إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ۩ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ۩ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۩ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ۩ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ۩ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ۩
بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ۩ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ۩ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ۩ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ۩ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ۩ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ۩ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ۩ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
قبل أسابيع يسيرة اضطررت إلى التخلص من قفل ثمين كان لدي، لأنني لم أُفلِح في العثور على مفتاحه. والعجب أنني قبل يومين وجدت هذا المفتاح بتقدير الله، فاعترتني حسرة، فاعترتني حسرة أنني لم أتلبث ولم أتصبّر وقد ألقيت بالقفل الثمين في القمامة، وذهب مع الريح.
جئت اليوم لأُحدِّثكم عن كنوز، لا عن مُجرَّد أقفال، عن كنوز ثمينة نُهدِرها، تذهب مع القمامة، تذهب مع أمس الدابر، ومع الريح السافية؛ لأننا لا نمتلك مفاتيحها، لأننا ضيَّعنا مفاتيحها. كنوز! كنوز بالدنيا وما فيها، أغلى وأعز وأثمن من الدنيا وما فيها، إنها كنوز السعادة والرضا والهناء، كنوز الحياة الطيبة؛ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۩. الحياة التي يفتقر إليها كثيرون، ولا أقول بعض، وإنما أكثر الذين امتلأوا من الدنيا حد التُخمة، حد التُخمة! امتلأوا بمئات الملايين، وبعضهم بعشرات، بل بعضهم – وهم الأقل جداً – بمئات الملايير. انتهى المصير بكثيرين منهم إلى وحدة كئيبة وحياة بائسة تاعسة، قرَّر بعضهم أن يجعل لها حداً أو أن يضع لها حداً بالانتحار، بتعاطي السموم أو الحبوب المُنوِّمة بأعداد كبيرة، أو بالهوي من حالق، أو بإطلاق الرصاص، أو بالموت الرحيم، أي بالــ Euthanasia، بالموت الرحيم في العيادات المشهورة جداً للأثرياء في سويسرا.
أعتقد أننا في عام ألفين وستة عشر تقريباً – والمقطع لا يزال إلى اليوم مرفوعاً على قناة في اليوتيوب YouTube – رأينا رجل الفنادق الشهير، الذي يُعد من أغنى أغنياء المملكة المُتحدة؛ سميدلي Smedley – أعتقد اسمه سميدلي Smedley، بيتر لورنس سميدلي Peter Lawrence Smedley -، الذي أنهى حياته في عيادة مشهورة لهذا الغرض في سويسرا، وزوجته المسكينة تجلس إلى جانبه، بعد أن قضيا أربعين سنة في الزواج معاً، أربعين سنة! وتسأله الطبيبة هل أنت مُتأكِّد أنك تُريد أن تتناول هذا الدواء؟ هذا الدواء سيُدخِلك في نوم عميق جداً جداً جداً، بحيث تقضي (تموت)، ولن تعود إلى هذه الحياة، هل أنت مُتأكِّد؟ قال أنا مُتأكِّد. وشرب الدواء! منظر مُؤثِّر جداً، وكان آخر كلمة قالها لزوجته بعد أن أخذ بيدها، كأنه يواسيها، يا عزيزتي كوني قوية. كوني قوية! من أغنى أغنياء بريطانيا.
مشهد هز العالم، لكن هذا المشهد يتكرَّر كثيراً، يتكرَّر كثيراً هذا كان في عام ألفين وستة عشر، وفي عام ألفين وأربعة عشر صُدمنا جميعاً وصُدم العالم بنبأ انتحار المُمثِّل الكوميديان الشهير على مُستوى العالم روبن ويليامز Robin Williams، والذي عنده كل شيء، عنده أسرة وعنده أولاد وعنده أملاك وعنده شُهرة وعنده نجاح مهني كبير جداً. قرَّر أن يضع حداً لحياته الكئيبة؛ لأنه عانى من دورة اكتئاب طويلة حادة، لم يُفلِح أن يخرج منها المسكين، عجيب! ماذا تفعل الأموال، النجاح المهني، الأولاد، الأملاك، الصداقات، المعرفة، والشهرة على مُستوى الكون؟ لم تفعل شيئاً؟ لم تفعل شيئاً، وأنهى حياته!
مثل هذه القصص تتكرَّر باستمرار، تقريباً كل يوم قصة من مثل هذه القصص. والعجيب أن بعض هؤلاء يُسجِّل كلمات أخيرة تتداولها وسائل التواصل حول العالم قبل أن يمضي، قبل أن يقضي ويمضي يترك كلمات، يترك كلمات مُؤثِّرة تشي بالحكمة. وسؤال آخر، لِمَ يعود هؤلاء أو مُعظَم هؤلاء في آخر حياتهم، وقد شارفوا الموت، الذي يختارونه ربما – كما قلنا في حالات كثيرة – حكماء؟ لِمَ يعودون حكماء؟ في الحقيقة لم يعودوا حكماء، ومُستحيل أن يكونوا حكماء، انتبهوا! نحن نُخطئ فقط في التوصيف، نُخطئ فقط في التوصيف! إنهم ينطقون بالحكمة، لكنهم ليسوا حكماء. لا يُمكِن أن يعودوا في هذه اللحظات حكماء، حياتهم والمصير الذي اختاروه لأنفسهم يُؤكِّد أنهم ليسوا حكماء. هم بمنأى وبمعزل عن الحكمة، بمعزل عن الحكمة! بينهم وبين الحكمة مراحل، صحارى لا تُطوى، بيد لا تبيد.
فرق كبير بين أن ينطق المرء بالحكمة، وبين أن يكون حكيماً. انتبهوا! تماماً كالفرق بين أن ينطق المرء بالفضيلة وأن يكون فاضلاً. تجد أحياناً أكثر الناس وغادة وسفالة ينطقون بالقيم وبالفضيلة وبالأمانة وبالشرف وبالعفة وبالوفاء وبالإخلاص وبالوطنية وبالصدق وبالتفاني، وهم أوغد الناس، عملياً ومسلكياً أوغد الناس. فليس معنى أنك تنطق بالحكمة، أنك صرت حكيماً. إذن هؤلاء لم يعودوا حكماء عند الموت أبداً أبداً.
لكن ما الحكمة بالله؟ لعمر الحق ما هي الحكمة؟ سُبحان الله، خطر لي بالأمس ولأول مرة الآتي. والحكمة لها أيضاً تعريفات كثيرة جداً، وكنت أنتخب إلى وقت قريب أو انتخبت لنفسي هذا التعريف للحكمة. أنها القدرة على التوليف بين الأقطاب المُتضادة، بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، بين السالب والمُوجب، بين المُتباعِدين، بين المُتطرِّفين. القدرة على التوليف بينهما هي الحكمة. ثم خطر لي بوحي من كتاب الله – تبارك وتعالى – الآتي، القرآن ألهمني ربما تعريفاً، أعتقد الآن وأظن الآن أنه الأصوب والأدق. الحكمة هي عكس أن يكون المرء ظلوماً جهولاً، وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ۩.
كل السياقات التي ترى أنك مخضوع فيها أو حتى اخترتها لنفسك في الحياة أمانات؛ سياق أن تكون زوجاً ومن ثم أن تكون أباً، وأن تكون صديقاً، وأن تكون جاراً، وأن تكون رئيساً أو مرؤوساً، وأن تكون كذا وكذا من حيث الحرفة والمهنة والهواية، وأن… وأن… وأن… كلها أمانات، كل هذه أمانات، أنت مُستأمن فيها، ودائع مُسترَدة.
كيف أيها المُستأمن أو المُؤتَمن ستسير وتُسيِّر وتُدير هذه الأمانات؟ الله يقول وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ۩. وهو ظلوم، لأنه جهول. النتيجة أنه ظلوم، والسبب أنه جهول. جهول بماذا؟ جهول بقانون تسيير الأمور، إدارة الأمانة، يجهل القانون.
المُصيبة حين يكون هذا الجهل بالتسيير والإدارة مُتعلِّقاً بالحياة برُمتها، لا يعرف ماذا يُريد من وجوده المسكين. يقضي حياته، يقضي سنة إثر سنة، عقداً وراء عقدٍ، وهو يجري وراء المال، يُريد مزيداً من الأموال. في البداية يُريد الألوف، ثم مئات الألوف، ثم الملايين، ثم عشراتها، ثم مئاتها، ثم الملايير، ثم عشراتها، ثم مئاتها. حتى ينتهي في النهاية إلى أن يقع كومة مُحطَّمة مُكسَّرة بتعبير ستيف جوبز Steve Jobs، المُصمِّم العبقري ورجل الأعمال الكبير ومُنشئ شركة أبل Apple طبعاً بالشراكة، الملياردير الشهير جداً عالمياً، والذي لا يعرف كثيرون منا – خاصة في العالم العربي ربما، في أمريكا يعرفون هذا تماماً – الجانب المُظلِم له، لهذه الشخصية الرائعة، لهذه الشخصية العبقرية المُبدِعة العالمية. هناك جانب مُظلِم في شخصيته، والسبب هو ماديته وأنانيته الطافحة، التي جعلته يظن أن تجميع المزيد من الإنجازات والشهادات والأموال والاستثمارات والأعمال، سيجعله أكثر عظمة وأكثر سعادة.
في كلماته الأخيرة، وموجودة في مواقع كثيرة بنصها وفصها، يتلوها بعض مشاهير المُمثِّلين بأصواتهم، بالنبرة الأمريكية، يتحدَّث حديثاً مُفعَماً بالحكمة، ولكن واضح أنه لم يكن ليجعله حكيماً؛ لأنه جاء مُتأخِّراً جداً. وربما نكشف عن جانب من جوانب شخصيته غير المُحبَّبة، حسبما ووفقما ذكرت ابنته من زوجته أو مُطلَّقته الأولى، ليزا جويز Lisa Jobs، في كتابها الشهير جداً الفلس الصغير. والفلس هو أبناء أو صغار الأسماك، التي حين تُصاد، تُعاد إلى الماء لتأخذ فُرصتها في النمو، أي Fry،اسمه Small Fry، وFry هي كلمة إنجليزية قديمة، تُشير إلى فلوس الأسماك، ولذلك أنا أُترجِمها بدقة الفلس الصغير، Small Fry، هكذا كان يُناديها أبوها، كان يقول لها أيها الفلس الصغير. أعني المُبدِع ستيف جوبز Steve Jobs.
كشفت عن جوانب للأسف جعلتنا مصدومين أيضاً في هذه الشخصية الرائعة، هذه الشخصية المُنجِزة. العبقري الكبير للأسف لم يُدرِك فلسفة الحياة الحقة من أول الأمر، ولا حتى في مُنتصَف الطريق، أدركها وهو على فراش الموت. وهذا اعترافه، هذا هو اعترافه! قال إن عدم توقفنا – أي إن لهاثنا، إن لهاثنا المُستمِر – خلف الأموال والمزيد من الأموال وتجميع الأموال، سيجعلنا في النهاية ننتهي إلى أن نكون كومة مُكوَّمة، كحالي بالضبط الآن. وهو على فراش المرض، وبتعبيره يشتم رائحة ملك الموت. قال في الظُلمة أنظر إلى الضوء الأخضر الصادر عن جهاز التنفس الصناعي، وأسمع الصوت الميكانيكي للجهاز، وأشم – أو أشتم – رائحة ملك الموت.
ثم يقول هذه العبارة الحكيمة؛ توقف يا رجل، توقف! ماذا تُريد من الحياة؟ تلهث ولا تتوقَّف، لكي تُجمِّع المزيد المزيد المزيد المزيد، ستنتهي مُحطَّماً. يقول ما هو أغلى سرير في العالم؟ إنه سرير المريض. يُمكِنك بأموالك أن تستأجر مَن يقود لك عربتك (سيارتك)، وأن تستأجر مَن يجني لك المال – يعمل ويعرق من أجلك، ويأخذ القليل، أي الفُتات، وأنت تأخذ الكثير، تحتاز الكثير والجزيل -، ولكنك لا يُمكِن أن تستأجر مَن يتحمل مرضك عنك. طبعاً! لا يُمكِن لأكبر ملياردير في العالم فعل هذا، وها هم موجودون ومعروفون؛ صاحب أمازون Amazon، وصاحب مايكروسوفت Microsoft، أي غيتس Gates وأمثال هؤلاء، لا يُمكِن لهم بكل أموالهم أن يستأجروا أفقر الناس، لكي يحمل عنهم مرضهم. يمرض ويموت ويُعاني ويُورِّث أهله ملاييرهم، وهم ينجون ويأخذون يوماً جديداً في الحياة أو شهراً جديداً، لا! لا يُمكِن. وكذلك المُعاناة، كذلك المُعاناة الداخلية والاكتئاب، كذلك لا يُمكِن بكل أموالك أن تسرق مني سعادتي، التي أنتجتها وفجَّرتها عبر منظور وفلسفة ورؤية خاصة في الحياة. عندي رؤية!
