إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ۩ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۩ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ۩ رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ۩ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۩ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
اللهم اجعل لنا في قلوبنا نوراً، وفي قبورنا نوراً، اللهم واجعل لنا من بين أيدينا نوراً، ومن خلفنا نوراً، وعن أيماننا نوراً، وعن شمائلنا نوراً، ومن فوقنا نوراً، ومن تحتنا نوراً.
اللهم اجعل لنا في سمعنا نوراً، وفي بصرنا نوراً، وفي بشرنا نوراً، وفي عظمنا نوراً، وفي لحمنا نوراً، وفي دمنا نوراً.
اللهم أعظم لنا نوراً، وأعطنا نوراً، وأتمم لنا نوراً، واجعل لنا نوراً، اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
آية النور أو آية المشكاة كما يُسميها بعض العلماء آية جليلة، لعل الحديث يتجدَّد فيها ولا ينقطع، وهي إجمالاً مقامان، استعارة وضرب مثل، استعارة ومثل مضروب! وقد توسَّع السادة المُفسِّرون – شكر الله لهم – في المثل المضروب ما لم يتوسَّعوا في الاستعارة على أهميتها وخطرها.
الاستعارة هي قوله – سُبحانه من قائل – اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩، هذه استعارة لا ريب، لأن النور خلق من خلق الله، مخلوق ومصنوع ومفعول من مصنوعات الله ومفعولاته، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۩، قطعاً هو خلق من خلق الله، فلابد أن تكون استعارة، الله ليس هذا النور الذي نراه والذي لا نراه من أنوار الوجود والكون.
والمثل المضروب قوله – تبارك وتعالى – مَثَلُ نُورِهِ ۩… إلى آخر الآية وما يتلوها، وقوله – سُبحانه وتعالى – مَثَلُ نُورِهِ ۩ قاطع أن ما في الأول استعارة، لأنه قال مَثَلُ نُورِهِ ۩، ولم يقل مثله، لو كان هو نوراً حقاً لقال الله نور السماوات والأرض مثله، لكنه لما قال اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ ۩ أضاف النور إليه، فالمُضاف إليه غير المُضاف فتميَّز، تميَّز الله – سُبحانه وتعالى – من خلقه، بان الله من خلقه، النور شيئ والله شيئ آخر، لقوله مَثَلُ نُورِهِ ۩، هذه تقطع! وسُبحان مَن أنزل هذا الكلام، لا تجد شُبهةً في آية أو ما يُثير إشكالاً إلا بنور الإيمان وضياء العقل أنت واجد لها حلاً أو ما يُستفصَل به منها، أي من هذه الإشكالية أو المُشكِلة في نفس السياق وربما في السباق أو في اللحاق، وهذا من بديع كلام الله تبارك وتعالى، فسُبحان مَن هذا كلامه.
إذن لن نقف طويلاً وربما لن نقف البتة عند المثل المضروب، لأن الكلام فيه مكرور ومعروف لدى كثيرين، لكن لنقف عند الاستعارة، وهي استعارة تحتاج إلى وقفة طويلة ووقفة مُتأنية، اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩، نعلم – أيها الإخوة والأخوات – أن من أسمائه الحُسنى – سُبحانه وتعالى في عليائه – النور، النور الهادي، لا إله إلا هو! فالنور اسم من أسمائه سُبحانه وتعالى، وهذا معروف لدى الكافة جميعاً، حتى أن بعض العارفين بالله – سُبحانه وتعالى – قد ادّعى أن اسم الله الأعظم الذي إذا دُعيَ به أجاب وإذا سُئل به أعطى وإذا استُنصِر به واستُنجِز به نصر وأنجز – لا إله إلا هو – هو النور، هذا قول لدى بعض العارفين، قالوا النور هو اسم الله الأعظم، ومن هنا جاءت هذه الاستعارة العجيبة المُحيِّرة، اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩، في حين لم يأت – مثلاً – الله رحمة السماوات والأرض، مع أنه وسع كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ۩، لكنه قال اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩، هذا مُحيِّر!
بحسب ما تُعطي السجلات التاريخية والمعلومات الأثرية – وهذا ما يُقرِّره المُختَصون والباحثون – فإننا لا نجد موضعاً في التاريخ المكتوب للإنسانية إلا ويُستعار النور فيه للفهم والوعي والوضوح والإدراك، في كل لُغات الدنيا، في كل لُغات العالم، في كل التاريخ المكتوب للإنسان! يُستعار النور دائماً للوضوح، للإدراك، للفهم، للظهور، للجلاء، وللإبانة، في كل لُغات العالم.
ولذلك حدث واتفق أكثر من مرة وفي أكثر من حقبة ودورة تاريخية أن عُبِدت النيّرات، الشمس، القمر، وبعض الكواكب! وجاءت الإشارة الإلهية إلى هذا بشكل واضح في سورة الأنعام، حين أراد الخليل – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن يترقى بقومه، فادّعى أنه توصَّل إلى ربه، ما هو هذا الرب؟ أو مَن هو؟ إنه الكوكب المُنير، إنه أحد النيّرات، لأنه مُنير، عالٍ رفيع ومُنير، لكنه أَفَلَ ۩ فصار الأمر إلى ظلام، صار الأمر إلى ظلام! طواه بساط الظلام، قال لا ينبغي، فبزغ القمر، قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۩، والقمر عالٍ ومُنير، لكنه أَفَلَ ۩، فقال إذن لا يبنغي، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً – والشمس مُنيرة ومُضيئة أكثر، وجِرمها أعظم حتى للنظر المُجرَّد كما يُقال – قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۩، لكنها أَفَلَتْ ۩، المُشترَك بين هاته الثلاثة هو ماذا؟ الضياء مع العلو، إنها مُنيرات، إنها مُضيئات، الكوكب، القمر، والشمس!
طبعاً نحن لا نشك أن إبراهيم – عليه السلام – كان مُوحِّداً وهُديَ بنور البصيرة وبهداية الله قبلا، لقوله – سُبحانه وتعالى – وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ۩، لكن إبراهيم أراد أن يترقى بقومه بهذه الخُطوات الذكية المدروسة، فلماذا اختار – عليه الصلاة وأفضل السلام – هاته الأجرام العُلوية الثلاثة؟ لأنها مُنيرة، والنور يبدو إذن من صنيع إبراهيم الخليل أنه أدنى وأقرب استعارة يُمكِن أن تُستعار لتقريب الحقيقة التي لا تُقرَّب حقاً، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩، لكن قد يقول قائل إذن فلِمَ تُستعار؟ لم نستعرِها نحن، رب العالمين هو الذي استعارها، قال اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩، ثم مثَّل لهذا النور أياً كان المُراد به بتمثيل آخر، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ۩، هي الكوة التي تكون في الحائط، وهي حبشية الأصل، أي هذه الكلمة، فِيهَا مِصْبَاحٌ ۩، الْمِصْبَاحُ ۩ هو الفتيلة، الْمِصْبَاحُ ۩ هو الفتيلة التي تُضيء، إلى آخر المثل وهو واضح الآن إذن، هو واضح الآن!
بعضهم قد يعترض، كيف يُمثِّل – سُبحانه وتعالى – لنوره وهو نور عم السماوات والأراضين بنور مصباح في مشكاة؟ إنه تمثيل، للتقريب وليس للمُعادَلة!
أبو تمّام – رحمه الله – حين وقف يوماً يمتدح ويُبالِغ في المُعتصِم قال:
إقدامُ عَمْرٍو في سَماحةِ حَاتِمٍ في حِلمِ أحنَفَ في ذَكاءِ إِيَاسِ.
الأحنف بن قيس أحلم العرب، التابعي الجليل! وإياس بن مُعاوية أذكى العرب وأذكى القُضاة في وقته، قال في حِلمِ أحنَفَ في ذَكاءِ إِيَاسِ، فقام أحد الحسدة المُغرِضين وأراد أن يُطوِّح به وربما بعُنقه، فقال بئس ما قلت أيها الرجل، أجعلت أمير المُؤمِنين كصعاليك العرب وهم دونه؟! أي أنت لم تأت بشيئ، أنت شبَّهته بمَن هم دونه منزلةً في كل ما ذكرته، فأجاب أبو تمّام – وهكذا فليكن الشعر، إن لم يكن الشعر هكذا فلا كان الشعر – على الفور ومن نفس الروي – رحمة الله عليه – بقوله:
لاَ تُنكِرُوا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ مَثَلاً شَرُوداً في النَّدى والبَاسِ.
فاللَّهُ قد ضَرَبَ الأقلَّ لِنُورِهِ مَثَلاً مِنَ المِشْكَاةِ والنبْرَاسِ.
فأُفحِم الرجل، أُفحِم مُباشَرةً! إن كنت قد صنعت هذا فالله – تبارك وتعالى – صنعه قبلي، ضرب مثلاً لنوره الذي عم السماوات والأراضين بنور المشكاة والنبراس، فما كان في ذلك؟! إنه تمثيل، إنها استعارة وتمثيل وتشبيه وتقريب، ليست للمُعادَلة، لا يفهم المُعادَلة إلا البليد المُكودَن الجامد الذهن والعقل، لا! هذا تمثيل، والتمثيل دائماً يصح لو كان من طرف خفي، لو كان من طرف واحد خفي يصح، انتهى! وليس للمُعادَلة من كل وجه.
إذن اللَّهُ – سُبحانه وتعالى – نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩، قبل أن نُفضي إلى مُقارَبتنا الخاصة في فهم هذه الاستعارة المُحيِّرة نُحِب أن نقف على جُمل مما قاله أسلافنا الصالحون رضوان الله تعالى عنهم وعليهم.
بعضهم فسَّرها اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩: الله هادي أهل السماوات وأهل الأرض، وهو ابن عباس رضيَ الله عنه وأرضاه، فسَّر النور بالهادي، ولذلك لابد أن يكون هناك تقدير إضافة، أي الله ذو نور السماوات والأرض، الله صاحب نور أهل السماوات والأرض، أي الله صاحب الهداية لمَن في السماوات ومَن في الأرض، الله ذو نور السماوات والأرض، أي صاحب نور، أي صاحب هداية أهل السماوات وأهل الأراضين، هكذا فسَّرها الحبر رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، وهو الذي فسَّر جُملة لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ۩ في صفة الزيتونة المُبارَكة – مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ۩ – بأنها في ظل جبل بحيث لا ينالها شعاع الشمس لا صباحاً ولا مساءً ولا ظهيرةً، إنها محجوبة عن أن تضربها الشمس، في حين قال غيره ضد قوله تماماً، قالوا كلا، لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ۩، إنها شجرة ضاحية للشمس، أي تضربها صباحاً وظهيرةً ومساءً بحيث لا تغيب عنها إلا وقت غروبها، إذا غربت تغرب! وهذا فيه قصور أيضاً، والأول ليس بالمرضي عندنا، وسوف نرى حين نُقارِب الاستعارة كيف سنفهم هذه الجُملة من هذا المثل الإلهي الجليل.
لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ۩، واضح إذن أنها لا مكانية، أي Unlocal كما يقولون، الآن هناك في فرع كبير من فروع الفيزياء مُقارَبة خاصة تتحدَّث عن اللا موضعية، وأن إدراك الأشياء موضعياً هي طريقة يتعاطى بها الوعي الإنساني مع الوجود، والوجود شيئ يختلف عن ذلك، موضوع مُعقَّد، مُعقَّد تماماً! ولكن نستطيع أن نُقارِب بأمثال هذه الفهوم العلمية الدقيقة والمُعمَّقة بعض المُحيِّرات، من أمثال هذه الآيات الكريمة، نستطيع أن نُقارِب بعض ما يتعلَّق بالغيوب، حتى نُعطيها ما يُعرَف بالإمكانية العلمية، نوع من المُقارَبة والتقريب!
إذن ابن عباس قال هادي أهل السماوات وأهل الأرض، وهذا من باب التفسير باللازم، وهو تفسير صحيح، وتتسع له أو يتسع له صدر العربية، هذا من باب التفسير باللازم، لماذا؟ لأن لازم النور الكشف، النور حين يكون يلزم منه وعنه ماذا؟ الانكشاف، انكشاف الأشياء به، وضوحها به، تجليها به، وهذا هو جوهر الهداية، أن يتبيَّن الرُشد من الغي، وأن يتبيَّن الحق من الباطل، وأن يضح سبيل المُحسِنين من سبيل المُجرِمين، أن يضح هذا السبيل أو هذه السبيل من تلكم السبيل! فمعنى أن الله هادي السماوات والأرض تفسيراً لكونه نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩ مقبول لُغةً، تتسع له العربية، بعض الذين لا يفهم هذه الطرائق قد يُنكِر حتى على أمثال الحبر قدَّس الله سره، لكن هذا ليس موضع إنكار، هذا من قلة التحصيل، لا! هذا تفسير باللازم.
بعضهم فسَّر تفسيراً أبعد، قال اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩: خالق السماوات والأرض ومُدبِّرهما، وهذا لم يُبعِد أيضاً، هذا قريب جداً! لماذا؟ لأن النور هو الذي يكشف عن الأشياء، فالله – لا إله إلا هو – بقدرته وحكمته – سُبحانه وتعالى – هو الذي كشف هذه الأشياء للوجود بأن أخرجها من كتم العدم إلى أنوار وأضواء الوجود، ولا أظلم من ظُلمة العدم، قال أبو حامد الغزّالي – قدَّس الله سره – مهما قُوبِل الوجود بالعدم كان الظهور ميزة الأول والخفاء ميزة الثاني، فلا أظلم من ظُلمة العدم!
والآن مَن الذي أخرج الأشياء؟ من ظُلمة العدم إلى أنوار الوجود؟ هو رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩، ولذلك هو نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩ بمعنى خالق السماوات وخالق الأراضين، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۩، قال اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ۩، إذن هذا تفسير أيضاً مُتجِه، تفسير مُتجِه! له وجهة، وله تبرير قرآني وعلمي وفلسفي، هذا صحيح!
بعضهم قال اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ ۩: زيَّنها بالملائكة، وَالأَرْضِ ۩: زيَّنها بالأنبياء، إذن هو فسَّر النور بالزينة، زيَّن السماوات بالملائكة وزيَّن الأرض بالأنبياء، لأنه لا دين بلا نور.
في الحقيقة تقريباً ينعدم معنى الحياة وتنعدم معانٍ كثيرة جداً جداً – بل لعل الحياة ذاتها تنعدم – بغير النور، النور هذا فقط ليس هو المرائي، ليس هو المُبصَرات، ليس هو الألوان، ليس هو الأشكال، ليس هو البهاء والحُسن والسبحات والجلال، إنه رغيف خُبزنا أيضاً، النور هو رغيف خُبزنا، إنه ما نأكل من نبات أو حيوان، لولا النور لما تمت عملية التمثيل اليخضوري، وتعرفون الكلوروفيل Chlorophyll والتمثيل الضوئي، إذن لما كان نبات، لما كان هناك خضر، وإذا انعدم لا يُمكِن تستمر حياة الحيوان، وبلا حياة الحيوان ولا حياة للنبات كيف يعيش الإنسان؟ إذن هذا الضوء أو هذا النور رغيف خُبزك أيضاً، إنه ما تأكل وما تشرب، وهو طاقة مُعجِزة وعجيبة، ولعله لم يحدث أن تأمَّل الذهن والفكر الإنساني الفلسفي والعلمي كما تأمَّل في هذا السر المُحيِّر، وتقريباً هو لا يزال سراً مُحيِّراً، سر النور!
ألبرت أينشتاين Albert Einstein من العقول النادرة الفذة المُفرَدة التي تعمَّقت تأمل النور، وخرج بأشياء لأول مرة يُبدَه بها الحس الإنساني، لأول مرة يُجابَه بها! أشياء عجيبة، ربما سنشرح بعضها سريعاً، لأن الموضوع طويل ومُتشابِك، لكن أينشتاين Einstein نفسه في آخر حياته قال لوددت أنني سلخت البقية الباقية من عمري في تأمل الضوء والتفكير فيه، إذن هو لم يفرغ، لم ينته من قول كلمته الأخيرة فيما يتعلَّق بالضياء، بالنور! الموضوع مُعقَّد، ومُعقَّد جداً.
ولذلك استعاره الله تبارك وتعالى، قال اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩، هناك استعارة أُخر مُحيِّرة مثل هذه الاستعارة، قال يُؤذيني ابن آدم، الله – عز وجل – قال في الحديث القدسي الجليل يُؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، أنا الدهر! عجيب، هل الزمان حقاً هو الله؟ مُستحيل، الزمان خلق من خلق الله، هذه استعارة، كما قال اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩، والدليل هناك قال مَثَلُ نُورِهِ ۩، وهنا قال أُقلِّب الليل والنهار، إذن فالليل والنهار من مصنوعاته، الدهر من مصنوعاته، لكن لماذا استعاره لنفسه لا إله إلا هو؟ وهكذا بالتأمل – على الأقل حسبما أعلم، بعلمي البسيط – لم أعلم موضوعاً بالغاً في الإلغاز وبالغاً في الطلسمية، في الغموض، وفي العُمق كموضوعتي الزمان والضوء، أكثر موضوعتين على الإطلاق حيَّرتا الذهن الإنساني، وإلى اليوم لا يزال الزمان لُغزاً وأي لُغز! من الصعب جداً أن يُفهَم، مَن ظن أنه يفهمه هذا لا يدري شيئاً، ولم يقف على أي شيئ مما يتعلَّق بالزمان، لم يفهم! ربما يظن أن الزمان هو حركة الكواكب أو حركة عقارب الساعة حول مينائها أو الليل والنهار، ليس هذا الزمان، كل هذه تجليات لا علاقة لها بجوهر الزمان، استعارها الله فقال أنا الدهر، عجيب! لكن هو أفهمنا أن هذا الدهر مخلوق له، قال أُقلِّب الليل والنهار، كما قال هناك اللَّهُ نُورُ ۩ ثم قال مَثَلُ نُورِهِ ۩ فأضافه، فهو ليس ذاته، ذات الله ليست هذا النور، موضوع مُختلِّف، تميَّز كما قلنا صدر الخُطبة، إذن الضوء والزمان!
ألبرت أينشتاين Albert Einstein الذي أقام الدنيا ولم يُقعِدها بعد إلى اليوم أكثر ما عُنيَ بماذا؟ بالضوء وبالزمان، تعلم هذا إذا قرأت النسبية، هذا هو! ما يتعلَّق بالضوء وما يتعلَّق بالزمان، أكبر نظريتين طبيعيتين في القرن الفائت – أي في القرن العشرين المُنصرِم – نظرية النسبية لأينشتاين Einstein ونظرية ميكانيكا الكم، والنظريتان بدأتا مع الضوء، هذا هو طبعاً! ما يُعرَف بالفوتون Photon، مع ما يُعرَف بالكم، وهذا الذي نشرحه بالتفصيل في دروس السبت فيزيائياً!
هذا الكم كان البداية لميكانيكا الكم، اسمها ميكانيكا الكم! أي ميكانيكا الفوتون Photon، الكم هذا سماه أينشتاين Einstein بالفوتون Photon، هو هذا! ما هذا الفوتون Photon العجيب؟ عجيب، وعجيب جداً! هل هو مادة؟ لا، ليس مادة، عجيب! إنه ليس مادة، هل هو خاضع لقوانين المكان والزمان؟ كلا، هو خارج هذه الظروف الثلاثة، خارج مُحيط المادة، خارج مُحيط الزمان، وخارج مُحيط المكان!
كانت البداية العجيبة لألبرت أينشتاين Albert Einstein في نسبيته بتأمل أو مع تأمل أو من خلال تأمل طفولي حالم، كيف لو امتطى متن شعاع ضوئي وسار به؟ كيف ستكون الأمور؟ كيف سيبدو الفضاء أو الفراغ؟ كيف سيبدو الزمان؟ كانت هذه البداية، وهكذا هم العباقرة، لا يفقدون روح الطفولة، بمثل هذه المُداعَبات الفكرية العميقة الطفولية يستطيعون أن يعرفوا ما لا يعرف أمثالنا، وأن يضعوا علامات استفهام على ما نظن أنه مفهوم وقد فُرِغ منه وقيل فيه الكلام الأخير، وهو ليس كذلك، مع الضوء! كانت بدايته مع الضوء، كان دائماً يُدغدِغ خياله وروحه الطُلعة الرُحلة هذا الافتراض أو هذا الخيال، ماذا لو ركبت شعاعاً ضوئياً؟ ماذا سيحصل؟ ثم يُخبِرنا أينشتاين Einstein أنك لو فعلت هذا – وهذا مُستحيل طبعاً – فإن كُتلك ستُصبِح لا نهائية، الكُتلة التي ظن نيوتن Newton أنها لا تتغيَّر ستتغيَّر، ليس الوزن وإنما الكُتلة، الوزن صفر، سينعدم الوزن، لن يُوجَد وزن، أما الكُتلة فستُصبِح لا نهائية، وهذا مُستحيل، لأنها ستحتاج إلى قوة لا نهائية تدفعها، الاندفاع! أي كمية الحركة، الكُتلة في السرعة، هذا مُستحيل، هذا غير مُمكِن، لكن قال هذا ما سيكون لو – وفرض المُحال حتى في العلم ليس بمُحال، فرض المُحال حتى في العلم وليس في الفلسفة فقط وفي العقليات ليس بمُحال، يجوز أن نفرض المُحال، والله قد فرضه تبارك وتعالى وهو مُحال في أكثر من آية من كتابه الكريم – ركبت شعاعاً ضوئياً.
العجيب أيضاً أن الطول – ما يتعلَّق بالأطوال الآن والحجوم – سيتقلَّص إلى الصفر، الطول سيتقلَّص إلى الصفر! مهما كان هذا الشيئ طويلاً وعظيماً إذا سار بسرعة الضوء سيتقلَّص طوله إلى الصفر، كُتلته ستُصبِح لا نهائية، عجيب جداً! أما الزمان فسيتوقَّف، ستدخل في الخلود، ستدخل في الأبدية، لن يجري الزمان، لن يجري! والخلود سر أيضاً طالما حيَّر العقل الإنساني، جاء العلم ليقول كلمته وليقول إنه مُمكِن علمياً، مُمكِن رياضياً بمُعادَلة معروفة في نسبية أينشتاين Einstein.
إذن سندخل في الأبدية، سندخل في الخلود، وهكذا إذن امتطينا شعاعاً ضوئياً، وهذا مُستحيل، لماذا؟ لأن الضوء – غير ما ذُكِر أيضاً – هو السرعة عند أينشتاين Einstein المُطلَقة، معنى السرعة المُطلَقة التي لا سرعة فوقها ولا بعدها، والتي بالتالي ينبغي على جميع المُتحرِّكات أن تُعيِّر سرعاتها بها ووفقها، لأنها المُطلَقة! المُطلَق هو المعيار، المُطلَق هو المقياس، وهذه حقيقة القياس، ينبغي أن تُعيَّر جميع الأشياء بهذه السرعة.
إذن أعتقد الآن وبسرعة أننا فهمنا شيئاً مُثيراً جداً، الضوء هذا خارج الزمان، الضوء خارج المكان، والضوء خارج المادة، عجيب! إذن أليست هذه استعارة قريبة جداً جداً جداً؟ لماذا استعار الله – لا إله إلا هو – النور؟ الله بدوره – لا إله إلا هو، ولسنا نضرب لله الأمثال، لكن نتكلَّم فيما استعار لا إله إلا هو، سُبحانه وجل مجده في عليائه – غير محكوم لا بزمان ولا بمكان ولا بمادة، وهو خالق الزمان وخالق المكان وخالق المادة، عجيب جداً!
ولذا ظل العقل الإنساني إلى الآن مُتحيِّراً في جوهر وطبيعة هذا الضوء، طبعاً إلى الآن ليست هناك كلمة نهائية، لكن هذه التأملات أفضت إلى شيئ عجيب، إذا كان الضوء ليس كذا وليس كذا وليس كذا ثم هو ليس جُسيماً وليس موجةً فهل هو مزيج منهما؟ هل هو مزيج منهما أو شيئ فوقهما؟ يبدو أن الموضوع أكثر تعقيداً مما يظن علماء ميكانيكا الكم ومما يظن أتباع أينشتاين Einstein أيضاً وغيره، الموضوع أعقد من هذا!
بعضهم يقول – كما أشرت بسرعة – الكون كله هو وحدة واحدة، ومُترابِط بروح واحدة، بمعنى واحد، لا موضع فيه للموضعية، والكُل يحكي أجزاءه، والجُزء يحكي الكُل، تماماً! أي جُزء يحكي الكُل، وهذا عجيب، أي جُزء!
هذا ذكَّرني بفلسفة مُعقَّدة جداً – كنا نظنها خيالة ومثالية – للفيلسوف الألماني لايبنتز Leibniz، اسمها فلسفة المونادات Monads، أي المونادولوجيا Monadology! وعنده كتاب مشهور فيها! كان يتحدَّث عن هذه المونادة Monad الصغيرة المُقفَلة على نفسها، شيئ أشبه بالذرة أو دون ذلك، ولكن هذه فيها كل ما يتعلَّق بالكون وكل جوهر الكون وكل تاريخ الكون، الآن أصبح هذا التفكير المثالي الأقرب إلى الخُرافة حقيقة علمية تقنية!
مَن سمع منكم بالتصوير الهولوغرافي Holography؟ الهولوغرافي Holography هو تصوير المُجسَّم أو التصوير الفراغي، وسنشرح هذا في الدروس بالتفصيل، لكن باختصار في التصوير المُجسَّم – بعض الناس يظن أن هذه أفلان خيال علمي Science fiction، لا! هذه حقيقة من قديم، هذه الآن عمر الأبحاث عليها تقريباً زُهاء أربعين سنة، أعني التصوير الهولوغرافي Holography، الهولوغرام Hologram والهولوغراف Holograph – أو في التصوير الهولوغرافي Holography يُمكِن أن ترى أمامك في الفراغ جسماً مُجسَّداً بكل أبعاده الثُلاثية، العجيب في التصوير في الهولوغرافي Holography أنك لو أخذت شريحة أو شطيرة صغيرة جداً جداً من هذه الصورة ثم أعدت عرضها وكبَّرتها ستجد فيها كل الصورة الأصلية، سنشرح هذا في دروسنا علمياً لكي نعرف كيف، كيف يتم هذا؟ طبعاً بتقنية الليزر Laser، لكن كيف يتم هذا بالضبط؟ كيف لو أخذنا جُزئية نجد فيها كل الجسم؟ كل الجسم بكل أبعاده الثلاثية أيضاً! عجيب، هذا شيئ مُحيِّر.
هذا الذي أوحى لبعض الفيزيائيين وبعض العلماء مثل ديفيد بوم David Bohm أن يتحدَّث عن المعرفة الكُلية وعن الوجود بشكل شمولي وكُلي، كل جُزئية فيه تحكي الكُل كُله! شيئ غريب، كل هذا بفضل التأمل في الضوء، بفضل التأمل في هذا السر الإلهي الذي استعاره الله تبارك وتعالى، قال اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩، إذن هذه الاستعارة في محلها، كأننا نستطيع أن نقول لقد أعانتنا أو أمدتنا الفيزياء الحديثة بمُقارَبة مُذهِلة لأول مرة لهذه الاستعارة الربانية، وأصبحنا نفهم حقاً أن هذا السر الكبير المُحيِّر المعروف بالضوء أو بالنور هو الذي يُمكِن أن يُقدِّم لنا أقرب الاستعارات التي تُقرِّبنا – إن كان بالوسع – من الحقيقة الإلهية، يبدو أنها حقيقة – كما قلنا – خارج الزمان، خارج المكان، وخارج المادة، بالحق وبالمُطلَق! إذن هي أمر فوق مُتناوَل الحس وفوق مُتناوَل العقل المُباشِر، يبدو أنها تتعلَّق بالحدس، بالفطرة، وبالإيمان، أكثر من تعلقها بالعقل المُجرَّد!
ومن هنا فلنُقارِب استعارة الضوء هنا أو النور مُقارَبة شخصية، أكثر الذين يُمكِن أن يُعينونا في هذا المضمار هم الذين فقدوا البصر، لأننا بهذا البصر نُقارِب الضوء أو النور مُقارَبة أقرب إلى العلمية نوعاً ما، نصف علمية! لكن بنور البصيرة وبالنور الإلهي الباطن، وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ۩، أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۩، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ۩، الذين فقدوا أو بعض الذين فقدوا نور البصر وأسعدهم الله بالتماع وتنمية نور البصيرة أمدونا بمُقارَبة جديدة، مُقارَبة شخصية مُعمَّقة جداً أيضاً، فلابد أن نقف عليها.
وهنا سنقتبس الفرنسي – البروفيسور Professor الفرنسي الأعمي البصير، لأنه كان بصيراً فعلاً بالباصرة – الأعمى البصير جاك لوسيران Jacques Lusseyran، لوسيران Lusseyran هذا كان في التاسعة عشرة من عُمره – طبعاً يحكي قصة حياته وترجمته الذاتية في كتاب غير مشهور نُشِر بعنوان ليكن هناك نور، يقتبس الآيات الأولى من سفر التكوين، ليكن هناك نور، أي ليكن نور! هذه كان التامة، ليكن هناك نور، هذا اسم كتابه – إبان الحرب العالمية الثانية مُضطلِعاً بمُهِمة حيوية جداً – مُهِمة اتصال حيوية – في الحُكم على الذين يُريدون الالتحاق بفرق المُقاوَمة ضد النازي، هو فرنسي وألمانيا تحت النازي، كان هذا الرجل هو الذي يفعل ذلك، إلى الآن ليس في الأمر أي شيئ غريب، لكن ستظهر الغرابة مُباشَرةً إذا علمنا أنه كان أعمى، كان أعمى مُذ كان في الثامنة من عمره، إثر حادث في المدرسة، أعمى!
كيف؟ كيف تتم عمليات الاتصال الحيوية هذه؟ كان يحكم على الأشخاص مُباشَرةً فوق مُجالَستهم ورؤيتهم، بماذا يراهم؟ بالنور الباطني كما حدَّثنا عن تجربته بالتفصيل، كانت أحكامه كما يقول زملاؤه والمأمورون له صائبة تماماً، مرة واحدة – يقول – أخطأت وكُنت غير مُرتاح لشخص، وأخبرته أنني غير مُرتاح له، لظروف مُعيَّنة وافقوا على أن يلتحق، فكان هو الجاسوس الذي وشى بهم إلى الجستابو Gestapo، ليقضي لوسيران Lusseyran وزملاؤه سنتين في السجن إلى أن حرَّرهم الحُلفاء عشية وضعت الحرب أوزارها في الخمس والأربعين، مرة واحدة ودفع الثمن! كيف؟
يُلخِّص تجربته كالتالي، يقول كُنت أظن قبل أن أعمى أن العمى شيئ فظيع وراعب ومُختلِف تماماً عن نعمة البصر، وكذلك الناس يظنون، والآن كيف لي أن أُصدِّقهم وأنا أرى؟ مُستحيل! الآن أنا كفرت بهذا الكلام، يقول في البداية – يعترف هو – كنت أُحاوِل أن أتجه ببصري المفقود الخابي المُنطفئ إلى الخارج حتى أتلمس، ولكن هذا لم يُجد وفشل مراراً وتكراراً، وأخذت بعد ذلك الطريق المُعاكِسة، وبدأ النور – يقول – ينبثق في داخلي، بدأ النور ينبثق في داخلي! وعاد الكون يُعرِّف نفسه لي من جديد، وبدأ يُموضِع موجوداته وأشياءه بشكل جديد، كُنت أرى النور بوضوح، إن ذاك النور – قال – الذي أراه بباطني أثبت وأوضح بكثير من ذاك الذي كُنت أراه بعيني رأسي، مصدر آخر! قال يأتي من مكان لا أعرف ما هو، وهل هو داخلي أم هو خارجي؟ هذا ما لا أدريه، قال أراه بوضوح، يأتي يتشعَّع، فإذا سقط على شيئ أعطاه شكله ووجوده، ثم يُغادِر، وإذا انقبض عن شيئ يُعدَم هذا الشيئ، حيث لا شيئ هناك غير النور، النور ينبسط، النور ينقبض! وبدأ يرى بوضوح، قال ما يتردد فيه زملائي كنت لا أتردد فيه، الحُكم على الناس، ومعرفة حقائق الناس، بواطن الناس، ونفسيات الناس، لحظات ويرى هذا نورانياً.
