكي يُؤكِّد المعنى، فتصير هل خالقٌ غير الله؟ هَلْ مِنْ خَالِقٍ ۩، ولذلك قال ماذا؟ غَيْرُ ۩. لأنها ماذا؟ خالقٌ. هل خالقٌ غير الله؟ أي هَلْ مِنْ خَالِقٍ ۩؟ هل خالقٌ؟ و: مِنْ ۩ زائدة.
هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ۩، ما الذي ينزل من السماء؟ أنعام كثيرة، ولكن في رأسها المطر. أليس كذلك؟ المطر! قد يقول لي أحدكم وهناك الأشعة. وطبعاً هناك أشعة الشمس، لولا أشعة الشمس المُنهلة على هذا الكوكب الأزرق الجميل الواهن، لكان من المُستحيل أصلاً للحياة أن تستمر، بل لكان من المُستحيل أن تنشأ، وانظر إلى الحياة الخضراء الآن، هناك الغابات والنباتات والأعشاب، كلها لديها التمثيل الضوئي، كلها! التمثيل الضوئي في هذه كلها تكون فيه الأشعة (أشعة الشمس) هي العنصر الأساسي. ولولا الحياة الخضراء، لما وجد عندنا الأكسجين Oxygen، أليس كذلك؟ هناك دورة الأكسجين Oxygen! لولاها لما وُجد الأكسجين Oxygen، ولولا الحياة الخضراء أيضاً – وهذا غير الأكسجين Oxygen – لما وُجد طعام للحيوانات، ومن ثم لما وُجِدت عندنا الحياة الحيوانية، ولولا الحياة الحيوانية والنباتية، لما وُجِدت عندنا الحياة البشرية. تستحيل الحياة كلها! ولذلك هذه الشمس مُهِمة، ولذلك الشمس هذه عبر حضارات ودورات كثيرة عُبدت من دون الله، هناك أُناس عبدوها، وقالوا لك هذه مصدر خير عظيم للأرض، لولا الشمس، لحصل كذا. ظنوا أنها إله! وإليها الإشارة في سورة الأنعام، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا ۩… ماذا؟ هَٰذَا أَكْبَرُ ۩. هَٰذَا أَكْبَرُ ۩ من النجوم البعيدة، و: أَكْبَرُ ۩ من القمر، وأهم وأولى بالعبادة. ولكنها تأفل، أيضاً تذهب وتغيب، فلا تستحق.
على كل حال إذن السماء يأتي منها المطر، أي عندنا المطر، وعندنا أشعة الشمس، وعندنا أنواع أُخرى من الأشعة، وهي مُهِمة جداً للحياة، على كل حال هذا هو.
هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ۩، وَالأَرْضِ ۩ ماذا عنها؟ ما يخرج منها، وينبت فيها، ويدب عليها. كل هذا يُعتبَر ماذا؟ يُعتبَر في الأرض، من أرزاق الأرض.
هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ۩، طبعاً هذه إشارة إلى أن السماوات والأرض جميعاً مملوكة لمَن؟ لله – لا إله إلا هو -. وهو مَن يفتح خزائن السماوات ويفتح خزائن الأرض، أليس كذلك؟ ونحن الآن – الحمد لله، ما شاء الله – نعيش من ساعات طويلة في ظل نعمة المطر، المُنهمِر هنا، وقبل أيام كان الفلّاحون النمساويون يشكون، يشكون مُر الشكوى ويقولون إن الأرض تأثرت، الأرض تجففت، النباتات حصل لها كذا وكذا. أغاثهم الله بالحياة، أغاثهم الله بالحياة! أي بالمطر، قال لهم خُذوا. لو قبض هذه وأغلق الخزانة، لتأثَّر كل شيئ. يُمكِن أن يُصبِح سعر كيلو البندورة بعد ذلك خمسة يوروات أو عشرة يوروات، مُشكِلة كبيرة! فهذه أرزاق، ونحن نعيش فيها ونظن أنها ماذا؟ مسألة ضرورية وبدهية وتحصل من تلقائها. لا تحصل من تلقائها، تحصل بنعمة الله وبفضل الله. فنسأل الله ألا يُغلِق علينا خزائن فضله، وأن يجعلها مفتوحة مُباحة لنا، وأن يجعلنا من المُثنين عليه بها، القائمين بحق شُكرها. اللهم آمين.
لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ۩، قال لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ۩، وطبعاً هنا يُوجَد مبحث، ولكننا لا نُريد أن نخوض فيه، مبحث طويل ومُعقَّد، وهو جميل ومُهِم على فكرة، ما موضع هُوَ ۩ هنا أو حتى لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ۩ من هذا الاستثناء؟ قصة كبيرة، ولكن لا نُريد أن نخوض فيها على كل حال.
لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ۩، ذكرنا على ما أعتقد في الدرس الأخير من دروس التفسير أن فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ۩ فُسِّرت بمعنيين: قيل فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ۩، فأنى تُصرفون. أنى تعدلون عن طريق الحق؟ تركوا طريق الحق، وعدلوا إلى ماذا؟ إلى سُبل الباطل، وهي كثيرة. فالله قال كيف؟ كيف تعدلون عن هذه السبيل الناهجة اللاحبة الواضحة إلى البُنيات وهي سُبل الباطل، سُبل الأباطيل؟ من الأفك، بالفتح، والأفك هو ماذا؟ الصرف والعدل. وقيل فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ۩، فأنى تُكذَّبون. كيف تُكذِّبون بهذه الحقائق العلوية؟ كيف تُكذِّبون بآيات الله الكونية وآيات الله الشرعية المُوحاة على قلب البشير النذير؟ فهذا من الإفك، والإفك هو ماذا؟ الكذب.
وذكرنا على ما أعتقد في ذلكم الدرس أن هذا القول الثاني يعود إلى القول الأول. لماذا؟ لأن الإفك هو التكذيب بالحق، مآله ماذا؟ صرف الشيئ عن وجهه. أن تقول للحق باطل، أليس كذلك؟ أن تسمه بسمة الباطل وهو حق، فهذا صرف له، أي أفك له، هذا أفك له عن وجهه، فالإفك إذن يعود إلى ماذا؟ إلى الأفك. والمعنى قريب، والله – تبارك وتعالى – أعلم، وهو يقول الحق ويهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.
سُبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
أضف تعليق