بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه. اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، ووفِّقنا إلى العمل بما علَّمتنا يا رب العالمين.
إن شاء الله – إخواني وأخواتي – نشرع الآن بتلاوة هذه الصفحة المُبارَكة من سورة سبأ، وقد شارفنا على نهاية السورة، ثم – بعون الله – نبدأ في ما تيسَّر من إيضاح بعض معانيها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ۩ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ۩ فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ۩ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ۩ وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ ۩ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ۩ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ۩ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۩ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط.
نُكمِل – إخواني وأخواتي بفضل الله وعونه – ما انقطع من حبل الحديث في إيضاح بعض معاني هذه السورة الجليلة (سورة سبأ).
۞ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ۞
قال – تبارك وتعالى – وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ۩، أي مالك المُلك، لا إله إلا هو! جَمِيعًا ۩، يحشر مَن؟ الحديث هنا عن خصوص الكافرين، المُشرِكين. وأخص من هذا الذين كانوا يزعمون أنهم عبدة الملائكة، يزعمون أن هذه الملائكة الإناث هي بنات الله، وأنهم يعبدونها. يُشرِكون بعبادتها مع عبادة الله – تبارك وتعالى -.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ ۩، عز من قائل، لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ ۩، واضح أنه استفهام توبيخ وتعنيف، استفهام توبيخ وتعنيف لمَن؟ ليس للملائكة، لمَن عبدوا الملائكة. وطبعاً هذا استفهام بلاغي، وحقيقة الاستفهام طلب العلم بشيئ مجهول، هذا هو فعلاً، إن خرج عن هذه الحقيقة، صار استفهاماً ماذا؟ بلاغياً. له أغراض كثيرة، بلغ بها بعضهم ما يزيد عن ثلاثين غرضاً، والمشهور منها أربعة أو خمسة، هذه المشهورة! ولكن هناك مَن بلغ بها أكثر من ثلاثين غرضاً وعنده رسالة فيها.
المُهِم أنه قال أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ ۩، لأنه مفعول به طبعاً، لابد وأن يكون منصوباً، إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ۩، أي فعلاً هؤلاء كَانُوا يَعْبُدُونَ ۩؟
۞ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ۞
قَالُوا ۩، أي الملائكة، سُبْحَانَكَ ۩، سُبْحَانَكَ ۩ أنت المُنزَّه عن أن يُشرَك بعبادتك أحد أو شيئ، ولكن هؤلاء أغبياء، أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم ۩، نحن لا نعبد إلا إياك، ولا نتولى إلاك أو إلا إياك، أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ۩، ظاهر الآية أن الجن غير الملائكة، وتكلَّمنا مرة عن موضوع الجن وإبليس وكذا، فهذا واضح، واضح أن صار هناك ماذا؟ مُغايرة. الملائكة قبيل من الخلق، والجن قبيل آخر، قالوا ليس نحن السبب، هم كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ۩.
بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ۩، قد يقول لي أحدكم أين هذا؟ العرب ما كانت تعبد الجن. لا! حي من خُزاعة فعل هذا، حي! مثل وأد البنات، ليست كل العرب كانت تئد البنات، أبداً! ولكن منهم مَن كان يفعل، وكذلك لم تكن كل العرب كانت تعبد الملائكة أو الجن، حي من خُزاعة، وليس حتى كل خُزاعة، حي! اسمهم بنو مُليح، يُقال لهم بنو مُليح. كانوا فعلاً يعبدون الجن، يزعمون أنهم ملائكة، وأنهم يترآون لهم، ويُلقون إليهم بالقول، أي بالوحي. وهذا كله كذب، هذا كله ماذا؟ كذب! إنما كانوا يعبدون الشياطين، وليس الملائكة، الملائكة ليس لها علاقة بالقضية كلها. نعم! أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ۩.
۞ فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ۞
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلا ضَرًّا ۩، لا العابد للمعبود، ولا المعبود للعابد، ذهبوا وانتهوا! وهذا إذا كان طبعاً المعبود يرضى بعبادة العابد له، وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ۩، الآية واضحة.
وطبعاً قد يقول لي أحدكم لماذا قال ذُوقُوا ۩؟ طبعاً هذا تهكم، هذا أمر للتهكم، كما قال – عز من قائل – في حم ۩ الدخان ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ۩، أولاً قال ذُقْ ۩، الذواق عموماً في الأصل فيه أن يكون للشيئ الذي يُذاق، وليس للنار، النار تُذاق؟ هذه التي تصهر وتُذيب كل شيئ – والعياذ بالله -، شيئ مُخيف نار جهنم هذه، شيئ مُخيف! من باب ماذا؟ السخرية. وثانياً طبعاً قال إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ۩، هذه مزيد سخرية طبعاً، أنت عزيز وكريم، وذق. ذق! أي سخريتان. وهنا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ۩، نعم!
