برنامج آفاق
حول أمية الرسول
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله آلاه وصحبه ومَن والاه.
إخواني وأخواتي:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، في عصرنا هذا يُمكِن أن يتحدَّث المرء عن سوق حرة أو سوق مفتوحة للأفكار والنظريات والآراء، وفي هذه السوق الحرة المفتوحة صار يُعاد إنتاج شُبهات وإشكالات قديمة، يُعيدونها جذعة، فتُصبِح جديدة من جديد.
من بين هذه الشُبهات التي تُبعَث وربما من موات شُبهة أُمية الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام -، هل كان حقاً الرسول – عليه السلام – أُمياً؟ هل كان أُمياً قبل أن يُوحى إليه وبقيَ على أُميته بعد أن أُوحيَ إليه أم أنه تعلَّم الكتابة والقراءة بعد أن شرَّفه الله وأكرمه بإنزال القرآن وإيحائه إليه؟
في الحقيقة المسألة فيها ثلاثة أقوال معروفة للدارسين: القول الأول هو الذي تسالم عليه الجماهير، جماهير أمة محمد – صلى الله على محمد وآل محمد – من العامة والخاصة، هؤلاء الجماهير تسالموا على أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان أُمياً قبل بعثته الشريفة وظل أُمياً بعدها، لم يتغيَّر شيئ، ولقيَ الله أُمياً لا يكتب ولا يقرأ – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً -.
قول ثانٍ في المسألة، وهو قول مَن قال إنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – استجد له حال بعد أن شرَّفه الله بالوحي، وهي حالة أو حال مَن يكتب ويقرأ، صار يعلم الكتابة والقراءة، وإن اختلفوا متى استجدت له هذه الحال أو الحالة، إذن هؤلاء – أي الفريق الثاني – يُصادِقون على أنه كان أُمياً قبل الوحي الشريف، لكنه بعد ذلك في مرحلة ما وإلى أن لقيَ الله – تبارك وتعالى – صار يتعاطى هذا الفن، أي فن الكتابة والقراءة، وصار عارفاً به، ورأوا في هذا مُعجِزة تُضَم إلى جُملة معاجزه أو مُعجِزاته – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
وقول ثالث، وهو للمُستشرِقين في الحقيقة، لم يقل به مُسلِم على ما أعلم، أو لم يقل به عالم مُعتبَر من علماء المُسلِمين، طبعاً للأسف الشديد بعد أن أورد هذا القول بشُبهاته وتشغيباته المُستشرِقون رأينا من بعض المُفكِّرين والدارسين المُسلِمين مَن صار ينتحله ويقول به للأسف الشديد، فيُوشِك أن يكون وقفاً على المُسلِمين المُعاصِرين، أي بعض المُسلِمين المُعاصِرين، لكنك لن تجد عالماً مُتقدِّماً انتحل هذا القول أو قال به، أعني أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – لم يكن يوماً من الدهر أُمياً، وإنما كان عارفاً أو عالماً بالكتابة والقراءة قبل الوحي وبعد الوحي، كما أشرت – إخواني وأخواتي – هذا القول يقول به جُملة المُستشرِقين، مُعظَم المُستشرِقين على الإطلاق يقولون بهذا القول، قلة قليلة منزورة منهم تُصادِق على أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان أُمياً قبل وحيه وبعد الوحي، قلة من المُستشرِقين والمُفكِّرين الغربيين! أمثال إدوارد مونتيه Édouard Montet – مثلاً -، كان يُسلِّم بهذا، جوستاف لوبون Gustave Le Bon الفرنسي، المُؤرِّخ والفيلسوف ويل ديورانت Will Durant، وطائفة أُخرى منهم، أيضاً كاتب السيرة المُستشرِق والمُفكِّر الروماني جورجيو Gheorghiu – أي قسطنطين جورجيو Constantin Gheorghiu – صاحب رواية الساعة الخامسة والعشرون، وهي رواية معروفة على مُستوى عالمي.
هؤلاء المُستشرِقون والمُفكِّرون الغربيون سلَّموا بأنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان أُمياً في حياته كلها، لكن مُعظَم المُستشرِقين كانوا يشغبون ويُشبِّهون ويدّعون أنه لم يكن أُمياً، وطبعاً في الحقيقة حتى نكون مُنصِفين هم لم يكونوا يُكذِّبون ما ورد في كتاب الله من وصفه ونعته بالأُمية، لكنهم انتحوا منحىً آخر في تفسير هذه الأُمية، فالرسول وُصِف في سورة الأعراف بأنه الرسول النبي الأُمي، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ۩، وأيضاً أمته التي بُعِث فيها، وُصِفوا بأنهم أُميون، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ ۩، لكن كان لهم منحىً آخر في تفسير هذه الأُمية، سنُشير إليه بعد قليل.
الآن قد يقول قائل أو يسأل مُتسائل مَن هم أولئك العلماء الأقدمون – من علماء هذه الأمة المرحومة – الذين قالوا إن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – كتب وقرأ بعد نبوته، أي بعد أن أوحى الله إليه؟ هل ثمة مَن قال بهذا؟ نعم، أولئك طائفة يسيرة جداً من العلماء، قالوا بهذا أو نُسِب إليهم في الحقيقة القول بهذا، أي إلى بعضهم، لأن بعضهم ثبت عليه أن قاله، فالإمام أبو بكر بن أبي شيبة – شيخ البخاري، رحمة الله تعالى عليه، وصاحب المُصنَّف والمُسنَد – يروي، وكذلكم أبو الشيخ أيضاً، كلاهما يرويان، عن عبد الله بن مسعود – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، أنه قال ما مات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى كتب، قال ما مات حتى كتب!
هذا ظاهر – إخواني وأخواتي – في أنه عرف هذه الصناعة أو تعاطى هذا الفن، لكن بعد الوحي إليه، ولذلك قال ما مات حتى كتب، أي أنه لقيَ الله وهو عارف بصناعة أو بفن الكتابة، وبالتالي القراءة، العجيب والغريب – إخواني وأخواتي – أنني وجدت من الدارسين مَن ينسب الإمام ابن أبي شيبة إلى هذا القول، لماذا؟ لم يثبت عنه أنه صادق عليه أو قوّاه أو مال إليه، وإنما رواه، والعلماء على طريقتهم، أي مَن يقرأ بالذات في مُصنَّف ابن شيبة وهو مُصنَّف للآثار – إخواني وأخواتي – يجد أن الرجل – رحمة الله تعالى عليه – حشر إليه وجلب إليه تقريباً مُعظَم ما رواه وأسنده، سواء كان ينتحله أو لا ينتحله، فكونه روى هذا لا يعني أنه قال به، ولذلك مُجالِد بن سعيد الكوفي وفيه ضعف معروف يقول الآتي، مُجالِد بن سعيد الكوفي يقول فذكرت هذا القول – أي المنسوب إلى ابن مسعود، رضوان الله تعالى عليه – للشعبي… (ملحوظة) حصل عطل فني أدى إلى انقطاع الصوت والصورة، ثم عاد الأمر إلى ما كان عليه مع قول فضيلته: كانوا يقولون به، فالشعبي يُؤكِّد أن هناك من العلماء علماء كانوا يقولون بهذا القول، أن النبي ما مات حتى كتب.