يرى هذا نورانياً! وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا – هذا هو النور الحقيقي – فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ۩، نور الباطن! ما هذا النور؟ يبدو أن هذا النور الذي استعاره الله – تبارك وتعالى – ليس فقط نور الفوتونات Photons، إنه النور هكذا العام الشامل الكُلي، نور الحس ونور المعنى، نور البصر ونور البصيرة، بالعكس! إن نور البصيرة هو نور الباطن، متَّعنا الله بأنواره وأنار ضمائرنا وقدَّس سرائرنا بفضله.
هذا النور الباطن يبدو أنه أقوى أضعافاً من النور الحسي الظاهر، وقد خطر لي اليوم خاطر عجيب، عبقرية اللُغة العربية – هذه لُغة عبقرية بلا شك – ربما هي التي حفزتها مُلاحَظةً لهذا المعنى الدقيق العجيب أن تجعل للرؤية البصيرية مفعولين، سنقول بصيرية مع أن النسبة إلى البصيرة بصري، وهذه رؤية باصرة، لكن حتى نُميِّز سنقول هذا، هذا خطأ في الصرف لكن لا بأس، الرؤية البصيرية الداخلية! هذه الرؤية البصيرية دائماً تأخذ في العربين مفعولين، إذن هي أشمل وأكثر إحاطة وأعمق، في حين أن الرؤية بالباصرة تأخذ مفعولاً واحداً، رأيت رجلاً، رأيت الكتاب، ورأيت الشمس! لكن يختلف الأمر إذا قلت رأيت الشمس بازغةً أو رأيت الشمس طالعةً، أنت الآن تتحدَّث عن ماذا؟ عن رؤية معرفية، عن رؤية علمية! قال الشاعر رأيت الله أكبر كل شيئ، أي رأيت الله أكبر من كل شيئ، هل رأى الله ببصره؟ كلا، هو علم وعرف أن الله – لا إله إلا هو – أكبر من كل كبير، من كل شيئ! قال رأيت الله أكبر كل شيئ، أي علمت، تأخذ مفعولين، رأيت الظُلم وخيم العاقبة أو وخيمةً عاقبته، رأيت الظُلم وخيمةً عاقبته! تأخذ مفعولين، فالرؤية الباطنة أكثر شمولاً، أكثر انبساطاً، أكثر اتساعاً، وأكثر إحاطةً، فاقضت مفعولين، أما الرؤية بالباصرة فإنها لا تقتضي إلا مفعولاً واحداً، هذا يبدو من دقة وعبقرية هذه اللُغة، من دقة وعبقرية العربية!
وهكذا مَن لم يكن مُتمتِّعاً بهذا النور البصيري – بهذا النور الباطن – فهو مُبصِر كأعمى، وفي الحقيقة فعلاً أنت حين لا تُبصِر بمعنى البصر المعنوي أنت أعمى، مثل مَن كان في يده – مثلاً – قارورة وهو لا يعرف ولا يعلم حقيقة ما فيها، قد يكون ما فيها عسلاً، وقد يكون ما فيها سُماً، أليس كذلك؟ غير مكتوب عليها، لم يقل له أحد، فإذا عرف ما فيها حقيقةً وعلم أنه سُم وجافاه واجتنبه فكأنه رأى ما لم يكن يراه، رأى الحقيقة الآن، أليس كذلك؟ هو في البداية رأى ماذا؟ رأى الظرف، ولم يستطع أن يرى المظروف، وما يهمه أن يرى المظروف، أليس كذلك؟ وهو يرى ويعمى عنه، يرى شيئاً يترقرق، يرى سائلاً يترجرج، لكن لا يعرف حقيقته، يراه ولا يراه!
يَا نِاظِرًا يَرْنُو بِعَيْنَيْ رَاقِدٍ وَمُشَاهِدًا لِلأَمْرِ غَيْرَ مُشَاهِدِ.
يُشاهِد ولا يُشاهِد، يرى ولا يرى! أليس كذلك؟ إذن حقيقة هذا المظروف يراها بماذا؟ بنور المعرفة، بنور العلم! لذلك يُقال دائماً العلم نور، المعرفة نور، ومن هنا العلم والمعرفة – كما قلنا في الرحمة، ومن رحمة الله أن يُنير لنا طريقنا وأن يُنير أبصارنا وبصائرنا – أيضاً تُوسِّع الكون وتبسط الكون، كما يبسطه ويُوسِّعه النور الحسي!
يُوجَد فرق بين الليل والنهار أن الليل، على الأقل ليس ليل القرن العشرين والحادي والعشرين، هذا ليل مُنير بنور صناعي أيضاً، طبعاً إلى وقت قريب جداً جداً قبل أن تُكتشَف الكهرباء والمصباح الكهربائي كان يُظَن أنه لا يُمكِن الحصول على النور إلا من النار، وثبت أن هذا غير صحيح الآن، يُحصَل على النور من غير نار، أليس كذلك؟ تُوجَد الكهرباء – وليس النار – ويُوجَد النور، سر أكثر شمولاً مما كان يظن الإنسان القديم، على كل حال أقول هذا الليل يقبض العالم ويُوحِّده، يجعله حقيقة واحدة مُلتئمة هُلامية غير مُتميِّزة، ليس فيها فردانية لأي شيئ، كُتلة من الظلام أشبه بالعدم، ومن هنا استيحاشنا وشعورنا بالانقباض في الظلام، أما في النهار – والنهار من علامات الجمال الإلهي، والليل من علامات الجلال الإلهي – فينبسط شعاع الضوء، فينبسط معه الكون، وتتميَّز الأشياء، فنشعر بالأُنس، ولذلك يُقال عدم التميز – الغموض – ماذا؟ سُلطان وسطوة وقوة، تُشعِر الإنسان بالرهبة، يتحاشاه الإنسان ويخاف منها، النور ليس كذلك، يُظهِر لك الحقائق، يُظهِر لك البواطن، ويُظهِر لك الظواهر أيضاً، يُظهِر لك الظواهر! نور الحس يُظهِر لنا الظواهر، نور المعنى – نور البصيرة – يُظهِر لنا البواطن.