۞ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ۞
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۩، انظر إلى هذا، آيات الله بَيِّنَاتٍ ۩، الله يقول لك آيَاتُنَا ۩ دائماً بَيِّنَاتٍ ۩، فلماذا هي ليست بيّنات أو غير بيّنات في وهل وظن ووهم بعض الناس؟ حُجبوا عنها بحجاب الكبر، والمُناقَشة بغير علم، والجهل. هذا هو! هذه حُجب، الجهل حجاب كبير، ولا يُمكِن لواحد جاهل أن يأتي ويقول لك أنا أتكلَّم في هذا. لا تتكلَّم، حق العالم أن يتكلَّم، حق العالم أن يُبيِّن، حق المُتعلِّم الجاهل أن يتبيَّن. لا يُمكِن أن نعكس الأدوار، فيأتي واحد جاهل ويعترض على العلماء وعلى الأئمة وعلى الرُسل والأنبياء وعلى الكُتب الإلهية، ويدّعي أنه عالم. أنت جاهل، وأنت لا تعرف شيئاً، لا تتكلَّم! مُصيبة هذه على فكرة، أي الجاهل حين يظن أنه أهل للكلام، يذهب بنفسه إلى ستين داهية هذا المسكين، والله لن يعذره، أليس كذلك؟ لن يعذره أبداً.
وكذلك المُتكبِّر، مُستكبِر هو، وهو يعرف نفسه، وهو ليس في وارده كما يُقال أو ليس وارداً عنده أنه يُناقِش بعلم ويُحاجِج ببُرهان، وإن غُلِب، استكان. لا! هو لا يُريد هذا، هو المسألة عنده مقطوعة، أنا مُحِق وأنت مُبطِل، انتهى! وهذا لن يرى، لن يرى! لن يرى أبداً، مهما كانت الآيات واضحة، لن يراها، لن يقتنع بها، لن يرى فيها أي وجه للحُجة والاستدلال. ما رأيك؟ والله! شيئ عجيب، عجيب فعلاً. بخلاف مَن؟ الصادق في الطلب. هناك واحد كافر، مُلحِد، ولكنه صادق، أول ما تُقيم عليه الحُجة، وقد تكون حُجبة بسيطة ومُتاحة للعوام، يقول لك ما كنت أعلم، ما كنت أعلم! حُجة فالجة، حُجة واضحة، أنا عائد عما أنا فيه. ويعود مُباشَرةً، هذا صادق، هل هذا واضح؟
فلذلك هي بَيِّنَاتٌ ۩ كما قال تعالى بالذات فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ۩، انظر إلى الجحد والعلم، إذن هناك مسألة الجحود والكبرياء – والعياذ بالله – والتعنت، وأيضاً ماذا؟ الجهل. فهي واضحة عند أهل العلم. وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ۩، في أول سبأ، وقد فسَّرناها، وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ۩، هؤلاء الذين عندهم علم.
فهذه كلها حكاية بَيِّنَاتٍ ۩، ويقول لك أحدهم كيف هي بيّنات يا أخي؟ هي بيّنات طبعاً، عند مَن هي في حقه بيّنة من أهل العلم ومن أهل التواضع للحقيقة، وليس عند مَن هو من أهل الجهل وليس عند مَن هو من أهل الكبر، هؤلاء لن تكون هذه بيّنة عندهم، ستكون مُطلسَمة، غير مفهومة، مُستغلِقة.
قَالُوا ۩، عن محمد – عليه السلام -، مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ ۩، وهل هذه حُجة إذن؟ أي أتُرد بيّنة محمد الآن بل بيّنات محمد بأن هذا جاءنا بما لم تأت به الأوائل، جاءنا بغير دين آبائنا؟ ومَن قال لك إن دين آبائك سليم أصلاً؟ مَن قال لك إن عبادة الأحجار والأوثان سليمة؟ ما شاء الله عليك! ولو سألناك هذا الحجر يسمعك؟ لقلت لنا لا يسمعني. فهل يرد عليك؟ لا يرد علىّ. هل كلَّمك مرة؟ لم يُكلِّمني. فهل تُكلِّمه؟ نعم، أُكلِّمه كل يوم. هل كلَّمك مرة؟ لا، لم يرد عليك. فكيف هذا إذن؟ قال لك هذا هو، دين آبائي! لأنه دين آبائي. هذا الدين لا وزن له، هذا أنت وضعته في كِفة، ورجَّحتها بكِفة بيّنات محمد؟ محمد الذي قال لك أنا أدعوك إلى خالق السماوات والأرضين، مُبدِع هذه الأكوان كلها، وهذه آياته وهذا كلامه وهذا نظامه، فتأمَّل وانظر ماذا يقول. لا! هذا على غير دين آبائي. هذه حُجة؟ لا! ليست حُجة أبداً، واضح الكبر والجهل.
وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ ۩، إِفْكٌ ۩! والإفك هو الكذب، والأفك هو الصرف. لذلك هذه مثل أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ۩، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ۩، لها تفسيران دائماً. قال أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ۩، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ۩ إن كانت من الأفك، فمعناها أنى يُصرفون/ أنى تُصرفون. وهذا هو ما عليه جماهير المُفسِّرين، من الأفك، وهو الصرف. وإن كانت من الإفك، فسيصير معناها ماذا؟ أنى يُكذِّبون/ أنى تُكذِّبون. كيف تُكذِّبون بالكلام هذا وهو صدق وحق؟ كيف تقولون إنه إِفْكٌ ۩؟
وعلى فكرة إذا فُسِّرت بأنها من الإفك، وليست من الأفك، فهذا راجع إلى الأول. لماذا إذن؟ لأن وسم ما هو حق بأنه كذب، صرفٌ له عن وجهه. أليس كذلك؟ فهذه الحقيقة ما المفروض أن نُلصِقه عليها؟ أي ماذا نقول؟ حق. هذا حق! ولكنك تأتي وتقول لي لا، كذب. هذا أفك! أليس كذلك؟ هذا أفك. تكذيبك بالحق أفك، صرف للأمر عن وجهه. فإذن هناك مَن فسَّر بالأفك هذا القول، وهناك مَن فسَّر بالإفك وهو الكذب، وهذا راجع إلى الأول، وهو ماذا؟ الأفك.
