أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، اللهم يا رب لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه، حمداً يُوافي نعمك ويُكافئ مزيدك، لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا محمداً عبد الله، ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين المُنتجَبين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا وعليكم، والمُسلِمين والمُسلِمات، معهم بفضله ورحمته ومنّه، أجمعين.
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم ربنا تقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا، إنك أنت التوّاب الرحيم. اللهم تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركعونا وسجودنا ودعاءنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا.
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۩، اللهم إنا نسألك أن تُعلِّمنا ما ينفعنا، وأن تنفعنا بما علَّمتنا، وأن تزيدنا علماً وفقهاً، اللهم آمين.
أما بعد، أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
السلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته.
نُكمِل – إن شاء الله – ما تبقى أو ما فضل من الحديث، عن اسم الله الجليل – سُبحانه وتعالى – المَلك، عن اسم المَلك!
قلنا هناك اسم المَلك، وهناك اسم المليك، وهناك اسم المالك. وإن اختلف العلماء أيهما أبلغ؛ الملك، أو المالك – ولن نخوض في هذا الخلاف -، إلا أنهم لم يختلفوا أن الأبلغ هو المليك. المليك أبلغ من المَلك وأبلغ من المالك. أي أبلغ هذه الأسماء الثلاثة هو المليك، فهذه صيغة مُبالَغة، مليك صيغة مُبالَغة بلا شك. وحين نقول عليم وعالم، يكون أيهما أبلغ؟ عليم طبعاً. أليس كذلك؟ ومالك ومليك، أيهما أبلغ؟ إذن مليك، فعيل! أليس كذلك؟ قادر وقدير، أيهما أبلغ؟ قدير. وهكذا، نعم! فلم يختلفوا على هذا.
واسم المَلك – تبارك وتعالى – ورد في القرآن الكريم في أربعة مواضع فقط، في أربعة مواضع! وأما اسم المالك، فورد أكثر من ذلك، ولكن لا يرد إلا مُضافاً.
والمُهِم، انتهينا في آخر درس أمس، إلى أن المُلك كله عند التحقيق وفي الحقيقة هو لله، هو لله! وقد يسأل سائل منكم؛ لِمَ إذن قال الله – تبارك وتعالى – في سورة الفاتحة مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩؟ قال مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩، وطبعاً ما معنى مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩؟ المالك في يوم الدين، كما قال الراغب وغيره. معنى مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩ المالك في يوم الدين، أي الذي له المُلك يوم الدين، لما قال – تبارك وتعالى – في سورة الحج الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ۩، قال الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ۩! فقد يسأل سائل؛ الله – تبارك وتعالى – له المُلك يوم الدين بلا شك، وهو المالك في يوم الدين بلا شك، ولكن أليس هو المالك أيضاً في الدنيا؟ نعم بلا شك، وهو مالك في الدنيا ومالك في الآخرة، ولكنه خصص فقال الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ۩، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩. لماذا؟ لأن المُلك حقيقةً وصورةً يُنزَع من الجميع، ولا يكون إلا لله. يوم القيامة لا يُوجَد أحد يُمكِنه أن يضحك على نفسه أو يضحك على الناس ويقول أنا المَلك، أنا المَلك الفلاني. لا يُوجَد!
روى البُخاري ومُسلِم، عن أبي هُريرة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – يقبض الله – تبارك وتعالى – الأرض يوم القيامة، ويطوي السماوات بيمينه، ويقول أنا المَلك، أين الملوك؟ أنا المَلك، أين الملوك؟ ولا يُجيبه أحد. لماذا؟ الكل موتى، الكل في عالم الفناء، في عالم العدم، لا أحد! وطبعاً هذا بالمعنى الشرعي، وليس الفلسفي. الكل في عالم العدم والفناء، موتى! ثم يُجيب نفسه – تبارك وتعالى -؛ لله الواحد القهار. لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۩، لِّمَنِ الْمُلْكُ ۩، وهذا سؤال مطروح في كتاب الله، لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۩، ويسأل هذا السؤال – تبارك وتعالى -، لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۩، لا يُجيب أحد، يقول لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ۩، لا إله إلا هو! فلذلك تظهر حقيقة المُلك يوم القيامة.
ما معنى المُلك في الدنيا؟ المُلك هو الاستغناء، أليس كذلك؟ إذا استغنيت حقاً وحقيقةً، فأنت مَلك. وإذا افتقرت إلى غيرك، فأنت عبد له بمقدار حاجتك إليه. فالمَلك إذن في الدنيا، هو الذي جعل على الله اعتماده، وفي الله وبالله ثقته، واستمداده من المَلك – لا إله إلا هو -، لا يستمد من غيره، ولا يسأل أحداً سواه، ولا يرجو أحداً. ولا يخاف إلا الله. هذا هو المَلك!
قال أسيادنا العلماء والعارفون – نوَّر الله ضرائحهم، وقدَّس أنوارهم -، قالوا ولم يُوجَد هذا المعنى تاماً في واحد من خلق، إلا في مولانا وسيدنا وحبيبنا وقرة عيوننا رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -. هذا الذي جعل ثقته مُطلَقاً بالله، واعتماده مُطلَقاً على الله، ويقينه المُطلَق بالله، وقطع شوقه وحاجته من الناس أجمعين، ما أسعد هذا النبي! وما أهداه! صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، إذن هو ماذا؟ هو المَلك حقيقةً. وهو الذي قال لست كهيئتكم، أبيت عند ربي، يُطعِمني ويسقيني. أنا لا أحتاج حتى لهذه الأشياء، لا أحتاج! حتى حين ينقطع عني مدد الطعام والشراب، أكون عند ربي في حضرة القدس، وهو يُطعِمني ويسقيني. بطريقته الخاصة طبعاً، الله أعلم كيف، هذا شيء مُختلِف، هذا هو رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
يُمكِن أن يكون الواحد منا له نصيب من هذا المعنى، بمقدار ماذا؟ بمقدار وثاقة إيمانه بالله. وهذا الكلام – أُحِب دائماً أن أُوضِّح هذا المعنى، لنفسي طبعاً أولاً ولإخواني، إن شاء الله – نسمعه، ونطمئن إليه، كلام جميل، تصفو به النفوس، وتُحِبه. صدِّقوني، لا معنى له، وهو تضييع وقت؛ أنا أُضيِّع وقتي، وأُضيِّع أوقاتكم، ولا معنى له في النهاية، ولا أثر له، ولا فائدة تُرجى منه، إذا لم نُحاوِل أن نخبره. ستكون هناك مُشكِلة، إذا تعودنا فقط أن نأخذ الدين دروساً، فقط! نسمع خُطباً، وهناك كلام جميل ومُمتاز وهناك شعر وهناك آيات وهناك أحاديث، والكلام حلو ومصفف، وهناك الرجز والسجع، والكلام الفارغ هذا. وهذا لا ينفع، لا بد من أن نخبره.
