تصفحوه!

إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى من قائل – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ ۩ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ ۩ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ ۩ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ۩ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ۩ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ۩، لا ريب ولا تردد ولا اختلاف أن الوحي المذكور في هذه الآية الجليلة من سورة الشورى يُراد به الكتاب، الآية صرَّحت بهذا، يُراد به القرآن. ومن هنا رجَّح بعض الأئمة والعلماء، كالإمام أبي بكر بن الأصم والحسن البِصري – رضيَ الله تعالى عنهما -، أن الروح أيضا الوارد في قوله – تبارك وتعالى – وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ۩ هو القرآن، وهذا الذي أميل إليه وأطمئن إليه جدا، فالسياق يُعين عليه تماما، والمُناظَرة بين الآيتين يُشبِه أن تكون تامة من كل وجه. وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ۩، لا علم لديك، طبعاً ومن باب أولى لا علم لغيرك، وإن كنت سيد المُرسَلين وخاتمهم وحبيب رب العالمين، وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ۩. هنا وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ۩، ثم أكملوا الآيات الموالية، الكلام عن القرآن، وَلَئِن شِئْنَا ۩… الآية مُباشَرةً التي جاءت على الولي، بعقب هذه الآية؛ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً ۩ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ۩ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ۩ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ۩. واضح جداً! السياق في القرآن، ما علاقة الروح التي بها حياة الأبدان الحيوانية؟ لا علاقة. لكن للأسف ذهب الأكثرون من المُفسِّرين إلى أن المُراد بالروح في آية الإسراء الروح الحيوانية، أي التي بها الحياة الحيوانية. وهذا ضعيف جداً، السياق لا يُعين عليه، والمُناظَرة بين آية الإسراء وآية الشورى، تُؤكِّد أن الروح يُقصَد به القرآن، الروح هو القرآن الكريم، و: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ۩، وهو حياة الخلائق، يُحيي به الله من موات، ويبعث به من سكون، ويُحرِّك به من جمود، ويهدي به من ضلالة، ويُنير به من عتمة، ويفتح به أعين عُمي وآذان صُم وقلوب غُلف، وينهج به النهج السبيل اللاحب، المهيع المُستقيم، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۩. الآيات واضحة، وإن قالوا غير ذلك، وثمة أقوال خمسة أُخرى، لا نُريد أن نُطوِّل بذكرها، لكن نستعرضها سريعا.

قيل الروح هو جبريل. وقيل ملك عظيم، عظيم الخِلقة والهيئة، المذكور في مثل قوله – تبارك وتعالى – على تفسير تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ۩ وقيل الروح خلق جعلهم الله على صور بني آدم، لكنهم خلق آخر، هم الروح. وقيل الروح عيسى – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

فتحصَّل أن الأقوال إذن ستة. الأقوال ستة، أرجحها – والله أعلم – أنه القرآن العظيم. وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۩، إذن القرآن العظيم لا ينتمي إلى عالم الخلق، وإن وصف عالم الخلق، واشتغل عليه، واشتغل به، لكنه ينتمي إلى عالم الأمر. ويُوشِك أن يكون المُراد بعالم الأمر أيضا بالنظر في بعض هذه الموارد القليلة في كتاب الله – تبارك وتعالى وجل وعز – ما يُدبَّر به عالم الخلق، وتُصرَّف به شؤوناته. هذا هو عالم الأمر، أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۩. لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۩، وليس خصوص الأمر الشرعي؛ افعل ولا تفعل. هذا تضييق لما وسع الله – تبارك وتعالى -. فالأمر يُقابِل الخلق، الخلق من العرش إلى الفرش، من مبدأ أو مُبتدأ الزمان إلى مُنتهاه – إن كان له مُنتهى -.

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ۩. هذا الروح من أمر الله – تبارك وتعالى – لا يُتعاطى ولا يُوصَل إليه ولا تُصطاد سوانحه ولا تُستخرَج كظائمه، لا بفكر ولا بعقل ولا بدرس ولا بتعليم ولا بتأمل ولا بأي طريقة من الطرق، لأنه ينتمي إلى عالم الأمر، لا ينتمي إلى عالم الخلق. وكل ما ذُكر إنما هو من عالم الخلق، من أسبابه ووسائله ووسائطه. مَا كُنتَ تَدْرِي ۩، ولذلك وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۩، هذا الروح الذي حيَّرهم وصدَّعهم وألقاهم في عماية، فلم يعودوا يعرفون ما حقيقة هذا الكلام، أهو سحر؟ ليس بسحر. أهو شعر؟ ليس بشعر. أهو بكهانة؟ ليست هكذا تكون الكهانة. أهو أساطير الأولين، فقد درسناها وتحفظناها واستحسناها؟ ليس منها بسبيل. ما هو إذن الذي فرَّق بين الوالدين وأوالدهم، بين المُحِب وحبيبه، بل فرَّق بين الإنسان وبين نفسه؟ نفسه تُريد شيئاً، والحقيقة تُبخِعه لشيء آخر، فإما استكبر، فضل، وإما تواضع، فاهتدى وتنوَّر. نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُنوِّرنا بأنواره الرحمانية الصمدانية.

ولذلك جاء الجواب قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ۩. هذا من أمر الله، ليس من أمر الخلق، ليس من شؤونات الخلق، هذا من عالم الأمر، وإنه بكلمة واحدة قيل الله، إنه كلام الله، إنه قوله – لا إله إلا هو -. مَن الذي يستطيع أن يستكنه الله – تبارك وتعالى -؛ أي أن يعرف كُنه الله، أن يصل إلى حقيقة ذات الله؟ لا أحد، لأنه لا يُوجَد منه اثنان – لا إله إلا هو -، واحد أحد. وما عرفه حق معرفته، إلا هو، ذاته الأقدس – لا إله إلا هو -. وأيضا حقيقة كلامه لا أحد يستطيع أن يصل إليها، باب موصد. ولذلك جولوا في أشياء أُخرى. جولوا في أشياء أُخرى وتأمَّلوا طريقة الله – تبارك وتعالى – في تكلمه معنا، في إلقائه القول إلينا – لا إله إلا هو -، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ۩. تأمَّلوا في الموضوعات التي جال فيها القرآن وصال، كيف يتناولها؟ تأمَّلوا في خصائص مثل هاته الخصائص، فهو أجمل وأحسن بكم ولكم. قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ۩، قال وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ۩.

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ۩. هذا الروح العجيب، هذا القول والكلام العلوي، منعوت في كتاب الله ومُسمى بنعوت وأسامي كثيرة جداً، بعضهم بلغ بها ما زاد على الخمسين، فهو: كتاب، كريم، عظيم، مجيد، عزيز، حكيم، مُفصَّل الآيات، مُحكَم الآيات، أحسن الحديث، وهو بشير، وهو نذير، وهو موعظة، وهو شفاء للمُؤمِنين، وشفاء لما في الصدور، وهو أيضاً – إخواني وأخواتي – نبأ؛ بل هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ۩، عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ۩ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ۩، قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ۩ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ۩، إنه القرآن الكريم في أرجح التفاسير. إذن نبأ عظيم، وهو الفرقان… أسامي ونعوت كثيرة جداً في كتاب الله – تبارك وتعالى -. وهو البُرهان طبعاً! وهو البُرهان، وهو السُلطان، الحُجة أيضاً! وهو النور، وهو البيان، وهو المُبين… نعوت كثيرة.