ما هذا إلا كذب – قالوا -، هذا كذب، يفتريه محمد من لدنه. فهيا إذن ائتوا بإفك مثله، ائتفكوا مثل هذا الإفك، هيا، أرونا هذا. لم يقدروا، وهذا لم يحصل إلى اليوم على فكرة، إلى اليوم! سوف تقول لي لا، أنت نائم في العسل يا عدنان. كيف أنا نائم؟ كثيرون حاولوا أن يُقلِّدوا القرآن. رأينا الكثير منهم، نحن رأينا هؤلاء، ورأيناهم من قديم. هؤلاء المُصابون بالهبل من قديم وهم يُحاوِلون، يا رجل لا يقدر أي واحد منهم أن يُميِّز بصراحة كوعه من بوعه، فهل تُريد من هذا أن يتذوق القرآن الكريم؟ هؤلاء لا يفهمون شيئاً، يأتي الواحد منهم بعبارات ليس فيها بلاغة، وهذا شيئ مُقزِّز ومُقرِف، ثم يقول لك هذه كالقرآن. هذا قرآن؟ هذا شيئ مُقرِف، كلامك هذا مُقرِف. ونقدر على أن نتكلَّم ساعة كاملة في لماذا هو مُقرِف ولماذا القرآن شيئ مُختلِف تماماً يا حبيبي، هذا عندك أنت فقط، لأنك – كما قلنا لك – جاهل، هذا لأنك جاهل، وأنت لكي تتعلَّم لماذا القرآن بليغ وعجيب ونمط ونسيج وجده، لابد وأن تُصبِح ماذا؟ ضليعاً – لن أقول لك إماماً، سأقول ضليعاً -، في ماذا؟ في العربية وعلومها. ومن ثم سوف تبدأ في أن تفهم، أليس كذلك؟ فلذلك نقول عرَّفنا الله قدر نفوسنا، وحبَّبنا في العلم، لكي نتواضع للعلم والعلماء والحقيقة، ومن ثم نتعلَّم، لكي نتكلَّم بعلم وليس بجهل، حتى لا نُغامِر.
المُهِم وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ۩، وعلى فكرة لو قالوها مرة، لحملناها محمل الجد. لكن هم قالوا ماذا؟ سحر. ثم قالوا لا، شعر. ثم قالوا لا، أساطير الأولين. ثم قالوا لا، كهانة. فماذا هو بالضبط؟ قولوا لنا ما هو إذن؟ هذا القرآن هو ماذا؟ سحر أم شعر أم كهانة أم أساطير الأولين؟ قالوا لك والله نحن لا نعرف، حيَّرنا! حيَّركم؟ لأنكم لا تُحِبون أن تعترفوا بحقيقته.
وعلى فكرة الحقيقة واحدة، أليس كذلك؟ إن قلت أي شيئ فيها غير ما هي عليه، فلن تُصبها. اذهب إذن وقل ما تُريد، ولذلك قال لك – سُبحان الله – حين ترى معركة، تجد أن الحق دائماً يتوحَّد، والباطل يكون ماذا؟ مُتشرذِماً. ومن أجل هذا وحَّد الله النور، وعدَّد الظلام. مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۩، النُّورِ ۩! لم يقل إلى الأنوار، كما يقول الصوفية إلى أنوار. لا! النُّورِ ۩، دائماً النُّورِ ۩. تخيَّل!
إذا وُجدت محطة مُعيَّنة – قصر، حديقة، أي شيئ – وكان لها طريق وحيدة أو واحدة تُؤدي إليها، فسيكون الآن كل اجتهاد لم يُصب هذه الطريق ماذا؟ باطلاً. ولو كان ألف ألف اجتهاد. كأن تقول لا، هذه طريقها من هنا. كل هذا غلط، كله غلط، وانتهى الأمر، أنت لن تصل، هناك طريق واحدة، هي هذه، وانتهى، أليس كذلك؟
فلذلك هم تهوكوا ولم يقولوا في القرآن قولاً واحداً، قالوا فيه أقوالاً كثيرةً. كما قالوا في صاحبه الذي أُنزِل على قلبه الأمين أيضاً أقوالاً، قالوا ساحر. وقالوا شاعر. وقالوا كاهن. وقالوا مُعلَّم. وقالوا مجنون. لم نعرف بالضبط رأياً مُحدَّداً لهم، وفي الحقيقة حياته طبعاً وسلوكه وماضيه وحاضره بينكم، كل هذا يُؤكِّد أنه ليس واحداً مِمَن ذكرتم. محمد لم يكن يُحِب حتى الكهانة، أليس كذلك؟ محمد أكفر السحرة بكتابه، فَلَا تَكْفُرْ ۩، في آية السحر! أليس كذلك؟ سحر ماذا؟ والسحراء أشرار عباد الله، وكان هو أنقى وأنبل عباد الله. ساحر هذا؟ أهذا ساحر؟ وكان يكره الكهانة، ويكره حتى السجع، كأن يأتي واحد ويسجع بالكلام الخاص به، يكره هذا النبي، فاليوم لو سمع النبي أكثر أدعيتنا على المنابر وكذا، لقلنا إن من المُمكِن أن يكرهها، ولقال لك ما السجع هذا؟ لماذا تحرصون على السجع؟ أي هذا مثل سجع الكهّان، أتُخاطِبون الله أنتم باللحن هكذا؟ أتتغنون أمامه؟ ما هذا؟ أهكذا يكون حال مَن يدع ربه؟ ادع بما يفتح الله عليك.