وهذا هو الفرق بيننا وبين عباد الله الصالحين، وخاصة بيننا وبين الصحابة، لم يكن عندهم هذا، وكل شيء كان عندهم للعمل، وكانوا يأخذون الأشياء، لماذا؟ لأن همتهم ونيتهم كانت صادقة وصحيحة، في ماذا؟ في استنقاذ رقابهم من نار جهنم. كانوا فعلاً يُريدون أن ينجوا، فالأمر ليس لعباً، نحن نأخذه – أنا أقول لكم حقيقةً، أكثرنا، إلا مَن رحم الله – لعباً، كل شيء فيه تأجيل! كل واحد فينا – إلا مَن رحم الله – يُؤجِّل، يقول هذا الكلام جيد، نسمعه وربما يفيدنا في يوم من الأيام. أي الآن لا تنتوي أن تخبره؟ لا تنتوي أن تُطبِّقه؟ ستبقى كما أنت! متى ستُطبِّقه؟ كلما تقدَّمت بك السنون، كلما جمدت – تصوَّر – على عادات سيئة، كلما أصبح من الصعب ومن العسير أن تقتلع نفسك منها. أنا أقول لك واسأل، اسأل مُجرِّباً – كما يُقال – ولا تسأل طبيباً، اسأل أي إنسان أكبر منك سناً، والله الهداية دائماً ما تكون أقرب إليك ما دمت طري العود، طالما أنت لا تزال أصغر وأمامك فُسخة، لا تُؤخِّر! يصعب الأمر، كلما أخَّرت، وأخَّرت، وأخَّرت، ولعلك لا تستطيع الرجوع، لعلك لا تسعد بالتوبة ولا بالرُجعى. وعلى كل حال المسألة ليست مسألة فقط أن تتوب وأن ترجع، حتى ولو تُبت في آخر عمرك وتقبلك الله وأدخلك الجنة، سيكون فاتك ثواب ماذا؟ ثواب المُحسِنين في الآخرة، ولذة وجنة العارفين في الدنيا. والله حسرة على عباد الله، أي من المُسلِمين طبعاً، فالكفّار هؤلاء الحسرة كلها عليهم، مساكين! أو لا حسرة حتى عليهم منا، يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ۩، ربهم يتحسَّر عليهم. وأما المُوحِّدون المُؤمِنون، فالحسرة عليهم، على مَن خرج من الدنيا منهم، ولم يذق طعم المعرفة بالله – تبارك وتعالى -، وهو مُتفاوِت طبعاً، أي لم يستجد له معنى جديد في معرفته وصلته ووصلته بالله – تبارك وتعالى – غير ما عرفه وهو في صباه. مُذ كنا صغاراً ونحن نقول لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ونتحدَّث عن الإسلام، عن أبي بكر، عن عمر، عن عثمان، عن القرآن، عن السُنة، عن البُخاري، عن مُسلِم، عن الصلاة، عن الصيام، عن العُمرة، عن الحج، وعن الأحاديث، جيد! هذا الكلام نسمعه ونُردِّده، مُذ كنا صغاراً، والآن كبرنا وشبنا، وماذا بعد؟ الكلام نفسه؟ لا يُوجَد شيء آخر؟ لا تُوجَد خبرة؟ لا تُوجَد خبرة حقيقية إيمانية؟ لا يُوجَد سر بينك وبين الله – تبارك وتعالى -؟ لا تُوجَد تجربة مُمتدة؟ لا يُوجَد، لا يُوجَد! نُردِّد الكلام نفسه، ونفعل الحركات نفسها. فيا حسرة والله! والله معناها أن هناك حسرة، معناها أننا لم نعرف الإيمان الحقيقي، أليس كذلك؟ مكانك سر، نُراوِح في أماكننا، لا نتقدَّم! نحن لا نتقدَّم، وأحياناً نتأخَّر، وهذا الشيء في مُنتهى… ماذا أقول؟ في مُنتهى السوء، وفي مُنتهى الخسران.
فجرِّبوا مُباشَرةً، لا تُحاوِلوا التسويف، وهذا من إبليس! التسويف هذا من جُند إبليس، وهو طبعاً يقول لك نعم، هذا الكلام خطير، هذا الكلام الذي يسمعونه أنا لا أُريد أن ينتفع منه هؤلاء. وهو الآن مُغتاظ جداً طبعاً، فماذا يفعل؟ التسويف؛ ليس الآن، عُد إلى بيتك الليلة، شاهد التمثيلية، هناك تمثيلية يُعرضونها في الساعة الواحدة، شاهدها. وبعد ذلك سوف تتعب، وتنام. وماذا عن قيام الليل؟ ألا يُوجَد قيام لليل في رمضان؟ أضعنا الليل أيضاً في رمضان؟ فيما بعد – إن شاء الله -. يُمكِن أن يكون هذا في آخر رمضان، في العشرة الأواخر الجيدات، يُمكِن أن يكون هذا فيهم. وهذا الذي يحصل معنا، إبليس! في العشرة الأواخر سوف تقوم. وربما لن يُيسر لك أن تقوم، وذهب رمضان وأنت لم تفعل شيئاً زائداً، ما هذا؟ ما هذا؟
(ملحوظة هامة) ذكر أحد الحضور النفس، فأكَّد فضيلة الدكتور كلامه قائلاً طبعاً، طبعاً النفس، نعم! ثم أوضح أنه تكلَّم وهو يعرف ماذا أقول؛ لأن الكلام حتى عن إبليس وكونه طليقاً أو غير طليق، أو عن مردة الجن وما إلى ذلك، فيه قول على كل حال.