ومن عجب مرة أُخرى أن يُنسَب الإمام الشعبي إلى هذا القول، أي إلى انتحال هذا القول، قالوا الشعبي قال به، وليس في هذه الرواية ما يُؤكِّد لا من قريب ولا من بعيد أن الشعبي قائل به، قصاراها – أي قصارى هذه الرواية – أن الشعبي يقول هذا القول لا يُعَد تقريباً خرقاً للإجماع، من العلماء مَن قال به، يقول هذا، يقول أدركت أُناساً كانوا يقولون به، فهذا لا يعني أنه هو أيضاً – رحمة الله تعالى عليه – يقول به.
لكن في الحقيقة هناك من العلماء والأئمة المشاهير مَن ثبت عليه انتحال هذا القول والقول به، كالإمام المالكي الشهير أبي ذر الهروي، وهو شيخ الإسلام، شيخ الحرم، الحافظ، العلّامة الكبير، صاحب التصانيف، راوي الصحيح – صحيح البخاري عن رواته الثلاثة المعروفين -، والمُتوفى سنة أربعمائة تقريباً وأربع وثلاثين للهجرة، تُوفيَ في سنة أربعمائة وأربع وثلاثين أبو ذر الهروي، من تَلاميذه الإمام الخطيب، أبو بكر الخطيب البغدادي، صاحب تاريخ بغداد، العلّامة الكبير، صاحب الفنون والعلوم، وتتلمذ أبو ذر الهروي في جُملة مَن تتلمذ عليه على الإمام الباقلاني، شيخ أهل السُنة والجماعة في عصره وفي وقته، لما رأى شيخ الإسلام والسُنة أبا الحسن الدارقطني مرة يُقبِّل بين عيني الإمام الباقلاني، على كل حال فأبو ذر الهروي ثبت عنه أنه قال بهذا القول، قال النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – عرف الكتابة والقراءة، لكن بعد الوحي الشريف، بعد بعثته، وكان يعد هذا مُعجِزة من معاجز النبي، مُعجِزة على مُعجِزة.
الإمام أبو الثناء شهاب الدين محمود الآلوسي، الفقيه الشافعي ثم الحنفي، العلّامة الكبير، وصاحب التفسير الشهير روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني، في روح المعاني وافق الإمام الآلوسي على هذا، واعتبر فعلاً معرفة النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – بعد الوحي إليه بالكتابة والقراءة مُعجِزة على مُعجِزته، مُعجِزة على مُعجِزة! والمُعجِزة هي القرآن الكريم، النبي أتى بالمُعجِزة الكُبرى وبالآية العُظمى، وهي القرآن الكريم، هذه مُعجِزته، وله أيضاً مُعجِزة، وهي أنه عرف الكتابة والقراءة من غير تعليم كما يقول الإمام الشهاب الآلوسي، من غير تعليم! لم يُعلِّمه أحد، لم يُدرِّسه أحد، لم يُدرِّبه أحد، ولكنه عرف، وبعضهم يقترح أو يفترض أنه – عليه السلام – عرف الكتابة والقراءة ليلة المعراج، لأنه في تلك الليلة – يزعمون – صار قارئاً، قرأ على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله – مثلاً -، محمداً رسول الله، على ساق العرش! فعاد بعد ذلك قارئاً وكاتباً.
على كل حال بعد قليل سنتحدَّث عن بعض أدلة أو عن جُملة أدلة هؤلاء القوم، ومنهم أيضاً وربما يكون أشهرهم الإمام الجليل، العلّامة، والمُجتهِد الكبير أبو الوليد الباجي، أبو الوليد الباجي الشيخ المالكي أيضاً، الهروي مالكي، وأيضاً أبو الوليد الباجي مالكي، المُتوفى سنة أربع وسبعين وأربعمائة، عصري الإمام أبي محمد بن حزم – رحمة الله تعالى عليه -، والعجيب أن ابن حزم روى عنه بعض الأحاديث، ابن حزم روى عن الإمام أبي الوليد الباجي بعض الأحاديث، كان يُعاصِره، وناقشه وخاصة في مسائل القياس والتعليل، وظهر عليه، حتى قال بعض العلماء، قالوا ظهر عليه وشهر باطله، ظهر عليه وشهر باطله! طبعاً لأن الإمام ابن حزم لا يقول بأشياء كثيرة مما يلتزم القول به السادة المالكية وغير حتى المالكية من فقهاء وأصوليي أهل السُنة والجماعة، وفي رأس ذلك ومُقدَّمه القياس والتعليل، ابن حزم ينفي وقوع التعليل في شرع الله – تبارك وتعالى -، وبالتالي ينفي القول بالقياس، فالمُناظَرة المشهورة بينهما كانت حول هذا الموضوع، وفعلاً مَن يقرأ المُناظَرة وهي مطبوعة بحمد الله – تبارك وتعالى – يعلم هذا، مَن يقرأ هذه المُناظَرة يعلم علو كعب الإمام الباجي ورسوخ قدمه في هذا العلم، أي علم الأصول وطبعاً علم الفقه، ويرى أن كفته رجحت بكفة الإمام أبي محمد بن حزم – رضيَ الله تعالى عن الاثنين، وعن جميع علمائنا وأئمتنا -.
الإمام أبو الوليد الباجي وقعت له محنة بسبب هذه المسألة – إخواني وأخواتي -، ما هي؟ الباجي كان يوماً في درس الحديث، فأتى على حديث المُقاضاة، وحديث المُقاضاة هو حديث الصُلح، صُلح النبي – عليه السلام – وقريش في الحُديبية، الصُلح المعروف بالحُديبية، أي صُلح الحُديبية! يُعرَف بحديث المُقاضاة، وهو في الصحيح.
طبعاً حين كتب رسول الله أو أمر أن يُكتَب – أمر عليّاً أن يكتب – هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله رسول الله – قال رسول الله – قال سُهيل بن عمرو مُبتعَث قريش، قال لو كنا نعلم أنك رسول الله ما حاربناك، ما قاتلناك ولا أخرجناك، اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي – عليه السلام – لعليّ – كرَّم الله وجهه – امحه يا عليّ، امح رسول الله، اكتب محمد بن عبد الله، قال يا رسول والله لا أمحوك، رضيَ الله عن الإمام عليّ! قال والله لا أمحوك، كيف أمحوك؟! والله لا أمحوك، فقال النبي أرنيه، قال هذا لعليّ، أرني أين هذا اللفظ، أي محمد رسول الله، فأراه، فمحاه وكتب هذا ما قاضي عليه محمد بن عبد الله.
الآن سُئل الإمام أبو الوليد الباجي في ذلكم المجلس الضمير في محاه وكتب، أي هو، هذا الضمير يعود على مَن؟ فقال على رسول الله، الرسول هو الذي محا، لأن عليّاً طبعاً لم يمح شيئاً، أكيد الرسول هو الذي محا بعد أن أراه عليّاً الكلمة، الرسول هو الذي محا، وهذا ما فيه خلاف، وكتب! الآن الضمير في كتب هل يعود علىّ عليّ أو على الرسول؟ الباجي – رحمة الله عليه – اجتهاداً منه وربما تأثَّراً ببعض السالفين أو السابقين الذين قالوا بأن النبي ما مات حتى كتب قال الضمير يعود في كتب على رسول الله أيضاً، الرسول هو الذي محا، والرسول هو الذي كتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فثارت ثائرة جماعة من العلماء، في رأسهم رجل يُسمى أبا بكر الصائغ، كفَّر الإمام أبو الوليد الباجي، كفَّر الإمام الجليل، وقال قوله هذا فيه تكذيب لكتاب الله – تبارك وتعالى -، وفي الحقيقة المسألة أهون من ذلك، ليس فيه تكذيباً لكتاب الله – تبارك وتعالى -.