لذلك يا إخواني صدِّقوني، هذه الخُطبة في نظري من أهم ربما – من أهم على الأطلاق – ما يُمكِن أن يُقال وأن يُسمَع. اهتموا كثيراً، فهذا ليس مُجرَّد كلام وفلسفة وفذلكة أبداً، هذا مُستقبَلكم، حياتكم، الآن وهنا، اليوم وغداً، وفي الغد البعيد جداً، حتى في الآخرة، هذا هو! كله يتوقَّف على هذا.
وكما أقول دائماً أعظم موضوعة ينبغي أن نتوقَّف عندها كثيراً وأن ننتخب رأينا فيها ومنظورنا بحذق ومُحاذَرة وحرص تام، هي موضوعة ماذا؟ موضوعة ما هي الفلسفة التي ينبغي أن تكون فلسفتنا في الحياة؟ كيف ينبغي أن ننظر إلى الحياة؟ أن نُعيد مُساءلة السؤال نفسه، واختبار الأجوبة عينها. ماذا أُريد من الحياة؟ ماذا أُريد حقاً من الحياة؟
في نهاية المطاف واضح أن ما يُريده كل إنسان، حتى الأنبياء وحتى أبالسة البشر، هو السعادة. يُريدون السعادة، السعادة في الدنيا، والسعادة في الآخرة لمَن آمن بها، السعادة بمعنى ما من معاني السعادة. مُشكِلة هذه الموضوعة ومُشكِلة هذا المُراد، أن أكثر البشر على الإطلاق لا يعلمون ما هي السعادة، ولذلك يتركون الحقائق وهي رخيصة ومبذولة على الرصيف وأحياناً بلا ثمن. السعادة موجودة بلا ثمن، الآن وهنا، الآن وهنا! أن تكون أسعد الناس. لكن يعمون عنها، ويظلون يُواصِلون مُطارَدة أوهام زُيفت وزَيفت وعيهم في الحياة، أوهام مُزيَّفة! قيل لهم هذه هي السعادة كما يفهمها النُخبة، أي الــ Elite، صفوة القوم، علية القوم! السعادة أن يكون لك أملاك كبيرة، طائرة خاصة، جزيرة، مئات الملايين، نساء غيد خمصاوات، يتخاصرن ويتلاثمن حولك، طوع بنانك، هذه هي السعادة! أن تأكل في أفخم المطاعم، وأن تبيت في أغلى الفنادق في العالم، هذه هي السعادة! أن يتحدَّث عنك القريب والبعيد، ولا تخلو من صورتك وتلميحاتك ومُداخَلاتك وكلماتك ومقبوساتك وسيلة تواصل دعائية أو إعلامية أو اجتماعية، هذه هي السعادة! الشهرة، السُلطة، أن تقول، فيُسمَع لقولك، أن تأمر، فيؤتَمر بأمرك، لا، هذه هي السعادة! وكله كلام فارغ، كله زيف، كله وهم – والله العظيم -، كله وهم سيُحطِّمك في النهاية.
السعادة أرخص من هذا بكثير، وأقرب من هذا بكثير، لو كنت تدري، لو كنت تدري! ولكن هناك المُشكِلة التي تُوشِك أن تعود مُعضِلة، ولكنها ليست مُعضِلة؛ لأن الجواب حاضر. بما أن الجواب موجود، فإذن ليست مُعضِلة. قد يقول لي أحدكم من أين لك أن الجواب حاضر؟ من تجربة الذين جرَّبوا هذا المنظور، وهم سعداء جداً جداً جداً جداً، بل كل يوم هم أسعد من اليوم السابق، في كل مرحلة عمرية هم أكثر اكتفاءً واغتناءً ورضاً وهناءً وسعادةً، وهذا واضح، فهذا المنظور، إنه يشتغل، يعمل! إذن هو صحيح. ومنظوراتهم لا تشتغل، جعلتهم وحيدين، كئيبين، من أبعد الناس عن السعادة المنشودة.
على كل حال إذن حتى لا نتيه في بيداء التفاصيل، الحكمة عكس الظلم والجهل، عكس الظلم والجهل! الظلم الناتج عن الجهل. الجهل بماذا؟ بقوانين تسيير وإدارة الأشياء. فماذا عن الظلم؟ ما هو؟ الظلم ناتج عن الجهل، وقد يكون ناتجاً أيضاً عن شيء وراء الجهل. لا! أنا أعلم هذه القوانين، تقريباً مثل كل المُوحِّدين وكل المُؤمِنين. ولما نتكلَّم عن مُوحِّدين ومُؤمِنين، نعني أُناساً يتلقون الهدي الإلهي. المُرشِد – أستغفر الله العظيم – هنا أو المُعلِّم أو المُدرِّب أو الــ Coach أو المُشير، ليس شخصاً وليس حامل شهادات، إنه رب العالمين، الذي: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ۩، لا إله إلا هو! وهو الذي قال لك هذا طريق السعادة، وهذا طريق التعاسة والشقاء يا عبدي، يا ابن آدم، يا مخلوق. نعلم هذا، ولكن لسنا سعداء، لماذا؟ لأننا ظلومون، ليس لأننا جهلاء، لأننا ظلومون. المعرفة موجودة، ولكن المعرفة غير كافية، حين لا تستحيل إلى إيمان حقيقي، إيمان يُملي السلوك، يُملي السير وفق هذه المعرفة. انتبهوا! ولذلك كما قلت النُطق بالحكمة لا يجعل المرء حكيماً، بمعنى ماذا؟ من باب أولى، معرفة الحكمة ليست كفيلة أن تجعلك حكيماً، أنت تعرف ولكنك لست حكيماً، وكم ذا في الناس مَن يعرف الصح ويرتكب الغلط! أكثر الناس. إذن أكثرهم حمقى، ظلومون. انتبه، وإذا ذهبت تُعلِّمهم، علَّموك. يُكمِل عنك الخُطبة، ويُكمِل عنك الموعظة، ويقول لك نعم، هذا مضبوط، وقال الله تعالى، وقال الرسول، وقال الشاعر، وأقول. هو يعظك، أي هذا المسكين، ولكنه ظلوم. ليس لأنه يجهل القانون، هو يعلمه وربما أحسن منك، ولكن واضح أنه في العُمق – في العُمق – غير مُؤمِن به، لأنه لا يسلك وفقه. لو آمن به حقاً، لسلك وفقه.
ومن هنا القرآن الكريم قال هذا، وفي تفاسير جمهرة السلف الصالحين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، كل مَن ارتكب معصية جاهل. يَعْمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٍۢ ۩، قالوا ليس المقصود مَن عمل السوء وهو يجهل أنه سوء، أبداً! إنما مَن عمل السوء، جهل أو علم، فهو جاهل. هو لا يعلم أن هذا حرام، وهو جاهل. يعلم أنه حرام وهو عمله، وهو جاهل. هذا الصحيح، جاهل! الله قال أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۩، يتلون! يعظون ويُكمِلون عنك القصة ويُكمِلون عنك الموعظة، قال تعالى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ۩. لا عقل لكم يا معاشر الجهلة.
فرق كبير بين أن تعلم وأن تعرف وبين ما قلناه، ولذلك القرآن الكريم قال هذا في لفتة عجيبة هزتني حقاً، وكنت أنتوي أن أُفرِدها بخُطبة قبل أشهر طويلة. قال الله – تبارك وتعالى – وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩. قال وَافْعَلُوا ۩، انتبه! لم يقل واعلموا الخير، أو عظوا بالخير. مسألة عجيبة! وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ۩، لا يُطلَب معرفته فقط، معرفته لا قيمة لها إن لم تقد إلى ماذا؟ إلى السلوك. الخير يُراد، ليُفعَل.
وعلى فكرة قد يقول لي أحدكم انتهى، هذا يكفي. وأقول بين قوسين (هذا أحد أكبر أسباب شقاء المُسلِمين). أي والله الذي لا إله إلا هو، يعلمون ويسمعون وكل جُمعة هناك خُطب ومنابر ومقبوسات من الكتاب والسُنة وأقوال السلف، ولكن أين العمل؟ أين الهدي العملي؟ أين السلوك؟ غير موجود، غير موجود! هم يظنون أن الخير يُطلَب، ليُعرَف. الله يقول وَافْعَلُوا ۩. فهل لا تُوجَد آية فيها واعلموا الخير؟ قال لك لا، لا يُوجَد اعلموا الخير، يُوجَد اعْمَلُوا ۩. اعمل! آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ۩، آمَنُوا وَعَمِلُوا ۩، وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ۩، وليس اعلموا الخير.
إذن ظلوم جهول. الحكيم ليس جهولاً وليس ظلوماً. بمعنى الحكيم هو الذي انتخب القانون الصحيح، أفلح في أن ينتخب القانون الصحيح، الذي تُسيَّر به النفس وعلاقاتها ومناشطها، تُدار به كل الأمانات، الزوجية، البنوة، الأبوة، الصداقة، الجيرة، المهنة، الإدارة، كل شيء! كل شيء امتحان لنا. كيف ينبغي أن أسلك؟ كيف ينبغي أن أُدير ما تحت يدي، وما هو في ولايتي؟ أعرف القانون الصحيح. فأين إذن، أين الكتاب الإرشادي لهذا القانون الصحيح؟ كتاب الله، حقيقةً كتاب الله. رب العالمين – لا إله إلا هو – حتماً من حيث الأصل على مسافة واحدة من كل عباده، وهو يرجو الخير والرحمة لهم، وهو مُحِب لكل عباده. لكن العلة في القابلين، هم لا يُريدون ولا يقبلون، للأسف هو يدعوهم وهم يأبون، أبداً! كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ ۩، لا يُريدون أن يسمعوا، أحرار! انتخاب، امتحان، ابتلاء. هذا هو الابتلاء، منطق الابتلاء.
ولأنه على مسافة واحدة من كل عباده، ويُريد الخير لكل عباده، إذن هو لا يأمر ولا يهدي إلا بما فيه النفع والخير لكل عباده. إذن لا يُمكِن أن يأمرك، إذا ائتمرت بأمره، بشيء إلا ويكون فيه الخير لك وللناس كافة. هذا رب العالمين، ليس عنده تعصبات، ليس عنده عنصريات، ليس عنده تحيزات، أي هؤلاء جماعتنا وهؤلاء حزبنا وأصواتهم لنا و… أبداً أبداً أبداً، الله ليس عنده الكلام هذا، هذا عندنا نحن المساكين، المساكين! وتجد التحيز داخل الدين الواحد وداخل الطائفة الواحدة سرطاناً حقيقياً، يبث الكراهية، يبث التصنيفية، يبث الاستبعاد للاستيعاب، يبث أشياء كثيرة كريهة، عجيب جداً! داخل الدين الواحد والطائفة الواحدة والمسجد الواحد والصف الواحد والأسرة الواحدة. لا! رب العالمين لا يُوجَد عنده تحيزات على مُستوى البشر جميعاً – لا إله إلا هو -، لأنه رب العالمين، اسمه رب العالمين، ليس رب المُسلِمين فقط، ليس رب المسيحيين فقط، ليس رب اليهود فقط، ليس رب الهندوس فقط، رب العالمين، لا إله إلا هو!
فالقضية سهلة، لمَن كان مُتواضِعاً، وأوتي الحكمة، التي مَن يُؤتها فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۩، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۩، وواضح من السياق أن القضية فيها تقليل، قال يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ۩، ثم قال وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ ۩، واضح أن القضية فيها تقليل، يبدو أن مُعظَم الناس حمقى، وفعلاً هذا واضح، واضح! مُعظَم الناس حمقى. الذي يعظ بلحكمة ويعترف نفسه أو يعتد نفسه أحكم الحكماء، حين يموت، سيعترف أنه كان أحمق الحمقى. وحماقته كيف تُقاس؟ هل هناك مُعادَلة لقياسها؟ هناك مُعادَلة بسيطة، ليست رياضية، وإنما مُعادَلة منطقية واضحة، بمقدار المندوم أو المُتندَّم عليه. الأشياء التي ستندم عليها وأنت تُفارِق هذه الحياة، وأنت تلفظ آخر أنفاسك، هي مقياس حُمقك وحكمتك.
