الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على اشرف المرسلين سيّدنا محمّد النّبيّ
الأمين وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين وصحابته الميامين وأتباع بإحسان الى يوم الدّين إخواني وأخواتي كلّ عام وأنتم بخير والآمّة العربيّة والإسلاميّة بألف خير وأمن وإيمان وسلامة وإسلام ونخصّ بالدّعاء مصرنا الحبيبة الغالية,نسأله سبحانه وتعالى أن يجنّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يحقن دمائها وأن يحفظها ويحفظ وحدة ترابها وشعبها ونسأله تعالى وتبارك في أوّل أيّام شهر رمضان المبارك التفضيل أن يبطل مكر أعداء مصر بمصر فهو خير الماكرين وأن يكفّ بأسهم فاللّه أشّد بأسا وأشدّ تنكيلا. إخواني وأخواتي هنيئا لكم شهركم هذا ,شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للنّاس وبيّنان من الهدى الفرقان” شهر أوّله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النّار والله تبارك وتعالى الكريم نسأل ونبتهل أن يعيننا فيه على صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضاه عنّا وأن يمنّ علينا فيه بالإكرام والقبول وأن يوالي علينا فيه الإسعاد والإمداد وجميل الإرفاد إخواني وأخواتي برنامجنا هذا” رحمة للعالمين” اخترناه في هذا الظّرف العصيب الحرج من حياة أمتنا وفي هذه اللّحظة المفصليّة الفارقة , آملينا الله سبحانه وتعالى آن يسعفنا فيه بالهداية إلى أحسن مراشدنا وأن يسدّد فيه أقوالنا وان يخلص فيه ى لوجهه الكريم نيّاتنا إنّه خير مأمول وأكرم مسؤول. وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين صلّى اللّه تعالى عليه وآله وأصحابه أجمعين .كان هذا إخواني هو المقصد الأكبر والغاية الأبعد لخاتمة الرّسالات التي بعث بها خاتم الأنبياء والمرسلين وهي رحمة لمن فقه شيئا من جوانبها ووقف على أنحاء من مغازيها تعمل في ثلاثة فضاءلت وميادين الدّين الحنيف عقيدة وشريعة وأخلاقا ومعاملات لكن ليت شعري هل يمكن برهنة هذه الدّعوة الكبيرة الكريمة الواعدة أنّ الإسلام رحمة ليس لامّته فقط بل هو رحمة أيضا للعالمين ؟ هذا ما سنقف عليه عبر هذه الحلقات الثّلاثين نسأل الله أن ييسّرها ويتمّها على خير وجه يرضاه لماذا ” رحمة للعالمين”؟ لماذا اخترنا هذا الطّرح بالذّات في مثل هذه الفترة من حياة امتنا ومن تاريخنا ؟ قد يقع في تقدير بعض النّاس ان هناك بواعث ودوافع تقليدية او بالأحرى مواعظيّة كأن نتحدّث عن معنى الرحمة معجميّا ونستقرأ ما جاء في كتاب الله تبارك ونعرّج على حديث المصطفى صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلّم تسليما كثيرا وقد نذكر بعض الأشعار والحكايات المختلفة. والحقيقة ليس الأمر على هذا النّحو. فنحن لم نختر هذا البرنامج للموعظة. بل هناك باعثان رئيسان لاختيار هذا الموضوع : أوّلهما : ظرفيّ وهو يتعلّق بأوضاع أّمتنا وأحوالها العصيبة وأسأل اللّه ألاّ تمتدّ وألاّ تكون كئيبة أكثر ممّا هي عليه . وإنّ امرأ يلقي نظرة على أوضاع أمّتنا المحمّديّة الإسلامية في هذه اللّحظة من تاريخها يرجع بانطباع مؤكّد وقويّ ضاغط أنّ الأمة ينقصها الكثير الكثير من التعاطف والاتّحاد والتّراحم وبالإزاء لا ينقصها شئ من التناحر والتّباغض والتّعادي فخزينها ورأس مالها من هذه المعاني المزرية كثير كثير بلغ بها إلى حدّ الاحتراب الى حدّ أن يقتل بعضهم بعضا وأن يلعن بعضهم بعضا وأن يكره بعضا وأن يؤلّب بعضهم على بعض وأن يأتمر بعضهم ببعض وهذه حالة لا ترضي الاّ عدوّ هذه الأمّة ومبغضها وخصمها الألدّ على أنّها حالة تدمي قلوب المؤمنين وتؤرّق عيونهم وتصيبهم بالهمّ الزّؤام.