المُهِم، فلا تُسوِّف، بالعكس! كيف تستطيع أن تقطع الخط على النفس أو على الشيطان؟ تستطيع ذلك بأن تُبادِر إلى العمل، وقل سأُجرِّب، صحيح أنني غير مُتمتع بالشيء هذا، وليس سهلاً علىّ أن أقوم الليل، ولا أجد مُتعة حتى في قيام الليل، بالعكس! أنا أقوم وأنا تعبان ومهلوك، ومع ذلك هذه ليس مُشكِلة. ولكن قم وجرِّب، يا مسكين لعلك… أو يا مسعود، لماذا أقول يا مسكين؟ يا مسعود لعلك تحظى بمَوافَقة لحظة من لحظات العناية الإلهية. ودائماً ترقبوا هذه اللحظات، أنت تقول هذا صحيح، أنا أعرف حالي، أنا رجل مُفتَّن توّاب، أغلط وأرجع، أغلط وأرجع، باستمرار أنا هكذا، أنا ضعيف، أنا لا أصلح، يُمكِن أن أنتهي كذلك. ولكن ما أدراك، لو وافقت لحظة واحدة، قد يتبدل بها جوهرك – إن شاء الله تعالى -، قد يُطالِعك من فيوض الله وعطاءات الله شيء لا يخطر أو لم يخطر على قلبك من قبل؟ بهذا الشيء! وهو يكون في لحظات بسيطة، تُفتَح لك روزنة أو طاقة – تصوَّر -، تنتشلك من هذه الوهدة، وترفعك إلى عرش الصلاح – بإذن الله تعالى -، فلا تزال صالحاً، حتى الممات، وتكون في ازدياد – بإذن الله تعالى -، وتُحشَر غداً – إن شاء الله – من ملوك الأولياء والصالحين.
لِمَ لا تطمع في هذا الشيء؟ لِمَ؟ طماعيتنا في أشياء – والله – خسيسة، والله العظيم! والله حقيرة، من أحقر ما يكون، والله والله! وأنا حلفت، وليس جيداً للإنسان أن يحلف، ولكن أنا مُتأكِّد، ولا أستثني نفسي طبعاً، بالعكس! أنا أدخل دخولاً أولياً في هذا الشيء. لو قيل لأي واحد منا؛ إذا قمت الساعة الثالثة أو الرابعة – تصوَّر – قبل الفجر، في السحر، فسيكون لك يا سيدي – ولا نُريد أن نقول ألف يورو، لماذا نقول هذا؟ – مئة يورو، أو ألف وأربعمائة شلن، فسيقوم والله، والكل سيقوم وسيضع المُنبه – الــ Wecker -؛ هذا مُهِم جداً جداً، هذا لا استغناء عنه، ولو نام لنصف ساعة، لقام، وما معنى مئة يورو؟ وما قيمة ألف يورو؟ وما قيمة مُلك الدنيا كله؟
قيل يا رسول الله، فلان. قال ما له؟ قال عنده أموال – ما شاء الله -، والله يُعطيه ويُوسِّع عليه. سكت النبي، أي هذا الذي علَّمتكم إياه؟ أنتم فرحون بأن عنده أموال وعنده كذا وكذا. قال أليس من ورائه الموت؟ قالوا بلى. قال انتهى. أنتم فرحون بهذا؟ الكل سيموت، لا يُمكِن! وكل هذا كلام فارغ، عنده قصور وعنده أموال، وسوف يموت. انظر إلى النبي، كان عنده حكمة.
ولذلك العارف بالله – كما قلت لكم أمس – خواطره، أفكاره، آماله، همته، عزائمه، هاجسه، يختلف عن الإنسان العادي منا، يختلف! كل هذه الأشياء عند العارف بالله وعند أهل الله، أرقى وألطف وأنزه، أشياء بعيدة وعالية جداً جداً، وكلها تتعلَّق بماذا؟ بمعرفة الله، بحُب الله، بإرضاء الله، بالتقرب إليه، بالاتصال به، بمُناجاته، بطلب المقام عنده والحبوة. هذه هي! ولكن نحن دائماً نجول في أشياء جداً سخيفة، سفساف من الأمور، همومنا من أسخف ما يكون!
قبل أيام – سُبحان الله – وأنا أسوق سيارتي، مرت إلى جانبي شاحنة، أخذتني! شاحنة عظيمة جداً، هذه التي لها عشرون عجلة، فقلت الله أعلم ماذا تحمل هذه. مُغطاة! ثم – سُبحان الله – وقع في قلبي الآتي، وقلت نعم، الناس مثلهم كمثل هذه الشاحنة، أكثر خلق الله – إلا مَن رحم الله – مثل هذه الشاحنة. تخيَّلوا! وضحكت بيني وبين نفسي، قلت هذه الشاحنة لها عشرون عجلة، والله أعلم كم سعة هذا الخزّان الخاص بالوقود، يُمكِن أن يكون في هذا ثلاثمائة لتر، أو حتى أربعمائة، كما هو الحال أحياناً، طبعاً شيء ضخم جداً جداً! ومُكلِفة، وثمنها بالملايين، أي هذه الشاحنة، أليس كذلك؟ وتذهب في رحلات، ولا تعود إلا بعد ثلاثة أشهر، نعم! المُهِم، قلت مثل هذه الشاحنة، بكل هذه القُدرات والإمكانات، ماذا لو أن صاحبها استخدمها كل صباح وكل مساء في نقل شنطة ابنه إلى المدرسة – أي الــ Die Schultasche هذه -؟ هناك شنطة يضع فيها مُستلزمات ابنه، وحتى لا يتعب ابنه في حملها، يحطها في الشاحنة الضخمة هذه، ويذهب إلى المدرسة، يقودها، ثم يوقفها، وينزل الشنطة، ويقول له تفضَّل، هذه هي الخدمة. ضحكت! وتضحكون، أليس كذلك؟ هذه سخافة، هذا الذي نفعله بأنفسنا. نحن خلفاء الله في الأرض، الله أنزلنا واستخلفنا، وكل واحد منا لديه فرصة أن يتصل بالله – تبارك وتعالى -، أن يكون من كبار أولياء الله، أن يكون رجلاً مُجاب الدعوة، أن يكون رجلاً براً حفياً، تخيَّل! ولكن يا للأسف، يُضيِّع الوقت والزمان والبدن والصحة والفراغ والعلم والهُدى، في ماذا؟ في أشياء أسخف مما فعل صاحب الشاحنة هذا، والله العظيم! في أشياء أسخف.
قال إمامنا أبو حامد الغزّالي – قدَّس الله سره – شرف المُريد على مقدار، أو بمقدار، شرف المُراد. كلٌ منا يُريد شيئاً، أليس كذلك؟ كلٌ منا عنده هدف، يهدف إلى شيء مُعيّن، عنده هدف في الحياة! شرف المُريد بمقدار شرف المُراد. يقول أبو حامد – قدَّس الله سره الكريم – فمَن كانت همته ومُراده ما يدخل بطنه، فقيمته ما يخرج منه. هذا هو! أتُريد أن تعرف قيمتك؟ هذا هو. إذا كان أكبر همك فقط أن تشتغل وتتعلَّم وتحصل على شهادة، وأن تشتغل وتأتي بمرتب عالٍ، فالسؤال هو؛ وماذا تُريد من هذا؟ أهذا، لكي تأكل جيداً، وتلبس جيداً، وتسوق جيداً، وتعيش في فيلا جيداً؟ أهذا الذي تُريده؟ إذن قيمتك أنت مآل هذه الأشياء. اللباس ما مآله؟ القمامة، على الزبالة! يهترئ تماماً ويتمزق. السيارة أنت اشتريتها بمليوني شلن، وبعد عشر سنوات، لن تبيعها بمئة ألف شلن، أليس كذلك؟ لا شيء! تصير هكذا في الأخير. وبعد ذلك سوف تدفع خمسة آلاف شلن؛ حتى يرفعوها لك ويرمون بها، انتهت هذه. وكذلك الأكل، تأكله وأنت مبسوط به، وهناك سفرة كل يوم، كم أكره هذه السفر الطويلة! أكرهها، حتى حين يدعوني أحدهم، أكثر ما أكرهه أن يُعدِّد ألوان الطعام، والله العظيم! أشعر أن هذا دنيوي، وهو دنيوي فعلاً، والدنيا محقورة، لِمَ؟ لِمَ؟ ألا تتذكر كيف كان يأكل الرسول، وعلى ماذا كان يفطر؟ كان لا يشبع من خبز الشعير يومين مُتتاليين، ونحن نأكل ونأكل. فلتتذكَّر، ولنتذكَّر إخواننا ونتذكَّر نبينا وكيف عاش، لِمَ هذه السُفر العجيبة الغريبة؟
فقال شرف المُريد على قدر شرف المُراد. فمَن كانت همته ومُراده ما يدخل بطنه، قال فقيمته ما يخرج منه. ومَن كانت همته الله، فقيمته عند الله – تبارك وتعالى -. الله يعرف هذا العبد، أرأيتم؟
إذن كل واحد منا يُمكِن أن يكون مُلكاً – إن شاء الله تعالى -، باستغنائه، باستغنائه! بإماتة الأطماع في هذه الدنيا، وبالذات في أهل هذه الدنيا، يُميت الطمع من الناس، يقطعه بالكامل. الطمع هو الفقر الحاضر. النبي يقول الطمع هو الفقر الحاضر. الفقير هو الطمّاع، أليس كذلك؟ وكما قال أيضاً ابن عطاء ما بسقت أغصان ذل، إلا على بذور طمع. تطمع وتُصبِح ذليلاً؛ لأنك طمّاع، تطمع في هذا المنصب، وتطمع في هذا المرتب. لماذا تذل نفسك يا رجل؟ والله لن يأتيك إلا ما كتب الله لك، ولكن أنت فقط تذل نفسك، تبذل ماء وجهك، تسفح ماء وجهك. لا تسفحه! وإذا كان مكتوباً لك، فسوف تأخذه رُغماً عن العالمين، أليس كذلك؟ واعلم – النبي يقول لابن عباس، في الحديث المشهور، في الوصية المشهورة جداً، الجامعة المانعة – أن الأمة لو اجتمعت – كلهم، كل الأمة – على أن ينفعوك بشيء، لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله. لا يُمكِن، مُستحيل! لو كل العالم يُريد أن ينفعك، لن يتمكن، ولا يكون إلا ما كتب الله. وطبعاً الشيء نفسه في الضرر؛ لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصُحف. مُستحيل! هذا شيء مفروغ منه.
كان هناك شاعر اسمه ابن أُذينة أو أَذينة، هذا الرجل شاعر – ما شاء الله – مُتزهِّد، وعنده أبيات من الشعر، يقول:
لقد عَلِمْتُ وما الإشْرافُ من خُلُقِي أنَّ الذي هو رزقي سوف يأتيني.
قال لقد عَلِمْتُ وما الإشْرافُ من خُلُقِي. قال أنا لا أستشرف إلى الملوك والأمراء وما إلى ذلك، وأنظر إلى ما أُعطيَ غيري، أنا لست مُستشرِفاً. النبي قال إن هذا المال خضرة حلوة، فمَن أخذه بغير استشراف، بورك له فيك. لا تستشرف، ولا تتطلع دائماً.
يقول:
لقد عَلِمْتُ وما الإشْرافُ من خُلُقِي أنَّ الذي هو رزقي سوف يأتيني.
يقول لقد عَلِمْتُ وما الإشْرافُ من خُلُقِي. التطلع إلى ما أُعطيَ للغير، هذا ليس من خُلقي.
أسعَىٰ لهُ فيُعَنِّيني تَطَلُّبُهُ ولَوْ قَعَدْتُ أتاني لا يُعَنِّيني.
قال أنا هكذا مُتأكِّد. وفي يوم من الأيام جمعه وجماعة من الشعراء مجلس حافل بأمير المُؤمِنين الأموي هشام بن عبد الملك. وهشام طبعاً هذا ملك من ملوك الدنيا، وعنده جاهلية طبعاً، بلا شك! وهو رجل أخذته العزة بالإثم، أي كيف أنت تتصرَّف وكأنك مُستغنٍ عني؟
وطبعاً هو مُستغنٍ عنك، وهو مُفتقِر إلى الله، أنت ماذا؟ أي ما الذي أغضبك؟ غضبان، لا يُريد! لا بد وأن تُظهِر الذل لنا نحن، أي الملوك. الله أكبر يا أخي! أعطاهم، أعطى الشعراء جميعاً، وأجزل لهم في العطية؛ يقول لهذا خُذ لك ألفاً، ولهذا خُذ لك ألفين، ولذاك خُذ لك خمسمائة، و… و… و… وقال له أما أنت، ألست القائل؛ لقد عَلِمْتُ؟ قال نعم، بلى. قال فاخرج. قال له بارك الله فيك، السلام عليكم. ركب دابته وخرج، ثم ذهب – يسكن في الحجاز المسكين – وبلغ داره.
فنام هشام، وفيه بقية إيمان وخير طبعاً، وهو خليفة مُؤمِن، فيه بقية إيمان! قال لا إله إلا الله، رجل قصدنا من بلاد الله البعيدة، طمعاً في نولنا – أي في عطائنا، يُسمى النول والنوال -، وقال بيتين يمتدح بهما ربه – لأن هذا قدر، وهو يُؤمِن بالقدر -، أحرمه؟ ليس هذا بصحيح.
فلما أصبح، قال يا فلان – لأحد رجاله -، خُذ هذا المال، أو خذ هذه السُرة، واغد بها إلى ابن أُذينة، أو أَذينة، وأعطه إياها، وانظر بما يرجع إليك – أي انظر ماذا سوف يقول -.
جاءه – بعد أن سافر – وطرق الباب، قال مَن؟ فقال أنا رسول أمير المُؤمِنين. قال أهلاً وسهلاً، ما الأمر؟ فقال هذا من أمير المُؤمِنين. قال له قل له أنا القائل لقد عَلِمْتُ. ها أنا جلست في بيتي، وآتاني رزقي. أنا نطقت بالحكمة، التي مَن يؤتها، فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۩. وهذا من الحكمة، هذان البيتان من أجمل الشعر العربي، ويا ليت الشعر العربي كله يكون هكذا!
لقد عَلِمْتُ وما الإشْرافُ من خُلُقِي أنَّ الذي هو رزقي سوف يأتيني.
أسعَىٰ لهُ فيُعَنِّيني تَطَلُّبُهُ ولَوْ قَعَدْتُ أتاني لا يُعَنِّيني.
رزقي، وسوف يأتيني، قدر، ولا يُمكِن غير هذا! هذا إيمان بالله، وثاقة إيمان بالله.
روى الإمام أحمد – رحمة الله عليه -، وقدَّس الله سره -، قال حدَّثنا عبد الرزّاق، قال حدَّثنا معمر، قال سمعت وهباً يقول أوحى الله – تبارك وتعالى – إلى بعض أنبيائه، كما في بعض الكُتب السابقة، أن يا فلان اعلم أنه مَن اعتصم بي دون الخلق، فوعزتي وجلالي، لو كادته السماوات والأرضون ومَن فيهن، لجعلت له من ذلك مخرجاً. لأنه هو المَلك، هو المَلك! وهو يتصرَّف في كل شيء، وهو يملك حتى قلوب العباد، تخيَّل! أي لن يُضَر ولو كادته السماوات والأرض ومَن فيهن – أي من الإنس والجن والمَلك -، الكون كله ضده! ولكن هو عبدي. كلمة عظيمة جداً جداً أن تقول ربي الله، ولكن ماذا لو قلتها من قلبك؟ أف! مُخيفة، مُخيفة! والله بكلمة ربي الله، ناصري الله، الله معي، يُمكِن أن تقهر أعظم الملوك، وأعظم رجال الاستخبارات، وأعظم الجبابرة. كما قال النبي للكافر، قال له مَن يمنعك مني؟ قال له الله. فسقط السيف، أي من الكافر، وأسلم بعد ذلك؛ لأن النبي قالها، وقالها من قلبه، نعم الله، الله معي ويمنعني، انتهى! ولكن نحن نقولها ونحن خائفون، نقولها فقط باللسان، والقلب غير مُؤمِن، القلب شاك. لكن قل الله معي، الله ربي، أنا عبده، أنا في مُلكه، أنا له، هو سيمنعني، هو سينصرني، هو سينتقم لي. يفعل – تبارك وتعالى -، لأنه ربك، أعظم رب! كفاك فخراً، أن يكون ربك الله – تبارك وتعالى -. أعظم فخر لك، أنك عبد لهذا الرب – لا إله إلا هو -، وأنه رضيَ بك عبداً أصلاً.
حَسْبُ نَفْسِي عِزًّا أنني عَبْدُ يَحْتَفِي بِي بِلا مَوَاعِيدَ رَبُّ.
هُوَ فِي قُدْسِهِ الأعَزُّ وَلَكِنْ أنَا أَلْقَى مَتَى وَأيْنَ أُحِبُّ.
الله أكبر! قال هذا أكبر فخر لي. هذا الشاعر الصوفي يقول:
حَسْبُ نَفْسِي عِزًّا أنني عَبْدُ يَحْتَفِي بِي بِلا مَوَاعِيدَ رَبُّ.
أينما أردت، مُباشَرةً ترفع يديك وتقول يا الله، وأنت تسوق حتى السيارة، حين تتذكَّر أي شيء أو تحن إليه، قل يا رب، يا جوّاد، يا كريم، يا شافي، يا مُعافي، يا ستير، يا مالك المُلك، يا كريم، أي شيء! اذكره بأي اسم من أسمائه أو بجُملة من أسمائه، واطلب منه، تشعر أن الإجابة قريبة جداً جداً، لكن هذا لو كان من القلب، وتشعر أنك تُناجيه، تصوَّر! وقتما تُريد، في أي لحظة، أليس كذلك؟ وربنا يُحِب هذا.
وانتبهوا، فهذه المعاني – سُبحان الله – بداية الطريق إلى الله. حين تبدأ تشعر بأن روحك ونفسك بدأت مفتوحة لتعمق هذه الدلالات والمعاني، اعلم أنك بدأت الطريق إلى الله – إن شاء الله تعالى -. الله بدأ ينفحك وبدأ يُعطيك. أوحى الله إلى نبي من أنبيائه، قال له يا فلان، يا عبدي، أدرِك لي لطيف الفطنة، وخفي اللُطف، فإني أُحِب ذلك منك. قال يا رب وكيف أُدرِك لطيف الفطنة؟ ما لطيف الفطنة؟ وكيف هذا؟ والنبي هذا الله يُعلِّمه العرفان، هذا العرفان، المعرفة بالله ليست كأي كلام، ليست كلاماً؛ لا إله إلا الله باللسان، لا! أشياء دقيقة. قال يا رب كيف أعرف لك لطيف الفطنة؟ قال تعلم أنه لو وقعت عليك ذبابة، فأنا الذي أوقعتها، فإياي فسل أن أرفعها عنك.
جيد، قال له وكيف أُدرِك يا رب خفي اللُطف؟ هذا لطفي الفطنة، وكيف أُدرِك خفي اللُطف؟ واللُطف – سُبحان الله – نفسه هو خفي، ومع ذلك سنُدرِك خفاء الخفي؟ شيء عجيب هذا! قال له تعلم وتُدرِك لو وصلتك حبة – وهل تعرفون ما الحبة؟ أي سُدس الدرهم. إذا كانت هي من الموازين المالية، فهي سُدس الدرهم، والدرهم سُدس الدينار، أي واحد على ستة وثلاثين من الدينار، أي شئ بسيط، ربما أقل من السنت، أو حبة بُر، حبة قمح أو شعير -، أني أنا الذي سقتها إليك. والله لن تأتيك حبة، إلا من خزائني. لا تقل هو أعطاني، هذا رفع مرتبي، هذا أعطاني علاوة، هذا يسَّر لي موضوع الوظيفة. لا! كلها وسائط ظاهرية هذه، الله هو الذي فعل ذلك، إياك! اشكر الناس، مطلوب أن تشكر الناس، ولكن الشكر الحقيقي لمَن؟
(ملحوظة هامة) أجاب بعض الحضور، قائلين بالله عز وجل، ثم استأنف الدكتور عدنان إبراهيم كلامه قائلين لله. ثم استتلى فضيلته قائلاً والقلب يعلم أن هؤلاء وسائط هكذا، من باب الأدب ومُراعاة الأعراف وما إلى ذلك – والدين قال لنا نعمل هذا – نشكرهم.
المُؤمِن مُؤدَّب، المُؤمِن مُؤدَّب ولكن القلب مُتعلِّق حقيقةً بمَن؟
(ملحوظة هامة) أجاب بعض الحضور، قائلين بالله عز وجل، ثم استأنف الدكتور عدنان إبراهيم كلامه قائلاً؛ وشُكره كله لله – تبارك وتعالى -. هكذا إذا بدأت تلحظ الأشياء الصغيرة، فأنت بدأت تصل. أرأيت؟ هذا هو.
جيد، العبودية لله – كما قلنا – تُساوي ماذا؟ تُساوي المُلك الحقيقي، تُساوي الحرية. مَن كان عبداً لله، لمالك المُلك، فهو المَلك الحقيقي في الدنيا بين الناس – إن شاء الله تعالى -، تصوَّر! هو المَلك الحقيقي، وهو الحر الحقيقي، هذا هو! وعكسها العبودية للنفس، أو للشهوة، أو لغير الله، هي الذل، والصغار، والفقر، والخُسران – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، فاختر ماذا تُريد.
الحديث طويل جداً فيه، ونعود فقط لنُكمِل الأثر، حتى نُفضي إلى اسم القدوس – إن شاء الله تعالى -، والحديث فيه ليس طويلاً جداً.
قال له إذا اعتصم بي عبدي من دون الخلق، فوعزتي وجلالي لو كادته السماوات والأرضون ومَن فيهن، لجعلت له من ذلك – أو قال من بين ذلك – مخرجاً. وعزتي وجلالي لو اعتصم عبدي بأحد من خلقي دوني، أعلم ذلك من نفسه – ربما يكون مُتظاهِرا بغير ذلك، يدّعي أنه عبد لله، ولكن هو قلبه مع الناس، ومُعتصِم بالناس، وحاطط كل اعتماده على الوزير أو على رجل استخبارات أو على هذا الغني أو على كذا. فهو لا يعتصم بالله، يعتصم بالناس -، لأقطعن أسباب السماء من بين يديه – سأمحق كل شيء -، ولأسيخن الأرض من تحت قدميه، ثم أجعله في الهواء، وأكله إلى نفسه. اذهب – أقول له -، اذهب وحدك، هيا! اذهب وتخبط. فيبقى يتخبط.
