الجزء الأول من محاضرة لفضيلة الدكتور عدنان إبراهيم
بعنوان تجديد علم الكلام الإسلامي
ألقاها عام 2011 في أكاديمية إعداد القادة 4
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، يا رب لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما تُحِب وترضى، حمداً يُوافي نعمك ويُكافئ مزيدك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نظير له ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وعظيمنا محمداً عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه وأمينه على وحيه ونجيبه من عباده، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، واهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي مَن تشاء إلى صراط مُستقيم.
أما بعد، إخواني أحبائي في الله وأخواتي الفاضلات:
أُحييكم بتحية الإسلام، فالسلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته، وأسأل الله – تبارك وتعالى – وأدعوه ضارعاً مُبتهِلاً أن يُحقِّق بكم الأمل، أنتم – إخواني وأخواتي – الغد الموعود لهذه الأمة، حين أُحييكم فإنما أُحيي فيكم وعداً بالنصر ووعداً بالتقدم ووعداً بالازدهار لهذا الدين ولحملته ولأمته في كل سُقع وفي كل بلد وتحت كل سماء بعون الله تبارك وتعالى، أُحيي فيكم هممكم القعساء وإقبالكم على العلم والفكر وانهمامكم وانشغالكم بأمر الأمة وقضاياها، بحاضرها ومُستقبَلها، فالأمة أحوج ما تكون إلى أمثالكم من الذين نذروا أوقاتهم ونفوسهم وعقولهم بل وجودهم كله – إن شاء الله تبارك وتعالى – من أجلها، من أجل عزتها ومن أجل غدها.
ومن وراء هذا الكلام والقول أود أن أُحيي وأشكر الرجل الذي هيأ لنا جميعاً وجمعاوات هذا المُلتقى الكريم، الرجل الذي وصفته غير مُغالٍ وغير مُبالِغ – بإذن الله تعالى – بأنه أمةٌ وحده، والذي دخل التاريخ على أنه مُربٍ للأجيال ومُنشئ لشباب وشابات من أمثالكم، أُحيي أستاذنا الكبير الدكتور طارق السويدان، داعياً المولى – تبارك وتعالى – أن يمد في فُسحته وأن يُبارِك أنفاسه وعمله وخطوه ونقله ويُكثِّر في الأمة من أمثاله، والرجال قليل والنساء أيضاً قليل.
أما ما سمعتم من هذه التقدمة التي تتعلَّق بشخصي الضعيف فأرجو أن تبتسروا ما فيها من مُبالَغة وتُوشِك أن تكون كلها مُبالَغة، والله الذي لا إله إلا هو لا أرى نفسي كما نُعِت ولا كما أُوصَف في العادة ولا أدري ما الذي يحدث إلا أنه محض حُسن ظن أحبابي وإخواني – وهذا من طيب قلوبهم وطُهر أنفسهم – بشخصي الضعيف، فلا عليكم من هذه المُبالَغات.
إخواني وأخواتي:
موضوع المُحاضَرة المُطوَّلة لهذا اليوم كما أُعلِن عنها تجديد علم الكلام الإسلامي، فحري بنا في المُقدِّمة وفي البداية أن نُعرِّف بعلم الكلام الإسلامي، ما هو علم الكلام؟ قد يكون بعضكم مُتخصِّصاً في هذا العلم وضرب في غنيمته بسهم وافر، وقد يكون بعضكم لم يسمع حتى بهذا العلم، علم الكلام!
علم الكلام بإيجاز – إخواني وأخواتي – هو علم من العلوم الأصيلة في هذا الدين العظيم، علم ذو أصالة خاصة، أبدعته القريحة المُسلِمة بالتأمل العقلي الناضج واليقظان في كتاب الله تبارك وتعالى – أي في الكتاب التدويني – وسُنة نبيه المُصطفى – صلوات ربي وتسليماته عليه – كما في الكتاب التكويني، ولذا انقسمت مباحثه في الجُملة إلى مبحثين رئيسين: مبحث اللطائف أو ما يُعرَف بدقيق الكلام، ومبحث جليل الكلام.
علم الكلام – إخواني وأخواتي – بلُغة العصر هو علم العقيدة، وبداهة أن هناك فرقاً بين العقيدة وبين علم العقيدة، أمي وأمهات الكثيرين مِمَن لم يتلقين حظاً وافراً من العلم – مثلاً – تعتقد بلا شك ما يعتقده عامة المُسلِمين وخاصتهم في باب الإلهيات والنبوات والسمعيات، لقد تحصَّلت على حظها الذي تحصل به النجاة من العقيدة أو العقائد وعقدت قلبها عليه، هذا شأن عوام المُسلِمين وشأن خواصهم أيضاً، لكن ما يُميِّز الخواص من العوام أن الخواص لديهم لياقة الحديث في العقيدة كعلم، يتحدَّثون في العقيدة علماً وفناً من الفنون الإسلامية الأصيلة الراسخة.
إذن علم الكلام هو علم العقيدة، ليس العقيدة بذاتها وإنما العلم الباحث في العقائد الدينية الإسلامية التوحيدية، آثر بعضهم أن يُعرِّفه وهو قريب بأنه النظر العقلي في الدين، لكنه أراد بالدين هنا خصوص قضايا ومسائل الاعتقاد رجوعاً إلى نصوصها ومُستنَداتها، ولذلك شيخ الأزهر العلّامة الفيلسوف مُصطفى عبد الرازق – رحمه الله تعالى – يرى أن أصالة العقل المُسلِم قد تبدت في الأصول بشقيه، وشقا الأصول هما أصول الفقه وأصول الدين، هذا ما نعنيه حين نقول الأصول، نقرأ في الكُتب التراثية وكان فلان عالماً في الأصلين، أي في أصول الفقه وأصول الدين أو أصول العقيدة، التوحيد! الشيخ مُصطفى عبد الرازق يرى أن أصالة العقل المُسلِم تبدت في هذين المجالين أساساً، أي في علم الكلام وفي علم أصول الفقه.
بعض الناس يزعم أن هذا العلم ليس له حظ ظاهر من الأصالة، لأنه مُمتزِج بــ ومُختلِط بــ الفلسفيات، يصطنع الأساليب المنطقية الصورية في عرض مسائله وقضاياه والدفاع عنها، وهذا القول قول مُتعجِّل وقول عاطل عن البرهان والدليل، وذلكم أن نشأة علم الكلام أو علم التوحيد أو علم أصول الدين أو علم الفقه الأكبر – وهذه كلها أسماء لمُسمى واحد، الذي اصطلحنا على تسميته بلُغة العصر علم العقيدة، هذا المُصطلَح لم يكن معروفاً، أن يُقال العقيدة أو علم العقيدة، وإن كان أصل الاشتقاق معروفاً، يُقال عقد عليه قلبه – كانت سابقة على عهد الترجمة، على كل حال لماذا هذا القول عاطل عن الدليل والبرهان؟ لأن نشأة علم الكلام كانت سابقة على عهد الترجمة أصلاً، قبل أن يشرع المُسلِمون في ترجمة التراث الأجنبي وخصوصاً الإغريقي منه نشأ علم الكلام، ويعترف بهذا المُنصِفون حتى من غير الإسلاميين.
حُسين مروة – الكاتب ومُؤرِّخ الفلسفة العربية الإسلامية الماركسي – في كتابه الكبير النزعات المادية للفلسفة الإسلامية يرى أن نشأة علم الكلام أو علم العقيدة سابقة على الترجمة، وبنشأة علم الكلام – إخواني وأخواتي – درج المُسلِمون بخُطاهم الأولى أو بأولى خُطاهم في طريق ومشرعة الفلسفة، يقول بداية التفلسف لم تكن مع ترجمة التراث الإغريقي اليوناني، بل كانت مع نشوء علم الكلام وهو سابق، كانت مع نشوء علم الكلام – علم العقيدة – وهي نشأة سابقة على ترجمة الفلسفة الإغريقية، ثم يُحدِّد حُسين مروة هذه النشأة بقوله كانت تماماً وبالضبط مع بزوغ ونشوء القول المُضاد للنزعة الجبرية التي رفع لواءها بنو أُمية، سلاطين بني أُمية!
من المعروف طبعاً والمقطوع به أن سلاطين وخُلفاء وملوك بني أُمية هم الذين أشاعوا النزعة الجبرية في الفكر الإسلامي، أفهموا الناس هذه النزعة، هناك شعر كامل، وهناك أدبيات كاملة، لو قرأتم الشعر الأموي لوجدتم أن الشعر الأموي – أي الشعر الإسلامي في العهد الأموي – برمته ما عدا طبعاً النزعة المُقاوِمة يكاد يكون شعراً جبرياً، لا يتحرَّك مُتحرِّك ولا يسكن ساكن ولا يكون شيئ إلا بقدر الله، فمَن قُتِل ظلماً إنما قُتِل بقدر الله، مَن أُخِذ ماله أو هُتِك عرضه فإنما أُخِذ هذا وهُتِك ذاك بقدر الله تبارك وتعالى، وليس لأحد أن يعترض، المال مال الله، يأخذه مِمَن يشاء ويضعه أين شاء تبارك وتعالى، هكذا أراد بنو أمية أن تفهم العامة والخاصة حتى، المُهِم فنشأ وبزغ ونبغ تيار مُضاد، هو التيار القدري المُقابِل والمُعارِض والمُناكِد والمُناقِض أيضاً لتيار الجبرية.
معبد الجُهني، غيلان الدمشقي، وعمرو المقصوص، هؤلاء الثلاثة لقوا حتفهم بطريقة بشعة، قُتِلوا شر قِتلة، لماذا؟ لأنهم أرادوا أن يُشيعوا في الأمة الإسلامية أن الإنسان هو المسؤول عن مصيره والمسؤول عن أفعاله، هو الذي يُحدِّد مصيره وليس القدر بحيث تُلغى حرية الإنسان تماماً وبالتالي تسقط كل إمكانية لمُساءلة الحكّام الظلمة، لماذا فعلتم هذا؟ ولماذا اجترحتم هذا واجتررتم ذاك؟ يسقط هذا! لماذا؟ لأن الوضع كله لا مساغ فيه للمُساءلة، هو قدر الله الصرف المحض سُبحانه وتعالى.
إذن مع هذا التيار الذي مثَّله هذا الثلاثي المشهور – معبد، غيلان، وعمرو المقصوص – كانت بداية الفلسفة أو التفلسف الإسلامي، هذا على ما قرَّر حُسين مروة الماركسي، وطبعاً في هذا تصديق للقولة المشهورة لدى الفلاسفة ومُؤرِّخي الفلسفة: تاريخ الفلسفة هو تاريخ الحرية، لئن صدقت هذه المقولة فلأصدق ما تكون مع تاريخ فلسفتنا الإسلامية.