لكن هل هناك من اسباب وراء هذه لحالة من الاحتراب والتشضّي والانقسام والتّعانف والتّعادي الذي استبدّت بهذه الأمّة المرحومة .لا شكّ أنّ هناك جملة أسباب وقبل ان نخوض في هذه الأسباب علينا أن نتخفّف من أثقال وثوقيّتنا التي أضرّت بهذه الأمّة وذلك بإدمان طرح السّؤال علينا أن نعوّد أنفسنا على التّساؤل بدل أن ندّعي انّ لدينا الجواب الخير والقول الفصل والحقيقة المطلقة فهذه الوثوقيّة خطيرة جدّا وهي في منتهى التّهدّد لهذه الأمّة لأنّ الواثق على هذا النّحو هوا لذي يمكن أن يلغم نفسه ثمّ ينطلق ليلغّم جماعة من أمّته, الواثق على هذا النّحو بالضّبط, والواثق فقط على هذا النّحو,لأنّ من لم تكن وثوقيّته تامّة قطعيّة لا يمكن أن يقدم على هكذا خطوة ,يتقدّم لكي يزهق نفسا معصومة أو يضرب بخنجر مسموم في كبد ابن بلده ووطنه ليسهم في مزيد تفرقة أبناء أمّته . الواثق فقط والواثق وثوقا قطعيّا تامّا هو القادر على القيام بهذه الخطوة والعجيب أن يكثر أمثال هؤلاء الوثوقيّين في هذه اللّحظة التي لا يمكن لأحد أن يزعم فيها أنّ المستوى العلمي والثّقافي فضلا على المستوى الرّوحاني الإيماني في أحسن أحوالها والأقرب إلى الحقيقة أن يقال أن هذه المعاني كلّها في مستوياتها الدّنيا بل هي في الحضيض وليست في الذّروة والقمّة لكن لا عجب انه حين تكون امّة من الأمم في حضيض مستويات هذه المعاني في هذه اللّحظة وبالضّبط تفرز هذه الأمّة أعدادا هائلة من الوثوقيين أصحاب منطق العنف والإرهاب منطق الإقدام على أيّ فاحشة وجريمة دون أدنى حرج وهو وضع مفزع ومخيف . لذا يجب أن نتساءل: كيف يمكن أن يتظاهر الإيمان _ونحن أمّة الإيمان وجسم الإسلام_ دين الرّحمة دين وما أرسلناك ألا رحمة للعالمين دين من لا يرحم لا يرحم وكلّنا قد تحفّظ هذه الآيات وهذه الأحاديث غير أنّ الواقع لا يترجم هذه المعاني والمقاصد بل انّه يترجم عكسها تماما إلا ما رحم ربّي. والعجيب إخواني وأخواتي أنّنا لو تأمّلنا كتاب الله تبارك وتعالى وغلغلنا النّظر فيه وعمّقنا فيه الفكر لرجعنا بمفهوم حسّاس ومحرج وخطير يمكن صياغته على النّحو التّالي :” إنّ أحوال البشر في كلتا نشأتيهم الدّنيويّة والأخرويّة المعاشيّة والمعاديّة يحكمها معنى مناسبة _ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا_ فاللّه يقول البصير هنا بصير هناك والأعمى هنا أعمى هناك السعيد هنا( سعادة الرّوح )سعيد هناك. المَرضيّ هنا, مَرضيّ هناك. والمُستبصر هنا, مُستبصر هناك , اللّهمّ اجعلنا بمنّك وكرمك منهم ولا تحرمنا .ولو تأمّلنا أحوال أهل النّار لوجدناهم يتباغضون ويتلاومون ويتلاعنون ,كلّ منهم يلقي باللاّئمة على صاحبه ويرى في صاحبه خصما له جدير باللّعنة والتبرؤ منه. هم أهل بغضاء وأهل شنآن وأهل تلاعن.كلّما دخلت أمّة لعنت أختها.”