إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سبحانه وتعالى من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ۩ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ۩ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ۩ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ۩ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ۩ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ۩ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ۩ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ۩ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ۩ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ۩، ثم قال بعد آيةٍ على إثر هذه وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ…۩.
الرَّحْمَنُ…۩ الرَّحْمَنُ…۩ الرَّحْمَنِ…۩ في سياقٍ قصير، في سياقٍ جد قصير! على أن المُؤمِن والمُؤمِنة لا يعجبان لهذا التكرار ولهذا التأكيد المُوحي اللافت، لا أحسب أن مِلةً من المِلل أو ديناً من الأديان عرف الله ويُصِر على تعريفه بالرحمانية كالإسلام العظيم، وهو دينٌ جاء مُستعلِناً برحمانية الله تبارك وتعالى، مُتقصِّداً وهادفاً وضارباً إلى غاية وهي تعميم هذه الرحمة في الفكر والنظر والسلوك والعمل، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ في أول كل سورة حاشا التوبة، أي براءة! وفي أم الكتاب التي نتلوها في كل ركعة من ركعات صلواتنا المفروض منها والمُتنفّل به، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩، عجيب! الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ مرة أُخرى في صدر هذه السورة الجليلة السبع المثاني، أم الكتاب! لكن هذه الرحمانية أيها الإخوة يُشغَب عليها، ولا تُسلَّم من قِبل الملاحدة واللادينيين لأمثالنا من المِليين والمُتدينين، هناك ثلاثيٌ مشهورٌ يُعرَف بالثلاثي غير المُتسِق، في عالم الفكر والفلسفة هناك ثلاثيٌ يُعرَف بالثلاثي غير المُتسِق، والمقصود إخواني وأخواتي بالثلاثي غير المُتسِق تركيبٌ من عباراتٍ ثلاث، لو صدقت ثنتان منها كذبت الثالثة بالضرورة، لذلك يُسمى الثالوث أو الثلاثي غير المُتسِق.
الثلاثي غير المُتسِق بما يتعلَّق بمسألتنا اليوم هو كالتالي، الله – تبارك وتعالى – كُلي القدرة، أي Omni Potens كما يُقال باللاتينية، هو قادرٌ على أن يفعل كلما يُريد، كلما يشاء لا إله إلا هو، لا أحد يحول بينه وبين ذلك، وهو أيضاً إلى ذلك إخواني وأخواتي كُلي الخيرية، كُلي الرحمة، لأنه رحيم، تام الرحمة وكُلي الرحمة وعام الرحمة، عام – أي شامل، العموم هو الشمول – الرحمة وهو بمعنى الكُلية Omni، هو كُلي الرحمة أو كُلي الخيرية، الاتساق واضح بين هاتان العبارتين، لكن يأتي في هذا الثلاثي العبارة الثالثة موضع النزاع والتشغيب، لكن الشر واقعٌ وموجودٌ في نطاق الوجود، الشر واقعٌ وموجودٌ في نطاق، في صفحة، في ساحة، في حاق الوجود، الشر موجود! سواءٌ منه الشر الطبيعي أو الشر الأخلاقي، الشر الطبيعي كشر الطبيعة ذاتها من الزلازل والبراكين والعواصف وما إلى ذلك، وأيضاً من الشر الطبيعي الآلام والتباريح والأوجاع التي يُعانيها ويتكابدها الإنسان بسبب الأمراض وما إلى ذلكم، هذا من الشر الفيزيقي، من الشر الطبيعي، وبالإزاء هناك الشر الأخلاقي، بمعنى الخطأ الديني أو الخطيئة في اللُغات الكتابية، بمعنى الخطيئة الشر الأخلاقي، وهو الذي يكون مُقتضىً لحرية إرادة الإنسان، لإرادته الحرة، فلأنه كائنٌ حرٌ يفعل ما يشاء فيكون من ضمن أفعاله الشرور والأضرار والمصائب والكوارث والبلايا التي يُلحِقها بالآخرين من عباد الله تبارك وتعالى، وأعظم الأشرار في التاريخ هم الحكّام الطواغيت والملوك، لأن شرهم يعم شعباً في كُليته ومجموعه، لا يقتصر على أن يتناول آحاد الناس، إنما قد يعم شعباً في مجموعه، هذا شر! هذا من الشر الأخلاقي، هناك ضربٌ من الشر وهو ضربٌ ثالث التفت إليه الفيلسوف الألماني الشهير غوتفريد لايبنتس Gottfried Leibniz، ليبنتز Leibniz ادّعى أن هناك شراً ميتافيزيقياً، والشر الميتافيزيقي في لُغة ليبنتز Leibniz يُعنى به ما يكتنف الموجود من حيث هو من عوامل النقص الموجود وفي رأس الموجودات الإنسان، ليس كاملاً Perfect، كان يُمكِن أن يكون ربما أفضل من هذا، أحسن مما هو عليه، لكنه ليس كاملاً، يتعانى النقص في جوانب من شخصيته، في جوانب من وجوده وواقعيته، ليبنتز Leibniz دعا هذا وسماه شراً ميتافيزيقياً.
إذن للتحديد أيها الإخوة الشر الذي يتحدَّث عنه الملاحدة واللادينيون والمُشتبِهون من المُؤمِنين ما هو؟ يحدث هناك اشتباه لبعض المُؤمِنين والمُؤمِنات، يقول كيف؟ كيف يكون الله كُلي القدرة وكُلي الخيرية والرحمة ولكن الكون غاصٌ وطافحٌ وريّانٌ بألوان وصنوف وضروب الشرور والمصائب والكوارث والآلام والأوجاع والتباريح وما إلى ذلكم؟ كيف؟ مُشتبِه! هذا مُؤمِنٌ مُشتبِهٌ، عرضت له شُبهة في سبيل إيمانه أو في طريق إيمانه، أقول هذا الشر الذي يتناوله هؤلاء وهؤلاء من الناس يُمكِن أن يُصنَّف إلى ثلاثة أصناف رئيسة: الشر الطبيعي، الشر الأخلاقي، والشر الميتافيزيقي.
الشر الميتافيزيقي نحن لا نُوافِق ليبنتز Leibniz عليه أصلاً ويتناقض مع نفسه، يتناقض مع مفهومه، ماذا يُريد أن يقول ليبنتز Leibniz؟ الموجود بما هو موجود مخلوق، هذا أيضاً في الفلسفة الميتافيزيقية، الموجود هو المخلوق، كل ما عدا الله موجودات مخلوقة، كل ما أوجده الله – تبارك وتعالى – هو حادث بقدرة الله تبارك وتعالى، معمول ومفعول لله تبارك وتعالى، مُبدَع لله، هذا المُبدَع أو هذا المخلوق أو هذا المفعول بطبيعته ميتافيزيقياً محدود، محدود لأنه ليس خالقاً، الخالق هو الكامل Perfect، انتبهوا! أما المخلوق فلابد أن يكون محدوداً، فماذا يُريد أن يقول ليبنتز Leibniz؟ لأنه لا يُمكِن أن تُتفادى هذه الحالة أو هذا المعنى، أن يُوجَد مخلوق وأن يكون ناقصاً، ليس كاملاً Perfect، على الأقل ناقص لأن له بداية في الزمان، إذن هو ناقص، ناقص لأن له نهاية، ناقص لأنه لا يحتوي على كل الكمالات، بمعنى ليس مُستغنياً، الموجود الحادث مُحتاج، كل ما أوجده وكل مَن أوجده الله – تبارك وتعالى – مُحتاج، مُحتاج! مُحتاج إلى مدد من الله تبارك وتعالى، مُحتاج إلى مدد مُستمِر، هذه صفة الموجود بما هو، هذه صفة الموجود في نفس الأمر، كما يُقال بلُغة نفس الأمر، في الأمر نفسه! هذه واقعية الموجود، هذه الحالة لا يُمكِن أن تُتلافى إلا بعدم الخلق أصلاً، أن يكف الله عن الخلق، ألا يخلق شيئاً، أما إذ خلق ويخلق فكل ما يقع تحت طائلة الخلق لابد أن يكون مُحدَّداً ومحدوداً وناقصاً، فلا معنى حقيقةً لكلام ليبنتز Leibniz عن الشر الميتافيزيقي، هذا ليس شراً، بالعكس! لأن في نهاية المطاف أيهما خير: ألا يُخلَق الموجود أو المخلوق أصلاً – أن يبقى في حيز العدم حيث لا حيز أصلاً – أو أن يُخلَق مع نقصه، مع كمالاته غير التامة، مع الخير الكثير الذي يُوجَد فيه والشر القليل الذي يعرض له، الذي يُلابِسه؟ لا شك أن الحالة الثانية الأفضل، الحالة الثانية هي الأفضل! أن يُخلَق مع خيرٌ كثيرٌ يُلابِسه ويعرض له في البين، يعرض له في البين شرٌ قليلٌ، شرٌ نزرٌ.
بالمُناسَبة الفيلسوف الكبير أرسطو Aristotle – شيخ الفلاسفة العقلانيين – على ما يُحكي مُلا صدرا الشيرازي في أسفاره الأربعة حين تحدَّث عن أصناف الموجودات من حيث علاقتها بالخير والشر أو بالخيرية والشرية رأى أنها يُمكِن أن تُصنَّف إلى خمسة، ما هو خيرٌ كاملٌ ومُطلَقٌ لا يشوبه شر، وهذا أولاً، ثانياً ما هو خيرٌ كثيرٌ يشوبه شرٌ قليلٌ، ثالثاً ما فيه خيرٌ قليلٌ ممزوجٌ بشرٍ كثيرٍ، رابعاً ما هو مُتساوي الطرفين، الخير فيه يُعادِل تماماً ويُساوي الشر، أخيراً ما هو شرٌ مُطلَقٌ، لا شية فيه للخير، لا حظ ولا نصيب ولا قسط فيه للخير، ثم صرَّح أرسطو Aristotle وأتباعه من ورائه أن الثلاثة الأقسام الأخيرة لا وجود لها، لا وجود لشر مُطلَق لا يُلابِسه خير، غير موجود ومُستحيل أن نُثبِت هذا، مُستحيل! وسوف نشرح هذا، لا جود لمستوي الطرفين، لا وجود لخير قليل مع شر كثير، لا وجود! الموجود حقاً في الوجود – في حاق الوجود – هو خيرٌ محضٌ أو خيرٌ كثيرٌ مع شرٍ قليلٍ، هذا ما يُعطيه النظر العقلي، النظر الفلسفي، على الأقل في رأي شيخ الفلاسفة أرسطو طاليس Aristotle Thales ومَن لف لفه وأخذ إخذه.