وعلى كل حال قال هذا فيه تكذيب لكتاب الله – تبارك وتعالى – الذي وصف النبي بأنه الرسول النبي الأُمي، فكيف يقول الباجي إنه كتب وقرأ؟ وطبعاً أثاروا عليه فتنة كما يقول الإمام العلّامة القاضي عياض في ترتيب المدارك، هذا الكتاب يُترجِم فيه أعلام مذهب الإمام مالك، وهو كتاب مشهور طُبِع في نحو ثماني مُجلَّدات كبيرة، على كل حال يقول أثاروا عليه الفتنة، وتحرَّك الخُطباء على المنابر، حتى قال بعضهم:
برئت مِمَن شرى دنيا بآخرة وقال إن الرسول قد كتبا.
قال برئت مِمَن شرى دنيا، ولا أدري ما هي الدنيا التي شراها أبو الوليد الباجي حين قال هذا القول واجتهد فيه، لماذا؟ ليُرضيَ مَن؟ مَن الذي دفع له؟ شيئ عجيب! ولكنها مُبالَغة الشعراء، ومُبالَغة بعض العلماء والفقهاء.
برئت مِمَن شرى دنيا بآخرة وقال إن الرسول قد كتبا.
فاضطر الإمام الجليل أبو الباجي إلى أن يضع رسالة حول هذا الموضوع، عنونها بتحقيق المذهب في أن رسول الله قد كتب، طُبِعت قبل سنين يسيرة مُحقَّقة، ونال بها مُحقِّقها رسالة الماجستير، فيقول الإمام القاضي عياض بعد أن كتب هذه الرسالة فرجع جماعة، أي مِمَن أنكروا أو شددوا النكير عليه، رجعوا واقتنعوا، وبقيَ الآخرون يُشوِّشون عليه – رحمة الله تعالى عليه، وغفر الله له ولهم -.
فهذا مُلخَّص قضية الإمام الباجي، حكاها الإمام أبو بكر بن العربي على ما أذكر في سراج المُريدين، حكاها أبو الحسن النُباهي في تاريخ قُضاة الأندلس، كما حكاها عياض في المدارك على ما ذكرت لكم.
على كل حال فهؤلاء تقريباً الذين عرفنا أنهم انتحلوا هذا القول من علمائنا السالفين أو الأقدمين – رحمة الله تعالى عليهم -، وفي الحقيقة – كما أشرت في صدر هذه الحلقة – في هذا العصر الحديث تأثراً بالمُستشرِقين وجدنا للأسف عشرات من المُفكِّرين المُسلِمين الذين يُردِّدون هذا الكلام، من العرب بالذات، ومن الهنود في شبه القارة الهندية أيضاً، مثل الحيدرآبادي، ورد عليه جماعة من علمائنا، للأسف صاروا يُردِّدون من وراء المُستشرِقين أن النبي كان يعرف صنعة الكتابة، إذن كان كاتباً، وبالتالي كان قارئاً، حتى لم يقولوا تعلَّم هذا بعد الوحي وكان له مُعجِزة، وإنما مُنذ البداية، رجَّحوا أن النبي كان مُنذ البداية كاتباً قارئاً، كما قلنا مُشايعةً ومُتابَعةً للمُستشرِقين.
وكان من آخرهم المرحوم – بإذن الله – محمد عابد الجابري – رحمة الله تعالى عليه -، في آخر سني حياته صار يجهر بهذا القول، ويُحاوِل أن يأتي بأدلة، وفي الحقيقة هي أضعف من أن تكون أدلة، استنتاجات! ليست معلومات صريحة ولا جهيرة، يُريد أن يُؤكِّد بها ويُؤسِّس بها لهذا القول ويُعزِّزه أيضاً، أن النبي كان كاتباً قارئاً – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
نأتي الآن إلى استعراض أهم الأدلة التي استند إليها واتكأ عليها الذين قالوا بهذا القول وانتحلوه، في رأس هذه الأدلة – إخواني وأخواتي – كما سمعتم قُبيل قليل حديث الصحيح، الحديث المُخرَّج في الصحيح، فمحاه وكتب، قال – يبدو أحد الرواة – وكان لا يُحسِن أن يكتب، والأفصح لا يُحسِن يكتب، على كل حال قال وكان لا يُحسِن أن يكتب، فمحاه وكتب.
الإمام أبو الوليد الباجي أخذ بظاهره، قال النبي هو الذي محا، والنبي هو الذي كتب، مع أنه في إحدى الروايات أيضاً المُخرَّجة في الصحيحة وكتب عليّ، صرَّح الراوي أن الذي كتب هو عليّ، الذي محا الرسول، والذي كتب عليّ، لماذا لم نأخذ بها؟! لماذا لم نأخذ بها وهي تُفسِّر الإبهام في الضمير أو في مرجع الضمير في هذه الرواية التي استند أبو الوليد الباجي على ظاهرها أو إلى ظاهرها؟ لماذا لم نأخذ بها؟ أي هذا يُعتبَر في الحقيقة نوع من الضعف المنهجي، المفروض أن نجمع هذه الرواية إلى هذه ونُفسِّر هذه بهذه، ما دام صُرِّح أن الذي كتب هو عليّ فلا بأس إذن هو عليّ، لماذا نقول الضمير يعود إلى رسول الله أو على رسول الله؟
لكن هناك رأي وسط، وهذا الرأي أيضاً لا نرى بأساً في الأخذ به – إخواني وأخواتي -، يُرتاح إليه جُملة، وهو رأي الإمام القاضي عياض، القاضي عياض أنكر أن يكون النبي تعلَّم ولو حتى بطريقة إلهية – من غير مُعلِّم من البشر – صنعة الكتابة وبالتالي القراءة بعد البعثة الشريفة، أنكر هذا، وقال لكن غير مُستبعَد – هذا الذي استروح إليه وتقريباً رجَّحه – أن يكون النبي عالماً بكتب اسمه، كان يعرف أو كان يعلم كيف يكتب اسمه، أي يكتب محمد بن عبد الله أو محمد رسول الله، لماذا؟ لطول إلفه بمُشاهَدة ورؤية هذا، النبي اتخذ خاتماً، عليه محمد رسول الله، فبالحري أنه رأى اسمه ولقبه الشريف عشرات المرات، إن لم يكن أكثر من هذا، وقد كان – صلى الله عليه وسلم – من الذكاء بالمنزلة الأعلى، في الذروة! فغير بعيد على الإطلاق بعد أن يكون رأى اسمه عشرات المرات أو أكثر أنه حفظ هذه الطريقة، حفظ هذه الصيغة، وحفظ هذه الصورة، وأن يكتبها أيضاً من غير أن يتعاطى التمرن والتدرب، فيُمكِن له، وهو مَن هو ذكاءً ولوذعيةً – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، وهذا كما لاحظ القاضي عياض لا يُخرِجه عن حقيقة أنه بقيَ أُمياً، لأن العبرة بالغالب، أي إنسان يكتب اسمه، لا يُقال إنه يعرف الكتابة والقراءة، لا! يكتب ويقرأ اسمه، هذا ليس كاتباً ولا قارئاً، ليس كاتباً ولا قارئاً لأن العبرة بماذا؟ العبرة بغالب حاله، وغالب حاله – عليه السلام – أنه لا يقرأ ولا يكتب.