الحكيم حقاً، الحكيم الكامل، سيقول كما قال مُعاذ بن جبل – رضيَ الله عنه وأرضاه – وهو يجود بنفسه في الطاعون لا أفلح اليوم مَن ندم. لا يُوجَد ندم – قال – والحمد لله. لا أفلح اليوم مَن ندم. شيء مُبكٍ، قال أنا لا أندم – بفضل الله -، لست نادماً على شيء. قضى حياته كلها في علم وعمل وصلاح وإصلاح وصدق وطهارة ظاهرية وباطنية، صدق مع الله ومع النفس ومع الناس. قال لا أفلح اليوم مَن ندم. هذا هو! غير نادم حتى على ترك الدنيا وما فيها ومَن فيها. لكن مَن الذي يموت وهو لا يندم؟ ليس حتى على مُعامَلة أودائه وخِلصانه وأحبابه، لا! حتى على مُعامَلة أعدائه وكارهيه، هذا هو طبعاً، لا! حتى عدوك الشانئ الذي يلغ في عِرضك وفي سُمعتك، ويبغيك العنت والشر، لا تلقه بأكثر من الإغضاء الكريم والمُسامَحة والدعاء له بالهداية وأن يُسعِده الله؛ لأنه تعبان. هو تعبان على فكرة، أنت غير تعبان، ولكن هو التعبان. هو مشغول بك، مشغول بنجاحك، مشغول باستقلالك، مشغول بغناك، ومشغول بسعادتك. ويُريد أن يُشقيك؛ لأنه شقيان، شقيان بسعادتك، شيء غريب!
تماماً كما قال سانت أوغستين Saint Augustine مرة، قال الكراهية سُم، لكن يقتل صاحبه، وليس المكروه. هكذا هو أي واحد يكره، يكره، يكره ويحقد، ويغضب، جميل! هذه الكراهية ستقتلك أنت، ولن تقتلني أنا. أنت تكرهني، تُبغضني، تدعو علىّ ليل نهار، تبغيني الويل والثبور وعظائم الأمور. جميل! فهذا لا يُسممني، سيُسممك أنت. جميل أن نفهم هذا، للأسف الناس لا يفهمون هذا، إلا القليل، جعلنا الله من هذا القليل، وهو قليل مُبارَك، تتبارك به الحياة وتجمل وتُصبِح أحسن وأحسن وأثمن وأثمن وأغلى وأغلى وأنفس وأنفس. آخ! آخ! يا لله لهذه الحكمة الضائعة! يا لله وللمُسلِمين لهذه الحكمة الضائعة منا والتي أشقانا ضياعها! التي أشقانا ضياعها.
إذن هذا تعريف الحكمة، وبالتالي هو تعريف الجهل، الضد النوعي للحكمة. وأما تعريف السعادة، فماذا عنه؟ أيضاً هناك مئات التعاريف للسعادة، وألوف الدراسات، وخاصة في آخر عشرين سنة. في آخر عشرين سنة انفجر ميدان دراسة السعادة، في الغرب الأمريكي والأوروبي، انفجار حقيقي! ألوف الدراسات، يومياً هناك دراسات جديدة.
لكن أُريد أيضاً أن أُدلي بهذا الرأي: يُخيَّل إلىّ أن جوهر السعادة في التواصل. جوهر السعادة في التواصل! وانتبهوا، التواصل الواعي، في التواصل الواعي، بمعنى لو أنني جعلت علاقتي مع أملاكي، مع قصري، مع فللي، مع جُزري، مع سياراتي الفارهة ذوات الملايين من حيث الثمن، مع… مع… مع… فلن أسعد. لو جعلت تواصلي مع حيواناتي، فسأكون أقرب إلى السعادة. مع حيواناتي! مع الببغاء الثمين، الذي ثمنه يصل إلى نصف مليون دولار، لأن صاحبه مليونير طبعاً أو ملياردير، واشترى ببغاء بنصف مليون، ولا يُوجَد منه الكثير، عادي! سيكون أقرب إلى السعادة، وكذلك مع كلابه – أعزكم الله -، مع قططه، مع أسماكه في الأكواريوم Aquarium أو حوض الأسماك، سيكون أدنى إلى السعادة، لكن لا، يُمكِن أن نذهب قليلاً خُطوة إلى الأمام. انتبهوا، ما الفرق بين التواصل مع الجُزر والسيارات والأملاك، والتواصل مع الأسماك ومع الطيور ومع الحيوانات الأليفة؟ التواصل الواعي. الوعي! هذه كائنات تعي بمحبتك، تعي باهتمامك، تعي بوفائك لها وباهتمامك بها. وأنت تعي أيضاً ماذا؟ امتنانها لك.
وعلى فكرة، وهذه طيف مُستمِر، وعي القطط والكلاب فيه هذا حتى بصراحة، واضح أن وعي الكلاب أعظم من وعي القطط. ولذلك الكلاب أكثر وفاءً لأصحابها، ومن الصعب أن تُفارِق أصحابها، أحياناً تنتحر، تُؤثِر الانتحار، تمتنع عن الأكل والشرب حتى تموت، بموت أصحابها. شيء عجيب! أي وفاء عجيب جداً، أكبر من وفاء البشر أحياناً، أو من بعض البشر طبعاً. فالكلاب أكثر من القطط وعياً، والكلاب والقطط – أكرمكم الله – وعيها بالتواصل وبالاهتمام أعظم من وعي ماذا؟ الطيور، الغريدة وغير الغريدة. وعي الطيور بالتواصل أعظم من وعي الأسماك، أسماك الزينة، هذا أكيد! ولذلك سعادتك بالتواصل مع الكلاب والقطط، ستكون أعظم من سعادتك بالتواصل مع أسماك الزينة. نعم! إذن فهمنا، هذا القانون، إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ۩، فهمنا القانون.
نمشي خُطوة إلى الأمام، نمضي خُطوة إلى الأمام، التواصل مع البشر، أوه! كيف يُمكِن الآن الحديث عن الكلاب والهرر؟ البشر! البشر يُشارِكوننا ويشركوننا اهتمامتنا الميتافيزيقية، الروحية، الفلسفية، الاجتماعية، السياسية، النفسية، العلمية. شيء عجيب! يدخلون معنا في مُناظَرات في هذه القضايا كلها، يختلفون ويُوافِقون ويقطعون ويتقاطعون، أهلاً وسهلاً.
ولذلك تواصلنا مع البشر يُعطينا سعادة أكبر بكثير، لكن انتبهوا، هل التواصل مع البشر تواصل مُطلَق وتام وكامل من كل جهاته وجنباته؟ طبعاً لا، لا! البشر من الصعب أن أتواصل معه، ما لم يكن ماذا؟ أمامي. يسمعني وأسمعه، أو حتى عبر الهاتف ووسائل التواصل، فالآن هناك الواتساب WhatsApp وأمثاله، لكن لا بد من تواصل حسي إلى حد ما، مع أن الروح عندها منطقها.
إذن هذا يُفضي بنا إلى الدرجة النهائية، وهي المُنتهى وليس وراءها مرمى. هي المُنتهى وليس وراءها مرمى! التواصل مع كائن، مع وجود واعٍ دائم ثابت غامر عام، في ليلك، في نهارك، وأيضاً مأمون أن يقع التباس أو سوء فهم من الطرف الآخر. مُشكِلة التواصل مع البشر أنك أحياناً تُحِب زوجتك أو تُحِب ابنك أو صديقك أو جارك، وتبغيه الخير، لكن تخذلك ماذا؟ الوسيلة، أو السبب، أو الحيلة. فيُسيء فهمك، ويظن أنك تبغيه ماذا؟ العنت والألم. ويحصل سوء تفاهم، وأحياناً الرؤوس تكون ماذا؟ عنيدة قاسية. فهذا يركب رأسه وهذا يركب رأسه، وتقع ماذا؟ الفُرقة والانفصال. عجيب! لا، رب العالمين – لا إله إلا هو – مُتواصِل بشكل دائم، في الليل، في النهار، وأنت هنا، وأنت في أستراليا، وأنت على المريخ، وأنت في أعماق البحر، أينما تكون! وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ ۩.
انظر إلى كلمتي فِي الظُّلُمَاتِ ۩، تواصل على جميع المُستويات، في أعماق أعماق البحر، في جوف حوت، وفي ليل أليل دامس طامس، قال لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ۩. فكشف الله غُمته وأنقذه، لا إله إلا هو! تواصل دائم، لا إله إلا الله! شيء عجيب.
مُشكِلة التواصل مع بعض البشر أنهم في لحظة مُعيَّنة تخذلهم الفضيلة أيضاً، وتغلب عليهم هشاشتهم وضعفهم البشري، فيطمعون أو يحسدون، أليس كذلك؟ أو يسيئون الظنون. أي هم انقلبوا، وهم أقرب الناس إليك.
ولذلك هذا كان في رأس قائمة الأسباب التي تُشقي الأغنياء، وخاصة مُحدَثي النعمة، لأنهم كانوا – أي هؤلاء المساكين – بعد فترة قصيرة لا يعودون يدرون مَن الذي يصدق في حُبهم ومَن الذي يُريد أن يستغلهم. فينسحبون إلى وحدة قاتلة، لا يعودون يظنون الخير بأي أحد، حتى بأولادهم، ويظنون أن أولادهم يتمنون هلاكهم وموتهم، لكي يرثوهم.
ستيف جوبز Steve Jobs كان يقول لابنته ليزا Lisa – أي هذه المسكينة، صاحبة الــ Small Fry -، كان يقول لها لا تحلمي، لن تحصلي على أي شيء مني. أصحاب الملايير! وفعلاً لم تحصل المسكينة على شيء، وكتابها مُؤلِم. حين تقرأ هذا الكتاب، تجد أنه مُؤلِم جداً، مُؤلِم جداً!
حين التحقت بجامعة هارفارد Harvard University، في أول سنة، تلكأ في دفع الرسوم، تلكأ! ثم انقطع عن دفع الرسوم، أي في السنة الثانية والثالثة والرابعة، قال لن أدفع الرسوم. عجيب! بنت ستيف جوبز Steve Jobs، أبو المليارات! حتى اضطر بعض معارفها من الأثرياء أن يدفعوا عنها رسوم الجامعة سنة فسنة، واضطر بعد ذلك هو، بسبب السُمعة – الــ Reputation – والكلام، إلى التسديد، لكن في وقت مُتأخِّر، عجيب!
سألته مرة عن سيارته البورش Porsche القديمة؛ هل يُمكِن أن تُعطيني إياها؟ قال لا يُمكِن. قديمة! وكان كما تقول ابنته ليزا Lisa إذا أصاب سيارته الفارهة أدنى خدش، يستبدلها مُباشَرةً، يستبدل بها سيارة جديدة! فسألته عن البورش Porsche القديمة؛ هل يُمكِن أن تُعطيني إياها؟ قال لا يُمكِن. كيف أُعطيك إياها؟ لا يُمكِن – قال -، وإياكِ والاقتراب منها، لن تحصلي مني على أي شيء. لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! شيء عجيب، شيء عجيب، هذا الشُح وهذا الحرص وهذا البُخل وهذا الإشقاء وهذه الإرادة لإشقاء لحمك ودمك، ابنتك!
طبعاً قد يُعتذر عنه أنه كان يشك أنها ابنته، طبعاً! ولذلك هو توقف في الاعتراف بها خمس سنوات، بعد ذلك المحكمة دعته لإجراء تحليل للدنا، أي الدي إن أيه DNA، فلما أُجريَ تحليل الدنا له طبعاً ولها، ثبت أنها ابنته، قالوا له هذه ابنتك، لحمك ودمك. ولكن لا تُوجَد فائدة.
