حرية الإنسان، وهم جميل أم نفخة ربانية؟
“الجزء الأول”
مدخل
آمل في هذه المحاولة ان انتزع وسام«لغز الألغاز» عن معضلة الزمن، وهي بلا شك من ألغز الألغاز و أعتاها. سيكون التحدي صعبا إذا علمنا أن صاحب المكان، الدكتور عدنان إبراهيم، قد رصد لها في خطبته الأكثر شهرة والتي تحمل هذا العنوان، أرجح المؤيدات وألطف القرائن. قلت لعلي أفلح في ذلك وأُنصِّبُ «حرية الاختيار» مكان الزمن.
ليس الأمر لعبا إلا من قبيل استدراج القارئ، بل هو في رأيي بؤرة الجد. وكيف لا يكون الأمر جدا والحرية مناط كل تكليف ومسؤولية وكرامة إنسانية قبل أن تكون مِلْحَ وجودنا بل رحيقه المختوم والمستتر. ولا بأس أن نتحلى بقليل من التواضع فلا ندعي أكثر من أننا ننوي إلقاء بعض الأضواء الكاشفة على بعض مغاليق المعمعة الفكرية والوجودية الدائرة حول الحرية والتي لَفَحَ أُوَارُها أصلب المفكرين والفلاسفة والعارفين بل كافة البشر، فتمخض الصراع أو العناق عن مقاربات لا تكاد تحصى ولا تجتمع الا في ترك المسألة دون حسم.
لم تفلح كافة الإخفاقات أو نسبية اي نجاح في أن تخمد تعطشنا في خوض المعمعة بدورنا، وإن كان الناتج لا يفوق توضيح المعالم والمفاصل المحورية حتى نختصر الطريق فنتيح لمن أراد القفز بعد ذلك أن يقفز عن بينة وبصيرة إن شاء الله. لا يخفى عن أحد ما لموضوعنا من صلاة القرابة مع مسألة القضاء والقدر التي شغلت ولا زالت أجيالا من المتكلمين والمفكرين في تاريخنا الإسلامي وعند أهل التوحيد عموما، لكننا آثرنا أن نضرب صفحا عن الخوض فيها لأن تشعباتها الشرعية والفلسفية من الكثافة والدقة ما يخرجها من نطاق مبحثنا المحدود. والأمل في الله تعالى أن يأذن لنا يوما في ولوج ديارها الزاخرة.
ولِمَ لا يكون مدخلنا في هذه المحاولة، وعلى هذا المنبر الأغر بالذات، هو تجلية ذلك التوتر الذي ما فتئ يطفو على سطح الكثير من خطب ومحاضرات الدكتور عدنان ابراهيم بين التأكيد المكرر على مشروطياتنا حتى لنكاد نحسبها قدرا صارما وبين الرجوع مرارا لكرامة الانسان التي لا تكتمل دينيا وعقليا ووجدانيا إلا باعتباره كائنا عاقلا حرا مختارا. وليكن هذا المدخل حصرا في خطبتين للدكتور تعكسان هذا التوتر وهي خطبتا “قاهر الأقدار” و “ أنت أيها الهامشي“.
أنت أيها الهامشي
لن أفشي سرا إذا اعلنت أن الخطبة المعنونة ب« أنت أيها الهامشي» ألقت بعض القلق في نفسي رغم أني متفق تماما مع كل ما جاء فيها دون أي استثناء، بل أثمن و أحتضن مضمونها الفكري و العلمي و الديني. فمم القلق إذن؟
في ظني، إن مصدره كامن في المقاربة التربوية التي اختارها الدكتور لهاته الخطبة وهي مقاربة وجيهة إلى أبعد الحدود نضرا للظرفية التاريخية الحرجة بل المرة (نمو التيارات المتعصبة واستفحال أثارها، داعش الخ…)
تركز خطبة الهامشي على ضرورة إدراك مشروطياتنا المتعددة الجذور حتى نتخفف من غلواءنا في تزكية نفوسنا وتبرير انحيازاتنا فنصبح أكثر استعدادا لفهم ورحمة من هم غيرنا كشرط مبدئي لتجاوز ذلك الشطط وتلك الإنحيازات في أفق التعارف والتراحم الإنسانيين. ذلك التجاوز لا ينفي الطوائف والانتماءات لعفويتها وضروريتها النفسية، لكنه يرفض عمى التعصب ورهق السيوف الذي ينتجه طبقا لمقولة مركزة افتجرها الدكتور عدنان ” أعرف الناس بالخلق أرحمهم بالخلق وبالتالي أعرفهم بالحق”. فإدراك جلي لعمق مشروطيتنا من شأنه ايضا أن يجعلنا نلزم قدرنا فلا نجترأ على الله فنصدر أحكاما بجهالة عمن هم خارج عشيرتنا أو حلفنا أو ملتنا وهو من أخبرنا سبحانه أنه من ينفرد بالفصل بين الناس يوم الحساب وبعلمه المحيط وحده من يضع موازين القسط.
إلا أن سياق الخطبة في نفس الوقت يترك انطباعا خفيا، رغم أن الدكتور كان مدركا له تماما وأشار مرارا إلى عدم مشروعيته، بأننا قد نكون في آخر المطاف غير مسؤولين تماما عما يصدر عنا من خيارات، نظرا لعمق وتجدر وتنوع مصادر مشروطيتنا ومحدداتنا التكوينية والمكتسبة.