مرة قيل لابن عمر ادع لنا يا صاحب رسول الله، فقال اللهم اغفر لنا وارحمنا وارزقنا. قالوا أوجزت! قال أعوذ بالله من الإسهاب. قال لهم أعوذ بالله من الإسهاب، قال لهم هذا، أي انتهى، هذا يكفي، يغفر لنا ويرحمنا ويرزقنا، ماذا تُريدون أنتم أكثر من هذا؟ أتُريدون أن نفتح لكم كتاباً؟ قال لهم. وانظر إليها، هذه كلمات بسيطة، اغفر لنا وارحمنا وارزقنا. والسلام عليكم! فلا يتحدَّث عن الضالين والمُؤمِنين والمُحسِنين… ونين ونين… ونين… ويُلحِّن! لا يُوجَد الكلام هذا، فالنبي هو مَن علَّمهم هذا، لم يكن يُحِب اللحن هذا، ولم يكن يُحِب السجع، قال له أسجع كسجع الكهّان؟ لا يُحِبه، لا يُحِب النبي الأسلوب هذا، فهو بطبيعته لا يُحِبه، ولا يُحِب الشعر، لا يقدر عليه، وحين يقول بيتاً، يقوله ملحوناً، أي يغلط فيه هكذا، يغلط في شيئ، يزيد فيه بكلمة أو ينقص منه كلمة، لأنه – سُبحان الله – كان هكذا، طبيعته لا تقبل الشعر هكذا، يستحسنه ويلذ له ويُحِب أن يستنشده ويسمعه، ولكن حين يقوله، يأتي ويُضيف فيه كلمة، لكي ينكسر، لأنه كان هكذا، وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۩، قال هو أصلاً ليس شاعراً، طبيعته (كلها على بعضها) هكذا تُفيد بأنه ليس شاعراً، طبيعته ليست شعرية، هو قرآني، هو رباني صمداني رحموتي – صلى الله عليه وسلم -. المُهِم هو هذا.
۞ وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ ۞
قال وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ ۩، ما قضية الكُتب هذه؟ الله يقول ليس لديهم حتى شُبهة كتاب يحتجون بها فيما رموك وكتابك به من الباطل. قالوا له أنت مُبطِل، وكتابك هذا مُفترى، وأنت مُفترٍ. الله قال فهل هناك كتاب؟ هل عندكم كتاب؟ أعندكم كتاب؟ أرونا هذا، هل هناك كتاب يقول إن واحداً سيخرج وستكون صفته كذا وسيكون مُفترياً. ليس عندكم هذا! لأن هي هكذا، مُجرَّد نوع من الاعتساف والاستكبار والمُجاحَدة، نوع من المُجاحَدة! ليس عندكم كتاب، قال تعالى ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا ۩، ائْتُونِي ۩، حين تبدأ بها تتحوَّل إلى (إيتوني) وأنت تنطقها. اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ۩ في الأحقاف، وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ ۩، كله نفس المعنى، الله قال ليس عندهم كتاب حتى يحتجون به، فيقولون لا، أنت كذا وكذا. بالعكس! على فكرة لو ذهبوا يحتجون بكتاب أهل الكتاب، لوجدوه حُجة عليهم وحُجة لرسول الله، وفعلوا هذا مرة، وفسَّرناها في الدرس السابق من سورة سبأ، فماذا قالوا؟ إذن نحن كفرنا بالتوارة والإنجيل والقرآن. مثل هذا! ما دام كتاب أهل الكتاب يشهد لمحمد، فسنقول إننا كفرنا بكتابهم أيضاً. انظر إلى هذا، انظر إلى العناد والمُجاحَدة، هذا هو.
۞ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ۞
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ ۩، هناك الضمير في بَلَغُوا ۩، هذا الفاعل، أي الواو هذه. وَمَا بَلَغُوا ۩، مَن هم المقصودون بــ بَلَغُوا ۩؟ هؤلاء كفّار مكة. قال كفّار مكة لم يبلغوا حتى معشار مَن قبلهم. الله قال لهم إلى أين أنتم تذهبون؟ أتظنون أنكم شيئاً كبيراً؟ كان يُوجَد قبلكم حضارات وأمم، وكان عندهم مُدن عريقة ومُدن عظيمة ونحت في الجبال ومصانع، كانت هناك أشياء عجيبة، وظنوا أنهم يخلدون، وهم كانوا عماليق حتى وأقوياء، ولكنهم ذهبوا. الله قال أفنيتهم ودمَّرتهم، وأنتم ليس عندكم أي شيئ حتى من توسعاتهم المدنية هذه والحضارية في النعيم والمدد المادي، ومع ذلك هذا لم يُفدهم شيئاً، وانتهى أمرهم إلى البوار.