(بين مُزدوَجين أو بين قوسين كما يُقال أُحِب أن أُنبِّه إلى أن مُعظَم دارسي الفلسفة الإسلامية يتناولونها على أنها مباحث ثلاثة كُبرى: أولاً حكمة الفلاسفة بدءاً من الكندي، مروراً بالفارابي، ابن سينا، ابن رشد، ابن باجه، وابن الطُفيل، إلى آخر هؤلاء، حتى الفلاسفة الإشراقيين كحكيم الإشراق السهروردي المقتول وغيره، ثانياً – المبحث الكبير الثاني الضافي – الكلاميات، علم الكلام! يُتناوَل على أنه قسم من أقسام الفلسفة، مبحث من مباحث الفلسفة، الثُلث الثاني للفلسفة، ثالثاً – المبحث الثالث والأخير – التصوف، التصوف والنزعة الذوقية الحدسية في الفكر الإسلامي).
إذا أردنا أن نُرتِّب هذه المباحث بمُقارَبة تاريخية – أي من وجهة نظر نشوئية – فلابد أن نضع علم الكلام في البداية، علم الكلام هو الذي نشأ أولاً ثم تلته الحكمة امتداداً له، على أنها فارقته وافترقت معه في أكثر المسائل، أي من حيث التقرير، من حيث تقرير الأفكار والمُعتقَدات، لكن المسائل المبحوثة مُشترَكة إلى حد بعيد بينهما، ومَن أراد أن يقف على تفصيل هذه الجُملة المُقتضَبة فليعد – مثلاً – إلى حوار بين الفلاسفة والمُتكلِّمين للفيلسوف العراقي المُعاصِر حسام الدين الآلوسي، له كتاب مُمتاز وقوي ومُعمَّق، يبحث نزاع الفلاسفة والمُتكلِّمين في مسائل بأعيانها، في مسائل بحيالها! ماذا قضى فيها المُتكلِّم؟ وإلى ماذا انتهى فيها الفيلسوف الحكيم؟
(ملحوظة) سأل أحد الحضور عن اسم الكتاب الذي ذكره الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم، فقال فضيلته اسمه حوار بين الفلاسفة والمُتكلِّمين، للدكتور حسام الدين الآلوسي العراقي المُعاصِر، لا يزال حياً.
على كل حال – أيها الإخوة والأخوات – مُنطلَق المُتكلِّمين هو النص الديني، مُنطلَق الفلاسفة العقل، مُنطلَق الصوفية والذوقيين القلب والإشراق والحدس، افترقت هذه الاتجاهات الثلاثة وهذه الطرق في تعقل وطلب الحقيقة الثلاثة مُنطلَقاً، وبالتالي اختلفت منهجاً، كما اختلفت بعد ذلك تقريرات ونتائج وتوالٍ، أي لوازم، وإن اتحدت في كثير من القضايا والمسائل من حيث ذاتها، أما من حيث تصوير المسألة فيحصل الاختلاف أيضاً، من حيث تصوير المسألة أو تصوير القضية يحصل الاختلاف، وهذه مسألة مُهِمة!
على كل حال مُؤرِّخو الفلسفة الإسلامية على أنها ثلاثة أثلاث: كلام، فلسفة أو حكمة، وتصوف، فمَن أرد أن يدرس الفلسفة الإسلامية عليه أن يتطلَّع من هذه المباحث الثلاثة، عليه أن يتطلَّع من مباحث الأقسام الثلاثة جميعها على سواء.
أول المُتكلِّمين، في الحقيقة أول المُتكلِّمين هم المُعتزِلة، بشكل عام – إخواني واخواتي – علم الكلام فيه مدارس مُتمايزة ومُتباينة، هناك المدرسة الاعتزالية أو المُعتزِلية، وهناك مدارس أهل السُنة والجماعة، في مدارس أهل السُنة والجماعة هناك اتجاهان رئيسان: الاتجاه الأشعري المنسوب إلى إمام أهل السُنة والجماعة أبي الحسن عليّ الأشعري، والاتجاه الماتريدي المنسوب إلى إمام أهل السُنة في عصره وعصري الإمام أبي الحسن – كان عصريه، أي مُعاصِراً له – أبي منصور الماتريدي، من علماء ما وراء النهر! يُمكِن بقدر ما أن نعد أيضاً المُساهَمة الحديثية التي أنجزها علماء الحديث – العلماء الذين ينزعون منزعاً نصياً وحديثياً، الآن يُسمون أو يُعرَفون بالسلفية، بالاتجاه السلفي مُمثَّلاً إلى حد ناضج جداً في شخص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى – اتجاهاً ثالثاً، إلا إنهم لا يُوافِقون على هذا، لأنهم يجفون الكلام ويُناهِضونه ويعدونه أشبه بالجريمة الممنوعة والمحظورة، مُتأثِّرين في ذلك بمقولات عن الإمام مالك بن أنس وأبي عبد الله الشافعي وأحمد بن حنبل، أما أبو حنيفة فمن الصعب بمكان أن يُنسَب إليه مُناقَضة علم الكلام، لأنه بمعنى أو بآخر كان من جُملة المُتكلِّمين، وبهذا الخصوص يُنسَب إليه عدد من الكُتب، لا تصح نسبتها أو نسبة مُعظَمها في الحقيقة، كتاب الفقه الأكبر والذي شرحه العلّامة مُلا عليّ القاري – رحمه الله تعالى – وغيره، بل شرحه أبو منصور الماتريدي أيضاً قبل مُلا عليّ القاري، مما يُؤكِّد المنشأ القديم المُتقدِّم لهذا الكتاب، لكن نسبته ليس يُقطَع بها إلى الإمام أبي حنيفة رضوان الله تعالى عليه، وكتاب العالم والمُتعلِّم، ورسالته إلى عثمان البتي، إلى آخره! على كل حال أبو حنيفة عموماً يُذكَر ويُصرَف ضمن جُملة المُتكلِّمين، فالمقولات عن هؤلاء الأئمة فقط تقتصر على مالك والشافعي وأحمد في ذم الكلام وأهله.
على كل حال نعود لنُؤكِّد أيها الإخوة أن النشأة كانت مع أوائل المُعتزِلة، واصل بن عطاء وعمرو بن عُبيد، واصل هذا كان أحد تَلاميذ الإمام الحسن البِصري وأحد المُختلِفين إلى حلقاته العلمية، وحصل بينهما الخلاف المعروف، لا نُريد أن نذكر أشياء تاريخية فنُضيِّع بها الوقت، على كل حال هؤلاء كانوا أوائل المُتكلِّمين.
إذن النشأة الكلامية تميل إلى الاعتزال أو إلى المُعتزِلة، بعد ذلك دخل أهل السُنة والجماعة على الخط، بلا شك لابد أن يكون لهم إسهامهم، وأدلوا بدلوهم في الدلاء كما يُقال، فظهر علم الكلام السُني، والذي كان أيضاً مُناهِضاً ومُختلِفاً لعلم الكلام المُعتزِلي، لا أُريد أن أُذكِّركم بالأصول الخمس للمُعتزِلة التي لا يكون المرء مُعتزِلياً إلا إذا أحكمها خمستها كما قال المُعتزِلي العظيم عبد الجبّار الهمداني صاحب المُغني وصاحب شرح الأصول الخمسة: التوحيد، العدل، المنزلة بين المنزلتين، الوعد والعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، هذه خمسة أصول المُعتزِلة، في المُقابِل جاء أبو الحسن الأشعري بنظريته المشهورة جداً في الكسب والتي أراد أن يُثبِت بها أن الأمر ليس جبراً ولا تخييراً محضاً، وإنما هو أمرٌ بين أمرين، عبر هذه الآلية المُعقَّدة جداً والمعروفة بالكسب حتى ذهبت مثلاً في تعقيد الفكرة وغموضها وربوها عن الفهم ببدائه العقول أو الفهم السائد أو ما يُعرَف بالحس المُشترَك، فقيل أغمض من كسب الأشعري، على كل حال درس الموضوعات الأُخرى لكن على ضوء يختلف عن الأضواء التي سلَّطها المُعتزِلة على هذه الموضوعات، فتكلَّم في توحيد الله وما ينبغي له من أسماء وصفات، تحدَّث الأشاعرة عن صفة نفسية واحدة لله وهي الوجود وعن صفات سلبية أو سلوبية وعن صفات معنوية سبع ثم صفات المعاني وهي سبع مُشتَقة من الصفات المعنوية، أي كونه – تبارك وتعالى – حياً، كونه عالماً، كونه قديراً، كونه مُريداً، كونه سميعاً، كونه بصيراً، وكونه مُتكلِّماً، هذه الصفات السبع صفات المعاني المأخوذة من الصفات السبع وهي الصفات المعنوية، نظرية معروفة جداً في علم الكلام الإسلامي.
هناك أيضاً الماتريدية، وهناك أيضاً الكلام الزيدي، الآن إخواننا في اليمن الشيعة الزيود أو الشيعة الزيدية عندهم كلام، وهذا الكلام قريبٌ جداً من الاعتزال، أقرب المدارس الكلامية إلى المدرسة الاعتزالية المدرسة الزيدية، وهناك أيضاً الكلام الإمامي، الكلام الإمامي كلام الشيعة الإمامية الاثني عشرية، بصعوبة يُمكِن أن نتحدَّث عن كلام يختص به الخوارج، في الحقيقة لا كلام لهم، أي لا إسهام مُتكامِلاً نسقياً للخوارج في هذا الفن أو في هذا العلم.
فهذه أشهر مدارس علم الكلام: المدرسة الاعتزالية، المدرسة السُنية بشقيها الأشعري والماتريدي، ثم الكلام الزيدي، ثم الكلام الإمامي. وأيضاً بين قوسين فقط للطمأنة أقول (بعض الناس يقشعر بدنه حين يسمع كلمة أشعري وما تريدي، نقول له اربَعْ على ظَلْعِك، الأشاعرة هم جمهور أهل السُنة والجماعة، علينا أن نعترف بالحقائق كما هي، لا نُريد أن نُزيِّف الواقع أو الوقائع يا إخواني، الشافعية كلهم من عند آخرهم أشاعرة، المالكية كلهم من عند آخرهم أشاعرة، والأحناف ماتريدية، هؤلاء هم أهل السُنة، وللحنابلة اتجاه خاص ومقولات خاصة في العقيدة، هذا شأنهم، لابد أن نُقرِّر الأمور كما هي، وفي الحقيقة لا ينبغي المُجامَلة أو المُداجاة في مسائل العلم، للأسف بعض طلّاب العلم وبعض أهل العلم يُماري ويُجادِل وبعضهم يُداجِي ويُجامِل في مسائل العلم ولو بتزوير الوقائع والحقائق، من حق العالم ومن حق الباحث أن يكون له موقفه الشخصي الذي يعكس شخصيته العلمية ورأيه الخاص، لكن ليس من حقه وليس مما ينبغي أصلاً لعالم أو طالب علم أن يُزوِّر الحقائق وأن يغلط عليها أبداً، اذكر الأشياء كما هي، هذه هي الأشياء كما هي! أن جمهور المُسلِمين هم أشاعرة وماتريدية، جمهور المُسلِمين! شافعية، مالكية، وحنفية: هؤلاء أشاعرة وما تريدية، كون الحنابلة ومَن لف لفهم تقيَّلوا طريقاً مُختلِفة فهذا حقهم، لا نُنكِر ولا نُثرِّب عليهم، لكن الأمر دائماً يبقى مفتوحاً للنقاش وللأخذ والرد، ينبغي هكذا أن تكون طريقتنا وأن يكون هدينا في تحصيل المسائل وفي تصويرها حتى لا نظلم أسلافنا الصالحين ولا نغلط على تراثنا المِلي).
إذن هذه هي أشهر المدارس: المُعتزِلية، السُنية بشقيها الأشعري والماتريدي، ثم الكلام الزيدي، ثم الكلام الإمامي. مَن أراد أن يدرس علم الكلام باستقصاء وتوسع عليه أن يقف على نتاجات أو إنجازات هذه المدارس المُختلِفة، جميل!
ما هو دقيق الكلام؟ وما هو جليل الكلام؟ الأمر الذي ذكرته في صدر المُحاضَرة! أي دقيق الكلام وجليل الكلام، كل مسائل علم الكلام تنقسم إلى هذين القسمين: دقيق الكلام أو لطيفه – يُسمى اللطائف – وجليل الكلام، دقيق الكلام أو لطيفه أو اللطائف – إخواني وأخواتي – هو المُقدِّمات – نعني به المُقدِّمات – التي كان يتوسَّلها ويصطنعها علماء الكلام في التمهيد للقول في الاعتقاد، وهذه المُقدِّمات أو المُعِدات أو المُؤهِّلات كانت ترتكز بشكل رئيس وأساسي على جُملة المعرفة الطبيعية والعقلية المُتاحة له، المعرفة العقلية أو الجُزء العقلي من هذه المعرفة يعود في شطرٍ منه إلى المعرفة الكونية والطبيعية، ولذلك بعض الناس يختصر توخياً للسهولة والإيجاز فيقول دقيق الكلام أو اللطائف تُعادِل وتُساوي الطبيعيات، حين نقول الطبيعيات ما المقصود بالطبيعيات؟ الطبيعيات – إخواني وأخواتي – هي السلف المُشترَك للفيزياء وللعلوم الكونية، الآن نتحدَّث عن العلوم الطبيعية والعلوم الكونية بعامة، السلف لهذه العلوم هو ما كان يُعرَف بالفلسفة الطبيعية أو بالطبيعيات.
آخر هؤلاء الذين استخدموا هذا المُصطلَح كان العالم الكبير السير إسحاق نيوتن Sir Isaac Newton، نيوتن Newton استخدمه في كتابه الموسوعي الضخم – أعظم نتاجاته العلمية – المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية Philosophiæ naturalis principia mathematica، قد يقول أحدكم ما دخل نيوتن Newton – السير إسحاق نيوتن Sir Isaac Newton – في الفلسفة الطبيعية؟ لأنه يتحدَّث عن الفيزياء، وهو فيزيائي كبير، هو عالم فيزيائي من الطراز الأول، يتحدَّث عن الفيزياء! لكن الفيزياء إلى أصل نيوتن Newton كان ربما عُبِّر عنها بأنها الفلسفة الطبيعية، تماماً كما كان سائداً في التراث الكلامي الإسلامي، إذن كتابه المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية يُساوي المبادئ الرياضية للفيزياء.
ولذلك ليس عجيباً حين نقرأ ونتوسَّع في كُتب علم الكلام على اختلاف مدارسها أن نقع على مباحث طويلة الذيول في الذرة – Atom – والنظرية الذرية – Atomism – أو المذهب أو النزعة الذرية، أي أصالة الذرة Atomism، عجيب! بدءاً من أبي الهُذيل العلّاف، أحد المُعتزِلة العظام الكبار، وهو الذي أرسى دعائم المذهب الذري في علم الكلام الإسلامي، أبو الهُذيل العلّاف!
إذن نقع على مباحث طويلة ومُشتبِكة ومُعقَّدة ومُفصَّلة تتعلَّق بالذرة وما يتعلَّق بالذرة، مباحث الجوهر ومباحث العرض: هذه مباحث طبيعية فلسفية، من جهة مُعيَّنة هي طبيعية، ومن جهة أُخرى هي فلسفية، الجواهر والأعراض! هنا نجد أنفسنا وقد دخلنا في الساحة الأرسطية، النظام الهيكلي لإدراك الوجود كله وفق المُقارَبة الأرسطية يقوم على هذه المقولات، مقولة الجوهر ومقولة العرض، تسع مقولات! تسع مقولات معروفة في علم المنطق الصوري وفي تاريخ الفلسفة المشائية، الفكر الإسلامي تأثَّر بهذا، لكن هذا متى؟ هذا في عهد الترجمة، حين تعالق بالفكر اليوناني الوارد إليه بوساطة المُترجِمين السُريان بالذات، أكثرهم كانوا من السُريان!
نجد أيضاً مباحث تتعلَّق بالكون والفساد، هذه لُغة أرسطو Aristotle، الكون والفساد! ما معنى الكون والفساد؟ الكون واضح جداً، من أن يكون الشيئ، أي وجود الشيئ، أن يحظى بنصيب في الوجود، والفساد هو التغير والانحلال، ونرى مُساهَمات هنا أيضاً المُتكلِّمين والفلاسفة الحُكماء، يُفرِّقون بين عالم الاستقصات الأربعة، بين الموجودات المُتكوِّنة والمُبتناة من العناصر الأربعة: الماء، الهواء، الماء، والتراب، هذه العناصر الأربعة والأصول الأربعة، وعنها منها اشتُقت فكرة الطبائع الأربعة أيضاً، الطبائع الأربعة في الطب الإسلامي! لكن في المُقابِل هناك عنصر مُختلِف عن هذه العناصر أو الاستقصات، إنه عنصر الأثير، هذا العنصر ما بُنيَ منه زعم هؤلاء الحُكماء ومَن قال به لا يعرض له الانحلال، أي الفساد، فيبقى دائماً، لا ينحل، لا يفسد! زعموا أن السماء والأجرام العُلوية بما فيها الشمس مصنوعة ومُبتناة من الأثير، ولذلك هي تكون ولا تفسد، الآن قد تقولون هل هذه الأشياء نقرأها في علم الكلام؟ نعم، تقرأونها في علم الكلام وفي الفلسفة، هذا لطيف الكلام أو دقيق الكلام، طبيعيات الكلام! لكن ما حاجة الكلام إليها؟ سوف أُوضِّح هذا بعد قليل في أنحاء الحديث إن شاء الله تعالى.
الآن لو عُرِض هذا القول على طفل في الابتدائية أو في الإعدادية سيسخر منه، يقول هذا كلام فارغ، نحن نعرف الآن أن الأجرام العُلوية تكون وتفسد، موت النجوم، شيخوخة النجوم، انفجار النوم، الأقزام البيضاء، العمالقة الحُمر، والثقوب السوداء، بالعكس! عالم من الكون والفساد الدائمين، هذا ما يقوله الآن أي كوزمولوجي Cosmologist، أي عالم كونيات يُقرِّر هذا ببساطة وهنا يُقرِّرونه، لكن جالينوس Galenos والفلاسفة المشاؤون الأرسطيون وابن رشد لهم رأي آخر، وأقول بين قوسين (مع احترامنا الكبير لهذا الفيلسوف العقلاني الضخم – ابن رشد – إلا أننا نُسجِّل عليه للأسف أنه كان ضحية ما سماه فيما بعد فرانسيس بيكون Francis Bacon أوهام المسرح، من أكبر ضحايا أوهام المسرح في تراثنا الإسلامي أبو الوليد بن رشد رحمه الله تعالى، والمقصود بأوهام المسرح أن يقع المُفكِّر أو حتى العامي ضحيةً لسُلطة مُمثِّل مصدري للمعرفة حين تُقرَّر شخصية ما، في هذا السياق المقصود بها شخصية أرسطو طاليس Aristotle Thales، أرسطو Aristotle – مثلاً – كُرِّس على أنه مصدر للمعرفة، مرجعية Reference! مرجعية حقيقية طبعاً، وهو بلا شك مُفكِّر كبير ومُذهِل وهائل الاتساع، لكن أن يُعَد مرجعية بالمُطلَق غير صحيح، هذا الآن طبعاً يرفضه مِزاج العصر، مِزاج عصرنا العلمي النقدي يرفض هذا تماماً، في العصور الوسيطة كان هذا مقبولاً إلى حد غريب جداً ومُثير للاشمئزاز، في العصور القديمة كان مقبولاً تماماً، في العصور الوسطى الاستثناء – إخواني وأخواتي – فقط في الدائرة الإسلامية، الذين لم يقبلوا هذا – أن يكون شخصٌ ما مرجعية بالمُطلَق في المعرفة، أي مصدر المعرفة، بحيث يكون هو الأستاذ الأبدي وأنا التَلميذ الأبدي – الإسلاميون، رفضوا ذلك! لذلك نقرأ – مثلاً – لهم كُتباً مثل الشكوك على جالينوس Galenos، الشكوك على بطليموس Ptolemy، الشكوك على أرسطو Aristotle، غريب! نعم الشكوك، يُناقِشون هؤلاء، الواحد منهم يقول أنا أعترف بالمكانة والمثابة العُظمى لبطليموس Ptolemy هذا – صاحب المجسطي Almagest، الكتاب العظيم في الفلك Astronomie – ولكن هناك بعض الانتقادات والنقود سأُورِدها عليه: واحد، اثنان، ثلاثة، وعشرة! هذا ما فعله ابن الهيثم مثلاً، شيئ غريب! عقلية علمية، في الغرب الوسيط هذا غير موجود بالمُطلَق، بالمُطلَق! للأسف ابن رشد شكَّل استثناءً سلبياً من هذه الميزة الإسلامية، أراد أن يُكرِّس أرسطو طاليس Aristotle Thales على أنه الناطق بالمُطلَق بالحق المُطلَق، شيئ غريب! لأضرب لكم مثالاً، وهذا له علاقة بما نحن فيه).
موضوع تمدد الكون أو تمدد السماء أو انكماش السماء، هذه كانت مسألة فلسفية، هي الآن مسألة كونية، مسألة من مباحث الكونيات، أي الكوزمولوجي Cosmology، لكن في القديم كان يبحثها الفلاسفة، لماذا؟ لأن الفلاسفة كانوا يعدون أنفسهم آباء لكل العلوم، لأن الفلسفة كانت أم العلوم، تتحدَّث في كل العلوم بما فيها علم الأجرام العُلوية، أبو حامد الغزّالي رحمه الله تعالى – انظروا، هذا العقل الأشعري، هذا مُمثِّل العقيدة والكلام الأشعري في زمانه – قال نعم، من المُمكِن أن الكون يتسع، عجيب! ألبرت أينشتاين Albert Einstein في مُستهَل القرن العشرين – في الثُلث الأول من القرن العشرين – رفض هذه الفكرة، مع أن النظرية النسبية العامة له من مُقتضياتها أن الكون يتسع، قال لا، هذا غير معقول، كيف يتسع الكون؟ الكون ثابت، مُستحيل أن يتسع، فأدخل في نظريته النسبية العامة ثابتة – أقحمها إقحاماً – اسمها الثابت الكوني، ثم بعد ذلك لما ثبت تقريباً بيقين أن العالم العُلوي أو السماء أو الكون يتسع وفق مبدأ إدوين هابل Edwin Hubble والنظرية المعروفة ندم، قال لقد كانت أكبر حماقة ارتكبتها في حياتي، يعني الثابتة الكونية! غضب على نفسه، أبو حامد الغزّالي المُتوفى في سنة خمسمائة وخمس للهجرة – قبل زُهاء ألف سنة من ألبرت أينشتاين Albert Einstein – قال لا، السماء يُمكِن أن تتسع، والسماء يُمكِن أن تنكمش، لأنها عالم طبيعي، في المنظور الأشعري – انتبهوا – القوانين الحاكمة في العالم الطبيعي ليست ضرورية، لكنها احتمالية، هنا سيقول واحد أو واحدة غريب، هذا آخر ما انتهت إليه فلسفة العلم في القرن العشرين والحادي والعشرين، القوانين العلمية قوانين احتمالية وقوانين ترجيحية، ليست ضرورية، طبعاً ليست ضرورية! بخلاف القوانين الضروربية، وسنُوضِّح هذا ربما بعد قليل حين نبدأ في تبسيط هذه المفاهيم، قال لأنها ضمن عالم الطبيعة، والمُراد أن القوانين الحاكمة والدساتير الفاعلة فيها وعليها هي احتمالية، لو لم تكن احتمالية – ترجمة كلام أبي حامد رضوان الله عليه – وكانت ضرورية لاستلزم هذا تعزيز الربط طبعاً، أن تضع حدوداً لقدرة الله تبارك وتعالى، إذن لابد أن يقضي العقل المُوحِّد المُسلِم بأن السماء يُمكِن أن تتسع ويُمكِن أن تنكمش.
في المُقابِل وقف أبو الوليد بن رشد في تهافت التهافت ينقض هذه الفكرة، ويقول غير صحيح، السماء لا يُمكِن أن تكون أضيق مما هي عليه، ولا يُمكِن أن تكون أوسع مما هي عليه، لماذا يا أبا الوليد؟ قال لأن لو أمكن أن تصير أوسع مما هي عليه لأمكن أن تتسع إلى غير نهاية، ثم عقَّب أبو الوليد بقوله وهذا مُخالِف لما قاله أرسطو Aristotle، غريب! إذا قاله أرسطو Aristotle فصدِّقوه فإن القول ما قاله أرسطو Aristotle، غريب! ابن رشد بعقلانيته الهائلة يذهب هذا المذهب، للأسف أزرى على نفسه.
أبو حامد مرة أُخرى يُناقِض جالينوس Galenos الطبيب، وقد كتب رسالة في الفلكيات أيضاً، جالينوس Galenos كان يقول الشمس لا تذبل، أي لن تنتهي، لن تنحل، لن تتغيَّر! لماذا؟ لأنها لا تنتمي إلى عالم الكون والفساد، أي إلى عالم الأرض وما فيه مثلاً، إنما إلى عالم السماء، العالم الأرضي مُكوَّن من الاستقصات الأربعة، عالم السماء مُكوَّن من الأثير، الأثير يكون ولا يفسد، هذا العالم يكون ويفسد، الفساد والانحلال والتغير كما قلنا! فجالينوس Galenos قال الشمس لا تذبل، أي لا تزوي، لا تضعف، لا يذهب نورها ولا يخبو أوارها بلُغتنا العربية، ثم استدل على ذلك بالأرصاد، قال لأن الأرصاد – أي بالعين، لم يكن هناك تلسكوب Telescope ولا غيره – تُؤكِّد الثبات وعدم التغير، الشمس كما هي، لا يعروها تغيرٌ ما، رد عليه أبو حامد الغزّالي، والآن سترون كيف كان هذا الكلام الأشعري مُتقدِّماً جداً إذن، ليس كما يُوصَف أنه كلام مُتخلِّف وسبَّب تخلف الطبيعيات وتخلف العلم الإسلامي، شيئ غريب يا أخي! هناك عقلية نقدية لدى بعض المُعاصِرين شأنها أن تُزري بأصحابها وليس بما تتعرَّض له من نقود، هي تُزري بأصحابها، يهرفون بما لا يعرفون، شيئ غريب! على الأقل لو قرأوا في سياق مُقارِن او مُقارَنة لأرجعوا الاعتبار لهذا الكلام ولو في بعض المسائل، كما أرادوا أن ينصفوا المُعتزِلة في كل المسائل وأن يُعلوا من شأنهم في كلها جُملةً وتفصيلاً، الله يُحِب الإنصاف، وَيُقَالُ لِكُل شَيْئٍ وَفَاءٌ، أبو حامد رد على جالينوس Galenos بقوله كلا، الشمس تذبل وتكون وتفسد، وبلا شك هو يستند إلى القرآن الكريم، إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ۩، كل التفاسير مُطبِقة – أيها الإخوة والأخوات – ومُجمِعة على أن معنى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ۩ أي ذهب نورها والتفت حول نفسها ثم سقطت، وفي أحاديث وأخبار يُلقى بها في نار جهنم والعياذ بالله، واضح! قال أبو حامد مُصطنِعاً اللُغة الطبيعية واللُغة الفلسفية – فلسفة عصره – لأنها من عالم الطبيعة، أبو حامد لم تجد فكرة الأثير مساغاً إلى عقله، أن تقول هذا من عالم الأثير ولا يعروه كون ولا وفساد، غير صحيح، بالعكس! قال هي من عالم الطبيعة، مخلوقة! ما الفرق بين السماء والأرض؟ ما الفرق بين الشمس والأرض؟ أبو حامد لم يجد فرقاً، قال ستجري عليها قوانين الطبيعة، ورد على حُجة الأرصاد قائلاً – هذا كلام علمي دقيق جداً جداً، ليس حتى عند المُعاصِرين أحسن منه – أما حُجة الأرصاد فإن العين الآدمية المُجرَّدة لا تستطيع في قصر الزمان أو في زمان قصير أن تُلاحِظ وأن ترقب التغيرات، عجيب! كلام دقيق جداً جداً، التغيرات التي تحدث للشمس هذه لابد أن تمر عليها مئات الملايين وربما حتى بلايين – Billions – السنين لكي يظر التغير، وهي عمرها الآن خمسة بلايين – Billions – من السنين بالأمريكي، أي خمسة مليارات، خمسة مليارات أو ملايير من السنين، فلكي يظهر التأثر والتغير فيها تحتاج إلى مئات الملايين، أبو حامد يقول أترقب بعينك هذا؟ أتُريد ترصد التغيرات؟ قال هذا غير مُمكِن، ذكي! هذا تفكير علمي وتفكير فلسفي مُحكَم.
إذن – أيها الإخوة والأخوات – مسألة دقيق ولطيف الكلام هي طبيعيات علم الكلام، هذه الطبيعيات كانت بدايتها – كما قلت لكم – مع مفهوم الجوهر الفرد، الــ Atom! هذا المفهوم الذي نادى به ديموقريطوس Democritus، الفيلسوف الإغريقي السابق على أرسطو Aristotle بنحو مائة وخمسين سنة، ديموقريطوس Democritus نادى بمفهوم الــ Atom، والآن سأُعطيكم فكرة فلسفية وعلمية سريعة عن مفهوم الذرة والمذهب الذري، لأن عنده أيضاً بطانة أو أساس فلسفي.
إخواني وأخواتي:
هناك نظرتان مُتقابِلتان لطبيعة العالم، لطبيعة الكون! نظرة تواصلية استمرارية، تُقابِلها نظرة انقاسمية تجزيئية، النظرة التواصلية الاستمرارية رفع لواءها الفيلسوف الإغريقي المشهور أرسطو Aristotle القائل بالهيولي Hyle، الهيولي – Hyle – العرب يُترِجمونها بالهيولا، إذن الهيولي – Hyle – أو الهيولا! ما الهيولي – Hyle – أو الهيولا؟ هو مفهوم غامض أيضاً، يُضرَب به المثل في الغموض، هيولا أرسطو Aristotle والكسب الأشعري وطفرة النظّام، وسأشرح لكم اليوم طفرة النظّام في جليل الكلام، ما المقصود بطفرة النظّام والكمون عند النظّام؟ الهيولي – Hyle – أو الهيولا الأرسطية هو ماذا؟ هو مفهوم مُجرَّد لمادة – في الحقيقة ليست مادة كما نعرفها – بغير عرض، عجيب! كيف؟ هل يُمكِن الحديث عن المادة أو أصل المادة بغير أعراض؟ أرسطو Aristotle قال لا، قال المادة الأولى منشأ كل شيئ، وهي مفهوم مُجرَّد تماماً لا يقبل تحمل الأعراض، ما المقصود بالأعراض؟ الأعراض كما نفهم في المنطق الصوري وفي الفلسفة العقلية ما يعرض للجوهر.
إذا تحدَّثنا عن الجوهر فالجوهر لا يُوجَد وحده، لابد أن يأخذ هويته من خلال ما يتحمَّله من أعراض، والأعراض قسمان: أعراض تختص بالنواحي الحيوية، كالعلم، الحياة، الإدراك، الإرادة، والمشيئة، إلى غير ذلك، هذه أعراض! وأعراض تختص بالجانب المادي، بالجانب الميت! كالنوم، الريحة، الحجم، الثقل، النعومة، اليبوسة، والرطوبة، كل هذه تُسمى أعراض! هذا تقسيم عام وإجمالي للأعراض.
فعلى كل حال لا يُوجَد جوهر بلا أعراض، ولا يُمكِن أن يُوجَد العرض من غير جوهر، مُستحيل! الجوهر يأخذ هويته من خلال ما يتحمَّله من أعراض، والعرض لابد أن يكون بجوهر، لا يُوجَد عرض وحده، مُستحيل! فإذا اجتمع الجوهر مع أعراضه نشأ لدينا مفهوم بداية تكون الجسم، لأن اجتماع جوهر إلى جوهر يُؤدي إلى هذا، والجواهر تجتمع ولا تتداخل، هذا من مبادئ الفلسفة القديمة، يقولون الجواهر تجتمع لكنها لا تتداخل، وطبعاً هذا الكلام سيكون عليه بعد ذلك تنقيد وكلام من خلال مبادئ الكيمياء وأيضاً الطبيعة الحديثة، الكيماء والطبيعة الحديثة والبحث في العناصر وتكون العناصر والمذهب الذري، كلام طويل! أرسطو Aristotle لم يعترف بهذا الكلام، قال لا، الهيولي Hyle بلا أعراض، لا تتحمَّل أي عرض، ومع ذلك هي أصل المادة، إذن هي ذات طبيعة لا تقبل الانقسام، طبعاً لا تنقسم! ونظرة أرسطو Aristotle للعالم نظرة تواصلية استمرارية.
في المُقابِل سبقه ديموقريطوس Democritus ولحق به الإبيقوريون، أي أتباع إبيقور Epicurus، قالوا بالنظرة التجزيئية للعالم، بالنظرة الانقسامية اللاتواصلية، قالوا لا، كل شيئ يُمكِن أن ينقسم، والمُنقسِم ينقسم، فهو ينقسم لكن الانقسام لا إلى غير نهاية، ليس إلى لا نهاية، وإنما ينتهي! فالذي ينتهي إليه يُسمى الجوهر الفرد، وهذه أول ترجمة عربية إسلامية لكلمة Atom الإغريقية، كلمة Atom معناها الجُزء الذي لا يتجزأ، وهذا في فكر ديموقريطوس Democritus، أبو الهُذيل العلّاف – رحمه الله تعالى – من أوائل المُعتزِلة ومن أعاظمهم ومن أكثرهم تأثيراً في الفكر الاعتزالي خاصة في دقيق الكلام، هو الذي ترجم الــ Atom إلى مُصطلَح الجوهر الفرد، لأنه غير قابل للانقسام بعد ذلك.
ديموقريطوس Democritus تحدَّث عن الجواهر الفردة هذه بأشكال مُختلِفة، منها المُدبَّب، منها المُسنَّن، منها الدائري، ومنها الأملس، إلى آخر الأشكال المُختلِفة، وبالتقاء بعض هذه الأشكال تنتج أجسام مُختلِفة، الجسم الفلاني، الجسم العلاني، جسم نبات، جسم حيوان، وجسم كذا، إلى آخره! اعتبرها عالماً من الحركة المُصطخِبة الدائمة ونفى السكون، ديموقريطوس Democritus قال بالجوهر الفرد وقال بالحركة الدائمة من غير سكون، أبو الهُذيل العلّاف لم يُوافِق على هذا، هنا الإضافات الإسلامية! قال بالعكس، هناك جواهر فردة تتحرَّك وتسكن، يعلوها السكون، كل شيئ لابد أن يعلوه السكون.
كان لهذا القول من أبي الهُذيل لوازم وتوالٍ مُعيَّنة، تقرأونها في كُتب الفرق، عندنا – مثلاً – مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري، ينسب إلى أبي الهُذيل القول بانقطاع حركات أهل الخُلدين، صحيح! لكن لماذا؟ قد يقول لي أحدكم لماذا؟ لماذا هذا الكلام الفارغ والكلام غير المعقول؟ أنت تقول لي يأتي زمان ويأتي حين على أهل النار وعلى أهل الجنة – جعلني الله وإياكم وإياكن منها جميعاً – تنقطع حركاتهم، يسكنون سكوناً أبدياً مُطلَقاً، فما هذا القول؟ قول مُستفِز! هو لم يقله هكذا تشهياً أو بالهوى، قاله على أنه أحد لوازم نظريته، ما نظريته؟ أن كل شيئ كما تعلوه الحركة يعلوه السكون، هل هذا واضح؟ كل شيئ! في النهاية تنتهي كل حركة إلى سكون، والسكون هو الفاصلة بين حركتين، فإذا كانت الفاصلة طويلة رأينا المُتحرِّك بطيئاً، وإذا كانت الفاصلة قصيرة رأينا المُتحرِّك سريعاً، وهذا فهم دقيق حتى من ناحية فيزيائية، هذا مما أضافه أبو الهُذيل العلّاف، جاء المُتكلِّمون بعده من المُعتزِلة ومن أهل السُنة والجماعة، تقريباً مُعظَم المُعتزِلة وكل أهل السُنة والجماعة قبلوا بنظرية الجوهر الفرد، أي قبلوا بهذه النظرية ورفضوا نظرية الهيولي – Hyle – أو الهيولا الأرسطية، صحيح!
الآن أسأل سؤالاً، أي النظرتين أكثر التئاماً واتساقاً مع روح العلم الطبيعي الحديث: نظرية الهيولي – Hyle – أو الهيولا أم نظرية الجوهر الفرد؟ الجوهر الفرد، طبعاً واضح أن الانتصار كان للنظرية الكلامية الآن ذات الأصل الديموقريطوسي الإغريقي، صحيح! هذه النظرية كان يُمكِن أن تُسهِم في إنماء وإثراء العلم الطبيعي قبل ألف سنة، لكن للأسف تعصب المُتعصِّبين من الفلاسفة في الشرق والغرب عرقل هذا، ابن سينا – مثلاً – رفض نظرية الجوهر الفرد، أبو عليّ بن سينا – الشيخ الرئيس – رفض نظرية الجوهر الفرد تماماً، رفضها أيضاً أبو الوليد بن رشد وسخر منها، سخر من نظرية الجوهر الفرد! مُتابِعو هذين في الغرب – خاصة ابن رشد – رفضوا النظرية ذاتها، هذا كله أدى إلى تأخير إبداع العقل العلمي والعقل الطبيعي لنظرية الذرة كما نعرفها في العصر الحديث، بدءاً من دالتون Dalton، مروراً برذرفورد Rutherford، وقبل رذرفورد Rutherford طومسون Thomson، طومسون Thomson ثم رذرفورد Rutherford ثم نيلز بور Niels Bohr، إلى آخر هؤلاء المعروفين، تأخَّرت المسألة كثيراً، قريب من ألفي سنة! بسبب ماذا؟ بسبب أوهام المسرح، اعتبار أرسطو Aristotle وهيولي أرسطو Aristotle’s hyle مرجعية نهائية، الناطق المُطلَق بالحق المُطلَق! للأسف هذا أخَّر مسيرة العلم على الأقل في هذا الباب وفي أبواب أُخرى كثيرة.
لذلك بعض العلماء والفلاسفة المُعاصِرين أعربوا عن قدر مُصطخِب أيضاً من الحنق والغيظ إزاء أرسطو Aristotle، مثل برتراند راسل Bertrand Russell الذي قال مرة إن الله لم يبتل البشرية بالأدواء والأوجاع والمصائب كالطوفانات والزلازل بل ابتلاها بأرسطو Aristotle، قال أعظم بلية وأعظم مُصيبة في تاريخ الدنيا ليست هذه الأوجاع والأدواء والمصائب وإنما أرسطو Aristotle، أكبر مُصيبة في تاريخ الفكر الإنساني! وطبعاً هذه مُبالَغة إلى حد بعيد لكن فيها قدر من الصحة، واللوم والعتب ليس على أرسطو Aristotle وإنما على الذين جعلوا أرسطو Aristotle مرجعية مُطلَقة، هو ربما لم يُرِد لنفسه أن يكون مرجعية مُطلَقة، لكن هم حوَّلوه إلى رجعية مُطلَقة.
قد تتساءلون لماذا فرانسيس بيكون Francis Bacon سمى هذه الأوهام أوهام المسرح؟ تمثلاً بما يحدث لدى المُشاهِدين للمسرح – Theatre – من إعجاب ومن مُماهاة بمُماهاة المُمثِّل لما يُمثِّله، يأتي مُمثِّل يُمثِّل دور – مثلاً – هاملت Hamlet بطريقة مُبدِعة مُمتازة مُستغرِقة، وينسى نفسه وربما ينسى أنه يُمثِّل دوراً، يُصبِح هاملت Hamlet نفسه تقريباً عند نفسه، أنت تتأثَّر وتنسى أنه مُمثِّل وليس هاملت Hamlet الحقيقي، هذا مُمثِّل! بعد ذلك سينزع عنه هذا اللبوس ويعود إلى حقيقته، قال هذه أوهام المسرح، ننسى أن أرسطو Aristotle بشر نسبي يُخطئ ويُصيب، يُمكِن أن يُصيب في أشياء كبيرة إلى حد ربما قلت إنه إعجازياً لكنه سيُخطئ إلى حد مُزرٍ وطفولي في أشياء أُخرى أيضاً، فلا تقعن ضحية لأوهام هذا التمثيل وهذه المسرحة للفكر من رجال الفكر، مُصطلَح جميل وذكي، أعني مُصطلَح أوهام المسرح لدى فرانسيس بيكون Francis Bacon.
نعود إذن مرة أُخرى، نظرية الجوهر الفرد نظرية تقبَّلها كل المُتكلِّمين الإسلاميين تقريباً باستثناء البعض، إبراهيم بن سيّار النظّام كان له انتقادات على هذه النظرية، ابن سينا – كما قلنا – وابن رشد بالذات رفضاها رفضاً كاملاً، أما بقية المُعتزِلة فقد قبلوها وأثروها، المُتكلِّمون الأشاعرة والمُتكلِّمون الماتريدية قبلوها من عند آخرهم، واعتدوا بها وبلوازمها أو لوازم القول فيها.
(ملحوظة) استفسرت إحدى الحاضرات عن نظرية الجوهر الفرد، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم باختصار – إخواني وأخواتي – ما معنى نظرية الــ Atom أو الجوهر الفرد؟ أن كل شيئ في عالم الطبيعة قابل للانقسام، لكن هذا الانقسام ليس إلى لا نهاية، أي لا يظل ينقسم ينقسم ينقسم إلى ما لا نهاية، مُستحيل! ينقسم إلى نهاية، يقف عند نهاية مُعيَّنة، هذه النهاية سُميت ونُعِتت باللُغة الإغريقية Atom، معناها الجُزء الذي لا يتجزأ، أبو الهُذيل العلّاف آثر أن يُسميه أو ينعته بالجوهر الفرد، أي غير قابل للانقسام إلى ما دونه أو إلى ما هو أصغر منه.
طبعاً قد يقول بعضكم أو بعضكن لكن هذا الجوهر الفرد أو الــ Atom أثبت العلم الحديث أنه ينقسم، بغض النظر عن هذا هم الآن يُسمونها الذرة وتعلمون ما هو مصداق ومدلول الذرة، وفي الذرة هناك دقائق Particles، دقائق ذرية! هذه الدقائق الذرية في القديم كانت محدودة: إلكترون Electron، بروتون Proton، ونيوترون Neutron، بعد ذلك أضافوا الميزون Meson، أي عائلة الميزون Meson، ثم الهدرونات Hadrons، إلى آخره! الآن كم؟ أكثر من مائتي دقيقة ذرية، هناك أكثر من مائتي جُسيم ذري، خُذ أياً منها، إذا قضى العلم بأنه لا ينقسم إلى ما دونه فيكون هو الجوهر الفرد بالاصطلاح الديموقريطوسي أو العلّافي لأبل الهُذيب، هذا هو! هذا هو الجوهر الفرد، لكن هذه اصطلاحات، ولا مُشاحة في الاصطلاحات إذا تحدَّد تماماً المعنى لدينا.
على كل حال لحد الآن يبدو أن أصغر ما توصَّل إليه العقل العلمي النظري هو الكوارتس، الكوارتس – قالوا – هذا تقريباً أصغر شيئ، لم نجد ما ينقسم إلى ما دون الكوارتس، هذا يُترجِمه إخواننا الشاميون بالكوارك Quark، ترجمات مُختلِفة! على كل حال يقولون الكوارك Quark، أي الكوارتس.
نعود إلى ما كنا فيه، النظّام إذن كان له موقف نقدي من الجوهر الفرد، لم يقبله كما قبله سائر المُتكلِّمين، النظّام كان له أيضاً مقولة الطفرة ومقولة الكمون، وخالف بهما المجرى السائد في علم الكلام الإسلامي الاعتزالي والسُني، النظّام مُتوفى في سنة مائتين وإحدى وثلاثين، أي في سنة إحدى وثلاثين ومائتين – للهجرة، ما معنى الطفرة؟ وما معنى الكمون؟
الطفرة هي أن ينتقل الشيئ أو الجسم من مكان إلى مكان آخر دون أن يمر بالفضاء بينهما، أي دون يمر بالحيز أو بالمكان الثالث بينهما، شيئ غريب! ما عقل النظّام هذا؟ كان يُلقَّب بشيطان المُعتزِلة، كان ذكياً جداً جداً جداً، من الصعب أن يقوم له أحد في المُناظَرة، وله مُفارَقات وأفكار عجيبة، من أفكاره العجيبة المرذولة قوله بالصرفة، لم يعترف بأن القرآن مُعجِز، قال القرآن ليس مُعجِزاً في حد ذاته، لكن الله هو الذي صرف مَن أراد أن يقوم بتحديه عن أن ينجح في تحديه ومُعارَضته، نقول هذا تحصيل حاصل أو مُرواحة في المكان، أي ما الذي أتيت به في نهاية المطاف أنت؟ ومن الصعب جداً أن تُبرهِن نظرية الصرفة هذه، من الصعب بل من المُستحيل، لأنها تتحدَّث عن أمر يختص به الله تبارك وتعالى، من أين لك أن الله هو الذي صرف؟ لأنك لا يُمكِن أن تقول بهذا القول إلا إذا قام لديك البرهان على أن القرآن فعلاً في حد ذاته ليس مُعجِزاً وهذا لا يقوم إلا بوقوع المُعارَضة، أن يُعارِضه أحد وأن يُثبِت أنه غير مُعجِز، هل فعل أحدٌ هذا؟ لم يفعله أحد، وهذا هو مدلول الإعجاز، أي أنه أراد أن ينقض الإعجاز فلم يأت بجديد – أي النظّام – أو ناقض نفسه بطريقة صبيانية، على كل حال الطفرة، لماذا قال بالطفرة؟ وقد يُسارِع بعضنا ويقول هذه الفكرة من أذكى الأفكار في تراثنا الطبيعي، لماذا؟ لأنها تُساوي تماماً ما انتهت إليه ميكانيكا الكم أو فيزياء الكم.
في فيزياء الكم الجُسيم ينتقل من مكان إلى مكان آخر دون أن يمر بمكان بينهما، عجيب! هذا ضد منطق البداهة، ضد الحس المُشترَك – Common sense – هذا، مُستحيل! المنطق العادي لا يقبل هذا مُطلَقاً، ألبرت أينشتاين Albert Einstein عاش ومات وهو لا يقبل هذا، لم يستطع أن يتقبَّل هذا، لكن النظّام تقبَّل هذا وقال به، في الحقيقة النظّام لم يذهب إلى القول بالطفرة على أساس علمي طبعاً، وإنما على أساس فلسفي مُتأثِّراً بالشُبهات التي أثارها الفيلسوف اليوناني الشهير زينون Zeno على الحركة، زينون Zeno كان يقول العالم هو عالم من السكون، وليس عالماً من الحركة، والحركة غير موجودة، غريب! هل حركة يدي غير موجودة؟ كان يقول غير موجودة، وله أربعة تشغيبات مشهورة على الحركة، تأثَّر بها النظّام، من بينها أن المكان – أي حيز أردته – يُمكِن أن ينقسم، والمُنقسِم ينقسم، والمُنقسِم الثاني ينقسم إلى ثالث، والثالث إلى رابع، إلى ما لا نهاية، أليس كذلك؟ فإذا أردت في مُدة من الزمن أن تقطع الجُزء الأول والانقسام يتوالى فلن تستطيع إذن أن تقطع كل هذه الأجزاء لأنها تتوالى، طبعاً هنا تُوجَد مُغالَطة Fallacy، يُوجَد نوع من المُغالَطة التي وقع فيها زينون Zeno وتابعه النظّام، ما هي المُغالَطة؟ الخلط بين الانقسام إلى ما لا نهاية بالقوة وبينه بالفعل، بالفعل غير موجود، أليس كذلك؟ بالنظر وبالاستعداد أو بالقوة يُمكِن أن نتخيَّله، لكن بالفعل هذا غير موجود، وكونه غير موجود هو الذي يسمح بحصول النُقلة والحركة، حركة النُقلة من مكان إلى مكان ومن حيز إلى حيز.
النظّام رأى أن في الوجود حركة وحركات، لم ينف الحركة كما نفاها زينون Zeno، لكنه تأثَّر بشُبهات زينون Zeno، للجواب عنها قال ماذا؟ قال بالطفرة، ما معنى الطفرة؟ أن تنتقل من فضاء إلى فضاء أو من نُقطة في الفضاء إلى نُقطة أُخرى دون أن تمر بالثالثة، هروباً من مسألة توالي الانقسام إلى ما لا نهاية، حتى تُقطَع هذه المُنقسِمات، إلا أنها لا تتناهى فيُمكِن قطعها، مُطابَقة لشُبهة زينون Zeno، فهذا النظّام بقوله بالطفرة Mutation.
أما الكمون النظّامي فالنظّام قال بإن الله – تبارك وتعالى – لما خلق الخلق لم يخلقهم على التوالي، أي على التعاقب، ديكرونياً بالمُصطلَح الألسني الحديث! لكن خلقهم في وقت واحد، سنكرونياً! وأكمن بعضهم في بعض، ذهن خصيب وخيال فرط وغزير، بمعنى أن الله لم يخلق آدم أولاً ثم خلق ولده من بعده واحداً فواحداً، إنما خلقهم جميعاً مرة واحدة، وأكمن بعضهم في بعض، أكمن أي أخفى ودس، أكمن بعضهم في بعض، ثم هو – تبارك وتعالى – يستخرج بعضاً من بعض من بعض وفق مُقتضيات مُعيَّنة، هذه اسمها نظرية ماذا؟ نظرية الكمون عند إبراهيم بن سيّار النظّام.
كل هذه المباحث العجيبة اللطيفة الغريبة التي تُعبِّر عن ذهن خصيب مُشتعِل مُتألِّه مُتوثِّب مُتحفِّز من مباحث دقيق الكلام أو لطيف الكلام، مباحث الجواهر والعرض وكل ما يتعلَّق بها، مباحث الطبيعيات بالشكل العام، الحركة، السكون، الطبائع، الأصول الأربعة، والأثير، إلى آخره!
ما علاقة هذا بموضوع المُحاضَرة “تجديد علم الكلام”؟ لقد بدأت الآن العلاقة تبدو واضحة لنا، يُمكِن الآن أن نفهم لماذا، إذا كان هذا هو لطيف الكلام أو دقائق علم الكلام الذي بُنيَ واصطُنِعَ على نحو مما ذكرت – والنحو طبعاً الذي ذكرته مُتعجِّل وسريع ومُقتضَب – فإن الهرم المعرفي الذي صار يقتعده أو يقتعد عليه المُسلِم المُعاصِر لا يسمح باستمرار توسل نفس المبادئ ونفس الحُجج والبراهين في هذا العصر، صحيح! وللأسف الشديد بل من أسف بالغ أن مُعظَم الكتابات العربية في علم الكلام أو في علم العقيدة المُعاصِرة لا تفعل شيئاً يزيد عما قدَّمه السابقون باستثناء إعادة الصياغة بلُغة سلسة وأحياناً بلُغة صحفية مُبتذَلة وضعيفة لتُناسِب أهل العصر.
لن أذكر أسماء حتى لا أُسيء إلى علماء أفاضل تعلَّمنا منهم وتتلمذنا على كُتبهم وعلى أنفاسهم – لن نذكر أي اسم – لكن تستطيعون أن تقوموا بهذه التجربة ببساطة، اذهبوا إلى المكتبة الكلامية وخذوا منها كُتباً تُدرَّس الآن في الجامعات الإسلامية العريقة، وستجدون أنها مُجرَّد إعادة صياغة – ليس حتى إعادة بناء وإنما إعادة صياغة – للتراث الكلامي الوسيط، هو كما هو لكن بلُغة تُناسِب العصريين.
في المُقابِل ساهم بعض المُتكلِّمين الجُدد، وبين ظفرين أو بين قوسين (مَن هم هؤلاء المُتكلِّمون الجُدد؟ أي مَن هم الذين أسهموا فعلاً أو يُسهِمون الآن في إعادة بناء علم الكلام وربما يُسهِمون في إنشاء علم كلام جديد أو علم عقيدة جديد؟) ربما كان في أوائل هؤلاء المُصلِح المشهور جمال الدين الأفغاني ذو الأصول الفارسية، هو ادّعى أنه هندي لكنه فارسي وكان شيعياً، على كل حال جمال الدين له كتاب أو كُتيب صغير مشهور اسمه الرد على الدُهريين، الدُهريين وليس الدَهريين، النسبة للدهر على غير قياس، دُهري! وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۩، دُهريو العرب – مثلاً – ودُهريو الإغريق! وهذا الكتاب اشتبك فيه مع التطوريين، مثل هربرت سبنسر Herbert Spencer الذي دعَّم نظرية التطور العضوي لتشارلز داروين Charles Darwin في علوم الاجتماع والتاريخ، أو ما يُعرَف بالــ Social Darwinism، أي الداروينية الاجتماعية، من كبار مُؤسِّسيها هربرت سبنسر Herbert Spencer، على كل حال جمال الدين الأفغاني ناقش نظرية التطور لداروين Darwin وناقش تدعيماتها الاجتماعية والإنسانية في هذا الكُتيب الصغير، هذه طريقة مُستحدَثة وجديدة للاشتباك مع بعض الطروحات العلمية والفلسفية العصرية طبعاً بلا شك، وداخلة في علم ماذا؟ في علم الكلام إذن، تجديد!
تلا جمال الدين الأفغاني تَلميذه النابغة الإمام المُفتي محمد عبده – رحمة الله عليه – بكتابه رسالة التوحيد، والذي اختلف الناس في تقويمها كثيراً، بعضهم قال نفس الشيئ، هي صياغة عصرية فيها بعض الإضافات الساذجة لعلم التوحيد القديم ولعلم الكلام، ليس فيها أي تجديد حقيقي، هكذا! بعضهم قال بالعكس، الإمام محمد عبده وُفِّق إلى حد بعيد وقطع شوطاً محموداً ومقدوراً ومشكوراً في تجديد علم الكلام، وذهبوا يُمثِّلون لذلك بموقفه – مثلاً – من العقل إزاء النقل وتحديد سُلطة العقل في حدود مُعيَّنة وبسطها في حدود أُخرى، في المُقابِل تأويله لبعض الغيبيات، بما يجعله أقرب إلى الطبيعيات، وهذا طبعاً يُناسِب المِزاج العلماني واللاديني الآن في العالم العربي والإسلامي، أحبوا هذا جداً من محمد عبده في تأويله حتى لبعض الغيبيات.
محمد عبده أيضاً أجاب عن مسألة لم يتعرَّض لها الكلام القديم وهي سر الانتشار السريع والمُعجِب للإسلام، بلُغة الغربيين والمُعجِز، اسمها مُعجِزة الفتح الإسلامي، غير معقول! أمة من البدو البُسطاء السُذج الأُميين يفتحون العالم في زُهاء تسعين سنة، كيف؟ كيف حصل هذا؟ لأول مرة هذا، القدر الذي فتحه المُسلِمون في تسعين سنة احتاجت روما إلى أكثر من ستمائة سنة لكي تُنجِزه، كيف؟ محمد عبده تكلَّم في هذا الموضوع، وقال السر يكمن في واقعية الإسلام، هذا نوع من الجواب الجديد، لم يتعرَّض له المُتكلِّمون القدماء، لم يطرحوا هذه المسائل أصلاً، فهذا – قالوا – ضرب من ضروب التجديد، وكذلك فهمه للنبوة، أي محمد عبده، مع أن المُتكلِّمين التقليديين يُثرِّبون عليه جداً بخصوص هذه النُقطة، وتعريفه للنبوة على أنها ضرب من ضروب الاستعداد النفساني للإشراع والتواصل مع الغيب، يعتبرونه تعريفاً يقترب بتعريف الباطنية والإسماعيلية وإخوان الصفا والزنادقة، ويقترب من كل مساعي الذين أرادوا أن يُصوِّروا النبوة على أنه جُهد كسبي وليست محض منحة إلهية وهبة ربانية صمدانية، على كل حال كلامه قابل للتأويل، رحمه الله تعالى.
بعد محمد عبده العلّامة الهندي الكبير شبلي النُعماني، أستاذ العلّامة المُؤرِّخ والمُفكِّر المُسلِم الكبير سُليمان الندوي، العلّامة شبلي النُعماني هو أول مَن استخدم هذا المُصطلَح، علم الكلام الجديد! لأول مرة ورد هذا المُصطلَح في عنوان لكتاب من وضع وتزبير العلّامة شبلي النُعماني، بعد ذلك العلّامة الفيلسوف الشاعر الكبير محمد إقبال رحمه الله تعالى، عالم القانون والفلسفة والشاعر المشهور محمد إقبال والداعي إلى انفصال باكستان عن شبه القارة الهندية في كتابه المشهور – ست مُحاضَرات له طبعاً ألقاها على أولاده – عن تجديد الفكر الإسلامي، هو Reconstruction، أي إعادة بناء! اسم الكتاب أو المُحاضَرات الأصلي إعادة بناء الفكر الديني في الإسلام The Reconstruction Of Religious Thought In Islam، هذا الكتاب مُساهَمة حقيقية في تجديد علم الكلام الإسلامي.
(ملحوظة) سأل أحد الحضور عن اسم الكتاب، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم اسمه تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمه مُترجِم اسمه عباس محمود، والآن الكتاب صار يُطبَع من جديد، كتاب مُهِم جداً جداً، لا يُستغنى عنه بالنسبة لأي مُفكِّر إسلامي.
إذن محمد إقبال، لدينا أيضاً بما أننا ذكرنا شبه القارة الهندية العلّامة الباحث الكبير وحيد الدين خان، أعتقد لا يزال حياً إلى اليوم، أمد الله في فُسحته، اتهمه بعض الإسلاميين بأنه قادياني، لم تثبت هذه التُهمة عليه إلى الآن، هو مُتأثِّر بالأفكار الأحمدية، أي الشق أو الفرع الأقل غلواً وتطرفاً في القاديانية، نعم هو مُتأثِّر بهم وقد يكون منهم، مثل مولانا محمد عليّ رحمه الله تعالى، هؤلاء خطرهم ليس كبيراً مثل القاديانية الأصلية، على كل حال عنده كتاب مُمتاز جداً ويُنصَح بقرائته وهو مُساهَمة مُوفَّقة إلى حد بعيد في تجديد علم العقيدة أو علم الكلام الإسلامي، تُرجِم بعنوان الإسلام يتحدى، هذا الكتاب عدّه بعض مُؤرِّخي الفكر الإسلامي في القرن العشرين واحداً من أعظم خمسة كُتب في الفكر الإسلامي في القرن كله، الإسلام يتحدى! ترجمه العلّامة المصري واللُغوي الشهير عبد الصبور شاهين رحمة الله تعالى عليه، هذه الترجمة أعتقد من الإنجليزية والأصل موضوع بالأردية، علم جديد! فالمُهِم هذه المُساهَمة مشهورة جداً جداً وله غيرها، لكن هذه أهم مُساهَمات وحيد الدين خان في علم تجديد الكلام.
في الفترة الأخيرة – في ربع القرن الأخير – تصاعدت دعوات – أيها الإخوة والأخوات – إلى تجديد علم الكلام لكن وفق مناهج غربية اضطلعت بها شخصيات لاهوتية وفلسفية مسيحية، خاصة من الدوائر البروتستانتية وليس الكاثوليكية، وهي الدعوات التي تتوكأ على وتستند إلى مناهج التفسير والتأويل المعروفة بالــ Hermeneutics، العرب يُسمونها الهرمينوطيقا، الهرمينوطيقا Hermeneutics! وهي نظريات التأويل، نظريات القراءة، ونظريات التفسير، وطبعاً الآن في الجُزء الثاني من المُحاضَرة سأُضطَر أُحدِّثكم حديثاً أيضاً مُجمَلاً لكن بمزيد من الإسهاب والتفصيل عن هذه النظريات وعن نجاعتها، ماذا تقول؟ ما الجديد فيها؟ وماذا يُمكِن أن نقرأ بها من جديد في النص الديني العتيد؟ ماذا يُمكِن؟ هؤلاء الآن يدعون وبنوع من الحُميا وبنوع من الاجتهاد والحماس البالغين إلى قراءة النص الديني وخاصة العقدي – النص بعامة وخاصة العقدي – وفق مناهج الــ Hermeneutics، أشهر هؤلاء في العالم العربي الدكتور المصري الفيلسوف حسن حنفي، وتقريباً من أكثر من ثلاثين سنة يدعو إلى هذا، طبعاً تابعه في ذلك نصر حامد أبو زيد، في الدائرة الفارسية في إيران هناك شخصيتان مشهورتان جداً الآن: محمد مُجتهِد شبستري وعبد الكريم سروش، أشهر شخصيتين تتحدَّثان في هذا المجال في إيران، لدينا إلى الآن حسن حنفي ولدينا نصر حامد أبو زيد وغيرهما، هؤلاء يدعون إلى تجديد علم الكلام ويتحدَّثون عن علم كلام جديد لكن مُتوكئين على آلية الــ Hermeneutics، كيف؟ هذا – إن شاء الله – في الجُزء الثاني من المُحاضَرة.
نعود، فهذا إذا أردنا أن نُجدِّد في علم الكلام، وقد قلت لكم إن هذا التجديد قد يكون بدأ مع العلّامة الأفغاني – مع المُصلِح الأفغاني – ومر بمَن ذكرنا وبغيرهم، هناك أيضاً مَن كان لهم مُساهَمات في تجديد العلم لكنها ليست بمثل ذلك النصوع والفقاعة، فالعلّامة المصري الأزهري الكبير دراز – رحمة الله عليه – عنده إسهامات، إسهامات إلى حد ما في تجديد علم الكلام، خاصة في كتابه عظيم الأهمية الدين، بحث في نشأة العقيدة الإلهية، كتاب مُهِم! الأستاذ عباس العقاد في كتابه الله – نفس الشيئ – بحث في نشأة العقيدة الإلهية، هذا الكتاب من أهم كُتب العقاد، على سقطات وغلطات وقع فيها رحمة الله تعالى، يُعتبَر أيضاً من أهم الكُتب.
الشيخ العلّامة حُسين الجسر صاحب الرسالة وصاحب الحصون – الحصون الحميدية – إلى حد ما أيضاً ابنه في كتابه قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم وهو الشيخ نديم الجسر من الذين لهم مُساهَمات، هناك مُساهَمات شتى، وتقريباً فيما عدا ذلك الموجود من الإنتاج والإنجاز المُعاصِر هو إعادة صياغة للكلام القديم.
نعود الآن لنقول هل شرف التجديد يُمكِن أن يحظى به شخص واحد برأسه كأن نقول الأفغاني هو الذي جدَّد علم الكلام؟ غير مُمكِن، لا نقول فلان أو علان، غير مُمكِن! لماذا؟ لأن تجديد علم يعني أمرين أو واحداً من أمرين، إما أنه علم مُستقِل – أي وُلِدَ تقريباً ولادة كاملة – فنقول انفرد فلان بتأسيسه، لا بتجديده، تقريباً كعلم أصول الفقه وولادته مع الإمام الشافعي، حتى قال الرازي – رحمة الله تعالى – في ترجمته إن نسبة الأصول إلى الشافعي كنسبة المنطق إلى أرسطو Aristotle، مع أن أرسطو Aristotle أيضاً لم ينفرد بتوليد هذا العلم من العدم، بالعكس! بل كان امتداداً لأستاذه أفلاطون Plato الذي كان امتداداً لأستاذه سقراط Socrates، مُساهَمات سقراط Socrates أقل في المنطق، مُساهَمات أفلاطون Plato أكثر، وموجودة في مُحاوَراته، لكن ليس على نحو مُرتَّب كما رأينا في الحال مع أرسطو Aristotle.
على كل حال الأمر الثاني الذي يعنيه ما ذكرنا هو تجديد مسائل وقضايا العلم، ولا يُمكِن أن ينفرد شخصٌ مهما كانت قامته الفكرية والعلمية هائلة وطويلة بتجديد قضايا ومسائل علم ما، إلا إنه يُسهِم في تجديد بعض المسائل، مُفسِحاً المجال لآخرين لكي يُواصِلوا تجديد مسائل أُخرى، وربما اختراع وإضافة قضايا أُخرى، مثلاً لكي أُقرِّب لكم الموضوع فقط أذكر مثالاً واحداً، من التحديات التي يطرحها العلم الحديث – مثلاً – على علم العقيدة ما يطرحه هذا العلم بخصوص الهندسة الوراثية على مفهوم التقدير الرباني، مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ۩، وهو المعروف بالتقدير الإلهي في مرحلة النُطفة، هناك إشكال، هناك تحدٍ واقع حقيقي، لا يسوغ أن نتجاوزه أو أن نتجاهله، وهو أنه صار بمُكنة الإنسان وفي مقدوره أن يلعب في تقدير هذه المرحلة، أليس كذلك؟ طبعاً هذه الهندسة الجينية، الهندسة الوراثية، تلاعب Manipulation! هؤلاء يتلاعبون، تحت الميكروسكوب Microscope الإلكتروني يتلاعبون في المثحتوى الجينومي، في المُحتوى الوراثي، يلعبون في بعض الجينات Genes، وهذا في الظاهر يتناقض مع ماذا؟ مع انفراد الله – تبارك وتعالى – بالتقدير، أليس كذلك؟ لأن الله هو المُنفرِد بالخلق والتقدير، كيف الجواب عن هذه المسألة؟
هذه المسائل لا مناص، لا مندوحة، لا مهرب لعالم التوحيد أو لعالم أصول الدين أو لعالم الكلام – عالم العقيدة – من الجواب عنها، على الأقل من التصدي لها، لابد أن يتصدى لها، وإلا تُحدِث إشكالات هائلة أمام المُسلِمين والمُسلِمات، يبدأون في الشك، يشكون! يشكون في دينهم، يشكون في قرآنهم – كتابهم – مثلاً، فذكر أمثال هذه القضايا والمسائل في هذا العلم يُعتبَر إسهاماً في تجديد العلم.
الآن الاستعانة – مثلاً – بآخر وأحدث النظريات الذرية – مثلاً – في بنية وتكوين الذرة مُهِم جداً في تجديد لطائف الكلام، لسنا نكتفي بأخذ كلام أبي الهُذيل وأمثاله لنتحدَّث في اللطائف، لابد أن نعتمد التراث العلمي المُعاصِر، مُهِم جداً أن نُدخِل مثل هذه المسائل، منهج البحث عن نفسه في المعرفة أو ما يُعرَف بنظرية المعرفة – الإبستمولوجيا Epistemology – مُهِم جداً أيضاً في تجديد مسائل علم الكلام، لو أخذتم أي كتاب في علم الكلام سوف تجدون أنه يبدأ دائماً وفي العادة بماذا؟ يبدأ بالكلام عن المعرفة، العلم، الشكوك، الجهل، أقسام العلم، رُتب اليقين، ورُتب الشك والظن أيضاً، إلى آخر ذلك! فضلاً عن الرد على السفسطائيين، وإثبات إمكانية العلم والمعرفة، كل هذا حمايةً لماذا؟ حمايةً للعقل، لأنه الطريق والواسطة في الوصول إلى النقل، وفي الوصول أيضاً إلى واجب الوجود تبارك وتعالى، إذن هذا بحث في نظرية المعرفة، لا يُمكِن أن أطلب علم الكلام الجديد مُتوسِّلاً نفس هذه المُقدِّمات البسيطة، بالعكس! علىّ أن أكون مُتطلِّعاً من درس آخر الدروس في الإبستمولوجيا – Epistemology – الحديثة في الشرق والغرب، لابد أن أعرف ماذا كتب هؤلاء وماذا يكتبون، لماذا؟ لأن الإبستمولوجيا – Epistemology – في النهاية نظرية ماذا أعرف؟ وكيف أعرف؟ باختصار! ماذا أعرف؟ وكيف أعرف؟ بعد سؤال هل يُمكِن أن أعرف؟ طبعاً باستثناء الشكّاك والسفسطائية نعم المعرفة مُمكِنة، فيبقى سؤالان! الإبستمولوجيا – Epistemology – ثلاثة أسئلة فقط، المعرفة هل هي مُمكِنة؟ نعم مُمكِنة، إذن السؤال الثاني ماذا أعرف؟ والسؤال الثالث كيف أعرف؟ هذه هي الإبستمولوجيا Epistemology، ثلاثة أسئلة فقط!
علينا أن نقف الآن على أحدث النظريات في فلسفة العلم، لماذا؟ لأن الإبستمولوجيا – Epistemology – في نهاية المطاف تتوسَّل أمرين: تتوسَّل التفكير العقلي المُجرَّد – أي الفلسفي والمنطقي الصوري – وتتوسَّل الطبيعيات، الحقائق الطبيعية، حقائق العلم الطبيعي، هذه الإبستمولوجيا – Epistemology – الغربية والشرقية، الإبستمولوجيا – Epistemology – الإسلامية نفس الشيئ، نفس الموضوع! لم يتغيَّر، تغيَّر ماذا؟ تغيَّر مضمون المُتوسَّل، أنا أتوسَّل طبيعيات العصور الوسطى أو أتوسَّل طبيعيات القرن الحادي والعشرين أو الأصول الحديثة بعامة، ينبغي أن نفعل هذا، إذا لم نفعل هذا ظهرنا بمظهر ماذا؟ المُتأخِّر عن عصره، الذي لم يُؤد الشهادة على عصره، لأنه لم يشهده أصلاً، تخيَّلوا الآن أكاديمياً – مثلاً – يقرأ العلوم العقلية أو الفلسفية يستمع إلى عالم دين أو إلى مُتخصِّص من كبار علماء الكلام الإسلاميين يتحدَّث في لطائف الكلام بلُغة العصور الوسطى، سيُثير سخريته، أليس كذلك؟ طبعاً! وسيُواجِه بنقود كثيرة بالعشرات تستند إلى طبيعيات العصر الحديث، ولن يستطيع الجواب عنها، لن يستطيع الجواب عنها لأنه لم يتعاط عنها يوماً من الأيام، هذا يُشكِّل أيضاً نوعاً مُمكِناً من تجديد مسائل العلم.
هناك أيضاً ما هو أعمق من هذا لو دخلنا في مفهوم الإيمان، كيف تعاطى معه مُتكلِّم العصور الوسطى الإسلامية؟ وكيف ينبغي على المُتكلِّم الجديد أن يتعاطى مع مفهوم الإيمان؟ محمد إقبال عنده عبارة مُوحية شعراً، يقول – رحمه الله تعالى – التوحيد كان في الحياة ثم صار توحيد الكلام، التوحيد لم يكن توحيد المُتكلِّمين، كان توحيد المعاش، توحيد الحياة! ولهذا التوحيد مدلولات كثيرة جداً، وكل ما أذكره الآن سأشرحه – إن شاء الله – في الجُزء الثاني من المُحاضَرة، لكن بعد إذ – يقول إقبال – للأسف استوحش التوحيد وانكمش وتراجع وانكفأ على ذاته وصار توحيداً مُتكلِّماً، أي توحيد علماء الكلام، الذي هو محض مُحاكَمات ومُحاسَبات عقلية واستدلالات نقلية، لا علاقة له بالبُعد الوجودي للإنسان.
أنا ذكرت لكم القراءة التأويلية لدى اللاهوت المسيحي الغربي الحديث، هذه القراءة أفرزت لدينا أنواعاً جديدة من اللاهوت، هناك اللاهوت الوجودي، يُسمى اللاهوت الوجودي! نوع جديد، اللاهوت أي الثيولوجي Theology، علم العقيدة أو علم الكلام المسيحي، هناك علم كلام مسيحي وجودي، سنشرح هذا أيضاً! وهناك اللاهوت التحرري، اسمه لاهوت التحرر، عرفناه في أمريكا اللاتينية وأعلامه مشاهير، عرفناه في إفريقيا، وعرفناه في آسيا، أي في فيتنام، مع البوذية! البوذية عرفت لاهوت التحرر، خاصة في فترة الحرب الشهيرة جداً جداً ضد الأمريكان، ضد الغزو والاستعمار الأمريكي، هذا لاهوت التحرر، وهناك اللاهوت التاريخي، الآن علم الكلام الإسلامي لا نُحِب أن نُسميه اللاهوت، لأنه ليس قصراً فقط على اللاهوتيات، علم الكلام – كما رأيتم – فيه مباحث تبدأ باللطائف ثم جليل الكلام وهو إلهيات ونبوات وسمعيات، وإن كان أشرف ما فيه الجُزء اللاهوتي بلا شك، الجُزء المُتعلِّق بالله – تبارك وتعالى – أشرف ما فيه على الإطلاق، على كل حال أيضاً نحن مدعوون ومُرشَّحون – أعني علماء المُسلِمين ومُتكلِّمي الإسلام المُعاصِرين – إلى إعادة بناء الكلام الإسلامي – ربما سوف نرى – من منظور وجودي، المنظور الوجودي يجعل أولوية خاصة – ليس الأولوية بالمُطلَق، لا! انتبهوا، ولسنا نُوافِق على هذا – للإنسان، في حين أن الكلام الوسيط كان يجعل الأولوية المُطلَقة لرب الإنسان تبارك وتعالى، ونحن سنقف موقفاً أكثر اعتدالاً، لا نُريد أن نقلب الأمور كما يفعل حسن حنفي، هو يُريد أن يقلب كل شيئ، من الله إلى الإنسان، من العقل إلى الطبيعة، من الروح إلى المادة، ومن المعاد إلى المعاش، عجيب! هذا ليس تجديداً، هذا نقض، يُعتبَر هذا نقضاً للكلام كله، للعقيدة كلها، شطب عليها ومحو ومُصادَرة، لا يجوز! نحن نقف موقفاً مُتوسِّطاً لنرى، وهذا الموقف يستلهم ماذا؟ يستلهم النقل، يستلهم النص، ولا يتناقض معه، لا يتشاكس معه، بل يستلهم النص ذاته، وربما نرى تصوراً جديداً للإيمان أقرب إلى إيمان القرآن منه إلى إيمان المُتكلِّمين وكُتب علم الكلام.
على كل حال – إن شاء الله – أنا آمل أن يكون الجُزء الثاني من المُحاضَرة أكثر تشويقاً وأكثر إمتاعاً، لأنه سيُعتبَر كالتطبيق لما ذكرت، الجُزء الأول هذا كله من باب التنظير ومن باب التأريخ إلى حدٍ ما، الجُزء الثاني تطبيقات، سوف نرى كيف نُطبِّق ونأتي بأمثلة عملياً – إن شاء الله – وبإسهامات مُقترَحة لنا أو لغيرنا، وأكتفي بهذا القول في هذا الجُزء.
أضف تعليق