أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، يا ربي لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه، كما تُحِب وترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، ونشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا محمداً عبد الله، ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين المُنتجَبين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا وعليكم، والمُسلِمين والمُسلِمات، معهم بفضلك ورحمته أجمعين، اللهم آمين.
ربنا تقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا يا مولانا، إنك أنت التوّاب الرحيم. اللهم تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركعونا وسجودنا ودعاءنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا، وبلِّغنا مما يُرضيك آمالنا.
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً.
ثم أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفُضليات:
جميعاً السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أيها الإخوة، والأخوات:
موعدنا اليوم مع اسم جديد من أسماء الله الحُسنى – سُبحانه وتعالى -، إنه اسم المُهيمن – جل جلاله -.
وهذا الاسم الكريم لم يرد أيضاً إلا مرة واحدة في كتاب الله، كاسم المُؤمِن، وكاسم السلام؛ فالمُؤمِن لم يرد إلا مرة، والسلام لم يرد إلا مرة. القدوس ورد مرتين، المُهيمن ورد مرة واحدة، أيضاً في آخر سورة الحشر.
المُهيمن. جيد، ما معنى المُهيمن؟ المُهيمن – أيها الإخوة، والأخوات – هو القائم، أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۩، وأمس استمعنا إليها من سورة الرعد. هو القائم على كل نفس، أجلها، ورزقها، وعملها، وكل ما يتعلَّق بها. هذا هو المُهيمن. بماذا يقوم – سُبحانه وتعالى -؟ بماذا؟ يقوم – سُبحانه وتعالى – باستيلائه وباطلاعه وبحفظه. والاطلاع هو العلم؛ لأنه مُطلع بماذا؟ مُطلع بعلمه، طبعاً وبسمعه وبصره – تبارك وتعالى -. إذن باطلاعه، وباستيلائه، وبحفظه.
قال حُجة الإسلام الغزّالي – قدَّس الله سره الكريم – وهذه المعاني الثلاثة مَن اجتمعت فيه، استحق اسم المُهيمن. ولا تجتمع على الكمال والإطلاق، إلا في مَن؟ في الله. المُطلع اطلاعاً مُطلَقاً، مَن هو؟ الله. لا أحد غيره، مُستحيل! أي لا يُوجَد بشر بكل الوسائل يستطيع أن يطلع اطلاعاً مُطلَقاً، مُستحيل! أي البشر قُصاراه أن يزرع لك أجهزة تنصت وتجسس، في كل شيء، حتى في سنك، صحيح! ويعرف أشياء كثيرة، أي كما في القصة المشهورة؛ قصة الجاسوس الروسي، الذي زرعت له المُخابَرات الأمريكية (السي آي إيه CIA) جهاز تصوير في سنه. طبعاً معروفة هذه القصة ومشهورة جداً في علم الاستخبارات، وطبعاً الرجل بعد ذلك كان خجلانا وخزيانا من نفسه، وقال أنا الذي كبر علىّ ليست الأسرار التي أُفشيت، وإنما لأنهم أحصوا عدد قُبلاتي لزوجتي. أي ما هذا الشيء؟ ما هذه المُصيبة؟ وكل شيء في سنه، صحيح!
يُمكِن للبشر أن يفضحوا أمرك على هذا النحو، ولكن هل يستطيع البشر أن يطلعوا على ما في سرك، على ما في ضميرك، على ما في فؤادك؟ مُستحيل. لكن الله – تبارك وتعالى – يعلم منك ما لا تعلمه أنت من نفسك، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ۩، وهذه الآية طبعاً يُمكِن أن تُفسَّر بأكثر من طريقة، أي العلم الحديث تقريباً أضاء ناحية أو جانباً من هذه الآية. حين حدَّثنا علم التحليل النفسي بالذات عما يُعرَف بالعقل الباطن – أي الــ Unconscious، الإيد Id، العقل الباطن، أو العقل اللاواعي، أو ما يُعرَف باللاشعور – استطاع أن يُضيء جانباً من هذه الآية، لماذا؟ الواحد منا قد يفعل العمل، وهو يظن أنه يفعله مثلاً من أجل كذا وكذا، وفي الحقيقة ليس الأمر كذلك، وهذا المسكين نفسه لا يعلم، يكون هناك دوافع لاشعورية، هي التي تجعله يقوم بهذا العمل.
زارني مرة أحد الإخوة – ولعله يكون موجوداً معنا هنا، ولن أذكر اسمه – في البيت، ورأيته وقد حلق (شنبه)، أي شاربه، فقلت له يا أبا فلان، لماذا حلقت الشارب؟ قال والله حلقته، لأن هذا أحسن، أي هذه نظافة. فقلت له لا، أنا لا أقتنع بهذا الشيء. قال كيف؟ قلت له أتُريد – وزوجته كانت حاضرة معه في الزيارة – أن أُقدِّم لك تفسيراً؟ قال تفضَّل. قلت له صدِّقني، حسبما أعلم من شخصيتك وتركيبتك، مُستحيل أنت أن تحلق شنبك. وطبعاً هذا لأن الإنسان عنده شخصية، وكل إنسان عنده شخصية وعنده مُواصفات مُعيَّنة! قال كيف؟ قلت له أنت ربما حين حلقت الشنب هذا، رأيت فيه شيباً، فأزعجك ذلك. غزاه الشيب، فأزعجك ذلك! فربما وأنت تقص، حدثت أي حركة، أنت لا تستحبها، وهذه الحركة أنت تظن أنها حدثت رُغماً عنك، ويكون اللاشعور هو الذي دفعك، بأن تفتعل هذه الحركة، فتأخذ جالاً أو جانباً من الشنب، وطبعاً سيخرب، سيصير كالكبوت، انتهى! وستقول لا، هذا لا ينفع، سنحلقه كله. قال لي عجيب! ولعله يكون جالساً معنا، ويعرفه هذا الأخ؛ بسّام. قال لي عجيب! فقلت له لماذا؟ قال هذا الذي حدث بالضبط. قلت له وكيف؟ قال نعم، وأنا أحلق الشنب، حدث هذا. وفعلاً – قال لي – أنا رأيت فيه الشيب، وأزعجني ذلك. بالضبط هو الشيب! فجاءت ابنتي تعبث، فانحرف المقص – أي طار هكذا -، فأخذ جانباً منه، فقلت إذن سأحلقه. لكن كيف عرفت؟ قلت له هذا التحليل النفسي، هذا هو! وأشياء كثيرة يُمكِن أن تُعرَف بهذه الطريقة نفسها.