هذا المُدخَل التصنيفي مُهِمٌ جداً لمُناقَشة مسألة اليوم، إذن التشغيب والاشتباه يأتي ضمن هذا الثلاثي غير المُتسِق كما يزعم القوم من حقيقة أن الكون غاصٌ وطافحٌ بالشرور والعذابات والآلام والتباريح والمصائب والكوارث والنكبات، هذا يُكذِّب مُباشَرةً أن الله – تبارك وتعالى – كُلي الخير أو يُكذِّب – إذا أردت أن تُصدِّق أنه كُلي الخيرية، أي كُلي الرحمة، أن تُصدِّق كونه رحمنَ رحيماً – على الأقل كونه عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، يُمكِن أن يكون رحمنَ رحيماً لكنه لا يقدر، لا يقدر أن يدفع هذا الشر، لا يقدر أن يُخلي الكون من هذا الشر، هل هذا واضح؟
إذا أردت أن تُصدِّق الأولى والثانية معاً لابد أن تُكذِّب الثالثة، فتُنكِر أن في الكون شروراً، لكن الحال أن في الكون شروراً، الثالثة واقعية يقول هكذا الملاحدة واللاأدريون، الثالثة موجودة، الكون طافح بالشرور، إذن لابد أن تكذب ماذا؟ إما القضيتان السابقتان كلتاهما أو على الأقل واحدة منهما كما فصَّلت لكم، هذا ما يُعرَف بالثلاثي غير المُتسِق في الفلسفة، هذا الثلاثي غير المُتسِق!
طبعاً واضحٌ وبديهٌ أن المُؤمِنين – ليس في الإسلام وإنما في الأديان الكتابية عموماً وفي أديان أُخرى – بالعكس يزعمون بل يقطعون مُوقِنين أن هذا الثلاثي مُتسِق، كيف هو مُتسِق؟ يقولون الله كُلي القدرة وكُلي الرحمة والخيرية، وهذا الشر الذي تراه شراً في الوجود – هو موجود يقولون – له تفسير، لا يتناقض مع كونه كُلي القدرة وكُلي الرحمة، لا يتناقض! بالعكس هو مُقتضى كونه كُلي القدرة وكُلي الرحمة، إذن يُسلِّمون بأن هذا الثلاثي ثلاثي مُتسِق، ولا يُسلِّمون بفرضية أو احتمال أنه غير مُتسِق، هذه هي المسألة!
طبعاً مَن ألم بطرفٍ من هذه المسألة يعلم أنها من أعقد المسائل، ليست هذه أول مرة أعرض لها لا في خُطبة ولا في مُحاضَرة، تناولتها أكثر من مرة، ولكن الإلحاح يزداد، يزداد من الإخوة والأخوات في العالم العربي لتناول هذه المسألة، لماذا؟ لأن هذه المسألة فعلاً – أي مسألة الشر ومُشكِلة الشر – هامة، بعضهم يدّعي أنها مُعضِلة، هي مُشكِلة وليست مُعضِلة، لماذا؟ المُعضِلة لا حل لها، المُشكِلة لها حل، نحن نزعم أنها مُشكِلة وليست مُعضِلة، هي مُشكِلة وليست مُعضِلة! هذه المُشكِلة تزوِّد الملاحدة واللادينيين بواحدةٍ من أقوى حُججهم إن لم تكن أقواها على الإطلاق، في مجال ماذا؟ في مجال إنكار وجود الله تبارك وتعالى، يبنون حُجتهم كالتالي:
المفروض في تعريف الرب أو الإله أو الخالق أنه كُلي القدرة – يقولون – وكُلي الرحمة، ولكن بما أن الواقع أن الكون غاصٌ بالشرور والآلام والمصائب إلى آخره فيضح من هذا أنه على الأقل ليس كُلي الرحمة وبالتالي ليس إلهاً وبالتالي ليس هناك إله، لأن الإله المفروض أن نُؤمِن به لابد أن يكون ماذا؟ وهكذا آمنا به، لابد أن يكون كُلي القدرة وكُلي الرحمة، ثبت أنه ليس كُلي الرحمة، لأن الشرور تجتاح العالم، تمخر عباب العالم، إذن أين هذا الإله؟ فرضية آمنتم بها أنتم وليس لها واقعية، أف! هكذا يُفكِّر الملاحدة والعياذ بالله، نعوذ بالله من زلات اللسان وزلقات الجنان، ونسأل الله أن يُنوِّر أفئدتنا وضمائرنا بنور معرفته وألا يُسلِمنا إلى أنفسنا وألا يقطع مدده وعنايته عنا. اللهم آمين، سألناك بك وبنور قدسك وجلالك يا رب العالمين.
شيئ مُخيف أيها الإخوة، يُزعزِع إيمان الضعاف وإيمان المُشتبِهين ربما والمُشوَّهي التفكير الذين لا طريقاً لهم ولا منهجاً حقيقياً صارماً مُنضبِطاً في التفكير، إذن هذه – يقولون – حُجة من أقوى الحُجج.
أنا أُحِب اليوم – إن شاء الله – أن أُعيد نقاش هذه المسألة وأن أُضيف فيها جديداً بإذن الله – تبارك وتعالى – لكن على أساس واضح لا أقصد فيه – لأن المقام للأسف ضيقٌ جداً، خاصة نحن في الشتاء – إلى تقصي أطراف الحُجج والحُجج المُقابَلة، أي Proofs and disproofs كما يقولونها، حُجة وتفنيد، لا! هذا موضوع طويل تُكتَب فيه – وقد كُتِبَت – مُصنَّفات كبيرة، وهو موضوع من موضوعات اللاهوت – أي علم العقيدة – سواء عند اليهود والنصارى أو المُسلِمين، كما أنه موضوع من أكثر موضوعات الفلسفة، وخاصة الفلسفة الخُلقية، على أنه أيضاً يتطرَّق إلى الفلسفة الميتافيزيقية أو الأنطولوجيا Ontology بتحليل مفهوم الوجود كما فعل ابن سينا وسانت أوغستين Saint Augustine وتوما الأكويني Tommaso d’Aquino وحتى أبو حامد الغزّالي وغير هؤلاء، بتحليل مقولة الوجود استطاعوا أن يُعيدوا تعريف الشر، إذن هو موذوع أنطولوجي وموضوع أخلاقي، يدخل في بابين من أبواب الفلسفة الثلاثة، الفلسفة ما مباحثها؟ الأنطولوجيا Ontology، الإبستمولوجيا Epistemology، الإكسيولوجيا Axiology، يدخل في الإكسيولوجيا Axiology ويدخل في الأنطولوجيا Ontology، في نظرية المعرفة يُمكِن أن نُدخِله، أنا بالنسبة إلى يدخل حتى في نظرية المعرفة، أنا سأُساهِم اليوم بإسهام جديد يُثبِت أنه يدخل حتى في الإبستمولوجيا Epistemology كما سيأتيكم عند كلامي عن مُقارَنة العوالم وأفضل العوالم المُمكِنة، نظرية أبي حامد الغزّالي وليبنتز Leibniz مرة أُخرى، أفضل العوالم المُمكِنة! فيدخل في الجانب الإبستمولوجي أو جانب نظرية المعرفة.
موضوع مُعقَّد، لأنه موضوع فلسفي بامتياز وموضوع عقدي بامتياز، أُحِب أن أضع فيه النقاط على الحروف بتبسيط شديد حتى لا نتيه ولا نضرب في عمياء!
أولاً هناك ما يُعرَف – وهذا أيضاً التصنيف يُساعِدنا، غير موجود في علم الكلام الإسلامي أو في علم العقيدة لكن المعنى صحيح ويُمكِن أن نستعيره – في اللاهوت الغربي المسيحي واليهودي باللاهوت الطبيعي واللاهوت العقدي، Natural theology and dogmatic theology، أي اللاهوت العقدي واللاهوت الطبيعي! باختصار ما هو اللاهوت الطبيعي؟ علم العقيدة الطبيعي، علم الكلام الطبيعي، علم أصول الدين الطبيعي! علم اللاهوت الطبيعي أو اللاهوت الطبيعي يُقصَد به ما يُمكِن أن يستقل العقل بدركه وفهمه بعيداً عن معونة الوحي، في رأس اللاهوت الطبيعي مسألة وجود الرب لا إله إلا هو، العقل يستقل بهذا، أليس كذلك؟ العقل يستطيع أن يستدل على وجود الله بغير الوحي، بالعكس! أصلاً الاستدلال بالوحي – Revelation – النازل من عند الله فرع ماذا؟ فرع الإيمان بوجود الله، إذن كيف يُمكِن أن نُؤمِن بالله؟ بالعقل، لا يُمكِن أن تُؤمِن بالله بالوحي، صعب بل مُستحيل، يُوجَد تناقض، لابد أولاً أن يقودك العقل، أن يدلك على ضرورة الإيمان بالله، أي بمعنى ماذا؟ على أن وجود الله وجود ضروري، لذلك يُقال له واجب الوجود، أي ضروري الوجود، أي لابد منه، لا محيد ولا مناص لتفسير الكون بغير وجود الله، حتى تُفسِّر وجود الكون تفسيراً معقولاً يتسق في العقل والذهن لابد أن تُقِر بماذا؟ بوجود الله، إذن وجود الله ضروري، هذا معنى أن الله واجب الوجود، أي ضروري الوجود، انتبهوا! هذا لاهوت طبيعي، آمنا بهذا، فهذا لاهوت طبيعي، وهناك اللاهوت العقدي، أي Dogmatic theology.
اللاهوت العقدي هو المسائل التي لا يستقل العقل بدركها وتحتاج إلى معونة الوحي، فالتثليث أو الثالوث عند النصارى هذا لاهوت عقدي، مُعظَم مباحث الأسماء والصفات في علم الكلام الإسلامي هذا لاهوت عقدي، من أين للعقل أن يعرف أن الله – تبارك وتعالى – مثلاً رحمن رحيم حكيم خبير رافع خافض مُعِز مُذِل وإلى آخره؟ قد يعرف أو يستقل بمعرفة بعض الصفات الإلهية، العقل قد يعرف بعض الصفات الإلهية، أما أن يعرف كل هذه الصفات فلا، على كل حال تقريباً يتفق الدارسون المُتخصِّصون في الغرب وغير الغرب على أن الحدود والتخوم بين اللاهوت الطبيعي واللاهوت العقدي غير مُستبينة وغير واضحة، يُوجَد تدخل، تدخل شديد! كأن تقول لي هنا ينتهي اللاهوت الطبيعي ويبدأ اللاهوت العقدي، هذا غير صحيح، من الصعب جداً.