وقد وقع التحدي بسورة من مثله. هناك سور صغيرة جداً جداً، زُهاء سطرين، سورة! سورة، لم يقع بأقل من سورة، مهما صغرت هذه السورة، أي قلة عدد كلماتٍ، مهما صغرت! وقع التحدي بسورة. وهذا معيار جيد جداً وإلفات من رب العزة – لا إله إلا هو – إلى أن الإعجاز لا يُتبيَّن في قدر أقل من سورة صغيرة. قال بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ۩، مهما صغرت عدداً. ولو أخذنا سورة من صغار السور وتأملناها، لوجدنا أن ليس كل سورة تحتوي على إنباء بالمُغيبات. ليس فيها إنباء بالمُغيبات إطلاقاً، ومع ذلك فهي مُعجِزة. فتحصَّل أن الإعجاز ليس بالضرورة أن يكون في الإنباء عن المُغيبات. هذه سورة صغيرة وليس فيها إنباء عن المُغيبات. ليس فيها إنباء عن مُغيبات على أنها مُعجِزة. ليس فيها إشارات علمية كما يستحب الكثيرون من المُعاصِرين. الإعجاز العلمي. يقولون، وليس بإعجاز، هو من باب الدلالة على إلهية وربانية مصدر القرآن الكريم، لكن ليس من باب الإعجاز. وهذا موضوع مختلِف على كل حال. سور صغيرة – وخاصة الصغار القصار – ليس فيها أي إشارات علمية إطلاقاً، على أنها مُعجِزة، لأن التحدي وقع بسورة من مثله. إذن هي مُعجِزة، تنقطع دونها الأعناق.

إذن أقرب ما يكون يا إخواني أن الإعجاز أمر يختص بالبيان، بالصياغة، بالأسلوب، بالفصاحة. هذا الذي يتوفَّر، في سورة صغيرة وفي السور الكبار العظام. هذا صحيح، ولكن هذا موضوع آخر، إن شاء الله نُفرِد له ربما خُطبة، قد تكون موالية. وثاني ما يلي الإعجاز في البيان والنظم والبلاغة والفصاحة، ما هو؟ أُريد أن أُلخِّصه بكلمة واحدة، أُريد أن أُلخِّصه بكلمة واحدة وهو أمر عظيم، وأحسب – والله تبارك وتعالى أعلم – أنه هو الذي أخذ بمخانق العرب حين سمعوا هذا الذكر الحكيم، وهو الذي قطع بهم، وهو الذي أعجزهم، وهو الذي أفحمهم. وهو الأمر الذي يستشعره كل مَن تلا القرآن أو تُليَ عليه، ما خلا من الاستكبار والعنجهية وادعاء العلم أو الإغراض، فالغرض مرض. أمر نستشعره ويسطو بنا ويُمارِس أثره فينا وعلينا، وإن لم يستطع مُعظَمنا أن يُكيِّفه. ما هو هذا الأمر بالذات؟ ما هو هذا الشيء الفريد العجيب، الذي يجعلنا تقشعر أبداننا، تقشعر جلودنا، وتهمل عيوننا، وترتجف أفئدتنا وقلوبنا؟ ما هو هذا الشيء؟ ما هو هذا الشيء؟ يبدو أنه ثاني الخصائص التي أعطت القرآن وتُعطيه – لا تزال ولن تزال – إعجازه وتفرده، يُمكِن أن أُسميه تخصص لُغته. تخصص لُغته! لُغة مُختَصة ومُغلَقة مُقفَلة. بمعنى ماذا؟ هذا الاختصاص لا يُمكِن المُجاراة فيه، ولا يُمكِن تعلَّمه. هل تعرفون لماذا؟ لأنها لُغة مُختَصة بالقائل. هذه لُغة الله، طريقة الله، إذا تكلَّم، لا إله إلا الله!

انتبهوا، يا ليت، كم يتمنى المرء، كم يلذ له ويشوقه، أن يدخل هذه التجربة الذهنية الفكرية كما يُقال! أن يكون في جزيرة من جزائر البحار والمُحيطات العظيمة، لم يسمع بالقرآن ولا نبيه ولا أمته من قبل، لا دفاعاً ولا عداءً، لم يسمع! وإذ هو في تلك الجزيرة من الجزائر، إذ دفعت وألقت إليه الأمواج بصندوق مُحكَم الإغلاق والإقفال، ففتحه، فإذا بصحائف، بلُغة يُحسِنها، فجعل يقرأ، ولتكن العربية، جعل يقرأ!

تخيَّل نفسك أخي الكريم، أُختي الفاضلة، هذا الإنسان في تلك الجزيرة النائية البعيدة المُفرَدة في عُمق المُحيط الأوقيانوس، وقرأت. ما الذي سيلفتك، أول ما يلفتك؟ أعتقد الذي سيلفتك، أول ما يلفتك، أن المُتكلِّم ليس كائناً محدوداً، لا في علمه ولا في قدرته ولا في مشيئته وإرادته ولا في خلّاقيته وفعله وتصوره وتدبيره. المُتكلِّم واضح أنه يتكلَّم بهيمنة مُطلَقة، مُهيمن على الأزمان كلها، من أزلها إلى أبدها. وإذا راح يتحدَّث عن ظاهرة مُمتَدة جداُ في الكون – أي الكوزموس Cosmos – أو العالم، تكلَّم بما يُؤكِّد على ثبوت هذه الهيمنة له. إنه وجود، إنه كيان – إي Entity -، كيان من نوع ما، ولا نزال إلى الآن لا نعلم ما هو ومَن هو، والمُهِم ما هو، لا نعلم الماهية، لا نعلم حقيقة هذا المُتكلِّم، لكن يتكلَّم بوثاقة مُطلَقة. واثق جداً، إنه لا يرمي بالقول رمياً ولا يخبط به خبطاً، إنما يُحدِّده كصيرفي دقيق، بمثاقيل الذر. فنراه في آية يُحدِّثنا عن العوالم ونشأتها بعد أن لم تكن، وحدوثها بعد أن لم تكن. أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوآ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۩، هناك شيء مُجتمِع مُلتحِم على بعضه، تم فتقه، ليمتد بعد ذلك ويتسع. واضح جداً أنه حديث أقرب إلى ما يكون، يُوشِك أن يكون مُطابَقاً، أو يُوشِك أن يُطابِقه بالأحرى – هذه الدقة، لأنه هو القديم، وله السبق – ما يُعرَف بنظرية الانفجار العظيم، يُوشِك أن يُطابِقه ما يُعرَف الآن بنظرية الانفجار العظيم، أي نظرية البيغ بانغ The Big Bang Theory، وجعل هذا الشيء يتسع.

ثم الذي يُهيمن ويتحكَّم بمسار الزمن كله، من أزله إلى أبده، يعلم المسار والمصير. فإذا بالقرآن يفجأنا ويتحدَّث يهذه اللُغة، يقول وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ۩. طبعاً خطر لي الآن أن أقول لكم – وهذا وعد، والله لا يُخلِف ميعاده – بعد هذه الخُطبة لن تعودوا تقرأوا القرآن كما كنتم تفعلون من قبل. بعد هذه الخُطبة حين تفتحون هذه الصحائف الجليلة، تقومون بها في الليل، أو الصلوات؛ سرية أو جهرية، سترون القرآن بأعين مُختلِفة، ستُدرِكون القرآن بطريقة أُخرى تماماً مُختلِفة، قتلها الابتذال. الابتذال! نحفظه صغاراً، نُردِّده، نُجوِّده، لا نُفكِّر فيه، لا نطرح حتى مثل هذه الأسئلة، لا نطرح أسئلة، انتهى! ولذلك الآن بدأ بعض المُسلِمين يُشكِّكون حتى في صدقية القرآن وحتى في بلاغة القرآن وفي عظمة القرآن وفرادة القرآن، للأسف الشديد. كنز عظيم، مصدر النور الوحيد، الوحيد! الذي يُعطي النجاة التامة والكاملة المضمونة، كسرناه وشئنا أن نمشي في الظلام، يا للخسارة! صفقة المغبون، الغُبن كله.