وَمَا بَلَغُوا ۩، أي كفّار مكة، مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ ۩، آتينا مَن؟ أي أولئك الذين من قبلهم. وما المعشار؟ الجوهري قال المعشار هو العُشر. بمعنى واحد! معشار وعُشر، أي واحد على عشرة. وهناك أُناس قالوا لك لا، المعشار هو عُشر العشير. فهل نحن نعرف العشير لكي نعرف العُشر؟ ما العشير؟ العشير – قالوا لك – واحد على مائة، أي عُشر العشر. أي كان عندك العُشر، وهو واحد على عشرة، وهناك عُشر العشر، واسمه عشير، والمعشار عُشر العشير، أي واحد على ماذا؟ على ألف. ورجَّح هذا الإمام الماوردي، أقضى القضاة – رحمة الله عليه -، وعنده تفسير جميل، اسمه النكت والعيون. قال هذا الراجح، أن المعشار واحد على ألف. لماذا؟ لأن المُراد في الآية التقليل، وهذا مُبالغ في التقليل. قال أنتم لا تُمثِّلون شيئاً بالنسبة للأمم البائدة هذه ولو بنسبة واحد على ألف، ومع ذلك لم ينفعهم تكذيبهم ومُجاحَدتهم.
فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ۩، النكير في الأصل هو إزالة المُنكَر، كلمة نَكِيرِ ۩ ما معناها؟ إزالة المُنكَر. هذا إذا قدرت، فإذا لم تقدر، فيجب أن تُحاوِل إزالته بالكلام. يقول لك أنكر عليه. في حديث حُذيفة، في البزار، والإمام عليّ في أبي يعلى (في مُسنَد أي يعلى الموصلي) الإسلام ثمانية أسهم، الإسلام سهم، فماذا صار معنى الإسلام هنا؟ معناه هو الشهادتان. الشهادتان سهم، الصلاة سهم، الصوم سهم، الزكاة سهم، الحج سهم، أمرٌ بالمعروف سهم، نهيٌ عن المُنكَر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب مَن لا سهم له. النبي يقول هذا، ورُويَ هذا موقوفاً على حُذيفة، قال الدارقطني وهو أصح. هذا هو! ما المقصود الآن؟ المقصود يا إخواني أن الأمر بالمعروف سهم من سهام الإسلام، والنهي عن المُنكَر سهم من سهام الإسلام. إذا كنت تقدر على إزالته، فلتفعل هذا ولتُزله بالكامل، إن لم تقدر، فأنكره بلسانك. كما تقول العامة في شمال إفريقيا اللهم هذا مُنكَر ونكرناه. يقولون هكذا، مُنكَر ونكرناه، نحن لا نقبل به، لا نرضى به، وأنكرناه حتى بألسنتنا، وقلوبنا تُنكِره.
فالله قال فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ۩، وعلى فكرة طبعاً نكيرك أنت يُمكِن أن يكون باللسان، ويُمكِن أن يكون حتى بالقلب. أنت غير قادر على أن تتكلَّم، أليس كذلك؟ خائف على روحك، وعلى رقبتك أن تطير، فبالقلب! وماذا عن نكير الله؟ حتماً بالإزالة، لما يستوجب العذاب طبعاً. يُزيل كل شيئ، يُدمِّر حضارة كاملة، يُدمِّر مدنية، شعوباً كاملةً. ورأيتم كيف وقع الطوفان لقوم نوح، هذا هو! الله قال فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ۩، إذا أردت أن توصلها، فقل فكيف كان نكيري.
فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ۩، أف! أصعب نكير يا رب. نعوذ بالله من نكير الله، نعوذ بالله من نكير الله.
۞ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ۞
قُلْ ۩، قُلْ ۩ لهم يا خيرتنا، إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۩، أنصحكم بِوَاحِدَةٍ ۩، ما معنى واحدة إذن؟ خصلة. بخصلة واحدة، تنوب مناب ما عداها، خصلة أحسن من كل شيئ. والله هذه الآية جميلة، هذه الآية أُحِبها مُنذ كنت صغيراً – والله – جداً جداً، آية عظيمة! الله قال هناك شيئ واحد، فقط شيئ واحد. أتُريد أن تعرف الحق؟ اعمل بالشيئ هذا. أتُريد أن تُميِّز الحق من الباطل؟ هناك شيئ واحد. لا تتحيَّر ولا تتهوَّك.
إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۩، ما هي؟ أَن تَقُومُوا ۩، إذن انظر إلى هذه الجُملة، أَن تَقُومُوا ۩… إلى آخرهها! هذه كلها على ماذا؟ في محل ماذا؟ البدلية. أي هذه بدل من ماذا؟ من واحدة. أليس كذلك؟ أعربها كما هي، وقل هذه كلها في محل جر على البدل من واحدة. هذا إعرابها! بِوَاحِدَةٍ ۩، ما الواحدة؟ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ ۩. وليس هذا القيام، الذي هو ضد القعود، أي أن تقفوا، لا! ليس هذا المقصود، وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ۩، يقول لك قام فلان بأمر الله. فهل قام معناها أنه وقف على رجليه؟ لا. إذن ما معنى قام؟ اضطلع بما حُمِّل من الامر، اضطلع بما حُمِّل! كان عندنا مُشكِلة كبيرة في كذا، وقال لك أحدهم فقام فلان فيها، حتى أنجح وأفلح، وحتى… وحتى… فما معنى إذن فقام فلان فيها؟ اضطلع بما حُمِّل، اضطلع بما أُسنِد إليه. هذا معناها، وهذا معنى تَقُومُوا لِلَّهِ ۩، تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ۩، تقوموا بكذا، قُم بالشهادة لله، قُم بكذا. هذا معنى القيام، أن تضطلع بما حُمِّلت على الوجه الذي يرضاه الله منك.
