إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الحق – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩
آمين، صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
سيُفاجأ أي منا لو قام بمجموعة فحوص واختبارات على حالته الصحية البدنية، سيجد أن قلبه ربما ليس بتلك الكفاءة التي كان يتوقَّع – أو الكبد أو الرئتين أو الكُليتين أو ضغط الدم أو… أو… أو… إلى آخره – قبل أن يُجري هذه الفحوصات خصوصاً إذا كان لا يُعاني مُعاناة ظاهرة كان سيُعطي نفسه النهايات العُظمى.
نفس الشيئ لو أنه أُجريت اختبارات للحالة النفسية والعقلية لأي منا، في أغلب الظن لن يتحصَّل على النهايات العُظمى كما يظن، كل منا يظن أن حالته النفسية جيدة ما لم أيضاً يكن يُعاني مُعاناة ظاهرة بحيث تضطره إلى الذهاب إلى المُحلِّلين أو الأطباء أو حتى الدجّالين والمُشعوِذين وربما المشايخ الصالحين، سيشعر بأنه بألف خير وعافية، مُمتاز، أحسن من جميع الناس، لكن لو أُجريت هذه الاختبارات بدقة علمية سيتفاجأ بأنه لم يتحصَّل أيضاً على النهايات العُظمى، وأحياناً حتى ولا على الوسطى، سيتفاجأ!
ما أُريد قوله من خلال هذه المُقدِّمة الصادمة وغير المُفرِحة هو أن مسالكنا أيضاً وتصرفاتنا مع أقرب الناس وأحب الناس إلينا – مع أزواجنا وأولادنا – ليس بالضرورة أن نتحصَّل فيها على النهايات العُظمى، ونظن أننا ناجحون ومُمتازون وقد أفرغنا ذمتنا من كل مسئولية ومُساءلة، إنما العيب في الطرف الآخر، العيب في هذا الولد الشقي الذي أصابني بالجنون ولا أستطيع ولا أتصوَّر كيف أتعامل معه، أو مع هذه البنت المنكودة، عاثرة الحظ، التي لا تفتأ كل يوم تصدمني بالجديد، إن في دراستها، إن في مسلكها مع أخواتها، مع إخوتها، مع أبيها، ومع أمها، نحن بألف خير، لكن نحن ضحايا.
هذا منطق الاستضحاء كما أُسميه، وهذا المنطق يُفرغ عن ويصدر عن كثير منا، لا أقول كلنا، لكن كثيرون، كثير منا منطقهم في الحياة منطق استضحائي، يتعاملون على أنهم ضحية، وطبعاً الضحية أولاً غير مسؤول، المسؤول غيره، ثانياً الضحية كما أنه غير مسؤول عن أسباب الخلاف وأسباب الفشل والعثار الناجم هو أيضاً غير مسؤول عن العلاج، إنه ضحية، هو فقط يكتفي بالتشكي والتباكي وتقريع هؤلاء وتشويه صورتهم أمام القريب والبعيد إذا اقتضى الأمر والحال، لأنه ضحية، ليس مسؤولاً!
الضحية بارئٌ تماماً من منطق الفعل والمُبادَرة، مُستحيل! هو ينتظر ربما تلك اللحظة القدرية الإلهية السعيدة التي تُحيل كل هذا الغم إلى سعادة، كل هذا الفشل نجاحاً، وكل هذا التعثر مُواصَلةً واستمراراً، ربما تأتي هذه اللحظة، ولكن – صدِّقوني – بالكوارث والنكبات، لن تأتي بكل هذا التوفيق والإصلاح والإسعاد، مُستحيل! الله – عز وجل – لا يتعامل مع البشر بهذا المنطق، ولا يُريد لهم أن يفهموا الدنيا والأحوال والأمور بهذا المنطق أبداً.
هو أيضاً ضحية لأنه يجترح ويصطنع لُغة يكثر فيها اللوم والعتاب والإحباط والنكد والتنكيد، هذا منطق الضحية دائماً! يكثر فيها ذكر محامد صبره وكظمه للغيظ، صبرت على هذا سنين – كما قالت السيدة – وسنين، لم أشأ أن أُعبِّر عما في نفسي، لم أشأ أن أجرح الآخرين، مع أنهم يجرحهم يومياً بالمُناسَبة، هو يدّعي الصبر، اعتصمت ولذت بالمُسامَحة والصفح، سامحهم الله، غفر الله لهم، وبالمُناسَبة بين مُزدوَجين أقول (الضحية لا يملك أن يكون مُسامِحاً أبداً، المسؤول هو الذي يُسامِح، الذي يكون في موقع القوة هو الذي يستطيع أن يصفح وأن يُسامِح، أما الضحية والذي لا يزال ينظر إلى نفسه على أنه ضحية كيف يُسامِح؟ هذا نوع من الضحك وتضليل الضمير، نُضلِّل ضمائرنا! لا نستطيع أن نصفح، نستطيع أن نفهم كيف يصفح ويسمح أب شاب قوي في مُقتبَل عمره عن ابنه الصغير، ابن خمس سنوات أو ست سنوات أو عشر سنوات، نفهم هذا جيداً، إنه يصفح ويسمح، لكن لا نستطيع أن نفهم أو نتقبَل كيف يصفح ويسمح سجين هضيم مظلوم بإزاء سجّان ظالم طاغية يتجاوز كل حدود الأخلاق والدين، صفعه على وجهه من غير ما سبب، فيقول سامحك الله، في الحقيقة هو – بالعكس – يقول أخذك الله، لعنة الله عليك، لكنه لا يملك إلا أن يقول سامحك الله، مُضلِّلاً ضميره كما قلت، من باب ماذا؟ من باب الإغراق أيضاً في الاستضحائية، لا تقل لذت واعتصمت بالمُسامَحة، أنت لم تُسامِح ولم تصفح ولم تعرف هذا الشيئ، أنت لا تُمارِسه أصلاً، للأسف هكذا نُضلِّل أنفسنا).
يُقال كل شيئ في الحياة ابتُكِر مرتين، وهذا صحيح إلى حد بعيد جداً، بمعنى أنه حين تصطنع خُطوات تنظيرية أو نظرية لمُعالَجة حالة ما يكون هذا هو الابتكار الأول، ولن يكون الأخير، لن يكون النهائي، لماذا؟ لأنه لدى التطبيق ستضح وتتكشَّف لك جوانب أُخرى كثيرة، غير التي وضحت وتكشَّفت لك عند التنظير، أليس كذلك؟ وهكذا يتم ابتكار الشيئ مرتين، مرة لدى تنظيره، ومرة أُخرى لدى مُعالَجته ومُكابَدته، لدى تطبيقه كما يُقال.
في لُغة النجارة – النجّارون يعرفون هذا – يقولون خُذ المقاس مرتين ثم اقطع مرة واحدة، وهذا جميل جداً، بمعنى أنه يجب عليك لدى التنظير ألا تستسهل ولا تعتسف ولا تعتبط، بالعكس! التنظير مُهِمة صعبة جداً، بعض الناس يقول أُجرِّب، لا! التجربة أحياناً قد تُكلِّف، قد تُفيد بلا شك لكنها قد تُكلِّف، هذه الخشبة التي لم تأخذ مقاسها إلا مرة واحدة ثم قطعتها وكان القطع على غير محزه هل يُمكِن إصلاح هذا القطع فيها؟ انتهى، أحياناً يكون هذا القطع طلاقاً، طلاقاً بائناً! أي أحياناً يكون طلاقاً بائناً، أحياناً يكون هروب أحد أفراد العائلة أو ارتكابه حماقة كُبرى أو جريمة عُظمى قد تُودي به – والعياذ بالله – أو بسُمعته أو بسُمعة الأسرة، قد تُودي به إلى السجن عشرين سنة أو عشر سنوات أو خمس سنوات، وقد يكون بنتاً، لذلك التنظير مُهِمة صعبة، نحتاج أن نُعيد مُحاكَمة المفاهيم السائدة والمُتعارَف عليها والتي نُصادِق نحن كأفراد أيضاً ومُربين – آباء وأمهات – عليها، نحتاج أن نُعيد مُحاكَمة هذه المفاهيم بدقة، وأن نُعيد اكتشاف أنفسنا، كما قلنا في الخُطبة السابقة الوعي بالذات، الوعي بالذات هو ما يُمكِّن من إعادة اكتشاف الذات، سوف تكتشف نفسك من جديد، وسوف ترى أشياء كثيرة في ذاتك لم تكن تراها من قبل، ما رأيك؟
هذا هو الواقع، وأيضاً يقتضي هذا التنظير الجيد أن نتسلَّح بالمعرفة وبالعلم الكافي، أن نقرأ وأن نستفهم وأن نستفسر من ذوي الحكمة والخبرة ومِمَن لهم خُطوات أكثر فساحةً وأكثر بُعداً على هذه الطريق، لابد من هذا أيضاً، بعض الناس لا يُكلِّف خاطره حتى أن يقرأ مقالة في موضوعات تربوية، ويُريد أن يُربي وينجح، مُستحيل! هذا اعتباط وهذا تعسف، وحتماً سيفشل، بعض الناس يقول أنا أكتفي ببعض النصوص المُقدَّسة في القرآن وفي السُنة، صحيح! أنا لدى تفكيري عميقاً في هذه المسألة وجدت أن النصوص فعلاً قد تكفي، بالذات في موضوعة التربية، لكن بأي معنى؟ وبأي كيفية؟ إذا أحسنت إضاءتها أنت، وأنت لن تُحسِن إضاءتها إلا على خلفية معرفية عميقة جداً وعلمية ومُؤسَّسة، أما أن الرسول كان يُوجِّه دائماً إلى الأحسن وإلى ما هو أفضل وأدق فهذا لا شك عندنا فيه، لكن للأسف حتى هذه التوجيهات وهذا التراث النبوي الكريم والغزير والخصيب شوَّهناه وقزَّمناه وأظلمناه، بماذا؟ بإلقاء ظلامات، بإلقاء أشياء مُعتِمة قاتمة عليه من ثقافتنا السائدة، من مفاهيمنا، ومن عاداتنا، ثم نزعم أننا نفهم النص، وأننا ننطلق من النص، غير صحيح! نحن نجور هنا على النص، ولأضرب مثالاً واحداً بسيطاً جداً.
في ثقافتنا السائدة، في تعاملاتنا، وفي سلوكاتنا مع صغارنا ومع صغار غيرنا ننطلق كثيراً من مفهوم الرحمة، موجود هذا لدينا، ولدينا أحاسيس طيبة والحمد لله، ولكن قل أن انطلقنا أو ننطلق من مفهوم الاحترام، حتى حين يُذكَر الاحترام يُوحي مُباشَرةً بالكبر، كبر السن أو كبر القدر، خُطورة المكان! أما طفل يُحترَم فهذا غير وارد لدينا، لذلك نحن نادر جداً – في حيز أو في حكم المعدوم – أن نقول لأطفالنا – أبناء ست أو سبع أو ثماني سنوات من فضلك، لو تفضَّلت، شكراً، بارك الله فيك، ولو سمحت، هل يُمكِن هذا؟ هذا غير معهود لدينا، مُستحيل! لا يُخاطَب الطفل بهذه الطريقة، كما قلنا في الخُطبة السابقة حتى المرأة للأسف لا تُخاطَب بهذه الطريقة، تُخاطَب بلهجة الأمر دائماً، الأمر العُلوي التسلطي القهري الاستغلالي! فكيف بطفل؟ أنقول له من فضلك، لو تفضَّلت، شكراً لك، وبارك الله فيك؟
من تجربتي الشخصية أكثر شيئ شدني في طفولتي – وكنت ابن تقريباً عشر سنوات أو إحدى عشرة سنة – إلى المسجد ولزمته وكنت حمامة من حمائمه أن قال لي أحد المشايخ بارك الله فيك، هزتني هذه الكلمة، أيُقال لي أنا بارك الله فيك؟ أنا لم أسمع ولم أعتد أن أسمع هذه الكلمة إلا للكبار، الكبار في السن دائماً يُقال لهم هذا، أما أن يُقال لطفل بارك الله فيك حين يأتي شيئاً طيباً فكيف؟ لم أسمع هذا، أول ما سمعته لنفسي، وهذا الذي ثبَّتني في المسجد، ربما رسم حياتي كلها، تعامل بسيط من شخص واعٍ مُبارَك مُؤدَّب وعنده لياقة حتى مع طفل صغير في مثل سني آنذاك.
فمثلاً نحن لا ننطلق من مفهوم الاحترام، الذي سيُكسِب الصغير أولاً شعوراً بذاته، احتراماً لكينونته، شعوراً بالأمان، شعوراً بالاستقرار، وشعوراً بالاحترام لغيره، لن نُعيد العبارة التي شرحناها في الأسبوع الماضي أو ربما في مُناسَبة أُخرى، وهي لا يحترم الآخرون إلا مَن يحترم نفسه، لن نُعيد شرحها، الذي يحترم حتى الصغار هو إنسان مُحترَم، ويحترم نفسه أولاً قبل أن يحترم الآخرين طبعاً، على كلٍ فمثلاً هذا غير موجود في ثقافتنا السائدة، لكن في السُنة النبوية عشرات الأدلة والشواهد تدل على أن مَن؟ على أن رسول الله وهو مَن هو – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – كان يتعاطى مع الصغار باحترام شديد وبالغ وجاد، احترام جاد! لنا خُطبة – أعتقد قبل أكثر من سنة – أتينا فيها بشواهد كثيرة، أنس يقول له لا أُوثِر بحظي منك أحداً يا رسول الله، لا! بما أن هذا حظي وهذا دوري فلن أُوثِر بحظي منك أحداً، لن أُعطي أحداً يشرب مكان شفتيك قبل أن أشرب أنا، والنبي يبتسم ويُعطيه هذا الحق، وهو ولد صغير، زُهاء تسع سنوات أو ثماني سنوات، ما هذا الاحترام؟ لو اليوم قال أحدهم هذا لضُرِبَ مُباشَرةً بالكف كما نقول بالعامية، لضُرِبَ بخمستنا مُباشَرةً، ولقيل له تعلَّم أن تحترم مَن هم أكبر سناً منك يا قليل الأدب، لا! بالعكس، الولد مُؤدَّب جداً وحاذق وزكن، ولكنه عُلِّم ورُبّي أن يحترم نفسه كما يحترم الآخرين.
فمثلاً هذا غير موجود في ثقافتنا السائدة، ولذلك علينا ألا نُعوِّل كثيرة على دعوى أننا نعتصم بالنصوص والنصوص تكفي ولسنا في حاجة أن نُتعِب أدمغتنا بالقراءات المُتواصِلة والمُتابَعات، لا! وسنرى لو أننا فعلنا هذا هل سننجح؟ كثيرون منا فشلوا ويفشلون، هؤلاء يغيب عنهم أنه قبل خمسين أو ستين سنة كان أكثر الدعم يأتي من الخارج، بالذات في مُجتمَعاتنا، وهذا كان موجوداً حتى في المُجتمَعات الغربية، طبعاً وهناك فروق بلا شك وخصائص، في المُجتمَعات بشكل عام كان أكثر الدعم يأتي من الخارج، من المُجتمَع، من مُؤسَّسات المُجتمَع، من أفراد المُجتمَع، من الجيران، من الأقارب، من الناس حتى في الشارع عبر سلوكاتهم، ومن المُؤسَّسات المُختلِفة! فكان العبء على الوالدين أقل بلا شك، العبء موجود دائماً، لكنه كان أقل، اليوم للأسف وللأسف الشديد انعكست الصورة بالتمام، بشكل كامل تقريباً! أكثر ما نخاف إنما نخاف من ماذا؟ من الخارج، نخاف حتى أحياناً على أولادنا من المدارس، يرجعون إلينا من المدارس بعادات وسلوكات وألفاظ وأشياء اطلعوا عليها وأشياء أحياناً تاحت لهم فُرص ونُهز أن يطلعوا عليها وهي غير مشروعة حتى في نظام المدرس، طبعاً يأتون بها من الشارع، ومن المُؤسَّسات الإعلامية، معروف هذا كله للأسف الشديد، أكثر ما نخاف على أولادنا من هذا الخارج، ماذا نفعل؟ لذلك علينا أن نُضاعِف جهودنا في الداخل، كآباء، كأمهات، كإخوة كبار، وكأخوات كبار علينا أن نُضاعِف جهودنا أضعافاً مُضاعَفة، لكي نُعوِّض ماذا؟ هذا الفقر، أي علينا الآن أن نقوم بدور الداخل وبالدور الذي كان يضطلع بالقيام به الخارج مرة أُخرى، وهذا بلا شك عبء كبير، هذا عبء كبير جداً – أيها الإخوة والأخوات – لكن لابد أن نضطلع به.
في اعتقادي أن أهم الالتزامات إزاء الآخرين هي التزاماتنا إزاء أسرنا، إزاء أزواجنا وأنفسنا وأولادنا، أهم الالتزامات! الكل يدّعي – كما قلنا أيضاً سابقاً – أن أسرته أولوية عنده، لكن الواقع يُؤكِّد أنها ليست أولوية ولا ثانوية ولا ثالثية للأسف الشديد، كالذي يزعم – مثلاً – أن برنامجه ملآن ومشغول فليس لديه فُرصة أو نُهزة يجلس فيها إلى أولاده وأهله كل مساء نصف ساعة، يقول ليس عندي وقت ومشغول، يُقال له فتلفعل هذا يا أخي كل يومين، فيقول أنا مشغول، يُقال له فتلفعل هذا كل ثلاثة أيام مرة، فيقول أنا مشغول، يُقال له فلتفعل هذا كل أسبوع مرة، فيقول أنا مشغول، لذا نقول له آسفون، مع الأسف الشديد أنت تزعم – أنت حالم – أن أسرتك أولوية، وفي الحقيقة هي ليست ضمن أولوياتك كلها على ما يبدو، وستكتشف بعد حين أن ما كنت تظنه الأهم في حياتك لم يكن هو الأهم، كان مُهِماً ربما لكن ليس الأهم، وضاع الأهم لحساب هذا الذي ظننته أهم، الأهم هو الأسرة، هكذا! الأهم هو الأسرة.
أيها الإخوة:
حين نُحدِّد ونُرتِّب أولوياتنا هذا يُعيننا على أن نرى خارطة الطريق، على أن نرى حتى الأهداف بوضوح أكثر، حين نُحدِّد أهدافنا وأولياتنا نستطيع أن نرى الصورة كاملةً، هذا سيُعيننا بدوره على أن نسلك السُبل الأكثر مُناسَبةً – أي الأنسب – للوصول وتحقيق الأهداف والغايات، لأننا نرى الصورة كاملة، تخيَّل إنساناً يُريد أن يصل إلى نُقطة ما ولا يرى جُزءاً من الصورة، كم سبيلاً عليه أن يُخطئ بسلوكها ثم يعود منها! عشرات، وربما مئات، يدخل من هنا ثم يعود، ويدخل من هنا ثم يعود، يُجرِّب! طبعاً تمضي الأيام، يفشل ويفشل مَن حوله، وهو المسؤول، هو يرى نفسه ضحية، لكنه ليس ضحية، هو المسؤول، لأنه لم يُحدِّد الغاية، ليس عنده رؤية، ليس عنده ترتيب للأولويات.
سأُحدِّثكم عن نفسي، والحديث عن النفس ثقيل، لكن من باب المثال، قبل بضع عشرة سنة كنت شاباً ثلاثينياً، أي في العقد الثلاثيني أو في بداية العقد الثالث من عمري، كنت مُتزوِّجاً حديثاً وأمامي مشاريع حياة كما يُقال، مشاريع حياة! لكن ضمن أولوياتي كان العلم، أن أُتابِع العلم، ليس تحصيلاً رسمياً، هذا لا يهمني ولا يزن عندي شيئاً، العلم للعلم، المعرفة للمعرفة، ليس تحصيلاً جامعياً وشهادة ثم نقعد، لا يُمكِن! العلم من المهد إلى اللحد، باستمرار! أن أُوسِّع آفاقي، أن أفهم، أن أُجيب عن الأسئلة الكُبرى في حياتي وفي حياة غيري، هذه كانت أولوية عندي ضمن أولويات، وكنت أتعيَّش وأتدبَّر أموري بمبلغ لا يزيد عن أربعمائة يورو بالعملة الحالية، بل أقل من ذلك بقليل، أتدبَّر! بلا شك الأمور صعبة والأمور ضيقة بالنسبة إلىّ كصاحب عائلة، ولم يكن هناك أولاد، لكن الحال كان يمشي، عُرِض علىّ وقتها عمل مُغرٍ جداً لكلنا، لأي منا! مُدير لعدة مكاتب في مُستوى أوروبا، عدة مكاتب! ربما خمسة عشر مكتباً، أن أكون المُدير العام، وبمُرتِّب – كما قال لي العارض – مُغرٍ جداً، وهو حي يُرزَق إلى اليوم، رجل فاضل وعالم جليل، مُباشَرةً لم أتردَّد، قلت له مُتأسِّف، أشكر هذه الثقة وأشكر هذا الاعتبار، ولكن أنا مُتأسِّف، فقال لماذا يا بُني؟ دُهِش الرجل، دُهِش! الناس يتقاتلون على أن يكون أحدهم مُديراً لمكتب واحد، وليس لبضعة عشر مكتباً بمُرتِّب مُغرٍ جداً! قلت له لأن عندي أولويات، أنا رجل فرَّغت نفسي وأُحِب أن أُتابِع تفريغ نفسي لطلب العلم والمعرفة، ليس لجمع المال، وليس لجمع المناصب والغايات الفارغة، هذا لا يُساوي عندي شيئاً، الرجل اندهش ورفع يديه ودعا لي، قال مَن بُورِك له في شيئ فليلزمه، ثم دعا بارك الله فيه.
كنت شاباً صغيراً – ابن أربع وعشرين أو ثلاث وعشرين سنة – وحدَّدت أولوياتي، لولا هذا التحديد قطعاً لم أكن لأصل إلى ما وصلت إليه اليوم من علم قل أو كثر ومن معرفة عمقت أو سطحت، فهذه أولوية كانت لدي، وهي إلى اليوم تُوجِّه حياتي، تُوجِّه تفضيلاتي، وتُوجِّه اختياراتي، أسأل الله أن أموت أيضاً وأنا مُقدِّم لهذه الأولوية، لأنها تُرضي الله وتُرضيتي وتُثريني وتُثري مَن حولي أيضاً، أولوية مُهِمة جداً جداً، ماذا كان سيكون لو كانت أولويتي جمع المناصب والأموال؟ سأكون أكثر مناصب وأكثر مالاً، ما عساه ينفعني المال؟ ما عساه ينفع مَن حولي؟ سينفع قليلاً، لكن مُستحيل أن ينفع نفع العلم والفكر والهداية، مُستحيل! هذا لا يُقارَن بهذا.
لماذا أقول هذا؟ أقول هذا للآباء وللأمهات أيضاً الذين يرون أن أولويتهم لا تزال إلى الساعة بعد أن راهق أبناءهم وبناتهم البلوغ – بعضهم أصبحوا في سن الزواج – هي جمع المال، أولويتك مُنذ أربع عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة هي جمع المال! فهل إلى اليوم أيضاً هي جمع المال؟ إلى متى ستبقى أولوية يا مسكين؟ يقول الشاعر والعالم والمُفكِّر الألماني الشهير جداً جوته Goethe، يقول لا تدع الأشياء الأكثر أهميةً تقع تحت رحمة ما هو أقل أهمية، لا تدع الأشياء الأكثر أهميةً – أي الأشياء الأهم – تقع تحت رحمة ما هو أقل أهمية، لا تدعها تقع تحت الأشياء الأقل أهميةً وتحت رحمتها أبداً، قدِّم دائماً الأهم، انتبه! لأنك ستندم، قطعاً ستندم، سترى نفسك في نهاية الطريق حصَّلت وحقَّقت ما ادّعيت أنه أهم الأولويات، لكن ستجد في النهاية أنه لم يكن كذلك، حقَّقت نعم ونجحت لكن لم يكن الأهم، أشياء أقل أهمية بكثير مما هو أهم منها بكثير، فعلينا أن ننتبه هنا جيداً.
لذلك في مرحلة التنظير علينا أن نأخذ الأهبة والاستعداد، علينا أن نقرأ كثيراً، أن نسأل كثيراً، وأن نتدارس كثيراً، مثلاً خطرت لي فكرة وسأشرع في تطبيقها قريباً إن شاء الله تعالى، للأسف غير معمول بها، لماذا؟ نحن هنا أهل مسجد أو جماعة مسجد – مثلاً – أو جماعة جالية، لماذا لا نجلس كعائلات على الأقل كل ثلاثة أشهر أو كل أربعة أشهر مرة؟ يجلس عشر أو عشرون أو ثلاثون من العائلات المُسلِمة جلسة رصينة فيها احترام، نجلس ونتكلَّم ونتناقش ونكتب أيضاً ونُلخِّص ونعرض على بعضنا البعض الأسئلة السائدة، الهموم الرائجة، الإخفاقات، النجاحات أيضاً، ومُختلِف هذه الأشياء، لكي نُعمِّق خبرتنا التربوية، وقطعاً سيجد كل منا عند الآخر ما لا يجده عند نفسه، لا نفعل هذا! لأن التربية ليست هماً حقيقياً عندنا، مع أنها – كما ندّعي دائماً – هي الهم المُقيم المُقعِد، هذا صحيح ومُمكِن، لكن لا نتعاطى معها بأسلوب علمي للأسف الشديد، نتعامل معها بأسلوب اعتباطي تعسفي، ونفشل دائماً ونُكرِّر فشلنا، لذلك علينا أن نستعد، في مرحلة التنظير لابد أن نستعد جيداً وأن نأخذ أهبتنا تماماً بكل هذه الوسائل وغيرها وهو كثير.
أذكر هذا كمُقدِّمة بين يدي الفكرة الرئيسة لخُطبة اليوم، ما هي؟ هي فكرة أن يتوافق الأطراف كلهم – الأب، الأم، والأولاد، الأبناء والبنات – داخل الأسرة على رؤية واحدة، طبعاً كل أسرنا هنا أسر نووية، لا تُوجَد أسرة مُمتدة، قليل جداً! أي يعيش فيها الجد والجدة، قليل! للأسف بحُكم ظروفنا، في بلادنا نعم موجود هذا إلى الآن، وهو سائد بحمد الله، وهو تقليد طيب جداً، على كل حال داخل الأسرة لابد أن يتوافق الأفراد على ماذا؟ على رؤية واحدة، ستقول لي وهل هذا مُمكِن أصالةً؟ أصلاً هل هذا مُمكِن؟ هل مُمكِن أن يتوافقوا على رؤية مع أن لديهم من الفروقات ما لا يُنكَر؟ وهذا هو التحدي، لا يُمكِن أن تجد فردين – أخوين أو أختين أو زوجين – يتطابقان في كل شيئ، هذا التطابق علامة ضحالة وعلامة قهر، قاهر ومقهور! أحدهما قاهر والآخر مقهور، قطعاً ليست علامة خير التطابق في كل شيئ، هذا يقول وهذا يُؤمِّن.
لذلك عوداً على مسألة الاحترام مع الصغار نقول نحن نتعاطى بطريقة أن لنا أن نقول وأن عليهم أن يسمعوا، أن لنا أن نفعل وأن عليهم أن يخنعوا، هذه طريقة قهرية فاشلة، تفشل! قد تنجح مع الصغار، لكن قطعاً تفشل مع المُراهِقين، فضلاً مع الكبار، فالتوافق علامة على هذا المِزاج التسلطي وعلى هذه العقلية التسلطية، إذن هناك فروقات بين الأزواج وبين الأبناء والبنات أنفسهم وأنفسهن، جميل جداً! الرؤية المُشترَكة هي ما سيُثري هذه الاختلافات، بالعكس! سيُثريها وسيُؤكِّدها، لكن سيُحيلها إلى عوامل تعاضد وتآزر وتكامل، بدل أن تكون عوامل تأزيم وإظلام دائم لأُفق حياة الأسرة كل يوم وكل ساعة، بالعكس! لماذا؟ لأن هذه الرؤية – كما سأشرحها بالتفصيل – ستُحدِّد الغايات والأهداف والحدود والالتزامات لكل واحد، بمعنى آخر أن على كل أسرة – أيها الإخوة والأخوات – أن يكون لها دستور، دستور مُعيَّن فعلاً، هذا ما لم نتعلَّمه، وما لم ولا نفعله إلى اليوم، دستور! المسألة ماشية كما يُقال بالبركة، المسألة بالبركة هكذا وبالدعاء وما إلى ذلك ماشية، لا! هي لا تمشي، يُوجَد فشل كبير جداً، وسوف ترون النتيجة، وجرِّبوا هذا، شيئ فعلاً مُغنٍ بالتجربة.
ما معنى أن يكون للأسرة دستور؟ هذا الدستور سيتكفَّل بالجواب عن الأسئلة الكُبرى، لكن بعد المرور بمراحل مُضنية وشاقة وطويلة من مُجادَلات وسجالات ونقاشات وأخذ ورد حول مئات الأمور الجُزئية الصُغرى، التي يُمكِن بعد ذلك تجريد منها المبادئ والأهداف والغايات الكُبرى التي نصطلح على تسميتها بالرؤية أو بالدستور، دستور الأسرة! هل هذا مُفيد؟ مُفيد جداً، أكثر مما نتخيَّل، لماذا؟ تخيَّل نفسك وأنت طفل صغير، ابن سبع سنوات أو عشر سنوات، يأتيك أبوك أو أمك وبكل جدية ورصانة واعتبارية، لا يُلقى عليك إلقاءً، بالعكس! إنما يتلطَّف بك ويتلطَّف بسائر الأطراف.
يبدأ معكم ومعكن نقاشاً حول أسرتنا، ماذا نُحِب لها؟ ماذا نُحِب منها؟ كيف نحلم أن تكون هذه الأسرة؟ ما هي غاياتها؟ ما هي أهدافها البعيدة؟ ما شكلها بعد عشر سنين حين نكبر وربما نتزوَّج أو نتخرَّج من الجامعات؟ ما هي صورة الوالدين المثاليين المحبوبين؟ ما الذي نُحِبه في والدينا؟ ما الذي لا نُحِبه – لا نقول نبغضه ولكن لا نُحِبه – في والدينا – أي في الآباء والأمهات -؟ ما الذي نُحِبه في أولادنا؟ ما هي الصورة المثالية للولد – الابن والبنت – التي يحلم بها الأب والأم؟ وما هي الصورة المثالية للعلاقة بين الإخوة والأخوات؟ أسئلة كثيرة جداً جداً!
طبعاً – كما قلت أيضاً في مُقدِّمة الخُطبة – لابد من إعادة مُحاكَمة عشرات المفاهيم، وفي رأسها مفهوم الأسرة، مفهوم الاحترام، مفهوم الطاعة، مفهوم اللياقة، مفهوم السلوك، مفهوم القيم والأخلاق، مفهوم التحية، مفهوم الزيارات من وإلى – أي داخل وخارج – الأسرة، مفهوم استقبال الضيوف، مفهوم نظام المنزل، مفهوم نظافة المنزل وترتيبه، مفهوم الرحمة أيضاً، مفهوم التعاون، مفهوم الأنانية، ومفهوم الغيرية، مفاهيم كثيرة – طبعاً بالمئات – سيُعاد درسها وتشكيلها وصياغتها، لكن عبر نقاشات واعية وهادئة، ليس في جلسة وإنما في عشرات الجلسات، ربما تمتد شهرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة، تخيَّلوا!
الآن لكم أن تتخيَّلوا شعور هذا الطفل الصغير، ابن سبع سنوات مثلاً، كيف سيشعر بغنى هذه التجربة؟ كيف سيشعر في ذات الوقت وعينه بشخصيته، بكينونته، وباعتباره؟ ابن سبع سنوات له رأي، وله نقود – وجهات نظر نقدية مثلاً – في شؤون العائلة، وستُصدَمون – كما صُدِمت أنا – بغزارة أفكار أولادكم الصغار، إن لديهم معيناً لا يكاد ينضب من الأفكار، شيئ غريب! لكن أنتم عملتم على استخراجه، سيُدهِشكم وتندهشون بتحليق خيالهم، عندهم خيال خصيب جداً الأطفال، أشياء لا تخطر على بال الكبار الجامدين، لكن يُحلِّق فيها خيالهم، أيضاً بعُمق أحياناً فهمهم لبعض ما لا تتخيَّلونهم يفهمونه، يفهمونه وبعُمق.
أمس أنا أجريت جلسة كهذه مع بناتي، أبنائي الأولاد صغار جداً، فأجريتها مع البنات الأربعة، أصغرهن خمس سنوات ونصف، قريبة من ست سنوات هي، اندهشت! حقاً اندهشت، وبناتي لسن مُتميِّزات، أي بنات عاديات، عاديات تماماً، لا يُوجَد أي تميز عندهم، عاديات! لسن غبيات ولسن ذكيات جداً، لسن عباقرة، عاديات مثل كل بناتنا، لكن اندهشت من أنهن أجمعن وكلٌ على طريقته على أن الفاعلية أجدر من الكفاءة، طبعاً بعض الآن مَن يسمع هذا الكلام لن يفهم الجُملة هذه، لكن الطفل يفهم هذا، لم يفهم هذه الجُملة لكن يفهم المفهوم، بمعنى أنك إذا أردت أن تسبر وأن تختبر – مثلاً – عند ابنك أو عند ابنتك الصغير والصغيرة أيهما أسبق وأيهما أقرب إلى النجاح: ذكي جداً لا يستخدم ذكاءه بجدية، ومُتوسِّط الذكاء يُواصِل استخدام ذكائه؟ فإنه سيقول لك الثاني، ستقول له هات مثال، وسيأتيك بأمثلة من الكارتون Cartoon الذي حضره، من القصص – الــ Geschichten -، ومن الخُرافات التي سمعها، مُباشَرةً قدرة على التجريد والربط لدى طفل ابن ست سنوات أو بنت ست سنوات، وستستغرب من هذا، طبعاً! الطفل يبدو أنه أذكى مما نظن نحن ومما نتوقَّعه للأسف، لكننا لا نُعطيه فُرصة أن يُعبِّر عما عنده، لكن الآن بدأنا نُعطيه ونحن نضع دستور العائلة ليس فُرصة أن يُعبِّر بل فُرصة أن يصوغ، أن يصوغ دستوراً سيكون حاكماً على الجميع بمَن فيهم أبوه وأمه، هذا شعور غير طبيعي لدى الطفل فعلاً.
ولذلك القاعدة: لا التزام، لا إلزام. بمعنى لا مُساهَمة، لا مُشارَكة. أو لا مُشارَكة، لا التزام باللُغة العامية. بمعنى أن الإنسان أمين على ووفي لما يشعر أنه طرف فيه، طرف مالك، طرفي معني، طرف مُؤسِّس، طرف صائغ ومُترجِم، بلا شك سأكون أميناً على ووفياً لما أشعر أنه يُترجِمني ويعكسني ولما صنعته ولما صغته، أليس كذلك؟ الاطفال سيشعرون بهذا، والعجيب أن النتائج تبدأ وقتياً، خاصة كلما بدأنا في سن أصغر، مع المُراهِقين سوف نجد بعض الصعوبات في البداية، لأن المُراهِق لن يأخذ الأمر بجد، جلسة ماذا؟ وما إلى ذلك، ولذلك علينا أن نتلطَّف، بمعنى لا ينبغي لأب الآن بعد أن ينفصل من هذا المكان الطيب ويعود إلى البيت أن يقول يا أبناء ويا بنات تعالوا، لدينا جلسة، سنعمل فيها دستوراً، سيكون هذا المسكين مُخطئاً، حصل له شيئ في عقله، وبخاصة المُراهِقون سيسخرون منه، ربما المسكين تُمرِّره هذه السُخرية فيعود في حافرته القديمة، سيقول لعنة الله على كذا وكذا، كنت أعرف أنكم على هذا النحو، والله لا ينفع فيكم أي شيئ، ويرجع المسكين كما كان، سلبية! ليس هكذا، ليس هكذا أبداً، عليك أن تتلطَّف، هذه مسألة فن كما يُقال، هذه مسألة فن، تعتمد الإحساس وانتهاز الفُرص والذوق واللياقة، أكثر من قواعد مضبوطة.
بمعنى أن أنسب الظروف – أنسب الظروف والله أعلم – أن تنتهز مُناسَبة تجمع شمل العائلة في جو مُفرِح مُبهِج وسعيد، عيد ميلاد أحدهم مثلاً، عيد من أعياد المُسلِمين، الآن – مثلاً – فصل الفُرصة، الاستراحة السنوية في هذا البلد أو في بلد آخر معهم مثلا، قضيتم أسبوعاً أو يومين في إجازة طيبة، ولا تزالون أيضاً تُكمِلون الإجازة، مُمتاز جداً! اجلسوا في الليل أو في وقت الأصيل أو العصر وأنتم تحتسون فنجاناً من القهوة أو الشاي، يتقدَّم الأب بسلاسة من غير مُقدِّمات طويلة، ويقول هل نحن أسرة سعيدة يا أبنائي؟ سيُقال له – مثلاً – نعم بابا، نحن نشعر بهذا، فيقول هل يُمكِن أن نكون أكثر سعادة؟ ماذا تتخيَّلون؟ وهكذا تبدأ أنت بداية غير رسمية بتساؤل، وستجد أن الأمر يسير جداً حتى مع المُراهِقين والمُراهِقات، وسيتقبَّلونه!
حين يُفضي أحدهم برأي أو بوجهة نظر انتبه، من باب الاحترام وإشعاره بالاعتبار أعد صياغة ما قاله، لا تهز رأسك وأنت تقول نعم، هذا مُمتاز وصحيح، فليتكلَّم أحد غيره، مَن الذي بعده؟ لا تفعل هذا، أين أنت؟ هل أنت في سوق؟ لا! استرح قليلاً وأعطه فُرصة، ثم قل له هل يا بُني أو يا بنتي – ما شاء الله – قصدت كذا وكذا وكذا؟ أعد صياغة ما قاله، لا تعد نفس العبارة، أعد الصياغة، هذا سيُشعِره بالاحترام، هذا مُهِم جداً، هذا من أهم أساليب الاحترام بالمُناسَبة، حتى مع الكبار هذا، ليس مع الأطفال فحسب، مع الناضجين جداً، هذا يكون بين عالم وبين ناس عاديين، وبين أستاذ جامعي وبين أحد تَلاميذه، لو أعاد صياغة السؤال يفرح جداً الطرف الآخر، أنه فُهِم جداً، وأن سؤاله أُخِذ على محمل الجد، أعد صياغة ما قاله، قل هل هذا ما رميتَ إليه أو رميتِ إليه؟ سيُقال لك نعم بابا أو لا، فقل إذن ماذا تقصدين؟ عفواً، وسيُقال لك أقصد كذا وكذا وكذا، اكتب هذا، يُقال أقصر قلم أطول وأقدر من أقوى ذاكرة، اكتب هذا، لماذا؟ لأن هناك التزاماً بعد ذلك، اكتب هذا، وهذا يُشعِرهم بالأهمية أيضاً، يُشعِرهم بالأهمية! اكتب هذا.
بعد ذلك طبعاً لا تُفض بكل شيئ مرة واحدة كما قلت، انتبه! الزمن جُزء من العلاج، وجُزء من التشييد والبناء، ولا تُمِلهم فيكرهوا الموضوع من أصله، لا تُمِلهم، أول جلسة تمتد رُبع ساعة أو نصف ساعة، كافٍ! مُمتاز أن تمتد نصف ساعة بل وكثير، الجلسة الثانية تأتي بعد أسبوع أو خمسة أيام، وتكون في مُناسَبة أيضاً طيبة، ويُمكِن أحياناً أن تكون في مُناسَبة غير طيبة، مثل إخفاق حصل في البيت، مُشكِلة من نوع ما أحرجت الأسرة أو أحرجت صاحبها، تُستغَل هذه المُشكِلة بلباقة أيضاً ومع الحب غير المشروط كما قلنا، بالعكس! لا يُذكَّر هذا الفاشل أنه فشل وأنه أخفق وأنه خذلنا وأنه وضع رؤوسنا في التراب أبداً أبداً، بالعكس! الآن – مثلاً – كلكم لديكم فُرصة مثل هذه، كيف؟ يعود إليك ابنك أو ابنتك بالشهادة وبالدرجات، وطبعاً ما يهمنا للأسف – وهذا أيضاً من سوء ثقافتنا – هو الدرجات، للأسف مبدأنا التعليمي الدرجات والشهادات، وليس العلم والتعلم، وهذا فاشل، انتبهوا! الناجح سيُولي اهتمامه للعلم، وسيُحاوِل أن يختبر قدرة أولاده العلمية ولياقاتهم على التحصيل الحقيقي، ولن يشغل نفسه البتة لا بأنهم حلوا الواجب أو لم يحلوا أو على كم تحصَّلوا من الدرجات، هذا ما لن يشغل نفسه به، وسينجح وسيتحصَّلون على درجات مُمتازة في يوم من الأيام، انتبه! لكن إذا كان كل الهم هو الدرجات ستخذلهم أنت، الدرجات تذهب وتأتي، المبدأ هو التعلم وليس الدرجات، التعلم الحقيقي والفهم!
على كل حال فسيعود إليك، وقد يعود إليك بدرجات لا تُعجِبك، بثلاثة أو بأربعة، وبعضهم قد يعود بخمسة والعياذ بالله، مُمكِن! هذا يحدث لأسباب أو لأُخرى، بالعكس! لا تثر، الشخص السلبي أو الشخص الضحية – تعبير الشخص الضحية أحسن من تعبير الشخص السلبي، واليوم استخدمناه – سيقول لطالما نبَّهت على هذا، طالما نبَّهت وحذَّرت وقلت هذا لكَ ولكِ وللأخ الكبير وللأم أيضاً، وأنا مشغول وآتي بعد عشر ساعات، لكن لا أحد يرحم ولا أحد يُقدِّر ولا أحد كذا وكذا، إلى آخر هذا الكلام الفارغ، شخص ضحية هذا، هذا كله أسلوب ضحية، هذا ليس أسلوب الإنسان المسؤول، ليس أسلوب الإنسان صاحب الفعال، هذا صاحب أقوال وأماني، هذا من نوكى الناس، من حمقى الناس، للأسف كثيرون منا هكذا، يصرخون هكذا، يقول أحدهم ماذا أفعل؟ لا تقل هذا، بالعكس! خُذه وضمه كما قلنا في الخُطبة السابقة، ضمه إليك، لا تُوجَد مُشكِلة، الحب غير المشروط أن يعي الآخر أنه محبوب في حالة ضعفه كما في حالة قوته، أنه محبوب في حالة إخفاقه أو في أوقات إخفاقه كما في أوقات نجاحاته، أنه محبوب في حالة مرضه كما في حالة صحته، هو محبوب لذاته، هذا هو، بالعكس! علينا الآن بالذات أن ننتهز هذه الفُرصة، الأب الواعي – ليس الضحية وإنما الأب المسؤول الربي – أو الأم الواعية – ليست الضحية وإنما الأم المسؤولة – ستنتهز هذه فُرصة لبناء جديد، لفتح طريق جديدة، ولإصطناع أساليب جديدة، كيف؟ نفس الشيئ، سترى العكس، سترى من زاوية أُخرى أن ابنها أو ابنتها – الذي جاء وهو مُنكِّس برأسه، حزين، المسكين أظلم وجهه، وكان عليه قتامة – بحاجة إلى ماذا؟ هل هو بحاجة إلى التأنيب والتوبيخ والتبكيت؟ يعرف هذا هو، بالعكس! هو بحاجة إلى الدعم النفسي، إلى السلوى والتعزية، وإلى أن يُقال له بالعكس بابا، أعرف أن هذا يُحزِنك وأيضاً يُحزِنني، ولكن أنت تعلم كما أعلم أنا أنك تستطيع أن تتحصَّل على درجات أحسن من هذه بكثيرة إن شاء الله، أليس كذلك؟ وسيقول نعم بابا، وانظروا بعد ذلك، في أقرب فُرصة سوف يُبرهِن لنفسه ولك أنه يستطيع أن يتحصَّل على تلك الدرجات، أما إن فتحت مشوار اللوم والعتب والنواح هذا والندب واللطم كبعض الفاشلين من الضحايا فالابن سيقول في نهاية المطاف هما سيان، لأنك ستقول وستُلخِّص له الآتي، ستقول له كنت أعرف هذا، عندي إحساس أنه لن يأتي منك خير، عندي إحساس أنك فاشل، عندي إحساس أنك ستُربي لي الجلطة، ستقتلني أيها الولد، عندي إحساس وأعرف هذا الشيئ، ستقول له هذا بالعامية طبعاً، وهو سيقول إذن هما سيان، ما دام الأمر هكذا في الحالتين، فماذا سأفعل؟ أنت دمَّرته الآن، أنت أحبطته، لم تُعزه، ولم تُسلِه، أسلوب فاشل، أسلوب ضحية! وجعلت من هذا المسكين أيضاً ضحية.
هل تعرفون أن مثل هذا الأسلوب سيُؤثِر على أولادنا إلى أن يموتوا كما أثَّر علينا؟ كيف؟ سأقول لكم، واختبروا هذا في أنفسكم، سيبقى هذا المسكين حين يكبر دائماً يُناضِل للدفاع عن شخصيته نضالاً حتى أحياناً عبثياً، أي إنه Unfug، ليس له معنى، نضال عبثي في كل مُناسَبة، سيكون حسّاساً جداً جداً للنقد، لو قال له أحدهم يا أخي بارك الله فيك وما شاء الله عليك لأنك فعلت كذا وكذا ولكن أنت أخطأت في كذا، سيُجَن جنونه، كيف يُنتقَد؟ كيف وجَّه إليه اللوم؟ لماذا؟ هل أنت كامل؟ هل أنا كامل؟ كلنا نُنتقَد، لا أحد يُعَد كاملاً، كل يُؤخَذ منه ويُرَد، لا تُوجَد مُشكِلة يا أخي، ما المُشكِلة؟ لماذا تتحسَّس جداً؟ حسّاس جداً للنقد، هل تعرفون لماذا؟ لأن هذه الطريقة للأسف جعلته ضعيف الثقة بنفسه، وبالتالي صار يدور حول نفسه، يُسمونه المُتمركِز حول ذاته، أي هو نرجسي، هذه نرجسية! يتمركز حول ذاته بطريقة مرضية، صورته أهم شيئ في الكون، لن يسمح لا لقريب ولا لبعيد أن يخدش هذه الصورة الكاملة، هو يرى نفسه كاملاً، مُشكِلته ومأساته أنه يُدرِك في قاع نفسه أنه ليس كاملاً، بالعكس! وأنه ليس عنده ثقة بنفسه دائماً، وهو يعرف هذا، نحن الذين جعلناه هكذا، لأننا لم نُقدِّم له حُباً غير مشروط، حُبنا دائماً كان له مشروطاً للأسف الشديد، طبعاً قوَّضنا شخصيته، قوَّضنا أركان شخصيته بهذه الطريقة، سيُستنزَف المسكين، سيستنزِف كل طاقته – كل طاقته النفسية والعقلية والشعورية أو العاطفية – في ماذا؟ في إثبات ذاته والدفاع عن نفسه وتحسين صورته، لا! فأين العمل؟ وأين الإنجاز؟ لا عمل، ولا إنجاز، فقط هذا هو، ضاع هذا المسكين!
اليوم ذكرنا جوته Goethe، الآن أذكر له عبارة أُخرى من أروع ما يكون، يقول هذا الشاعر والأديب والمُفكِّر، يقول عامل الرجل كما هو، سيظل كما هو، عامله على أنه فاشل، على أنه مُخطئ، على أنه صاحب إخفاقات، وسيظل كما هو، هذا طبيعي، عامله على أساس طاقته وإمكاناته وكما ينبغي أن يصير، وسيكون كذلك، يا أخي هؤلاء الناس يفهمون، هؤلاء الناس عندهم فهم، هؤلاء الناس عندهم عقول، هؤلاء الناس عندهم نظرة، وهؤلاء الناس عندهم تعمق، وعلينا أن نستفيد من أمثال هؤلاء بكل تواضع، هكذا عامل نفسك أيضاً وعامل أولادك، والنتيجة واحدة دائماً في الحالين، هنا سيبقى كما هو وهنا سيصير كما تتوقَّع، بمعنى أن مُعامَلتنا لأولادنا بالطريقة الصحيحة السويية غير المشروطة ستُفجِّر طاقتهم، لن تجعلهم في حالة ماذا؟ في حالة عراك دائم مع ذواتهم وطلب صُلح دائم مع نفوسهم، ولن يتحقَّق – مثل إسرائيل والعرب – تقريباً هذا الصُلح الدائم للأسف الشديد، لأن هناك طرفاً غير طبيعي وغير صحيح، وضعه غير صحيح، هذا هو! الأب المسؤول وصاحب القوة وضعه غير طبيعي، مثلما الآن المسؤول وصاحب القوة إسرائيل وأمريكا، وهما غير طبيعيين، سياستهم، أفكارهم، وسلوكاتهم غير طبيعية، غير مفهومة، غير عادلة، غير واقعية، وغير منطقية، سيبقى الوضع مُتأزِّماً إلى ما شاء الله! كذلك في المسألة التربوية، أنت كوالد وكأم وضعكما غير طبيعي، هو الذي يُؤزِّم الحالة الحقيقي.
ما أُريد أن أقوله بدل هذا الاستنزاف كله سيعود هذا الولد المسكين – وهو فعلاً مسكين – لكي يُحاوِل أن يستمد قوةً من طاقته الكامنة، وأن يُفجِّر هذه الطاقة الكامنة التي يُمكِن تشبيهها بالطاقة الانشطارية، التعويل على القليل منها قد يُحقِّق المُستحيل بإذن الله تعالى، نعم! وسيُثبِت هذا الطفل الذي كنت تظن أنه أجدب أو درويش أو لا يصلح أنه عبقري بمعنى ما، حقَّق ما لم يُحقِّقه بعض العباقرة، طبعاً! لكن بهذا الحُب غير المشروط، بهذا الدعم الدائم، بهذا الوعي، بهذا الاحترام، وبهذا التقدير، المسألة طبعاً ليست سهلة، بعض الناس يفهم الموضوع من زاوية واحدة، بمعنى أنه يقول هل تدعونا يا رجل إلى أن نترك الحبل على الغارب؟ لا، بالعكس! نحن ندعو إلى شيئ مُعاكِس تماماً، والآن سيأتيكم، كل في وقته.