فرويد Freud نفسه، وهو مُؤسِّس التحليل النفسي، كان جالساً مرة هكذا، وحصل معه هذا. فرويد Freud كان مُغرَماً بتجميع التماثيل والتُحف الفنية الصغيرة، أي المنمات هكذا، يُحِب ذلك جداً، أشياء صغيرة هكذا! فكان على مكتبه في بيته مجموعة من هذه التُحف، غالية الثمن، أثمانها غالية جداً، مُرتفِعة! جاءت أخته، وكانت ذوّاقة، أي صاحب ذوق فني، فقال لها ما رأيكِ؟ وطبعاً يهمه جداً ذوقها ورأيها، طبعاً مُهِم! قال لها ما رأيكِ في هذه التُحف؟ فقالت هي ليست جيدة جداً، أي لا بأس. فقال لها كيف لا بأس؟ تُحف ثمينة، هذه دفعت فيها الكثير. فقالت لا بأس. المُهِم هو امتعض داخلياً، فرويد Freud نفسه! وهو طبعاً – وهذا العجيب فيه – كان يُحلِّل كل شيء، وكان يُحلِّل حتى نفسه، وحتى يُحلِّل أخطاءه، لا يرحم حتى نفسه! وطبعاً لا نُصادِر ولا نُصادِق على كل ما قال، ولكن هناك أشياء يُمكِن أن تُستفاد من مناهجه بلا شك، وفعلاً فيها عُمق وفيها عبقرية فذة. والرجل كان عالماً، أي اتركوا كلام علمائنا المُسلِمين الطيبين، وهم جيدون ولهم نية حسنة. يُقال فرويد Freud يهودي، فرويد Freud كذا وكذا، فرويد Freud تحدث عن الجنس وغير الجنس. صحيح، جيد! ولكن هناك جانب علمي خطير في الرجل، وهو عالم كبير جداً جداً، ولا تستطيع أن تُنكِر ذلك، والرجل عنده علم، وعنده قدرة تحليلية خارقة للعادة، لا بد أن نستفيد من بعض ما كتب هذا الرجل. صحيح هناك بعض الجوانب السلبية في فكره، وطبعاً نحن لا نُصادِق عليها، إطلاقاً! هذا شيء آخر، ولكن طبعاً أن يُختزَل في الأخير على أنه شكل شيطان بشري، ولم يقل إلا كل كلام باطل، فهذا للأسف أسلوب غير صحيح لدينا الإسلاميين، للأسف! في تناول الأمور، وتناول حتى الإنتاج الفكري، أي لنا وللآخرين.
فامتعض في داخله، وبعد قليل، دخل في ثيمة Theme أُخرى، وفي موضوع آخر، وبدأ يتكلَّم ويُشبِّح بيديه هكذا، وبحركة هكذا منه، أزاح التماثيل. وإذا بكل هذه التماثيل الصغيرة تقع، فإذا هي جُزاز، على الأرض، كلها تكسرت! وطبعاً قال للأسف وقعت. وأبدى أسفه وغضبه، قال كيف؟ آه، ما هذا؟ ما هذه الحركة؟ ثم عاد إلى نفسه، ثم رجع – بالتعبير القرآني – إلى نفسه، رجع إلى نفسه! وقال لا، أي مُستحيل أن تكون هذه الحركة حركة هكذا، هناك دافع لاشعوري. طبعاً ووجده أمامه جاهزاً؛ أخته حين صدمته بتقويمها الذي لم يُعجِبه، جعلته يمتعض من هذه التماثيل. أي بعد ذلك كلما نظر إليها – كما تعرف – سوف يتذكَّر أنه دفع فيها ثمناً باهظاً، وهي لا تستأهل ولا تستحق، فأراد أن يتخلَّص منها، من أجل أن يُريح ضميره وأن يُريح نفسه. فهذه الحركة كانت حركة لاشعورية، أليس كذلك؟ والدافع لاشعوري. ولكن مقصودة للاشعور، اللاشعور يُريدها، أي جُزء من تكوينك يُريدها.