أَن تَقُومُوا ۩، فمعناها ماذا؟ أي خلوا إرادتكم الله – عز وجل -، وخلوا وكدكم إصابة الحقيقة، ليس الانتصار للآباء والأجداد، ولا الانتصار للنفس. قوموا بهذه النية، ومن ثم سوف ترون الحق – بعون الله تعالى -، ولكن حين تقومون يجب أن يقوم كل واحد على حدة، إذا كان هذا مُستوحِشاً وما إلى ذلك، فيُمكِنه أن يقوم مع واحد آخر، وفقط! أي اثنان اثنان، أو واحد واحد. وهذه هي عظمة الآية، هذه إذا سمعها اليوم أضخم عالم في السوشيال سيكولوجي Social psychology، فسوف يرفع لها القبعة، وسوف يقول لك ما هذا؟ عجيب هذا! ما الكلام هذا؟ وبالتالي سوف تقول له هذا كلام رب العالمين، ليس كلام محمد، محمد لا يعرف الأشياء هذه، كيف يُمكِنه أن يعرف الأشياء هذه؟ لا يعلم إلا ما علَّمه الله، أليس كذلك؟ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ۩، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ۩، لماذا؟ علماء النفس من قديم – من مائة سنة، وخاصة علماء النفس الاجتماعي، أي السوشيال سيكولوجي Social psychology – قالوا لك انتبه، انتبه! أكبر منشأ، وأكبر مصدر للغباوة، للخطل، وللغلط في الرأي وتحقيق المسائل هو (الهيجة) الشعبية، الهيجان الجماهيري. ونحن نجلس مع بعضنا يقوم أحدهم فيقول يا إخوان أليس الحق هو كذا وكذا؟ فترد مجموعة وتقول بصوت عالٍ بلى، الله أكبر ولله الحمد. نقول لهم ذهبتم بنا إلى داهية. وهم حتى من الإسلاميين بصراحة. يقول أحدهم لقد قيل لنا كذا، فنقول لهم كذا، أليس هذا هو الحق؟ فترد مجموعة وتقول بصوت عالٍ بلى، الله أكبر ولله الحمد. ذهبتم بنا إلى داهية ودمَّرتمونا! ما الطريقة الغوغائية هذه في مُخاطَبة الناس؟ الأمور لا تكون هكذا، الأمور خطيرة، ويتعلَّق بها مُستقبَل الأمة، مُستقبَل الشعب، مُستقبَل الدولة، ومُستقبَل الدين، أو مُستقبَل أي شيئ! تُناقَش بهدوء، في مجالس ضيقة، يحضرها الحُكماء وأصحاب العقول والحجى، وبهدوء كامل وبتجرد، أليس كذلك؟ ومن غير أصوات عالية وشعر والله أكبر ولعنة الله على كذا. سوف تذهبون بنا إلى داهية، وقد ذهبتم بنا إليها، ولكنكم سوف تذهبون بنا إليها دائماً، دعوا عنكم الأشياء هذه، وهي موجود اليوم على اليوتيوب YouTube في مقاطع وكذا، ليس هكذا تكون الأمور، الله قال لا، افعلوا هذا بهدوء، وابعدوا عن (الهيجات).
في علم النفس الاجتماعي هناك نظرية قديمة، عمرها أكثر من مائة وعشرين سنة، يقولون لك فيها حين تكون مع الحشد – أي مع الــ Crowd، مع الحشد، أو مع الــ Herde كما عند الألمان، يقولون لك الــ Herde، مثل Herde الغنم، والله! هم يقولون هكذا، أي هذه القضية، يقولون الــ Herde، فهذا حين تكون مع الــ Crowd بالإنجليزية أو الــ Herde بالألمانية – يختلف وضعك، ألست بروفيسوراً Professor وأستاذ فلسفة وأستاذ علم نفس معرفي؟ يصير عقلك مثل عقل أقل واحد فيهم. قالوا لك هذا! قالوا لك عقل الحشد هو عقل أضعف واحد فيهم، وليس أحسن واحد فيهم. وهناك أُناس قالوا لا، هذا كلام فارغ ومُبالغ فيه، لا! عقل الحشد أرفع من هذا. فما مقداره إذن؟ وهذه النظرية مُتقدِّمة قليلاً، قالوا لك عقل الحشد مثل عقل واحد مُتوسِّط الذكاء فيهم. أي ليس الأكثر ذكاءً. وهذا الصحيح طبعاً، الحشد لا يُمكِن أن يكون عقله عقل الذكي فيهم، مُستحيل! فإذا ضربت الأمور كما يُقال – ما شاء الله – مع الحشد هذا ووفَّقه الله – أي الحشد هذا، مثل المُظاهَرة -، فسيكون عقله عقل واحد مُتوسِّط، أي شبه أهبل، هو أهبل، مُتوسِّط الذكاء، معامل الذكاء الخاص به هو تسعون، أي الــ IQ الخاص به تسعون، ليس مائة وعشرة أو مائة وخمسة عشر، هو تسعون أو ثمانون أو خمسة وثمانون، أي مُتخلِّف، هذا مُمكِن.