إذن نُريد أن نصوغ دستوراً لأسرتنا، نتوافق على رؤية واحدة، لنشعر بالأمان والاستقرار، انتبهوا! طبعاً الوقت للأسف يضيق دائماً، ودائماً هو ضيق، الأسئلة متروكة لكم ومتروكة لأولادكم من خلال النقاشات والمُحاوَرات والجلسات، جرِّبوا هذا هذه الليلة، لكن – كما قلت – تلطَّفوا وأوجدوا المُناسَبة المُبهِجة السعيدة إن شاء الله، وسوف ترون نتائج غير عادية ووقتية، تبدأ وقتاً، خاصة مع الصغار، وقتاً يتغيَّر كل شيئ، ويستمر التغير، لكن باستمرار ماذا؟ المُتابَعة والتعزيز للمُكتسَبات، وليس النسيان والاكتفاء بالقليل منها، فالأسئلة متروكة لأطراف الأسرة جميعها.
أيها الإخوة:
هل هناك دستور حاكم بين الزوجين؟ طبعاً، بعض الناس الذين يُحِبون أن يلوذوا بالفرار من تبعات الحياة الزوجية دائماً يتوقَّعون من أي حديث عن التربية أن ينصب بشكل مُباشِر وسريع عن الأولاد، وينزعجون إذا ما اتجه إلى الزوجين، لماذا؟ بالعكس! أحسن تأسيس لكل خُطوة ولكل برنامج يُرجا له النجاح في تربية الأولاد هو ماذا؟ أن يتأسَّس على إعادة النظر في علاقة الزوجين، دائماً يُعاد اختبارها وفحصها من جديد.
سُئل أحد الأذكياء من المُربين ما هو خير ما تُقدِّمه لأولادك؟ قال لهم زوجية سعيدة، أن أكون مع زوجتي في حياة سعيدة مُتوافِقة، هذا أحسن ما أُقدِّمه لأولادي، هذا أساس التربية، إذا فشلت هنا فشل كل شيئ، كأن يُوجَد زوج مُتسلِّط أو زوجة مُتسلِّطة، صراخ دائم، نكد، شجب، عتب دائم، بكاء المرأة، ونفخ الرجل وتأففه الدائم، بالعكس! هذا فشل، فشل حقيقي، وطبعاً بعض الناس أيضاً بمنطق الضحية كل ما يهمه أن يُوقِع نفسه في فخ أو في مصيدة ماذا؟ كسب أكبر شعبية لدى الأولاد، أنا رأيت هذا! رأيت هذا وأُتابِع هذا للأسف الشديد، وهذا شيئ مُضحِك وسخيف إلى حد بعيد، يقول لك ألا ترى؟ حتى أولادي منهم خمسة – وهم سبعة مثلاً – معي، ماذا تكسب من هذا؟ مسكين أنت، ما هذه الطريقة العبثية في التفكير؟ ماذا تكسب؟ في النهاية لن تكسب أنت، ستخسر أنت، ستخسر هي، وسيخسر قبلكما ومعكما الأولاد يا مسكين، ليست هذه الطريقة الصحيحة، لذلك شئت أم أبيت هو هكذا، لا يُوجَد خيار ثالث، لابد – إما أن تنجح وإما أن تفشل – أن تُعيد النظر في العلاقة الزوجية، ولذلك تحتاجان كزوجين إلى دستور، فهل نفعل هذا؟ للأسف بعض الأجانب يفعل هذا، لكن نحن بالذات كمُسلِمين لا نكاد نفعل هذا، بالعكس! وأكثرنا ليس عنده وقت أن يجلس براحة وبهدوء وجلسة فعلاً رومانسية مع زوجته يتدارسان بعض المشاكل الخاصة بينهما.
هل حياتنا تقوم كأزواج على المُصارَحة الحقيقية والمُكاشَفة؟ لا، ولذلك هي آمنة وغير مُستقِرة، في لحظة – كما يُقال على كف عفريت فعلاً وفي مهب الريح، في لحظة واحدة – ما قد ينتهي كل شيئ، تقويض هذه البناية الكُبرى – بناية الأسرة – رهن بأتفه الخلافات، مثل خلاف بسيط جداً جداً، فينفجر الرجل في إطلاق أحكام تعميمية جائرة وجاهزة نمطية، كأن يقول صدق مَن قال كل النساء كذا وكذا، صدق مَن قال الرجال أو جنس الرجال كذا وكذا وكذا، كنت أعرف أن هذا سيُودي بي إلى هذا المصير، ولكن ظللت صابراً على هذا، وهي تقول كنت أعرف أن جزائي منك سيكون كذا وكذا، مُباشَرةً! طبعاً هنا سيشعر الطرف الآخر أن الحياة كلها فعلاً غير آمنة وغير مُستقِرة، وأن ما نجتهد في بنائه سنة وسنتين وعشر سنين مُمكِن يُطوَّح به في لحظة واحدة، لماذا؟ لا يُوجَد رُشد، لا يُوجَد نُضج عاطفي وعقلي عند الزوجين، لا يُوجَد وعي بالذات، أعود مرة أُخرى وأقول لا يُوجَد وعي بالذات.
أخطر شيئ وأهم شيئ – أُعيد ما قلته في الخُطبة السابقة – أن تكون واعياً بذاتك، هل تعرف ما معنى أن تكون واعياً بذاتك؟ معنى هذا أنك ستعود لتُلقي نظرة على تصرفاتك ودوافعك من جديد، لكي تكتسب القدرة على ماذا؟ على الاعتراف بالخطأ، ستقول نعم، أنا حتى كنت مسؤولاً، لذلك الشخص الفاعل والشخص المُبادِر هو الذي يهتم أكثر بدائرة الفعل وليس بدائرة الانفعال، يهتم بالأفعال وليس بالاهتمامات والحاجات، يهتم بالأفعال وبالتغيير وليس بالواقع، ويهتم بالمُمكِن وليس بالحاصل، هذا الشخص دائماً تصدر عنه عبارات مثل أعرف سبب هذه المُشكِلة، أعرف! الآخر الضحية يقول لا أستطيع أن أعرف لماذا حدث هذا، لأنه ضحية طبعاً، لا يعرف، وليس من المفروض أن يعرف، الآخر يقول أعرف، أعرف وأنا أتحمَّل مسئولية على الأقل جُزئياً في هذا الشيئ، أنا كوالد لابد أن أتحمَّلها، أنا كزوج أعرف، أعرف لماذا زوجتي دائمة التشكي، أنا أتحمَّل سبعين في المائة من هذا، أنا! يعرف هذا، الشخص الواعي بذاته لديه قدرة ولياقة أن يُفكِّر من موقع الآخر، أن يمشي في حذائيه كما يُقال أو في نعليه، شخص ناضج، يتجاوز ذاته، يقتحم عقبة نفسه، شخص غير عادي، دائماً يفعل هذا، ليس فقط مع الزوجة والأولاد، وإنما حتى مع أصدقائه، مع أستاذه، مع الناس، مع مُديره، ومع مرؤوسيه، دائماً يُحاوِل أن يضع نفسه في موقع الآخر، ليتفهَّم حالته وظروفه وشروطه، هذا شخص عظيم، نسأل الله أن نكون كلنا ذلك العظيم، شخص عظيم هذا وقادر على إحالة المشاكل إلى فُرص للبناء الجديد بإذن الله تعالى.
على كل حال فلا تُبادِروا بهذه التعميمات، وإنما – بالعكس – بادروا إلى بلورة دستور، دستور! ما الذي نُريده كزوجين؟ ما الذي يُحِبه كل منا في الآخر ومن الآخر؟ وما الذي يكرهه أو يُضايقه ويُزعِجه من الآخر؟ ولنكن صرحاء، انتبهوا! إذا كنا صرحاء سنكون في أمان، بمعنى لن أخشى من زوجتى ولن تخشى مني حتى في لحظة الاختلاف أن أُفشي سرها أو تُفشي سري، لن يحدث هذا، لكن متى يخشى كلٌ منا أن يُفشي الآخر سره ويُسوِّد وجهه؟ هل تعرفون متى؟ يوم تقوم حياتنا على المُكاتَمة، هو كاتم وهي كاتمة، يُقال لأحدهم كيف هي الأمور؟ فيقول والله كل شيئ جيد، ولا يُوجَد شيئ جيد، هي ساكتة وتخاف من أن تتكلَّم طبعاً حتى لا ينفجر فيها، وهو يخاف من أن يتكلَّم حتى لا تتسبَّب له في مشاكل الدنيا كلها، ساكتان! كالذين يقمون البيت بوضع التراب تحت السجادة، ويظنون أنهم نظَّفوا، يضعونه تحت السجادة لكن بعد ذلك – ما شاء الله – كل البيت سيمتلئ وسيُشبَّع بالغبار الذي يُفسِد صحتهم وهواء منزلهم، ليس هكذا يكون التنظيف، يكون أولاً بأول بالمُصارَحة والمُكاشَفة الحقيقية.