طبعاً الله – تبارك وتعالى – يعلم كل هذه الأشياء، يعلم الشعور فيك واللاشعور، أرأيت؟ طبعاً! وأحياناً حتى الكافر يكون لديه ذلك، الكافر أحيانا يكون لديه كذلك! والقرآن الكريم حدَّثنا عن هذه النظرية النفسية، القرآن بشكل واضح جداً حدَّثنا عن الكفّار وهم في أطباق جهنم، يتساءلون أين عمّار؟ أين بلال؟ أين صُهيب؟ أين الجماعة، يا جماعة؟ نعم! ما هذا؟ وكيف يكون؟ لا بد وأن يكونوا معنا! كلنا نكون هنا. كان عندهم قناعة مُطلَقة، أنهم على حق، وإذا كانوا على باطل، فمعناها من باب أولى أن يكون محمد وأتباعه معهم في جهنم، فلماذا لا يأتون الجماعة؟ معناها الإنسان إذا تعوَّد أن يكذب وأن يُغرر نفسه إلى آخر الخط، يصل إلى درجة ينطلي فيها كلامه على نفسه. مثل أي واحد فينا الآن يفتعل حلماً مثلاً أو رؤيا! يقول أحدهم والله أنا رأيت النبي في المنام مرة. يُقال له رأيته؟ وهل أنت مُتأكِّد؟ فيقول تقريباً، قالوا لي هو الرسول. نعم، يا الله! يُقال له رأيت أو لم تر أنت؟ فيقول والله قالوا لي هذا، هناك صوت قال لي هذا الرسول. يا رجل، اتق الله، هذا الشيء خطير. ويظل يحكيها بعد ذلك، يرى أُناساً وأولياء لله، منهم مَن رأى الرسول، منهم مَن حضن الرسول، ومنهم مَن ضم الرسول، فيقول لك نعم، هذا حصل معي أنا، من ثلاثين سنة، وأنا حتى رأيت الرسول مرة. الآن بدأ ماذا؟ يُصدِّق أنه رأى الرسول. رأيته؟ نعم، ولكن هذا وأنا صغير، ونسيت، ولكن رأيته، ومُتأكِّد، هو الرسول. وهو يختلق ماذا الآن؟ جُزءاً تكميلياً للرؤيا، أن عنده هذا، ويُصدِّق نفسه!
إذا ظل يُردِّد هذه الأكذوبة وهذه الفرية عشرة أو عشرين أو ثلاثين مرة، فسيصل إلى درجة – وقد يكون صار كهلاً أو شيخاً، وعمره ستون سنة – يُقسِم فيها أنه رأى الرسول في طفولته، ويكون مُتأكِّداً بنسبة مئة في المئة، وهو يقول لك هذا، وكل هذا خيال، خيال في خيال! فنعوذ بالله من الكذب والكاذبين وعادة الكذب. خطير جداً الكذب هذا، فهذا كله هو عمل اللاشعور، عمل الجهاز اللاواعي في الإنسان، والله يعلم هذا، ويعلم كل شيء! يعلم الدافع الحقيقي، الذي دفعك لتفعل. فإذن كيف نتخلَّص من هذا الشيء؟ وهذه مُصيبة والله العظيم، مُصيبة! قد يقول أحدهم أنا – والله – أُدرِّس لوجه الله. لا، ليس لوجه الله، أنت تُدرِّس لوجه نفسك. طبعاً حتى ينبسط الناس منك ويقولوا نعم، هذا فهمان وعالم ومُطلِع، ما شاء الله، وكذا وكذا! وينبسطون بك، نعم! هذا هو. فكيف أعرف إذن؛ هل أُدرِّس لوجه الله، أم أُدرِّس لوجه نفسي؟
وطبعاً في درجات مُعيَّنة يُمكِن أن تكون الحكاية واضحة؛ لأن الذي يُنافِق ويكذب، أمام نفسه يعرف من حاله أنه يكذب، يعرف حاله تماماً، أليس كذلك؟ ولكن هناك أُناس لا يكون الواحد منهم للأسف كذلك، هو يُحاوِل أن يُخلِص، ويُحاوِل أن يكون صادقاً، ولكن هناك صراع، وهو لا يعرف نفسه، هل هذه لله، أو للنفس؟ للنفس، أو لله؟ ويعيش في صراع! أليس كذلك؟ هذه هي القضية، هذه هي القضية! فكيف؟ أنا أقول لك لا يُوجَد عندي دواء، وهذا صعب جداً، ولكن الدواء طويل، وله علاقة بدرس اليوم، وهو أن تُعلِّم نفسك العيش مع الله دائماً، ورقابة الله في السر والعلن. الشطارة أن تُراقِب الله في السر، هذه هي الشطارة! تُعلِّم نفسك هذا في السر. وأنا مُتأكِّد طبعاً من أننا كلنا نكون رائعين أمام أنفسنا؛ يا الله، ما أحلانا! نحن مُمتازون جداً جداً طبعاً، لا نرى من أنفسنا إلا الوجه الحلو، نُصلي وما إلى ذلك، نحن مُمتازون! ونقول اللهم صل على النبي، وسُبحان الله، والله. وهذا كله جيد، لكن حين تعود إلى بيتك، وتجلس وحدك، كيف تتصرَّف؟ مع أهلك، وأنتم وحدكم، كيف تتصرَّف؟ مع أولادك، وأنتم وحدكم، كيف تتصرَّف؟ مع صديقك الذي يعرف خباياك، وقد عجنك وخبزك وأكلك، كيف تتصرَّف؟ تفتح له كل اللي عندك؛ لأنك لا تستطيع أن تمثل عليه، وإلا يقول لك ما هذا؟ أهذا سيسوغ علىّ؟ يقول لك أهذا سيسوغ علىّ؟ ها أنا أعرفك، أي هل تتصرَّف الآن وكأن صرت القُطب الجيلاني؟ فاسكت. فأنت لا تقدر على هذا، معه تبدو الدخيلة الحقيقية، ومع ذلك لا تزال هناك أشياء أقرب المُقرَّبين إليك لا يعلمها، أنت تعلمها، أليس كذلك؟ والله يعلمها. وهنا المُصيبة، هنا الكارثة، أن يكون الإنسان قد عوَّد نفسه على أن يظهر أمام الناس بمظهر طيب، مظهر ورع، تقي، زاهد، وإذا خلا بنفسه، لا يرجو لله وقاراً، كارثة! مثل هذا مُستحيل، ومن المُستحيل، أن يصل إلى درجة الصادقين أو المُخلِصين، مُستحيل! ومُستحيل أن ينمو ويتبلور لديه معيار نفسي، أو معيار سلوكي، يُميِّز به بين العمل الذي يصدق فيه، والعمل الذي يُرائي به، لن يقدر! سيبقى كالأعمى، الأمور كلها مُختلطة عليه، ويغضب جداً جداً إذا انتقده واحد من الناس، أو اتهمه، أو وجه إليه نصيحة، طبعاً لأنه يصير سيد المُخلِصين، فيصير يعبد نفسه، ويلف حول ذاته دون أن يدري. وهذا طبعاً للأسف لا يُقبَل منه عمل، كل أعماله لا تُقبَل، مردودة عليه، وهو أشرك ماذا؟ أشرك نفسه.