انتبه، إذا شعرت بحالة التخبط في حياتك، فاعلم أنك موكول إلى نفسك. إذا كنت ترى من نفسك أنك في يوم تكون هكذا، وفي يوم آخر تكون هكذا، وفي يوم تكون صالحاً، وفي يوم تكون طالحاً، وفي يوم تفعل أشياء فظيعة، وفي يوم تفعل أشياء أُخرى، فأنت تتخبَّط! هذه معناها أنك فعلاً في حالة تخبط؛ لأنك موكول إلى نفسك. وانظر من أين أوتيت، لِمَ وكلك الله إلى نفسك؟ يُوجَد عندك شيء يفتقر إلى الصدق، مع الله – تبارك وتعالى -، حالة أو حالتك تفتقر إلى الصدق، انتبه! عُد إلى نفسك، وعُد إلى الله – تبارك وتعالى -، وسوف ترى كيف سيقر القرار، وتُلقي عصا التسيار، وتأخذ حظك من الطمأنينة والسكينة – بإذن الله تبارك وتعالى -، وتترك حالة التخبط.
إذا شعرت بالوهق، وإذا شعرت بالثقل، وإذا شعرت بحالة يُسمونها في علم النفس حالة الاكتئاب – أي الــ Depression، (ملحوظة هامة) نطقها الدكتور مرتين؛ المرة الأولى بالألمانية، والمرة الثانية بالإنجليزية -، حالة اكتئاب وكأن الدنيا كلها تُعاكِسك والقدر يُعاكِسك، وحالتك (شلش)، وتعبان وزعلان، فاعلم أن هذا من شؤم الذنوب. أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ۩، Depression ماذا يا أخي؟ ما الكلام الفارغ هذا؟ هذا لم يكن موجوداً عند الناس الصالحين. هذا من الذنوب، هذا أثر الذنوب! الوحشة هي من أثر الذنوب، الوحشة والاستيحاش والظلام والضيق والحصر والحرج من أثر الذنوب. لماذا؟ ماذا سمى الله الذنوب؟ سماها الأوزار. أليس كذلك؟ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ ۩، وقال له ماذا؟ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ۩ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ۩. فماذا تُريد أكثر من ذلك توصيفاً لحالة الــ Depression وحالة الوهق والإعياء والتعب وما إلى ذلك؟ هو هذا، معناها أن هذا بسبب الوزر. وأنت تقول لي أنا الحالة النفسية عندي ليست على ما يُرام. لا، لا! هذا من الذنوب، ومن البُعد عن الله. أرأيت كيف يكون ذلك؟ هذه هي.
الله سماه الوزر، وما معنى الوزر لُغةً؟ الوزر هو الثقل. الشيء الثقيل يُسمى ماذا؟ وزراً. ويُقال حمَّله وزراً، أي حمَّله حملاً ثقيلاً. ويُقال المَلك استوزر فلاناً، أي جعله وزيراً. لماذا سُميَ الوزير وزيراً؟ لأن المَلك يحط طبعاً كل التبعات وكل الحجارة على ظهره، للأسف! وحين يغلط، يدكه في السجن، أو يُنهي حياته، ويقول هو (ابن الكلب)، هو الذي عمل كذا وكذا. فيضيع بسببها! هذا سموه وزيراً للأسف، هذا الاسم غير طيب، وانظر إلى اللُغة، ما أحسنها اللُغة العربية! لُغة فلسفية، فيها أبعاد فلسفية عميقة. وهم يفرحون بها؛ السيد الــ Minister، بالعكس! من أسوأ ما يكون، في اللُغة العربية هو الوزير وما معنى الوزير إذن؟ الذي يتحمَّل أثقال غيره. حط عليه، حط على ظهر هذا المسكين إلى أن ينكسر. فماذا تُريد من هذا الهم؟ دعك عنه.
فربنا قال له ماذا؟ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ۩ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ۩. وتعرفون ما معنى أَنْقَضَ ۩؟ أي طقطق باللُغة العامية.
(ملحوظة هامة) قال أحد الحضور كسر. فقال فضيله لا، ليس كسر، وإنما طقطق. أي عظام الظهر خرج صوتها، وهو النقيض. هذا يُسمى ماذا؟ النقيض. قال هذا، فماذا تُريد أكثر من هذا تشبيهاً لثقل الذنوب؟ الذنوب ثقيلة جداً جداً جداً.
وكلما حطبت في حبل الذنب، صار عندك ثقل. هل أنت تشعر بثقل على أكتافك؟ والله يكون هذا صحيحاً في بعض المرات، والله تحس حتى بثقل بدني، البدن نفسه تحس بأنه تعبان ومُرهق، وأما النفس – الله أكبر – فمُشتتة مُمزقة، في حالة يُرثى لها. وهذا بسبب ماذا؟ الذنوب.
إِذَا كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ.
العارف بالله يقول إِذَا كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ. إذا كنت تشعر بالوحشة وبالظلام وبالاكتئاب، فالعارف يقول لك هذا بسبب الذنوب. وأنت لا تعرف! فماذا تعمل؟ فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ. اسْتَأْنِسِ بربك يا رجل، ارجع، وجرِّب طعم السعادة في الإيمان الآن والطاعة، خلك في حظيرة القُدس. فهذا هو!