فإذا به يقول – تبارك وتعالى – وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ۩. هناك Expandition، أي توسيع. لا إله إلا الله! نظرية اتساع الكون أيضاً، شيء غريب. ثم يقول – لا إله إلا هو – يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۩، أي Big crunch. الكون سيعود ينسحق، ليعود كما بدأ، في كتلة صغيرة جداً. يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۩. الله أكبر، الله أكبر! يقول لك محمد ألَّفه. محمد ماذا؟ محمد مَن؟ عيسى مَن؟ إبراهيم مَن؟ موسى مَن؟ لا أحد، لا أحد كان لديه مُجرَّد حدس بمثل هذه الأفكار إطلاقاً، وخاصة في جزيرة العرب، قوم لم يتعاطوا من العلوم ومن المعارف إلا الطب الشعبي – طب العجائز كما يُسميه ابن خلدون – والأدب؛ الشعر، صناعة اللُغة، فقط! لا علم لهم بهذه الشؤونات، لا من قريب ولا من بعيد.

ثم انظر إلى المُتحدِّث. المُتحدِّث لا يُعطي Statement أو تقريراً أو مُجرَّد خبر ساذج أو Proposition أو قضية، لا! هو الذي يقول يَوْمَ نَطْوِي ۩. لا إله إلا الله! بضمير الجلالة، هو الذي يتحدَّث، يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۩، يقول كَمَا بَدَأْنَا ۩، هو الذي بدأ، لا إله إلا هو! كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ۩.

سألتكم بالله العزيز الجليل، هل يستطيع محمد أو غير محمد أو أي منكم أن يتقمص هذه الحالة سيكولوجيا ليتكلَّم بمثل هذه الطريقة؟ طبعاً هناك بعض مَن ادّعى ويدّعي الإلهية، يُقال عنه Megalomaniac. أي المُصاب بجنون العظمة، رجل مُصاب بجنون العظمة، هذا Megalomaniac، مجنون! يقول لك أنا الرب. حلو، هيا يا رب، تكلَّم أيها الرب، لنختبر دعواك. يهرف بما لا يعرف، يأتي بما يُضحِك الثكلى ويُبكي الموتى، أليس كذلك؟ هو هذا. يأتي بتخاريف وخطرفات كما يقول العامة، هذا كلام لا معنى له، هُراء! وقد كان مَن هو أذكى وأملك منه، مَن هو أذكى وأملك منه؛ فرعون. أحد فراعنة مصر، أحد ملوك مصر العظام، فرعون موسى، فرعون الخروج كما يُقال، وقيل هما اثنان. لكن لا بأس. فرعون موسى ادّعى الإلهية؛ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ۩، مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ۩. أليس كذلك؟ هذا هو. بماذا أقام الدليل على هذه الدعوى؟ هيا، هيا، هيا أيها إلاله (الزاعم الإلهية) أثبت، فربما… ربما… هيا نرى هذه الدعوى.

وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ۩، مُلْكُ مِصْرَ ۩؟ مِصْرَ ۩؟ يتحدَّث عن مصر، لا يتحدَّث عن الأرض، فضلاً عن العوالم. وانظر بالإزاء، حين جاء موسى وقال له أنا مُرسَل من رب العالمين، من ربي، هو أرسلني. قال مَن ربك؟ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ۩؟ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۩. ليس رب مصر، قال له. قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ۩. أنا مُرسَل من هذا الذي هذا وصفه ونعته – لا إله إلا هو -. أنت أكبر دعواك، قصاراك أن زعمت: لِي مُلْكُ مِصْرَ ۩. أكيد لأن الدول الأُخرى المُجاوِرة لم تكن في مُلكه. ما هذا الإله العاجز؟ ما هذا المغلوب في مُلكه؟ الفقير في مُلكه، الفقير المحدود!

حدَّثتكم مرة عن أحد علماء وأولياء الهند – قدَّس الله سره الكريم -، الذي أراد أحد ملوك الهند المُسلِمين أن يُقطِعه إقطاعية، أي أرضاً هكذا، الله أعلم كم أكراً أو كم فداناً! فقال له الصالح العارف بالله لا سيدي، لا أحتاجها، لا أحتاجها ولا أُريد. قال لماذا يا سيدنا، يا مولانا؟ وكانوا يُحِبون العلماء والصالحين جداً، يُقبِّلون أيديهم وينحنون لهم، ملوك الهند كانوا هكذا، المغول بالذات. قال لأنك فقير. قال أنا فقير؟ أنا ملك الهند. قال نعم. فقير. قال، قال الهند جُزء بسيط من كوكب الأرض، أي من هذا الكوكب، وهذا الكوكب صغير في مُلك الله، وأنا أرزأك في هذا الجُزء من مُلكك الصغير! قال له لا، لا. خشع الملك المغولي. يا سيدي – قال – ادع لي. قال أنا يا سيدي – قال هذا للملك – إذا أردت شيئاً، أسأل مالك المُلك – لا إله إلا هو -، الذي لا تنقصه المسائل، لو أعطى. يا عبادي لو أن إنسكم وجنكم وأولكم وآخركم وقفوا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل أحد مسألته، ما نقص ذلك من مُلكي شيء. لا إله إلا الله! إلا كما ينقص المخيط – أي الإبرة – إذا وُضع في اليم. انظر إلى الإبرة، وضعها في البحر بعد ذلك، ماذا سوف تأخذ منه؟ هذا الرب – لا إله إلا هو -.

وعلى فكرة هذا الرب الذي كشف نفسه في القرآن العظيم. القرآن كله كشف عن هذا الرب – لا إله إلا هو -. بحديث من الرب نفسه – لا إله إلا هو -، ليس بخبر من محمد عنه، أو من تَلاميذ وحواري محمد عن رب محمد الذي هو رب العالمين، لا! حديث مُباشِر. وعلى فكرة يا إخواني بالعقل إذا تحدَّث شخص عن شخص، برز حجم الهوة المعرفية والنفسية والسُلطوية بينهما، مُباشَرةً! لجهة النقص أو الزيادة. فإن تحدَّث ناقص – مثلاً – أو تحدَّث إنسان عادي عن فيلسوف كبير وعن عالم عظيم، سيعود هذا الفيلسوف الكبير والعالم العظيم صغيراً على لسان وإفراغ منطق هذا الإنسان البسيط. هذا أكيد، أكيد! لأن هذا الإنسان البسيط مُحال أنه يعلم ماذا؟ أعماق فلسفة هذا الفيلسوف العظيم. ربما مدح البالطو الخاص به، يقول لك يا أخي عنده بالطو من أجمل ما يكون، ما شاء الله، وعنده ضحكة، ومُتواضِع الرجل. أهذا هو؟ هذا الفيلسوف العظيم؟ ثم إنه يتحدَّث – ما شاء الله – بثلاث لُغات. هذه الفلسفة؟ ثلاث لُغات! هذا قُصاراه، هذا المسكين هذا الذي لفته. اعكس الآن؛ ولو تحدَّث إنسان عظيم، عالم نفس كبير أو فيلسوف خطير أو تربوي مُهِم، عن إنسان عادي، ما الذي يحدث؟ سيُضيء من عتمات هذا الإنسان، ظاهرها وباطنها، ما لا يعلمه هذا الإنسان نفسه، سيزيده تنوراً بنفسه. أنت ستفهم نفسك أكثر، لو استمعت إلى عالم بالنفس وبالتربية كبير، له خبرة مقبولة نسبياً بك. هو سيُضيء عتمات وجودك ونفسك أمامك وأمامنا وأمام كل مَن استمع إلى حديثه.