ذات مرة جاء أحدهم للإمام والعارف بالله أبي اليزيد البُسطامي، الذي ربما تسمعون به؛ طيفور بن عيسى، أحد أقطاب الأولياء القدماء، كبير جداً – رحمة الله عليه -. وهذا الرجل أخذ العهد، وصار صوفياً، جيد! وكان يحضر الدروس، وتدروش وما إلى ذلك، وكان يسمع الأذكار، ويقول ولا تُوجَد فائدة. يسمع كل يوم أن من التَلاميذ، مَن يقول أنا الحمد لله حدث لي من الفتوحات كذا وكذا وكذا وكذا. ومنهم مَن يقول أنا رأيت كذا وكذا في المنام. ومنهم مَن يقول أنا صار لي كذا وكذا. يا الله! مر عليه شهر ثم شهران ثم سنة ثم سنتان، ولم ير من هذه الأشياء شيئاً، لم ير أي شيء، ولا أي شيء! كما هو. فقال له يا إمام، يا أبا اليزيد، أنا لي معكم كذا وكذا – أي من المُدة -، فما هذا؟ كلكم ترون، ويُفتَح عليكم، وأنا ما قصتي؟ لم أر شيئاً إلى الآن أنا، لا يُوجَد شيء من هذا الكلام. فقال له إذن هو من عند نفسك. العيب فيك، العيب فيك! فقال لي كيف يكون في، وأنا أعمل مثلما تعملون؟ قال له أنت ما أتيت لوجه الله. قال له يا رجل، اتق الله. قال هذا لشيخه! انزعج من شيخه، كيف يقول له هذا.
قال كيف هذا؟ أنا أتيت لوجه الله طبعاً. قال له لا، ليس لوجه الله، أنت لو أتيت لوجه الله، لفتح الله عليك، ولأعطاك من فضله. العلة دائماً من القابل، ليست من الفاعل. الله يُعطي النفحات للجميع، موجودة ومتاحة، ولكن جهاز الاستقبال خربان عندك، معطوب، ولن يستقبل، لا يُوجَد! هناك تشويش. جهاز الاستقبال المُمتاز السليم الرهيف، يستقبل مُباشَرةً، ويُترجِم الصور والكلمات والأشياء، ويرى صاحبه فتحاً وكشفاً، ويعرف خيره من شره إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ۩، تعرف الفرقان؟ أي ستُميِّز به بين الحق والباطل، فتعرف – سُبحان الله -، حين تنظر إلى وجوه الناس، تعرف مَن هذا ومَن هذا، فراسة إيمانية! فتعرف مُباشَرةً، تعرف أشياء غريبة جداً جداً، والناس لا تعرف أنك تعرف، فكيف؟ هذا من الله – تبارك وتعالى -.
نعم، فقال له لا، وما إلى ذلك، وكابر الرجل. فقال له جيد، أنا سأُثبِت لك أنك ما أتيت لوجه الله، ولذلك أنت محجوب عن الله، الله إلى الآن يحجبك، أنت المحجوب، أنت الذي حجبت نفسك. إذا خلعت الحجاب، فستصير مُقرباً عند الله، ولن تُوجَد مُشكِلة. جاء واحد إلى أحد الأقطاب الكبار، وقال له يا مولانا، أتيت لك من مسيرة ستة أشهر. قال له سافرت لك ستة أشهر! أي أُريد أن أتعلَّم عليك وأصل إلى الله. قال له يا بُني، ليست القضية أو ليست المسألة بقطع المسافات، إنما هما خُطوتان – يُقال خَطوة وخُطوة، وكلاهما فصيح، أو كلاهما فصيحان -. قال إنما هما خُطوتان؛ خُطوة تنخلع بها عن نفسك، وخُطوة تصل بها إلى ربك. هذا هو! لن تدخل، إذا كنت تأتي إلى الله بنفسك. وما معنى بنفسك؟ أي بالهوى، أي بالشهوة، بالكبر، بالبطر، بالغطرسة، بالغش، بالدغل، وبوساخة النفس. مُستحيل أن تدخل، مُستحيل! حضرة القُدس الإلهية لا يُمكِن أن تدخلها نفس مثل هذه، لا يُمكِن! والله لو بقيت لمليون سنة تبكي وكنت مُتقطِّعاً حسرة، لن يفتح الله لك بابه. اذهب وطهر نفسك، وإلا كيف تدخل في حضرة الله وأنت وسخ؟ مُستحيل! طهِّر، مُباشَرةً يُفتَح لك الباب، أليس كذلك؟ هذا هو، شروط إلهية هذه، لا يُمكِن غير هذا! أما أن تأتي وتتذلل وتبكي، وأنت غير طاهر في الداخل، فالله لن يعبأ بك.