قد يُحاج بعضهم ويُجادِل أن في مُكنة العقل أن يعرف صفة الحكمة لله وأن يُثبِتها بغير معونة الوحي كصفة الخلّاقية وصفة الإبداع، أنه بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩، أبدعهما حتى من لا شيئ أو من مادة قديمة كما يزعم أرسطو Aristotle والفلاسفة العقليون والمشاؤون الإسلاميون مثلاً، العقل قد يستقل بهذا، وكذلك العناية، أي مفهوم العناية الإلهية والتدبير، مفهوم تدبير العالم قد يستقل العقل به، لكن هناك صفات إلهية وردت في النصوص – الوحي – لا يُمكِن العقل أو من الصعب جداً تصور أن العقل يستقل بدركها وحده، فضلاً عن مسائل البعث والنشور والجنة والنار والميزان وما إلى ذلك، فالعقل لا مُدخَلية له هنا، صحيح هذه مسائل لا تُناقِض العقل – ليست ضد العقل – لكنها فوق العقل، فوق مُستوى العقل! العقل لا مُدخَلية له في إثابتها، إذا أثبتها الوحي يُمكِن للعقل بسلاسة أن يقول لا تتناقض معي، لا تتناقض مع مبادئي، أنا أُصادِق عليها، ليس عندي مُشكِلة، لكنها لاهوت عقدي، ليست لاهوتاً طبيعياً.
الآن مسألتنا هذه – مسألة الشرور في الكون وعلاقة الله بالشر في الكون بأقسام الشر المُختلِفة – من مسائل اللاهوت الطبيعي أو العقدي؟ المسألة مُشكِلة أيضاً، هل تعرفون لماذا؟ لأن هؤلاء زعموا – كما ذكرت مُحاجَجتهم قُبيل قليل – أن المفروض في الرب الذي يُؤمَن به أن يكون كُلي القدرة وكُلي الرحمة، كُلي القدرة لا شك عندي أنها تنتمي إلى اللاهوت الطبيعي، ما معنى أن هذا الكون مُبدَع ومُخلوق لله؟ إذن هذا إله كُلي القدرة، الذي استطاع أن يُبدِع هذا الكون كُلي القدرة، أما أنه كُلي الرحمة فأشك، المفروض هذه مبدئياً أن نجعلها بين اللاهوتين، وإلى أن تكون من نطاق اللاهوت العقدي أميل، هي أميل إلى هذا، أحري بها أن تكون من مسائل اللاهوت العقدي لا الطبيعي، لماذا أقول هذا؟ انتبهوا فهذا مُهِم جداً جداً في نقاش الملاحدة واللاأدريين، لأنه لو ثبت أن هذا الكون فعلاً فيه شرور وفيه عذابات وفيه مظالم وفيه… وفيه… وفيه… مما لا تبرير له – العقل عاجز عن تبريره وسيظل عاجزاً – هذا لا يعني نقض صفة القدرة لله، وبالتالي لا يعني نقض مفهوم الله، أليس كذلك؟ لا يعني إلغاء مفهوم ضرورة وجود الله، قد يكون هذا الإله موجوداً وهو كُلي القدرة، ولكنه ليس كُلي الرحمة، إله هكذا! لشيئٍ ما يختص به يُريد أن يُعذِّب الخلق في الدنيا، هذا بالعقل فانتبهوا، الآن أنا لا أتحدَّث بالدين وإنما بالعقل، العقل لا يقول هذا الإله ينبغي ألا يكون موجوداً، بالعكس! إذا لم يُمكِن – وهو غير مُمكِن فعلاً في نفس الأمر – تفسير وجود هذا الكون ودوام هذا الوجود على الأقل إلى الساعة من غير افتراض وجود كُلي القدرة وكُلي الإبداع إذن هذه القضية ينبغي أن تبقى إلى الآن في مراحل البحث والنقاش بمعزل عن قضية خيرية الله ورحمانية الله ولا رحمانية الله، هذه مسألة وهذه مسألة، انتبهوا! أي أن هنا يحدث خلط مُتعمَّد من الملاحدة لكي يُسارِعوا بضربة واحدة إلى إنكار وجود الله، يقول لك الواحد منهم المفروض في الله أنه كُلي القدرة وكُلي الرحمة، هذا الرب الذي نُؤمِن به، لا! أنا أحببت أن أُميِّز بين النطاق الذي ينتمي إليه وصف كُلي القدرة والنطاق الذي ينتمي إليه وصف كُلي الرحمة، الأرجح – كما قلنا – أن كُلية الرحمة الإلهية هي من مقولات اللاهوت العقدي، بمعنى أننا عبر تعرّف الله إلينا – عبر كُتبه الإلهية، عبر القرآن العظيم – عرفنا أنه رحمن رحيم كما قلنا، ويُؤكِّد هذا دائماً، لا يفتأ يُؤكِّده، أنه رحمن رحيم – وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ۩ – وأن هذا الكون عُلويه وسُفليه إنما هو نابعٌ من ومُنبثِقٌ من عين الرحمة الإلهية، الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَٰنُ ۩، الله أكبر! الرَّحْمَٰنُ ۩، هذا هو! قال الرَّحْمَٰنُ ۩، لم يقل القدير أو الخالق أو الحكيم أو العليم أبداً، قال ماذا؟ الرَّحْمَٰنُ ۩، الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ۩، الله أكبر!
إذن هذا الكون كله نابعٌ وخارجٌ من وفائضٌ من عين الرحمة الإلهية، هذه من مقولات اللاهوت الديني، اللاهوت الوحياني، وبالمُناسَبة نقول اللاهوت الوحياني نسبة إلى الوحي على التعظيم، فهذه من مقولات اللاهوت الوحياني، ليست من مقولات اللاهوت الطبيعي، بمعنى ماذا؟ ماذا يُفيدنا هذا؟ يُفيدنا إذا أردنا أن نُناقِش مسألة الشرور أيضاً لا محيد ولا مناص من أن نُحاوِل إعادة تعريف الرحمة الإلهية ورحمانية الله وفق المنظور الوحياني، ليس وفق منظور طبيعي مبتوت الصلة بالوحي، هنا نقع في تناقض منهجي، انتبهوا! هكذا لابد أن يكون الناقش من ناحية حتى منهجية.
إذا اعتصمنا بمقولات اللاهوت الطبيعي وحده لا يُمكِن ببساطة كالتي يستسهل بها الملاحدة والشكيون المسألة أو الأمر أن نضرب بمقولة أو بعقيدة وجود الله بخُطوة أو خُطوتين، مُستحيل! صعب جداً جداً، لكن هذا الخلط يضمن لهم هذا التساهل وهذا التلاعب، هو يضمن لهم هذا التساهل وهذا تغرير، بعضهم يُغرِّر بغيره وبعضهم هو مغرور دون أن يدري، يُغرِّر بنفسه! طبعاً جوهر الغرور هو الجهل وليس الكبر، الغرور هو الجهل، نحن نخلط بين الغرور والعُجب، التغرير والغرور هو الجهل، انتبهوا فليس معناه العُجب بالنفس وإنما الجهل، هذا نوع من الجهل والتجهيل، نوع من اللَبس والتَلبيس – اللُبس من الملابس – طبعاً، فهذه أيضاً مُقدِّمة مُهِمة في نقاش اليوم لابد أن نستحضرها.
ثانياً كيف تمت مُعالَجة هذه المسألة المُشكِلة على نطاق اللاهوت وعلى نطاق الفلسفة؟ عموماً – كما قلت لأن ليس من هدفي أن أتقصى – هذه المسألة تم علاجها من منظورين، من منظور فلسفي كلامي طبعاً ومن منظور تربوي، المنظور الفلسفي سأُلخِّص لكم أشهر حُججه، أولاً هناك مَن أنكر وجود الشر أصلاً، قالوا الشر غير موجود، بمعنى ماذا؟ بمعنى أن الشر ليس موجوداً وجوداً ذاتياً، لا واقعية له، هو مفهوم انتزاعي، طبعاً قبل أن أشرح هذا – وسأشرحه بطريقة بسيطة جداً إن شاء الله ومُفهِمة أريد أن أقول أننا نفهم مفهوم الشر على أنه مفهوم أخلاقي، واضح أنه مفهوم أخلاقي، طبعاً مفهوم أخلاقي! وبما أنه مفهوم أخلاقي لابد أن يكون مشوباً بالنسبية، أليس كذلك؟ لابد أن يكون مشوباً بالمُقايَسة، بالإضافة، وبالنسبية، هو مفهوم أخلاقي! ولذلك كونه مفهوماً أخلاقياً – أي معيارياً – هذا يُضعِف من واقعيته، أنا لا أُنكِر الواقعية تماماً عن الأخلاقيات، لكن هذا معروف ومن الشرح يضح هذا بعد قليل.
أيها الإخوة:
الصفات بشكل عام – الأوصاف – تنقسم إلى قسمين: أوصاف ذات أو ذوات واقعية وأوصاف غير واقعية، تُسمى الانتزاعية، بمعنى ماذا؟ الآن الماء موجود كالخشب موجود، صفة الوجود هنا صفة واقعية للماء، للخشب، للإنسان، للسماء، للأرض، ولكل شيئ، واقعية! سواء وُجِد الذهن الذي يُدرِك أن الماء موجود ويملأ المُحيطات أم لم يُوجَد الذهن الذي يُدرِك هذا الماء موجود، هذه الصفة واقعية، أي وجود Existence، إذن هذا موجود، وهي أقرب أن تكون صفة طبيعية، وهنا بالمُقابِل صفات ليس لها مجد هذه الواقعية، كيف؟ إذا قلنا الآن الماء موجود وثقيل، فموجود: واقعية، وثقيل: ليست واقعية، بالنسبة إلى مَن؟ بالنسبة إليك، بالنسبة إلى هذا الكائن السابح فيه، بالنسبة إلى كائن آخر خفيف وخفيف جداً، كالصغير والكبير! الأرض كبيرة إلى حدٍ ما، بالقياس إلى ماذا؟ إلى القمر، وكبيرة جداً جداً بالقياس إلى بطيخة أو إلى بلية، كبيرة جداً! وصغيرة جداً بالقياس إلى الشمس، الشمس حجمها مليون ومائتان وخمسون ألف مرة قدر حجم الأرض، عجيب! أن تكون الأرض – وهي شيئٌ واحدٌ وموجودٌ واحدٌ – كبيرة صغيرة أمر لا يدخل في العقل، متى لا يدخل في العقل؟ إذا كانت كبيرة صغيرة على أساس واقعي، مُستحيل! لأن هذا مُتعارِض، لكن على أساس انتزاعي وعلى أساس مُقارَني وعلى أساس قياسي صحيح الأرض كبيرة صغيرة، كبيرة بالنسبة إلى البطيخة وبالنسبة إلى القمر وبالنسبة إلى بلية، وصغيرة بالنسبة إلى الشمس والمُشترى – Jupiter – مثلاً، هذا هو! لماذا؟ لأن الكبر والصغر ليس من الأوصاف الواقعية، بمعنى لو لم يُوجَد ذهن الإنسان الذي يضع الأرض في قياس أو في سياق مُقايَسة مع القمر والبطيخة والشمس لما وُجِدَ أصلاً مفهوم الأرض صغيرة والأرض كبيرة، مُستحيل! الأرض فقط، أليس كذلك؟ هذا الفرق بين الصفات ذوات الواقعية وبين الصفات الانتزاعية، تُسمى صفات إضافية.