آتهم من العذاب ضعفين والعنهم لعنا كثيرا” والكفّار في الدّنيا على هذا النّحو”تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى” يتلاومون ويتلاعنون وأحيانا قليلة قد يتّفقون لكن لا على باطلهم لانّ الباطل محال أن يوحّد أصحابه ذلك انه لا يمكن أن يكون واحدا بل هو متعدّد لذلك في كتابه تبارك وتعالى قال “اللّه وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظّلمات إلى النّور” وحّد النوّر في حين جمع وعدّد الظّلمات,فهي كثيرة أمّا طريق الحقّ فواحد “ّ الطّرق شتّى وطريق الحقّ مفردة / والسّالكون طريق الحقّ أفراد” اللّهمّ اجعلنا من هؤلاء الأفراد قد يتوحّد أهل الباطل أحيانا لا على باطلهم بل بغضة في الحقّ وأهله وهذه داهية ما لها من واهية:أن يتحد أهل الباطل ضدّ الحقّ وأهله في حين يأبى أهل الحقّ إلاّ أن يتفرّقوا و يتعادوا كلّ يمشي في طريق” والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلاّ تفعلوه تكن فتنة وفساد كبير ” (الأنفال) وانه فعلا لفساد كبير وغليظ وفاحش لأنّ هذا الفساد مؤذن بانحلال الجامعة الإسلامية وبتفرقة هذه الأمّة وشرذمتها وتصييرها شذرا مذرا وتفاريق فإذا آلت هذه الأمّة هذا المآل من التّفكّك حقّت عليها كلمة العذاب في الدّنيا فيكون بعضها يقتل بعضا ويلعن بعضا ويعادي بعضا وقد قال جلّ جلاله” قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض” صحيح أن المخاطب في هذه الآية حسب السّياق هم الكفّار المشركون إلاّ أنّه ما صحّ عن المعصوم صلّى اللّه عليه وآله وأصحابه وسلّم تسليما كثيرا يشير أنّ هذه سنّة اجتماعيّة تاريخيّة من سنن الله تبارك وتعالى, إذا أراد سبحانه وتعالى أن يعجّل العقوبة لأمم من الأمم فإنّه يلبسها شيعا فيأذن لها أن تتفرّق شيعا وآحادا (والشّيع هي الجماعة من النّاس تتّفق على هوى أو معتقد أو منزع) ويدلّ على ذلك ما جاء في صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله الأنصاريّين رضي الله عنهما تعالى وأرضاهما أجمعين قال” لمّا نزلت ـ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ـ قال صلّى اللّه عليه وآله وأصحابه وسلّم ,أعوذ بوجهك, أعوذ بوجهك” (هذا مكان حقيق على كلّ مؤمن شفيق وعلى كلّ صادق بصير أن يستعيذ بالله تبارك وتعالى أن يذيق الأمّة هذا العذاب الأليم ) ثمّ قال تبارك وتعالى ـ أو من تحت أرجلكم ـ فقال الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ” أعوذ بوجهك, أعوذ بوجهك” والعذاب من تحت الأرجل هو عذاب الخسف كما يحدث في الزّلازل . ثمّ قال جلّ من قائل” أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض” يقول جابر: ” فقال صلّى اللّه عليه وسلّم ـهذه أهون أو هذه أيسرـ على أنّها وجه كريه من وجوه العقاب يحلّ بالأمّة إذا رفع اللّه يده عنها . وفي صحيح الامام مسلم بن الحجّاج رضي اللّه عنه من حديث عامر بن سعد بن أبي الوقّاص من حديث أبيه الصّحابيّ الجليل سعدبن أبي وقّاص رضي اللّه عنه وأرضاه قال :كنّا مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وأصحابه وسلّم تسليما كثيرا بالعالية فمرّ بمسجد بني معاوية فصلّى ركعتين وصلّينا معه ثمّ دعا وأطال الدّعاء جدّا ثمّ أقبل علينا فقال إنّي سألت ربّي ثلاثا سألته ألاّ يهلك أمّنتي بالسّنى (وهي الجدب والقحط لامتناع الغيث)فأعطانيها (فهذه الأمّة لن تهلك من جوع بإذن الله تبارك وتعالى وهذا وجه من وجوه رحمة هذه الأمّة بنبيّ الرّحمة الرّؤوف الرّحيم )وسألته تبارك وتعالى ألاّ يهلك أمّتي بالغرق فأعطينيها وسألته ألاّ يلبس أمّتي شيعا ويذيق بعضها بأس بعض فمنعنيها” والله تبارك وتعالى لم يلبّه في الأخيرة