موسى رأى أحد الرجال المساكين (غلبان) وهو يدعو الله، ويبكي، أي شيء عجيب. رآه هكذا في أول يوم، وفي ثاني يوم، وفي ثالث يوم، وهو يدعو، ويدعو، ويدعو، ولا فائدة! ودموعه أنهار. فرفع يديه – أي موسى، عليه السلام – وقال يا رب، أجب دعوة هذا العبد المسكين الضارع الورع. ذبح نفسه هذا، يبكي من ثلاثة أيام ولا يرى الجواب. قال له وعزتي وجلالي، لو بكى حتى تتقطع أوصاله، ما نظرت فيه. يُمكِن أن يصرخ وما إلى ذلك، ولا فائدة. مثلنا نحن الآن، نصرخ قائلين يا الله، يا الله. وفي ليلة الختم، في السابع والعشرين من رمضان، يُجن الناس في مكة وما إلى ذلك. وطبعاً الإنسان يفرح بالشيء هذا؛ لأنه موجود. وأحياناً يعود ويحزن، ويقول آه، فهل يُمكِن فعلاً أن يتقبَّل الله هذا منهم؟ هل يُمكِن أن يُجيب دعاءهم ويُحرِّر الأقصى وما إلى ذلك؟ هل هذا مُمكِن؟ لا، لأن الله لا يُريد هذا، يا الله وبكاء، وبعد ذلك ماذا؟ ونرجع ونحن كذبة مع أنفسنا ومع الله، كذب، كله كذب! وطبعاً هناك صادقون والحمد لله، ولكن الله يُريد الصدق العام، لا بد وأن يكون أكثرنا صادقاً، وليس أن يكون أكثرنا كاذباً. وطبعاً يُوجَد صادقون ويُوجَد أولياء فينا، وهم كبار – والحمد لله – في أمة محمد، ولكن حين يكون الكذب هو الفاشي، لا يعبأ الله بهم. اذهبوا، وصرخوا قائلين يا الله، وابكوا قدر ما تستطيعون، ولن أنظر إليكم. أصلحوا أنفسكم في الأول، وارجعوا، ارجعوا إلى الله حقاً، أروا الله الصدق من أنفسكم، لكي يتقبلكم، أليس كذلك؟ ويرفع عنكم البلاء الذي صبه عليكم، هذه هي!
فقال له وعزتي وجلالي، لو بكى – تصوَّر – ودعا، حتى تتقطع أوصاله، ما نظرت فيه، حتى ينظر في حقي عليه. فليذهب ويُراجِع نفسه، ويُراجِع حساباته، يضبط أموره، وبعد ذلك فليأت إلىّ. أرأيت؟ يأتي إليك أحدهم، وحقوق الناس عليه (متلتلة) هكذا، ولا يُحِب أن يقضي حقوق الناس، هناك دين وهناك شيء غير الدين، وهناك مظالم وما إلى ذلك، ولكنه لا يُريد قضاءها، ويتناسى! والآن هناك أُناس – سُبحان الله -، الله أعطاهم أموالاً، أليس كذلك؟ أعطاهم أموالاً. يأتي رمضان، فيكون الواحد منهم حريصاً جداً على أن يُصلي، وهذا الشيء طيب جداً جداً، والحمد لله، ومن أحسن ما يكون! ويكون حريصاً جداً على أن يختم القرآن أربع مرات أو خمس مرات أو ست مرات أو عشر مرات، ويكون حريضاً على أن يصلي التراويح وما إلى ذلك، ولكن آخر شيء يُفكِّر فيه الزكاة، يُحاوِل أن يتنساها، يقول نؤجلها إلى وقت آخر، في آخر أسبوع، أو في آخر يوم. يا أخي هذه الزكاة، زكاة مالك! فريضة عظيمة جداً جداً، ومُستحيل أن يتقبَّل الله منك العبادة وأنت تترك هذا الرُكن من الدين. يقول نعم هناك الزكاة، ولكنني لا أعرف هل عندي النصاب أو ليس عندي. أي وكأنه لم يحسب حسبته، وهو (مدكن). يقول والله لا أعرف هل مر الحول أم لم يمر. يا أخي احسب، احسب! لو كان لك حق على أحد، لحسبته (على داير المليم). ولكن حق الله عليك لا تحسبه، وتدّعي أنك متغافل، وتظن أنك فقير، في ماذا أنت فقير؟ مَن عنده خمسة وعشرون ألف شلن نمساوي، عنده النصاب، وأنت عندك ما هو أكثر من هذا بكثير، أليس كذلك؟ فلماذا أنت تُؤجِّل؟
وطبعاً هناك أُناس – ما شاء الله – تجدهم على العكس من ذلك، وهم كثيرون، ويستفتونني – ما شاء الله عليهم، كثَّر الله أمثالهم، وثبَّتهم -. والله يُخرِجون الزكاة قبل أوقاتها، ويخافون من الموت قبل إخراجها. قال لي واحد أنا أخاف من أن أموت. فقلت له على كل حال أنت غير مُكلَّف، ولا يجوز أن تُخرِجها قبل وقتها، وعند المالكية لا يجوز، وعند غيرهم يجوز وهو الراجح، النبي كان يأخذ زكاة العباس قبل سنتين، يستقرضه زكاة ماله لسنتين قادمتين، جائز! والدليل الصحيح يقول بالجواز، وإن خالف في ذلك السادة المالكية. ولكنه قال لا. انظر، انظر إلى أي درجة بلغت التقوى، هذا هو، هذا هو! هذا الطراز من المُؤمِنين الذي يُحِبه الله ويُقرِّبه – تبارك وتعالى -. قال لي لا، أنا لا أنتظر مثلاً إلى شهر شوال، وزكاتي تُخرَج في شوال، أنا أُحِب أن أُخرِجها في رجب مثلاً أو في شعبان؛ خشية أن يموت، وبعد ذلك ربما لا يُخرِج أهلي زكاتي. انظر إلى هذا الورع، انظر إلى هذه التقوى! وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ ۩، يُبادِر بالأعمال الصالحة، هذا هو المُؤمِن، هذا التقي. وإخواننا المصريون ماذا يقولون؟ (ما بتهونش إلا على الفقير). وهذا صحيح، سُبحان الله! تجد أن الفقير الذي ليس عنده الكثير، هو مَن تهون الدنيا عليه، ويُعطي ويكرم، وليس عنده مُشكِلة، والذي أعطاه الله الكثير، هو الذي يمنع ويسد ويتغافل، مُصيبة هذه، تخيَّل! نعم، فهناك أشياء وقوانين شرعية، هذه هي، لا بد وأن نفهمها كما هي.
ونرجع إلى ما كنا فيه، فأبو اليزيد سيُثبِت لهذا الرجل أنه لم يأت لوجه الله، ولم يكن يذكر لوجه الله، ولم يعبد لوجه الله. قال له جيد، أثبت لي. قال له جيد، اخلع عنك هذه الثياب الفارعهة. وهو – أي الرجل – كان تاجراً من الأغنياء، كان من التجار، وعنده وجاهة وعنده مال. قال له اخلع عنك هذه الثياب الفارهة، والبس مسوحا. وهذا لباس الصوفيين، شيء مقطع هكذا وفيه خرق وغير حسن، قال له وخُذ معك سلة فيها جوز، وامش في الشارع. ألبس المُرقعة هذه، وأمشي بسلة فيها جوز، وأنا تاجر مشهور في البلدة؟ قال له والأطفال سيقولون مجنون، جُن أبو فلان، ويضربونك بالحجر، مَن ضربك بحجر، أعطه جوزة. قال سُبحان الله، يا أبا اليزيد، ألي تقول هذا؟ سُبحان الله! قال له ما سبحته، والله ما سبحت إلا نفسك. انظر، انظر إلى الملاحظ التي عند هؤلاء العارفين، يا أخي شيء عجيب. وفعلاً هو حين قال سُبحان الله، فعلاً لم يُسبح الله، الكلمة هي سُبحان الله، ولكن هو سبح مَن؟ سبح نفسه؛ سُبحاني، جل مقامي أن يُقال لي هكذا، أي أن ألبس هكذا وأخرج به كالأهبل على الناس، مُستحيل! أنا؟ ولكن هو قال هكذا سُبحان الله، كلمة تُقال على اللسان، وأبو اليزيد كشف له عن الحقيقة، وقال له ما سبحت الله، سبحت نفسك، أنت عابد لنفسك، تعبد نفسك! وحين أتيت، لم تأت لتتقرب من الله ولتطهر نفسك، أتيت للكرامات. يُريد الكرامات! وهناك أُناس مثل هذا، يقول أحدهم أعطني أذكاراً، وأعطني أوراداً. لماذا؟ لكي يصير عنده كرامات. إذن أنت تعبد نفسك يا مسكين، أنت الآن تعبد شهوتك، شهوتك في الكرامة، تخيَّل! نعم، يقول لك ستصير عندي كرامة – بإذن الله -، فأصير أدعو، وحين أقول الدعاء، يُستجاب، ويقطع قطعاً. أُريد أن أنتقم من هذا ومن هذا ومن هذا! فما هذا؟ هل ربنا سيُعطيك كرامة؟ نعم، هناك أُناس بالعقلية هذه، هناك أُناس يُفكِّرون بالطريقة هذه، يقول أنا أُريد أن أصير هكذا، الله يُعطيني كرامة – إن شاء الله -، لكي أدعو الله، ويُعطيني أموالاً، وأتصدَّق بها. وأتصدق بها؟ وأهم شيء عنده هو أن يبني قصراً طبعاً، ويبني فيلا، ويعمل كل مُشتهياته. هذا جهل، وهذا جاهل بالدين، لا يزال غير فاهم. الله أعظم من كل هذه الأشياء، الله أجل من كل هذه الأشياء، والأُنس به أفضل من كل هذه الأشياء مُجتمعة.
إذن المُهيمن – تبارك وتعالى – مُهيمن باطلاعه، وباستيلائه، وبحفظه. لا تخفى عنه خافية، ولا تغيب عنه غائبة. قال – تبارك وتعالى – فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ۩ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ۩. الله أكبر! في اللحظة التي تكون فيها وحدك، أو مع إنسان، تتعاونان على معصية الله، تذكَّر أن الله حاضر، وسيقص عليك هذا المشهد. سيقول لك تعال، في الساعة الفلانية، في اليوم الفلاني، كنت وحدك، وعملت كذا وكذا وكذا وكذا، فلماذا؟ أجعلتني أهون الناظرين إليك، أو أخف المُطلِعين عليك؟ فماذا ستقول له؟ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا ۩ إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ۩، في سورة يونس – عليه السلام -، أرأيت؟ هذا هو، كل شيء! ولا يكون إلا كذلك، في كل أحوالك، هو موجود معك، وعارف ومُطلع على كل شيء. مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ۩، حين يكون هناك ثلاثة يتوشوشون، أي يتحدَّثون بصوت مُنخفِض، يعرفهم ويسمعهم ويعرف كل شيء عنهم، هذا هو! حتى وأنت وحدك – كما قلنا -. يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ۩، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ۩.