قالت المسكينة هذا، وكان تتكلَّم كلاماً ينزف ألماً، ينضح بالمُعاناة. تقول يبدو أنني فشلت أن أكون مُقنِعة بالقدر الكافي لأبي. هل كنت قبيحة ربما؟ لا أدري. كنت أفتح ألبومات طفولتي أمامه، في مكان مفتوح. وكانت ردة فعله حين يراها، تتمثَّل في القول مَن هذه؟ فأقول له It’s me. فأقول له إنها أنا. It’s me! إنها أنا. فيمضي، أي “طُز”. شيء عجيب، قسوة غير عادية، قسوة غير عادية! إرادة إشقاء الآخرين.
التواصل مع البشر مطلوب للسعادة، ولكنه غير مأمون دائماً، وهذه المُشكِلة، حتى مع الأب، لا إله إلا الله! التواصل مع رب العالمين، الغني عن العالمين، مُختلِف.
بالأمس خطر لي الآتي؛ ليت شعري، ما عسى يُدرِك برغوث يسبح في فرو قُبعة الساحر – هذا التشبيه كان لأينشتاين Einstein مرة – من حجم الكون؟ هناك ساحر يُمارِس شعبذته وخفته على المسرح، أمام الجمهور، في مدينة ما، من مُدن العالم، على كوكب الأرض، بقطر اثني عشر ألف ميل Mile، وهو رجل بسيط بعرض أربعين سم، على رأسه قُبعة فرو، يسعى فيها برغوث، ما عسى يُدرِك هذا البرغوث من حجم الكون؟ هو يحسب أن صحراء الفرو هذه هي العوالم كلها. هذه العوالم، الفرو هذا الرهيب صحراء كبيرة، يتنقل فيها، ويقول سُبحان مالك المُلك. هذا البرغوث يقول سُبحان مالك المُلك. أنى له أن يُدرِك أنه يسعى في قُبعة على رأس كائن بشري يُوجَد منه أكثر من سبعة ملايير، على كوكب يُمكِن أن يحتضن منه – من هذا الكائن – مئات الملايير؟ طبعاً مئات الملايير! أنت يُمكِنك أن تمشي في النمسا هنا، أو في أي بلد، وأن تنظر إلى الأراضي الزراعية، غير المقرونة وغير المُمدنة. هناك أضعاف أضعاف أضعاف المُدن والقرى، فلو استُغل اليابس فقط من الأرض، لاحتمل مئات ملايير البشر.
وكوكب الأرض كوكب صغير مُتواضِع، يبعد ثماني دقائق ضوئية عن أمه الشمس التي يُمكِن أن تحتضن في جوفها مليون وثلاثمائة ألف كوكب مثله، الشمس تتسع لمليون وثلاثمائة ألف كوكب، مثل الأرض، وهو يبعد عنها ثماني دقائق ضوئية، في مجموعة شمسية آخر وأبعد كواكبها نبتون Neptune، لأن بلوتو Pluto هذا أُسقط طبعاً، قبل سنوات بعيدة نسبياً، عاد كوكباً قزماً، وليس من كواكب المجموعة المعروفة، الآن هي ثمانية. نبتون Neptune أبعد الكواكب، يبعد ضعف الأرض بثلاثين مرة، ثلاثين ضعفاً كبُعد الأرض، أي بمئتين وأربعين دقيقة ضوئية، أي أربع ساعات، أربع ساعات! أي خمسة ملايير ونصف مليار كيلومتر، لأن الأرض تبعد بمقدار مئة وخمسين مليوناً، أف! لخمسة ملايير، الأرض تبعد بمقدار مئة وخمسين مليون كيلو؟ نعم، بمقدار مئة وخمسين مليوناً. ونبتون Neptune بمقدار خمسة آلاف مليون وخمسمائة مليون كيلومتر.
والمجموعة الشمسية كلها مُجرَّد نُقطة تظهر في المُصوَّرات الفلكية، على ذراع مجرة درب اللبن، أو طريق اللبن. تبعد عن المركز ثلاثين ألف سنة ضوئية، ثلاثين ألف سنة! نبتون Neptune عن الشمس أربع ساعات، والمجموعة هذه عن قلب المجرة ثلاثين ألف سنة، فالمجرة تبعد كم؟ مئة ألف سنة ضوئية. ليقطع الضوء المجرة التي نحن فيها نُقطة، من طرفها إلى طرفها القصي، يحتاج إلى مئة ألف سنة ضوئية. وفي الكون مئات المجرات من مثل مجرتنا التي فيها زُهاء أو من ثلاثمائة إلى أربعمائة مليار نجم، والشمس نجم واحد مُتوسِّط فيها، مئات ملايير المجرات، الله أكبر!
قال لك وهذا كله في السماء الدنيا. وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۩. الآن هذا الرب صاحب المُلك – لا إله إلا هو -، الذي هو خالق ومُدبِّر وراعي كل هذه الأكوان وكل هذه المساحات التي تُصدِّع وتُدير العقل بمُجرَّد سماعها، يُعجِزه أن يكفيك، وأن يضمنك، وأن يُعطيك الخُطة الإرشادية، وأن يُسعِدك يا مسكين، يا ضائع الحكمة، يا فاقد الهناء؟ ما مُشكِلتك أنت؟ ما مُشكِلتك؟ الحُمق. إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ۩، أحمق ويدّعي أنه “أبو العريف” وأستاذ الأساتيذ. يقول لا تنصوا علينا، نحن نُعلِّمكم. أي يقصد أنه يُعلِّم رب العالمين. يقول لا تقولوا لنا قال الله وقال الرسول، نحن نُعلِّم. علِّم! علِّم ومنكم نستفيد، نستفيد كيف يكون الانتحار على وجهه، نستفيد القصة التي لا تزال تتكرَّر كأكبر مأساة لشخص غني، أنهى حياته بالانتحار، إنه كريستينا أوناسيس Christina Onassis، بنت الملياردير اليوناني الكبير، صاحب الجُزر والأساطيل البحرية والطائرات واليخوت، الملايير حول العالم من أغنى أغنياء القرن العشرين وربما التاريخ البشري، وكانت كريستينا Christina وريثته الوحيدة، وعلى عكس ستيف جوبز Steve Jobs، ورَّثها كل شيء. جوبز Jobs لم يُورِّث ليزا Liza ولا شيء، ولكن هذا ورَّث ابنته كل شيء. ومع كل هذه التركة المهولة، لم تُفلِح المسكينة أن تحظى بالسعادة، لم تجد السعادة، لا إله إلا الله! فاضطرت إلى أن تتزوَّج وأن تُطلّق وأن تتزوَّج وأن تطلّق، وكلهم نصّابون، وكلهم يُريدون أموالها. لا أحد يُحِبها، لا أحد يُريد أن يتواصل معها ككيان بشري، يحتاج إلى الحميمية، إلى الحُب، إلى الصدق، إلى الوفاء، إلى التواصل الصادق. لا! كلهم يُريدون أن يتواصلوا مع الدولار، وليس مع كريستينا Christina المسكينة الطيبة. تُحزِنني قصتها باستمرار، دائماً تُحزِنني هذه القصة!
في الأخير اضطرت أن تتزوَّج من شيوعي، قالت هذا شيوعي. أي هذا لا يُقدِّس المادة ولا الدولار ولا الروبل. هذا يُقدِّس ماذا؟ الإنسانية والمعاني الطيبة في البشر. وتركت العالم الغربي كله، وعاشت معه في بيت مُتهالِك، في أحد أحياء موسكو الفقيرة. ولكن اتضح أنه أيضاً نصّاب ويُريد الدولار والروبل، فأُصيبت باكتئاب حاد جداً، ثم وُجدت المسكينة وقد قضت بعدد كبير من الحبوب المُنوِّمة على أحد الشواطئ في الأرجنتين، أنهت حياتها! ابنتها تعيش إلى اليوم، وأحد أصدقائي يعرفها وله علاقة شخصية معها. قصة مأساوية! وحتى ابنتها عاشت مأساة أيضاً من هؤلاء الماديين الرأسماليين المُتغوِّلين، الذي لا يعرفون معنىً للإنسانية، إنما معنىً للدولار واليورو، للعملة، للمادة! لم يفهموا الدرس، حمقى! أساتذة التعاسة والحُمق – والله العظيم -، أساتذة التعاسة والحُمق، هل هذا واضح يا إخواني؟ هو هذا.
ولذلك القضية واضحة، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الشهير ارض بما قسم الله لك، تكن أغنى الناس. الذي رواه الإمام الترمذي عن أبي هُريرة، وإسناده حسن على الأقل. ارض بما قسم الله لك، تكن أغنى الناس. لا بد من الرضا والتسليم لله – تبارك وتعالى -.
وكما قلنا جوهر السعادة في التواصل الواعي. أعظم درجة من التواصل الواعي، تكون مع مَن؟ مع رب العالمين – لا إله إلا هو -. ولذلك المُتواصِل مع الله، لو قضى حياته مُفرَداً مُبعَداً، في زنزانة، لن يلحقه اكتئاب، وسيقول ماذا يفعل بي أعدائي؟ جنتي في صدري. إن سجنوني، فسجني خلوة. خلوة أغتنمها مع رب العزة – لا إله إلا هو -، أتواصل معه وهو يتواصل معي، يسمعه ويراني، أدعوه ويُلبيني، ويُرسِل إلىّ وحيه وإلهامه وإشاراته. ووحي الله (وحي الإلهام) لم ينقطع عن البشر لحظة، ولكن نحن لا نستقبل. جهاز الاستقبال معطوب فينا، جهاز الاستقبال معطوب فينا! نسأل الله أن يُصلِحه وأن يُصلِحنا وأن يُسعِدنا بمعرفته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد، إخواني وأخواتي:
صح عن المعصوم – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – أنه قال ليس الغنى عن كثرة العرض. ليس الغنى المُعتبَر، ليس الغنى في جوهره وحقيقته، هو أن تمتلك أملاكاً كثيرةً، عرض الدنيا! كله عرض هذا، زائل. لا، ليس هذا! النبي يقول ليس هذا الغنى.
وإنما الغنى غنى النفس. أي إذا النفس اغتنت، ولا تغتني إلا بالله. الإنسان جوفه عجيب، هذا أعظم من المُحيطات. انظر إلى الكون، وقد تحدَّثنا عنه قبل قليل، والله جوف الإنسان أوسع منه. هذا الكون كله لو تحوَّل إلى ذهب وفضة ودُر وياقوت، لا يملأ جوف هذا الإنسان طالما كان في قيد الحياة. لا! يقول لك أُريد المزيد، أُريد المزيد. قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ ۩، لا! لن أُعطي. خزائن رحمة الله! وكل هذا الكون الذي تحدَّثت عنه ربما يكون ذرة بسيطة في أكوان الله، وأيضاً هذا لا يكفي، الله! ما هذا الإنسان؟ شيء مُخيف هذا الإنسان، مُخيف، مُخيف! وأكثر مما يتخيَّل هو على فكرة، أكثر مما يتخيَّل.
ولذلك لا يملأه – لا يملأ هذا الفراغ الوجودي المُخيف السحيق، أبعد من كل أبعاد الكون – إلا ماذا؟ إلا معرفة الله، إلا الرغبة في الله، التوجه إلى الله، لأن الله أكبر. وهذا أيضاً أحد معاني الله أكبر، وكل مرة نكتشف معنىً جديداً، هذا معنى الله أكبر. الله أكبر من فجوتك، الله أكبر من جوفك هذا، يملأه! وترتاح وتشعر بالاستقرار، وتُلقي عصا التسيار، وتعيش الهناءة والسعادة، غنياً كنت أو فقيراً، لا بأس. الإسلام ليس مع الفقر، انتبهوا! الإسلام على العكس من هذا، الإسلام يُكرِّه الفقر ويُزهِّد فيه ويحث على الغنى، والغنى بحد ذاته خير، الغنى أو المال بحد ذاته خير، وسماه الله خيراً. ولكن عليك أن تنتخب الطريقة التي تتعامل بها أو وفقها مع هذا المال، فقط! هذه القضية. إن كانت الطريقة الصحيحة، فستكون من أسعد الناس وستُشيع السعادة فيمَن حوالك، وأنت من أغنى الناس، لا تُوجَد مُشكِلة إذن، لا تُوجَد خصومة أبداً مع المال ومع الغنى والثراء، ولكن بالمنظور الصحيح.
