إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله عز من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله سبحانه وتعالى من قائلٍ في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ ۩ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ۩ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ۩ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۩ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ۩ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
صح عن رسول الله – صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – أنه قال فيما يرويه عن رب العزةِ والجلال – جل مجده – أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء، كما صح عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – على ما أخرجه الإمام البخاري – رحمه الله تعالى – في صحيحه أنه كان يستعيذ بالله من سوءِ القضاء، وفيما أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السُنن إلا الإمام الترمذي أن – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان يدعو وهو دعاء القنوت المعروف فيقول وقني شر ما قضيت، أي أمرٌ قضاه الله تبارك وتعالى، فالنبي يستجير بالله ويستعيذ بجنابه وجلاله أن يقيه شر هذا المقضي، وروى الإمام أحمد وابن حبان من قوله عليه الصلاة وأفضل السلام لا يزيد في العمرِ إلا البرُ ولا يرد القدر إلا الدعاء وإن العبد ليُحرَم الرزق بالذنب يُذنِبه، كما روى الإمام أحمد في مسنده بسندٍ رجاله ثقات على ما قال صاحب مجمع الزوائد الإمام الهيثمي قالت – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها – أم المُؤمِنين فيما ترويه عن رسول الله إن الصدقةَ والصلةَ – صلة الأرحام بمعنى أن يصل المُؤمِن رحمه أو المُؤمِنة رحمها – تُعمِّران الديار وتزيدان في الأعمار، وفي الحديث المشهور وهو معروف للكافة قبل أو مع الخاصة وإن القضاء والدعاء ليعتلجان بين السماء والأرض فأيهما غلب غلب، يغلب مرةً القضاء فيحم ويغلب مرةً الدعاء فيرفع القضاء ويرده، وهذا الحديث غير عجيب، هو يسير في مسار هاته النصوص الصحيحة الجليلة،والعجيب أيضاً أن الإمام البخاري – رضوان الله تعالى عليه – أخرج في صحيحه أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أتى رجلاً شيخاً كبيراً يعوده من حمى وقظته فقال له مُطيباً لخاطره مُتفائلاً بالخير طهورٌ إن شاء الله، فقال الشيخ التاعس بل حمى تفور، وهذا الصحابي شيخ مُؤمِن ولكنه قليل الأدب مع رسول الله ورد على رسول الله تفاؤله فحاق به سوء عمله وسوء أدبه، وهذا أقوله لمُن يتكلَّم عن الصحابة كأنهم شيئٌ واحد، فهو يرد على رسول الله، النبي يقول له طهورٌ إن شاء الله، فكان ينبغي أن يقول إن شاء الله يا رسول، لكنه قال بل، إذن هو أضرب عن كلام رسول الله وشطب عليه كما نقول، فهذا هو معنى الإضراب، ما معنى الإضراب؟ أن يضع (X) على كلام الرسول، فهو قال له كلامك غير صحيح، وهذا معنى أنه قال بل حمى تفور على شيخٍ كبير تُزيره القبور، قال له فنعم إذن، ومات الرجل كما في بعض المصادر، هل أنت تريدها هكذا؟ إذن لا مُشكِلة وستكون هكذا، وذهب الرجل وقضى، فالنبي قال فنعم إذن،لو قلت “إن شاء الله” كما قلت أنا “طهور” لكان الطهر ولنقهت وأبللت وانتعشت من مرضتك وعلتك، ولكنك رجلٌ جافٍ غليظ، قلت بل حمى تفور على شيخٍ أو رجلٍ كبير تُزيره القبور، فنعم إذن، علماً بأن الحديث في صحيح البخاري، وهناك نصوص ضعيفة ومعناها يستندُ بهاته الصحيحة التي عرضنا لكم أنموذجاتٍ يسيرةً منها كحديث وُكِّلَ البلاء بالمنطق أو البلاء مُوكَّلٌ بالمنطق، حكم عليه أبو الفرج بن الجوزي بالوضع ولكن الإمام العلَّامة السخاوي صاحب المقاصد الحسنة قال وبمجموع هذه الطرق يُبعَد أن يُحكَم عليه بالوضع، لا يحسن أن يُحكَم عليه بالوضع، له أصل ولكن معناه مُؤصَّل ومؤسَّس ومُشيد الأركان لا ريب، وأخذه ابن بهلول فقال:
لا تنْطِقَنَّ بما كرهت فربما عَبِثَ اللسانُ بحادثٍ فيكونُ.
واقتبسه غيره فقال:
لا تمزحنَّ بما كرهتَ فربما ضُرِبَ المِزاحُ عليك بالتحقيقِ.