سُئل الحارث المُحاسَبي – قدَّس الله سره – عن المُراقَبة؛ ما هي المُراقَبة؟ قال أول المُراقَبة أن يُوقِن العبد بأن الله يراه. هذه لا تزال أول درجة في المُراقَبة. أتقول لي أنا من أهل الرقابة؟ أول درجة أن يكون عندك يقين بأن الله يراك. سأل أحدهم سُليمان بن عليّ، وكان أحد الصالحين وكبار الواعظين، قال له يا شيخ، عِظني. فقال الآتي. واسمعوا هذه الموعظة العجيبة، جُملة من فقرتين! قال يا شيخ، عِظني. فقال له إن ظننت أنك تعصي الله – تبارك وتعالى – وهو يراك، لقد جرأت على أمر عظيم. أي إذا أنت كان عندك هكذا اعتقاد؛ فتعصي الله وتعرف أنه يراك، فإذن أنت عملت شيئاً كبيراً جداً جداً، كيف تعرف أنه يراك وتعصيه؟ ما هذا؟ قال وإن ظننت أنك تعصي الله وهو لا يراك، فقد كفرت. انظر إلى هذه الموعظة العجيبة، أي والله! تهز الإنسان هذه الموعظة. أي أنت بين أحد شيئين – أي هذا البعيد -؛ إما أن تكون أتيت أمراً عظيماً جداً جداً، أو كفرت. هناك معصية فظيعة، وما هي هذه المعصية الفظيعة؟ ليست العمل وحده، لا! أنك تُقدِم عليه، وتعرف أنه يراك، وأنت مُستحضر لهذا، وتقول أُريد أن أعمله أيضاً، وهو يراني. أف! قال له أمر عظيم هذا، ليس سهلاً، أي لا يزال بخير ألف مرة مَن لا يعرف في اللحظة هذه أن الله يراه، ومَن يكون ناسيا، وأعاذنا الله من ساعة الغفلة كما يُقال، أعاذنا الله وإياكم من ساعة الغفلة. يكون غافلاً ومطموساً عليه، وبعد ذلك يتذكَّر، فيبكي المسكين، ولكن هناك مَن لا يكون كذلك، حين يعصي ويكون ذاكراً وعارفاً، والرحمن… الواعظ من قلبه يقول له يا فلان، اتق الله، فإنه يراك، اتق الله، واترك هذا، ولكنه يقول لا، أُريد أن أعمل هذا. أف! هذه معناها أن إيمانك ممسوح، صفر!
فقال له ماذا؟ لقد جرأت على أمر عظيم. وإن ظننت أنك تعصيه وهو لا يراك، فقد كفرت. إذن كافر أنت، عقيدتك باطلة. فاختر لك واحدة من الاثنتين! انظر إلى هذه الموعظة المُخيفة، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ۩، أَلَمْ يَعْلَمْ ۩. ومن هنا، من هنا الأدب الكامل مع الله – تبارك وتعالى – في الخلوات والجلوات، في الخلوات والجلوات! في السر والعلن، في الوحدة والاجتماع.
في الحديث ليأتين أُناس يوم القيامة بأمثال جبال تهامة ومُضر من العمل الصالح، من صالح العمل! فلا يعبأ الله – تبارك وتعالى – بها، ثم يأمر بها، فتكون هباءً منثوراً. أعمال صالحة مثل الجبال! النبي قال والله يجعلها كلها هباءً منثوراً، ولا ينظر فيها، كلها كلام فارغ. لماذا يا رسول الله؟ مَن هؤلاء إذن؟ هل هم مُنافِقون؟ هل هم كافرون؟ قال لا، بل هم منكم، مُسلِمون، يُصلون كما تُصلون، ويصومون، ويزكون، ويأخذون وهناً من الليل. بالعكس هم حتى أُناس عندهم مزيد عبادة، أي يقومون شيئاً من الليل أيضاً، يقومون شيئاً من الليل! فما المُشكِلة؟ ما مُشكِلتهم؟ قال ولكن أحدهم كان إذا خلا بمحارم الله، انتهكها. حين يكون وحده، لا يحترم ربه، يعصي الله، ويقول لك الناس لا يرونني. أرأيتم؟ فظاعة. لا! لا بد من الأدب، والدين كله – كما قلنا في الدروس السابقة – يدور على ماذا؟ جوهر الدين يدور على ماذا؟ على إحراز الأدب مع الله، في كل الأحوال.
روى الإمام الترمذي الآتي – وهذا الحديث تعرفونه، ولكن موضعه هنا، إن شاء الله، أي في مثل هذا الدرس -، وأبو داود، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، وكان له صُحبة. روى عن بهز بن حكيم، وهذا من مظان الحسن دائماً. بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، هذا من الأسانيد ماذا؟ من الأسانيد الحسان. وهي من مظان الحسن. كما يقول علماء المُصطلح.
عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، وكان له صُحبة، قال قلت يا رسول الله، عوراتنا؛ ما نأتي منها، وما نذر؟ السوءات، العورة! أي كيف نتصرَّف معها؟ ما الأدب في موضوع العورة؟ كيف يكون؟ هل نلبس، أم نتجرَّد؟ ما الأمر؟ احك لنا. وانظر إلى هذا السؤال، والله سؤال ذكي، ولكن انظر إلى الجواب، كم هو عجيب! الآن لو أي عالم، سئل هذا السؤال: عوراتنا؛ ما نأتي منها، وما نذر؟ والله سوف يُكثِر – مثلي هكذا – ويُحدِّثك لمدة ساعة، ولكن انظر إلى الرسول، بجُملة واحدة، قال له احفظ عورتك، إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك. انظر إلى هذه البلاغة، صدق رسول الله؛ أوتيت جوامع الكلم، وفواتحه، وأوساطه، وخواتمه. شيء عجيب، بلاغة غير عادية يا أخي، السُنة النبوية هذه شيء غير طبيعي.