سأختم الخُطبة الثانية بأروع قصة في الأدب العالمي، كما وصفها الأديب الأيرلندي العظيم جيمس جويس James Joyce، صاحب يوليسيس Ulysses أو عوليس. هناك رواية عوليس الشهيرة المُخيفة، هذه الرواية رائعة، من المُهِم أن تقرأوا عنها. هذا جيمس جويس James Joyce، صاحب يوليسيس Ulysses، قال أعظم قصة في الأدب العالمي هي هذه القصة. وهي قصة قصيرة، سأحدِّثكم بها الآن ربما في ظرف أربع دقائق، ثم نمضي إلى صلاتنا.
قصة باخوم Pahom، قصة باخوم Pahom الطمّاع، صاحب الجوف الذي لا يملأه شيء، وهي قصتكَ، وهي قصتي، وهي قصتكِ، هي قصتنا جميعاً، كلنا باخوم Pahom، فانتبهوا، كلنا باخوم Pahom، إلا مَن عرف الله، إلا مَن عرف الله! وباخوم Pahom هو أستاذ صناعة التعاسة.
هذه القصة للأديب الروسي العظيم ليف Lev أو ليو Leo تولستوي Tolstoy، تُرجمت من الروسية Много ли человеку земли нужно؟ إلى الإنجليزية بعنوان كم يحتاج الإنسان من الأرض؟ How Much Land Does a Man Need? وأخرجها أحد المُخرِجين الألمان الغربيين في التاسع والستين، في فيلم اسمه سكارابيا Scarabea، سكارابيا Scarabea! والعنوان الفرعي له هو الشيء نفسه، كم يحتاج الإنسان من الأرض؟ Wieviel Erde braucht der Mensch?
أعظم قصة – قال لك – في الأدب العالمي. باختصار القصة عن قروي فقير مُعدِم، لا يمتلك أرضاً، يشتغل بشيء أشبه بالسُخرة، واسمه باخوم Pahom. بالروسية اسمه باخوم Пахом، وأصلاً هذه معناها الفخذ، ولكن اسمه باخوم Pahom، بالإنجليزية كتبوها باهوم Pahom، المُهِم اسمه باخوم Pahom.
اتفق ذات ليلة وهو جالس إلى جانب المُوقد، ربما في ليلة خريفية أو شتوية، أن استمع إلى حديث دار بين زوجته الحبيبة وبين أختها الكُبرى التي جاءت من المدينة، تُحدِّثها عن مزايا الحياة المدنية ومثالب الحياة في الريف، إلا أن زوجته كانت قنوعة وراضية، وردت عليها حُججها. استمع هذا، فقال في نفسه آه! لو أمكن أن يكون لي قطعة أرض ولو صغيرة، أعتاش منها، أعمل فيها لنفسي – أي لا أغترب بلُغة ماركس Marx عن عملي -، إذن لما عبأت بأحد، ولو كان رئيس الأبالسة.
من سوء حظه أن إبليس كان جالساً خلف الموقد، فسمع ماذا؟ هذا التحدي. بمثابة تحدٍ! وقبل التحدي، قال له نعم، قبلت التحدي – دون أن يسمع – وسأقودك إلى مهلكتك. سوف نرى، أنا أم أنت؟
القصة باختصار أن بعد فترة وجيزة سيدة طيبة القلب، لينة العريكة، حسنة المعشر، كانت من كبار الملّاك في تلك القرية النائية، في الريف الروسي، عرضت أرضها للبيع، فتهافت عليها الفلّاحون. وبعد قليل فكَّر في نفسه، لماذا لا أشتري أيضاً أنا؟ فاضطر أن يبيع نصف خلايا النحل لديه ومُهرة صغيرة كانت عنده، وأجر ابنين له عاماً كاملاً في إحدى المزارع، وأخذ الأجر مُقدَّماً، ثم استلف البقية من أحد أنسبائه، ودفع نصف ثمن أربعين فداناً، وكتب قيداً على نفسه بالنصف الآخر، أن يُسدِّده في ظرف سنتين.
وبعد سنة واتاه الحظ، وأسعده المقدور، وكان المحصول وفيراً، فسدد البقية في سنة واحدة، وقال الآن أعيش الحياة الهانئة، التي طمحت إليها وطمعت فيها. ولكنه لم يلبث إلا يسيراً، حتى بدأ يتعكر صفو حياته، بجيرانه أو بعض جيرانه، الذين يتركون سوائمهم ومواشيهم ترتع في زرعه، مما جره إلى القضاء أكثر من مرة والمحاكم، فقال ما هذه الحياة التعيسة؟ بدأ الآن يرى وجهاً آخر للغنى، وجهاً آخر للامتلاك.
وذات يوم مر بقريته فلّاح، نزل عليه ضيفاً، أكرم وفادته وأحسن قراه، أخبره أن في أرض الفولجا Volga أراضي زراعية وفيرة وخصبة جداً، والناس هناك كرماء، كل مَن أراد أن يستعمر هذه الأرض – أن يزدرعها وأن يستثمر فيها – أو أن يستعمر تلك الأراضي، أعطوه خمسة وعشرين فداناً مجاناً وساعدوه.
المُهِم، ذهب وتحقَّق من الخبر، ثم شد الرحال مع زوجته وأولاده، وباع أملاكه في قريته، وذهب إلى الفولجا Volga. وهناك حصل على خمسة أنصبة، خمسة أنصبة! هو وأربعة من أولاده، حصل على مئة وخمسة وعشرين فداناً. وكانت أرضاً زراعية طيبة خصبة كريمة، تُنبِت أضعاف ما كانت تُنبِت أرضه في القرية هناك. وجعل يبيع ويشتري، يبيع ويشتري. وبعد بضع سنين صار لديه ألف وثلاثمائة فدان، وشعر بأن القدر قد أسعده وبسم له.
ولكن ذات يوم مر به تاجر، وحل به ضيفاً، وأخبره أن هناك أرضاً نائية، تبعد عشرات الأميال، لقوم بُله سُذج، لكنهم طيبون جدا وكرماء ووادعون، اسمهم البشكير، الــ Bashkirs – هؤلاء شعب البشكير -. هناك لديهم أراضي زراعية، لا تغرب عنها الشمس. وهم يُعطون مَن شاء، ما شاء منها، بأبخس الأثمان. يقول التاجر (الضيف) حتى أنني اشتريت ثلاثة عشر ألف فدان بألف روبل. غير معقول! ما الذي يُقعِدني هنا؟
تخيَّلوا! من رجل ليس عنده شيء، إلى رجل الآن يطمع في ثلاثة عشر ألف فدان. قال الألف لدي، الألف روبل عندي الآن، عندي! وامتلك المال، ولماذا أبقى في ألف وثلاثمائة؟ سآخذ عشرة أضعاف بألف روبل.
باع كل ما هنالك، وشد الرحيل إلى أرض ماذا؟ البشكير. وفعلاً وجدهم على النعت. قال له كل ما يلزمك أن تُلطِفهم وأن تُحسِن إلى كبرائهم ورؤوسائهم بأنواع الهدايا، فقط! ثم بعد ذلك هم يُساعِدونك ويُسعِفونك في مرغوبك. فعل! اشترى وهو في الطريق مجموعة من الهدايا اللطيفة الكريمة، ثم قدَّمها إلى رؤوساء البشكير، فأكرموه إلى الغاية.
ما حاجتك؟ قال حاجتي كذا وكذا. قالوا خُذ ما شئت من الأرض. قال لا، الدنيا حياة وموت، وحق وباطل، لا! أنا أُريد كل شيء بالقانون، بيع وشراء، بكم تبيعون؟ وهم أحبوه؛ لأنه قدَّم إليهم الهدايا والألطاف.
قالوا الثمن لدينا لا يتغيَّر، ونحن هنا لا نستخدم المقاييس المشهورة في المساحة. ماذا تستعملون؟ قالوا ألف روبل لليوم الكامل. قال لم أفهم. قالوا تسعى جُهدك بساقيك يوماً كاملاً، أين بلغت، فهو لك، بألف روبل. أينما تذهب، هو لك بألف روبل! شريطة أن تعود قبل أن تغرب الشمس إلى النُقطة التي انطلقت منها، وكل ما تقطعه رجليك، هو لك. قال ولا أحسن! هذا أحسن عرض سمعته في حياتي.
لم يذق غمضاً تلك الليلة، وكيف والأحلام تأخذه وتعود به، تبني له قصوراً، وتفتح له كنوزاً (كنوز قارون)؟ حتى إذا اقترب الفجر أن ينفجر، غلبته عيناه، فرأى حلماً – نختصره الآن ولا نذكره – مُرعباً، قال إنه حلم شيطاني، وأعوذ بالله من شر الشياطين.
حتى إذا أشرقت الشمس قليلاً، وجد القوم في انتظاره على تلة هناك (نُقطة المُنطلَق). فدفع ألف روبل، أي نقدها، لرئيس القوم، الذي وضعها في قُبعته، ووضعها على التل، حتى يتم الاتفاق.
خُذ فأسك، وخُذ معك بعض العلامات البسيطة، وانطلق وعلِّم، بعد كل كذا كيلو علِّم أين تبلغ علِّم، بشريطة أن تعود قبل أن تدلى الشمس للغروب. قال حسن.
أخذ الرجل يُهرول، يُهرول، يُهرول، يُهرول، ويضع العلامات، ويضع العلامات، حتى قارب النهار على الانتصاف، قال هذه الأرض لا يتساوى طولها مع عرضها، فطولها يفضل عرضها كثيراً، علىّ الآن أن آخذ في سمت آخر، لكي يتوازن الطول مع العرض. وأخذ في ذلك، ولكن ضعفت مُنته، ضعفت قوته، وجعل يمشي مِشية أضعف. لا بأس، وكلما تذكَّر أنه سيكون له كل ما قطعه، جدَّد هذا وأحيا فيه ميت الأمل والقوة، فعاد قوياً.
المُهِم، الآن دخل وقت الأصيل، بدأت الشمس تدلى للغروب، أي ما هي إلا ساعة أو ساعة إلا قليلاً، حتى تغرب الشمس. علىّ أن أعود، ويلي! وإلا خسرت كل شيء، ويلي!
بدأ يعود، ولكن أضعف. شعر بضعف وبإنهاك، وقد دميت قدماه وتشققتا، فألقى كل شيء، حتى لم يبق عليه إلا قميص وسروال، وأما الحقيبة فقد ألقاها. كان عنده حقيبة فيها بعض الأكل والشرب، ألقاها! ثم خلع نعليه الثقيلين، قال لا، لا أُريد حتى النعلين. وأصبح كصاحب سيبويه، هذا من شواهد سيبويه!
ألْقى الحقيبة كي يُخَفف رَحْله والزاد حَتَّى نَعله أَلْقَاهَا.
هذا من شواهد سيبويه، فعلاً بالضبط انطبق عليه. وجعل يسير، لكن سير ماذا؟ سير الشيخ المُتهدِّم الواهن. والشمس تتدلى للغروب شيئاً فشيئاً. ويلي! ويلي! وكلما تذكَّر أمله، تزوَّد بقوة جديدة مُضافة، وهكذا وهكذا، في الأخير بقيَ خُطوات يسيرة، بضع مئات الخُطوات، فصار يحبو كحبو الطفل الصغير، يحبو ويلهث، وقد انقطعت أنفاسه. حتى إذا صار عند سفح التل تماماً، وما يبقى عليه إلا أن يُصاعِد، فيبلغ قُنة التل ويستلم الجائزة، وينتهي الأمر، وتُقيض هذه الأرض كلها باسمه، خر المسكين على وجهه، وصرخ صرخة مُنكَرة، قال ويلي! لقد ضاع كل شيء، فقد غربت الشمس، وأسدل الليل عباءته على السهل، فغرق في الظلم.
لكن لم يرعه إلا وصراخ وصيحات الناس في أعلى التل: هيا، هيا. ففهم أنهم فوق، وهو في سُفل، وأن الشمس فوق لما تغب بعد. هو في السُفل، رآها قد غابت. أما هم فقد بقيَ قليل لكي تغيب الشمس في منظورهم. فقام من جديد وتسلق، وبلغ القُنة، وهناك قال رئيس القوم ما أسعده! ما أسعده من رجل قوي العزيمة والشكيمة! قد حظيَ بقطعة أرض لم يحظ به أحد من قبله.