نأتي الآن إلى ما يتعلَّق بموضوعنا، الحيات والعقارب – مثلاً – والزلازل والأعاصير والدمار وإلى آخره، الشرور! الآن العقرب – مثلاً – موجود أو الحية موجودة، هذه صفة صحيحة، وجودها صفة واقعية، أدركتها أو لم تُدرِكها واعترفت بها أو لم تعترف بها هي موجودة، أليس كذلك؟ هذه صفة واقعية، لكن الحية ذات سم، وهذه صفة واقعية، مُركَّب مُعيَّن معروف تركيب الكيميائي اسمه السُم، بغض النظر عن أنك تُسميه سُماً وغيرك يُسميه Poison بالإنجليزية أو Gift بالألمانية أو أي شيئ، ليس لنا علاقة، المُهِم هذه المادة ذات التركيب الواقعي ويُوافِق طبعاً الكيميائي من أستراليا أو من مصر أو من أمريكا أو من النمسا على أن هذا هو تركيب سُم الحية، هذا هو بالضبط، هذه الـ Formula، فهذا شيئ واقعي.
الحية موجودة، الحية ذات سُم أو لها سُم، السُم موجود: هذه كلها أوصاف واقعية، الحية شر، السم شر: لا، ليس وصفاً واقعياً، هذا وصفٌ انتزاعيٌ، بالقياس إلىّ – الذي أتأذى وأتضرَّر وقد أفقد حياتي الغالية جداً بلسعة أو بلدغة الحية والعقرب – الحية وسُمها أصبحا شراً مُضِراً، بالنسبة إليها هل سُمها شر؟ بالعكس! بالنسبة إليها سُمها من لوازم وجودها، من شروط بقائها وامتدادها في الحياة، لولا هذا السُم لهلكت، أليس كذلك؟ لهلكت! لأكلتها عوادٍ كثيرة وضوارٍ كثيرة، وفي مُقدَّمها الإنسان ربما، يعبث بها ويجعلها حيواناً مُستأنساً، فتفنى مثلاً، وهكذا!
إذن السُم موجود: وصف واقعي، الحية موجودة والعقرب موجود: وصف واقعي، السُم شر والحية شر: وصف ليس واقعياً، وصف ماذا؟ انتزاعي، يُسمى إضافياً، أي وصفاً إضافياً، وصفاً قياسياً، لو عُدِم الذهن الذي يُحدِث هذا القياس ويُوجِد هذه المُقارَنة هل تُوجَد هذه الأوصاف؟ لا تُوجَد، انتبهوا! هكذا عالج الفلاسفة، ومن هنا اتفق هؤلاء الفلاسفة العقليون على شيئ هام، أرسطو Aristotle مهَّد إلى هذا السبيل، سانت أوغستين Saint Augustine وابن سينا وأبو حامد الغزّالي وتوما الأكويني Tommaso d’Aquino وإلى آخره قالوا باختصار الشرور أعدام – جمع عدم – وليست وجودات، الشرور أعدام! فالشر لا يعدو أن يكون عدم جوهر – جوهر غير موجود، أي ذات غير موجودة – أو عدم صلاح جوهر، كما عبَّر ابن سينا في كتاب ما وراء الطبيعة من موسوعته الإشارات والتنبيهات في أربعة أجزاء، هذا هو! قال عدم جوهر أو عدم صلاح جوهر، أي ما يصلح به هذا الجوهر، أي أن الجوهر يعدم صفات مُعيَّنة تجعله أقرب إلى أداء غرضه ووظيفته ومقصده، هذا يُصبِح شراً في حق هذا الجوهر.
بهذه النظرة الإضافية القياسية المُقارِنة يصح أن يُعَد شيئٌ ما خيراً وشراً، أليس كذلك؟ كما قلنا كبيراً وصغيراً، على أنهما مُتعارِضان، ولو كانت الخيرية والشرية أوصافاً واقعية ذاتية لتناقض الأمر ولا ما صح أن يُوصَف شيئٌ واحدٌ بأنه خيرٌ شرٌ، مُستحيل! لكن لما كانت أوصافاً إضافيةً وانتزاعيةً وقياسيةً – أي نسبية – صح أن تُوصَف في حق جوهر ما بأنها خير وفي حق جوهر آخر بأنها شر وانفكت الجهة، انفكت – كما يقول المناطقة – الجهة، في حق هذه الجهة كذا وفي حق تلك الجهة كذا!
هذا مُهِم جداً، هذه طريقة الفلاسفة لمُعالَجة هذه المسألة، فالفلاسفة لا يُسلِّمون ببساطة العامة أن الشرور موجودة ويُعالِجونها سيكولوجياً أو عاطفياً، والآلام والتباريح والمشاكل وما إلى ذلك، يقولون لا، المسألة ليست كذلك، هذه أعدام، تُريد أن تُقاوِمها ولابد أن تُقاوِمها، قاومها بجهود إيجابية وجودية، العمى الآن في حق الإنسان شر، هو في حق الإنسان شر، أليس كذلك؟ لكن عمى الإنسان هو خير في حق أعداء الإنسان، من الحيوانات وبني الإنسان، جميل جداً أن يكون هذا الإنسان الذي هو عدوٌ لهم أعمى، عماه خير في حقهم وشر في حق نفسه، لكن ما هو العمى؟ ليس شيئاً موجوداً اسمه العمى، بالعكس! هو عدم صلاح جوهر، عدم صلاح الإنسان بانعدام أوصاف مُعيَّنة، منها صفة البصر، عُدِمها الإنسان، لم يُعط هذا الشيئ، أي أنه نقص، نقص شيئ، لكن لا يُوجَد شيئ موجود اسمه العمى، انتبهوا فالعمى ليس شيئاً موجوداً، العمى هو انعدام البصر كالظلام، لا يُوجَد شيئ اسمه الظلام أبداً، الظلام هو انعدام النور، ضع يدك الآن في طريق أي سيّال ضوئي، ماذا سوف يحدث؟ يكون الظل Shadow أو Schatten، ما هو الظل؟ الظل هو انعدام النور، حين ينعدم النور بالكُلية – كل آثار النور طبعاً، وهذه مسائل طبيعية معروفة – يحدث الظلام، فالظلام ليس شيئاً موجوداً، الظلام شر عند الناس، لكنه عدم من الأعدام، الظلام شر لكن شأنه كشأن سائر الشرور عدم من الأعدام، وكذلك الجهل، الجهل شر ومن أعظم الشرور، لكن الجهل لا واقعية له، لا ذاتية له، الجهل هو ماذا؟ انعدام الفهم وانعدام العلم، الشأن فيه القابل للعلم أن يتعلَّم، لكونه لم يتعلَّم وبقيَ على الحالة الأولى الأُمية وقع في شر الجهل، لم يتكمَّل بشيئ يُمكِن أن يُتحصَّل، هناك شيئ موجود اسمه العلم، العلم موجود كحقائق ومُقرَّرات في الكتب وفي الأدمغة وعلى ألسنة العالمين والمُثقَّفين والمُربين، ولكن أنت لا تُريد أن تأخذ بحظك منه!
وهكذا ناقشوا بقية الشرور أو سائر الشرور، هل هذا واضح أيها الإخوة؟ لكن بعض الناس يدخل بعقل لا فلسفي، وهذه هي المُشكِلة، من الفلاسفة مثلاً ماكس شيلر Max Scheler وحتى مالبرانش Malebranche الديكارتي، يدخلون بعقل نصفه سيكولوجي ونصفه فلسفي، يقول لك الواحد منهم لا، هذا كلام جميل كتنظير وكنوع من التجريد لكن في الحقيقة هناك شرور حقيقية نحن نُعاني منها، هناك الألم الذي أُعاني منه كإنسان أنا، لماذا تقول لي هذا؟ أنا أُعاني منه، ولا يُمكِن أن يسد هذا الكلام الفلسفي لابن سينا وسانت أوغستين Saint Augustine وأرسطو Aristotle مسداً من نفس هذا الإنسان الذي يُعاني تباريح الألم من عشرين سنة، آلام مُمِضة، آلام مُمِضة ومُبرِّحة جداً! هنا هذا يُفضي بنا إلى المُقارَبة الثانية الفلسفية لمُعالَجة مسألة الشرور وهي – انتبهوا – أن هذا العالم كعقل واحد وكنفس واحدة، أرسطو Aristotle أيضاً كان من المُؤسِّسين لهذه الفكرة وهي فكرة صحيحة علمياً والعلم كل يوم يُؤيِّدها بتأييد جديد، الآن ميكانيكا الكم تُؤيِّد هذه الحقيقة بشكل مُدهِش، لا أُحِب أن أقول مُعجِز لكن بشكل مُدهِش فعلاً، كون العالم نفساً واحدة وعقلاً واحداً وكياناً واحداً ماذا يعني؟ وطبعاً ما السر؟ لأنه صدر عن إلهٍ واحدٍ، لا إله إلا هو! خلف هذه الكَثْرات أو الكَثَرات – الكَثَرات أحسن صرفياً – والتنوعات والاختلافات والتباينات هناك ما يشي بوحدة روح العالم، وحدة المنطق الساري في العالم، وطبيعي أن يعكس وحدة الخالق المُوجِد المُبدِع لهذا العالم، لا إله إلا هو! جل ثناؤه ومجده في عليائه.
أرسطو Aristotle كان من المُؤسِّسين لهذه الفكرة العظيمة، كما قلت لكم في ميكانيكا الكم اليوم لدين حتى مفهوم اسمه التعالق Entanglement، مفهوم التعالق في فيزياء الكم يقول لك جُسيم موجود هنا وموجود آخر له علاقة به على طرف الكون، ما يحدث لهذا يُؤثِّر على ذاك، على أنه لا علاقة مادية بينهما، شيئ غريب! هذه الفكرة شرحتها عند تفسيري لقصة عرش بلقيس من سورة النمل، هي أساس ما يُعرَف الآن بفيزياء الــ Teleportation، أي فيزياء النقل الآني، أعظم ما توصَّل إليه عقل الفيزيائيين على الإطلاق، على الإطلاق! وهذا ربما يعد بعد خمسين سنة أو بعد مائة سنة أو بعد ألف سنة – مثلاً – بإمكانية أن تأتي ساعة تُنقَل فيها الأجسام بما فيها الأجسام الحية آنياً، تُنقَل آنياً، ليس بسرعة الضوء وإنما آنياً، في اللحظة ذاتها، تفنى أنت من هنا لتُوجَد على مبعدة خمسة عشر بليون سنة ضوئية، نقل آني Teleportation، شيئ غريب! قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۩، في لمح البصر العرش يكون هنا، كيف هذا؟ هو هذا، هل تعرفون لماذا؟ مبدأ التعالق Entanglement في فيزياء الكم، مذهب مُعقَّد وفيه كُتب، هناك كُتب فيه، أنا عندي كتاب كبير اسمه التعالق، كله عن التعالق فيزيائياً، يتحدَّث عن التعالق، إذن هذا الكون وهذا الوجود، الفلاسفة فهموا تعالقية الكون، أنا كنت أسميها التآزرية، تآزرية الكون وتآزرية الوجود، فهموا هذا لكن ليس بهذا العمق وإلى هذا المُستوى، لكنهم فهموا الأصل، أن الكون مُتعالِق، فما يُرى شذوذاً لبعضٍ من نغم ففي نظام الكل الكل مُنتظَم، كما قال الحكيم السبزواري:
ما ليس مَوْزوناً لِبَعْض مِنْ نَغَم فَفي نِظامِ الكُلِّ كُلٌّ مُنْتَظَم.