فالله قال لك هذا، والله يعرف الأشياء هذه، فقال لك من الأول إياك وهذا، في مسائل الحق والدين يجب أن تقوم وحدك، ثم تقعد وتُفكِّر، أو تأتي بواحد صادق مثلك، مُخلِص وهادئ، وليس مُتعصِّباً، ثم تُفكِّر معه. ماذا عن كذا؟ وماذا عن كذا؟ وبالتالي سوف تعرف الحقيقة. ما أعظم الآية هذه! فالله قال لك هذا، قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۩، قال هي واحدة، لا أُريد منكم أكثر منها، خصلة واحدة! تسد مسد ماذا؟ سائر الخصال. طريقة أحسن من كل الطرق. ما هي يا ربي؟ تقوم وحدك أو مع واحد فقط، لا يفعل هذا ثلاثة، وإلا ستصيرون حشداً صغيراً، فلن ينفع أن تكونوا ثلاثة، هل تعرف لماذا؟ فكِّر فيها، إذا كانوا ثلاثة، فإن من المُمكِن أن يكون واحد فيهم مُتميِّزاً قليلاً بسُلطانه أو بعلمه، وربما يكون جاسوساً ومدسوساً، فيذهب يُبلِّغ ويكتب تقارير، وحين يكون هناك واحد ضعيف فيهم، فإنه سيميل دائماً نحوه، من أجل ماذا؟ لكي يأمن جانبه، يأمن لسانه، أو يأمن قلمه، أو يأمن سطوته العقلية. يدّعي أنه مثله، ويقول له دائماً نعم، مضبوط، مضبوط، مضبوط. وهو لا يفهم شيئاً، هو لا يفهم شيئاً ولا يعرف أن هذا مضبوط، ولكنه يعرف أن هذا ذكي وأن هذا (شاطر)، وقد قرأ كثيراً، فيميل له دائماً، وكأنه يقول له أنا أفهم ما تفهمه، ما تفهمه أفهمه أيضاً. ومن ثم ضيَّع نفسه، أليس كذلك؟ هذا لن ينفع. لكن هذا لا يحصل حين يكون هناك اثنان، مهما كان أحدهم مُتواضِعاً، وكان الثاني مُختلِفاً عنه، فإن الاثنان سيُساعِدان بعضهما على الحق، يا فلان حصل كذا وكذا، فهل أنت رأيت كذا؟ أنا رأيت كذا وكذا وكذا. سُبحان الله، هذا علم نفس قرآني، علم نفس قرآني! خُذوا بهذه النصيحة إذن.
ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۩، مَن صاحبهم؟ محمد. مع أنهم لا يُحِبون هذه الصُحبة وما إلى ذلك، ولكنه قال هذا طبعاً، فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ ۩، أليس كذلك؟ هذه هي، الصُحبة لأدنى مُلابَسة، انتهى! هو صاحبكم.
إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ۩، قيل معركة بدر. لا! العذاب الشديد عذاب يوم القيامة، هذا الأرجح بصراحة، وهذا قول طوائف المُفسِّرين الكبار، العذاب الشديد هو عذاب القيامة، ولا يُوجَد ما هو أشد منه، بدليل وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ۩ في أول الحج.
۞ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۞
قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۩، يا ليت يتسع الوقت فقط لها! اسمحوا لنا فقط أن نُفسِّر هذه الآية، ثم نُنهي المجلس ونقوم للصلاة.
هذه الآية ادّعى بعض الناس أنها ناسخة، قال لك هذه ناسخة. هي ناسخة! نسخت ماذا؟ نسخت آية في سورة الشورى، لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ۩. قال لك منسوخة. نسختها ماذا؟ هذه الآية وأمثالها. عندها أمثال كثيرة! أي هذه الآية، فالأنبياء لا يسألون أممهم ماذا؟ الأجر. وسورة الشورى تقول ماذا؟ إنه يُريد أجراً. لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ۩، قال ها هو طلب الأجر، معناها إذن أن هناك ناسخاً ومنسوخاً. لا! غير صحيح، هناك تأويلات، نذكرها بسرعة، ونفرغ من الدرس – إن شاء الله -.
قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ۩، هذه مُحكَمة، وآية الشورى على الصحيح مُحكَمة، ولا تُوجَد مُدخلية للنسخ بينهما إطلاقاً، فهذا يعني أننا لابد وأن نُؤوِّل، لأن بحسب الظاهر يُوجَد اختلاف، هناك سأل الأجر وهنا لم يسأل الأجر، فإذن كيف يُمكِن أن نُؤوِّلها؟ يجب أن نُؤوِّل تلك التي زُعِم فيها المنسوخية، ويجب أن نُؤوِّلها بطريقة تجعلها تلتئم بهذه – لا تقل تلتئم مع، في اللُغة الفصيحة يلتئم بــ وليس مع، لذا قلت تلتئم بهذه -. كيف إذن سوف تلتئم بها؟ هذا سهل.