هذا الرأي وسط، هذا الرأي في الحقيقة وسط بين رأي الجماهير وبين رأي القاضي الإمام أبي الوليد الباجي – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، ونحن أيضاً نرتاح إلى هذا الرأي، فإذا أردنا أن نُفسِّر أن الذي محا والذي كتب هو الرسول فلا بأس، كتب اسمه! وهذا لا يجعله كاتباً، ولا يجعله قارئاً – عليه الصلاة وأفضل السلام -، أما أن يُدّعى أنه صار يقرأ كل شيئ ويكتب أي شيئ فلابد من الدليل الواضح الصحيح والصريح على هذا، وهذا غير موجود على الإطلاق، أنه كان يكتب ويقرأ على هذا النحو، ليس بين أيدينا ثمة دليل واحد على أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان كذلك، أعني دليلاً وجودياً، انتبهوا! أي الآن يُمكِن أن يُقال الأصل في الإنسان في هذا العصر أن يكون مُتعلِّماً صنعة الكتابة، فيكتب ويقرأ، هذا الأصل الآن، في زمان رسول الله الأصل أنهم كانوا لا يعرفون هذه الصناعة، لا يتعاطونها، ولذلك إذا أردنا أن نقول النبي كتب وقرأ فلابد من دليل وجودي، أي دليل إيجابي، ليس دليلاً سالباً أو نافياً، بحيث نقول الرسول – مثلاً – لم يثبت عليه أنه كان أُمياً، بحيث نُفسِّر كلمة أُمي بأن معناها كذا وكذا – مثلاً -، أنه ليس من أهل الكتاب أو ليس إسرائيلياً، فيُستفاد من هذا أنه كان يكتب ويقرأ، هذا غير صحيح، لأن الأصل في زمانهم في الإنسان أنه يكون أُمياً، لا يكتب ولا يقرأ، وسيأتيكم بعد قليل أن النبي حين بُعِث لم يكن في قريش مَن يتعاطى صنعة أو صناعة الكتابة غير سبعة عشر نفراً فقط، سبعة عشر رجلاً – إخواني وأخواتي – كما قال الإمام البلاذري في الفتوح – رحمة الله تعالى عليه -، وسيأتي هذا بعد قليل، إذن فالأصل أنهم كانوا أُميين، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ ۩ بهذا المعنى، على كل حال إذن ليس بين أيدينا دليل صريح على هذا.
أيضاً – إخواني وأخواتي – احتج أبو الوليد بحديث رزية الخميس، ما هو حديث رزية الخميس؟ هذا الحديث مُخرَّج في الصحيحين، من حديث عبد الله بن عباس – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، وفيه أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قبل وفاته بليالٍ وقد اعتل كما تعلمون قال لهم – أي في حُجرته الشريفة، وكان في القوم عمر بن الخطاب كما يقول ابن عباس، رضوان الله عليهم أجمعين – ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده، قال ائتوني أو هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده، أي بعد هذا الكتاب، أبو الوليد الباجي قال هذا صريح في أن النبي كان يكتب، لأنه قال هلموا أكتب، قال هلموا أكتب لكم كتاباً، لا! هذا ضعيف جداً – إخواني وأخواتي -، لماذا؟ ليس الحديث، وإنما الاستنباط، الاستنباط ضعيف جداً، فهذا من باب المجاز، هذا مجاز عقلي، هذا مجاز عقلي معروف، نقول – مثلاً – فتح السُلطان المدينة، وفي الحقيقة ليس السُلطان هو الذي فتح المدينة أبداً، وإنما الذي فتحها حقيقةً الأجناد، الجيش، ألوف أو مئات ألوف من الجُند، بين قتيل وبين جريح وبين مَن سلم ونجا، هؤلاء الذين فتحوا البلد، ولكن نقول فتح السُلطان البلدة أو البلد، هذا مجاز عقلي! نقول – مثلاً – جنى فلان جناية كذا وكذا وكذا، فقطع السُلطان رأسه، مع أن الذي قطع رأسه الجلّاد وليس السُلطان نفسه، ولكن يُقال هذا دائماً، يُقال كتب السُلطان كتاباً، وفي الحقيقة الذي كتبه ليس السُلطان، وإنما كتبه كاتب السُلطان، الذي كتبه كاتب السُلطان! والسُلطان وقَّعه أو مهره أو أمر حتى أن يُمهَر بختمه، قد يكون صاحب الختم مُوظَّفاً، كان هناك مُوَّظف في الديوان الأميري يُسمونه صاحب الختم، قد يصدر له أمر من السُلطان، أن اختمه، أمهره بمهري، فيمهره أو يطبعه كما نقول الآن أو يُوقِّع عليه، هذا مجاز عقلي، هذا مجاز عقلي معروف!
النبي حين يقول هلموا أكتب ليس معناها أكتب أنا بيدي وأنا كاتب أبداً، إنما آمر أن يُكتَب لكم، أن يُكتَب كتاب، أي هلموا فآمر أن يُكتَب كتاب، هذا مجاز، هذا مجاز وليس دليلاً صريحاً، الدليل صحيح، لكنه ليس صريحاً في المسألة على الإطلاق، ليس صريحاً في المُدّعى.
العجيب أن أبا الوليد الباجي – رحمة الله تعالى عليه – قال الآتي حين أتى إلى الآية التي تُعتبَر آية مفتاحية وعُمدة في إثبات أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان لا يكتب ولا يقرأ، وهي آية العنكبوت، وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ۩، الآية التي والتها أو وليتها بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ۩، هذه الآية آية مفتاحية، تُؤكِّد أن النبي كان لا يكتب ولا يقرأ، أبو الوليد قال هذه الآية دليل لي على أنه كان يكتب ويقرأ بالتالي، لكن كيف؟
سنُجيب عن هذا السؤال المُثير بعد هذا الفاصل، فكونوا معنا، بارك الله فيكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي.
ومع الإمام الباجي وزعمه أن قوله – تبارك وتعالى – وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ۩ الدال بظاهره – إخواني وأخواتي – على أنه – عليه السلام – لم يكن يكتب ولا يقرأ، زعم الباجي أن هذه الآية دليل على أن النبي تعلَّم الكتابة والقراءة، من غير مُعلِّم طبعاً، من غير مُعلِّم، ولكن بقدرة الله – تبارك وتعالى -، علَّمه الله – تبارك وتعالى – ذلك، كيف؟ أخذاً بمفهوم المُخالِفة، الآية تقول وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ ۩، أي من قبل أن يُوحى إليك هذا الكتاب الأعز الأجل الأكرم الأطهر، فمعنى هذا بمفهوم المُخالَفة أنك صرت تتلو وصرت تخط بعده، وهذا ضعيف، أصلاً مفهوم المُخالَفة – لا نُريد أن نُصدِّع رؤوسكم – حوله خلاف مشهور وكبير مُستطيل في كُتب الفقه، ومَن أخذ به أخذ به بشروط – أيها الإخوة والأخوات -، فالدلالة هنا ضعيفة، الاستدلال بمفهوم المُخالَفة ضعيف جداً، وسأُوضِّح لكم هذا بطريقة بسيطة بإذن الله – تبارك وتعالى -.