وأشير بالأخص إلى الأمثلة المسهبة التي ساقها الدكتور للاستدلال على أن نطاق اللاوعي النفسي واسع يكاد يكون مهيمنا على سلوكنا حتى لكأننا لا نملك من أمرنا شيئا يذكر. لم يغفل طبعا دكتورنا الفاضل في خطبته، وهو الحصيف الذي عودنا على يقظة وتبصر وحرص على دقائق الأمور، أن يقابل ضرورة إدراك المشروطية بالتأكيد ان مسؤولية إِبداء النية الحسنة تبقى على عاتقنا وكذا مسؤولية أعمالنا حسب الاستطاعة. لكن رغم هذا التأكيد العابر، نجد ان الانطباع العام الذي تتركه الخطبة لا يصب في خانة الشعور بالمسؤولية بقدر ما يوحي بنسبيتها أمام الحشد الغفير من محددات سلوكنا.
و قد شعرت شخصيا بشيء من هذا الانطباع فأزعجني أيما انزعاج خصوصا لما ربطته لتوه بالارتياح الجامح الذي شعرت به بعد الإصغاء إلى الخطبة الأخرى المعنونة ب »قاهر الأقدار«، و هي طبعا في نفس الموضوع لكن بمقاربة فلسفية، و التي اعتقد أنها إنجاز فكري من العيار الثقيل.
قاهر الأقدار
نستطيع بشيء من الشطط أن نوجز فحوى «قاهر الأقدار» في شكل سؤال وجواب، والسؤال كالتالي: كيف لا تكون الحياة بائسة يائسة، والحساب في الآخرة عبثا وظلما إذا أيقنا، كما تشير إلى القطع به كثير من النظريات والمعطيات العلمية الدقيقة، أن سلوكاتنا محكومة بسلاسل من فولاذ: ميراث جيني يحدد الصورة العامة من ميولات وبواعث، وسط عائلي وطبقي وثقافي يكمل معالم الصورة، ثم طوفان هائل من البواعث اللاشعورية تقزم وعينا؟ فما حيلتنا وما ذنبنا في كل ما يصدر عنا ونحن إلى حد بعيد منطبعون منقادون وبالكاد مدركون؟
أما الجواب فقد جاء مدهشا بقدر ما للسؤال من ثقل فلسفي و تجدر تاريخي، جوابا مستلهما قرآنيا و ابتداء من قوله تعالى: ﴿ بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ .
الرؤية العامة: ليست البواعث والدوافع ولا المعطيات المقدورات، كيفما كانت سطوتها بالمحددات النهائية للسلوك الإنساني، والقول بذلك إلغاء مجازف لما نكاد نجمع عليه من شعور فطري بالحرية الفاعلة حتى تحت وطأة أعتى الضغوطات. إنما المقدورات والبواعث هي ابتلاءات يلجئ إلى الاعتذار بها من شاء أن يستقيل عن حمل أعباء مسؤوليته على ثقلها، بينما المطلوب قبول هاته الأمانة الإلهية على عظمها والاستعانة على حملها بإخلاص النية والإسترشاد بالغايات والمقاصد السامية الربانية. بواعث تدفع من خلف وغايات تجذب من أمام، وترجيه عن طريق النوايا، فإحسانها يغلب أسمى الغايات، وإساءتها يرجح أدناها وذلك محك الحرية.
في الحقيقة، عندما نغض الطرف عن الانطباع العفوي الذي أشرت إليه و نمضي إلى عمق خطبة “الهامشي” فإنا نجدها تعضد و تدعم من جهات أخر النظرة الفريدة التي تنتجها الأولى: إن إدراك مشروطيتنا المتجذرة بقدر ما يلجئ إليه المتخاذلون في محاولة تبرير استثناءاتهم وتقديم المعاذير لكافة سلوكاتهم، بقدر ما تبيح للإنسان اليقظ أن يمضي برباطة جأش نحو غاياته التي ارتضاها هو على بينة وبصيرة من محدوديته، وكلا حسب طاقته حيث لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، مما يتيح مجالا فسيحا للمرحمة و تليين القلوب، وصرفها عن القسوة البليدة و الغلو في تزكية الذات و إتباع القبيلة.
إن هذه الرؤية لجليلة بحق، وعند الوقوف عند هذا المستوى من التجريد، تبدو مريحة للغاية بإزاء الشبهة المؤرقة فعلا والمثبطة للهمم إذا فهمت المشروطية الإنسانية كمسوغ لانتفاء كل مسؤولية أمام الله والناس والذات. فما أحوجنا إلى إرسائها وتدعيمها، فهي وصفة مُلهَمة ومُلهِمة للاقتراب نحو التخلق بأخلاق الإنسان الكامل.
وهكذا، بإيعاز من الرؤية التي انتجتها الخطبتان، سوف نتساءل فيما سيأتي في سبيل تحليل مفهوم حرية الاختيار عما يشكل لبها، أي عن كيفية اشتغالها بإزاء تحديد أعمالنا ووجهتنا السلوكية العامة.
أضف تعليق