الآن كيف برب العالمين – لا إله إلا هو -، إذا تحدَّث عن ذاته وعن وجوده، عن الوجود، عن الخلق، عن خلقه؟ نور. قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ۩. نور نوَّر كل شيء. لم يعد الكون – والله – ولم يعد الوجود بعد أن نزل القرآن العظيم كما كان من قبل، في ذهن مَن؟ في ذهن المرء القرآني، الذي قرأ القرآن وحذقه، الذي قرأه ويقرأه ويفهم ماذا يقرأ، من دون الذين يخرون عليه صُما وعُمياً. هذا هو! لم يعد الوجود كما كان من قبل، وعلى فكرة الوجود في القرآن وجود عميق جداً وجوهري، جوهري وعميق! وبكلمة أكثر تعبيراً: إلهي. إلهي، إلهي! إلهي في مُبتدئه، في مساره، في مصيره، في مُنتهاه، في ظاهره، في باطنه، في شهاداته، في غيوبه، في قوانينه، في تصاريفه، في شؤونه، في انضباطه، في إحكامه، في تصميمه، في خُطته، إلهي! وهذا الوجود أيضاً قرآنياً – انتبهوا، هذه صورة الوجود في القرآن الكريم – مُتواشِج، كل شيء فيه مربوط أو مُرتبِط بكل شيء، وكل شيء مُرتبِط بالله – تبارك وتعالى -، إفراداً وتركيباً. ولذلك هذا الوجود كله مُستعِد وعنده لياقة تلقي المعنى؛ المعنى الإلهي. ولذلك – في المرتبة الرابعة من الاستدلال – هذا الوجود كله، من عرشه إلى فرشه، يُدار بالوحي. عودوا إلى خُطبة قديمة نسبياً – من سنوات – اسمها الوحي مُحرِّك الوجود. القرآن قال هذا، وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۩، لا إله إلا الله! لكي يشتغل هذا العالم، يُخلَق بالانفجار الكبير ويشتغل، يحتاج إلى وحي، قال لك وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۩. لكي تتحرَّك المخلوقات الحية، مثل النحل، تحتاج إلى وحي، وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ۩. لكي نعرف نحن كبشر خيرنا من شرنا ونعمل ماذا ونكف عن ماذا، أحياناً يأتينا هذا الوحي الإلهي، وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا ۩، إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ ۩، ولم تكن نبية، إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ – يا موسى – مَا يُوحَى ۩ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۩. لا إله إلا الله! وحي ودال على أن صاحب هذا الوحي ومصدر هذا الوحي مُهيمن على المسار، قال لها وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي ۩، لن يهلك. لماذا؟ قال لها أنا المُتحكِّم في تيارات الماء وفي تيارات الهواء. جيد، لكن سيقع في يد مَن؟ ربما وقع في يد أحد! نعم، سيقع بالذات في يد العدو. قال لها، بالذات! أنا أُريده أن يقع في يد العدو. لا إله إلا الله، العدو يُذبِّح الأبناء! قال لها لا، سنجعل تدمير هذا العدو على يد هذا الطفل الصغير، الذي يُلتقَط بين العشب والماء. موشيه، شجر وماء، بالعبرية موشيه. بين الشجر والماء! في الأدبيات الكتابية التقطته بنت فرعون، في ظاهر القرآن الكريم امرأته، لكن ربما هذا يصح وهذا يصح، صار إليها.

قال أنا المُهيمن. كما أنا مُهيمن على تيارات الماء وتيارات الهواء وحركة الجسم في الماء؛ الصندوق هذا (المهاد)، أنا مُهيمن، آخذ بالنواصب، حائل بين الخلق وبين قلوبهم، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ۩، لو أراد قتله، لن أُمكِّنه من ذلك، وسأحول بينه وبين قلبه، وأضع له التعطف والمحبة. أي في قلب الفرعون القاسي المُتألِّه المُتربِّب من دون الله، وهكذا كان، لا إله إلا الله! شيء عجيب. قال ولو. هذا هو! قال أنا صاحب المسارات كلها. تُسميها التوراة الطرائق. ولله طرائق! كل المسارات في الزمان والمكان والأحداث مُهيمَن عليها من صاحبها ومن خالقها – لا إله إلا هو -. هذه لوازم، هذا من لوازم، من توالي، من استتبعات، من مُترتبات – سموها ما شئتم – الخالقية، أو الخلّاقية. هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ – لا إله إلا هو -، وهكذا كان، فالوحي حرَّكها. هذه الأرض يوم القيامة تشهد وستشهد علينا جميعنا، على كلٍ! بما عمل عليها فوقها من خير أو شر. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ۩. يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ۩ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ۩. وحي!

الوحي مُحرِّك الوجود، ولذلك هذا الوجود كله قابل لتلقي المعنى الإلهي، ولهذا القرآن يتحدَّث بهذه اللُغة، وانظر إلى هذا؛ هذا الوجود قرآنياً، هذا الوجود الإلهي، ليس وجود الفيزيائيين وعلماء الكونيات الملاحدة والماديين، الذين يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۩. والحقائق الأعمق كلها غافلون عنها. ولذلك يعترفون من عند آخرهم أن التعليلات النهائية والأسباب النهائية غير معروفة، ولا يُمكِن أن تكون معروفة. نحن المسألة بسيطة جداً عندنا، السبب النهائي والعلة النهائية والمصدر لكل شيء رب العالمين. وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۩، هو الذي شاء أن يكون الأمر على ما كان عليه هكذا. اذهب علِّل بعشرين خُطوة، وفي الأخير سيؤول بك بالأمر وينتهي بك المسار إلى طريق مسدود، لا يُفتَح إلا بالإيمان، أن الله هو الفاعل لما أراد ولما خلق واختار، ولا شريك له في فعله لا وخلقه ومشيئته واختياره – لا إله إلا هو -.

