إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ۩ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ۩ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ۩ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ۩ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ ۩ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
من الصعب أيها الإخوة والأخوات أن نجد تثريباً ونكيراً ودمدمةً على آفة التقليد والآبائية كالتي سمعنا في هذه الآيات الكريمة، إنهم يتبعون آباءهم أيها الإخوة، وما مثلهم ومثل آبائهم من قبل في هذا الاتباع الأعمى المُقلِّد إلا كمثل الراعي الذي يصيح ويُدوي بصوته مُحذِّراً أو زاجراً بأغنامه وشويهاته فتتبعه دون إلقاء فكر أو ذهن وإنما مُتابَعةً لدوي الصوت، تشبيه عجيب جداً وبالغ، هذا مثل البهائم، الله يقول ومن البشر بهائم، مثَّلهم بالبهائم الذين عطَّلوا نعمة الله، نعمة العقل ونور البصر والبصيرة فلم يهتدوا سبيلاً.
يبدو أن التقليد أيها الإخوة والأخوات مُتأصِّلٌ في النوع الإنساني أكثر مما نظن وأكثر مما نُقدِّر بكثير، نحن في العقائد نُقلِّد، نحن في الأزياء نُقلِّد، فيما نأكل وفيما نشرب نُقلِّد، في حُكمنا على الأفكار نُقلِّد، في حُكمنا على الأشخاص والأعيان والذوات نُقلِّد، فيما نراه بأم أعيننا وفيما نسمعه بصماخ آذاننا نُقلِّد، نُقلِّد وتتشوَّه الصورة، فيبدو الشيئ الذي نراه شيئاً آخر والشيئ الذي نسمعه شيئاً آخر غير ما نراه حقيقةً، إلى هذه الدرجة يُساهِم التقليد في تشويه العالم وفي تشويه الصور والمُشترَكات الإنسانية، ويعيش الناس على هذا النحو مُذ كانوا، فيُمكِن أن نجترح تعريفاً جديداً للإنسان هو الحيون المُقلِّد، أرسطو Aristotle بذكائه الفائق بلا شك – وهو فائق الذكاء والاستثناء بكل معنى – ذكر ما يُميِّز الإنسان من بين سائر أنواع الحيوانات، قال إنه الأكثر تقليداً، شيئ عجيب! يُمكِن أن يُقال العكس ويُظَن هو الصحيح، أن الإنسان هو الأعقل وبالتالي هو الأقل تقليداً، قال أرسطو Aristotle غير صحيح، الإنسان يتميَّز من بين الحيوانات بأنه أكثر منها تقليداً، الحيوانات لا تميل إلى التقليد كالإنسان، المسكين هو رقم واحد في التقليد والمُحاكاة.
لذلك القرآن الكريم لا يزال يُدمدِم على هذه الآفة التي تغتال وتأفن العقل، فهي تغتال العقل وتأفنه، تأتي على آخر قطرة فيه أيها الإخوة، في آيات كثيرة جداً وبأكثر من أسلوب علَّمنا أن نحترم المبدأ والفكرة دون أن نُتابِع الأشخاص أياً كان هؤلاء الأشخاص، اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۩، هكذا بالمُطلَق، وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۩، اتبعوا المبدأ ذاته، دوروا مع المبدأ، لكن مِن الصعب، مَن يفعل هذا؟
لو سُئلت عن تكليفٍ نبوي صيغ في شكل وصاة ونصيحة أمينة على أنه الأشق والأصعب لما ترددت أن أقول إنه وصاته – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا يكن أحدكم إمعة، من أصعب ما يكون! مَن يستطيع أن يصدع وأن يُحقِّق هذه الوصاة؟ تقريباً مُعظَم الناس لا يستطيعون هذا، وهذا حديث جليل أخرجه الترمذي عن ابن مسعود وعن حُذيفة بن اليمان رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما، قالا: قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – لا يكن أحدكم إمعةً يقول أنا مع الناس – وهذا اشتقاقها – إن أحسنوا أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن وطِّنوا – والمسألة ليست قراراً أيضاً تتخذه، أنا سأُقرِّر أن أكون غير مُقلِّد، لا تستطيع! لو اتخذت قراراً فقط وبالقرار تُريد أن تكون غير مُقلِّد ستقع في سفسطائية عنادية، ستُصبِح شخصاً مُدمِناً على الـ لا، ستقول لكل شيئ لا، حتى للحق وللحقيقة وللرأي الأسد والأصوب ستقول لا، ستُصبِح شخصاً عنادياً مُغلَق الذهن أيضاً، ستقع في ورطة، النبي لم يقل هذا، وإنما قال وطِّنوا، المسألة مشوار طويل، عملية مُمتَدة كما يقولون، عملية مُمتَدة وجهاد كبير جداً لإنعاش الوعي وإعادة تجهيز الخلفية الإدراكية لنا باستخدام أصول المُحاكَمات العقلية والعلمية لوجدان الحقيقة، تمحيض الله تبارك وتعالى بإخلاص النية لوجدان هذه الحقيقة مسألة صعبة جداً، أكثر الناس ليسوا كذلك – أنفسكم إن أحسن الناس أن تُحسِنوا وإن أساءوا ألا تظلموا، لأن مُعظَم الظلم الذي يحصل في العالم – الهجوم على أشخاص، على مذاهب، على طوائف، على أمم، على أديان، على حضارات، على دول، وعلى كيانات – بسبب التقليد الأعمى الأهوج، عقلية القطيع وعقلية الحشد، للأسف حتى العقلاء والأذكياء أحياناً مُعظَمهم لا يكونون معصومين من أن يُصبِحوا حشديين وجماهيريين تقليديين ومُتعصِّبين أيضاً.
سباستيان هافنر Sebastian Haffner – هذا رجل قانون وأصبح بعد ذلك كاتباً عن النازيين كبيراً – كتب في كتابه تحدي هتلر Hitler يقول أنا أُعرِب عن درجات بعيدة جداً من العجب من نفسي، أنا الذي كنت أكره هؤلاء أصحاب القمصان البنية – كتائب النازية – أكثر من أي خلق آخر، وجدت نفسي في يوم من الأيام مُتورِّطاً معهم، أجترح تماماً السلوكات الأكثر بُغضاً إلى نفسي من قبل، أجترحها هي بنفسها، صرت واحداً منهم! يُحدِّثنا عن هذا المأزق الخطير الذي يبدو أن المعصومين منه قلة نادرة في كل مُجتمَع وفي كل عصر وعبر التاريخ، قلة نادرة! الأنبياء – مثلاً – وأتباع الأنبياء الكبار، الخُلصان هؤلاء، الذين يظهرون دائماً كأنهم يُغنون خارج السرب وخارج الأسراب، دائماً يُعرِبون عن أنماط شاذة من التفكير والسلوك، لأنهم ليسوا حشديين، ليسوا أفراداً في قطيع، إنهم شخصيات، إنهم فرديات، إنهم كيانات لها استقلالها، لها جوهرها، ولها مُراهاناتها الفكرية والعطفية، لها بناؤها الحيوي أيضاً المُستمِر والمُمتَد، يستثمرون في أنفسهم!
أظن حتى لا تغيب عني هذه الفكرة أن طريقة وعظنا بالذات نحن المُسلِمين أيضاً -ليس بالذات نحن، أستغفر الله، وإنما طريقة الوعظ عموماً بين المُسلِمين وغير المُسلِمين – قد تتورَّط في مأزق كبير، نحن مُتورِّطون فيه، وهو أن هذه الطريقة تُركِّز في مُعظَم الأحيان أو الأحوال على الاستثمار في الغير، والاستثمار في الغير يكاد يكون فاشلاً هوائياً بلُغة خطابية مواعظية، الاستثمار في الذات هو الذي ينجح، ما معنى الاستثمار في الغير؟ الغير زمان ومكان وشخصية وذات، نتحدَّث عن نجاحات الآخرين، عن نجاحات الصحابة والسلف الصالح والأئمة والأولياء، جميل جداً لكن لماذا نُبالِغ في الحديث عن نجاحاتهم؟ لماذا لا نُوجِّه أنفسنا نحو نجاحاتنا نحن المُمكِنة؟ لماذا لا نتحدَّث عن أنفسنا؟
أنا لم يعد يطيب لي أن أقرأ أو أستمع إلى شخص – وطبعاً سيُبرهِن أنه شخص مُسطَّح جداً وساذج – يتحدَّث فقط عن الآخرين، أنا أُريد حديثك عن نفسك، حدِّثني عن نفسك، لا تجد شخصاً يتحدَّث بقدر معقول عن نفسه إلا وهو ناضج، ولا أتحدَّث عن النرجسيين ولا عن الشخصيات الاضطهادية، أتحدَّث عن الشخصيات المُتوازِنة، حتى في الإسلاميين من أمثال الشيخ محمد الغزّالي، لا يكاد يخلو كتاب ولا صفحة من صفحاته إلا يتحدَّث عن تجربة ذاتية مع القرآن أو مع الأمة أو مع الدعوة أو مع الله أو مع نفسه أو مع ضميره، إنسان ناضج، عنده استثمار في الذات، في حين يُمكِن أن تروا على الفضائيات كل يوم ولعشرات الساعات مَن يتحدَّث عن الآخرين، مَن يحفظ منقولات عن الصلاح، عن العفة، عن الأمانة، عن الذكاء، عن الاستقامة، وإلى آخره، منقولات! أين أنت في هذا؟ أين أنت؟ أين استقلاليتك؟ أين فرديتك؟ هل أنت مُجرَّد جهاز حاسوب – أنت كمبيوتر Computer – أو شبكة إنترنت Internet؟ ما هذا؟ هذا لا يطيب لإنسان واعٍ أن يستمع لمثل هؤلاء، في الغرب هنا كل الناس المُتعمِّقين الذين تحرز كتاباتهم الأنصباء العالية – أي Best selling books – طبعاً دائماً يتحدَّثون عن أنفسهم بقدر معقول ومُلهِم لنا ومُوحٍ أيضاً، في الشرق كما في الغرب، دائماً هذه هي الحالة أيها الإخوة!