أولاً اختلفوا في قوله تعالى إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ۩، قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ۩، ما معنى إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ۩؟ أول قول يُروى عن ابن عباس (الحبر) وجماعة. أي لا أسألكم على رسالتي أجراً، و(لكن) فقط… و(لكن) فقط… تقدر على أن تقول و(لكن)، فتجعله استثناء مُنقطِعاً، إذا كان مُنقطِعاً، فلن تُوجَد مُشكِلة، وتقدر على أن تجعله مُتصِلاً، وأيضاً لا تُوجَد مُشكِلة، ولكن هذا بالتأويل، فانتبه! إذا جعلته مُنقطِعاً، فلن تُوجَد مُشكِلة، قولاً واحداً! إذا جعلته مُتصِلاً، فلن تُوجَد مُشكِلة إذا أوَّلته، ونحن سنُؤوِّله الآن، قال لهم أنا لا أُريد أجراً، إلا الأجر هذا. وسنجعله مُتصِلاً الآن، أي هذا إذا أردت أن تجعله مُتصِلاً، أي أجر؟ أن توادوني وترعوا حُرمتي وقرابتي فيكم. ولم يكن قبيلٌ أو حيٌ في قريش إلا ولرسول الله فيهم رحم، أي الرسول يُفضي لأي قبيل فيهم ولأي حي من أحياء قريش بماذا؟ برحم. يضح أن هذا ابن خالته، يضح أن هذا ابن عمه، يضح أن هذا ابن كذا، يضح أن هذا ابن كذا، يضح أن هذا قريبه من ناحية جده، وهكذا! يُوجَد هذا، يُوجَد اتصال، موجود! هذا هو، وانظر أنت إلى أكثر أُناس كانوا يحملون لواء مُحارَبة الإسلام، هم بنو عبد شمس، أليس كذلك؟ أبناء عمومة، أبناء عمومة هؤلاء، هذا هو، أبناء عمومة! فقال لهم هذا، أن ترعوا حق قرابتي. والآن السؤال: هل هذا أجر؟ بالعكس! هذا مطلوب أصلاً، أن ترعى حق قرابة القريب، وإن لم يكن رسولاً، أليس كذلك؟ أنت تفعل هذا ولو كان غير رسول، حتى ولو كان مُخطئاً وفاسقاً وفاجراً، وربما أتى جريمة، لابد وأن تظل ترعى أيضاً ماذا؟ حق قرابته. وتدفع عنه الدية، أي تتحمَّل الدية، وهذا يكون في القتل الذي تعرفه وأشياء مثل هذه، هل هذا واضح؟ إذن لا يُوجَد إشكال هنا، لأن هذا ليس أجراً على الحقيقة، هو ليس حقيقياً.
ثانياً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ۩، الآتي ذهب إليه سعيد بن جُبير وآخرون كثيرون، قالوا لك لا، القول الأول ليس القول الصحيح كما قال ابن عباس، نحن نرى أن إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ۩ معناها إِلَّا ۩ أن ترعوني، في ماذا؟ في أهل بيتي، في عترتي، في بقيتي. فترعوا الله – تبارك وتعالى – فيهم، وترقبوني فيهم، فلا تؤذوهم. ما شاء الله هم رعوهم حق الرعاية، وذبحوهم، وقتلوهم يوم الحرة، ومعروفة القصة هذه، للأسف الشديد! للأسف لم يأخذوا بكلامه، ولكن هل هذا أجر على الرسالة أيضاً؟ ليس أجراً على الرسالة. فلماذا إذن؟ لأن الناس الكرماء والمُجتمَع السليم يرعى أيضاً ماذا؟ الأواصر فيه. أليس كذلك؟ فأرعاك وأرعى حتى قراباتك، هذا هو! هذا ليس أجراً على الرسالة، ليس من جنس الأجر على الرسالة.
أما إذا قلت في التفسيرين إن الاستثناء مُنقطِع، فلا إشكال، قولاً واحداً، هو مُنقطِع، انتهى! فماذا يصير معناه إذا كان مُنقطِعاً؟ يصير هذا الأجر ليس من جنس المُستثنى منه. ليس من جنس ماذا؟ أجر الرسالة. هذا ليس من أجر الرسالة، انتهى إذن، شيئ آخر هذا، (لكن)… كما قلنا إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ۩،( لكن)… موضوع مُختلِف تماماً.
الحسن البِصري عنده تأويل ثالث، قال لك لا، إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ۩، أي إِلَّا ۩ أن تتوددوا@ إلى الله، وتتقرَّبوا إليه، بفعل الطاعات والبُعد عن المعاصي. وهذا أجر على الرسالة؟ لا. أبداً! وليس من جنس الأجر على الرسالات، ولا يُوجَد أي إشكال على هذا التأويل الثالث.
هناك التأويل الرابع والأخير وبه نختم. إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ۩، أي النبي يقول لهم أنا لا أطلب منكم أجراً، كل ما أطلبه منكم أن ترعوا الله في أرحامكم، فتصلوا أرحامكم، صلوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ۩، احفظ الله وارع أمره في قراباتك، في أبناء عموماتك وأخوالك وخالاتك ومَن يمت إليك من الأصول والفروع. وهذا من أحسن ما يُؤمَر به، وليس له علاقة أن يكون أجراً على الرسالة.
فعلى التأويلات الأربعة هذا ليس أجراً حقيقياً أبداً، فلابد أن يُؤوَّل، وإن قلنا بالاستثناء المُنقطِع وخاصة في الأولين، فلا إشكال.
والله – تبارك وتعالى – يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق