أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، يا ربي لك الحمد حمداً يُوافي نعمك ويُكافئ مزيدك، لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
ربنا افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين. علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً، ووفِّقنا للعمل بما علَّمتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
۞ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ۞
فرغنا من الآية الثالثة والثلاثين من سورة سبأ، يقول الله – جل مجده – في الآية الرابعة والثلاثين وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ ۩، وكما قلنا لكم القرية في كتاب الله هي التي تُقابِل البادية، أي بلُغة العصر المدينة. المُدن والحواضر اسمها قُرى، لذلك من سُنة الله – كما قلنا غير مرة – أنه – تبارك وتعالى – لم يُرسِل الأنبياء والمُرسَلين إلا من أهل القرى، إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ ۩ كما قال – تبارك وتعالى -، وليسوا من أهل البوادي.
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ ۩، وهو النبي الرسول، إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا ۩، مُتْرَفُوهَا ۩ أي أغنياؤها وأصحاب السُلطة والنفوذ فيها وكبراؤها المُتسِعون في النعم، المُتسِعون في النعم! ولذلك قَالَ مُتْرَفُوهَا ۩، الترف! والترف كما قال ابن خلدون مُؤذن بخراب العُمران. وفعلاً من أعظم الابتلاء الذي تُبتلى به الأفراد والشعوب والجماعات والأمم الترف، كثرة البسطة في الأرزاق والنعيم يُفسِد الطباع، يُفسِد الخلائق، يُفسِد المسالك، يُفسِد التفكير، يُدير الرؤوس.
ولذلك قل أن تجد من المُترفين مَن هو ناجح نجاحاً حقيقياً، مَن هو ناجح نجاحاً حقيقياً في المضمار الخُلقي والسلوكي، لا! أي تجدهم أهل – سُبحان الله – فساد، أهل انهيار أخلاقي، انهيار مسلكي. وكذلك الأمم! ودرس فلسفة التاريخ يُعلِّم هذا، مَن درس نشوء الحضارات، قيام الحضارات، أفول وسقوط الحضارات، يخلص إلى هذه النتيجة، الأمم تدخل دورتها الحضارية فقيرة في الماديات، مثلما حدث مع الأمة المُحمَّدية، فقيرة في الماديات! لكن غنية بالفكر والأخلاقيات والمعنويات، وتخرج حين تنتهي دورتها الحضارية ويُطوى بساطها غنية بالماديات، فقيرة في المعنويات والروحيات. لذلك لا تتعجبوا أن جماعةً من كبار فلاسفة أوروبا مُنذ أكثر أو من زُهاء مائتي سنة يُنذِرون بانهيار الحضارة الغربية، وأنها آذنت بزوال، وأنها تنتهي. كيف تنتهي؟ قوية جداً، وهناك تكنولوجيا. نعم، نعم! قوية مادياً، وقوتها المادية بالذات هذه قد تكون مقتلها، قد تكون كعب أخيلها الذي يُنهيها، نُقطة ضعف! وفي المُقابِل ضعيفة في المعنويات، أو في كثير منها لكي نكون مُنصِفين، ضعيفة في كثير من المعنويات. هل هذا وضح يا إخواني؟
فإذن إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا ۩، انظر إلى هذا، هذا موقف المُترَفين عموماً، ضد الحق، ضد الأنبياء، ضد الرُسل، وضد السماء. مغرورون – والعياذ بالله – بما لديهم من النعيم. إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ۩، على أن المُرسَلين والنبيين يسيرون من عند آخرهم في هذه الخُطة، أنهم لا يسألون أحداً أجراً ولا مالاً، كيف لو سألوا؟ كيف لو أن الأنبياء والمُرسَلين عاشوا على فضول عطايا وصدقات المُترَفين؟ مُستحيل! كان ضرب الكفر بجِرانه. وهم مُستغنون عنكم وعن كل عطاياكم ولا يبغونكم إلا الخير فقط، ومع ذلك إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ۩، وانظر لماذا هذا الآن.
۞ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ۞
وَقَالُوا ۩، أي قال المُترَفون، وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا ۩، ما علاقة هذا بهذا؟ ما علاقة هذا بهذا؟ القضية الآن أننا نقول لك هذا حق وهذا باطل، هذا طريق الجنة وهذا طريق النار. تقول لا، أنا مالي أكثر، وأولادي أكثر. إذن خُطتي في الحياة، أيديولوجيتي في الحياة – أي الــ Weltanschauung أو الـ Big picture الخاصة بي أو الــ Worldview الخاص بي – أحسن من تلك الخاصة بك، رؤيتي الكونية أحسن من رؤيتك الكونية. ما علاقة هذا بهذا؟ ما علاقة هذا بهذا؟
قد تجد أنت إنساناً غربياً – أمريكياً، أسترالياً، كندياً، أوروبياً – يُمثِّل ذروة التقدم المادي، قد يكون – مثلاً – مُهندس صواريخ فضاء، مهندس صواريخ فضاء! وهو حائز على جائزة نوبل Nobel، ورؤيته الكونية تسبقها وتتفوق عليها رؤية واحد في مجاهل إفريقيا، عنده رؤية كونية أفضل من رؤية مَن؟ مُهندس صواريخ الفضاء، الحائز على نوبل Nobel. ليس لها علاقة!