قال – عليه السلام – اتقوا فراسة المُؤمِن، فإنه ينظر بنور الله، بأي نور هذا؟ ليس بنور الشمس والقمر ونور الشمعة والمصباح، إنه النور البصيري، إنه النور اللدني، النور الرباني! لعلكم سمعتم – والقصص كثيرة في هذا الباب – بقصة شيخ الطائفة بل شيخ الطائفتين أبي القاسم بن محمد الجُنيد – قدَّس الله سره – حين جاءه شاب نصراني يُريد أن يمتحنه، وقد لبس لبسة مشايخ الإسلام، أي لبس لبسة طلّاب العلم الشرعي من المُسلِمين وجاء، لكن لف زنار النصارى تحت، لا يراه الله تبارك وتعالى، وجاء! وبعد أن فرغ أبو القاسم من مجلسه ودرسه قال له يا مولانا، يا شيخ الطائفة، بارك الله فيك وفتح عليك، ما معنى قول نبينا الكريم – عليه السلام – اتقوا فراسة المُؤمِن، فإنه ينظر بنور الله؟ فنكس برأسه هكذا – أطرق هُنيهة – ثم رفع رأسه وقال معناه أيها الشاب أنك نصراني، جئت تختبرني، وتلبس الزنار وقد آن لك أن تُسلِم فأسلم، فأسلم الشاب على الفور!
وهذا يحدث ما هو مثله وما هو أكثر منه إلى اليوم وبشكل مُدهِش مع بعض أهل الله تبارك وتعالى، ويُمكِن أن يحدث لأي واحد منكم إذا صفى باطنه، إذا نوَّر باطنه، لكن لا يُمكِن أن يستنير هذا الباطن وهو مُتسِخ مُتكدِّر بأهواء النفس، بالحسد، بالحقد، بالغش، بالشهوات المُحرَّمة، بالكلب على الدنيا وحُطامها وعرضها الحائل الزائل، بالأحقاد، بالكُره، بالغضبية، بالرغبة في الانتقام، بالرغبة في الإساءة، بالبُعد عن الله تبارك وتعالى، بالكبر، بالغرور، وبالعُنجهية، لا يُمكِن! سوف يبقى هذا الباطن مرتعاً للبوم والغربان، أسود مُظلِماً مرباداً مُنتِناً، لا يتطهَّر ولا يتنوَّر، إلا بالصلاح والإصلاح ومُداوَمة ذكر الله – تبارك وتعالى – والتفكير والتأمل المُتواصِل في الأشياء الشريفة وليس في الأشياء الخسيسة.
كم ذا وذا نُضيِّع من أعمالنا في الليل والنهار! مُستهلَكين في التفكير في ماذا؟ في أخس متاع الدنيا، شيئ عجيب جداً، بعض الناس اللُطفاء الأرقاء حين يقرأ إعلاناً عن افتتاح متجر جديد وسوف يكون فيه تخفيض بنسبة خمس وعشرين أو حتى خمسين في المائة يُبكِّر المسكين من الساعة السادسة صباحاً من الحي الأول إلى الحي الثالث والعشرين، يُضيِّع ربما ساعة إلا ربع في الطريق، حتى يشتري دستة ملابس داخلية أو دستة قمصان، سعيد جداً هو بهذا! ويُوفِّر عشرة يورو، ما هذه الصفقة الغبية؟ لماذا لا تحرص على عقد صفقات من نوع مُختلِف تماماً؟ صفقات دائمة وأبدية، وتنمو بها النفس، وتُثمَّر وتكبر وتنضج، أي هذه النفس، لماذا؟ من تفاهة الحياة، أصبحنا نُفكِّر بمنظورات تافهة، منظورات تافهة حقيقةً!
هل تحلمون أن في عباد الله مَن تُساوي عنده معلومة جديدة – مثلاً – أو فهم فكرة الدنيا وما فيها؟ قد تستبعدون هذا، لكن هؤلاء موجودون، إنهم يُقدِّمون فهم حقيقة كونية أو حقيقة روحية على الدنيا وكل متاعها، هؤلاء هم الربانيون، هؤلاء فيهم نفس رباني حقيقي، وهؤلاء هم المُؤهَّلون أن يكونوا القادة الروحيين والمعنويين لهذا الركب الضال التائه من الناس، من هؤلاء الذين يستهلكون أعمارهم ومُددهم في التوافه من الأشياء، في التوافه أو في حروب صغيرة تافهة ناشبة بين هذا وهذا وبين ذاك وذلك، من أجل ماذا أيضاً؟ من أجل ما هو أتفه منها، وتضيع الأيام والليالي في الغيبة والنميمة والتشريح والتقاط الأخطاء وعد النكسات، ما هذا؟ ما هذا؟ ما هذا؟ ألهذا خُلِقت أيها الإنسان؟ مُستحيل، عليك أن تسعى في تنوير باطنك، لكن هذه مسألة ليست بالسهلة، مشوارها مشوار طويل ومُتواصِل ومُجهِد ودائب، لكن ثماره من أروع ما يكون، بعد ذلك سوف تُدرِك حقاً أنك كنت أعمى مُدة حياتك الأولى، ستُدرِك بعد ذلك الحقيقة في أُفق أرفع وأكثر انبساطاً واندياحاً، مثلما قال مولانا جلال الدين الرومي – قدَّس الله سره – ألم يخطر لك أن هذه الشمس الرفيعة في الجوزاء تُؤشِّر إلى تلك الشمس الكامنة خلف الحجاب؟! قال هل أنت لا تفهم هذا الشيئ؟ أنت لا تقدر على أن تفهمه، قال تعالى وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ۩، لولا هذا النور الإلهي لما كان الوجود، لما كان بصر، لما كانت بصيرة، لما كان إدراك، لما كان إحساس، لما كان شيئ!
في ابتهال النبي الواجف الضارع المُخبِت الذي يرويه ابن إسحاق في سيرته أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظُلمات وصَلَحَ أو صَلُحَ عليه أمر الدنيا والآخرة، قال سعيد بن جبير قال عبد الله بن عباس يدعو – قال سمعته غير مرة يدعو في دعائه – يقول اللهم إني أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له ظُلمات السماوات والأرض أن تجعلني في حرزك وحفظك وجوارك وتحت كنفك، الإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – كان أيضاً يسأل الله ويذكر نوره الذي ملأ أركان عرشه، هذا هو نور الله! وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ۩.