ما الفرق – إخواني وأخواتي – بين هذه الآية الجليلة وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۩ وبين ما لو قال الله – تبارك وتعالى – وما كنت تتلو من قبل من كتاب ولا تخطه بيمينك – من قبل هكذا، ليس مِنْ قَبْلِهِ ۩، أي من قبل القرآن -؟ لابد أن يكون هناك ثمة فرقاً بين التعبيرين، وفي الحقيقة فعلاً الفرق موجود، لماذا؟ حتى أُوضِّح لكم هذا كما وعدتكم أقول سنفترض أن هناك نابغةً نبغ في الشعر، ومعنى أنه نبغ أي أنه صار يقرض الشعر ويقوله على البديهة فُجاءةً، لم يكن يتعاطى هذا الفن ولا يعرفه، ولم يتعلَّمه، ولا يعرف العروض ولا البحور ولا أي شيئ، وفجأة بدأ يقول الشعر، نبغ! كسائر النوابغ، حين استيقظ في الصباح هكذا كان يقول شعراً، فيأتي رجل بعد ذلك ويقول – مثلاً – بالحري هذا كان يتعلَّم هذه الصناعة، وربما علَّمه مُعلِّم أو أكثر من مُعلِّم، فيرد أحد ذويه أو أحد معارفه الذين يخبرون أحواله أكثر من غيرهم فيقول لا والله، لا والله ما تعلَّم من قبله، أي من قبل هذا اليوم أو من قبل هذا الحادث الذي أظهر نبوغه وأبرز نبوغه للناس، ولنفترض أنه برز هذا الحادث – مثلاً – في شكل فوز في مُسابَقة شعرية، قام الرجل وعلى البديهة بدأ يتكلَّم، وبذ الآخرين أو بزهم، فيقول لا والله، ما تعلَّم من قبله، وهذا لا يعني أنه بعده تعلَّم، هو ما تعلَّم أصلاً، لا من قبل ولا من بعد.
إذن الفائدة – إخواني وأخواتي – في هذا التعبير الإلهي الجليل هي الآتي، وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ ۩، أي من قبل القرآن الكريم، من قبل إيحائه وإنزاله، وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ ۩، أولاً كأن هذه الآية أوردها الله موردين: مورد الامتنان، ومورد دفع الشُبهة، وهذا من عجيب بلاغة القرآن الكريم، أورد الله هذه الآية موردين: مورد الامتنان عليه، بأنه أوحى إليه هذا الكتاب، مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ۩، قال وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ۩، يمتن عليه، وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ۩، في أول يوسف – عليه السلام -، إذن مورد الامتنان، بمعنى أن القرآن يُؤكِّد أنه لا دخالة – أي لا مُدخَلية، كما نقول بالعامية لا دخل – لرسول الله بوجه من الوجوه في هذا الوحي الجليل، في هذا الكتاب الكريم العزيز الأغر، ليس من لدنه، لم يصغ منه شيئاً، ليس له فيه شيئ وراء التلقي، أي سوى التلقي، وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ ۩، هو فقط أُلقيَ إليه فتلقاه – عليه الصلاة وأفضل السلام -، لماذا؟ لأن الله يقول وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ ۩، ليس لك علاقة أنت بهذا، أنت لم تتل حتى الكُتب الإلهية، لا تعرف كيف يُصاغ الكلام الإلهي أصلاً، لا خبرة لك بمضمونات ومشمولات الكلام الإلهي، أنت لم تقرأ، لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور، هذا من عندنا، هذا من لدنا، يمتن عليه.
والمورد الثاني دفع الشُبهة، يقول وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ۩، سيقول هؤلاء المُبطِلون نعم، هو يتعاطى قراءة الكُتب الإلهية ويتعلَّمها من سنين، وقد رأينا هذا، وهو كاتب وقارئ طبعاً، رأينا هذا! الله يقول لا، هو أُمي، لا يكتب ولا يقرأ، ولم يُعلِّمه بشر، ولم يتعلَّم، وطبعاً أنتم تعلمون أن التوراة أو الكتاب المُقدَّس عموماً لم يُترجَم في زمان رسول الله أبداً، كانوا يقرأونه بلُغته الأصلية، سريانية أو آرامية، والنبي لا يعرف هذه اللُغات – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وقد تُرجِمت التوراة لأول مرة في عهد هارون الرشيد، وقيل في عهد ابنه عبد الله المأمون، على يد رجل اسمه عبد الله بن سلام، أو عبد الله بن أحمد بن سلام، حفيد الحبر الذي أسلم، نعم! فهذا ترجمها، في عهد المُتوكِّل – تقريباً في سنة مائتين وثلاثين للهجرة، في الثُلث أو في النصف الأول من القرن الثالث الهجري – سُمِح بهذا، سمح وأذن الخليفة المُتوكِّل أن يُعاد أيضاً وأن يُعمَّم ترجمة التوراة، رُغم ما عُرِف عنه من تعصب على أهل الكتب، ولكنه سمح بهذا، قبل ذلك لم تكن التوراة مُترجَمة، من أين إذن؟! ففعلاً النبي لم يكن ليتلوها، ولا ليعرف عنها شيئاً، ولم يثبت أن أحداً من أحبارهم علَّمه في شهور مُتمادية أو في سنين، لم يثبت هذا إطلاقاً، ومَن ادّعى هذا فعليه بالدليل، وحتى الحكاية التي يتشبَّث بها بعضهم تشبث الغريق بالقشة وهي حكاية بحيرة الراهب، والنبي ما التقاه إلا سويعة من نهار في القصة المعروفة، هذه الحكاية أيضاً لابد أن يُقال فيها قول، لأنها ضعيفة من جهات وجنبات كثيرة، لكن لهذا أو لتوضيح هذا مجال آخر.
على كل حال – إخواني وأخواتي – إذن هذه الآية الجليلة من سورة العنكبوت أوردها الله مورد الامتنان عليه، ومورد أيضاً دفع الشُبهة عنه، أن له وجه تدخل في صوغ هذا الكلام الإلهي الجليل، هذا كلام الله – تبارك وتعالى -، ومفهوم المُخالَفة بهذا يبدو أن الاستدلال به ضعيف جداً، لا يقوم في هذا المقام بالذات، فلا يُؤخَذ من الآية أنه كتب وقرأ أو قرأ – أي تلا – وخط بعد الوحي الجليل أبداً أبداً، والله – تبارك وتعالى – أعلم.
أيضاً من الأدلة التي احتجوا بها – وخاصة المُستشرِقون احتجوا بهذا كثيراً وأطالوا فيه النفس – رواية في سيرة ابن هشام، وأصلها طبعاً سيرة محمد بن إسحاق – رحمة الله تعالى عليهم -، في حديث بدء الوحي، في حديث بدء الوحي أن جبريل أو الملك قال له اقرأ، قال ما أقرأ، هكذا عند ابن هشام وعند ابن إسحاق ما أقرأ، ما هذه تحتمل معنيين، تحتمل أن تكون نافية، ما أقرأ! أي لا أستطيع أن أقرأ، لا أعرف القراءة، ما أعرفها، أو ما أقرأ؟ تحتمل الاستفهام، أي ماذا أقرأ؟ المطلوب مني أقرأ ماذا؟ ما أقرأ؟ بصيغة الاستفهام، المُستشرِقون قالوا لا، هي تعني الاستفهام، لابد أن نحملها على الاستفهام، لماذا؟ لأنه قال ما أقرأ في الأولى، ثم غته، يُقال غته وغطه، فغته به، وطبعاً وكان هذا شديداً وصعباً على النبي – عليه السلام -، ثم أرسله، وقال اقرأ، قال ما أقرأ؟ في الثانية، في الثالثة النبي قال ماذا أقرأ؟ قالوا ها هو صرَّح، محمد هنا – عليه السلام – بأن ما للاستفهام، قال ماذا أقرأ؟ هنا، ماذا أقرأ؟ فأخذوا بهذه الرواية، كما يُقال ودندوا كثيراً حولها، قالوا رواية واضحة في أنه كان يعرف القراءة والكتابة، ولذلك كان يتساءل المطلوب مني أقرأ ماذا؟ لأنني قارئ، فماذا أقرأ؟ ماذا أقرأ؟ ليس للنفي، وإنما للاستفهام.
وطبعاً هذه أيضاً طريقة في الاستنباط ضعيفة جداً ولا تنهض – إخواني وأخواتي -، لأن هذه روايات آحاد، روايات آحاد لا يُمكِن أن تقوم في وجه ما استفاض وتواتر من أُمية النبي، النبي كان أُمياً والقاصي والداني يعرف هذا، قومه يعرفون هذا تماماً، وحين أنزل الله – تبارك وتعالى – عليه في العنكبوت وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۩ كان سلخ من عمره الشريف زُهاء خمسين سنة، والعنكبوت من أواخر ما نزل من السورة المكية في مكة المُكرَّمة، العنكبوت مكية ومن أواخر ما نزل، أي تقريباً وقت نزول سورة العنكبوت كان النبي سلخ من عمره الشريف زُهاء خمسين سنة بين ظهراني قريش، وفي العنكبوت يتلو قول الله – تبارك وتعالى – وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۩، ثم كان يستثيرهم ويحفزهم على المُنازَلة والمُقاوَلة، يقول إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ۩، ينسبهم إلى البُطلان وإلى الباطل، فلو كان يكتب ويقرأ لقاموا من عند آخرهم وقالوا هو يكذب علينا، ويكذب على نفسه، ويكذب على تاريخه، ويكذب على الوقائع والحقائق، هو يخط ويتلو، ونعرف هذا تماماً، لكن لم يحدث هذا أبداً، معروف عنه ومُتواتِر أنه لا يخط ولا يتلو – عليه السلام -، أي لا يقرأ من كتاب ومن صُحف، لا يعرف هذا الشيئ – عليه الصلاة وأفضل السلام -، متى خط؟ ومتى تلا – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟
فلا يُمكِن أن نأتي الآن نحن ونقول هذه الشُبهة، وهي شُبهة للمُستشرِقين، انتبهوا! هم الذين قالوا هو دائماً كان يكتب ويقرأ، قبل الوحي وبعد الوحي، وهذا حديث بدء الوحي، يزعمون أنه حين بُديء بالوحي وفجأه الوحي كان يعرف صنعة القراءة والكتابة – عليه الصلاة وأفضل السلام –، كذب! غير صحيح، ولذلك نقول – إخواني وأخواتي – حديث بدء الوحي هذا في الصحيحين، وطبعاً رواية الصحيحين أسند وأقوى من رواية محمد بن إسحاق، أصلاً محمد بن إسحاق – رحمة الله عليه – ليس يتفق العلماء على توثيقه، منهم مَن طعن فيه، وطبعاً أشهرهم الإمام مالك، وغير الإمام مالك، ولكن لا يبلغ بحال درجة الإمام البخاري ودرجة الإمام مُسلِم في التوثيق أو في الموثوقية والصدقية – رحمة الله على الجميع -، في حديث بدء الوحي في الصحيحين قال ما أنا بقارئ، هكذا! ما أنا بقارئ، وواضح جداً أنها لا تحتمل إلا النفي، لا تحتمل إلا النفي! ينفي عن نفسه معرفة القراءة – عليه الصلاة وأفضل السلام -، لكنهم ضربوا ليتاً وضربوا صفحاً عن هذه الرواية، وأخذوا بهذه الرواية الآحادية.
مسألة أُخرى، أيضاً كذبوا على الحقيقة وأرادوا أن يُغطوها كما يُقال بغربال، حين لم يذكروا أن ابن إسحاق في روايته وبالتبع ابن هشام ذكرا بعد – بعد قليل، في نفس الرواية، في نفس القصة أو الحكاية – أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يقول ما أقول ذلك إلا افتداءً من أن يعود إلىّ بمثل ما صنع بي، أي يغطني، النبي يُحاذِر أن يغطه أو يغته مرة أُخرى، لأن هذا كان شديداً عسيراً شاقاً على النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فأراد أن يفتدي نفسه، أن يدفع عن نفسه هذا العناء، بقوله ماذا أقرأ؟ أي كأنه يقول إذن جيد، أتُريد أن أقرأ؟! فماذا أقرأ؟ على أنه لا يقرأ، لأنه قال افتديت نفسي بهذا، النبي قال افتديت نفسي بهذا.
فإذا أردنا أن نأخذ برواية ابن إسحاق وابن طبعاً هشام عن ابن إسحاق فعلينا أن نأخذ بها كلها، لا نأخذ بطرف ونُعمي ونُغبي على طرف آخر، أي نستر طرفاً آخر، هذا من الخيانة العلمية! فالنبي يُصرِّح بأنه لم يكن يعرف القراءة، وإنما قال في المرة الثالثة ماذا أقرأ؟ يفتدي نفسه، يفتدي نفسه! ليدفع عن نفسه هذا العناء وهذه المشقة البالغة – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -.
أيضاً من ضعيف ما احتجوا به – هذه تهويلات وتشغيبات لا معنى لها – حديث النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – حين أرسل عبد الله بن جحش في السرية المعروفة، أرسله ومعه كتاب، وأمره أن يسير به وألا يفتحه إلا بعد يومين، بعد أن يمر يومان أذن له في فتحه، قالوا وهذا يدل على أن النبي كان يكتب، كيف؟ عجيب جداً، نحن قرأنا السيرة مرات، طبعاً نحن وغيرنا، قرأنا السيرة مرات ومرات، ولم يخطر على بالنا مرة من الدهر أن نأخذ من هذا الخبر – إخواني وأخواتي – أن النبي كان يكتب، من أين؟ كيف فهموا هذا؟ قالوا نعم، النبي ائتمنه على هذا الكتاب، ائتمنه على سر ما في الكتاب، إذن لا يعلم ما فيه إلا النبي، من أين لكم هذا؟ بالعكس! قصارى ما في الخبر وما في الحكاية أن النبي حظر على عبد الله بن جحش أن يفتح هذا الكتاب ليعلم ما فيه إلا بعد مرور يومين، أما مَن الذي كتب هذا الكتاب؟ وهل كان بعض الصحابة أو من الصحابة مَن يعلم ما في الكتاب؟ فشأن آخر، وهذا هو الأرجح، أي من الصحابة مَن يعلم ما في الكتاب، وإلا للزم من هذا تقريباً – والعياذ بالله – أن نتهم كبار الصحابة وعيون جلة الصحابة بأنهم كانوا خونة، والنبي لا يأتمنهم على مثل ما في هذا الكتاب، وحاشاهم – رضوان الله تعالى عليهم -، لم يحدث هذا أبداً أبداً، وإنما – إخواني وأخواتي – الأرجح أن يكون أحد كاتبي النبي – من كتّاب الوحي أو كاتبي الرسائل والكُتب – كتب له هذا الكتب، وأمَّنه النبي، كما أمَّن عبد الله بن جحش، أي عبد الله بن جحش قائد هذه السرية الصغيرة كان أميناً، النبي رآه موضعاً للأمانة، وأيضاً بالحري أن النبي رأى مَن أمره بكتب هذا الكتاب موضعاً للأمانة، ويكون أيضاً استكتمه ما في الكتاب، اكتم علىّ، لا تُحدِّث بما كتبت أحداً، كما استكتم واستأمن عبد الله بن جحش، فلا أدري كيف استنبطوا أن النبي هو الذي كتب الكتاب؟ كلام غير معقول، وليس يُعرَف له قبيل من دبير.
أيضاً احتجوا – وهذا في الظاهر يُعتبَر احتجاجاً قوياً – بقوله – تبارك وتعالى – في أول البيّنة، في سورة البيّنة رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ۩ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ۩، قد يُسارِع أحدكم إلى القول موضوع التلاوة كُرِّر في كتاب الله غير مرة، اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۩، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ۩، إذن ما الفرق؟ لا، هناك فرق في الحقيقة، هناك فرق! الآية لا تتحدَّث عن مُجرَّد التلاوة، لماذا؟ لأن التلاوة قد تكون لما حُفِظ على ظهر القلب، لمحفوظ على ظهر – وعلى ظهر أفصح من عن ظهر، يُقال حفظه على ظهر قلبه – قلب! هذه التلاوة قد تكون لشيئ محفوظ على ظهر القلب، وقد تكون لشيئ مرقوم مزبور في كتاب أو في صحيفة أو في أي شيئ، قالوا الآية تقول رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا ۩، ما هي الصُحف؟
الصُحف – إخواني وأخواتي – هي الوسائل التي تُجعَل بحيث يُكتَب فيها، من رق، من لخاف، من عظم، من جلود، ومن أوراق، إلى آخره! هذه هي الصُحف، فليس شرطاً أن تكون فقط من أوراق كالتي نعرف، كل هذه الصُحف تُهيَّأ وتُجعَل بحيث يُكتَب فيها، بحيث تكون صالحة للكتاب أو للكتب فيها، تُسمى صُحفاً، الآية تقول رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو ۩، ومعروفة ما هي التلاوة، هي القراءة، لكن الأدق كما نبَّه عليه السمين الحلبي والإمام الراغب الأصفهاني أنها تُستخدَم أكثر ما تُستخدَم بل لا تكاد تُستخدَم إلا في قراءة الكلم الإلهي أو الكلام الإلهي، إذن ما العلاقة بين القراءة والتلاوة؟ القراءة أعم، أنت تقرأ كلاماً إلهياً وتقراً كلاماً غير إلهي، أما التلاوة فتُستخدَم في قراءة الكلم الإلهي، في كتاب الله تقريباً تُستخدَم في الكلام الإلهي، في مرة واحدة قال وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۩، التلاوة هنا، لكن الشياطين هي التي تتلو، فهل تتلو كلاماً إلهياً؟ قال الراغب الأصفهاني – رحمة الله تعالى عليه – استخدم الله هنا هذه اللفظة – أي تَتْلُو ۩ – مع أن الأصل فيها أنها مُختَصة بقراءة الكلم أو الكلام الإلهي لأن الشياطين كانت تزعم أن هذا الذي تتلوه من كلام الله – تبارك وتعالى –، إذن هناك مُناسَبة لاستخدام هذه اللفظة، والله – تبارك وتعالى – أعلم.
يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ۩، على كل حال أيضاً هذه الآية الجليلة ليست صريحة في الدعوى، هذه آية، لا نقول هذا حديث، هي دليل صحيح، هذه آية قرآنية مُتواتِرة بلا شك، ولكنها ليست صريحة في الدعوى، ليست صريحة في أن النبي كان يقرأ كما نقرأ، لماذا؟ قول الله يَتْلُو صُحُفًا ۩ هذا مجاز بعلاقة الأيلولة، علاقته علاقة الأيلولة، أي الصيرورة، من آل الشيئ، آل الشيئ أي صار إلى حالة أُخرى، بعلاقة الأيلولة، وحتى نُوضِّح هذا بالمثال البسيط – أي بضرب المثال – نقول الآتي، هذا من باب قوله – تبارك وتعالى – إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۩، قد يقول لي أحدكم والله فعلاً الخمر لا تُعصَر، الخمر هي المعصورة، إنما الذي يُعصَر ما هو؟ العنب، لكن هذا الفتى قال ليوسف إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۩، لم يقل له إني أراني أعصر عنباً، أي ليصير خمراً، وإنما قال إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۩، كيف يُسمى العنب هنا خمراً؟ هذا من باب المجاز، تسمية الشيئ بما يصير إليه، بما يؤول إليه، ففي الآية الجليلة يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ۩ فِيهَا كُتُبٌ ۩، وحتى لا أنسى قال فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ۩، قد يقول لي أحدكم كيف هي صُحف وفيها كُتب؟ ليس المقصود هنا بالكُتب جمع كتاب الذي نعرف، وهو المجموع بين دفتين، لا! الكتاب هنا فعال، الكتاب هنا فعال بمعنى المكتوب، أي فيها مكتوبات قيمة، أي فيها أشياء مكتوبة قيمة، فيها أشياء مكتوبة قيمة! هذا معنى كُتُبٌ ۩، جمع كتاب، أي فعال، على وزن فعال أو على زنة فعال، بمعنى المكتوب، والمقصود هنا بهذه الكُتب القيمة – أي المكتوبات القيمة – آيات القرآن أو سوره، آيات القرآن أو سور القرآن! أي كأنه قال فيها سور قيمة مُستقيمة قائمة مُهيَّأة للعمل بها، كالقائم! لأنها مُهيَّأ للعمل النافع.
على كل حال فإذن لما قال الفتى إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۩ كان يعني أراني أعصر عنباً لتصير خمراً، لتؤول خمراً، علاقة الأيلولة، إذن قوله – تبارك وتعالى – يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ۩ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ۩ إشارة إلى أن هذا الكلام الإلهي الذي يُوحى إليه سيُكتَب في صُحف، النبي مأمور أن يأمر الكاتبين من أصحابه أن يكتبوه، أن يُقيِّدوه، أن يحفظوه، وأن يزبروه في صُحف، ومن هنا اسمه كتاب، اسمه كتاب! على أنه لما نزل لم يكن مكتوباً، وإنما كان فقط متلواً، ولذلك أيضاً أتى قوله – تبارك وتعالى – وفي العنكبوت أيضاً أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۩، قال في سورة العنكبوت أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۩، عجيب! قد يقول لي أحدكم فعلاً كيف هذا؟ الذي نزل لم يكن كتاباً، إنما كان كلاماً إلهياً سيُكتَب بعد ويصير كتاباً، صحيح! إذن تسمية الكلام الذي لم يكن كتاباً بكتاب هو مجاز، علاقته ماذا؟ علاقة الأيلولة، كأنه يقول أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك كلاماً أو وحياً يُكتَب ويصير كتاباً يُتلى عليهم؟! فهذا هو، فالآية ليست صريحة – إخواني وأخواتي -، ليست صريحة في أن النبي كان يقرأ من كُتب، وفي الحقيقة لم يكن كذلك فعلاً، حين نعود إلى كُتب السُنة وإلى كُتب السيرة نجد أنه لم يثبت على رسول الله مرة أيضاً من الدهر أنه أخذ صحيفة أو أخذ عظمة أو أخذ كتفاً أو أخذ سعفةً مكتوب فيها شيئ من كتاب الله، أخذها بين يديه وجعل ينظر فيها ويتلو، هل ثبت عليه هذه مرة واحدة؟ إذن متى كان النبي – عليه السلام – يقرأ من الصُحف؟ لم يحدث هذا أبداً، هذا مجاز ولابد، هذا مجاز ولابد كما قلت لكم، وعلاقته علاقة الأيلولة.
العجيب أيضاً – إخواني وأخواتي – أنهم احتجوا بجُملة أحاديث، كالتي من باب رأيت مكتوباً على قائمة العرش أو رأيت مكتوباً على ساق العرش – مثلاً – لا إله إلا الله، محمد رسول الله، قالوا ها هو يقرأ – عليه الصلاة وأفضل السلام -، قلنا لا موضع للاحتجاج بمثل هذا النص، لماذا؟ لأنه يُخبِر – عليه الصلاة وأفضل السلام – عن حالة من أحواله الروحية الغيبية، وهو يتحدَّث عن شيئ ليلة المعراج، فكونه قرأ وعرف أن يقرأ هذه الأشياء لا يعني أنه يقرأ، وبالحري أنها مكتوبة على نحو آخر غير ما نكتب نحن، مُستحيل أن تكون على النحو الذي نكتب به نحن، والأرجح أنها ليست مكتوبة باللسان العربي على قائمة العرش، والله أعلم، لكن هذه حالة روحية، هذه ليلة المعراج، وكون النبي قرأ وعرف هذا غير مُستبعَد إطلاقاً، وهو على غراباه – إخواني وأخواتي – وعجبه ليس بأغرب ولا أعجب من ماذا؟ من إخباره – عليه الصلاة وأفضل السلام – بتسليم الحصى عليه، وتسليم حجر بالنبوة عليه وهو في مكة، وتسليم الشجر عليه، وليس بأغرب ولا بأعجب من إخباره أن ذراع الشاة المسمومة التي قدَّمتها إليه اليهودية في خيبر قد كلَّمته وأعربت وحذَّرته من أنها مسمومة، هذا شيئ غريب! كيف هذا؟ هذه أحوال روحية عالية، تليق بنبي رسول – عليه الصلاة وأفضل السلام -، والناس لم يسمعوا شيئاً، الناس لم يسمعوا من هذا شيئاً، لكن هو سمع وفهم، فكونه قرأ هذا ليلة المعراج لا يعني أنه يقرأ، ونحن لا نستغرب هذا ولا نستبعده، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنه كان يكتب ويقرأ كما نكتب نحن ونقرأ في هذه الدنيا، نعم!
أيضاً احتجوا أخيراً – إخواني وأخواتي – بالحديث الثابت في الصحيح بل في الصحيحين، أي في البخاري ومُسلِم، لكن في رواية مُسلِم أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يتحدَّث عن الدجّال، على تسليم طبعاً هذه الأشياء، على تسليم هذه الأشياء! يتحدَّث عن الدجّال وأنه ممسوح العين، مكتوب بين عينيه كافر، أو مكتوب كاف هاء راء، تهجاها النبي، يقول الراوي ثم تهجاها – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً -، يقول ثم تهجاها! إذن أين موضع الشاهد؟ قالوا موضع الشاهد أن ما يُميِّز وما يُفرِّق المُتعلِّم من وعن الأُمي أن المُتعلِّم يعرف اسم الحرف، كما يعرف مُسماه، أما الأُمي فيعرف مُسمى الحرف، ولا يعرف اسمه، بمعنى أن الأُمي يعرف (الآه، البيه، التيه، والثيه)، هكذا يعرفها! لكن لا يعرف أن هذه ألف أو باء أو تاء أو جيم أو حاء، لا يعرف! لا يعرف الاسم، ويعرف المُسمى، مصداق هذا الاسم، أي مُسمى الألف (الآه)، مُسمى الباء (البيه) هذه، هل هذا واضح؟ فالنبي من أين له أن يتهجى ويقول كاف، فاء، راء؟ يقول كاف، فاء، راء، فمن أين؟ شيئ غريب! هذه شُبهة من أسقط وأضعف وأوهى الشُبهات على الإطلاق – إخواني وأخواتي -، لماذا؟ لأنه في كتاب الله الم ۩، والنبي كان يتلوها ألف، لام، ميم، لأن جبريل تلاها عليه هكذا، في كتاب الله المر ۩، كهيعص ۩، طه ۩، يس ۩، يكفي النبي – عليه السلام – أنه أُنزِل عليه هذا وتلاه وتحفَّظه، حتى يتهجى بعد ذلك سائر الحروف، والحروف المُهجَّاة والمُقطَّعة في أوائل السور هي نصف حروف الهجاء، أي أربعة عشر حرفاً، يكفيه أنه تعلَّم هذا لكي يعرف يتهجى سائر الحروف، وهو من الذكاء بالمنزلة التي تعرفونها.
وعلى كل حال أعتقد أن هذه الشُبهة شُبهة أقرب إلى العامية، تليق بعوام عصرنا، ولا تليق بعوام وأُميي عصر رسول الله من العرب الأقحاح، أي هذا من باب قياس هذا على هذا مع الفارق العظيم المهول بينهما، وعلى كل حال للأسف الشديد أدركنا الوقت، وفي الحديث فضلة وبقية مُهِمة، أن نُجيب عن شُبهاتهم في تفسير كلمة النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ۩ بأنه ليس بمعنى الذي لا يكتب ولا يقرأ، وإنما هو أُمي لأنه من الأُمميين، أي غير اليهود، غير الإسرائيليين، هكذا فسَّروها، أي الجوييم، أو هو أُمي لأنه منسوب إلى أم القُرى، وهي مكة المُكرَّمة، أو منسوب إلى أم العرب، أي أصل العرب، وغير ذلك مما أجلوا به، كنت أود أن أذكر هذا وأن أُجيب عنه، ولكن أدركني الوقت.
إلى أن ألقاكم في حلقة قادمة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أضف تعليق