لكن للأسف الشديد – كما تعلمون وقد وقع التنبيه على هذا غير مرة – هناك مُشكِلة تتعلَّق بالعقل البشري يا إخواني، وقد نبَّه على هذا أرسطو Aristotle من قديم، وأما الآن علم النفس المعرفي – أي الــ Cognitive psychology – فيقول هذا، قاعدة من قواعد علم النفس المعرفي أن البشر من أقل الكائنات منطقية. يظن نفسه أنه كائن منطقي وأنه يُفكِّر بالحُجج وبالدليل وبالبُرهان، وهو ليس كذلك أبداً، أبداً! لا يفعل هذا إلا قلة منزورة من البشر، فعلاً تُفكِّر بمنطقية، أما مُعظَم البشر بما فيهم العلماء وكذا فيُفكِّرون بالتداعيات السيكولوجية. بمعنى أنه قد يسمع مُتحدِّثين، فيُعجِبه مرأى ومنظر أحدهما، فيقع كلامه في نفسه أعظم مما يقع كلام الآخر، على أن كلام الآخر كحقيقة موضوعية أثقل وأوزن وأبلج وأفلج بالحُجة مرات من هذا، لكن حدث هذا لأن هذا شكله صعلوك وفقير و(غلبان)، ولباسه لا يدل على غنى وعلى فخامة، وليس له ربما أشياع وأتباع، وهذا عنده أشياع وأتباع، ويُصفِّقون له ويعملون له دعايات ومواقع في النت Net، هكذا البشر، مساكين!
والقرآن الكريم أشار إلى هذا بطريقة لطيفة جداً جداً جداً، ما هي؟ تجدون هذا الأمر حين تقرأون سورة النمل، وما جرى أو بعض ما جرى بين سُليمان – عليه السلام – وبين ملكة سبأ المعروفة ببلقيس، قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۩، أول الآية قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۩ كي لا يبتل ثوبها أو ذيل ثوبها، قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۩، من زجاج هذا، هذا من زجاج! يُرى الباطن من الظاهر، والظاهر من الباطن، كما في غُرف الجنة. قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، فأنا قلت في خُطبة قديمة لما رأت الصرح كشفت عن ساقيها وأسلمت. هذا البشر، وهذا ضعف البشر، ضعف البشر! وحكيت لكم حكاية لطيفة، كنت أُدرِّس في أكاديمية في ذلك الوقت (قبل بضع عشرة سنة)، وأحد تَلاميذي كان أخاً شيعياً، وأنا كنت لا أعتني بهذا، يقول لي أنا تسننت، وأنا كذا وكذا. فأقول له بارك الله فيك، المُهِم أن تُحسِن الاعتقاد والعمل. أنا لا يعنيني أنت سُني أو شيعي، اتق الله، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۩، المسألة ليست بالعناوين، نعم! ورُب شيعي خير من سُني، ورُب سُني خير من شيعي، ليس لها علاقة، بحسب العمل! ومُتسنِّن على المذهب الحنفي – يقول لي -.
ذات يوم جاءني وقال لي يا شيخ أنا أُفكِّر أن أعود إلى شيعيتي. قلت له أنت بالخيار، لماذا؟ قال لي لا، أبداً. فأنا لم أفهم! بعد قليل سألني، وقال لي هل تابعت بالأمس على التلفزيون Television تجربة إيران في إطلاق الصاروخ الفلاني؟ قلت نعم، أطلقت صاروخها، فعاد إلى تشيعه. تماماً مثلما رأت الصرح فكشفت عن ساقيها وأسلمت، هذه القضية! لأن هذا المسكين بحسب هذا المعنى ليس عنده تفكير عقلي مُحكَم، مَن أقرب إلى الحق: الشيعة أم السُنة؟ هذه ليس لها علاقة بأن إيران أقوى من الدول السُنية أم أضعف؟ فهذا موضوع ثانٍ، وإلا الدول الأُخرى التي هي غير مُسلِمة بالكامل – بما فيها حتى الاتحاد السوفيتي السابق، وهو مُلحِد، ضد الله وضد الرُسل والأنبياء جميعاً – أقوى من إيرانكم ومن دولنا السُنية ومن كل شيئ، ما شاء الله! هل هي على الحق إذن؟ ليس لها علاقة. التفوق المادي ليس له علاقة بقضية الرؤية الكونية، فلا تغتروا.