وجاء خادمه يُحرِّكه، فإذا هو جُثة هامدة، وقد نزف الدم من فمه. مات! بلغ ميتاً. فسكت القوم ووجموا، وعلتهم كآبة وحزن عظيمان، ثم أشار رئيس القوم إلى خادمه (خادم باخوم Pahom)، فقام يحتفر له حُفرة. يقول الراوي تولستوي Tolstoy كانت بطول ستة أقدام فقط – أي مئة وتسعين سم -. وقال رئيس القوم هذا حظه من الأرض.
كم يحتاج الإنسان من الأرض؟ يحتاج الإنسان من الأرض هذا القدر الذي سيُدفَن فيه.
يقول عبد الله بن الشخّير – والد مُطرِّف، التابعي الجليل، وهذا عبد الله، وهو صحابي جليل، أي عبد الله – الصحابي الجليل دخلت على رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، فوجدته يتلو أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ۩ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ۩، ويقول يقول ابن آدم مالي! مالي! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ وفي رواية وما سوى ذلك، فذاهب وتاركه. أي لغيرك.
اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى. علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، واهدِنا إلى أحسن مراشدنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
رسالة الخُطبة
لا تستسلم
(ملحوظة هامة) الدكتور عدنان إبراهيم قرأ سؤال أحد الحضور، قائلاً؛ هل نُخلَق بالسعادة وبالشقاء؟ أي يقول لاحظت أن بعض الناس يعيش سعيداً ويموت سعيداً، وبعض الناس ليس كذلك، ترى أنه من بداية حياته تُعاكِسه المقادير ولا تواتيه، ويعيش تعيساً ويموت تعيساً.
أجاب فضيلته بقوله؛ لا! هذا تبسيط واختزال مُخِل جداً للقضية. طبعاً السؤال ليس بتلك البساطة أيضاً، من المعروف أن الشخصية الإنسانية تخضع كثيراً للموروث، للجينات Genes وتأثير الجينات Genes. بعض الناس لديهم استعداد لبعض الاضطرابات، وحتى لبعض الأمراض البدنية ولبعض الأمراض العقلية. قضية المِزاج جُزء منها لا يُستهان به موروث، طبعاً! الشخص الذي يتولد لأبوين كئيبين – مثلاً -، يغلب عليهما التعاسة والتشاؤم والمِزاج السوداوي – أي الـــ Melancholic -، أو حين يكون أحدهما مُتبلغِماً أو سودوياً، يترجَّح أن يكون كذلك، يترجَّح أن يكون كذلك وهذا موجود.
لا أحد يُنكِر أن حتى بين الأطفال الصغار مَن هم كذلك، أي يُمكِن أن تجد هذا حين تأخذ أخوين بينهما سنة واحدة، وُلدا في البيئة نفسها وفي الظروف نفسها، ولقيا تقريباً المُعامَلة نفسها من الوالدين، وكلاهما ذكر أو كلتاهما أُنثى، ومع ذلك أحدهما – مثلاً – يكون بمِزاج انبساطي والآخر بمِزاج انطوائي، أحدهما أميل إلى أن يكون فرحاً مسروراً والآخر أميل إلى أن يكون كئيباً محزوناً. هذا أمر لا يُنكَر، موجود! لكن انتبه، فهذا الجُزء ربما هو الخبر غير السار.
الخبر السار ما تحدَّثنا عنه في أكثر من مُناسَبة، أن الإنسان – بفضل الله تبارك وتعالى – يتمتع بما يُعرَف باللدونة العصبية، أي الــ Neural plasticity. هناك اللدونة العصبية! بمعنى أن بالإمكان ليس تعديل حتى المِزاج فقط، بل تعديل دماغك، فما رأيك؟ وحتى لا أُطيل – ولا أُريد أن أُطيل – أقول أيضاً أنا لي في هذا الموضوع خُطبتان بعنوان التوبة العصبية، وهما عبارة عن تفصيل لهذه الجُملة (جُملة اللدونة العصبية)، وكيف يُمكِن أن نُغيِّر أنفسنا على مُستوى الدماغ نفسه، مسارات الدماغ نفسها. وطبعاً هذا يتعزز بما يُعرَف بعلم الوراثة الفوقي أو الجنيبي، أي الــ Epigenetics، الوراثيات الفوقية.
وباختصار هذا الفرع الجديد والجديد جداً – أي هو حتى لم يمر عليه عقدان من السنوات، مر عليه أقل من عقدين تقريباً – يُفهِمنا الآتي. باختصار هذا الفرع يُفهِمنا أن الظروف البيئية المُحيطية، الإرادة البشرية، الوعي البشري، البصيرة لدى الإنسان، يُمكِن لهذه الأسباب مُجتمِعة أن تُعدِّل من عمل الجينات Genes، وتعمل كمفتاح تشغيل ومفتاح إطفاء – أي أون وأوف سويتش on-off switch – للجينات Genes. فهناك جين Gene موروث عندي، هذا الجين Gene لو تركته هكذا أو تعامل بطريقة مُعيَّنة، سوف يشتغل وسوف يعمل تعبيراً، أي الــ Expression كما يُسمونه، التعبير! وسوف يُظهِر أثره في على مُستوى النفسي بحسب الكلام الآن أو المِزاجي. يُمكِن بطريقة أُخرى للتعامل والنشاط والوعي، أن أعمل له ماذا؟ إطفاءً. فلا يشتغل أو يشتغل جين Gene آخر.
فهذا خبر سعيد جداً جداً جداً، معناه Never Too Late. كان يُقال دائماً Too Late. أي Zu spät، انتهى! تأخَّر. كما أقول دائماً يُمكِن تلخيص مقولات مدرسة التحليل النفسي في صيغتها الفرويدية بالذات، بأن Too Late. أي “راحت عليك”. هناك خمس سنوات تتحكَّم في كل حياتك. في أول خمس سنوات أنا لم أكن في الــ Charge، أنا لم أكن مُتحكِّماً بشيء، أنا كنت محكوماً فيه وعليه، ضحية أمي وأبي وأقاربي وأسرتي الصغيرة وعائلتي المُمتدة، وضحية الـــ Kindergarten أو الروضة، وكذلك المدرسة وما إلى ذلك، هذا إذا دخلت المدرسة؛ لأن لا تُوجَد مدرسة الآن، عمري خمس سنوات، انتهى! فرويد Freud قال لك انتهى كل شيء، أي أنت الآن تزوَّدت بكمية عُقد ومشاكل، ستصحبك طيلة حياتك، ولا يُمكِن التخلص منها. شيء سيء جداً جداً، قمة التشاؤم، لا! العلم الآن يقول هذا الكلام غير صحيح، وهذا ليس على أُسس سلوكية – هناك مدرسة واطسون Watson والسلوكيات وما إلى ذلك -، لا! على أُسس عصبية علمية حقيقية تجريبية إمبريقية. أن Never Too Late، فعلاً Never Too Late. ويُمكِن لك أن تُعدِّل من أشياء كثيرة.
وهذه فائدة خُطبة اليوم وأمثالها من الأفكار، أن لا، لا تستسلم، إياك أن تستسلم لمثل هذه الأشياء. ولذلك أنا أعتقد أن جُزءاً من وعي الإنسان – وإذا أمكن تسميته بالبطولة أو حتى بالعبقرية – يكمن في أنه يتعالى على ماذا؟ على هذه المُحدِّدات، المُحدِّدات الجينية والمُحدِّدات البيئية والمُحدِّدات الخبراتية التي مر بها. سأتعالى عليها بوعيي بها، وأعلم أنني أخضع لها، وأن من شأنها أو من شأني لو استسلمت لها، أن تجعلني الإنسان الكذائي، بالمِزاج الكذائي. وأنا لا أُريد هذا، سأتعالى عليها. أي مُحاوَلة القفز على الظل، وهي مُستحيلة، هنا تغدو مُمكِنة – بإذن الله -. بقوة الإرادة، البصيرة، الوعي الذاتي، الاستعانة بالله، سأفعل. وتستطيع أن تنجح، فهذا ما يحتاجه الإنسان، وهذا يحتاج إلى شخصية قوية، ويحتاج إلى وعي في البداية.
افعل هذا، وستجد أنه ينجح في كل مرة – بإذن الله تعالى -. انتبه، ينجح! ولكن تحتاج إلى مُواصَلة، على كل حال هناك تفصيلات كثيرة مُهِمة علمياً في خُطبتي التوبة العصبية. وكما قلت في الدرس الماضي هذا الأمر يحتاج إلى سنة، لكي تُغيِّر كامل المِزاج، هذا تغيير أبدي – بإذن الله تعالى -، وتُصبِح نُسخة أُخرى، مُمكِن! فهذه الأخبار سعيدة جداً جداً جداً، العلم هو الذي أدلى بها، وليس الفلسفة أو التأمليات.
العلاقة بين السعادة والمال
(ملحوظة هامة) الدكتور عدنان إبراهيم قرأ سؤال أحد الحضور، ثم قال مُعلِّقاً؛ كأنه فهم من خُطبتي أنني انتهيت واستخلصت أو خلصت إلى أن السعادة في التقلل والتزهد، لا! غير صحيح، أنا لم أقل هذا، أنا خلصت إلى العكس تماماً.
جُزء من المُفارَقة يا إخواني، أنك تجد فقيراً وهو سعيد، وتجد فقراء وهم تعساء، وتجد غنياً وهو سعيد، وتجد أغنياء وهم تعساء. إذن القضية لا تكمن لا في الفقر ولا في الغنى، وهذه رسالة الخُطبة اليوم. وطبعاً بسهولة يُمكِن أن آتيك بفقراء سعداء من حارتي، من أهلي، ومن أسرتي الصغيرة أو عائلتي المُمتدة، فقراء! وهم سعداء جداً جداً ورضيون وهانئون ويشيعون الفرح والسرور والرضا فيمَن حولهم، ويُمكِن أيضاً أن آتيك من نفس الأوساط بفقراء بائسين تاعسين جداً جداً، يشيعون الإحباط فيمَن حولهم، وكذلك أن آتيك بنماذج لأغنياء سعداء، وآخرين تعساء، وكل واحد يفعل هذا! إذن القضية حتماً بمنطق علمي صارم بارد ليست لا في الغنى ولا في الفقر، صح! في ماذا إذن؟ في المنظور الذي يُدير به الإنسان حالته المادية. وفي الحقيقة المسألة لا تتعلَّق بالحالة المادية فقط، لا! تتعلَّق بما هو أكبر من هذا بكثير، انتبه! أي هذا اختزال، اختزال – Reduction – معيب بالقضية حين يتم ربط السعادة بالمال، لا! السعادة أكبر من هذا بكثير، فالقضية ليست قضية المال فقط.
لكن مَن الذي يُمكِن أن يختلف معنا، في أن – وربما بنسبة خمس وتسعين في المئة على الأقل – القدر اللازم من المال لتسديد الضرورات والحاجات، لازم فعلاً لتحقيق شرط لا بد منه للسعادة؟ بمعنى أن هذا حاصل في خمس وتسعين في المئة من الأحوال، وطبعاً يُمكِن أن تجد خمساً في المئة من الناس – وأنا لم أعمل إحصائية طبعاً، ويُمكِن أن تكون النسبة حتى أقل من هذا، في هذا العصر يُمكِن أن تكون أقل من هذا بكثير، يُمكِن أن تكون حتى واصلة إلى واحد في المئة أو واحد في الألف – على النحو الآتي؛ الواحد منهم مُعدِم حقيقي، لا شيء عنده، يا سيدي مُتشرِّد، Homeless، في الشوارع! ويُمكِن أن يكون حكيماً، ويُحاضِر في السعادة، ويكون سعيداً جداً فعلاً، ولا يُعاني من أي أمراض واضطرابات، لا نفسية ولا حتى بدنية، ويكون ابن سبعين أو ثمانين سنة، ولا عنده ضغط ولا عنده سكر ولا عنده أي شيء، ومُمتازة حياته، قليل! أي هذا نموذج من عيسى – عليه السلام -.
عيسى ماذا كان عنده؟ ولا شيء. وهو القائل – عليه الصلاة وأفضل السلام، وعلى جميع رُسل الله وأنبيائه – ليس لي زوجة تموت، ولا بيت يخرب، فراشي المدر، ووسادتي الحجر، وسراجي القمر. أنا الذي كببت الدنيا على وجهها. أنا كببت الدنيا على وجهها! هذا عيسى – عليه السلام -، وقلة من العرفاء والأولياء الكبار عاشوا هذه الحياة، مُتقللين مُعدِمين من كل شئ تقريباً، لكنهم كانوا أساتذة في الحكمة والرضا والهناء، قلة قليلة! فهذا لا ينطبق على مُعظَم الناس، مُعظَم الناس ونحن منهم – المعياريون الطبيعيون العاديون، أي الــ Standard people – ليس كذلك، مُعظَم الناس نعم يحتاج إلى قدر معقول (قدر الكفاية) من المال، ليُؤمِّن الحاجات والضرورات.