موضوع العورات كله لخصه في جُملة واحدة، قال له احفظ عورتك، الأصل الستر، ألا تُرى، وتكون محفوظة دائماً، تتحرز على العورة، إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك. قال قلت يا رسول الله، الرجل يكون مع الرجل. قال إن استطعت ألا يراها أحد، فافعل. حتى ولو رجل! في آخر السؤال قال له يا رسول الله، الرجل يكون خالياً. جيد، هذه فهمناها – قال له -، وماذا حين أكون وحده؟ قال له الله أحق أن يستحيا منه الناس. يا الله! أرأيتم كيف يكون الأدب إذن؟ وحتى حين تكون وحدك، لا بد وأن تعرف أن الله معك ويراك، فهو أحق أن يُستحيا منه من الناس.
الإمام عليّ – عليه السلام، وكرَّم الله وجهه – لم ير عورةً قط، لا من نفسه ولا من غيره، ولذلك يُقال كرَّم الله وجهه. حين جاءت معركة صفين، ظهر له طبعاً عمرو بن العاص، ووقع تحته، فهل عمرو بن العاص يقدر على سيدنا عليّ؟ لا ينال منه شيئاً، ولا عمرو ولا ألف مثل عمرو، فعليّ هو سيف الإسلام، وفارس الإسلام. يقول علماء الفروسية الإمام عليّ كان فارساً كاملاً، وعنترة بن شداد كان ثلاثة أرباع فارس. عليّ فارس كامل، شيء عجيب! نادر جداً جداً في كل تاريخ البشر أن يُوجَد فارس مثل الإمام عليّ – عليه السلام، وكرَّم الله وجهه -. لا فارس إلا عليّ، ولا سيف إلا ذو الفقار. النبي قال لا أحد غيره، هو الفارس! فما هذا؟ أي واحد كان يقف أمامه، كان يطيح في لحظات، هذا هو، لا يصمد أمامه شيء، هناك قوة إلهية أعطاه الله إياها.
فالمُهِم، جندل عمرو بن العاص، ووضعه تحته، وهو يُريد أن يذبحه، انتهى! لأن هذه حرب. وبعد ذلك حين بدأ يرفع سيفه، ذهب. فقالوا له لماذا تركته؟ أي أصحابه طبعاً، هؤلاء أهل العراق. لماذا تركت هذا؟ هذا عمل لنا مصائب؟ كان من الأفضل أن تذبحه! قال لهم لأنهم مكّار، وهذا هو عمرو بن العاص. كان داهية، وهو من دُهاة الإسلام الأربعة، كشف عن عورته. وهو يعرف أن الإمام عليّاً من المُستحيل أن يرى عورة، حين رآه يكشف عنها، تركه. وجعل يمشي مُباشَرةً؛ لأنه لم ير عورةً قط، لا من نفسه ولا من غيره، ولا من زوجته. ولذلك نقول كرَّم الله وجهه. وقيل لأنه لم يسجد لصنم. ولكن صحيح طبعاً أنه لم ير عورة قط. وكان يقول – وإن كان الحديث ضعيفاً – النظر إلى العورة، يُضعِف البصر. تصوَّر! غير جيد، الإنسان والمُسلِم بالذات عنده – كما قلنا – أدب، وعنده نزاهة عالية، عنده أدب وعنده نزاهة عالية! لماذا؟ هذا كله لدوام المُراقَبة.
وهناك الحديث الذي أخرجه مُسلِم – وطبعاً البُخاري لم يُخرِّجه – وأصحاب السُنن والإمام أحمد، المُهِم هذا حديث عمر، جبريل جاءكم يُعلِّمكم دينكم، قال له فأخبرني عن الإحسان. قال له أن تعبد الله، كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك. ما معنى أن تعبد الله، كأنك تراه؟ مقام ماذا؟ ماذا يُسمونه هذا؟ المُشاهَدة، مقام المُشاهَدة! كأنك تراه، كأنك تُشاهِده. وهذا من أعلى المقامات! اسمه مقام المُشاهَدة، ولكن هذا صعب، والنبي يعرف أنه صعب، صعب جداً جداً أن تصل إلى هذا الشيء، فلا أقل – أضعف الإيمان، وهذا سهل على كل مُسلِم – أن تُوقِن بأنه هو يراك، وهذا طبعاً من الإيمان، هذا هو، أي مُسلِم يعرف ذلك. صحيح أنا غير قادر على أن أصل إلى درجة كأنني أراه فعلاً، فعلى الأقل ألا أنسى أنه يراني. فهذا يُسمونه مقام ماذا؟ المُراقَبة. الأول مقام ماذا؟ المُشاهَدة. والثاني – وهو أقل وأنزل منه، وهو مقام شريف أيضاً، ولكن الأول أشرف وأعلى وأخطر وأهم – اسمه مقام ماذا؟ المُراقَبة.
قالت إحدى العارفات من السلف، كما قال ابن رجب – رضيَ الله تعالى عنهما، قالت هذه العارفة بالله الآتي، هذه امرأة عارفة بالله – مَن عبد الله على المُشاهَدة، فهو العارف، ومَن عبد الله على المُراقَبة، فهو المُخلِص. ميَّزت بين العرفان والإخلاص، إذن مَن أفضل؛ العرفان، أو الإخلاص؟ العرفان. أرأيتم؟
فنسأل الله أن يجعلنا من الصادقين، وأن ينفعنا بصدقنا – إن شاء الله تبارك وتعالى -، يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۩.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
أضف تعليق