لأنّه, صلّى اللّه عليه وعلى آله وصحبه وسلّم, سأل الله في شأن سننيّ, والمراد بالسّنّة هي القانون المطّرد م الذي يجري على نحو واحد وليس له استثناء (لن نجد لسنّة الله تبديلا) فأيّ أمّة من الأمم إذا تفرّقت وألبست شيعا لا بدّ أن يؤول بها التّشايع إلى الاقتتال , أمّا أنّها تتفرّق وتتلاعن وتتشضّى وتتكاره ويبرأ بعضها من بعض ويرمي بعضها بعضا بالعظائم,بالكفر والنّفاق والبدعة والشّرك والمروق ثمّ تعيش بعد ذلك هانئة وادعة متّحدة,مستحيل. أنّ الأمّة إذا تفرّقت وتكارهت لا بدّ أن يؤول أمرها إلى الاقتتال فيذوق بعضها بأس بعض .والنّبيّ رغب إلى مولاه تبارك وتعالى رحمة منه أن يجعل أمّته استثناء من الأمم فلا يذيق بعضها بأس بعض لكنّ الله تبارك وتعالى لم يلبّي لأنّه سبق منه القول جلّ مجده ,أنّ سننه لا تتبدّل ولا تتحوّل ولا تتخلّف. ما والبأس هو القتل وهو أيضا كل شديدة كالاحتراب .قال تعالى:” وسرابيل تقيكم بأسكم “والبأس هنا القتل والشّدّة عموما. وقال عزّ من قائل في سورة الأنبياء “وعلّمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون” والبأس هنا هو الاحتراب والقتل .فالقانون الإلهيّ يقضي إذا ألبست الأمة شيعا ونادى بعضها على بعض بالويل والثبور وعظائم الأمور وتلاعنت انتهى بها الأمر إلى الاقتتال وهذا هو الفساد الكبير .”والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلاّ تفعلوا…”لا بدّ ان تقوى هذه اللّحمة بين أبناء الأمّة المحمّديّة التي تستعلن كلّ يوم خمس مرّات على مآذن مساجدها أن لا اله إلاّ الله وأنّ محمدا رسول الله, أركان إيمانها الستّ واحدة بفضل اللّه, أركان و معاقد إسلامها الخمس واحدة بفضل اللّه ,ربٌّ واحد وكتاب واحد ونبيّ واحد وقبلة واحدة ,ففيما التّعادي وفيما التّخاصم وفيما التّلاعن فيما الائتمار فيما التّماكر ؟ كلّ هذا لا يرضاه اللّه سبحانه وتعالى .وكلّما كانت هذه الأمّة متعادية متلاعنة متكارهة لا يمكن أن تفوز برحمة اللّه سبحانه وتعالى إنّها في وضعها ذاك رافضة لرحمة ر بّها ولا يمكن أن تكون مرحومة بالفرقة ز قال عزّ من قائل في آخر طهود” :” ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك” ونفهم من هذه الآية أنّ الاختلاف في الأصول المؤدّي الى التّكاره والتّباغض والاقتتال والتّذابح هو عذاب ونقمة وليس نعمة ورحمة . فمن هم في فضاء الرّحمة ورحابها لا يختلفون . وقد يسأل بعضهم عن حال الصّحابة الذين اختلفوا؟ لقد اختلف الصّحابة في الفروع وليس في الأصول ولم يصل اختلافهم حدّ تكفير بعضهم بعضا حتّى حين اقتتالهم في مثل الجمل وصفّين لم يرم بعضهم بعضا بالكفر .ونقول هذا لمن يصرّ الآن على لعن بعض الأصحاب وعلى رميهم بالكفر والمروق. والإمام عليّ كرّم الله وجهه ورضي الله عنه وأرضاه وهو صاحب الحقّ بلا شكّ وإمام زمانه وبايعته الأمّة من عند آخرها باستثناء الشّام لم يتهم الإمام عليّ أهل الشام بالكفر ولم يقدح في دينهم وإنّما فهم أنّ الخلاف لا يعدو أن يكون سياسيّا يور حول السّلطة محكوما بنوايا ودسائس. بل بلغ من ورع الامام وحسن مسلكه وطيب مَعشره رضوان الله عليه أنّه نهى أتباعه وأنصاره عن سبّ أهل الشّام وجيشه ,وقال :إنّي لا أرضى لكم أن تكونوا عيّابين ولا شتّامين أو سبّابين وإنّما قولوا اللهمّ احقن دماءنا ودماءهم فهم إخواننا في الملّة” للأسف هذه الأمّة ابتليت بمثل هذه