من الصعب أن تُحدِّثني عن سعادة إنسان لا يجد ما يَطعم ولا ما يُطعِم زوجته وأولاده، ثم يكون سعيداً، مُستحيل! في العادة، وليس في العقل طبعاً، مُستحيل في العادة هذا. هذا المسكين يبقى مهموماً على مدار الأربع والعشرين ساعة، على الأقل إن لم يكن من أجل نفسه وجوعه، فمن أجل أطفاله وصغاره، الذين يتضورون أمام عينيه جوعاً، أليس كذلك؟ عيونهم نهمة إلى كل شيء في أيدي أولاد الجيران، وليس عنده أي شيء هذا المسكين.
وإذا كان هذا في الأكل، فسوف ترى رفاه المسكن، ولكن أي رفاه؟ والمركب، والملبوس، و… لا يُوجَد الكلام هذا! وكذلك جودة التعليم. وهذا لا يُوجَد إطلاقاً، هذا صعب. ولذلك هناك دراسات علمية تشعر أنها مُقنِعة إلى حد بعيد، تقول لك هناك حد مُعيَّن في المال، هو شرط ضروري لتحقيق السعادة، ولكن لا يُحقِّق وحده السعادة، فهو ليس شرطاً كافياً، ولكنه ضروري. انتبه إذن، حين نقول إنه شرط ضروري، لا يعني هذا أنه شرط كافٍ. الشرط الضروري بغيره لا تُوجَد السعادة، ولكن هذا لا يعني أنه إذا وُجد، فستُوجَد السعادة، لا! لكن لا بد منه وأن تنضاف إليه شروط أُخرى، في مجموعها يُمكِن أن تُنتِج السعادة. هذا الفرق بين الشرط الضروري الشرط الكافي في علم المنطق، فهذا مُهِم لكي نُفكِّر منطقياً، لأن بعض الناس تفكيره غير منطقي، يقول لك يا أخي هناك أُناس عندهم هذا. لا، ليس هذا المقصود، المقصود أنه شرط ضروري، وإن لم يكن كافياً، ولكنه ضروري، أي إذا حذفته، فلن تُوجَد السعادة، سوف تُوجَد التعاسة، سوف تُوجَد التعاسة! مهما سمع هذا التاعس المسكين أمثال هذه الخُطب والمواعظ، فلن يكون سعيداً أبداً. كيف؟ على مدار الأربع والعشرين ساعة يُوجَد في مخيلته ابنه الصغير، الذي لم ينم حتى الساعة الثالثة ليلة أمس صباحاً، وهو يتضور جوعاً، وأمه تبكي، ولا يُوجَد شيء!
هذه الدراسات التي – كما قلنا – نشعر أنها مُقنِعة، تقول قدر من المال يبعث السعادة – يُساهِم طبعاً في بعث السعادة -، لكن إلى حد مُعيَّن، ثم بعد هذا الحد مهما زاد المال، لا يُولِّد سعادة مُضافة. انتهى الأمر، انتهى! هذا صحيح، سُبحان الله، وهذا يُخبِرك عنه الأغنياء الكبار، مع أنهم مُفترَسون باللهاث وراء المزيد من الأموال، لكن يُخبِرونك بكل صدقية أن هذا لم يُحقِّق لهم سعادة زائدة، ويقولون يا ليت يُمكِن أن نشتري بهذه المئات الزائدة من الملايين السعادة الأولى، التي شعرنا بها حين امتلكنا أول عشرة آلاف دولار، أو مع أول سيارة خاصة امتلكناها، وكانت بخمسة آلاف دولار، سعادة غير عادية! والآن يمتلك الواحد منهم أسطولاً جوياً أو بحرياً وجُزراً، ولا يشعر بهذه السعادة. ففعلاً هذا صحيح! واضح أن الإنسان لكي يكون سعيداً، ليس عليه أن يمتلك العالم، لا! لكن شرط ضروري أن يمتلك ماذا؟ ما يسد حاجته وضرورته. هل هذا واضح؟
والدين يُوافِق على هذا تماماً، على أن الدين لا يُخاصِم الغنى بما هو غنى، مهما استفحل هذا الغنى، وصار عندك مئات الملايين وحتى عشرات الملايير، لا! الدين ليس ضد هذا، وبالعكس! ويُفهِمك أن هذه الثروة الهائلة الزائدة يُمكِن أن تكون سبباً في رفعة درجتك في الدنيا والآخرة عند الله، ويُمكِن أن تكون سبباً في إسعادك وإسعاد مَن حولك، عدد هائل من الناس! وكما قلنا القرآن يعتبر المال بما هو خيراً، يعتبره خيراً، كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ۩، قال خَيْرًا ۩، فما الخير هذا؟ المال، عند تقريباً جمهرة المُفسِّرين. إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ۩، نائب الفاعل هو الْوَصِيَّةُ ۩، أي يجب أن يُوصي مَن يترك خَيْرًا ۩، ما هو الخير؟ المال، المال سواء المنقول أو غير المنقول، الظاهر والباطن، المال! كل الأموال، وكل ما يُتموَّل ويُمتلَك. الله سماه خَيْرًا ۩. قال – تعالى – وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ۩، لا إله إلا الله! الْخَيْرِ ۩، الله سمى المال خَيْرًا ۩، وقال الإنسان يُحِبه حُبًّا جَمًّا ۩، حُباً شديداً.
فالمال بحد ذاته هو خير، الذي يُحيله إلى خير زائد أو شر جديد، طريقة التصرف فيه، طريقة النظر إليه. بعض الناس يرى أن المال غاية في حد ذاته، اجمع واجمع واجمع و… وماذا بعد؟ هكذا أجمع، حتى أكون أكثر جمعاً من غيري. هذا أحمق، هذا كفيل أن يكون تعيساً وأن يُتعِس مَن حوله. قال – تعالى – في أمثال هؤلاء فَلا تُعْجِبْكَ ۩، وبعدها بعشرات الآيات في نفس السورة وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ۩. عذاب! الله يقول عذاب، هذه الأموال عذاب لأهلها. كيف هي عذاب؟ لأن المنظور غير صحيح، المنظور غير صحيح! منظور الاستكبار والازدهاء والاستعراض، أنا عندي وأنتم ليس عندكم، عندي ولن أعطي، عندي وسأزيد شُحاً وبُخلاً وقسوةً وجمعاً ومنعاً وتسلطاً وتنمراً على عباد الله. أعوذ بالله، هذه لعنة، هذه لعنة وهذا المال أصبح شراً في حقه، مع أنه كان يُمكِن أن يكون خيراً كبيراً في حقه.
ولذلك – كما قلت – أعظم موضوعة ينبغي على الإنسان والاجتماع أن يهتم بها: ما هي الفلسفة التي علىّ أن أنتخبها للحياة؟ ما الذي أُريده من نفسي، ومن مالي، ومن شهاداتي، ومن علمي، ومن سعيي، ومن دقائق حياتي؟ هذا الشيء مُهِم جداً جداً أن تفهمه. إذا اخترت الصح، فستعيش جيداً. وإذا اخترت الغلط، فستكون “راحت عليك”. أنت هكذا تكون اخترت الحياة الغلط، وليس فقط الزوجة أو السيارة أو التخصص، اخترت الحياة الغلط، تخيَّل أن يختار واحد حياة غالطة!
الواحد فينا إذا كان ذاهباً – مثلاً نفترض – إلى مدينة مُعيَّنة؛ ذاهباً إلى غراتس Graz – مثلاً -، ثم وجد أنه بعدما قطع مئة كيلو، أنه في طريق لينز Linz، أي هناك مئة كيلو زائدة – فهذه كلها لا بد وأن يرجعها ثم يضيف مسافة الطريق الصحيح -، يشعر بالإحباط والتعاسة، ويقول ما هذا الذي فعلته في نفسي؟ وهذه المسألة كلها بسيارة جديدة ومُمتازة تُعوَّض في ساعة من الزمان، ساعة هذه، أي لا تُوجَد مُشكِلة يا أخي، وساعة وأنت ذاهب، أي أنت فقدت ساعتين. ولكنك تشعرك بإحباط وغضب من نفسك، وتقول كيف ارتكبت هذه الحماقة؟ فبدل أن أسير مُشرِّقاً، سرت مُغرِّباً! تباً لي ولحماقتي! إلى آخره. نعم، وهذه المسألة تُعوَّض بساعتين، فكيف بهذا الشيء؟ هذا الذي قاله ستيف جوبز Steve Jobs في آخر كلماته قُبيل وفاته، قال كل شيء فقدته يُمكِن أن تُعوِّضه، إلا شيئاً واحداً، لا يُمكِن أن يُعوَّض، وهو الــ Life. أي الحياة، وهذا صحيح.
الرجل يقول لك، أو كأنه يقول لك، أنا اخترت الحياة الغلط. قال في هذه اللحظات وأنا أشم رائحة ملك الموت، أدركت هذا. قال أُدرِك الآن أن ما جمعناه وراكمناه من ثروات، لتصحبنا وتستمر معنا طوال حياتنا، كان ينبغي أن تُجمَع لأهداف أُخرى، غير مُجرَّد الإثراء. أي أن أجمع أموال، وماذا بعد؟ قال لا، غلط هذا، كان لا بد من أهداف ثانية، أي Goals أُخرى، Aims أخرى. فما هي هذه الأهداف الأُخرى؟ قال شيء ربما من قبيل العلاقات. أي الــ Relations، العلاقات! معناها أن هذا الكلام عن ماذا؟ عن التواصل. وهذا أهم شيء، فهذا ليس من قبيل ربما يكون مُهِماً، هذا أهم شيء! هو رقم واحد. قال يُمكِن أن تكون العلاقات، الفن. الفن!
وبعد ذلك قال اجمع كنزك. أي Your treasure. قال اجمع كنزك من حُبك لزوجتك وأسرتك وعائلتك وأصدقائك. هذا الكنز الحقيقي. قال، قال كل ما جمعناه، سنذهب ولن يصحبنا منه شيء. الآن بدأ يتكلَّم بلُغة الوعاظ، هذه لُغة الوعاظ، أي لُغة خُطباء المنابر هذه من ألف وأربعمائة سنة وزُهّاد المسيحية واليهودية، دائماً هذا يُقال، ولكن – كما قلت لكم – المُشكِلة أن الإنسان لا يُصبِح ناطقاً بالحكمة إلا في وقت مُتأخِّر للأسف، أضعت حياتك أنت، أضعت حياتك! وماذا بعد؟ قال اجمع كنزك من هذه الأشياء، اهتم بنفسك، وارع الآخرين.
إذن هذه فلسفة الإسلام، وهذه رسالة الخُطبة التي أردنا أن نُدلي بها اليوم. فنحن لسنا ضد ما ذكرناه. بالعكس! لا تُوجَد حضارة، ولا تُوجَد مدنية، ولا تُوجَد ثقافات حقيقية، تُؤسَّس إلا على الفائض. نحن ضد منطق الفقر والتفقير والكفاف، وفقط! الكفاف لا يُنتِج حضارة، فما رأيك؟ الكفاف على مُستوى حياتك الفردية لا يُمكِن أن يسمح لك بأن تنضج بالقدر الكافي. بمعنى أن هناك إنساناً يشتغل كل يوم ثماني ساعات أو عشر ساعات أو حتى خمس عشرة ساعة أو ثماني عشرة ساعة – كما يشتغلون المساكين في البلاد العربية في اليوم الواحد، في الليل والنهار -، لكي يُؤمِّن فقط الضرورات. بالله عليك قل لي متى يفرغ هذا الإنسان، ليقرأ كتاباً؟ متى يفرغ، ليقرأ جُزءاً من كتاب الله، ويتأمَّل حتى فيه؟ متى يتدبَّر في كلام الله؟ لأن ليس عنده أي وقت، يبقى عنده كم؟ كل ما تبقى ست ساعات، وهذا المسكين سينام كم ساعة منها؟ الإنسان يحتاج على الأقل إلى سبع ساعات أو ثماني ساعات. هل سينام أربع أو خمس ساعات؟ فمتى سيلتقي بزوجته وبأولاده؟ متى سيرى جيرانه؟ متى سيرى الاجتماعيات الكثيرة في حياته؟ لا يُوجَد وقت، لا يُوجَد وقت!