للأسف الآن طبعاً أكثر مَن يغتر هم أبناؤنا، وحتى المُفكَّرون عندنا والفلاسفة يغترون بالغرب بسبب تفوقه المادي، ويظن الواحد منهم أنه إذا تفوَّق مادياً وكشف أسرار الطبيعة وفك مغالقها، فهو إذن صاحب الرؤية الصح حتى في الماورائيات. غير صحيح بالمرة، ليس لها علاقة! ألبرت أينشتاين Albert Einstein كان يشكو من هذا العته، هذه حالة عته فكري وعوق فكري، كان يقول مُراكَمة في الأدوات، تكثير للوسائل، غياب تام للأهداف، تلك مُؤشرات عصرنا. قال هذا عصر مجنون، ونحن حضارتنا مجنونة. قال ما الحضارة هذه؟ وهذا أينشتاين Einstein، ألبرت أينشتاين Albert Einstein! أحد أعظم رموز الحضارة الغربية، قال ما حضارتنا؟ هي مُراكَمة للماديات، تكثير للوسائل، غياب تام للأهداف. فالآن قال لك – هذا قبل حوالي ثلاثين سنة – لو قُسمت الأسلحة المُدمِّرة المُهلِكة المُفظِعة المُخزَّنة عند القوى العُظمى في العالم – هذا يوم كان عدد البشر قريباً من خمسة مليارات، أو كان عددهم خمسة مليارات ونصف المليار، تخيَّل! قل خمسة مليارات في أيامها -، فسيضح أن نصيب كل فرد خمسة أطنان من الأسلحة. ولماذا هذا – إن شاء الله – كله؟ أي مليارات الأطنان، ملايير الأطنان، من أسلحة الدمار – ما شاء الله -، عند أمريكا وروسيا وفرنسا. من أجل هذا ماذا؟ قال لك نعم. قال لك هذه الأسلحة النووية التي عندهم كيفلة أن تُمزِّق الأرض، أقل شيئ في ثمانين أو مائة مرة. تُمزِّقها مائة مرة! أي تُمزِّقها بالكامل مرة ومرة ومرة ومرة… ولماذا – ما شاء الله – هذا كله إذن؟ يكفي أن تُمزِّقونا مرة واحدة، يكفي أن تُمزِّقونا وإياكم – أن تُمزِّقوا الكوكب كله، وينتهي الكوكب من المنظومة الشمسية – مرة واحدة. ولماذا هذا كله وهناك شعوب تموت بالشر وبالجوع؟
وعلى فكرة هذه الحضارة الغربية، هذه إحدى سوءاتها ومقابحها، لو كانت هناك حضارية إسلامية حقيقية – لو كانت هناك، ونحن بعيدون جداً -، لقلنا من المفروض ألا تكون هكذا بالمرة. ممنوع مُراكَمة الوسائل والماديات لأجل المُراكَمة بحد ذاتها، لابد وأن تكون هناك غايات، لابد من التفكير الغائي، لماذا تفعل هذا؟ من أجل ماذا؟ هل نحن فعلاً نحتاج إلى هذا؟
مرة قرأت لفيلسوف كلمة جميلة جداً، يقول ماذا؟ يقول بجُزء بسيط من المُوازَانات المرصودة لأسلحة الدمار الشامل عند القوى العُظمى كان يُمكِن من عشرات السنين أن نُنهي وعلى مُستوى كوكبي أمراضاً كثيرةً. طبعاً هذا لو رُصِدت هذه المليارات لهذا الغرض، هناك مئات المليارات التي تُراكم بها أسلحة دمار – كما قلنا -، أي يكفي أقل أقلها لتدمير الكوكب بالكامل، فلماذا هي إذن؟ كان يُمكِن أن تُرصَد لأبحاث علمية تقضي على أمراض وبشكل أيضاً كُلي، أي كان يُمكِن أن يُصنِّعوا قنابل كما يقول هذا الفيلسوف الغربي، يُصنِّعوا قنابل مُعيَّنة، تُضرَب في الجو، فتُعطي مناعة لكل أهل البلد، حين تتنسمها ينتهي الأمر، تشعر وكأنك أخذت لقاحاً – Vaccine – مُعيَّناً، ببساطة! مُمكِن – قال لك -، علمياً هذا مُمكِن، ولكن هم لا يُريدون هذا. فلماذا هذا كله؟ وطبعاً تعرف الجشع الإنساني، لكي ينتفع أُناس من صناعة الأسلحة، هناك المُجمَّع الصناعي العسكري، الذي حاربه آيزنهاور Eisenhower في خُطبته الشهيرة أول ما أخذ الرئاسة، قال لك المُجمَّع العسكري الصناعي سبب بلائنا هذا وسبب عتاهنا الحضاري. قصة كبيرة!
فهؤلاء المُترَفون في كل زمان، وحتى في الزمن هذا، عندهم نفس الخُطة ونفس الطريقة – والعياذ بالله -. يظنون أن توسعهم في الماديات والأشياء الظاهرة علامة ماذا؟ النجاعة والصحة في الرؤية الكونية. ديننا أحسن إذن وعقيدتنا أحسن! وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا ۩.
وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ۩، فكيف إذن هذا؟ لماذا؟ قال لك هو هكذا، أي هو أكرمنا في الدنيا، وأكيد سوف يُكرِمنا في الآخرة. عجيب! لكن هذا الرسول فقير، الذي يدعوك فقير، وربما لا يملك إلا الجلباب الذي يستر سوءته، فهل سيكون في الآخرة من أهل النار؟ هذا معنى كلامهم! يقولون لك نعم، حتى ولو كان الرسول. بما أنه مُقِل مُعدم في الدنيا، فسوف يكون في الآخرة أيضاً مُعدماً. منطق مادي مُخيف ملعون، وهذا من الغرور بالله، من الغرور بالله! وهذا القرآن سجَّله على المغرورين بالله في مواضع كثيرة، وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا ۩، وفي قراءة منهما، يعني الجنتين، مُنقَلَبًا ۩، في الكهف! في سورة فُصلت وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ ۩، نفس المنطق! أي سيكون الآتي أحسن، في الآخرة سيكون هناك ما هو أحسن، أنا في الدنيا أحسن وفي الآخرة سأكون أحسن منك، مع أنني – أي هذا البعيد – لا أؤمن بالرُسل وبالأنبياء، وأنت تُؤمِن بها، ولكن لا، أنا سوف أكون أحسن منك في الآخرة كما أنا أحسن في الدنيا.
فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ۩، قال لك هذه كرامة، هو أعطاني ووسَّع لي، لأنه يُكرِمني، وأنت يا مُسلِم ويا مُؤمِن وحتى يا نبي أهانك الله حين ضيَّق وقتَّر عليك وقدر عليك رزقك. عجيب! هل هذا منطق القرآن؟ أبداً. هل هذا منطق الرحمن؟ لا. منطق المغرورين من المُترَفين والكافرين. فماذا عن منطق القرآن؟ سوف نراه الآن، انظر إلى الآتي، انظر! هذا القرآن.