هل هذا واضح يا إخواني؟ هو هذا. إذن القرآن يتحدَّث بهذه اللُغة. هذا الجزري – أي المنسوب إلى الجزيرة، الــ Island، والنسبة جزري، فعيلة فعلي، لكن يجوز جزيري، والأفصح جزري، مدني وليس مديني، قبلي وليس قبيلي، إذن هذا الجزري – أو الكائن الجزري أو الإنسان الجزري، أول ما يفجأه، سيفجأه هذا؛ أن هذا المُتحدِّث، هذا المُلقي بهذا الكتاب، كاتب هذه الصفحات، صاحب هذه الصحائف، يتحدَّث بثقة مُطلَقة، عن ماذا؟ عن تحكمه في مسار الزمان والمكان، أزلاً وأبداً، ومساراً أيضاً ومصيراً. يتحدَّث أن قوانين كل شيء من صُنعه وبيده، تصاريف وتدابير كل الشؤونات بيده وإليه – لا إله إلا هو -. لا يتحرَّك مُتحرِّك، لا يسكن ساكن، إلا به. وهو يتحدَّث بصيغة ماذا؟ بصيغة مَن يُواجِهنا بذاته، بهذه الصفات، بهذه النعوت، لا إله إلا هو! عبر هذا الكتاب العجيب، وأحياناً رحمةً بنا وإشفاقاً علينا، يلتفت ليُخبِر عن نفسه، على أنه هو المُخبِر؛ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ۩، أي هنا قال ذلك بأنه هو، أي الذي هو هو، يا مَن هو هو. كما يقول المُتصوِّفة، اليهود والمُسيحيون والمُسلِمون، يا مَن هو هو، ولا يعلم حقيقته إلا هو، لا إله إلا هو. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ ۩، فهنا مُباشَرةً صك موسى بها، إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ۩ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ۩. انظروا؛ السَّاعَةَ ۩، يقول السَّاعَةَ ۩، يتحدَّث عن الساعة، تخيَّلوا! يتحدَّث عن الساعة.

إذن عود مرة أُخرى إلى صورة الوجود. صورة الوجود الإلهي صورة مُختلِفة تماماً عنها في الطبيعيات، في الماديات، في الفلسفات المادية الظاهرية بلُغة القرآن الكريم، التي لم تمس إلا القشرة الفوقانية فقط، أما الجواهر والأعماق فهي في غفلة تامة، مُنقطِعة عنها، عمياء إزاها تماماً وبالكُلية. القرآن يقول بهذه الصورة الإلهية، الصورة الأعمق الجوهرية، كل شيء في الوجود يُسبِّح بحمد الله. لا إله إلا الله! لأنه مخلوق، مخلوق! هذه حقيقة، شئت أم أبيت، أنت مخلوق لخالق، وهذا الوجود كله مخلوق، وهو يعلم وظيفته. وليس هكذا فحسب، ويسجد أيضاً. لا إله إلا الله! تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ۩. الله! أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ۩، قال وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ۩، للأسف! الكائن الخائب الخاسر هذا، المُستكبِّر بلا استحقاق، فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۩، بِغَيْرِ الْحَقِّ ۩ مثل فرعون أيضاً. كله يسجد لله!

ولئلا يفهم رقيع أن السجود سجود أعضاء ومفاصل، نوضِّح أن القرآن قال لا، ليس هذا. سجود يليق بكيانيتها، بمرتبتها في الوجود، وبوضعها في الوجود. بدليل قوله وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ۩، والقرآن لا يُغامِر ويقول لك الشجر يسجد. ولم نره مرة يسجد، إذن افهم أن السجود ليس سجود أعضاء ومفاصل. حين قال لك كل شيء يسجد، قلت فكيف يا ربي؟ قال لك حتى النجم – وليس النجوم، وإنما النجم – يسجد. والنجم هو النبات الذي لا ساق له، النبات الذي يكون على الأرض، هذا المُنبسط اسمه النجم والنجوم. والشجر النبات الذي له جذع – أي Trunk – وسيقان. هذا اسمه ماذا؟ الشجر. الله قال لك النجوم والأشجار تسجد. لم نرها تسجد! كهيئتنا، لكن لها سجودها المُختَصة به والمُختَص بها. كلها!

وليس هذا فحسب، الموضوع أنها لديها لياقة وقابلية أن تتلقى المعنى الإلهي. تتلقى المعنى، عجيب! ولو تلقته، تتأثَّر به. قال – عز من قائل – لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ ۩. انظر إلى الكلام، المُتحدَّث يقول لَوْ أَنزَلْنَا ۩. يقول هذا عن نفسه – لا إله إلا هو -، هل محمد يقول هكذا؛ لَوْ أَنزَلْنَا ۩؟ طبعاً لا. لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۩. لا إله إلا الله! وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا ۩ في الرعد، وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ۩، أي فأُزيلت وزالت عن محالها، وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ ۩، فتزايلت قطعاً وشظايا، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ۩، ما الجواب؟ أي لكان هذا القرآن. لأن الوحي مُحرِّك الوجود، وهذا جوهر الوحي، هذا خُلاصة الوحي الإلهي، هذا الصورة الأكثر تكثيفاً وتركيزاً للوحي الإلهي. الله قال لك بهذا القرآن يُمكِن أن يحدث هذا كله، وقد حدث بمثله، بالوحي الإلهي. فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه الحجر، فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۩، أليس كذلك؟ ومثله حصل لما طلب من ربه أن ينظر إليه؛ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۩، تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ۩، سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ۩، فتدكدك وتفتت وزال من مكانه. إذن زال من مكانه، وقُطّعت الحجارة بضربة عصا موسى، بأمر الله وعن أمر الله. وأما عيسى روح الله وكلمته فأحيا أمواتاً من مواتهم وكلَّمهم وكلَّموه ورأى الناس هذا، أيضاً  أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ۩، أرأيتم القرآن؟ عجيب القرآن هذا. أولاً وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ۩، حدث. ثانياً أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ ۩، حدث. ثالثاً  أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ۩، وحدث. أي لكان هذا القرآن، بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ۩.

وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۩، تراه هبط، تقول هذه قوانين ميكانيكية فيزيائية. الله يقول لك من خشية الله. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ۩، الله! الرعد يُسبِّح، له تسبيحه، كسجود النجم والشجر، وسجود وتسبيح كل شيء في الوجود. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ۩.

يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ۩، كانت ترُدِّد مع داود التسبيحات والتحميدات والتهليلات والتكبيرات والاستغفارات، الأذكار الإلهية! يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۩، أيضاً مُسخَّرة له. وَٱلطَّيْرُ صَٰٓفَّٰتٍۢ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۩، قال عَلِمَ ۩، قال عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۩. لا إله إلا الله!

كل شيء لديه هذا، أفلا يكون لدي أنا ابن آدم اللياقة والقدرة على أن أتلقى المعنى الإلهي؟ بلى. أنا المُرشَّح رقم واحد، لكن حال دون ذلك اللهو واللعب والاستكبار وعدم الجدية والابتذال والعمى وعدم الحس بالرسائل الإلهية التي تترى.

إذن القرآن الكريم – كما قلت – له لُغة، لُغة معنوية، وليست لُغة عربية وما إلى ذلك، لُغة اختصاصية، مُغلَقة حصرية مُقفَلة، لا يُمكِن لأحد أن يتكلَّم هذه اللُغة، ولم يحدث هذا مرة.

ونعود إلى المجنون فرعون، وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ۩، مُلك مصر فقط، ليس مُلك آسيا، فضلاً عن أن يكون مُلك القارات كلها، فضلاً عن أن يكون مُلك المجموعة الشمسية أو حتى العالم الخارجي،، لا! مُلك مصر، وطبعاً هذا الذي يليق بإله كذّاب، مُتربِّب سخيف رقيع أحمق، سيهلك غرقاً عما قليل. عمل قليل ليُصبِحن هو وقومه من النادمين؛ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ۩، هالكاً غريقاً.