وأيضاً مما صح موقوفاً وهو ضعيفٌ مرفوعاً – هو موقوف على عبد الله بن مسعود رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – تَفاءَلُوا بِالخيْرِ تَجدُوه، وهذا أمر عجيب، هل بمُجرَّد أن أتفاءل به سأجده؟ وهل فعلاً المسألة رهن التفاؤل ورهن المنطق؟ هل إذا قلت “نعم” يكون إن شاء الله؟ هل إذا تفائلت يكون؟ هكذا تقول النصوص، ما هذا الهامش العريض الذي خُوِّلنا أن نتحرَّك فيه ومُتِّعنا أن نشارك في صنع مصائرنا به؟ ستقول بأي لغة تتكلَّم أنت؟ هل تتكلَّم لغة المُعتزِلة أم لغة ماذا؟ أتكلَّم بلغة النصوص، أعلم كما هى قويةٌ قبضة ما أُلقيَ إلينا وما لا يزال يُلقى على أنه مُحُ وصحيحُ وخالصُ وقاطعُ الاعتقاد وبات الاعتقاد، فالقبضة قوية لكن لابد أن ننظر في النصوص الصحيحة لكي نُمعِن النظر من جديد في هاته المسائل،لأجدادنا وأئمتنا أنظارهم وينبغي أن يكون لنا أيضاً أنظارنا، نُتابِعُ في بعضها بعضاً وأحياناً قد لا نُتابِع أحداً ونستقل، فلا بأس هى مسائل للاجتهاد والتساؤل.
قالت أم المُؤمِنين عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها – فيما أخرجه أبو بكر البيهقي في السُنن الكُبرى – والحديث فيه ضعف، بل حكم المِزِّي بنكارته، والمعنى الصحيح كما ألمعنا وألمحنا قُبيل قليل – ما جمع رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – قطُ بيتاً من الشعر إلا هذا البيت:
تَفَاءَلْ بِمَا تَهْوَى يَكُنْ فلقلما يُقَالُ لِشَيْءٍ كَانَ إِلا تَحَقَّقَ.
قالت ولم يقل تحققَ وإنما كسره، لأن الله يقول وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۩، وإلا حقُ البيت أن يُطلِقَ آخره فيُقال:
تَفَاءَلْ بِمَا تَهْوَى يَكُنْ فلقلما يُقَالُ لِشَيْءٍ كَانَ إِلا تَحَقَّقَ.
فالنبي يقول هذا، وبعض أئمة الحفّاظ الكبار قالوا الحديث ضعيف لكن النبي ورد عنه هذا كأنهم يُعزِّزون ويُقوون التمثل بهذا البيت، فكان النبي يتمثَّل به وهو ليس من نظمه ولكنه كان يتمثَّل به.
تَفَاءَلْ بِمَا تَهْوَى يَكُنْ فلقلما يُقَالُ لِشَيْءٍ كَانَ إِلا تَحَقَّقَ.
نأتي الآن إلى كتاب الله – تبارك وتعالى – وحقه البداءة به ولكن لعلةٍ فعلتُ هذا،إبراهيم – صلى الله عليه وعلى نبينا وسائر النبيين وآل كلٍ وصحبه وسلم أو وسلم تسليماً كثيراً – ماذا قال لابنه لما بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ۩؟ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ – وفي قراءة تُري – قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ۩ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ۩ وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ ۩ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۩ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ۩ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ۩، ورؤيا الأنبياء حق كالوحي إلى الأنبياء، والحقُ ما ثبت، من حق الشيئ يُحِقه بمعنى ثبت، وإبراهيم – صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيرا – أخبر عما رأى من حق، فكيف تغيَّر هذا الحق؟ لقد أخبر أنه يذبح ابنه ولكن في الواقع أنه لم يذبحه، فابنه لم ينذبح – إن جاز التعبير – لأن السكين لم تذبح، كأنها أصبحت طرف يده، أي لا شيئ، ونزل الملاك بالفداء، قال الله وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ۩، فحصل نوع من التغيير،السيناريو كله تحقَّق كما رآه إلا عند مسألة الذبح والانذباح، فلم ينذبح وهنا حصل تغيير، يونس – عليه الصلاة وأفضل السلام – يُخبِر قومه بنزول العذاب، كفروا به ولم يُجيبوه ولم يُسعِدوه بأن يستعلنوا بالإيمان والاهتداء فخرج مُغاضِباً وقصته معروفة،وأخبرهم أن العذاب نازلٌ بهم لا مناص، فخافوا وفزعوا فزعاً عظيماً وأعلنوا التوبة واستعلنوا بالأيمان، وكان ما كان من أمره في باطن أو في بطن الحوت وعاد إليهم فإذا بهم مُؤمِنون، فأين العذاب؟ ارتفع العذاب، قال الله فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ – أي ارتفع العذاب، فالعذاب حُم ونزل ثم ارتفع بإذن الله وبلطف الله – عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ ۩، وهذه آية عجيبة.