۞ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ۞
قُلْ ۩ يا محمد، قُلْ ۩، أجِبهم يا خيرتنا، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ۩، فالرزق قد يُبسَط لكافر، لمُلحِد، لمُجرِم، لمُعانِد. الواقع يُصدِّق هذا أو لا يُصدِّقه؟ يُصدِّق. أي الرزق لا يُبسَط فقط للمُشرِكين، لأن المُشرِكين يُؤمِنون بالله، ومنهم مَن يُؤمِن حتى بلقاء الله، يقول لك على فرض أن هناك لقاءً مع الله، لا تُوجَد مُشكِلة. لكن يُشرِكون بالله أوثاناً وأصناماً أُخرى، لا! وهناك ملاحدة لا يُؤمِنون أصلاً بالله، يقول لك الواحد منهم لا يُوجَد إله، ليس ثمة أصلاً إله، هذه خُرافة الإنسان اصطنعها وائتفكها. جميل! وتجد ملاحدة ورزقهم ماذا؟ مبسوط. الواقع يُصدِّق هذا، الله قال لا، المسألة ليس لها علاقة بهذا. وانظر أنت فيمَن حولك، تجد أن الرزق قد يكون مبسوطاً لملاحدة، أعداء لله ورُسله. وقد يكون مُقتَّراً على مَن؟ على أولياء صُلحاء. وقد يكون أيضاً الرزق في أيدي مَن؟ أولياء وصُلحاء. أليس كذلك؟ موجود! وقد يكون هناك ملاحدة وكفّار ومُشرِكون… وماذا؟ وليس عندهم شيئ، مُعدمون. موجود هذا!
إذن البسط والقبض، البسط والقدر، البسط والتقتير، مسألة عامة في البشر جميعاً، بغض النظر عن مُعتقداتهم. قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ ۩، انظر إلى المُطابَقة، طباق! يَبْسُطُ ۩… وَيَقْدِرُ ۩، ما معنى وَيَقْدِرُ ۩ الآن؟ ليست من القُدرة، من القَدْر، وهو التقتير والتضييق. كما قال وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۩، ولن نتكلَّم أكثر من هذا، فقد ذكرنا أقوال أُخرى.
إذن يُوجَد عندنا البسط والتقتير، التقتير هو التضييق، الله يُوسِّع والله يُضيِّق، أي يفتح ويُسكِّر، كما في أول فاطر، وفاطر بعد سبأ على فكرة، أي سورة الملائكة بعد قليل، مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ ۩، يفتح ويُغلِق، يَبْسُطُ ۩… وَيَقْدِرُ ۩.
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ۩، إذن هذه مسألة لا تدل على العواقب، قاعدة قرآنية! الله قال لك البسط والتقتير في الرزق لحكمة إلهية، ولا تدل على العواقب. فقد يكون هناك كافر، ويكون مبسوطاً له رزقه، أو مُقتَّراً عليه من رزقه، من أهل النار. وقد يكون هناك مُؤمِن وولي لله صالحاً – اللهم اجعلنا منهم -، ومبسوطاً له رزقه – أي قد يكون رزقه مبسوطاً -، أو مُقتَّراً عليه، وهو من أهل الجنة والرضوان. ليس لها علاقة، لا تدل على العواقب، لكن تجري وفق الحكمة، تجري وفق الحكمة! الله عنده حكمة، لماذا أغنى هذا؟ لماذا أفقر هذا؟ لماذا أعطى هذا؟ لماذا منع هذا؟ لماذا أعز هذا؟ لماذا أذل هذا؟ لماذا رفع هذا؟ لماذا وضع هذا؟ حكمة!
وطبعاً هذا الكلام ليس معناه أن تستسلم لسابق القدر، ولا يُمكِن لمُسلِم أن يُفكِّر بالطريقة هذه، فتجلس وتقول لأنتظرن السماء حتى تُمطِر علىّ رزقي. لا يُوجَد الكلام هذا، في الدين هذا مرفوض تماماً، لكن هناك الخُطة الحكيمة، هذا اسمه حكمة الإيمان، انظر إلى هذا! المُؤمِن حكيم، ومن أين يستمد الحكمة هذه؟ يستمد الحكمة من إيمانه، من فقهه في كتاب الله، من فهمه عن الله – فهَّمنا الله وإياكم عنه، لا إله إلا هو -. فقال لك هذا منطق المُؤمِن. حكمة الإيمان! حكمة الإيمان تقضي بماذا؟ تبذل الجُهد وتستفرغ الوسع في البحث عن رزقك، تتسبب وتحتال أو تتحيل بكل الوسائل المُباحة. المُباحة! وبعد ذلك – انتبه – قطعاً ما ستنتهي إليه من الرزق سيكون أقل مما انتهى إليه غيرك، من مُسلِمين ومن كافرين، أي لن تكون أنت الأغنى في العالم، أليس كذلك؟ صعب! الأغنى في العالم لابد وأن يكون واحداً دائماً، ونحن نراه دائماً على الــ Website، مرة يكون مَن يتبع أمازون Amazon ومرة يكون مَن يتبع غيرها، والآن هو مَن يتبع أمازون Amazon، وهو كذلك من فترة، هذا الأغنى، لأن عنده أكبر عدد من المال، عنده مائة وخمسون ملياراً أو مائة وسبعة وستون ملياراً، وقد نزل إلى ما لا أعرف، هذا واحد! معنى هذا أنه يُوجَد واحد منه، والله أغنى منه طبعاً، أليس كذلك؟ واحد فقط، لن تكون أنت الأغنى، جميل! فماذا تعمل؟ لكي تستمتع وتنعم وتهنأ بما أعطاك الله، ارض بما قسم الله لك. أنت بذلت وتحيلت وتوسلت واشتغلت واجتهدت، وماذا بعد؟ ارض بما قسمه الله لك، تكن أغنى الناس. رضاء! الحمد لله، هذا مُمتاز. ولكن الله قسم لي بكذا وهو قليل؟ مُمتاز، الحمد لله. زادني كذا؟ الحمد لله. ولذلك تجد المُؤمِن دائماً سعيداً مُطمئناً واثقاً، وعنده سكينة في كل أحواله، سواء كثر ماله أو قل ماله، سواء اتسع أو ضاق. وعلى فكرة لا يضيق على المُؤمِن شيئ – بإذن الله تعالى -، هو في سعة من ثقته بالله.