أَمْ أَنَا خَيْرٌ ۩. وما شاء الله، هو دخل في مُقارَنة، مع مَن؟ مع رب السماوات والأرضين وما بينهما؟ دخل في مُقارَنة مع عبد ضعيف، اسمه موسى، فر هارباً منه قبل سنين، لم تُوف على العشر ربما، أو ربما دخل في الحادية عشرة، لأنه أتم عشر حجج، قبل إحدى عشرة سنة. قال أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ۩، مَن أحسن، ومَن أفضل؛ أنا أم موسى؟ ما هذا الإله الكذّاب؟ حتى ولو كنت أفضل من موسى، هذا لا يجعلك إلهاً يا رجل. عجيب، رقيع!

هذا الذي يُمكِن لطوق نفسي إنساني أن يُنتِجه، هذا هو. لا يُوجَد بشر يستطيع أن يقول نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ۩، أبداً! إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ۩ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ۩،  وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ۩، مَن؟ مَن يقول هذا؟ رب العالمين وحده مَن قال هذا، فعلها وحفظها – لا إله إلا هو – في الذكر المُبارَك المجيد العزيز المحفوظ الذي لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۩، فعلها – لا إله إلا هو -. هذا هو القرآن، هذا هو القرآن في جوهره، لو قرأناه يا إخواني كما ينبغي أن يُقرأ.

قال فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ۩. جميل! لو كانت أسورة الذهب وتكاثر أسورة الذهب والفضة والياقوت وما شئت يجعل الغني إلهاً ورباً، لتعددت الآلهة والأرباب بعدد الأغنياء، وهم كُثر. ما هذا الاستنباط الرقيع؟ قال فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ۩، فضح نفسه! الأهبل – أي فرعون – فضح نفسه، هل معك ملائكة مُقترِنون؟ هل معك ملائكة؟ مع أن موسى لم يدّع الربوبية والإلهية، ادّعى الرسالة فقط، أنه رسول. اشترط لإثبات رسالته أن تأتي معه الملائكة. أنت ادّعيت الربوبية، هل معك ملائكة؟ ليس معه. فضح نفسه، حماقة!

ولذلك وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ۩ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ۩، صَرْحًا ۩؟ ما هذا الإله الذي لا يستطيع أن يطلع من مُطلَع ليس بين يديه؟ يُريد أن يُبنى له، قاصر جداً مكانياً، في الــ Space نفسه قاصر، منظوره قاصر جداً.

كلكم أعتقد استمعتم ورأيتم في الفيديو Video – وإلى الآن موجود – واحداً من أكبر علماء الفلك في العالم، أعلن إسلامه قبل زُهاء ثمانين سنة، بعد أن سمع آيات فقط – آيات معدودات من كتاب الله – تصف السماوات والأرضين، آيات كونية. أسلم مُباشَرةً، وقال لأن هذا الكتاب يصف الوجود من أعلى نُقطة في الوجود. مثل هذا الوصف لا يُمكِن لإنسان داخل الكون أن يقوله. مُستحيل! لا بد أن يكون هذا الوصف صادراً عن قوة مُحيطة بالوجود كله، من أعلى نُقطة! أي غير مُقيَّدة بقيود المكان، ونحن نقول وأيضاً غير مُقيَّدة بقيود الزمان. طبعاً غير مُقيَّدة بقيد المكان، وغير مُقيَّدة بقيد الزمان، وغير مُقيَّدة حتى بالقوانين التي وضعتها، تتصرَّف فيها كيف شاءت، وهناك المعاجز، ولكن هذا تفسير مُعقَّد وموضوع آخر على كل حال، ولكن له علاقة أيضاً بالمسك بأزمة كل المسارات، بكل المسارات!

فهو يُريد ماذا؟ يُريد مُطلَعاً، أي مكاناً عالياً يُشرِف منه. وهذا يعني أنك مُقيَّد مكانياً يا أهبل، ومُقيَّد أيضاً علمياً. أنت لا تعلم، لا تزال لا تعلم. وأيضاً لا يقطع بأنه سيعلم،  لَّعَلِّي ۩، يترجى، الأهبل يترجى! فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ ۩، تلك في غافر، وهذه في القصص، فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ۩ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ ۩، إلى آخر الآيات، واضح!

أما نمرود إبراهيم – عليه الصلاة وأفضل السلام – فالمسألة معه كانت غلوة، غلوة! أقل من دقيقة، في شطر دقيقة انتهى الأمر، كُشف الكذّاب المُتربِّب. قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۩. أنا رب، أنا إله. إبراهيم تركه، قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ ۩. القرآن حين يتحدَّث، يتحدَّث عن خلق الأكوان وعن محكومية هذه الكواكب السيّارة الدوّارة بقوانين ربها وخالقها، لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ۩. مخلوقاته وهو يتحدَّت عنها، مخلوقاته! ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ۩. كل شيء طوع أمره – لا إله إلا هو -، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۩.

إذن فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ۩، قال فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ  ۩، مُباشَرة، انتهى الأمر، انتهى، قُطع، أُفحِم مُباشَرةً. ألست أنت الرب؟ إذن هيا تحكَّم في الظاهرات الكونية. الله يتحكَّم فيها، ويتحدَّث في القرآن الكريم عن أنه يفعل، يتحكَّم في كل شيء، وأنت هكذا تفهم، الأرزاق لا تُقسَم إلا بقسمه – لا إله إلا هو -، يبسط الرزق لهذا، ويقدر على هذا، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۩. لطيف بعباده – لا إله إلا هو -، يعلم ما يُصلِحهم وما يُفسِدهم.

واستمعنا الآن إلى الآية التي سبقت الآيات الجليلة من سورة الشورى؛ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ ۩. يأتيك رقيع ويقول لك الآن يا سيدي هم يختبرون هذا في المُختبَر. ولو! ولو! أصلاً كل شيء يحدث في الكون يحدث بأسبابه، والأسباب كلها طوع أمر الله، ولو شاء ألا يكون، لا يكون، لكنه يشاء أن يكون، بهذه الأسباب، هذا هو طبعاً. والقرآن يُحدِّثنا من الأول حتى النهاية عن أن الله هو الذي يُحيي ويُميت، ونحن نرى كل يوم ونُسامِع وتُطالِعنا وسائل الأنباء المُختلِفة بعشرات، بل بمئات – وفي الحقيقة تحدث ألوف – حالات القتل، جرائم القتل! فهذا الذي قتل، هل هو الذي أمات؟ لا. الذي يُميت ويُحيي رب العالمين، وأماته بسببٍ، أجراه على يد هذا المُجرِم، فقط هذه هي القضية، وهذا الشيء نفسه، لا فرق بين هذا وبين الأمور الأخرى مثل الذكور والإناث، مثل القتل والإماتة، الله يفعل بالأسباب – لا إله إلا هو -. ولذلك حتى موضوع التطور والتطوير الذي يُحدِّثونك عنه كله هكذا، أسباب كلها، وحتى الانتخاب الطبيعي إذا قبلته في حدود مُعيَّنة وعدَّلت عليه بأشياء مُعيَّنة هو وسيلة من الوسائل التي يصطنعها الرب الجليل – لا إله إلا هو -، مثل وسائل أُخرى كثيرة.