فأنت ترى هذا الشيئ الآن شاذاً وغير ضروري ومُزعِج وزائدة دودية في الحياة وفي الكون وفي الوجود، لكنه ليس كذلك، يكون كذلك بالنسبة إليك ربما أو بالنظر إليه في ذاته تراه هكذا، لكن لو رأيت دوره في المنظومة وفي الكل تعلم أنه لابد منه.
رينيه ديكارت René Descartes – الفيلسوف الشهير جداً والرياضياتي الفرنسي الكبير، وهو صاحب المنهج، أي مقال عن المنهج – كتب يقول ما قد يُعَد شراً إذا نُظِر إليه وحده سيُنظَر إليه على أنه خيرٌ لازمٌ ضمن المجموع الكُلي، أليس كذلك؟ هذا هو طبعاً، دعونا نرى أي مُحرِّك أو أي آلة Machine، حتى جسم الإنسان ينطبق عليه هذا، هناك أشياء أرقى من أشياء، هناك أشياء أهم من أشياء، هناك أشياء تحظى باهتمام أكثر من غيرها، لكن على أهمية الشيئ المُهِم فالأقل أهمية أيضاً مُهِم، ولو تضرَّر تحدث مُشكِلة، الآن في آلة شديدة التعقيد ربما لو تضرَّر ترس صغير تعطب الآلة كلها، على أن هذا الترس لا يُساوي ربما خمسة فلسات لكنه مُهِم جداً ولابد من إعادته إلى موضعه، بدون بُرغي ما تتعطَّل الآلة، وهكذا! لابد منه، لابد منه على أنه بُرغي حقير، حقير لكن له دورٌ كبيرٌ ضمن الكل، فلذلك ذهب هؤلاء الفلاسفة إلى القول بأن كل شيئ في نظام الطبيعة والكون له دوره، إذا قصرت النظر وحصرته إليه وحده بحياله ربما استنكرته وشجبته، إذا نظرت إليه ضمن المنظومة فستتقبَّله، مثل النور والظلال أو النور والظلام في اللوحة الفنية، أليس كذلك؟ هذا لازم وهذا لازم، طبعاً هنا يُعترَض علينا أيها الإخوة باعتراضات أيضاً عاطفية، انتبهوا! ليست فلسفية وليست عقلية وليست ذات واقعية حتى، ليس لها واقع، ليس لها مصداق واقعي!
دوستويفسكي Dostoyevsky – الأديب ونستطيع أن نقول حتى الفيلسوف، هو أديب وروائي معروف، ولكنه عقل فلسفي وعقل مُحلِّل – كتب على لسان بطله إيفان كارامازوف Ivan Karamazov في الرواية الأشهر الإخوة كارامازوف The Brothers Karamazov يقول حتى لو استطاع المصنع الكوني أن يُبدِع أرقى الإبداعات وأجملها وأتمها أنا أرفض أن يكون ثمن ذلك دمعة من طفل صغير، كلام عاطفي – Emotional – هذا، كلام شاعري هذا وخطابي، ليس كلاماً برهانياً ولا حتى إقناعياً، كلام جدلي عاطفي، لماذا أنا أصفه كذلك؟ هل تعرفون لماذا؟ اسمعوا إلى حُجتي، حُجة – إن شاء الله – تنال منكم إعجاباً، أقول لإيفان كارامازوف Ivan Karamazov – وطبعاً من خلفه لسيده ومولاه ولمُبدِعه فيودور دوستويفسكي Fyodor Dostoevsky – لماذا ترفض يا سيد إيفان Ivan؟ ترفض هذا وفاءً لضميرك، وفاءً بمُتطلَّبات الضمير الإنساني، أقول له هذا الضمير هو ابن هذه الكُلية، مَن الذي أنشأ ضميرك؟ مِن ماذا يُبتنى هذا الضمير؟ يُبتنى من لحاظ صراع الخير والشر، الحق والباطل، النور والظلام، العذاب والهناء، أليس كذلك؟ الألم والراحة، هو هذا! من خلال مُلاحَظة ومُتابَعة ومُلاحَقة هذه المُتعارِضات وأحياناً هذه المُتشاكِسات نبت ما يُعرَف بالضمير الإنساني الذي يرفض، لولا هذه الأشياء لما كان لك هذا الضمير ولما رفضت أصلاً، انتبه! تُوجَد تناقضات، أنت ابن هذا الكون، ابن هذه التركيبة، ابن هذا النظام، ابن هذه الكُلية في تعاضدها، وأنت مِمَن يُؤكِّد تعاضدها وتآزرها، صوت الضمير هنا يُصادِق على ضرورة استمرار هذه النُظم.
طبعاً هناك نوع من المُحاجَجة العاطفية الجدلية وليست البرهانية، يأتيك مَن يقول لك لا، مُصيبة هذه، هذا تفكير مصائبي كوارثي، لماذا يا سيدي؟ يقول هذه الفلسفة كارثية، فلسفة استئصالية نازية فاشية كُليانية شمولية، لماذا؟ يقول لك بهذا المنطق تحرَّك ستالين Stalin، وبالمنطق عينه اندفع هتلر Hitler كالمجنون يُذبِّح في الملايين ويُطهِّر بالملايين، والمسألة عنده مسألة إحصائية فقط، انتهينا من المليون الثاني وسوف ندخل في الثالث، فهي مسألة إحصائية، وبالملايين! شيئ مُخيف، فهتلر Hitler وستالين Stalin وكل هؤلاء الشموليين فعلاً يستسلفون منطق ومفروضة: من أجل تحقيق الأيديولوجيا وبناء النظام وإنجاز الحُلم لا بأس أن نطحن جماجم عشرة مليون في الطريق – لا تُوجَد مُشكِلة – من الوطنيين وغير الوطنيين ومن الأصلانيين ومن غير الأصلانيين، أي الـ Natives and non natives، لا تُوجَد مُشكِلة، أليس كذلك؟ وهذا حصل وهذا يحصل! لكن أنا أقول أيها الإخوة من أين لكم أن الأديان تُوافِق أصلاً على أن يتغصب الإنسان أياً كان هذا الإنسان – هتلر Hitler أو ستالين Stalin، حاكم أو محكوم – صلاحيات الله تبارك وتعالى؟ من أن يجوز للتراب أن يلعب دور رب الأرباب؟ من أخص خصائص الله أنه يُحيي ويُميت، هل يجوز لأحد أن يقول أنا أيضاً بما أنني حاكم وأزمة الأمور وأعنتها بيدي من حقي أن أُحيي مَن أشاء فأتركه في الحياة – كما قال نمروذ المجنون أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۩ – وأن أُميت مَن أشاء؟ أنا سأُميت نصف الشعب كالقذّافي مثلاً، سأذبح الشعب الليبي كله وأستورد شعباً جديداً، من حقي! مَن قال لك هذا يا حبيبي؟ لست إلهاً أصلاً لكي نُصادِق على هذا المنطق، أنت بطلقة واحدة تنتهي، أليس كذلك؟ وانتهيت بطلقة واحدة، لست إلهاً، هذا كذب على نفسك وعلى العقل، فهذه المُحاجَة الاعتباطية الاعتسافية خالية من كل مضمون حقيقي، لا يجوز لأحد أن يغتصب صلاحيات الله وأن يلعب دور الله ويقول هذا المنطق في تبرير أفعال الله، في الحقيقة أفعال الله لا تحتاج إلى تبرير، هذا سوء أدب منا، هذا مُهِم في تقريب أفعال الله، المُخ أو العقل الإنساني أو الذهن يحتاج إلى أن يُقارِب حكمة الله في أفعاله، أي أن هذه Approach، نوع من المُقارَبة، وهذه الأشياء لا تكون بالمُطابَقة، يستحيل! يستحيل أن نُدرِك وجوه حكمة الباري – لا إله إلا هو – في خلقه وفي أفعاله وفي أموره بطريق المُطابَقة، لو صح هذا لكنا آلهة على قدم سواء مع الله تبارك وتعالى، هذه المُطابَقة! نفهم ما يفهمه تماماً، نعرف ما يعرفه تماماً، وهذا مُستحيل! في حق محمد – صلى الله عليه وسلم – مُستحيل، في حق موسى وعيسى مُستحيل، في حق كل البشر مُستحيل، لكن هناك المُقارَبة، هذا من ضمن الإسهامات التي أحببت أن أُسهِم بها اليوم، المُقارَبة!
للأسف طبعاً لن يسع الوقت لكي أتحدَّث لكم عن المُقارَبة التربوية لمسألة الشرور، لكن باختصار المُقارَبة التربوية تقول كالتالي:
لولا المصائب والآلام والتباريح والكوارث وإلى آخره لما نمت الحياة، لما تطوَّرت الحياة، لما أمكن قيام حياة أخلاقية إنسانية، الإنسان بصراع الخير والشر وكونه طرفاً في هذا الصراع ينمو أخلاقياً، أليس كذلك؟ الإنسان الذي لا غريزة عنده كالملك لا يُمكِن أن يتحدَّث عن فضيلة العفة، انتبه! لا ميزة عندك، لا غريزة، لذلك لا يتحدَّث شيخ ابن تسعين سنة ميت الغريزة – أعني الغريزة الجنسية – عن العفة، لا يجوز له أن يتحدَّث عفته، عن أي عفة تتحدَّث؟ أنت مقطوع، أنت ميت الغريزة، لكن يتحدَّث عنها الشاب العارم الغريزة الذي يضبط نفسه ويتقي الله ويقول إني أخاف الله، إني أخاف الله رب العالمين، معاذ الله، هذا له الحق والأولوية أن يتحدَّث عن العفة، من أين تقوم هذه الحياة الأخلاقية؟ بصراع ماذا؟ بصراع الخير والشر، الحق والباطل، النور والظلام، الصح والخطأ، أليس كذلك؟ أو الصحيح والخاطيء، الحياة الأخلاقية تقوم بهذا وكذلك الحياة الروحية والحياة العلمية والتقنية، ولذلك يقولون الحروب دورها لا يُنكَر في تقدّم التقنيات والصناعات، هذا معروف! القنبلة الذرية متى اختُرِعَت؟ في الحرب العالمية الثانية، الأسلحة الكيمياوية متى طُوِّرت أحسن تطوير؟ في الحرب العالمية الأولى، الحرب الأولى حرب الكيميائيين، الحرب الثانية حرب الفيزيائيين، الحرب الثالثة الله أعلم، لعلها تكون حرب المجانين، وهكذا! فالحروب لها دورها، حتى نكبات الحروب – والحروب هي أم القطائع وأم الانقطاعات – لها دورها في التقدّم، لذلك كتب ليبنتز Leibniz يقول على طريقة ديكارت Descartes – وهو مُتأثِّر بديكارت Descartes، أعني ليبنتز Leibniz – ما قد يُعَد شراً قد يُعَد ضرورةً في سبيل التقدّم العلمي، أحياناً نرى أنه ضروري لتقدّم العلوم والصناعات، فهو يفهم هذا!