لذلك حقيقة الزُهد كما في جامع الترمذي أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك. المُؤمِن عنده هذا، المُؤمِن قد يكون عنده حساب – أي عنده Konto – فيه خمسون ألف يورو، ولكنه لا يثق فيهم، يُمكِن في أي لحظة أن تضيع هذه الأموال، يُمكِن أن يفلس البنك الخاص بك، وبالتالي سيُعطيك منها ألفاً – مثلاً -، يُعطيك ألفاً من خمسين ألف يورو، ومن ثم ضاع عليك كل هذا، ليس عندك إلا هذا. الآن بنك أوستري هذا لو أفلس وكان عندك فيه عشرة ملايين، فسيُعطيك مائة ألف فقط، من أصل عشرة ملايين. عندك مائة مليون؟ سيُعطيك مائة ألف. عندك مليار؟ سيُعطيك مائة ألف. وهو يجعلك تُوقِّع على عقد. ضاع عليك كل شيئ، أنت عندك مليار وأخذت مائة ألف، انتهى كل شيئ!
المُؤمِن ثقته بما في يد الله أعظم من ثقته بما في حسابه، بما عنده تحت الفرش، بما يُخبئه في السقف Surface. والله العظيم! عنده الثقة هذه، ثقة فعلاً، ثقة! يا أخي شيئ عجيب، من أين أتى بالثقة هذه؟ من صلاح العلاقة بالله. العلاقة صالحة طيبة، وهو يعلم أنه إذا احتاج – احتاج حقاً -، فإن الأمر لن يُكلِّفه سوى أن يقوم هكذا يتوضأ، يستقبل القبلة، ويا ربي – يقول له – ويا سيدي أُريد. الله يقول له تُريد؟ تفضَّل. وهذا مُجرَّب، لكن مَن هذا؟ الذي أصلح علاقته بالله جيداً جيداً جيداً جيداً جيداً، وهو صالح صالح صالح. لا تُوجَد ذنوب كبيرة بالمرة، والصغائر بالكاد تستطيع أن تراها – هذا إن رأيتها أصلاً -، لا يُوجَد هذا، لا يُوجَد! اللهم اجعلنا منهم. فالحمد لله، هذه حكمة القرآن الكريم، إذن وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ۩.
۞ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ۞
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم ۩، انتبه، هنا يُوجَد التفات، أرأيت؟ يُسمونه تلوين الخطاب في البلاغة. تلوين جميل! فقبل قليل ماذا كان يقول؟ وقالوا كذا، هم يقولون كذا وكذا، فقل لهم يا محمد كذا وكذا. ثم قال وليست أموالكم هي التي كذا. أي رجع وخاطبهم الآن، فقيل قليل كان يُخبِر عنهم، الغيبة! يُسمونها ماذا؟ الغيبة. الغيبة! الشخص الثالث، الشخص الأول أنا ونحن. الشخص الثاني أنت وأنتم وكذا. الشخص الثالث هو وهم. فكان يُخبِر عن الشخص الثالث، يقولون… يقولون… يرطنون.. وإلى آخره! فقل لهم كذا وكذا. أيضاً هذا الشيئ نفسه، وبعد ذلك ماذا قال؟ وَمَا أَمْوَالُكُمْ ۩. أوه! أي ذهب وجعلهم كأنهم أمامه، وجعل يُخاطِبهم الآن، يُخاطِب المُشرِكين مُباشَرةً. هذا يُسمونه التفات، من الغيبة إلى الخطاب، إلى الحضور، لتلوين الخطاب. الإنسان يتمتع بالكلام هذا، هذا القرآن الكريم، القرآن عجيب، أنت تقرأ وتحس بمُتعة ولا تعرف لماذا، العلماء يُفهِمونك لماذا طبعاً، يقولون لك هنا تُوجَد أشياء وأسرار بلاغية، وهنا أنت تُلاحِظ كيف صار الوضع كذلك، وكذا وكذا. غير! ولكن لو الله قال وما أموالهم وكذا، لوجدت أنها أضعف. هنا التلوين، انتقل! هذا التفات.
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ۩، ما إعراب زُلْفَى ۩؟ منصوب على المصدرية. أي يُسمونه في المدارس عندنا مفعولاً مُطلَقاً. منصوب على المصدرية! أي بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا ۩ قُربى. أي هذا إذا أردت أن تقول تقريباً، لا تُقرِّبكم عندنا تقريباً. يُسمونها ماذا؟ منصوبة على المصدرية، من معنى العامل. لأن العامل ما هو؟ تُقرِّب ۩. قُربى! فيصير معنى زُلْفَى ۩ ماذا؟ قُربى. أي تُقَرِّبُكُمْ ۩ كقُربى.
إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ ۩، ما هذا الاستثناء؟ كيف يتم استثناء مُؤمِنين من كفّار؟ هذا لا ينفع، هؤلاء كفّار! قال لك هذا استثناء مُنقطِع. وقد قلناها مائة مرة، مُنذ اليوم الأول الذي بدأنا فيه تفسير سبأ أتينا بأمثلة كثيرة، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ۩ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ۩، والقلب السليم مال؟ لا طبعاً. القلب السليم بنون؟ لا. فكيف هذا إذن؟ هذا الاستثناء مُنقطِع. والاستثناء المُنقطِع يكون فيه المُستثنى من غير جنس المُستثنى منه. ولابد وأن تكون هناك علاقة دائماً، لابد من وجود علاقة!