وعلى ذكر هذا – ذكر المسارات – أقول القرآن الكريم أيضاً يُحدِّثنا عن تحكم الله ومسكه بالمسار الأونتوجيني. والأونتوجيني يعني المسار النمائي؛ كيف تحول الأمر من خلية مُفرَدة إلى خلية زيجوتية إلى… إلى… إلى… إلى جنين نامٍ مُتكامِل! هناك سورة المُؤمِنون، وهناك سورة الحج، مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ۩… إلى آخره! نُطفة وعلقة ومُخلقة وغير مُخلقة ومُضغة وكسونا – الوقت أدركنا -… مسار أونتوجيني واضح، القرآن يُحدِّثنا عن هذا. مَن الذي علَّم محمداً هذا؟ ما هذا المسار؟ هذا المسار النمائي واضح جداً لدى مُنزِّل هذا القرآن.

المسار الفيلوجيني أيضاً – يعني العرقي السلالي – واضح جداً، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۩، هذه في الم ۩ السجدة، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ ۩، البداية! خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ۩ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ۩ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ۩، ماذا؟ الحديث عن ماذا هذا؟ عن الــ Hominins؟ عن الــ Hominids؟ عن ماذا؟ ثُمَّ ۩…  ثُمَّ ۩… هذا مسار فيلوجيني، وليس أونتوجينياً. هذا القرآن، هكذا! يتحدَّث عن كل هذه المسارات، هل هذا واضح؟ وهناك مسار الأحداث، غير مصير إبراهيم، الذي لم يستطع نمروذ أن يُهلِكه بالنهار. فلماذا لم يُسلِّط عليه السيّافة فذبحوه؟ حال الله بينه وبين ذلك، لأنه مُتحكِّم في المسار. هناك قصة، هناك غاية، هناك هدف صائر إليه ومُوعى به، صائر إليه إبراهيم وموعى به من السماء، من المُقدَّر – لا إله إلا هو -. وكذلك حصل مع موسى، وكذلك مع عيسى الذي تواطأ عليه أحبار اليهود وأسلمته السُلطة الرومانية إلى أهوائهم، ومع ذلك إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۩، ولذلك وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ۩، مُتحكِّم بالمسار! وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۩. مَن الذي يقول هذا؟ وهذه من المائدة نزلت قُبيل وفاة الرسول بسنين، ليس بأشهر ولا بأيام، وإنما بسنين، ولم يكن قد مُكِّن له في الأرض، بالعكس! كانت تحرسه الجُند، أي كان الجنود بالأسلحة يحرسونه، حتى لا يُغتال. فلما نزلت الآية، قالت أمنا عائشة – رضوان الله عليها – فرفع النبي طرف الخيمة – كانت هناك خيمة في خباء – وقال لهم انصرفوا، قد عصمني الله. لا أُريد هذا، انتهى، لن أُقتَل. الله! ثقة مُطلَقة، طبعاً لأن القائل هو الله، قال له وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ ۩. أنت عليك البلاغ، والعصمة علىّ. أنت رسول، لست مُجرَّد نبي، أنت نبي ورسول برسالة تامة. وهؤلاء لا يُقتَلون، هؤلاء يُنصَرون، مُستحيل غير هذا، وتُدمَّر أقوامهم ربما في نهاية المطاف، دون أن تتمكَّن منهم، واعتبروا هذا بنوح – أولي العزم -، بإبراهيم، بموسى، بعيسى، بمحمد. إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ۩. مُتحكِّم بالمسار – لا إله إلا هو – أيضاً! وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۩. خرج مُهاجِراً من مكته إلى المدينة المُنوَّرة – على مُنوِّرها مليون تحية وسلام -، قال له إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۩. قال له سوف تعود، وسوف تعود مُعزَّزاً منصوراً في مكة. مُتحكِّم بالمسار – لا إله إلا هو -، مُتحكِّم به تماماً. كما تحكَّم في مسار الحوت، أي السمكة في البحر، التي أريد لها أن يكون مسارها دلالة وأمارة لموسى وغلامه، لكي يعودوا أو لكي يعودا مُقتصين الأُثر (الأثر في السرب) العجب! ويجدا العبد الصالح. كلها تحكمات كاملة!

حين تقرأ القرآن، يسطو بك هذا الشعور، أن مُنزِّل هذا الكلام، صاحب هذا القيل – لا إله إلا هو -، فعلاً هو الخالق المُصرِّف المُدبِّر، الذي يسري علمه ومشيئته وقدرته وتدبيره وتصريفه في كل شيء، عبر الزمان، وعبر المكان، وحتى الأحداث – وأختم بهذا -، مثل معركة بدر، معركة هذه، معركة! إِذْ أَنتُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَٱخْتَلَفْتُمْ فِى ٱلْمِيعَٰدِ وَلَٰكِن لِّيَقْضِىَ ٱللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ۩، وأيضاً وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِىٓ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِىٓ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ ٱللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ۩. حتى الرؤى! ترى الشيء على غير واقعيته، والنبي يراهم في المنام قليلين، تخيَّل! ليتثبت، وأنتم ترونهم قليلين، وهم أيضاً يرونكم قليلين، لماذا؟ لكي تحدث الملحمة، ويكون النصر لأمة التوحيد الناشئة. لا إله إلا الله! شيء غريب. لماذا يكشف القرآن لنا عن هذا؟ لو أنه لم يكشف عنه، لما درى به أحد، أليس كذلك؟ القرآن لفت إليه، لكي يقول لنا أنا المُتحكِّم في كل شيء. على كل حال مثل هذه اللُغة عجيبة. أنا أتيت بالمُصحَف، ولكن الوقت لم يُسعِفنا، فنحن في خُطبة شتوية، وكنت أُريد أن أفعل هكذا؛ أفتح أي صفحة هكذا، أفتح أي صفحة هكذا، أفتح، لكن لا على التعيين. وكنت سترى في كل صحيفة من صحائفه مقامات جليلة كريمة مُينعة مُترَعة، تستطيع أن توالي الكلام على هذا النسق والطرز حولها… حولها… حولها…

هذه لُغة القرآن، أعتقد أن هذا الذي سطا بالعرب وأفحمهم، أفحمهم تماماً، ومارس عليهم تأثيراً هائلاً جوانياً، شعروا بهذا وربما لم يُكيِّفوه جداً، فهم لم يصفوه، ولكن هذا هو الذي يحدث، وهذا الذي يحدث مع كل مَن يقرأ القرآن ببكرية وعُذرية تامة، من غير إغراض، من غير مرض، ومن غير إرادة، ومن غير إرادة أن يقع على ما يُزيِّف به دعوى ربانية القرآن. سيقف أمام هذه الحقيقة العارية، وسيتملكه شعور عميق، أعمق من العُمق ذاته، أن هذا الكلام ما كان له أن يُفترى من دون الله، وما كان لأي خلق أن يقوله. ولذلك وقع التحدي به للإنس والجن جميعا، أن يُظاهِر بعضهم بعضاً، فإنهم عاجزون.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً. اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرِنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم ارزقنا حُسن تلاوة كلامك القديم وذكرك الحكيم على النحو الذي يُرضيك عنا آناء الليل وأطراف النهار، وأرضنا ورضّنا بذلك يا رب العالمين.

جنِّبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن. اللهم أغننا بالافتقار إليك، ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك. اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها معادنا. واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم ألهِمنا رُشدنا، وأعِذنا من شر نفوسنا.

اغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات. لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ۩. حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، إلهنا ومولانا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

تكملة مُفيدة للموضوع

أُريد أن أقول شيئاً، فقط من باب التوثيق والأمانة العلمية على طريقتي، فنحن حتى أي شيء نستفيده من مُلحِد، نقول إنه منه، لأن من بركة القول أن يُعزى إلى قائله. اليوم النظرية التي عُرضت، هي نظرية في الإعجاز على فكرة، هذه نظرية في الإعجاز! تقول لك هذا أحد وجوه الإعجاز الكُبرى. الذي سميته أنا اختصاصية لُغة هذا الكتاب. لُغة لا يُمكِن أن يتكلَّمها بشر، ولا أن تصدر عن أي بشر، لا تصدر إلا عن إله. وأثبت القرآن فعلاً أن هذه اللُغة، لا بد وأن تكون لُغة إلهية، لا يُمكِن لأحد أن يتكلَّم بهذه اللُغة إطلاقاً. والقرآن نبَّه على هذا على فكرة، نبَّه في أشياء كثيرة، لكن لا علينا الآن من هذا.

وهذه النظرية – بفضل الله – التمعت في خاطري الضعيف الكليل قبل زُهاء عشرين سنة، في مسجد الهداية، وكنت أُمثِّل لها حتى بالأمثلة نفسها؛ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ۩ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ۩ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ۩، ثم – سُبحان الله – أكرمنا الله بلقاء العلّامة الشهيد السعيد – إن شاء الله – الشيخ البوطي – رحمة الله عليه – قبل زُهاء أربع عشرة سنة، زارنا في هذا المسجد وليس في الهداية، فذات مرة في مُحادَثة بيني وبين الشهيد، قال لي يا فلان – بفضل الله – الله فتح علىّ بنظرية في الإعجاز، مبلغ علمي – انظر إلى هذا، مُتواضِع، عالم مُتواضِع وعالم كبير، رحمة الله عليه. مُتواضِع، ودائماً ما يقول مبلغ علمي، لأن يُمكِن الجزم، يقول مبلغ علمي – أنه لم يجر التنبيه عليها أو التنبه لها من قبل، عبر تاريخ الإسلام. قلت له ما هي يا مولانا؟ قال لي نظرية أنا سميتها مظهر جلال الربوبية. وهي تسمية مُوفَّقة إلى أبعد حد حقيقةً، تسمية مُوفَّقة إلى الغاية! قال أنا سميتها مظهر جلال الربوبية. فحين تقرأ القرآن أو تستمع إليه، تشعر أن من المُستحيل أن يكون المُتكلِّم بشراً، مَن يتكلَّم هنا ليس بشراً، ولا يقدر البشر على أن يتقمص لي هذه الحالة، لا يقدر، هذا مُستحيل. فقلت له يا مولانا بلى، هناك مَن سبقك إلى هذه. وشرح لي ما المقصود، شيء عجيب! فقلت له يا مولانا بلى، هناك مَن سبقك إلى هذه. قال لي مَن؟ قلت له العبد الفقير. قال لي مُستحيل! قلت له ها هي، وهي من سنوات – والله -، وعندي أشرطة، ودرستها وقلتها، وأتيت لها بأمثلة، وهي واضحة عندي من سنوات. فقال لي سُبحان الله العظيم. وفعلاً حين تطلع على كلامه، تشعر بالله العظيم كأننا درسنا على شيخ واحد، الطريقة نفسها، الشيء نفسه، لا إله إلا الله! وهذا يحدث طبعاً، وهذا يحدث بشكل عادي عبر التاريخ.

فالذي أُريده وأطمع فيه بصراحة يا إخواني بعد ذلك، أننا لا بد حين نقرأ القرآن الكريم، لا بد وأن ننتبه إلى الناحية هذه. وأنت فعلاً سوف تبدأ تشعر بذوق مُختلِف لكتاب الله، وسوف تبدأ فعلاً في أن تخضع أمامه وتخشع وتشعر بمشاعر عجيبة، لأن بغير هذا نحن لم نكن مستوعبين هذا الشيء، هناك كلام ونقرأ وينتهي الأمر، لا! الحالة نفسها حدثت مع العرب، والقرآن نبَّهك إليها، وحتى نبَّه محمداً، وكأنه يقول له انتبه إلى هذا الكلام الذي يُوحى إليك، وتتلوه على الناس وتقرأه وما إلى ذلك، انتبه، هذا بطبيعته لا يكون إلا كلامي، إلا كلام الرب – لا إله إلا هو -. مثل الآيات العجيبة التي تسحرني كثيراً، هذه كلما قرأتها، بخعت لها وخضعت جداً أمامها؛ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ ۩، ما الْغَرْبِيِّ ۩؟ الجبل الغربي، الذي كلَّم الله موسى عنده، وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ ۩، أنت لم تكن قبل – قال له – ألف وستمائة سنة قبل الميلاد. لم تكن! موسى تقريباً عاش من ألف وسبعمائة سنة قبل الميلاد، أي الآن حوالي أربعة آلاف سنة إلا قليل، وهو طلع منها عند الألفين، فهذه هي، نعم! وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ۩. معناها القرآن يقول لك هناك شهادة مُستمِرة سارية في الوجود كله. شهادة مَن؟ الحضور الذي لا يغيب – لا إله إلا هو -، غير المُقيَّد لا بالزمان ولا بالمكان. قال لك فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ۩. الذي قلته في جوف الليل وحدك أو مع صديق لك أو في ضميرك، سوف نقصه عليك، لأننا لم نكن بغائبين. الله أكبر يا أخي، هل هذا كلام بشر؟ نحن مساكين، هل هذا كلام بشر؟ لا يُمكِن لبشر أن يقوله، ولا يخطر على باله أن يُعبِّر بالتعبيرات هذه وأن يقول المعاني هذه ويُشير إليها ويُحيل عليها وهو واثق منها. وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ۩ وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا ۩، أي أجيالاً، هذه أجيال، أي Generations، فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ۩، يا الله، ما الكلام هذا؟ انظر إلى هذا، انظر! انظر حتى إلى التعبير نفسه، والله العظيم يقشعر البدن كله، وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ۩، وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ۩، لا إله إلا الله! إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ ۩ – قال له – يا موسى. النداء الإلهي، من الشجرة المُشتعِلة، بحسب الأدبيات الكتابية، أي الــ Biblical literature. وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ۩، الله! ما هذا؟

الشيء نفسه لما فرغ الله من قصة مريم، قال له ماذا؟ قال له ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ۩، أرأيت؟ لم تكن هناك – قال له -، أنا مَن كان، وأنا الحاضر الذي لا يغيب، والشاهد الذي لا يغيب. والشيء نفسه بعد نبأ نوح في سورة هود – السابقة هذه من آل عمران –  تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ۩.  ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ ۩، نبأ يوسف – عليه السلام – وإخوته وأبيه – عليهم السلام أجمعين -، ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ۩. الله! هذا تأكيد، الله يلفت محمداً، انتبه! يقول له انتبه، انتبه فهذا ليس كلام بشر، ليس كلام مُؤرِّخ، لا! هذا كلام حاضر شاهد لا يغيب، خارج عن حدود كل القيود. أرأيت؟ لا إله إلا الله، ولذلك نحن قلنا إنه ماسك بالمسارات كلها، مُتحكِّم فيها من عند آخرها، أولها على آخرها – لا إله إلا هو -، جُملةً وتفصيلاً. كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا ۩، وهكذا! فنسأل الله أن يفتح علينا جميعا، ويزيدنا هُدىً وثباتاً وتنويراً.

(انتهت التكملة بحمد الله)

فيينا 1/11/2019

تعاليق

تعاليق الفايسبوك