هيجل Hegel – الفيلسوف الألماني المثالي العظيم هيجل Hegel – كتب يقول المُعاناة والألم والعذاب مسائل ضرورية تماماً لارتقاء الإنسان والركب الإنساني، ضروري! لا نتقدَّم بالدعة وبالنوم، نتقدَّم عبر الحروب، عبر الدموع، عبر الدماء، وعبر الألم!
ألفريد دي موسيه Alfred de Musset – الشاعر والروائي والمسرحي الفرنسي الشهير في القرن التاسع عشر – كتب يقول الإنسان مُتدرِّب – أي تحت التدريب – والألم أستاذه، قال الإنسان مُتدرِّب والألم أستاذه!
الإمام عليّ – عليه السلام – قال – كما في النهج – الشجرة البرية أصلب عوداً والروائع الخضرة أرق جلوداً والنباتات البرية أحسن وقوداً وأبطأ خموداً، لأنها برية! تصمد حتى تحت النار، تحت الحرارة الشديدة تصمد، ومن هنا مفهوم الفتنة في القرآن الكريم، الفتنة وضع الذهب التبر في النار لكي يتميَّز الخبث من الذهب الصحيح، كذلك الإنسان يُفتَن في فرن المُعاناة، في فرن المحنة، في فرن المرض، الألم، الحرب، الموت، فقد الأحباب، فقد العافية والصحة، وإلى آخره، هكذا!
هذا باختصار كلام التربويين وعلماء النفس وعلماء التزكية والصوفية عن أو بصدد مُقارَبة تربوية لمسألة الشرور والآلام والمصائب باختصار، نعود الآن إلى مُساهَماتنا في هذه المسألة يا إخواني.
أولاً انطلاقاً من مُصطلَح مُقارَبة نُحاوِل أن نُقارِب حكمة الله، نُقارِب رحمانية الله في خلقه وفي فعاله لا إله إلا هو، وكل فعاله رحمة – إن شاء الله – وحكمة وصواب بلا شك وصلاح بلُغة المُعتزِلة، لكن أقول لكم – انتبهوا – جُزء كبير من المُشكِلة أننا مخدوعون لــ وباللُغة، اللُغة أصلاً حين وُضِعَت أيها الإخوة في مراحلها الأولى في بدائية الإنسان وُضِعَت لكي تكون صلةً وتأشيراً إلى واقعيات العالم العيني الخارجي، هو هذا! وهي في هذا تُؤدي دورها على أحسن ما يكون، حين تقول لطفل ناولني الكوب الطفل الصغير يفهم هذا جيداً ويأتيك بالكوب، انتهى الأمر! حين أقول لك اشرح لي مفهوم الشر والخير تكون هذه مسألة مُعقَّدة جداً، تحتاج إلى آلاف الجلسات ولن نتفق، لماذا؟ الخير والشر ليسا أشياء ذات واقعيات ملموسة ذاتية مثل الكوب، مثل الكرسي، ومثل المنبر، اللُغة أصلاً وُضِعَت للتأشير إلى الأشياء الأولى، من الطائفة الأولى، تطوَّرت بعد ذلك، لماذا؟ ليس لأن اللُغة تطوَّرت، لأن العقل الإنسان ذو لياقات وملكات، مُؤهَّل بالروح الإنسانية أن يُطوِّر وسائله لكي يتعاطى مع أشياء فوق طبيعية وتتجاوز الطبيعي، هو العقل الباحث عن الله تبارك وتعالى، أليس كذلك؟ المُتشوِّق والمُتشوِّف لله وللاتصال بالله ومزيد التقرب منه، لا إله إلا هو! هو نفسه العقل هذا الذي لا يكف عن ذلك مُنذ البدائية إلى اليوم في أرقى أعصار اليوم، تاريخياً إلى اليوم يفعل هذا، لا يفتأ يفعله باستمرار وبحُمية وحماس مُنقطِع النظير، لكن – انتبهوا – من أين تأتي المخدوعية؟ كيف نُخدَع؟ تأتي المخدوعية من أننا قد نُصادِق دون أن ندري في غفلة منا – ونحن نفعل هذا، حتى الفلاسفة يفعلونه – على أن رحمانية الله هي شيئٌ من قريب من رحمانية الإنسان وهذا خطأ، هذا خطأ! مَن قال لك هذا؟ هذا من باب ضعف اللُغة وقصور اللُغة، مُستحيل أن تكون هذه الصفة التي آثر الله أن يصف نفسه بها – بأنها رحمة ورحمانية – هي على نحو ما نعرفه من رحمانيتنا نحن، أليس كذلك؟ مُستحيل يا جماعة، هناك مُشترَكات بسيطة في حدود دنيا لكن تمتاز الصفة الإلهية والوصف الإلهي من الوصف البشري امتياز الرب من العبد، امتياز رب الأرباب من التراب يا إخواني، انتبهوا! لذلك بعض الناس يظن أن الغامض فيما يتعلَّق بالله هو ذاته، لكن أصلاً لا مُدخَلية للحديث عن ذاته إلا عبر ماذا؟ أسمائه وصفاته وأفعاله، لكن صفاته وأسماؤه وأفعاله أغمض مما يظن علماء الدين فضلاً عن العامة مِن المُتدينين، مَن قال لك إن أسماءه وصفاته وأفعاله واضحة تماماً وبسيطة فلا تحتاج إلا إلى تقليب صفحات أو صحائف المُعجَم لكي نختار لها بعض الأشياء – هذا إذا قلنا إنها بالاجتهاد – أو نُردِّد ما آثر الله أن يصف نفسه به دون أن نُعمِ التفكير المُقارِن والمُراجِع فيه؟ هذا خطأ.
لكي أُبسِّط لكم هذا الآن سنقول – مثلاً – هذا العبد رحيم، النبي بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ۩، طبعاً أنا رحيم وأنتَ رحيم لكن الرحيم هو رب العالمين، أليس كذلك؟ هو الرحيم، ولا يُقال في إنسان رحمن، الرحمن تختص بالله، الملعون مُسيلمة الكذّاب سمى نفسه رحمن اليمامة، رحمن اليمامة الكافر هذا والزنديق لعنة الله عليه، لكن الرحمن تختص بالله، رحيم نعم، فالنبي رحيم وأنا رحيم وأنت رحيم، لكن الرحيم هو الله تبارك وتعالى، فما هي مظاهر هذه الرحمة؟ كيف نُحدِّد هذه الرحمة؟ الأسهل أن نُحدِّدها عبر مظاهرها في الأول، التعريف الجامع المانع شيئ صعب ومُعقَّد، فمن مظاهرها التألم، حين ترحم أحداً فأنت تتألَّم، تشعر بألم، تشعر بحزن من جرائه، لأجله، وبسببه، قد تبكي، تسيل دموعك رحمةً، النبي قال هذه رحمة، أي الدموع، لما بكى على سعد قيل له يا رسول أتبكي؟ قال هذه رحمة، لما بكى على ابنه إبراهيم – عليه السلام – ماذا قال؟ هذه رحمة، ولا تُنزَع الرحمة إلا من شقي، فهذه رحمة، نبكي رحمة، نتألَّم ونرق ونحزن رحمة، نبكي رحمة! كل هذه رحمة، هل الله يتألَّم؟ حاشا لله، مُحال! هل الله يرق؟ مُحال، الرقة والألم من صفات الكائن الناقص، انتبهوا! لياقة الإنسان هنا نقص في حق الله، انتبه! هذا يليق بك وهو كمال فيك – كمال في الإنسان أن يكون رحيماً رقيقاً عطوفاً، يحزن للمُصابين والمكروثين – لكن هذا في حق الله ضعف ونقص، الله مُنزَّه عنه، لا يُمكِن! لم يُوجَد عاقل من علماء الكلام قال الله يتألَّم والله يحزن فضلاً عن أن يبكي، أستغفر الله العظيم! هل الله يبكي؟ مُستحيل، الله لا يبكي، ولا حتى الملائكة تبكي، قد يُقال إنها بكت، بعض الأحاديث الضعيفة تقول بأن الملائكة بكت، على كل حال حتى لو بكت هي كائنات مخلوقة، رب الخلق – خالق الخلق أجمعين – لا يبكي، لا يتألَّم، ولا يحزن حُزننا، سيقول لي بعضهم لكن هذه كارثة، إذن ما الذي بقيَ من معنى رحمة الله يا حبيبي؟ انتبه، أنت هنا تُوقِعنا في مصيدة أُخرى، مصيدة دينية مِلية عقدية، تُريد أن نُؤمِن بالرحمة الإلهية التي أفرغتها من كل مضموناتها، أليس كذلك؟ تقول لي عنه أنه رحمن رحيم لكنه لا يرق، لا يتألَّم، لا يحزن، ولا يبكي، إذن ما هذه الرحمة؟ أرأيت؟ إذن هذه ليست رحمة، كأن تُسمي قاضياً عادلاً على أن هذا القاضي لا يعدل حقيقةً ولا يُسوّي بين الخصوم وينحاز إلى بعضهم ضد بعض ويقلب الأمور، ثم تقول لي هذا قاضٍ عادل، سوف أقول لك لا، هذه التسمية لا واقعية لها، ما هذا؟ أين؟ أين مصداق عدل هذا الرجل؟ فأين مصداق رحمة الله؟ لا، هذه مُغامَرة وعجرفة وتهور في الإسراع إلى النتائج، لا! أيضاً قد تكون رحيماً دون أن تظهر عليك وربما حتى أن تُعاني الرقة لكن صعب هذا في حق الإنسان، الإنسان ضعيف! لكن سيعتبرك الآخر رحيماً لو أخرجت من جيبك وأعطيت هذا الفقير، هكذا دون أن تتبجح بهذا، أعطيته حتى في السر هكذا من غير أن يراك أحداً، وأعطيته مبلغاً طائلاً يكفيه سنة كاملة هو وأسرته، بلا شك هو سيقطع برحمتك، أنك كائن رحيم، بشر رحيم، هل تعرف لماذا؟ لأن جوهر الرحمة كما قال أبو حامد في المقصد الأسنى ما هو؟ الرحمة تقتضي مرحوماً وراحماً وما من مرحوم إلا وهو مُحتاج، فتحصَّل أن جوهر الرحمة رفع حاجة المُحتاج، وجوهر الرحمة وتمامها وكمالها بالنظر والتلمح والالتفات إلى هذا الغرض، وإلا لو كان من جوهر هذه الرحمة بما هي – كرحمة حتى في حق الله – أنها تستدعي وتقتضي الرقة والألم والبكاء والحزن لأصبحت مشوبة بغرضٍ لا يجعلها غرضها الأساس الرئيس نزيهاً، وهو ماذا؟ رفع ألمي أنا، فكأنني أرحم نفسي، أُعطيه لكي أرحم نفسي من العذاب الذي أشعر به.