هذا يبقى مثل آلة للأسف، قُضيَ عليها أن تُستهلَك، من أجل أن تُؤمِّن مطعومها ومشروبها، فهذا أشبه ببهمية، وهذا مُستحيل! وهذه الأنظمة الفاسدة والأنظمة الظالمة، تسرق ثروات الشعوب، وتجعلهم وتُلحِقهم بالبهائم، يُستهلَكون ليل نهار في العمل دون أن يحصلوا إلا على الفُتات وأقل القليل، شيء غير طبيعي!
فإذن المنطق هنا واضح، أن منطق الكفاية فقط و”على القد” لا يُمكِن أن يُنضِج فرداً، فكيف يبني حضارة؟ لا يُمكِن أن يبني حضارة. ولذلك قال برتراند راسل Bertrand Russell وفلاسفة الحضارة، قالوا الحضارة بناها الفراغ. أي فراغ الوقت، لا بد أن يكون هناك وقت زائد لكي أبني حضارة. فرق بين إنسان يشتغل من أجل أن يُحرِز رغيف عيشه، وبين إنسان عنده مئة رغيف وفي الوقت الفارغ يُنتِج لوحة فنية أو ينتحت تمثالاً أو يُؤلِّف كتاباً أو يُعالِج مُشكِلة ميتافيزيقية أو يكتب بحثاً علمياً، فهذه الحضارة، أليس كذلك؟ هذه الحضارة! فالحضارة يُنشئها الفراغ، والفراغ لا يأتي إلا بعد توفير ماذا؟ الضرورات والحاجات، الضرورات والحاجات!
لذلك منطق التزهيد والتفقير والحرص عليه والضغط عليه من بعض الوعاظ، هو منطق مُدمِّر للمشوار الإنساني، منطق ضد الحضارة، وضد المدنية، فهذا منطق جاهل. ديننا عكس هذا تماماً، لذلك قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – نِعم المال الصالح، للرجال الصالح. وعندنا حديث ذهب أهل الدثور – أي الأغنياء – بالأجور. لأنهم يصلون ويصومون وما إلى ذلك، ولكن عندهم فضول وأموال، يتصدَّقون بها. فالنبي قال للفقراء إذن أنا سأُعلِّمكم مسألة إن شاء الله، فربما تبلغون مقامهم، وهي أن تذكروا الله، تسبحوا وتحمدوا وتهللوا وتكبروا. فسمع الأغنياء، وعملوا ذلك. قالوا يا رسول الله، سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله! قال ذلك فضل الله، يؤتيه مَن يشاء.
ولذلك اختلف علماؤنا عبر العصور – وهذه القضية مشهورة جداً جداً – حول أيهما أفضل: الغني الشاكر، أم الفقير الصابر؟ انظر إلى هذا، مُجرَّد أن هذه المسألة طُرحت واختلف فيها الأئمة والعلماء، هذا يدل على أن الإسلام في روحه إسلام حضاري، وليس إسلاماً زُهدياً تزهيدياً تفقيرياً تقليلياً كفائياً أبداً. قضية الغنى بحد ذاتها، لا تُوجَد أي خصومة – بفضل الله – للكتاب والسُنة ووعي المُسلِمين معها إطلاقاً.
وحقيقة الزُهد ماذا عنها؟ فقد يقول لي أحدكم فكيف هذا إذن؟ هناك الزُهد طبعاً، الزُهد مُفرَدة إسلامية أصيلة. نعم، الزُهد في حقيقته لو فهمته كما فهمه الأئمة، ومنهم دُعاة الزُهد الكبار، مثل أبي حامد الغزّالي، أنت ستُراع، ستُراع! أبو حامد الغزّالي في الإحياء، أفهمنا أن الزُهد في القلب، وليس في اليد. الزُهد في المنظور! بمعنى أن عندي المال، ولا أُريد أن أجعله هاويةً أبلغ قرارها بالاتخام الشهوي الرغبوي، أكل وشرب ومُضاجَعة وتملك، مثل البهيمة! وبعد ذلك أجد أنني هويت، لا أُريد هذا أبداً، إنما أنا أُريد غير ذلك من هذه الأموال، بعد أن أخذت حظي منها؛ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۩، وعندي بيت مُمتاز، وعندي سيارة جيدة، وعلَّمت أولادي أحسن تعليم، وهم يعيشون في مُستوى راقٍ، وما إلى ذلك، نعم! وعندي فضول أموال كثيرة، تكفي عشرات ألوف الأُسر مثل أسرتي، نعم! أنا سأستخدم هذا المال وهذا الفائض، ليس كنزاً، تُكوى به جبهتي وجنبي وظهري، أبداً! وإنما سلماً للحرية، للتحرر من ماذا؟ من المطامع ومن الشُح. وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۩، في موضعين من كتاب الله، قرن الفلاح بأن يُوقى الإنسان الشُح والحرص والبُخل.
يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – في حديث كعب بن مالك، الذي أخرجه الترمذي بسند حسن، ما ذئبان ضاريان أُرسِلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه. عنده حرص، يُريد المال، فقط من أجل المال. لا! أنا لست حريصاً على المال، أنا أُريد مزيداً من المال، أُؤدي به حقوق فضيلة عندي. الفضائل والمكارم لها حقوق علينا، أليس كذلك؟ أي من باب يصلون مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ۩، أنا أصل ما أمر الله به، ليس فقط بالبسمة وبالكلمة الطيبة، وبالمال أيضاً.
أحياناً هذا الفقير المُعدِم من أهلك وقراباتك، أو حتى معارفك وجيرانك، لا تكفيه البسمة والكلمة الطيبة، وهي مطلوبة، يحتاج إلى ماذا؟ إلى بعض فضول أموالك. أعطه، أعط وتحرَّر. فيكون المال سُلماً إلى الحرية وإلى النُبل والفضيلة. تتحرَّر به من شهوتك، من ضعفك، ومن الحرص. وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۩، وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۩. فلسفة عظيمة، الإسلام عظيم جداً.
فأبو حامد الغزّالي قال لك هذا الزُهد. الزُهد هو هذا! انظر؛ لُغوياً حين يقول أحدهم إنك تزهد في شيء، هل يعني هذا أنك تزهد فيما لا تملك؟ لا طبعاً. أنت لا بد أن يكون لك الشيء وفي يدك، ثم تزهد فيه، لاعتبارات جديدة أُخرى. أليس كذلك؟ فالذي يزهد الغني. أي الفقير لا يملك أن يزهد أصلاً، مَن الذي يزهد؟ الغني. بدليل قوله – تعالى – وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍۢ دَرَٰهِمَ مَعْدُودَةٍۢ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّٰهِدِينَ ۩، هو عندهم، بضاعة! هو أخوهم وهم يقدرون على أن يبيعوه، ولكنهم خائفون من الفضيحة، خائفون من أن يراهم بعض مَن يعرفونهم، فيقولون نعم، والله لقد رأينا أولاد يعقوب يبيعون أخاهم يوسف. ومن ثم تكون هناك فضيحة. فقالوا سوف نبيعه بأي ثمن، سوف نبيعه بأي شيء. فإذن هم زهدوا في شيء… ماذا؟ في طوع أيديهم، في ملك لهم. طلباً لشيء أرجى عندهم، وهو السلامة والستر من الفضيحة. هذا الزُهد إذن.
وواحد عنده مال، لم يُنفِقه كله في شهواته، طلباً لشيء آخر، وهو التحرر ومرضاة الله ورفعة المنزلة عند الله. هناك الإنفاق! القرآن كله عن الإنفاق، الإنفاق… الإنفاق… الإنفاق… أليس كذلك؟ وهو من أصعب الأشياء على الإنسان. ولذلك يقول أبو حامد الغزّالي كلمة عظيمة جداً لا تُنسى، قال فسُليمان بن داود – عليهما السلام – في مُلكه كان من الزاهدين. وهو في مُلكه، كان ملكاً! سُخر له الإنس والجن والطير، كنوز الأرض أُعطيت له، كان من الزاهدين. الله! هذا زاهد. قال، لأنه كان يسلك في مُلكه وفي أمواله بطريقة أُخرى. هل هذا واضح؟
هذا الزُهد، وهكذا هي فلسفة الإسلام في الزُهد، والموضوع طويل يا إخواني.
العلاقة بين تلبية الشهوات والسعادة
وعموماً الأشخاص الـ Hedonic، أو الشهويون من البشر، دائماً كان هذا شعارهم. شعارهم ما هو؟ ما مضى فات، والمُؤمّل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها. أنا لا أستطيع أن أوافق على هذا المنطق، إلا ضمن قيود جديدة، وضَّحها لنا العارفون بالله (خُبراء النفس). أعظم خُبراء في النفس البشرية – على حد علمي البسيط – هم العارفون بالله. أنا لم أر بشراً يقدرون على أن يفهموا النفس البشرية، مثل العارفين بالله، لأن كل جهادهم وكل نضالهم وكل عملهم عبر حياتهم الطويلة أو القصيرة، كان لمعرفة الناس والتبصر بها والوعي بها وبغوائها ودواخلها وخوافيها وأسرارها وحيلها وأخاديعها وأفائكها وطرائقها. شيء عجيب يا أخي! لا تقل لي هناك فرويد Freud ولا أدلر Adler ولا يونغ Jung، ولا أي واحد اقترب من هؤلاء، شيء عجيب هؤلاء الناس. ومع ذلك يُوجَد منهم أُناس كان هذا الشعار عندهم، وهو ماذا؟ الصوفي ابن وقته. الذي ذهب، انسه. انتهى، هذا ذهب وانعدم. والذي سيأتي غير مضمون، هذا عند الله، اتركه لله، فهذا ليس لك. اشتغل في هذه الساعة.
بهذا المعنى نعم يُمكِن للصوفي أن يقبل هذا الشعار أو هذه الفلسفة، بهذا المعنى! بمعنى ماذا إذن؟ بمعنى أن لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، لا تحزن على شيء راح، ولن تخاف من شيء آتٍ، أو حتى حال، واهتم بالحاصل، الحاصل هو هذه اللحظة، أطع الله فيها، اسلك فيها كما يُحِب الله، لو جاءك ملك الموت، لن تندم، على ما ملأتها به، لأنك الآن ملأت هذه اللحظة بشيء يُرضي الله.
قال لك هذه الخُطة الصحيحة لكي تشتغل. لكن انتبه، هل يملك الإنسان وهو يفعل هذا إلا أن يستحضر بطريقة ما المُستقبَل؟ مُستحيل، لا يملك إلا هذا، وهو طبعاً يستحضره دائماً، وإلا لماذا هو يعمل هذا؟ انتبه! المادي الفاني الذي يظن أنه ضمن موجودات الطبيعة وبموته يفنى فناءً عدمياً، هذا – أنا أقول لك – صعب أصلاً أن يكون فاضلاً، صعب جداً!
ومن الصعب على المنظور الإلحادي أن يُنتِج بشراً فعلاً أخلاقيين حقيقيين، بخلاف المنظور الإيماني، أنا أعمل، وكل ما أعمله، أعلم إنما أختزنه وأمهد به لحياة أُخرى، أضعه في بنك الآخرة. فهذا الذي يجعل المُؤمِن بالذات إنساناً فوق فاضل حتى، وفوق نبيل، وأعظم من فاضل – والله -، وأعظم من نبيل. المُؤمِن بهذا المنطق هو الوحيد فعلاً الذي يعمل عملاً، ولا تعلم شماله ما أنفقت يمينه. فهو حتى يُحاوِل أن يهرب من ضميره، لا يُحدِّث ضميره أنه فعل وأعطى وما إلى ذلك، أبداً أبداً أبداً! يعمل هذا حُباً في الله وتقرباً إلى الله، ويعلم أن الله يُحِب هذا. هذا شيء عظيم جداً على كل حال، لكن هذا فقط جواب سرع.
(انتهى التعقيب بحمد الله)
فيينا 20/9/2019
أضف تعليق