حتى لا نضيع نعود إلى الفكرة الرئيسة، علينا أن نصوغ دستور الأسرة بالمُشارَكة وبالمُساهَمة مع أولادنا، علينا أن نُعيد من خلال هذا اكتشاف أنفسنا واكتشاف أولادنا، كما قلت خصوبة أفكارهم، غزارة مُقترَحاتهم، دقة أحياناً نقودهم – وجهات نظرهم النقدية -، وأيضاً تحليق خيالهم، علينا أن نُعيد اكتشاف أنفسنا والجانب المُظلِم أيضاً من سلوكنا وتصرفاتنا، وعلينا أن نرى أنفسنا في مرائي أو في مرآة أولادنا، لا تظن نفسك دائماً الأب المُمتاز والرحيم والمِعطاء والمُضحي، مُمكِن أنت إلى حد بعيد هكذا، ولكن صورتك في مرآة ابنك تختلف.
وبالمُناسَبة بين قوسين سأقول معلومة علمية تربوية (لا تنتظروا من الأولاد – وخاصة الصغار غير الراشدين – الثناء الدائم والإشعار بالرضا، الأطفال لا يفعلون هذ، انتبهوا! بعض الآباء يغضب غضباً شديداً، يقول فعلت وسويت وعملت ويا أخي لا تُوجَد كلمة شكر، لكن الطفل لا يفعل هذا، والطفل لا يفهم هذا، لكن يوم يرشد ويُصبِح راشداً لن يضيع هذا كله، هل تعرفون هذا؟ لن يضيع! أنا أعرف حالة غريبة نموذجية، أب وأم كانا ماذا؟ فعلاً كانا يُضحيان، وهذه الكلمة بالمُناسَبة لست مُتحمِّساً لها، أنا أُحِب العطاء، كلمة عطاء أُحِبها أكثر من كلمة تضحية، أتحسَّس من كلمة ضحية وما إلى ذلك، فيها نوع من المظلومية، على كل حال كانا يُعطيان، ويُعطيان بلا حدود، الأب المسكين يعمل بياض النهار كله، يخرج – بالعكس – في فحمة الليل، ويعود في أول الليل إذا غسق، يعود وهو جائع، مُتعَب، ومهدود الحيل، لكنه كان دائماً يُؤثِر أولاده بنصيبه من اللحم والفاكهة، شيئ غريب! الأم لا يُعجِبها هذا، تقول يا أبا فلان خُذ نصيبك، فيقول لا، أولادي أولادي، ولا مرة هؤلاء الأولاد قالوا بارك الله فيك يا أبانا، مُمتاز، أنت مُضحٍ، أنت مِعطاء، ولا مرة! يلتهمون ويذهبون يعبثون ويلعبون، أطفال! لكن ما الذي حصل؟ أحد هؤلاء الأولاد كان يفعل الآتي، وطبعاً – بفضل الله – هذه العائلة بشكل عام وإلى اليوم مُتماسِكة بشكل غير طبيعي، الواحد منهم في قائمة أولوياته إسعاد الآخرين من إخوته وأخواته، شيئ عجيب! يُوجَد نوع من الإيثار الغريب جداً جداً، هل تعرفون ما أسسه؟ ليس مواعظ، ليس حلقات دينية، ليس خُطباً منبرية، لا! هذا السلوك اليومي، هل فهمتم؟ تذكَّروا أمثولة شجرة البامبوس، تقوم بالزراعة المُتواصِلة – زراعة زراعة زراعة – ثم تأتي السنة الخامسة إن شاء الله، كل شيئ يظهر ويُفرِح – بإذن الله – في وقته، لكن هذه طبيعة الطفل، لا تُحبَطوا إذا لم يُشعِركم بالرضا وإذا لم يقل إنه راضٍ – Satisfied – ومبسوط، لا! الطفل هكذا.
أحد هؤلاء الأبناء – وهذا الشيئ العجيب – ظل إلى أن وصل إلى المرحلة الجامعية وقطع شوطاً فيها – ثم تم اكتشاف هذه الحقيقة المُغيبة، ما هي؟ طيلة هذه الفترة كان يفعل الآتي، أي أكثر من عشر سنين طبعاً، أكثر من عشر سنين! بضع عشرة سنة – وهو يُقنِعهم – وهم مُقتنِعون تماماً – أنه لا يُحِب الشيئ الفلاني من الأكل، وإذا به أحب الأشياء إلى نفسه، وطبعاً هذا الشيئ هو أحب الأشياء إلى كل إخوانه وأخواته، لماذا يكتم هذا؟ إيثاراً لهم على نفسه، بضع عشرة سنة! والمسكين في كل مرة يُؤتى به – أي بهذا الشيئ – يتركه، كان يشتهيه لكنه أيضاً يُصِر على أنه يُؤثِر مَن حوله، طفل صغير – كان عمره تقريباً ثماني أو تسع سنوات – يفعل هذا، وظل هكذا إلى المرحلة الجامعية، من أين اكتسب هذه الخليقة؟ من أين اكتسب هذا الخُلق العجيب جداً جداً جداً؟ من أين اكتسب هذا النُضج في الشخصية وفي العواطف؟ طفل عمره ثماني سنوات كيف يفعل هذا؟ ولم يُدِل بنفسه مرة، أنني أنا المُضحي وأنا المُعطي، لأنه لم يسمع أباه مرة قال أنا المُضحي وأنا المُعطي، يبدو أن الأطفال كائنات فعلاً أكثر تركيباً وأكثر حسّاسيةً وأكثر ذكاءً مما نتخيَّلها، ليست مُجرَّد ألواح فارغة ننقش عليها ما نُريد ببساطة هكذا بالمواعظ وبالكلمات، لا! كائنات أذكى بكثير).
نسأل الله أن يُكرِمنا جميعاً في أنفسنا وفي أولادنا وأهلينا وأزواجنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد، أيها الإخوة:
قبل أن نُغادِر هذا المكان أُحِب فقط أن أُجيب عن سؤال خطر لي الآن أو للتو، سؤال صغير جداً، وجواب – إن شاء الله – أصغر، ما هو؟ بعض الناس يقول هل هذه الخُطبة خُطبة جُمعية؟ هل مُمكِن أن تكون خُطبة جُمعية؟ بلا شك، عندي بلا شك، أين الوجه الديني فيها؟ في نظري مُمكِن أن تكون كلها دينية، لماذا؟ هذه الخُطبة يُمكِن أنا أُلخِّصها أو أستعيض عنها بجُملة آيات وأحاديث، عشرة أحاديث وأربع أو خمس آيات، صدِّقوني! لكنني إن فعلت وتلوت عليكم الآيات والأحاديث دون أن أتكلَّم كما تكلَّمت اليوم تقريباً لن نعود بشيئ جديد، سنعود بمواعظ كما تعلَّمنا، لن نعود بتصورات وكيفيات قابلة أن تكون عملية وأن تُساهِم في إثراء وتغيير حياتنا.
ولذلك كونوا على قناعة وكونوا مُطمئنين أننا ما زلنا في جوهر وفي صُلب الدين وفي شيئ يُرضي الله ورسوله إن شاء الله تعالى، يوم ننجح أن نكون آباء وأمهات جيدين وصالحين وطيبين وأن نُنشئ عائلات مُتراصَة ومُتحابة ومُنسجِمة ومُتماسِكة – وهذا أهم شيئ – سننجح في أداء مهامنا الدينية على أحسن وجه، هل تفكَّرتم يوماً في الفرق بين الرصاص والألماس؟ من نفس المعدن، أليس كذلك؟ نفس الأصل الكربوني، نفس الشيئ! لكن الرصاص من أضعف المعادن وأكثرها هشاشة وطري، أما الألماس فهو أقواها على الإطلاق، نفس المادة، ونفس الأصل، فما الفرق؟ يقول علماء الفيزياء والكيمياء فقط في درجة ترابط الجُزيئات، الترابط بين ذرات ألماس في جُزيئاته أقوى بكثير من الترابط في رصاص نظيره في الأصل، الترابط! كل ما نحتاجه هو مزيد من الترابط داخل الأسرة، مزيد من تمتين العلاقات عبر المحبة، عبر القبول، لا الرفض، وعبر التفاهم، لا الاستغلال.
اللهم إنا نسألك أن تهدينا وتهدي بنا، وتُصلِحنا وتُصلِح بنا، اللهم أنت أصلحت الصالحين فأصلِحنا لك يا رب العالمين، هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ۩.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
_________
اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(29/6/2007)
أضف تعليق