هناك المثال الشهير أتى القوم إلا حماراً وما إلى ذلك، هذا مثال سيء للأسف، توارد عليه النُحاة، والعرب لا تعرف مثل هذه التعبيرات، إلا إن كان… المُهِم ما قلناه، ولن نشرح، لأن هذا موضوع ثانٍ على كل حال، ولكن انظر إلى الآتي، الاستثناء المُنقطِع باستمرار منصوب أيضاً، فانتبه! المُنقطِع منصوب، إلا على لُغة بني تميم، ينصبونه ويرفعونه، أو يبدلونه، يُجيزون فيه البدلية، وهذه قصة ثانية، لذلك هذا – مثلاً – في آية قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ۩، قال إِلَّا اللَّهُ ۩، هذه هي، وهذه قصة طويلة، هل هو مُتصِل؟ هل هو مُنقطِع؟ ولماذا؟ وكذا، قصة!
إذن إِلاَّ مَنْ آمَنَ ۩، أي لكن، الله يقول لكن. لأنه مُنقطِع، بمعنى لكن، لكن – الله قال – أنتم لن تنفعكم هذه. قال (بس المُؤمِنين – أي هذا باللُغة العامية – واللي بيعملوا الصالحات)، هؤلاء شيئ ثانٍ، هؤلاء: لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ ۩. وتحدَّثنا أيضاً في تفسير سبأ عن إضافة الموصوف إلى صفته، أليس كذلك؟ جَزَاء الضِّعْفِ ۩، ماذا تفهم أنت من هذه؟ الجزاء المُضاعف. الجزاء المُضاعف! من باب إضافة الموصوف إلى صفته. صلاة الأولى، مسجد الجامع، حبة الحمقاء. وقلنا ما مذهب البِصريين فيها وما مذهب الكوفيين فيها.
جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ۩، قال الْغُرُفَاتِ ۩، هذه غُرفات الجنة، التي ورد في وصفها عن ابن عمر – رضيَ الله عنهما، والحديث صحيح، صححوه – وعن الإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – إن في الجنة غُرفاً يُرى ظهرها من بطنها. رواية أو حديث عليّ ظهورها، ظهرها من بطنها أو ظهورها من بطونها. شيئ عجيب! غُرف يُرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها. قالوا يا رسول الله لمَن هي؟ قال لمَن أطاب الكلام. في حديث عليّ لمَن طيَّب، لمَن طيَّب الكلام. ابن عمر قال وأفشى السلام. زيادة! وبعد ذلك يتفقون، أي وأفشى السلام، وأطعم الطعام، وصلى بالليل والناس نيام.
ألا تُلاحِظون يا أحبتي – إخواني وأخواتي – أن هذه الخصال المذكورة تقريباً كلها تتم للصائم، تتم للرمضاني؟ أنتَ وأنتَ في رمضان ينبغي أن تُطيِّب الكلام، أليس كذلك؟ والصوم جُنة. عند أحمد ما لم يخرقها. والصيام جُنة – في الصحيحين -، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يصخب، وإن سابه أحد أو شاتمه أو قاتله، فليقل إني امرؤ – وفي رواية إني – صائم. أنا لا أقول مثلك هذا، أنت تسب وأنا لا أسب، أقول لك سَلامٌ عَلَيْكُمْ ۩، سلام عليك، أنت تسبني وأنا أقول لك السلام عليك، سلَّمك الله، سلَّمك الله، الله معك. مُمتاز! إذن أنت تفعل ماذا؟ تُطيِّب الكلام. هذا الصائم، انتبه! تُطيِّب الكلام، وماذا بعد؟ أنت تُطعِم الطعام. ونحن قلنا ما أجر مَن فطَّر صائم، وما أجر مَن يُفطِّر صائم ولو على كذا، هذا مُهِم كثيراً، وكذلك الصدقات، أن تُعطي الناس أموالاً لكي يشتروا بها الأكل، حتى يتمكنوا من أن يفطروا به وأن يتسحروا به، مساكين! وذلك في غزة، في سوريا، وفي العراق. والعالم الإسلامي كله يأكل هواء الآن، مسكين! والشيئ نفسه حتى مع الفقراء في بلدك، في مصر أو تونس أو الجزائر أو ليبيا. الفقراء في كل مكان موجودون، تبرع وأعط، وبعضهم أولى من بعض طبعاً، هناك أُناس حاجتهم أشد، فانظر في هذا.
من المُهِم أيضاً أن هناك قيام الليل، صامه وقامه. قال لك ماذا هنا؟ وصلى بالليل والناس نيام. كأن هذه للصائمين بالذات، للرمضانيين – اللهم اجعلنا منهم -. غُرف يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها. إذن قال هذا، نعم! وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ۩.