قال ثم أجعله في الهواء، وأكله إلى نفسه. قال مَن تفرَّغ لعبادتي وكان في طاعتي، أعطيته قبل أن يسألني، ولبيته قبل أن يدعوني، فأنا أعلم بحاجته التي ترفق به منه. يا سلام! انظر، هذه الصورة المُضادة تماماً. مَن يكون في طاعتي ويكون معي، أنا حتى من غير أن يسأل ومن غير أن يقول أُعطيه.
وليس هذا فحسب، هناك قصة أفضل من هذا أيضاً، وبالأحرى هذه ليست قصة، وإنما معنى عرفاني، أختم به شرح اسم الله المَلك – لا إله إلا هو -. ما هي القصة يا إخواني؟ قصة أن الرجل الصالح الذي عنده مكانة ودالة عند الله – تبارك وتعالى -، أحياناً الناس يطلبون منه الدعاء أليس كذلك؟ يقولون له يا مولانا ادع لنا، يا مولانا ادع لنا. ويظنون أن المسألة سهلة، لماذا إذن؟ لأن أسهل شيء عليهم أن يدعوا، يقول أحدهم يا أخي في الله ادع لي. وهو يغتابه! يقول الله هداك الله، وفتح عليك، وأعطاك ما في بالك. كلام! ولا تُوجَد إجابة، كلام فارغ، كيف يدعو لك؟ وكل هذا الله لا يسمعه، تصوَّر! الله يسمع الدعاء الحقيقي، من القلب المُوقِن، من القلب الصالح النظيف المُطهَّر المُقدَّس، هذا الدعاء الذي يسمعه الله ولا يرده، لا يرده لا في الدنيا ولا في الآخرة.
جيد، فهذا الولي الذي تقول له ادع لي يا أخي، ادع لي. في اللحظة التي يكون فيها مُهيأ لمُنادمة الملأ الأعلى والدخول على المَلك الجليل في حظيرة القُدس، لا يتذكرك ولا يتذكر حاله، لا يتذكرك ولا يتذكر حاله هذا المسكين! ولا يدعو لنفسه بالدعوات التي يُمكِن أن يدعو بها في الحالة العادية، وربما يتمناها لنفسه، لا! يذهب ويصير في حالة ثانية، مُشكِلة هذه! فهل لا ينفع أن نطلب من الصالحين أن يدعوا لنا؟ لا، ينفع. لماذا؟ الله – تبارك وتعالى – بركةً وكرامةً لهذا الصالح، الذي يرغب إليه إخوانه وأحبابه في الله، ويطلبون منه أن يدعو لهم بالخير، الله يُلبي دعواتهم التي طلبوها منه – تصوَّر -، فقط لأنها وقعت لهذا الرجل الصالح. الله يقول جيد، أنا كرامةً له سأُلبي الدعوات.
مولانا جلال الدين الرومي – قدَّس الله سره – تعرفونه، هذا العارف الكبير بالله والشاعر، صاحب المثنوي. يقول كان أحد نُدماء المَلك – وطبعاً هو يقصد مَن هنا؟ العارف، أي الولي – يتزلف إليه الناس، ويُعطونه قصصات وأوراقاً؛ لكي يُفضي بها إلى المَلك ويعرضها على المَلك، إذا دخل عليه. ولكن هذا الرجل كان مُعجباً جداً ومُحباً جداً للمَلك، فكان إذا دخل على المَلك، أخذته الهيبة والجلال، فأُغشيَ عليه. ويقع المسكين! فيقول المَلك فتشوا هذا الرجل الطيّب. فيُخرِجون من جيوبه كل الأشياء والقصصات، والمَلك يُلبيها، يقول أعطوا هذا، زوّجوا هذا، أخرِجوا هذا من السجن، خلوا هذا. ويقوم هذا المسكين، ولا يذكر شيئاً، ولكن المَلك يُلبي كل ما في جيبه، دون أن يدري.
انظر! هذا المعنى العجيب جداً من مولانا الرومي – قدَّس الله سره -، يضربه للمعنى الذي قدَّمت له قبل قليل. حتى هذا الصالح، الله يُلبيه، يُلبي له ويُلبي حتى لَمن رغب إليه في الدعاء – إن شاء الله تعالى -، كرامةً له. وهذا بعض معنى البركة، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ۩، أرأيت؟ بركة على نفسه، وبركة على مَن حوله. الله يحفظه، ويحفظ به. الله يُكرِمه، ويُكرِم به. ولأجل عين، تكرم ألف عين. أنتم لستم كرماء على الله، ولكن الله يُريد أن يُكرِمكم من أجل هذه العين الكريمة. الله يقول هذا، أليس كذلك؟ ونحن حتى في الحياة العادية – سُبحان الله – حين نُحِب شخصاً ونُحِب أن نُكرِمه، نُكرِم كل مَن معه، حين يقول لك مَن تُحِب هذا أخي في الله أو صديقي، وأنت حتى لا ترتاح له، تقول أهلاً، أهلاً وسهلاً. وهذا ليس إكراماً لهذا الصديق، هذا إكرام لمَن؟ لصديقك الوفي الآخر، الذي أنت تُحِبه، وله أيادي بيضاء عليك. ولو جاء بابنه، لقلت يا أهلاً، يا أهلاً وسهلاً، كيف حالك يا (عمو)؟ أنت تقول له هذا، وهذا طفل صغير، أي هل تُريد أن تُعطيه من وقتك؟ ولكن لا بد وأن تُكرِم الطفل هذا؛ كرامةً لمَن؟ لأخيك، أو لصاحبك. وهكذا! فلأجل عين، تكرم ألف عين.
جيد، حتى لا نُطيل عليكم وعلى إخواننا الذي يُتابِعون عبر الإنترنت Internet، سننهي الدرس. نكتفي اليوم، وغداً – إن شاء الله – نشرح اسم الله القدوس.
فنسأل الله أن يجعلنا من الصادقين، وأن ينفعنا بصدقنا – إن شاء الله تبارك وتعالى -، يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۩.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
أضف تعليق