الخلافات التي للسياسة مُدخليّة واضحة فيها عبر العصور شأنها الآن ز ولكن أحبّتي في الله أنصحكم نصيحة لله ولرسوله ولهذه الأمّة بعامّها وخاصّها, من كتاب الله سبحانه وتعالى مستلّة ومن هدي المصطفى مستلهمة ,ليتنا ندع السّياسة تلعب في فضائها ,ليتنا نطهّر ساحة الدّين من دنس السّياسة وخدعها وألاعيبها. هناك الآن في العالم العربيّ الإسلامي الاعيب كثيرة تتلبّس لبوس الطّائفة والدّين غير أنّ حقيقتها وجوهرها السّياسة وليس الدّين .لك أن تمارس السّياسة فإذا اختلفت معي لا تكفّرني ولا تجعلني من المنافقين ولا تدعو عليّ دعاءك على المنافقين. فلا مبرّر لأن نغمز في دين من خالفنا في العمل السّياسي أو في وجهة نظرنا الحزبيّة و أن نطعن في إيمانه فهذا لم يأت به الكتاب ولا السّنّة. ولأأنّ لهذه عظيمة من العظائم تفكّ لحمة الأمّة وتشتّت جمعها لذا يجب أن نحذر من ذلك ـاللهم إنّا نرغب إليك ونسألك أن تحقن دماءنا وأن تجمع كلمتنا وأن تلمّ شعثنا وأن توحّد صفّنا وأن تطهّر قلوبنا من غلّها وأحقادها وأضغانها وشنآنها اللهمّ إنّا نبرأ إليك أن نكون الخصم الألدّ ـ فإنّ أبغض الرّجال إلى الله الخصم الألدّ. فالمؤمن إذا خاصم لم يفجر لكنّ المنافق إذا خاصم فجر كما جاء في الحديث المخرّج في الصّحيح : أمّا المؤمن كما أنّه ميمون النّقيبة فهو مأمون الغائلة وافقته أو خالفته أنت تأمن جانبه إن ظلمته لم ترتج منه إلاّ أن يعدل فيك” وهكذا كان أصحاب محمّد صلّى الله عليه ورضي عن أصحابه ,كان أحدهم يقول لأخيه إن عصيت الله فيّ لم أكافئك بأكثر من أن أطيع الله فيك ,أنت استجزت لنفسك وبرّرت أن تظلمني وتبهتني وتكذب عليّ أمّا أنا فلا أستطيع أن أقابلك إلاّ بما يرضي الله تبارك وتعالى . وأكثر ما يرضيه أن أغضي وأن أصفح وأن أدعو لك بظهر الغيب أن يهديك الله وأن يسدل سخيمة صدرك . ونحن في مثل هذه السّاعة العصيبة من حياتنا أحوج ما نكون إلى مثل هذه المعاني وفي أمسّ الحاجة إليها . سؤال: ألا يتعارض ان يكون الرّسول رحمة مع أحكام القصاص الواردة في الشّرع (قتل القاتل عمدا والقتال في الجهاد) كيف نجمع بين رحمة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وبين أحكام الشرع التي تتخذ القتال وسيلة في حلّ المشاكل؟. الجواب: الرّحمة هي المقصود بالأصل من هذه الشّريعة الخاتمة وأمّا ما يكون معارضا أو مستثنى من هذه الرّحمة فهو مراد بالتّبع وليس بالأصل فهذا ليس من الجوهريّ في الدّين . فاللّه مثلا قد غلّظ عصمة النّفس المعصومة وقطع بحرمتها فلم يفتح إلا أبوابا منزورة تستباح بها حرمة النّفس المعصومة .وهذا يؤكّد أنّ الأصل في الدّين الرّحمة وما سواها جاء على سبيل الاستثناء والعرض لتقرير الأصل نفسه وهي الرّحمة ذلك أنّ الرّحمة لا يمكن أن تتمّ وتكمل إذا تركت أيدي الجناة العابثين مجرمي البشر مطلقة تعيث فسادا في عباد الله وفي بلاده تقتل هذا وتسفك دم هذا وتغتال مال هذا وتفسد على هذا حياته واستقراره ثم يقال الدّين رحمة لا بدّ ان نرحم هِؤلاء الذؤبان من البشر, وعلى العكس إنّ مثل هذه الرّحمة من شأنها أن تعود على الأصل بالنّقض ولذلك قال عزّ من قائل”ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب” والعرب كانت تقول “القتل أنفى للقتل” والقصاص جاء ليِؤكّد القاعدة وهي الرّحمة بحفظ النّفوس المعصومة وحفظ حرمة النّفوس المحرّمات ,أمّا الجهاد في