اربطوا هذا بخُطبتي عن الخلايا المرآوية Mirror neurons، مُهِم جداً جداً فعلاً، والإنسان قد يفعل هذا لكي يرحم نفسه فقط، لأنه يتعذَّب حين يرى هذا المُحتاج، الله – تبارك وتعالى – ليس عنده رقة وليس عنده ألم وليس عنده حزن وليس عنده بكاء ولكنه – لا إله إلا هو – ليس فقط يُلبي دعواتنا ولم يخلقنا في أحسن تقويم وليس مُعظَم ما في الكون خير وانتظام واستقرار وجمال – بفضل الله – وعطاء، فكم هي ساعات الألم في حياة البشر أيها الإخوة؟ كم عدد المُتألِّمين إلى عدد الساعدين وما إلى ذلك؟ قليل جداً جداً أيها الإخوة، وإلى آخره!
لكن الله – تبارك وتعالى – يفعل هذا فعلاً لأجل رفع حاجة المُحتاجين، يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ۩، أما الإنسان فأمره مُختلَط، فما يُعَد كمالاً في حقه هو نقصٌ في حق ذات الله – تبارك وتعالى – وليس العكس.
إذن جوهر الرحمة رفع الحاجة، أنا أقول لكم إمامنا أبو حامد حتى هنا قصَّر، ليس رفع الحاجة، أنا أقول لكم جوهر الرحمة يتمثَّل في الإيجاد، وهذا مبدأ فلسفي قال به أرسطو Aristotle والفارابي وابن سينا وابن رشد وحتى الغزّالي وأغستين Augustine، أي سانت أوغستين Saint Augustine، في الإيجاد! لذلك قال الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَٰنُ ۩، كونه خلقك من لا شيئ وأعطاك حظاً لكي تكون مُمثِّلاً في مسرح الوجود هذه هي الرحمة، وليس هذا فحسب، وهيّأ لك هذا المسرح من جميع جوانبه، من جميع جوانب هذا العالم مُهيّأ لك لكي تعيش عليه، أليس كذلك؟ العوالم المُتضافِرة المُتآزِرة في كوكب الأرض لكي تُهيّئ صلوحية لحياتنا عليها أكثر من أن تُحسَب، بالألوف أيها الإخوة وهي مُتآزِرة.
للأسف أدركنا الوقت، أكتفي بهذا القول وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
إن شاء الله إخواني كالجُمعة السابقة بعد صلاة الجُمعة في خمس دقائق نُكمِل – إن شاء الله – المُقارَبة الأُخرى التي أردت أن أُسهِم بها لكي تكتمل الخُطبة ويكتمل درسها بإذن الله تبارك وتعالى.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، أصلِحنا لك بما أصلحت به عبادك الصالحين، اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك وأسعِدنا بتقواك ولا تُشقِنا بمعصيتك وخِر لنا في قضائك وبارك لنا في قدرتك حتى لا نُحِب تعجيل ما أخَّرت ولا تأخير ما عجَّلت، واجعل اللهم غنانا في أنفسنا ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا وأقِر بذلك عيوننا إلهنا ومولانا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(تتمة الخُطبة بعد الصلاة)
قلنا ما الذي بقيَ من رحمة الله تبارك وتعالى؟ بقيَ منها إخواني جوهرها وهو إرادة إيصال النفع إلى المُحتاجين، بل هو – الأمر أكبر من هذا كما قلت في آخر الخُطبة الأولى – تهيئة المُناخ، تهيئة الجو، وتهيئة كل الظروف والشروط التي تجعل وجودنا صالحاً وإمكانية البقاء والامتداد مُمكِنة وراهنة، هذا أصل الرحمة الإلهية، لكن ليس هذا المُهِم، المُهِم إخواني وأخواتي أن نُدرِك وأن نُسلِّم بتواضع أننا إزاء صفات الله – تبارك وتعالى – نحن إزاء غموض كبير هائل، بمقدار غموض الله ذاته كذات لا إله إلا هو، الأمر ليس واضحاً كما يحسب الناس، بدليل – انتبهوا وتفطَّنوا إلى هذا الشيئ – أن مُفكِّراً عبقرياً ومُتكلِّماً لوذعياً بل فيلسوفاً هائلاً في قامة أبي حامد الغزّالي تقاضاه الأمر سياحة امتدت لعشر سنوات مُتصِلة، مُحاوِلاً أن يقترب من الله، من الحقيقة المُطلَقة، انتبهوا! هذا طبعاً لم يفعله غير أبي حامد إلا قلة، هل تعرفون لماذا؟ لأنهم يكتفون من الإيمان بمُقرَّرات وترديد وتكرارات، تكرارات أشياء في كتب التفسير والعقيدة، أما أنهم تساءلوا مثل هذه الأسئلة اليوم طبعاً التي يسألها الملاحدة واللاأدريون ووصلوا إلى جواب حقيقي مُقنِع ومُعمَّق فلا، كلام! بعضه جدلي، بعضه إقناعي، وإلى آخره، أما أبو حامد فلا، كان صادقاً مع نفسه، أحب أن يُقارِب المسألة بعمق حقيقي وبمصداقية، فتقاضاه الأمر عشر سنوات كاملة، ولو أنه وجد الجواب بعد شهر أو شهرين من العُزلة والبحث والتفكير لعاد إلى أهله، لكنه لم يجد حينها، عشر سنوات يا إخواني، المسألة صعبة، لذلك أنا دائماً في السنوات الأخيرة أدعو تحت عنوان الإيمان امتياز حقيقي، الإيمان ليس مسألة تقليد، مُعظَم إيمان البشر – ليس المُسلِمين فقط – هو مسألة تقليد، يُقلِّد ويُكرِّر ما يقوله له الوالدون والمُعلِّمون والمُربّون فقط، كالمسيحي في الديانة المسيحية والمُسلِم مع المُسلِمين واليهودي مع اليهود، هذا ليس إيماناً، الإيمان الحقيقي امتياز، ما معنى أنه امتياز؟ أي يبدو أنه يظفر به قلة سعيدة جداً من البشر، اللهم اجعلنا من هذه القلة، قلة! بدليل ماذا؟ لا يهولنكم هذا الوصف أو هذا التوصيف، هذه هي الحقيقة، هل تعرفون لماذا؟ أسئلة اليوم – مثلاً – تُراوِض كل إنسان، ما من إنسان إلا يتساءل مثل هذه الأسئلة، لكن أقول لكم مُعظَم مَن تُرواضهم هذه الأسئلة بل تقض مضاجعهم أكسل من أن يستمعوا إلى خُطبة كاليوم، يقولون لك ساعة؟ طويلة، يا حبيبي – ما شاء الله – أنت باحث عن الإيمان، أنت فيلسوف! يُريد أن يتساءل أسئلة الفلاسفة العظام والمُشكِّكين الملاحدة وليس عنده وقت ولو لساعة، وعنده ألف ساعة للعب والمُتع وحضور الأفلام والمُسلسَلات، فقضية الإيمان عنده قضية لعب، انتبهوا! فعلاً قضية تقليد، تقليد فارغ! فضلاً عن أن يُعطي نفسه فُرصة لأن يقرأ كتاباً من خمسمائة أو ألف صفحة في الموضوع، مُستحيل! ليس عنده وقت، إذن هذا يلعب، لا! الذي يبحث حقاً ويُعاني كأبي حامد الغزّالي المسألة تحتاج معه إلى عمر بطوله.
العمر كله سيكون بحثاً عن الله تبارك وتعالى، مع أننا نُقِر ونعبد لكن نبحث ونُقارِب أكثر، إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩، قال عَلَىٰ صِرَاطٍ ۩، أنت تقطع مراحل إلى الله، اهْدِنَا الصِّرَاطَ ۩، لماذا اهْدِنَا ۩ ونحن مهديون؟ ما معنى أننا مهديون؟ نحن في بداية الهداية، انتبهوا! الإيمان ليس شيئاً ناجزاً، الإيمان عملية مُستمِرة مُمتَدة بامتداد العمر، هذا إذا أخذته بجد وكنت من هؤلاء المُمتازين، ولذلك تحت عنوان امتيازية الإيمان أو الإيمان كامتياز ندعو إخواننا وأنفسنا من قبل إلى أن يجد كل منا نُسخته الخاصة من الإيمان، كيف تكون النُسخة الخاصة من الإيمان؟ عبر التجربة الروحية، مثل تجربة أبي حامد، لابد أن يكون لك تجربة حقيقية، تُعاني وتُكابِد وتُضحي فيها بأشياء مادية ومعنوية مما يخصك، لكي تقترب من الله تبارك وتعالى، مُقارَبة الله!
بلا شك أن أبا حامد – مثلاً – فضلاً عن الصدّيق – مثلاً – والإمام عليّ وسيدنا عمر فضلاً عن رسول الله والرسل مفهومهم لرحمة الله وعن رحمة الله أعمق وأوسع بكثير من مفهومنا نحن رحمة الله، الإنسان العامي الفهم الذي يستسلفه ويستحضره لرحمة الله لا يُسعِفه أن يصبر على بلوى صغيرة، يقول لماذا يا رب؟ ولماذا فعلت في كذا وكذا؟ أستغفر الله العظيم! ويبدأ يُجدِّف، يبدأ يُجدِّف تحت ابتلاء بسيط، في تجارة خسر مائة ألف يورو أو عشرة آلاف يورو، فيقول لماذا يا ربي؟ لماذا أنا بالذات؟ لماذا ليس هؤلاء ولا هؤلاء؟ أستغفر الله العظيم، لا يفهم شيئاً هذا، ويقول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ ويُجوِّدها، أنت لا تفهم مَن هو الرحمن الرحيم، أنت الآن كفرت برحمانيته من أجل ألف يورو وببساطة، لأنك لم تعرف الله رحمنَ رحيماً لا إله إلا هو، فهذا باختصار عن المسألة هذه.