۞ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ۞
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ۩، ما معنى مُعَاجِزِينَ ۩؟ عاجزه أي سابقه. بنية أن يسبقه، أي يُحِب أن يسبقه، هو يفوته، يغلبه! الله قال لا يستطيع أحد أن يفوتنا، لا يستطيع أحد أن يسبقنا، لا يستطيع أحد أن يتغلَّب علينا. هذا معناها إذن! فلماذا أنتم إذن تطعنون في الصدور والأعجاز من آيات الله الكونية وبالذات الشرعية؟ تقول لا، ولماذا هذا؟ ولماذا قال الله هذا؟ وهذا مُتناقِض، وهذا ضد العلم، وهذا ضد الحقيقة، وكذا. أي تدّعي أنك – ما شاء الله – تعرف كل شيئ، وكأنك جمعت العلم من أطرافه – ما شاء الله -. اعجب لمَن يقول لك لا تُوجَد بيّنة تاريخية. فهل أنت عرفت هذا إذن؟ أنت تنقل هذا مُردِّداً عن أحد المُؤرِّخين الغربيين أو الشرقيين مِمَن يقولون هذا. وهل هذا المُؤرِّخ الغربي أحاط بكل شيئ خُبراً – ما شاء الله عليه – إذن؟ أي هل هو رب التاريخ – أستغفر الله العظيم -؟ هل هو رب التاريخ إذن؟ وهل ما وصل إليه حتى علم التاريخ الآن في اللحظة هذه هو كل التاريخ الحقيقي إذن؟ لا، أبداً! متى دُوّن التاريخ؟ ومتى صار له وثائق؟ وقبل عهد الوثيقة إذن أين كان هذا؟ وحتى في عهد الوثيقة التاريخية هل كل شيئ مُوثَّق أيضاً؟ كم وُجِد من حوادث ومجاريات غير مُوثَّقة! وهناك ما هو أصعب من هذا يا سيدي، ما أصعب من هذا أن التاريخ المعيش – تاريخ اللحظة، التاريخ الجاري كما يُسمونه، الراهن، أي الذي يُوجَد على النار – أو التاريخ الراهن يُختلَف فيه اختلافاً بعيد ما بين طرفيه بُعد المشرق والمغرب، أحدهم يقول لك هذا الرئيس خائن، هذا أمريكي، هذا صهيوني، وهذا كذا. وآخر يقول لك هذا – ما شاء الله – رأينا فيه الرؤى، هذا مُمتاز، هذا كذا. والناس لا تفهم ما الذي يجري، وفعلاً هو كذلك والله، هذا التاريخ الذي أنت تعيشه، أنت لا تفهم شيئاً، فأنت أتيت لكي تحكم على كتاب الله بحجة أن المُؤرِّخين قالوا كذا وكذا؟ ما هذا الكلام؟ اتق الله يا رجل. للأسف هناك أُناس هكذا يبيعون آخرتهم بنوع من الحماقة.
أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ۩، الله يقول أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ۩، أي في نار جهنم، عذاب جهنم، مُحْضَرُونَ ۩، تحضرهم الزبانية، خزنة جهنم، تحضرهم الزبانية! هذا معنى أنهم مُحْضَرُونَ ۩.
۞ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ۞
قُلْ ۩ يا خيرتنا، إِنَّ رَبِّي ۩، رجع مرة أُخرى، قُلْ ۩، وكأنه يقول لك إن الذي أوجب لهم كل هذه اللجاجة، كل هذه اللجاجة وكل هذا الجحود والكنود، هو ماذا؟ هو أنني وسعت عليهم في أرزاقهم. هذا الرزق أدار عقولهم، مثل الخمرة، أسكرهم! لا يرون الحق، ولا يقدرون على أن يُميِّزوا الحق من الباطل. محمد مُبطل وجماعته هذه مُصابة بالهبل ولا تفهم شيئاً، ونحن كذا، ونحن كذا. لا! فرجع الله مرة أُخرى وقال له قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ۩، عجيب! معناها أن هذه الشُبهات التي منشأها سيكولوجي – أي أنا أغنى، أنا عندي أولاد، أنا عندي شيعة وأتباع، أنا عندي كذا – على ما يبدو قوية جداً جداً، وفعلاً هي كذلك، أنت حين تأتي وترى عملياً، تجد أن مُعظَم الخلق فعلاً هذه هي الأسباب السيكولوجية الحقيقية التي تجعلهم يستكبرون على الحق ويُجادِلون بالباطل، ليس الحُجة والبُرهان والعلم والفلسفة، أبداً أبداً أبداً! الغرور بماذا؟ بزُخرف الدنيا. الذين هم مُتسِعون فيه، فالله ركَّز على هذه كثيراً، رجع مرة أُخرى وقال قُلْ إِنَّ رَبِّي ۩، عجيبة! عجيبة ولا يُوجَد إلا هذا، هذا هو. يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۩، يُخاطِب الآن مَن؟ المُؤمِنين. تلك عامة! كما قلنا يَبْسُطُ ۩… وَيَقْدِرُ ۩ لكل مَن شاء، من مُؤمِن ومن كافر. ورجع قال للمُؤمِنين وأنتم يا مُؤمِنون وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ ۩.
وَمَا أَنفَقْتُم ۩ طبعاً مُختلَف فيها، النكرة في سياق الإثبات تعم؟ بعضهم قال تعم. وهذا مذهب ضعيف، النكرة في النفي تعم. وَمَا أَنفَقْتُم ۩، ولكن هنا انظر، قال لك وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ ۩، تعم إذن هذه، هذه تعم قولاً واحداً، مِّن شَيْءٍ ۩، حتى ولو أنفقت تمرة في سبيل الله، لأن الله شكور، الله شكور! وطبعاً هو سيشكرك ويشكر فعلك على قدر فعلك، أنت قادر على أن تُنفِق ليس تمرة، جبلاً من تمر، ولكنك ذهبت وأنفقت تمرة، وبالتالي هو سيُضاعِف لك تمرة. ومَن أنفق جبلاً، فسيُضاعِف له جبلاً من التمر. فيوم القيامة لا تتحسر ولا تزعل، لا تقل لماذا يا ربي عنده كل هذه القصور وكل هذه الجنان، وأنا جنتي صغيرة؟ طبعاً لابد وأن تكون هكذا، هي على قدك، أنت كنت تبخل على نفسك، كما قلنا في الخُطبة تبخل على نفسك، فهذا هو!