سبيل اللّه أو القتال في سبيله, فالإسلام لم يأت من أوّل يوم في تشريع الجهاد, وحين أتى به في السّنة الأولى في المدينة المنوّرة,إنّما أتى به وشرعه وفتح بابه بعنوان المأذونيّة قال:” أُذن للذين يقاتَلون “فهو إذن بالدّفاع وليس بالهجوم وعلى هذا النّحو توالت الآيات,فالقتال المأذون به في شرع الله كتابا وسنّة هو قتال الدّفاع وليس هناك في الإسلام قتال هجوم ابتدائي. وهذا الاستثناء يؤكّد القاعدة ولا ينفيها” وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا” لأنّ الله لا يحب المعتدين والله تبارك وتعالى أعلم سؤال: ممكن تشرح لنا الحديث الشّريف “من لايرحم لا يرحم ” الجواب ” هو حديث مخرّج في الصّحاح وخرّجه أهل السّنن وهو مرويّ عن أكثر من صاحب والمقصود به :من لا يرحم عباد الله لا يرحمه الله “ارحما من في الأرض يرحمكم من في السّماء. فما معنى رحمة الله ؟ الجواب عن هذا السّؤال يأتي تباعا في الحلقات التّالية وسنقف على أنّ تجليّات ومظاهر رحمة الله تبارك وتعالى الكليّة التّامّة العامّة الشّاملة في الكتاب الأجلّ تتجلّى في أكثر من عشرين صورة ,نظريّة متكاملة في الرّحمة يعرضها الكتاب العزيز . والقول بأنّ من لايرحم لا يرحم يشير إلى معنى خطير ومزلزل يزلزل كيان المؤمن, فالرحمة ليست قضيّة مواعضيّة أوقضيّة محض أخلاقيّة تفضيليّة اختياريّة ان شئت كنت رحيما وإن لم أشأ كنت قاسيا متجافيا بل على العكس هي قضيّة تتعلّق بأصل النّجاة والخلاص فمن أراد النّجاة عليه أن يكون كائنا رحيما ويتخلّق بالرّحمانيّة . إنّ رحمة الله أكثر من عشرين لونا كرفع البلاء ورفع الخصاصة وسدّ الخلّة وقضاء الحاجة وشفاء المريض وإيتاء المحسن أجره تماما وافيا وفضلا زائدا كلّ هذا من رحمة الله تبارك وتعالى أيضا اخذ العصاة والظّلمة بذنوبهم ووضع الموازين القسط ونصبها يوم القيامة من رحمة الله”كتب على نفسه الرّحمة ليجمعنّكم إلى يوم القيامة” رحمات كثيرة يتعرّض القاسي الجافي الغليظ لحرمان نفسه منها إذا إصرّ على الجفوة والغلظة والاستمرار على القسوة. والأرجح في الحديث “من لا يرحم” وليس “من لا يرحم النّاس” لأنّ من لا يرحم حتّى الحيوان لا يحمه الله تبارك وتعالى .وفي الحديث المخرّج في الصّحيح”دخلت امرأة النّار في هرّة فمن لا يرحم لا يرحم” هذا في شأن من لا يرحم حيوان فكيف به إذا لم يرحم إنسانا عبدا من عباد الله أخاه في الملّة والدّين وهو يستصرخه: أن اعف عنّي سامحني اتركني وشأني إلا أنّه يأبى إلاّ ذبحه وقتله والتّنكيل به. لا بدّ أن نحذر وأن نعيد فهمنا للدّين إنّه جدّ وليس بالهزل.وعلينا أن نعيد النّظر في صورة الله في معتقداتنا .كيف ننظر إلى الله تبارك وتعالى .وقد قال أحد الحكماء “رسالة الإنسان ودوره يتبع صورة الإنسان عند نفسه أي فكرته عن نفسه وهذه الفكرة تتبع صورة الله في اعتقاده . كيف تنظر الى الله تبارك وتعالى؟ والله تبارك وتعالى تعرّف إلينا على أنّه الرّحمان الرّحيم الذي أفاض الوجود على هذا الوجود وأخرجه من كتم العدم وأخرجه إلى ساحة نور الوجود والأيس بالرّحمة . ومن نتائج الذي لا يرحم أنّه يزداد قسوة وغلظة وهذا من نتائج عدم مرحوميّته حتى وإن بدا للنّاس متديّنا وملتزما بأشكال الدّين أسأل الله أن يبارك في خطاكم ويشكر سعيكم ويبيّض نواصيكم يوم القيامة والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أضف تعليق