نحن نحتاج أن نُقارِب هذه الصفات عبر تجربة روحية، عبر نُسخة خاصة من الإيمان، هذه ليست جداليات، وهنا قد يقول لي أحدكم لا، هذه مسألة طويلة جداً، وطبعاً هي مسألة طويلة ومُعقَّدة، وهذا هو الإيمان، الإيمان ليس درساً في الفلسفة أو في الفيزياء تأخذه وتظل ماشياً به أبداً، انتبه! الإيمان في حقيقته معقول، وهذا ما ضلَّل النصارى، النصارى اعتقدوا أن الإيمان في نهاية المطاف هو شيئ غير معقول بالمرة، ولأنه غير معقول هو يقتضي أن تُسلِّم دون أن تُفكِّر، بالعكس! نحن ضد هذا، يقول لك Credo quia absurdum، أي أؤمِن به لأنه غير معقول، Tertullian! لكن يُوجَد جُزء من المعقولية، وجُزء آخر لا يتكفَّل به العقل وإنما تتكفَّل به الروح، انتبهوا! وهذا معنى اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩، اللهم اهدنا صراطك المُستقيم فلا نضل ولا تغضب.
أخيراً – الجُزء الأخير – قلت لكم سأُسهِم بإسهام أُثبِت فيه أن مسألة مُشكِلة الشر لها جذور وجوانح إبستمولوجية، كيف؟ انتبهوا! ماذا قال الذين يتحدَّثون عن أفضل العوالم المُمكِنة مثل أبي حامد الغزّالي؟ وفي الحقيقة أنا أُبرّئ أبا حامد الغزّالي من شُبهة أنه قال هذا العالم أفضل العوالم المُمكِنة، غير صحيح! أبو حامد لم يتكلَّم مرة بلُغة مُقارَنة بين هذا العالم الواقعي وبين عالم مُفترَض، هذا خطأ وسأُوضِّح هذا بتفصيل لأول مرة ولم أُسبَق، غداً – إن شاء الله – عندنا مُحاضَرة مُهِمة جداً ستكون الأهم – أهم من الجُزء الأول – عن أبي حامد الغزّالي، غداً عن علم كلامه وعن فلسفته وعن إنجازاته الحقيقية، بعض الناس عتب علىّ وقال لماذا تُبجِّله؟ قلت أنك مُعجَب به وهذه كارثة، ما الذي أعجبك في أبي حامد الغزّالي؟ أعجبني فيه ما ستسمعه غداً، أبو حامد عند النظر والتحقيق أنا أقول لك أعظم بمراحل من ابن رشد نفسه، أعظم! وعقله أعظم بكثير من ابن رشد نفسه بمراحل لمَن عرف أبا حامد، لكن هم يكذبون عليه.
نعود أيها الإخوة ونقول المُقارَبة الإبستمولوجية أو الكشف عن الجانب الإبستمولوجي للمسألة ما هو؟ لا يُمكِن أن تتحدَّث وتقول لي هذا العالم كان يُمكِن أن يكون أحسن منه لو خلا من الشرور والمصائب والآلام والأوجاع والتباريح والظلم والشر الأخلاقي والفيزيقي والميتافيزيقي وإلى آخره، غير صحيح! لماذا؟ هذا الكلام نفسه غير صحيح، هذا كلام فارغ، فلسفياً مُتهافِت الكلام هذا وسأُثبِت لكم هذا ببساطة، كيف؟ لماذا؟
طبعاً شيلر Scheler – ماكس شيلر Max Scheler معروف، الفيلسوف الألماني الجمالي – قال ذات مرة يُبرِّرون عذاب الألم بالقول إن الألم يُشكِّل جرس إنذار، الألم جرس إنذار لكي نُحافِظ على صحتنا! قال هذا لا يُقنِعني، كان يُمكِن للرب لو كان موجوداً أن يخلق جهاز إنذار لا يُحدِث ألماً، قلت له ضاعت عليك، ضاعت عليك يا شيلر Scheler، كأنك – ما شاء الله – لا تعرف هذا الإنسان الكسول المحكوم بالقصور الذاتي – Inertia – ولا يتحرَّك دون مُصيبة تُحرِّكه، فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ۩ الله قال، وقال لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ۩ ولم يضرَّعوا وقال لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۩ ولم يرجعوا، لو كان الألم الذي يُعطي إشارة إلى وجود اختلال في الصحة والبنية غير مُؤلِم أنا أقول لك مُعظَم البشر على الإطلاق لن يُهرَعوا إلى العلاج، بالعكس! من رحمته – تبارك وتعالى – أنه جعل مُؤلِماً لكي يحضهم على العلاج، لأنه يرحمهم، كالأم التي تفتح فاه صبيها بالقوة – تفتح فاه ابنها بالقوة – وتُؤلِمه لتسكب فيه الدواء المُر طلباً لعلاجه وعافيته، وهو لا يُدرِك! يُدرِك فقط قسوة أمه لا حنانها، فهذا كلام فارغ، هذا كلام عاطفي، ليس كلاماً علمياً.
بعد ذلك يا إخواني لماذا المُقارَنة بين عالمين مُقارَنة سفسطية لا مكان لها؟ هل تعرفون كيف؟ هم يفترضون أنه يُمكِن أن نُقارِن بين هذا العالم الذي أدركنا نقصه وتشاكسه وفوضويته وبين عالم آخر على الضد من هذا.
أولاً مَن الذي أدرك نقص العالم وتشاكسه وفوضويته؟ أنا أقول لك أكبر فيلسوف في حجم كانط Kant أو أرسطو Aristotle لا يستطيع الآن أن يُقدِّم لنا اقتراحاً لتحسين مُحرِّك نفاث في طائرة، وهذه صنعة بشرية، إبداع بشري حقير وبسيط جداً جداً جداً، أكبر فيلسوف لا يُمكِن أن يُقدِّم اقتراحات لتحسين الهيئة الكونية، مُستحيل! أصلاً أكبر فيلسوف وأكبر عالم مثل علماء الفيزياء الفلكية وغيرهم يطمحون إلى ماذا؟ هم يطمحون أن يفهموا كيف يعمل هذا الكون – يقتربون أكثر وأكثر من كيفية عمل هذا الكون المُدهِش – وليس أن يُصلِحوه، فما هذه الجعجعة والعجرفة والغرور والتنفج الذي يسمح لفلاسفة وملاحدة أن يقولوا نحن رأينا أن هذا العالم ناقص وفوضوي – Chaotisch – ومُتشاكِس وشرير ونُريد أن نفترض عالماً خيراً منه؟ كل هذه عجرفة غير صحيحة، وأشياء كثيرة سُجِّلت على أنها نقائص وعلى أنها كذا وكذا في الكون وخرجت بعد ذلك مُترجِمات لحكمة الله الدقيقة في هذا الكون، أليس كذلك؟ معروف هذا في تاريخ العلم.
ثانياً الكون الآخر المُفترَض أن نُفكِّر فيه مَن الذي أبدعه؟ خيالي أنا كمُلحِد أو كفيلسوف أو كلاأدري Agnostic، خيالي! خيالك هذا وفكرك ابن ماذا؟ ابن هذا الكون، أليس كذلك؟ ضمن نطاقه وبشروطه وبظروفه، ضميرك – كما قلت – ابن هذا الكون، ابن هذا الوجود، إذن الذي سيخلق كوناً آخر ليس هو إلهٌ كاملٌ قادرٌ على أن يرعى كوناً بحياله، كوناً كاملاً كما يرعى كونه هذا، ولكنه خيال إنسان مريض ومُتعجرِف مُتغطرِس قاصر عن أن يفهم هذا الكون ويدّعي أنه يُريد إبداع كون آخر أكمل منه، وفي الحقيقة أنا أقول لكم نظر هذا المُتعجرِف القاصر فقط إلى تحسين نُسخة الإنسان، الكون فيه خمسون ألف بليون كائن، أليس كذلك؟ هناك حيوانات ونباتات، لكنه يُريد فقط نُسخة الإنسان هذه أن تكون أحسن وأفضل، ليس فيها ألم، ليس فيها نقص، ليس فيها نقص، ليس فيها عمى، ليس فيها متاعب، ليس فيها قصور في الوظائف، وفقط! ما هذا الإله العاجز الناقص؟ هو هذا الإله المُلحِد، الإله المُلحِد للإنسان المُتعجرِف، غير صحيح! هذه المُقارَنة غير واقعية، غير علمية، وغير فلسفية، مُقارَنة مُضلِّلة تماماً بين عالم لم نفهمه وعالم يخلقه فكر إنسان خُلِقَ في هذا العالم، إذن العالم الآخر لن يكون عالماً آخر، هل فهمتم؟ فهذه المُقارَنة مُستحيلة، لذلك في النتيجة بقيَ أمامنا شيئٌ واحدٌ – شيئٌ واحدٌ فقط – فلسفياً، هل تعرفون ما هو؟ أن نتواضع وأن نُحاوِل أن نفهم هذا العالم، هذا هو فقط.
وأختم، ويليام كروكس William Crookes مُكتشِف الإشعاع وصاحب بعض أعظم وأهم الاختراعات في القرن العشرين، كروكس Crookes يقول من بين الصفات النادرة التي أتاحت لي مُواصَلة البحث والوصول إلى جديد الاكتشافات والمُنشاءات – أي المُخترَعات – تواضعي الناجم عن شعوري الصادق بجهلي، أني جاهل لا أفهم شيئاً، فقدرت أن أفهم بعد ذلك، أما ادّعاء أنك فاهم وأكثر حكمةً واقتداراً وتدبيراً من رب العالمين وأنك فاهم كل جوانب النقص في هذا الكون وقادر أن تُبدِع كون أحسن منه تُنقِّح فيه نُسخة الإنسان كل هذه عجرفة تليق فعلاً ببعض ملاحدة الفلاسفة وأمثال هؤلاء، ولا تليق لا بعالم مُتواضِع ولا بفيلسوف يدري ما يخرج من فمه، والمُقارَنة نفسها كما وضَّحت لكم – لكن هذا يحتاج إلى بسط شديد، يحتاج إلى مُحاضَرة – فلسفياً مُستحيلة، هذه المُقارَنة التي لم ولن تكون صادقة في يوم من الأيام، وأكتفي بهذا القدر، وارفعوا النداء بارك الله فيكم
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (16/12/2011)
أضف تعليق