نعود، الوعظ للأسف يسثتمر في الآخرين، يُحدِّثوننا عن نجاحات التاريخ، عن نجاحات الماضي، عن نجاحات الآخرين سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً، لا يُوجِّهوننا إلى نجاحاتنا نحن ولو بطريقة جُزئية تتعاطى حتى أحياناً مع الفروقات الفردية بيننا، لا يفعلون هذا، لا يُحدِّثنا حتى الخطيب أو الواعظ أو المُحاضِر عن تجربته هو الروحية أو الفكرية أو الفلسفية وعن مُعاناته، لا نستطيع أن نستفيد كثيراً للأسف الشديد، وهكذا نتعلَّم أيها الإخوة بطريقة وهمية ونشعر بطريقة وهمية زائفة أن الأمور بخير جداً والنجاحات كثيرة، لكنها دائماً ويا للهول نجاحات أُخرى، ونبقى دائماً فاشلين ونبقى دائماً خالي الوفاض.
أعود أيها الإخوة إلى مسألة التقليدية، هذا هو الإنسان، لكن أنا التفت إلى مُفارَقة في التقليد، التقليد معقول جداً، التقليد يأفن العقل وهذا غير معقول بالمرة، كيف؟ هذا ما أُسميه مُفارَقة التقليد، كيف؟ أولاً إذا لاحظنا أن الإنسان وهو الأعلى في المملكة الحيوانية رُتبةً هو الأكثر تقليداً سنُلاحِظ بسرعة خاطفة يتلوه في ذلك الحيوانات الأدنى إليه والأكثر تطوراً من بعده، الرئيسيات! القرود بالذات، الأورانغوتان Orangutan، الغوريلا Gorilla، والشِمْبانزِي Chimpanzee، هذه هي الأكثر تقليداً، والعرب تضرب المثل بالتقليد بالقردة، القردة تُقلِّد جداً، إذن هناك ارتباط، هذا الارتباط لابد أن يجعلنا نستنتج استنتاجاً ما، الإنسان هو الأكثر تطوراً في عقله ودماغه وهو الأكثر تقليداً، تتلوه هذه الفصائل الرئيسة أو الرئيسية وهي أيضاً أكثر تقليداً من بعده، معنى ذلك أن التقليد سمة أو مُؤشِّر إلى العقل وعلى العقل، كلما كان عقلك أكبر وأكثر تطوراً كنت مُقلِّداً أكثر، هنا ارتباط، وهذا خطأ في تفسير الارتباط، علم الإحصاء وعلم الأحصاء التطبيقي يُمكِن أن يضع أيدينا على كثير من هذه الارتباطات قطعاً، ربما نُناقِش بعضها وربما لا يُتاح لنا، كالارتباط بين الفقر ومُعدَلات الجريمة، الارتباط بين الفقر والجهل، الارتباط بين الجهل وتدني الدخول، علم الإحصاء التطبيقي يمدنا بهذه الأشياء، لكن أين التفسير؟ التفسير مسألة مُختلِفة، الذين يُقدِّمون إحصاءات جامدة وصامتة لا يُقدِّمون شيئاً.
أروع قصة لتطور العلم الفلكي في العصر الحديث كانت قصة أبطالها ثلاثة، تيخو براهي Tycho Brahe الدنماركي ويوهانس كيبلر Johannes Kepler وأخيراً إسحاق نيوتن Isaac Newton، تيخو براهي Tycho Brahe عبر سنوات مديدة – كل صباح وكل مساء، أحياناً لعشرات الساعات وبشكل يومي – يكتب فقط البيانات و يُراقِب السماء،كان بوّاب السماء، كان حارس السماء، يُراقِب ويكتب بيانات، لم يفرغ لتفسيرها، التفسير مرحلة بعيدة جداً، بعد ذلك جاء يوهانس كيبلر Johannes Kepler، أمامه المُعطيات والبيانات – Data – كلها، أخذها وميَّز الأنماط Patterns، أهم شيئ تمييز الأنماط، لكي أستطيع أن أُفسِّر لابد أن أقف على نمط، من غير نمط لا يُمكِن أن أُفسِّر، فيوهانس كيبلر Johannes Kepler فقط ميَّز الأنماط واكتفى، ذهب وطواه التاريخ، جاء السير إسحاق نيوتن Sir Isaac Newton وأعطى التفسير وكانت الثورة، ثورة عجيبة! وإلى اليوم يُمكِن أن نجترح مُعجِزات حقيقية باسم هذا التطور المُتدرِّج والأكثر روعةً ومُغامَرةً في تاريخ العلوم الإنسانية، كذلك علوم الاجتماع تحتاج إلى شيئ مُشابِه أيها الإخوة، نحتاج أن نرصد – لابد من خلفية معرفية – المُعطيات بموضوعية وبحيادية صامتة إذا أمكن، لكن بعد ذلك نحتاج أن نُميِّز الأنماط، أهم شيئ مرحلة تمييز الأنماط، لأنها هي التي تُمهِّد للتفسير، لا يُمكِن أن نأتي إلى التفسير من غير تمييز للأنماط وسأُوضِّح هذا بالأمثلة، وبعد ذلك سنكون قادرين على التفسير، سنكون قادرين على الفهم!
طبعاً ما دور الفهم في تغيير الواقع؟ خُطبة اليوم سوف تُعطي الجواب عن هذا الموضوع، للأسف الجواب بائس، ليس كما نظن، أقل بكثير مما نظن، لماذا؟ الدور دائماً يأتي للتقليد وللتنميط وليس للفهم وللوعي الحقيقي، هذه مأساة البشرية، هذا سبب الحروب الأهلية بالذات، سبب المذابح، سبب أن الناس يتذابحون في لحظة مُعيَّنة وهم أصدقاء وإخوان وجيران مُتحابون، وهذا ليس في العراق فقط، العراق حلقة في مُسلسَل طويل، مُسلسَل إنساني يتكرَّر باستمرار، في القرن العشرين المُنصِرم – تحديداً في عام ألف وتسعمائة وخمسة عشر – في أرمينيا حدث هذا، غداة الحرب العالمية الثانية كانت النازية في ألمانيا وتعرفون ماذا فعلت بفئات من الناس كثيرة، وكذلك الحال مع رواندا في ألف وتسعمائة وأربع وتسعين، قبل رواندا البوسنة والهرسك، والآن العراق، يتكرَّر هذا باستمرار، لكن هذا حيَّر رجال الفكر ورجال الدين المساكين الذين لم يتعمَّقوا المسألة وظلوا مثل علمائنا إلى الآن يعظون بطريقة أيضاً مواعظية خشبية، يقولون لأن هذا من قلة الدين، من قلة الوعي، من قلة الفهم، كيف إذا وجدنا الأكثر تديناً والأكثر خشوعاً وصدقاً في تدينه يتورَّط في المذابح ويُعطي فتاوى؟ وكذلك الأكثر وعياً، علماء علّامات! عن أي وعي نتحدَّث؟ عن أي علم؟ هم الذين دبَّجوا آلاف الصفحات أو عشرات ألوف الصفحات في العلوم الشرعية، يتورَّطون في هذا، إذن هذه لُغة خشبية فارغة، تقول لي لا يُوجَد دين ولا يُوجَد كذا وكذا وبعد ذلك نجنح إلى الصيغ الأكثر تعميماً التي لا تكاد تقول شيئاً لفرط تعميمها وعموميتها، مثل التعصب والجمود، هذا لا يُفسِّر شيئاً أيضاً، لا يُفسِّر! لابد أن نفهم بعمق، كيف؟ هل يُمكِن؟ هل من سبيل للفهم؟ سوف نجد إمكانية للفهم إن شاء الله تعالى.
نعود، إذن هو التقليد، مُفارَقة التقليد تقول هكذا، بما أن الإنسان عاقل وأُقدِّر نعمة العقل أيضاً أرى أن الآخرين يتمتَّعون بنفس النعمة ونفس اللياقات، لياقات الفكر والإدراك والفهم، ولذلك بكل تواضع – لأنني لست نرجسياً ولست سفسطائياً عنادياً – سأحترم الإجماع، سأحترم رأي الأغلبية، رأي الأكثر! رأي عشرة بلا شك أدنى إلى الصواب من رأي واحد، إذا جلس عشرة وتشاوروا أو اشتوروا وحاكموا وقلَّبوا الأمر على وجوهه المُحتمَلة كلها ثم بعد ذلك رسوا أو أرسوا أو انتخبوا رأياً ما بلا شك هذا الرأي لابد بكل تواضع أن أعترف بأنه أقرب إلى الصواب من رأيي، فكيف إذا كانوا مائةً؟ كيف إذا كانوا ألفاً؟ لابد أن أخضع وإلا أكون رجلاً مُعتَلاً أو مُصاباً بعقدة النرجسية، عُقدة تقديس وإعجاب الذات وعشق الذات لدرجة مرضية، هذا معقول جداً، أليس كذلك؟ هذا معقول جداً!
إذن من أين برزت المُفارَقة؟ لماذا التقليد يدل على أنه وصمة ضد العقل ومرض يأفن العقل ويغتال العقل؟ لأن إجماع الناس لا يكون دائماً وفق هذه الكيفية، مَن قال هذا؟ مَن قال إن الناس يُجمِعون دائماً وفق هذه الكيفية فيجلسون ويشتورون ويُقلِّبون الأمر على وجهه؟ هذا غير صحيح! ما يحصل خلطٌ بين أنماط الصور، لدينا صورتان للتبسيط: الصورة التي فرغت للتو من بيانها – صورة عشرة أو مائة يشتورون ثم ينتخبون رأياً هو الأرجح – وصورة التفاعل المُتتالي لعتبات البشر، ما معنى هذا؟ مائة من البشر – لنفترض أن هناك مائة من البشر – في محل مُعيَّن أو في مكان مُعيَّن إزاء حدث مُعيَّن، وهو حدث عمومي، يهم العامة من الناس، يهم الشعب! وهؤلاء في انفعالهم وفي ميلهم ونزوعهم إلى التشغيب والتكسير والتحطيم والاعتداء على المُمتلكات العامة وحتى على بعض الطوائف الأُخرى والأشخاص لديهم عتبات، أي Thresholds، مثل عتبة الألم وعتبة كذا وكذا، هذه اسمها عتبة الشغب في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي، عتبة الشغب! Threshold مُعيَّن، أي عتبة مُعيَّنة، وما معنى العتبة؟ العتبة هي النُقطة التي نُقرِّر عندها ما إذا كنا سنفعل أو لا نفعل، بناءً على ماذا؟ على مُوازَنة المصالح والمضار، لو وجدنا أن المُشارَكة مصالحها أكبر فإننا سنفعل والعكس صحيح، هذه هي العتبة!
الآن الأكثر جذريةً والأكثر تطرفاً – أي الأكثر راديكاليةً كما يقولون – عتبته كم؟ صفر، هذا يتحرَّك بسرعة، مثل البنزين والنار، أي شيئ يُحرِّكه فيُدمِّر الدنيا، يقتل أو يُفجِّر أو ينتحر دون أي مُشكِلة، هذا عتبته صفر، والأرفع عتبةً مائة، والأشخاص مائة، وطبعاً هذه حالة كما يُسميها ماكس فيبر Max Weber حالة نموذج مثالي، أي Ideal type، قد لا تحدث دائماً، لكن أحياناً يتوفَّر لسوء الحظ – حظ الأمة والشعب والدين والمصير والإنسانية كلها – هذا، هذا مُمكِن، ولأكثر من مائة أحياناً، أحياناً مائة ألف أو مليون وأحياناً شعب كامل للأسف، رأينا الهوتو والتوتسي ورأينا ماذا حصل، هكذا تقرَّر مصير مليون من التوتسي في فترة مُتلاحِقة سريعة، شيئ مُخيف! هذا صدَّع أدمغة البشرية، تعرفون هذه الأحداث على خلفيتها انبثقت علوم كثيرة، علوم كثيرة في الإدراك الإنساني، علوم في الجريمة، علوم في التعارف المدني، علوم في علوم الاجتماع، في العنف! علوم كثيرة، صدَّعت أدمغة البشر ذوي الحس وذوي الضمير الإنساني، ما الذي حدث؟ كيف يُمكِن يا أخي أن يقتل الصديق صديقه والجار جاره؟ وهو جاره من ثلاثين سنة، يتبادلون المنافع والمصالح ويسهرون مع بعضهم ويتسامرون، شيئ لا يُصدَّق! هذا ما حصل، حصل في البوسنة والهرسك، حصل في رواندا، ويحصل في العراق، وحصل في أرمينيا، وفي كل مكان يتكرَّر هذا، ولا تُوجَد عظة، مصر على قوتها مُعرَّضة إلى هذا، انتبهوا! وهذا اللعب الذي يلعب به الأقباط من جهة والمُسلِمون من جهة أيضاً، هذا تنصَّر وهذا أسلم وهذه أسلمت وكل هذا الكلام الفارغ، هذا عبث! عبث شيطاني ينبغي أن نتوقَّف عنه وأن تتوقَّفوا عنه، أنا أقول لكل مَن تستفزه هذه الأخبار وهذه التقارير ها أنتم تعبثون بنار لا تُقدِّرن أين ستذهب بكم، ستُفجِّر وستُحطِّم كل شيئ، لذلك الحديث عن مثل هذه الأحداث والكوارث العُظمى والمصائب المُحتمَلة لا يكون إبانها، لأنه لن يُجدي، انتبهوا! سينفلت العنف المجنون وسيغلب النمط وسأشرح هذا، حينها العقلاء بالذات – إن وُجِدوا – ربما يُذبَحون ولن يُسمَع لهم صوت، لن يُسمَع صوت إلا للغوغائيين والحشديين، هؤلاء نعم سيُسمَع صوتهم، بعد ذلك طبعاً الحديث بعد أن تخرب البصرة كما يقولون – بعد أن تخرب مصر في هذه الحالة – لن يعود مُجدياً كثيرا، الحديث المُجدي قبل، فهذه الخُطبة اليوم – كما قلت لكم – مُساهَمة في الوعي، انتبهوا وخُذوها بجدية، فهي مُساهَمة في الوعي ومُساهَمة في الفهم، وسوف نرى كيف يُمكِن عقر الفتنة، كيف يُمكِن إطفاء نار الفتنة قبل أن تُوقَد أصلاً، وهذه هي الوسيلة الوحيدة التي يُمكِن أن تُقاوِم بها الفتنة فقط، لكن حين تشتعل ينتهي كل شيئ، النمط سوف يشتغل، لا يُمكِن أن تُراهِن على الضمائر وعلى الدين وعلى المواعظ وعلى تربية الناس، الكل سيتورَّط تقريباً، الكل! حتى دُعاة الخير اليوم ودُعاة كذا وكذا أكثرهم سيتورَّط، انتبهوا فهذا حدث، وحدث في عهد الصحابة أيضاً، شيئ خطير جداً، هذا مدروس الآن وتُوجَد كُتب كثيرة حوله، لكن نحن طبعاً ابتعدنا عن درسها وعن تفحصها والاستفادة منها.
نعود أيها الإخوة إلى قضيتنا، إذن مُفارَقة التقليد خلطٌ بين الصور، ليس دائماً الأمر يحصل ويقع على النحو الذي ذكرناه، ما يحصل هو تواجد مائة شخص بعتبات مُختلِفة، في الظرف الذي وصفت يُقرِّر الراديكالي ذو العتبة صفر أن يبدأ بتحطيم – مثلاً – نوافذ مُؤسَّسة عمومية أو حرق سيارة خاصة – Private – للناس، يحرقها ويستجيب له ذو العتبة واحد، وتتوالى الاستجابات بسرعة، معنى هذا أن شخصاً ما ذا عتبة عشرة لن يستجيب ما لم ير قبله تسعة أشخاص يُحطِّمون، هذا في العلم مذكور، إذا رأى تسعة فسيستجيب، هذه عتبته، كيف سنقيسها؟ هذه التجربة تقيسها، إذا رأيته يتحرَّك بعد تسعة اعلم أن عتبته رقم عشرة، الذي يتحرَّك أولاً هذا عتبته صفر، هذا راديكالي خطير جداً وهكذا، هناك مَن يظل إلى آخر لحظة – المُثقَّف أو الجامعي الأكاديمي – يُقدِّم رجلاً ويُؤخِّر أُخرى وينظر خلفه وأمامه وإلى آخره، هذا عتبته مائة، لا يتسرع طبعاً، يُوجَد نوع من الحدس الداخلي، لكن حين يرى هذا الحشد الكبير يتحرَّك يفقد صوابه ويُمسِك بالحجر أيضاً ويُلقيه على جيرانه أو على أصدقائه وربما على سيارة المُؤسَّسة التي يعمل فيها ويرتزق منها الخبز، هذا ما يحصل! توالٍ لتفاعل وتآكل هذه العتبات، لم يحصل أن أصحاب العتبات المائة جلسوا واشتوروا ورأوا أنه لابد أن نجترح قراراً بتحطيم المُمتلكات العامة وحتى الخاصة وأن نفعل كذا وكذا لكي نُحقِّق الهدف الفلاني، لم يحصل!
هذا يُولِّد وهماً يتكرَّر في الذهنية الإنسانية وفي العقل الإنساني أنه كلما رأينا حشداً يفعل شيئاً لابد أن يكون يفعل ما هو أرجح وما هو أصوب، بمعنى أننا نقوم بإسقاط مُقدِّمات الصورة الأولى على الصورة الثانية وهذا غير صحيح في الواقع، في الواقع يُوجَد لدينا نمطان مُتمايزان تماماً، النمط الأول عقلاني مُرشَّد والنمط الثاني غوغائي مُنفلِت، أياً كان هذا النمط!
لكي أُوضِّح فكرة النمط أُحِب أن أضرب أمثلة بسيطة – حتى لا تُصبِح فكرة مُعقَّدة – للنمط Pattern والتنميط Patternicity، وقد تحدَّثنا في دروس التفسير عن مُعادَلة التنميط، هناك مُعادَلة رياضية، التنميط يتساوق مع كُلفة الخطأ الإيجابي الزائف أصغر من كُلفة الخطأ السلبي الزائف، لكن لا وقت الآن لشرح هذا، هكذا يتم التنميط، لكن هناك مُعادَلة رياضية تحكم هذا، أي تحكم التنميط أيها الإخوة!
بالأمس حدَّثني أحد إخواني الأفاضل مِمَن يعيشون في النمسا – وأنا استأذنته في هذا لكي أستخدمه في الخُطبة كمثال للتبسيط – قال لي رأيت أحد أصدقائي هناك في تونس مُصاباً باكتئاب الروتين، الروتين أصابه بالاكتئاب، الأشياء كما هي، لا جديد تحت الشمس، الخُطة اليومية تتكرَّر باستمرار، ولذلك أُصيب بحالة اكتئاب Depression، فكان هذا الإنسان مُكتئباً Depressed، قال فأردت أن أنصح له من باب الخدمة والأُخوة، قلت له عليك أن تخرج كل يوم وتُمارِس الرياضة، رياضة الجري والهرولة – – Jogging في الشوارع، قال ماذا؟ قلت له البس لباساً رياضياً وانتعل حذاءً رياضياً وافعل هذا، سوف ترى أن مزاجك تحسَّن كثيراً، قال عن ماذا تتحدَّث يا صاحبي؟ لو فعلت هذا ربما حتى أُطرَد من وظيفتي، حتماً سأُتهَم بالجنون، يا رجل عن ماذا تتحدَّث؟ الناس كلهم يجلسون على المقاهي، فهل أنا الجاري الوحيد بينهم؟ قلت له هذا جميل جداً، هذا الدرس سأستخدمه في الخُطبة، علماً بأن هذا حدث أمس ليلاً بعد درس التفسير، هذا النمط! الرجل بتلقائية بسيطة جداً دون أن يدرس هذه المُصطلَحات الفنية المُعقَّدة أدرك أن هناك نمطاً مُعيَّناً بين الشعب وبين الناس في حارته وفي مدينته، نمط قاعد هذا، قتل الفراغ في القعود على المقاهي وطق الحنك “كما يُقال” والكلام، فقط هذا هو! لا فتح كتاب، لا مُتابَعة أحوال اجتماعية – مثلاً – مثل مُساعَدة الناس ومحو أميتهم والتواصل معهم وعيادة المرضى والتشجير والتخضير للشوارع وختم القرآن – مثلاً – عشرات مرات في رمضان، النمط هو المقاهي، هذا ما يتغلَّب به على اكتئاب الصيام، فهكذا الرجل ينظر إلى النمط!
كم مرة – مثلاً – أيها الأخ أو أيتها الأخت كنت تمشي هكذا ووجدت الناس ينظرون إلى شيئاً مُعيَّناً فلم تفعل مثلهم؟ ولا مرة، حتماً! إذا وجدت سبعين شخصاً أو ثمانين ينظرون سوف تنظر وتقول ما هناك؟ مُباشَرةً وبتلقائية، هذا النمط وهذه تقليدية الإنسان، ولذلك إذا وجدت أشخاصاً يتكبكبون على شخص أو يتجمَّعون على شخص يقذفونه بالحجارة – يُقذَف هذا المُرتَد أبو رغال مثلاً أو الزاني أو الزانية وما إلى ذلك – مُباشَرةً سوف تبدأ تبحث عن الأحجار وسوف ترميه بها، كارثة! كارثة أن تُساهِم قي قتل إنسان دون أن تعلم ما القصة، لماذا؟ لأن الكل يفعل هذا يا أخي، هل معقول أنهم كلهم على خطأ ويرتكبون الأخطاء؟ ما رأيكم لو كانت هذه الجريمة تمت بطريقة العتبات المائة؟ شخص لعين قام برمي هذه السيدة بحجر، تبعه الناس من العتبة واحد إلى العتبة مائة، ما هذا؟ جريمة قتل إذن، أليس كذلك؟ جريمة قتل! يُمكِن أن يحدث هذا، عظمة القرآن الكريم حين يقول وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا ۩، شيئ عجيب! هذا حيَّرني، أنا فسَّرت هذا قبل أيام ولم أفهم هذا، لم أفهم هذا إلا وأنا أُخطِّط لخُطبة اليوم وأُرتِّب أفكاري، اليوم فهمت هذا وأنا أتوضأ والله، قلت هذا شيئ عجيب، تأتيني أفكار كثيرة وأنا أتوضأ، لا أدري لماذا، يبدو أن الوضوء فيه سر، تأتيني أفكار كثيرة جداً وأنا أتوضأ، لا إله إلا الله! فحافظوا على الوضوء، سلاح المُؤمِن، يبدو أنه باب فتح، قلت القرآن لم يقل وليحضر عذابهما أو وليعذِّبهما طائفة، وإنما قال وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا ۩، القرآن استخدم الشهادة، الله يشهد، الملائكة تشهد، أولو العلم يشهدون، وهناك شهادة الزور وشهادة الإفك، القرآن دائماً يتحدَّث عن الشهادة بالحق وللحق وفي الحق، وإلا فأنت شاهد زور، ولذلك لابد أن تشهد العذاب وليس أن تحضر العذاب، عليك أن يكون موقفك واضحاً وأن تكون مُلِماً على الأقل بما حصل وما القضية، هل هناك حيف في الحُكم؟ هل هناك تحامل على الشخص؟ هل هذا الشخص من طائفة أُخرى؟ هل كان مُتورِّط سياسياً وما إلى ذلك؟ هل كذا وكذا؟ لعل هذا يكون ظلماً، ولذلك النبي يقول مَن شهد رجلاً يُجلَد ظهره بسوط ظلماً فإن اللعنة تنزل على مَن حضر، انتبهوا! هذا هو، وانظروا إلى دقة القرآن الكريم، لم يقل ارموهما أو اجلدوهما أو احضروا عذابهما وإنما قال اشهدوا عذابهما، قال الله وَلْيَشْهَدْ ۩، الشهادة! سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ۩، ما أعظم هذا الكتاب! شيئ عجيب يا أخي، أيضاً هذه طريقة في فهم كيف يفعل التقليد وكيف تغلب المُحاكاة على العقل والوعي الزائف لدى الناس، لأن مُعظَم وعي الناس زائف في الحقيقة ومُتوسِّط جداً!
ميلتون فريدمان Milton Friedman – أحد علماء النفس العالميين وهو ألماني عاش في أمريكا – في الستينيات قال قدرات البشر على التعاطي المنطقي واستنتاج معاني الأمور مُتوسِّط – ليس عالياً – لكنهم بالغون جداً بشكل لافت في إدراك الأنماط والتقاطها والمُحاكَمة والقياس على أساسها، نحن كائنات مُنمَّطة، تخضيع للتنميط، أي كائنات مُقلِّدة أكثر منها كائنات مُفكِّرة، هذا معنى التنميط، فهو تقليد في النهاية، هو خضوع للتقليد!
نعود إلى النمط وما معنى النمط بأمثلة أُخرى، سأُوضِّح بما هو أجمل من ذلك، المُجتمَع هو المُحيط Ocean، وهذا أولاً، ثانياً الأشخاص هم القطرات، وهذا صحيح فعلاً، علماً بأننا الآن سنُساهِم في حل مُشكِلة كبيرة في علم الاجتماع: أولوية الفرد أو أولوية الجماعة؟ يبدو أن الأمر ديالكتيكي جدلي، لا يُمكِن أن نفصل أولوية الفرد عن أولوية المُجتمَع، فالمسألة تفاعلية! كيف؟ سنفهم! إذن المُجتمَع هو المُحيط، ونحن كأفراد نحن قِوام المُجتمَع، حتى إميل دوركايم Émile Durkheim نفسه وأوبير Hubert أيضاً مُتعاطِفان جداً مع الأنماط بأنواعها ويعترفان بها، في الآخر وفي نهاية المطاف قِوام المُجتمَع أفراد، ولكن ليست نهاية القصة أن قِوام المُجتمَع الأفراد، كما أن قِوام المُحيط قطرات الماء، أليس كذلك؟ لو أُعدِمت كل هذه القطرات ينعدم المُحيط، هذا هو تماماً، لكن لا يُمكِن فهم المُحيط وديناميكية حركة المياه في المُحيط إلا بفهم الأمواج وديناميكية الأمواج، فهناك الأمواج، أليس كذلك؟ ما قِوام الأمواج؟ القطرات، جُزئيات ماء! هذا صحيح لكن الموجة تفرض على كل قطرة تُشكِّلها خطاً مُعيَّناً ومساراً مُعيَّناً وقدرة تأثرية وتأثيرية مُعيَّنة لا تُشكِّل خيار القطرة ولا مسارها، إنما هو خيار الموجة ووضع الموجة، الموجة! أليس كذلك؟ نحن كذلك، النمط موجة ونحن قطرات الموجة.
اذهب الآن إلى أي حشد عام يُتابِعون حفلاً مُعيَّناً غنائياً أو خطابياً وإلى آخره، هنا تجد حركة الناس حركة مُنمَّطة، يخضعون للنمط في الحركة تلقائياً، كيف سنعرف هذه الحركة؟ هناك مسارات مُعيَّنة، مسارات يذهبون منها ومسارات أُخرى يلفون فيها ومسارات ثالثة يعودون من خلالها، الكل يحترم هذا الشيئ ويمشي بشكل تلقائي، لكن لكن لا يُمكِن بشكل عام لشخص أن يسير كما لو لم يكن هناك حفل، يقطع الشارع عرضاً، لا يفعلها! أليس كذلك؟ سيقطع الشارع طولاً، عادي! وهو في الحياة العادية يفعلها، لكن في الحشد لا، تخضع للنمط، أنت الآن ضمن جمهور، تخضع لنمط مُعيَّن في التواجد والحركة والسير، حتى السرعة كذلك، أنت لا تسير في الحشد كما تسير حين تكون وحدك من غير حشد، حين تكون وحدك تكون أسرع، أليس كذلك؟ لكن في الحشد هناك سرعة مُعيَّنة مفروضة على للجميع، تخضع لها نمطياً دون أن تدري، دون أن تلحظها، أنت هنا خاضع للنمط، خاضع للموجة، الموجة تسير بك يميناً وشمالاً، أحياناً حين يحتشد هذا الحشد بشكل كبير فعلاً يظهر فعل أو أثر الموجة، تجد نفساً تتحرَّك يميناً أو يساراً أو إلى الإمام أو إلى الخلف في الحشد، كحشد الحجيج! وكل مَن حج جرَّب هذا، هذا النمط أيضاً، لا يُمكِن لأحد أن يركب رأسه ويقول سوف أسير عكس النمط هذا، لا يُمكِن! سوف يُكسَر رأسه ويضيع، لا أحد يقول هذا، الكل يسير مع النمط، هذا هو النمط، الموجة التي قِوامها القطرات، صحيح أنا فرد، لكن إلى أي حد أتحدَّث عن فرديتي واستقلالي وإلى آخره؟ إلى أي حد؟ لا أعيش معزولاً، أنا أعيش في موجة، أنا أعيش في نمط مُعيَّن، هناك أنماط مُتوالية علىّ عبر أربع وعشرين ساعة وتحكمني دون أن أدري، لو خرجت عن النمط سأُتهَم، كجار صاحبنا التونسي الذي قال سأُعتبَر مجنوناً، وقال له يُمكِن حتى أن أفقد وظيفتي يا صاحبي، يُمكِن حتى أن أُطرَد من العمل ويُقال عني مجنون، هذا جُن لأنه يمشي في الشوارع، كيف يمشي في الشوارع ويترك المقاهي؟ ما له؟ هل هو مجنون؟ لكن هنا في أوروبا هذا شيئ طبيعي جداً جداً، أليس كذلك؟ لأن النمط مُختلِف أيها الإخوة.
فكرة النمط أوحت لي – حتى لا أنسى – بفكرة مُهِمة في التفسير، في تفسير كتاب الله تظهر شديدة الارتباط، فإذا بها مُوحَّدة تماماً بناظم واحد، هو ناظم النمط، وبدأ التساؤل لدي أمس: لماذا؟ ما سر أن الله – تبارك وتعالى – حين عبد بنو إسرائيل العجل قال لهم لا كفّارة ولا براءة من هذا الذنب إلا بأن يقتل بعضكم بعضاً؟ هذا شيئ عظيم جداً، وبعض العلمانيين وبعض المُشكِّكين قالوا القرآن كالتوراة، كلها شرائع قاسية، ربهم قاسٍ جداً جداً، يا أخي الناس غلطت، لماذا لابد أن يقتل كل واحد الآخر؟ قتلوا بعضهم، في بعض الروايات سبعون ألفاً ذُبِحوا، قتل الأب ابنه دون أن يدري، أنزل الله عليهم شيئاً كالغمامة – هكذا تقول التوراة – وجعل بعضهم يقتل بعضاً دون أن يرى بعضهم بعضاً، ظلوا يقتلون بعضهم فمات سبعون ألفاً وانتهى الشرك، هذا في التوراة، وأنا وجدت تفسيراً عجيباً، فعلاً النمط هذا أو التنميط هو الذي أوحى لي بهذا التفسير، كيف؟ تُوجَد علاقة – تُوجَد علاقة سنخية، هذا من سنخ هذا، هذا من جنس هذا – بين ما فعلوا وبين ما عُوقِبوا به، الله أراد أن يُبرهِن لهم وأن يُعلِّمهم ويُلقِّنهم درساً عملياً وليس مواعظياً – لأن المواعظ لا تنفع مع الأنماط، مع الأنماط لا تنفع المواعظ، كلام فارغ، تسقط كلها، لكن بنفس الطريقة وبطريقة عملية – أن ما احتقبتموه وما ارتكبتموه من عبادة عجل صُنِع على مرأى منكم من ذهب ليس هيّناً، أنتم رأيتم هذا، هذا ذهب الأقباط الذي أخذتموه خلسةً وسرقةً، أليس كذلك؟ أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ۩، فأنتم رأيتم هذا وعبدتموه من دون الله – تبارك وتعالى – ببساطة، لماذا عبدتموه؟ لأن السامري أوحي لهم، قال لهم هذا إله يا جماعة، أليس كذلك؟ استجاب له ذو العتبة واحد ثم ذو العتبة الثانية ثم ذو العتبة الثالثة ثم ذو العتبة الرابعة وهكذا، ذو العتبة مائة مَن هو؟ الأكثر عقلانية على الأقل والأقوى إيماناً، وفي النهاية أيضاً استجاب، قلة قليلة لم تستجب، هم خارج لعبة العتبات هذه كلها أو عتباتهم أعلى، لا ندري! ربما لو استجاب نصف القلة الناجية لتورَّط النصف الآخر مثل لعبة الدومينو Dominoes، هذه هي طبعاً! لكن متى يحصل انقطاع في التفاعل العتباتي أيها الإخوة؟ يحصل انقطاع فعلاً إذا كان هناك فراغ في العتبات، أي بعد العتبة مائة يُوجَد شخص عتبته مائة وخمس، انتهى! لذلك لو حصل انقطاع بعد العتبة صفر – أي أن ذا العتبة واحد لم يفعل شيئاً – لن يحدث شيئ، لن يحدث شغب! وهذا الذي يُحيِّر العلماء دائماً، لماذا مرة تنفجر الأحداث وفي مرات لا تنفجر؟ في مرات يكون هناك دواعٍ لأن تنفجر وتتحرَّك الأمور كلها لكنها لا تنفجر، في مرات تكون الدواعي ضعيفة ومع ذلك تنفجر، لعبة العتبات! مسألة صعبة جداً، لكن هذا ما يحصل أيها الإخوة.
فالله يقول لهم إذن أنتم تركتم البراهين بعد أن رأيتم ما فعل الله بفرعون وقومه في مصر وفي البحر وأراكم الله المعاجز والآيات أمام أعينكم، كل هذا لم يعن لكم شيئاً واتخذتم عجلاً من ذهب رباً من دون الله، وموسى يُناجي ربه ليأتيكم بالألواح، هل هذا هو؟ لماذا؟ لأنكم أطعتم بعض الناس، أطعتم في البداية السامري أو العتبة صفر – لعنة الله على هذا المُلحِد – وهذا يعني أنكم خضعتم للنمط، لم تُحكِّموا عقولكم ولم تخضعوا للمُحاكَمة والبرهان، إنما النمط فقط، هذا النمط – الله قال لهم – الذي دفعكم إلى التقليد والمُحاكاة القردية الببغاوية وعٌد لكم بالذبح المُستمِر، سيذبح بعضكم بعضاً دائماً، كلما آتاكم أحد وحرَّركم سيتحرَّك بعضكم على بعض، ستذبحون بعضكم باستمرار، فاذبحوا بعضكم الآن، وفعلوا هذا هم، وجدوها صعبة جداً، قال لهم يُمكِن أن تكون هناك توبة، هل يُمكِن أن تتوبوا؟ لم يتوبوا، ما يغلب – أنا وجدت هذا في القرآن الكريم وهذا من الناظم – أن شخصية بني إسرائيل مفتاحها واحد، ليس العقل وليس المُحاكَمة وليس النقد وليس الاستقلالية وإنما التقليدية القردية، لذلك مسخهم الله ماذا؟ قردة، أنا أُرجِّح – وهذا قول مُجاهِد بن جبر – أنه مسخ أرواحهم وعقولهم، لم يمسخ أجسادهم وصورهم، مُجاهِد قال لا، هو مسخ عقولهم، لأن هذه عقول قردة، تقليدية لا تليق بالإنسان، هم قردة وأكثر من قردة لكن هذا ما حصل.
إذن مسخهم قردة تأشير أو إشارة إلى هذا المفتاح، أي التقليد، وهذا أولاً، ثانياً حين نجو من مصر ومن البحر الأحمر مُباشَرة بعد أيام مروا على قوم عافكون على أصنام لهم، قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۩، روح تقليدية! عندهم روح تقليدية عجيبة جداً جداً، نُحِب أن نُقلِّد، نُريد إلهاً محسوساً هكذا، نُحسِّس عليه! هل هذا مُمكِن؟ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ۩، هذه جهالة، مُقلِّدون! السامري صنع العجل فعبدوه، قال لهم اعبدوه فعبدوه مُباشَرةً، ولذلك ظل النمط مُتواصِلاً، وهذا النمط نفسه يُولِّد المذابح الأهلية، انتبهوا! نفس النمط، غلبية التقليدية وغلبة التنميطية تجعل الأمة أقرب إلى أن يذبح بعضها بعضاً، برميل بارود! لذلك القرآن نعى عليهم، ثُمَّ أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۩، الآية من سورة البقرة! ظلت جريمتهم المُمتَدة أنهم يقتل بعضهم بعضاً ويُخرِج بعضهم بعضاً، فإذا وجدت أمة يغلب عليها التنميط ويغلب عليها التقليد اعلم أنها أمة مُهيّأة دائماً لإشعال حروب أهلية، يذبح بعضها بعضاً، مُشكِلة كبيرة جداً! كيف يُمكِن أن نُعالِج هذا؟ ماذا نفعل مع هذا أيها الإخوة؟
ونعود أيضاً إلى كيف يُطلَق النمط؟ بطريقة وهمية! قصة مُطلِق الغاز في أمريكا مشهورة جداً في الأدبيات، في يوم من الأيام كان هناك امرأة عجوز وزوجها شيخ كبير في إحدى البلدات الأمريكية، زعمت المرأة أنها اشتمت رائحة غاز كريه جداً، فجعلت تدور في أنحاء الحديقة، فزعمت أنها رأت رجلاً يلبس لباساً غريباً غير عادي ومعه شيئ كأنه أنبوبة غاز صغيرة، مُطلِق الغاز هذا، بعد يومين زوجها أكَّد أنه يشتم نفس الرائحة فتم إبلاغ الشرطة، وهكذا توالت البلاغات، في بيت آخر حدث نفس الشيئ، قالوا شممنا رائحة غاز ورأينا رجلاً قد يكون هو مُطلِق الغاز، وهكذا عمت البلدة القضية، بعد شهرين في البلدة المُجاوِرة حدث نفس الشيئ، بلاغات جديدة عن مُطلِق الغاز ورائحة الغاز، وكذلك البلدة الثالثة، أصبحت قصة فذكرتها الصحف الأمريكة والعلماء كانوا يبحثون، وعملت أجهزة التحري والاستخبارات والشرطة ليل نهار، والناس كانوا دائماً مُستعِدين، على أتم الاستعداد! معهم الخراطيش ويجلسون في الليل، يُشكِّلون جماعات للبحث عن الأغارب، أي الأشخاص الغُرباء، وبعد ذلك الشرطة قالت لنا الحق أن نُلقي كلمة، نحن نتساءل! لم نجد في أي بلاغ واحد أي أثر حسي أو مادي يدل على شيئ، لم نجد أي شيئ، لا أنبوبة غاز ولا آثار لأقدام غريبة ولا أي شيئ أبداً، بعد ذلك اتفق رجال الشرطة مع علماء النفس الاجتماعي وعلماء الاجتماع على أن المسألة لم تعد وهماً كبيراً، فقاعة – Bubble – كبيرة، تدين بانتفاخها الزائف لقدرة ذهن اضطهادي واحد أمكن أن يُسبِّب كل هذه القضية بطريقة النمط والتقليد والمُحاكاة، وبعد ذلك كتبت النيويورك تايمز The New York Times ليس هناك مُطلِق للغاز وانتهى كل شيئ وتوقَّفت البلاغات، وهم كبير عاش فيه الناس، عادي! يُمكِن أن يعيش الناس مثل هذا الوهم ويبنوا عليه إجراءات كثيرة قد تصل إلى الذبح والتكفير وما إلى ذلك، وهو وهم حقيقي، ليس له أساس أيها الإخوة، هكذ مُجتمَعات البشر، شيئ خطير، لكن هكذا مُجتمَعات البشر!
في سنة خمس وتسعين عالمان مشهوران من علماء الإدارة كتبا كتاباً تحت عنوان انضباط قادة السوق، هذا الكتاب سُجِّل في قائمة النيويورك تايمز The New York Times للكتب الأكثر مبيعاً، وبيعت منه نُسخ كثيرة جداً، والسبب ما هو؟ يقول مُتخصِّصو علم الإدارة الكتاب تافه، ليس مُمتازاً وليس مُثيراً جماهيرياً ولا ينبغي أن يكون في قائمة النيويورك تايمز The New York Times، ما الذي حصل؟ اكتشفوا بعد ذلك أن الكاتبين الأستاذين الجامعيين الذين كتبا الكتاب عمدا فور نشر الكتاب ونزوله إلى الأسواق إلى المكتبات التي ترصدها المجلات ذات العروض – أي Reviews – وذات قوائم الأكثر مبيعاً – Best seller – واشتريا من مالهما الخاص خمسين ألف نُسخة، طبعاً سمع الناس، الكتاب ما شاء الله يُباع بكثرة، وتايمز The New York Times ذكرته ضمن الكتب الأكثر مبيعاً وبدأ الكتاب يُباع، قالوا والله الكتب عظيم يا جماعة، والله كتاب مُمتاز!
أنا سأُعطيكم تجربة – والله العظيم – جرِّبوها وسوف تنجح، قولوا لأي إنسان غريب على فيينا هناك شخص خطير في مسجد الشورى، مجنون! شخص مجنوني حقيقي، شخَّصه علماء النفس في النمسا، شخص مجنون يتحدَّث في الدين بطريقة غير تقليدية وما إلى ذلك، ويظن من نفسه أن يأتي بأشياء جديدة وهو يحكي أشياء لا معنى لها، أشياء دنيوية وغير مفهومة وكلها كذب، يبدو في الحقيقة أنه شخص مجنون من حركاته ومن طريقته ومن لبسته، يلبس كرافت Cravat وجاكيت Jacket وهو شيخ يصعد المنبر، وانظروا إلى رد الأشخاص، أنا أُقسِم بالله رغم أن هذا شيئ طبيعي جداً سوف تجدون مَن يقول كيف تسكتون عليه يا أخي؟ هذا فعلاً مجنون، انظر كيف يتكلَّم يا أخي! في مرات يشرح بيديه، مجنون هذا الرجل يا جماعة، مجنون! وسوف يسود هذا النمط، وقولوا العكس! ائتوا إلى إمام فارغ ليس عنده شيئ، مسكين ولا يُقيم لسانه حتى جُملة في اللُغة العربية، قولوا هناك إمام عبقري، فصيح يا أخي، يُقال هذا لو عاش في عصر أبي حنيفة لكان أفضل منه، شيئ رهيب! وشهد فيه العلماء يا أخي، مُبالَغة عجيبة جداً، لكنه مُتواضِع، متُواضِع في كلامه وما إلى ذلك لكن يُوجَد عمق غير عادي في كلامه، الناس سوف يُصدِّقون هذا، ولذلك – انتبهوا – نحن دائماً نذهب إلى المحال – هذا نفس المعنى – التي لها زبائن كثيرون، محال ملابس! وكذلك الحال مع المطاعم، المطعم الذي يأتيه زبائن كثيرون دائماً زبائنه كثيرون، انتبهوا! حين ترون أعداد الناس تقولون لماذا هو هكذا؟ أكيد هو مُمتاز، ثم يذهب الواحد منا إليه ويجده لا شيئاً، وهكذا! وكذلك الحال مع المساجد، هناك مساجد مُعيَّنة تغص بالمُصلين وتأتي السيارات إليها من كل أنحاء البلد، أنا ذات مرة ذهبت إلى مسجد هكذا، أزعم أن عندي بعض الاستقلالية أو التمرد الفكري، وأنا صغير ذهبت واستمعت ثم قلت هل هذا خطيب؟ هذا خطيب تافه، قالوا ماذا؟ أنت تقول هذا؟ وأنا ولد صغير قلت لهم هذا كلام فارغ، هذا الخطيب تافه، والله العظيم! قلت لهم هذا كلام فارغ، لا يفهم شيئاً هذا، هذا يكذب عليكم، قالوا أهذا يكذبنا علينا؟ الناس تأتي إليه من كل أنحاء قطاع غزة! وفعلاً اتضح أن هذا كلام فارغ بعد ذلك، وهذا ضُبِطَ بجريمة جنسية في المسجد، تخيَّلوا! والله العظيم، وخان أقرب الناس إليه وخان الذين تبنوه، شخص تافه، من أتفه ما يكون، أنا رأيت تفاهته وأنا صغير، لم يُقنِعني بهذا النمط وهذا التقليد، أُحِب أن أسمع شيئاً أنا أستريح إليه وأُوقِن أنه عظيم وعميق وجيد، ليس لأن الناس يأتون، لكن مَن يفعل هذا؟ قليل جداً، وأنا لا أفعله دائماً، أكيد! لست استثناءً، لا أفعله دائماً، أكيد أُنمِّط وأقع في التنميط دون أن أدري، هذا ما يحدث للبشر أيها الإخوة!
هنا عطاء الإسلام، نعود إلى حديث لا يكن أحدكم إمعة، أرأيت؟ صعب جداً، صعب ألا تكون إمعة طبعاً، وسهل جداً أن تكون عنادياً، أن تقول لا وتُدمِن الـ لا كما بدأت في الخُطبة، ليس هذا المطلوب، ليس المطلوب أن تكون عنادياً وأن تقول لا لا لا باستمرار، حتى إن قيل كذا تقول لا للـ لا، مثل السوداني الذي قيل إنه أعنت شخص في السودان، ذهب إليه شخص وطرق عليه الباب، فقال مَن؟ قال له أنا، قال علىّ الطلاق لست أنت، عنيد إلى هذه الدرجة، لا يعترف بشيئ، لا نُريد أن نكون مثل هذا الشخص، وإنما نُريد أن نكون فعلاً استقلاليين، نتمتَّع بالفردية أيها الإخوة، نتمتَّع بوعي حقيقي وليس بوعي زائف بحسب المُصطلَح الماركسي، لكن كيف نفعل هذا؟ مشوار طويل وطويل وطويل جداً، علينا أن نبدأ مشوار الألف ميل بخُطوة واحدة، لا يكن أحدكم إمعة ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تُحسِنوا وإن أساءوا ألا تظلموا.
كتب مرة مُعاوية بن أبي سُفيان إلى عائشة – رضوان الله عليها – يا أماه – يقول لها – اكتبي لي كتاباً تُوصيني فيه ولا تُكثِري علىّ، أي أنه يستوصي، يُريد النصيحة! وأنا أشك في هذا طبعاً، المُهِم كتبت إليه عائشة – رضوان الله عليها – الحمد لله، أما بعد، سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول – أتت له بحديث، أحسن نصيحة حديث رسول الله – مَن التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومَن التمس رضا الناس بسخط الله وكّله الله إلى الناس، انتبه إلى النمط، أنا سأقول ما لا يعتقده الناس، أنا سأقول قولاً ضد قول الجماعة، أنا سأقول هذا، هذه قناعتي، ستسخط علىّ الجماعة وقد تذبحني، بعض المُصلِحين تم ذبحهم في المساجد لأنهم قالوا ما لا يُريد الناس أن يسمعوه، ذبحوهم وهم مُصلون في المساجد، في المحاريب! فهذه عقلية الجماعة، عقلية مجنون كما قال شارلي شابلن Charles Chaplin، الجنون وحش بألف رأس، وحش مُخيف، قال – صلى الله عليه وسلم – مَن التمس رضا الله بسخط الناس أرضى الله الناس عليه أو – في رواية – كفاه الله – وهذا أحسن لأن الناس لا يرضون – مؤونة الناس، قال كفاه الله مؤونة الناس! ومَن التمس رضا الناس بسخط الله وكّله الله إلى الناس، كأن تُخالِف ضميرك، ضميرك الديني المُؤسَّس على النص الديني يقول لك القاتل والمقتول في النار، إذا التقى المُسلِمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار، ضميرك الديني المُؤسَّس على نص الكتاب العزيز يقول لك وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۩، وبالمُناسَبة هذه الآية من أعظم الآيات في فهم قضية النمط، لماذا؟ هل الله قال وإن طائفتان من المُؤمِنين اقتتلتا؟ لم يقل هذا، ماذا قال؟ اقْتَتَلُوا ۩، لأن القتال في حرب أهلية أو في حرب مدنية كيف يكون؟ هل يكون قتالاً مُنظَّماً؟ يكون قتالاً عشوائياً، الكل يقتل الكل، حرب الكل ضد الكل، في الليل وفي النهار وفي المُؤسَّسات العامة والخاصة وفي البيوت وفي الشوارع وفي المساجد، شيئ رهيب! الله قال اقْتَتَلُوا ۩، انظر إلى الفوضى، هل قال فأصلحوا بينهم؟ لا، لأن لا يُمكِن أن تُخاطِب الجماهير، يا جماهير اتقوا الله! مَن يسمع لك؟ تُصاب برصاصة وأنت تخطب مُباشَرةً، لابد هنا أن نعود إلى مَن؟ إلى مَن حرَّك هذا النمط باللعب على أوتار العرقية والطائفية والمذهبية والقومية، مثل سلوبودان ميلوشيفيتش Slobodan Milošević، ونعرف ما حدث في رواندا والعراق وأرمينيا وما فعلته النازية، نفس اللعب على الأوتار هذه، نفس الطريقة، فلابد أن نعود إلى العقلاء منهم، فإذا استجاب هؤلاء إلى الصلح ينصلح كل شيئ، وهذا دور الفرد وهذا دور الجماعة، جدلية مُعقَّدة جداً أيها الإخوة!
قلت لكم كيف تقرَّر مصير مليون من التوتسي على يد الهوتو المُجرِمين، في الحكومة وزيرة قرَّرت هذا، بالمُناسَبة التطهير العرقي – الجينوسايد Genocide – والذبح الجماعي للتوتسي نُوقِش في اجتماعات وزارية وعلناً، تخيَّلوا! هذا تم علناً، جينوسايد Genocide نُوقِش علناً ووزارياً، وقامت وزيرة تقول رواندا فيها مشاكل كثيرة، إذا أمكن التخلص من التوتسي جميعهم سوف تُصبِح رواندا صفرية المشاكل، أي زيرو Zero مشاكل، وهكذا تقرَّر مصير مليون من التوتسي، مليون! مليون من البشر – أي ألف ألف – تم ذبحهم وحرقهم وتسطيرهم، شيئ لا يُصدَّق يا إخواني، هؤلاء هم الذين حرَّكوا، أي هذه القيادات، الوزراء في الحكومة والصحيفون وأصحاب الدعايات المملوكة لبعض رجال الحكومة، هذا هو تماماً!
لذلك المُؤرِّخ الأمريكي الكبير هنري آدمز Henry Adams عنده تعريف للسياسة غريب جداً جداً، أنا مُقتنِع به الآن في لُغة الأفكار، ماذا قال؟ قال السياسة هي الإدارة المُتوالية للأحقاد، أي كيف نُدير – نقوم بعمل Management – للأحقاد، هو هذا! الأحقاد بين الشعوب وبين الدول والأحقاد داخل الشعب والأمة الواحدة، كيف نفعل هذا؟ هذا هو السياسي قال، قال هذا عمل الساسة، يتمعيشون على هذا طبعاً.
حاورني أحدهم قائلاً أنا مُستغرِب جداً ومُندهِش من قدرة هتلر Hitler، ما هذا الرجل الفظيع؟ هو فظيع ومُجرِم، لكنه فظيع في قدرته وفي كاريزمته، ما هذه الكاريزما Charisma الاستثنائية التي جعلته يُحرِّك الشعب الألماني ويُوحِّده ويُراهِن على أن يغزو به العالم؟ قلت له لا، هتلر Hitler أتفه من ذلك، قدرته العقلية والجسمية والعاطفية كلها على بعض ضعيفة، حتى قدرته الصحية ضعيفة، مُثقَّب هو! جسمياً حتى هو تعبان، هو أتفه من ذلك بكثير، أنت لم تفهم على ما يبدو لُغة النمط، الرجل فقط حرَّك أنماطاً مُعيَّنة واشتغل عليها، حرَّك أمواجاً مُعيَّنة وهي التي رفعته، ولذلك في ظروف أُخرى لن يُساوي نكلة ولن يقدر على يفعل شيئاً، مثل سلوبودان ميلوشيفيتش Slobodan Milosevic، الدولة بسبب هذه الأفعال تتفكَّ وسريعاً، لعب على الوتر القومي ودعم الصرب، أراد صربنة على كل شيئ، وطبعاً نجح لكن في النهاية قاده ذلك إلى الهلاك، هذا الذي يتم باستمرار أيها الإخوة!
إذن فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۩، نعود إلى أمثال هؤلاء لكن العقلاء منهم، هم الذين يُمكِن أن يُوقِفوا كل شيئ إذا تم إقناعهم بذلك، يقول سُفيان بن عُيينة – شيخ الشافعي وشيخ أهل مكة، الإمام العظيم وأحد السُفيانين – رأيت مرةً ربيعة الرأي – ربيعة بن أبي عبد الرحمن، هذا أستاذ الإمام مالك – نائماً في المسجد مُقنِّعاً رأسه يبكي، هذا الإمام يبكي! قال فقلت له ما يُبكيك يا إمام؟ قال آه، رياء ظاهر وشهوة خفية والناس بين أيدي علمائهم كالصبيان، ما أمروهم ائتمروا وما نهوهم عنه انتهوا، أي قال أن المسألة كلها في النهاية تعود إلى أمثالنا، لذلك قال ابن عباس فيما رواه ابن عبد البر ويلٌ للعامة من زلة العالم، قيل كيف ذلك يا أبا العباس؟ قال يقول قولاً فيتبعه العامة فيجد مَن هو أعلم برسول الله – أي بالسُنة – منه فيقول بقوله – أي أن العالم الذي زل يعود إلى صواب السُنة في النهاية – ويمضي العامة! قال هذا التقليد، هذا الاتباع في كل شيئ وأنت مُغمَض العينين.
أنا قلت ربما في خُطبة قريبة هناك عبارة مشهورة للأسف في الإنجيل وأكَّدها كل شرّاح الإنجيل: لأن تمضي إلى الجنة معصوب العينين خيرٌ لك من أن تمضي إلى النار مُفتَّح العينين، أقول كلام جميل أن تمضي إلى الجنة، ولكن أنا أُقسِم هنا بحسب فهمي للقرآن وفهمي لهذه الأشياء والحقائق أنك لن تمضي أبداً إلى الجنة معصوب العينين، كل مَن هو معصوب العينين – والله العظيم – بنسبة 99,9999% أقرب أن يمضي إلى جهنم وأن يتدهور فيها، فلا تعصب عينيك، افتح عينيك جيداً وأُذنيك وقلبك وعقلك، افهم واصدر عن ضميرك ولا تستعجل، لا تجعل نفسك شاهداً على العصر وشاهداً على الموقف والجريمة وأنت لست بشاهد، لا تتحمَّل ما لم يُحمِّلك الله إياه.
أسأل الله لي ولكم العفو والعافية والمُعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
قبل أن أمضي أُريد أن أختم بنُقطتين سريعتين، النُقطة الأولى كيف يُمكِن أن نُوقِف حرباً أهلية مُحتمَلة أيها الإخوة؟ لا يُمكِن أن نُوقِفها تقريباً في عموم الأحوال إذا شرعت أو إذا اشتعلت نارها، لا يُمكِن! من الصعب جداً! لكن العمل الآن يكون، قبل أن تشتعل النار، قبل أن يأتي أحد بعود كبريت من هؤلاء القادة المُزيَّفين الذين يُديرون الأحقاد، يلعبون بالأحقاد وبعذابات الناس، قبل أن يأتي هؤلاء لابد أن ندمغهم، لابد أن نُحذِّر منهم، لابد أن نُحاوِل أن نأخذ نمطاً آخر في التشكك والارتياب في هؤلاء، لابد من نمط مُعيَّن في الارتياب! فإذا فعلنا هذا أفلحنا بإذن الله تعالى، ولذلك من الدين أن يُدمَغ أمثال هؤلاء وأن يُخلَق جو من الريبة حولهم، قدر المُستطاع على كل حال، حتى لو فقدوا مثابتهم الأدبية أفضل من أن تفقد الأمة نظامها وحياتها وأمنها، العمل الآن وبعقل وبفهم وإلا يضيع كل شيئ، أنا أرى أن الأمور تسير إلى الضياع، انتبهوا فالأمور خطيرة وهذه المُشكِلة، نحن العرب – ما شاء الله – أساتذة في ادّعاء الفهم لكن بأثر رجعي، وأنا أكره هذا، أُبغِض هذا، لأن كل شيئ يحدث ثم تجد خمسين ألف مُحلِّل يبدأ يتطوَّع بإعطاء التفسير وما إلى ذلك، هذا كلام فارغ، هذا لا حاجة لنا به الآن، الآن نُريد أن نقول شيئاً وأن نفعل شيئاً.
النُقطة الثانية أيها الإخوة، من أروع التجارب على الإطلاق التي تمت – تجريبية إمبريقية – وأكَّدت أن البشر هكذا وأنهم يميلون حيوياً وغرزياً إلى أن يُقلِّد بعضهم بعضاً تجربة تقليدية كلاسيكية في علم دراسات الإدراك في سنة ثنتين وخمسين، قام بها سولومون آش Solomon Asch، أي سُليمان آش، يبدو أنه من أصل يهودي، باختصار أتى بمجموعة من المُتطوِّعين أو المُختبَرين وأعطى لكل بطاقتين، بطاقة عليها خط طويل رأسي وبطاقة عليها ثلاثة خطوط، أحد هاته الخطوط الثلاثة أشبه تماماً بهذا الخط، حتى أن طفلاً – قال ابن سبع سنوات مُميِّزاً يستطيع أن يعرف الجواب، سوف يقول هذا يُشبِه هذا، اختبار سهل جداً! وأتى بمُتطوِّعين آخرين مُتواطئين معه، أي زائفين، كانوا مُتواطئين مع مُصمِّم التجربة، أي مع آش Asch، وهكذا تم تصميم التجربة على أساس أن يُعطي هؤلاء المُتواطئون الإجابة شفوياً، قالوا هذا يُشبه هذا، والجواب غلط طبعاً، اختاروا خطاً آخر لا يُشبهه أبداً، أبداً لا يُشبِهه! قالوا هذا يُشبِهه، واضح أنه يُشبِهه، فحدثت حالة تنبه في المُختبَرين، ماذا؟ ما هذا؟ كيف؟ هذا يُشبِهه، وكذلك فعل الثاني والثالث والرابع والعاشر من المُتواطئين، قالوا هذا يُشبِهه، طبعاً هذا الذي يُشبِهه! وإذا بمُعظَم المُختبَرين حقيقةً يخدعون أنفسهم ويُروا أعينهم ما لم تر ويقولون نعم هذا يُشبِه هذا!
يُمكِن أن يقول أحدكم هم آثروا السلامة، لم يُحِبوا أن يُخالِفوا الجماعة! هذه التجربة في سنة ألفين وخمس اكتُشِفَ فيها شيئ هام بتقنية التصوير بالرنين المغناطيسي، أي MRI، كما قلت لكم هذه العيون دخلت في داخل أدمغتنا المُظلِمة، شيئ رهيب، فتح من فتوحات العلم رهيب هذا، المُهِم بتقنية التصوير بالرنين المغناطيسي دفع العلماء بهذه التجربة خُطوة مثيرة إلى الأمام، ماذا فعلوا؟ وجدوا أن الدماغ في الداخل يُؤكِّد أنهم فعلاً يرون الأمر كذلك، لم يُريدوا أو يُقرِّروا أن يقولوا هذا إيثاراً لمُوافَقة الجماعة والخط العام ومُخالَفة لنزوعاتهم الفردية، الدماغ رأى هذا، هكذا! حين قيل هذا الخط القصير المعوج يُماثِل هذا الطويل المُستقيم رأوه كذلك، قالوا نعم يُماثِله، هذا يُماثِله! الدماغ رآه كذلك، تخيَّلوا! شيئ غريب، ولذلك في الاستخلاصات – هناك تجارب أُخرى، ربما نذكرها إن شاء الله في دروس أُخرى – يقولون نحن نُدرِك العالم ونُعيد ترتيبه انفعالياً وليس إدراكياً، ليس عقلياً وإنما انفعالياً، ننفعل!
بالأمس أنا حدَّثت إخواني وفسَّرت على هذا الضوء آيات قرآنية عجيبة حيَّرت كل المُفسِّرين، كيف يقول الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ۩ إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ للْمُوقِنينَ ۩ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۩؟ ما معنى هذا؟ كيف تقول لي هذه الآية يُمكِن أن يستفيد منها المُؤمِن؟ ما الفائدة إذا لم يستفد منها الكافر؟ طبعاً الجواب في درس التفسير كان أكثر طولاً، لكن باختصار أيها الإخوة هناك مبدأ فاعل وصحيح جداً في العلم – خاصة علم المعرفة – يقول آمن تر، مُقابِل مبدأ ر وآمن، أي انظر وبعد ذلك سوف تعتقد، لا! هناك رأي يقول اعتقد وسوف ترى، سوف ترى مثلما تعتقد، انتبه! لكن هذا يحتاج إلى إعادة توظيف من ناحية سوسيولوجية حتى لا نقع في الغوغائية أيضاً ولا في نمطية النوع.
أيها الإخوة:
بعد أيام يدخل العشر الأخير من شهر رمضان، لا أستطيع أن أُغادِر هذا المقام الكريم دون أن أُنبِّه على ضرورة وانبغاء أن نتدارك في هذا العشر كل ما فاتنا في العشرين السابق أيها الإخوة، هذا العشر كان إذا دخل رسول الله لا يكاد ينام، إذا دخل أحيا ليله وأيقظ أهله، وكان يشد وسطه، وكان يجعل فطره في المغرب سحوره، لا يُوجَد وقت للتضييع أبداً أبداً.
يكفي فقط أن نُذكِّر أيها الإخوة بما تعلمونه جميعاً وجمعاوات، أن الإنسان لو وُفِّق – بإذن الله تبارك وتعالى – إلى ليلة القدر – بعون الله – سوف يُكتَب له في صحيفة أعماله عمل مقبول عن ثلاث وثمانين سنة، هذا في خلال ست أو سبع ساعات فقط، انتبهوا، والله العظيم شيئ رهيب! المفروض الإنسان فعلاً من صلاة المغرب إلى الفجر حقيقةً لا يتوقَّف عن ذكر الله، عن قراءة القرآن، عن الاستغفار، عن الدعاء، وعن الصلاة، لا يتوقَّف! وأنا شخصياً سأجتزئ بنصف درس التفسير، سنُفسِّر نصف الكمية فقط ونذهب إلى البيوت مُباشَرةً، عشر ليالٍ فقط، لا يُمكِن أن نُضيِّع هذا، لماذا؟ سيُكتَب لك في صحيفة أعمالك عمل مقبول عن ثلاث وثمانين سنة وأزيد، في سبع ساعات؟ في سبع ساعات، هذا يعني أنك ستدخل الجنة وستكون مضمونة بإذن الله تعالى، العمل مقبول! والله العظيم نحن ليس عندنا قناعة أن الله يأخذ منا حتى صلواتنا، والله العظيم! والله صلاة واحدة ليس عندنا قناعة أن الله قبلها منا، فكيف ندخل الجنة؟ لكن الله ووعدك وقال لك إذا وُفِّقت – إن شاء الله – إلى ليلة القدر فسوف يُكتَب لك عمل ثلاث وثمانين سنة، يُكتَب لك في ظرف ست أو سبع ساعات، انتهى كل شيئ!
كيف تُضيِّعون على أنفسكم هذه الفرصة يا إخواني؟ انتبهوا! فلنجتهد إذن، نسأل الله – عز وجل – أن يُقوّي عزاءمنا ويُعطينا القدرة والحُب واللهفة لإدراك هذه الليلة وأن يُوفِّقنا لها بمنّه وتيسيره.
اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته.
اللهم اشف مرضانا ومرضى المُسلِمين، وارحم موتانا جميعاً وموتى المُسلِمين، واغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، وتابع بيننا وبينهم بالخيرات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.
اللهم ارحمنا في شهر رمضان، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله، دقه وجله، قديمه وحديثه، ظاهره وخافيه في شهر رمضان برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك بجلالك وبحق لا إله إلا الله وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تعتق رقابنا في شهر رمضان من نار جهنم ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا ومشايخنا وأصدقائنا وكل مَن له حقٌ علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا يخرج هذا الشهر عنا إلا بذنبٍ مغفور وعمل مُتقبَّل مشكور مبرور برحمتك يا أرحم الراحمين، أعنا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك، واقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تُبلِّغنا به جنتك ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا.
اللهم لا تجعل مُصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تُسلِّط علينا مَن لا يخافك ولا يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (27/8/2010)
قدو
Such a nice blog.
I have read an amazing article here.