لكن الله قال وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ ۩، والنبي قال إن الله – تبارك وتعالى – يأخذ التمرة يتصدَّق بها أحدكم، فيُربِّيها له، أي يُكبِّرها، يُربِيها ويُربِّيها، حتى تصير مثل الفلو، أي مثل الحصان الصغير، مثل الحصان الصغير الفتي هكذا، مثل الفلو! وهي تمرة، تصير رزقاً، تصير حسنات.
وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ۩، لماذا قال وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ۩؟ قال هذا لما كان يُقال من باب التساهل والمجاز فلان يرزق أهله، وهذا الأمير يرزق جُنده، وهذا الرئيس يرزق جيشه. مجاز! الناس يقولون هكذا، يرزق الجُند! يقولون لك أرزاق الجُند. وحتى عندنا في الاستماع الإسلامي يقول لك أُعطيت الجُند أرزاقهم، أُعطيت الجُند أرزاقهم، وفلان يرزق أهل داره. مجاز! من باب المجاز. قيل الله خَيْرُ الرَّازِقِينَ ۩ طبعاً، خيرٌ من أبيك الذي يُنفِق عليكَ، ومن زوجكِ الذي يُنفِق عليكِ، ومن رئيس الشركة الذي يُنفِق عليكَ، ومن رئيس الدولة الذي يُنفِق عليكَ. إلى آخره! الله: هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ۩.
وطبعاً مَن أوجد من عَدم وأمد من عُدم، فهو الرزّاق على الحقيقة، الرزّاق الرزّاق هو الله، ولماذا هو الرزّاق وليس فقط الرازق؟ هو الرزّاق، لأنه يُرزِق طويلاً، تعيش عمرك كله وأنت مرزوق، ويُرزِق الكل. يُرزِق هذا وهذا وهذا وهذا وهذا وهذا، والمخلوقات كلها!
قبل أيام – ربما أقل من شهر – وصلنا مقطع يقشعر له البدن، عن دار قديمة، أي بتون! بتون كانوا يُكسِّرون في، ويُريدون ربما بناء شيئ جديد، وفي البتون وهو ينكسر خرج فرخ طير، عائش – والله – بريشه، ولكن مُعظَم الريش ضاع، وهو يعيش في الداخل. فجعلوا يصرخون، لا إله إلا الله، في البتون! كيف لم يختنق هذا؟ فأين الأكسجين Oxygen إذن؟ وأين الأكل؟ وأين الشرب؟ ما الذي يحصل؟ لا إله إلا الله! الله لم يكتب له أن يموت، يُريد أن يعيش، وهو في البتون! وربما هذا يعيش هكذا من عشرين سنة، لا نعرف كم بالضبط، شيئ مُذهِل! وهؤلاء أُناس كفّار، أي غير مُسلِمين، جعلوا يصرخون، شيئ مُذهِل، يقشعر له البدن.
حدَّثتكم مرة عن أحد الصالحين في صعيد مصر، وكان مُزارِعاً عادياً، وصل إلى الله بضربة، كُشِف عنه وأصبح من أولياء الله، أصحاب الأسرار، من أجل حجر! وحدَّثتكم عنه عدة مرات، حجر أو زلطة! وكان مُزارِعاً هو، عند الظهر قعد لكي يستريح ويأكل وهو مُتعَب، وكان معه زلطة هكذا، وكان يضربها في زلطة أُخرى، فانكسرت! فلما انفلقت – وهذا حصل مع أكثر من واحد على فكرة، لكن هذه القصة خاصة به – وجد في قلبها وهي صخرة، صخرة مُصمَتة، ولا يدخلها لا الهواء ولا الماء، مُستحيل! صخرة، حجر صفوان، أي صوان، القرآن يُسميه صفوان، وهو الصوان كما نُسميه نحن، وجد في قلبها دودة، دودة صغيرة! وهذه الدودة عندها قَطرة ماء أو قُطيرة ماء وشيئ أخضر قليل كأنه طُحلب. أوه! كُشِف عنه. انظر إلى هذا، وفعلاً هو رأى قدرة الله أمامه، يا الله، يا الله، يا الله، يا الله! كيف؟ ما هذا الحفظ للدودة في باطن الصخرة؟ من أين جاء بعض الماء هذا أو قُطيرة الماء هذه؟ ومن أين جاء هذا العُشب الصغير؟ لا إله إلا الله، لا إله إلا الله! في حالة تجلٍ.
وواحد آخر تأمل في عنقود عنب، وكُشِف عنه الحجاب، صار ولياً كبيراً. ونحن طيلة حياتنا نأكل عنباً، بطوننا ملآنة بها، ولم نفهم، أبداً! قعد يُفكِّر هو، كيف تعنقد هذا العنقود؟ كيف كذا؟ كيف – وهو أكثر شيئ أثَّر فيه – يكون الماء في هذه الحبة من الداخل بارداً – والفصل وقتها كان حاراً قليلاً -؟ الماء بارد! وما هذا الحفظ للبرودة هذه؟ هناك القشرة البسيطة التي هي في الخارج، بحيث أنها حتى تشف عما بداخلها، فاستغرب، قال لك كيف هذا كله؟ وكل العنقود مُعجب. أوه! فكُشِف عنه، وفي الحقيقة سمع هاتفاً هو، سمع هاتفاً وكُشِف عنه الحجاب.
نسأل الله أن يكشف عنا الغماء – والله العظيم -، وأن يكشف عن عين بصيرتنا كل غاشية وكل غبش، حتى نُشاهِد بدائع الملكوت ولطائف الصنعة ومجالي القدرة، فنعرف الله حق معرفته، ونعبده حق عبادته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق