بالرجوع إلى جوهر الدين اﻹسلامي، وماهيتة نجد أنه أقر بحقوق كل من الجماعة، والفرد، وأولى حيزا مهما في الخطاب التشريعي لـ “حق حرية المعتقد”، إذ لا يحق ﻷحد ممارسة الوصاية على أحد آخر، ولا أن يقتل أو يعذب من اختار دينا آخر لنفسه، فلكل فرد على حدة ممارسة الحق في اعتقاد ما يشاء دونما تدخل من أحد، حتى إن تعلق اﻷمر بالسلطة الحاكمة، والقاعدة الفقهية: لا تدخل للسلطة في ضمير الفرد، وفي التشريع اﻹسلامي ما يغني عن القيل والقال، و يوضح جليا بما لا يترك مجالا للتأويل أن حرية المعتقد مضمونة ومكفولة بنص القرآن الكريم، وفي غير ما موضع قال تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، {فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل}، { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم و لي دين}.
وبنص اﻵيات القطعية الدلالة المذكورة آنفا، والتي لا تحتاج إلى تفسير، ولا تأويل تتجلى حقيقة إقرار التشريع اﻹسلامي بحرية المعتقد، أضف (ي) إلى هذا أن الخطاب القرآني لم يكتف بإقرار هذا الحق و حسب، بل أكثر من ذلك لم يعط الحق ﻷحد في إكراه أحد آخر، وإلزامه بمعتقد غير المعتقد المقتنع به، قال تعالى: {لا إكراه في الدين}، {ولو شاء ربك ﻵمن من في اﻷرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس أن يكونوا مؤمنين}، {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر}، {يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي و آتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها و أنتم لها كارهون}.
وقد يقول قائل كيف ضمن الدين اﻹسلامي حق حرية المعتقد، وفي التراث الديني نتصادف مع الحديث في كتاب البخاري: [من بدل دينه فاقتلوه]، وحديث آخر في كتاب مسلم: [لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: التيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة]..
في حقيقة اﻷمر هنا نكون وجها لوجه أمام ما سمي عند جمهور الفقهاء بـ “حد الردة” و قالوا فيه بوجوب قتل المرتد، مع اﻹختلاف في مسألة قتل المرأة المرتدة، واستتابة المرتد بثلاثة أيام وإلا يقتل، وإن كان كل من إبراهيم النخعي، وسفيان الثوري قالوا يستتاب المرتد أبدا ولا يقتل، والمرتد على الحقيقة من يكفر بعد اﻹسلام كفرا بواحا بقول أو فعل أو اعتقاد، لكن هل يحق سفك دم المرتد ؟!!!
اﻷمر أن جمهور الفقهاء استمسكوا بالحديثين في البخاري ومسلم دون التفات للتعارض بينهما وبين اﻵيات القرآنية والتي لم تحدد عقوبة دنيوية للمرتد المبدل لمعتقده بمعتقد آخر، قال تعالى: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم و لا يهديهم سبيلا}، {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه}، {ومن يتبدل الكفر بعد اﻹيمان فقد ضل سواء السبيل}..
هذه اﻵيات وغيرها من النصوص القرآنية لم تتطرق لعقوبة المرتد الدنيوية، ولم تعط و لو مجرد إشارة ضمنية على قتل المرتد، فكيف يتم نسخ أو تأويل أو تخصيص كل هذه اﻵيات القطعية الدلالة، الواضحة بأحاديث آحاد ظنية، إضافة إلى أن حديث اﻵحاد لا يعمل به في العقائد، و مسألة الارتداد إنما هي تتعلق بالمعتقد و ليس بالفروع، ومع هذا يصر رجال الدين على أن يقتل المرتد وكأن اﻹسلام متعطش للدماء؟!
فقد ارتد في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم أناس، ولم يهدر دماءهم، وفي الحديث المذكور في كتاب البخاري [من بدل دينه فاقتلوه] شك، أولا ﻷن الحديث مبثور عن سياقه التاريخي، وأحد رواته عكرمة مولى ابن عباس، وقد وصفه كل من سعيد بن المسيب، مجاهد، ابن سيرين، ومالك بأنه كذاب وضاع كما نقل ذلك الحافظ الذهبي، أي أنه لا يؤتمن حديثه، مع العلم أن مسلم لا يأخذ بحديث عكرمة.
أما الحديث الثاني المذكور في كتاب مسلم [لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ] فالحديث لم يكتف بقول “التارك لدينه ” فحسب، بل زاد المفارق للجماعة أي أن الحد طبق كما قال د. محمد عمارة ﻷنه بلغ درجة الحرابة، واعتبر من جهته د. سليم العوا عقوبة الردة تعزيرا لا حدا أي للسلطة الحاكمة سلطة التقدير في العقوبة، وكما اعتبر د. عدنان إبراهيم أن “حد الردة ” إن صح يعتبر بمثابة مصيدة للفئران.
و من هذا كله يتضح جليا أن الدين اﻹسلامي كفل حق حرية المعتقد، وأعطى مساحة من الحرية للإنسان في اختيار ما يناسب نمطه دون إكراه و لا إلزام من أحد، لكن الموروث الفقهي يضرب باﻵيات عرض الحائط لتقوية البخاري ومسلم دون إنتباه ولا التفات إلى ما يخالط ذاك العمل البشري من نسيان، خطأ، و تعصب…، و لا يمكن بحال من اﻷحوال أن نقدم الحديث الظني الثبوت على آيات قطعية الثبوت، وفوق كل هذا وذاك، وكما قال جل في علاه: {كل نفس بما كسبت رهينة} أي كل نفس بشرية رهينة بما فعلت، فلا يحق ﻷحد التدخل في علاقة العبد بربه، ولا استصدار حق من الحقوق التي كفلها الشارع اﻹسلامي للفرد، سواء بتكفيره، أو إرساله لفظا للنار، أو بقتل، أو بغيره، فالكل من حقه أن يعتقد ما يشاء دون حجر من أحد، فالمحاسب الله سبحانه، قال تعالى: { إن الذين آمنوا و الذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شئ شهيد}.
أحمد المهداوي، باحث في مجال الدراسات اﻹسلامية
أضف تعليق