قال أبو موسى الأشعري – رضوان الله تعالى عليه – كما أخرجه مُسلِم، قال قام فينا – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – بخمس كلمات، قال إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، أي الميزان، يُرفَع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، طبعاً الإضافة هنا – حجابه – إضافة ملك واختراع، أي الحجاب الذي خلقه الله، والإضافة لأدني مُناسَبة كما يقول النُحاة، حجابه ليست بمعنى حجاب الذات، أعوذ بالله! وليست بمعنى أنه جُزء منه، كما نقول يد الإنسان مثلاً، لا! حجابه مُضافة إليه إضافة ماذا؟ ملك واختراع، الحجاب الذي خلقه، أو إضافة تشريف كناقة الله وبيت الله، نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ۩، بيت الله – عز وجل – الكعبة، إضافة تشريف أو إضافة ملك واختراع، لكن ما هو أهم من هذا هل حجابه هذا يحجبه عنا أم يحجبنا عنه؟ طبعاً يحجبنا عنه، حاشا لله في عليائه أن يحجبه شيئ، لو حجبه شيئ لكان له حاجب، ومَن كان له حاجب فهو محجوب محصور محدود، فاحتاج إلى ما حصره وقدَّره محدوداً، فأصبح مُحدَثاً فقيراً، وهذا ليس الباري، حاشا لله! وإنما معنى حجابه النور أي الحجاب الذي يحجبنا عنه هو النور، ولو انكشف هذا لأحرقت سبحات وجه الباري – لا إله إلا هو، أي جماله وبهاؤه ولئلاؤه – ما انتهى إليه بصره من خلقه.
(ملحوظة) قال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم للحضور يا إخواني – بارك الله فيكم – تقدَّموا وأفسحوا لإخوانكم، جزاكم الله خيراً.
ولذلك ما يُؤكِّد هذا الفهم ما أخرجه مُسلِم أيضاً وعلى ما أذكر الترمذي في جامعه عن أبي ذر، قال سألت النبي – صلى الله عليه وسلم – يا رسول الله هلا رأيت ربك؟ قال نورٌ، أنى أراه؟ ما معنى نورٌ، أنى أراه؟ ليس معناها أن الله نور، أعوذ بالله، قال نور حجبني، يُوجَد حجاب، نور! قال نورٌ حجبني، فكيف أرى ربي؟ هذا الفهم الصحيح، لأنه قال في حديث أبي موسى حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، إذن معنى قوله نورٌ، أنى أراه؟ أي نورٌ حجبني أو نورٌ بهر عيني، نورٌ بهر عيني شعاعه، فأنى – أي كيف؟ هذه الاستفهامية، هذه أنى الاستفهامية المفتوحية – أراه؟ أي كيف لي أن أراه؟ لا إله إلا هو! هو – تبارك وتعالى – بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ۩، لا إله إلا هو! لكن لا يُحيط به شيئ، لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۩.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۩، وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ۩.
أيها الإخوة:
أختم فقط بإلماعة حول هاتين الآيتين الجليلتين، هل فكَّرتم مرة إنه لا يتسنى لأحد – إلا الله تبارك وتعالى – أن يُحيط بأي شيئ؟ والله ولا واحد – ولا خلق من خلق الله – يستطيع أن يُحيط بأي شيئ، مُستحيل! الخاتم هذا أنا أتحدى – أتحدى الكون ومَن فيه – أن يُحيط به أحد، كيف؟ أنا أرى الآن جانباً منه، لا أستطيع أن أرى الجانب الثاني، إذا استدرت لكي أرى الجانب الثاني سيغيب عني الجانب هذا، أرى ما فوقه ولا أرى ما تحته، إذا رأيت ما تحت فلن أرى ما وفقه، محصور! تقول لي سأقوم بعمل – مثلاً – عدة صور مُجسَّمة له – مثلاً – بالفيديو Video، أي سأُصوِّره! لكن – نفس الشيئ – لن تراه من جميع جوانبه، نفس الشيئ! هذا المونيتور Monitor أو حتى الهولوغرام Hologram – أي التصوير الهولوغرافي Holography – لا تستطيع أنت تُحيط به، هو يُحاط به، قابل للإحاطة، وأنت غير مُستطيع، لأنك لا تستطيع أن تُحيط، لم تُخلَق لكي تُحيط بأي شيئ!
هل فكَّرت وأنت تجلس هكذا أن أكثر الكون غائب عنك؟ أكثر الكون غائب! تجلس وترى فقط في هذه الحدود، ما هنا لا تراه، ما هنا لا تراه، ما فوقك لا تراه، ما خلفك لا تراه، ما تحتك لا تراه، ما فوق لا تراه، كله لا تراه! ترى شيئاً بسيطاً من ثقوب، خزوق! ثقوب بسيطة ترى منها، لست مُحيطاً! لكن – جل جلاله، لا إله إلا هو، تباركت أسماؤه وصفاته – هو الذي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ ۩، هل فكَّرتم في هذا؟ كل شيئ هو مُحيط به، ليس مُحيط به فقط فضائياً، لا! هو مُحيط به فضائياً وزمانياً وظاهراً وباطناً، لأنه هو – لا إله إلا هو – الظاهر والباطن، وهو الأول والآخر، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩.
والآن لو فكَّرنا هل النور ظاهر أم باطن؟ سنكذب على أنفسنا إن قلنا ظاهر، أبو حامد الغزّالي فهم أن النور ظاهر مُظهِر، وهذا غير صحيح، النور ليس ظاهراً، نحن لا نستطيع أن نقول هذا، وجاء الحسن بن الهيثم ليُؤكِّد أننا لا نرى النور، قال نحن لا نراه، نرى الدقائق والعلائق، أما النور – قال – فلا يُرى، أكبر عالم بصريات في العصور الوسطى كما قال سارتون Sarton، أكبر بصرياتي في القرون الوسطى! قال لا، قال هذا غير صحيح، أبو حامد قال في رسالة المشكاة النور ظاهر مُظهِر، وهذا غير صحيح، النور باطن مُظهِر، هو باطن لكن تظهر به الأشياء، لا يُرى ولكن تُرى به الأشياء، أما رب النور – لا إله إلا هو – ورب الظلام فهو الظاهر الباطن، والأول والآخر – هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩ -، ولذلك هو من وراء كل شيئ محيط.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُنوِّر ضمائرنا وأن يُقدِّس سرائرنا.
اللهم عُد علينا بعائدة خير وفتوح يا رب العالمين، افتح علينا فتوح العارفين بك، اللهم أنت أصلحت الصالحين فأصلحنا لك بما أصلحت به عبادك الصالحين.
اللهم اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعدنا بتقواك ولا تُشقِنا بمعصيتك، وخِر لنا في قدرتك، وبارك لنا في قضائك، حتى لا نُحِب تعجيل ما أخَّرت، ولا تأخير ما عجَّلت.
اللهم اجعل غنانا في أنفسنا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعلها الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا.
اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا جميعاً، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(4/5/2007)
أضف تعليق