قال جماعة من العلماء والمُفسِّرين أن موسى – صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً – لما ذهب إلى موعد ربه – تبارك وتعالى – وكان الله – عز وجل – قد وعده ثلاين ليلة وهناك زاده عشراً – فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ ۩- في العشر التي زيدت كانت فتنتهم وقد استخلف عليهم أخاه هارون عليهم الصلوات والتسليمات، ففي العشر التي زيدت كانت فتنتهم بأن عبدوا العجل الذهبي والعياذ بالله، وهذه مزيدة لم تكن واضحة – كما يُقال – في الشاشة، وهو أخبرهم وهو نبيٌ ورسولٌ صادقٌ صديقٌ مُصدَّق عن ثلاثين، ووقعت الثلاثين وزيدت عشراً لم تكن في خاطر ولا بال موسى ولا في علم قومه، الله – تبارك وتعالى – يقول هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ۩، إذن هما أجلان وهذا أمر عجيب، فالله يقول في الآية الثانية من الأنعام ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ۩، وفي سورة فاطر يقول وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ۚ ۩، وهذا أمر عجيب، يُمكِن أن يُعمَّر ويُمكِن أن يُنقَص من عمره، وظاهر النظم الكريم أن الحديث عن الشخص أو عن شخصٍ واحد ليس عن شخصين، فالله لم وما يُعمَّر مِن مُعمِّرٍ يُنقَص من عمر آخر، الله لم يقل هذا، فهذا التفكيك للنظم وافتئات ظاهر على كلام الله، لكن مرجع الضمير واحد، مرجع الضمير في قوله وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ۩ هو المذكور في قوله وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ ۩، هو المُعمَّر ويُنقَص من عمره، وهذا أمر عجيب لكن هذا في كتاب الله تبارك وتعالى.
قال الله يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ۩،وهذا أمر عجيب فالله يتحدَّث عن شؤون ويقول كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ۩، فما معنى هذه الآية العجيبة؟ واعجباه، هذه من أعجب الآي في كتاب الله، وأخيراً آية المقام التي صدَّرت بها وافتتحت بها الخُطبة التي أسأل الله أن يُبارِكها وأن ينفخ فيها من روحه وأن يُلهِمنا فيها ما يرضى عنا به التي تقول لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩.
كان الفاروق عمر – رضوان الله تعالى عليه – ربما طاف بالكعبة ودعا قائلاً اللهم إن كنت كتبتني عندك شقياً فامحه واكتبني سعيداً، فهل هذا يعني أن حتى الشقاوة والسعادة تتبدلان؟ نعم، وهذا مذهب الإمام الجليل أبي منصور الماتريدي خلافاً لإمامنا أبي الحسن الأشعري الذي قال الشقاوة والسعادة لا تتبدلان ولا تتغيران، لكن الماتريدي أخذ بظاهر النص وبظاهر هذه النصوص كلها وقال تتبدلان، فيُمكِن أن يكون مكتوباً سعيداً فيستحيل شقياً – نعوذ بالله من الخذلان، اللهم احفظ علينا إيماننا ويقيننا حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا بحق لا إله إلا الله. اللهم آمين – ويُمكِن أن يكون مكتوباً شقياً فيسعد – فاحشرنا اللهم في زُمرة المسعودين المبرورين الفائزين الظافرين الفالحين. اللهم آمين – أيضاً، وهذا كما قلت مذهب الفاروق – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – ومذهب عبد الله بن مسعود ومذهب أبي وائل وكعب – من التابعين – ومذهب الجماء الغفير، فهذا مذهب جم أو جماء غفير من العلماء من الصحابة والتابعين، هم قالوا يتبدَّل ويتغيَّر، فالعمر يُزاد فيه ويُنقَص منه والشقاوة تتبدَّل والسعادة تتبدَّل، وهذا شيئ خطير، لكنه أتى أخذاً ودوراناً مع ظاهر قوله جل مجده يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ ۩،وهنا أبهم الممحو إبهامه المُثبَت، قال يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ ۩، أي يُثبِت ما يشاء أيضاً أو يُثبِت ما عدا الممحو، فهنا هذا مُبهَم وهذا مُبهَم، لماذا؟ ليُتيح فرصةً لجولان العقلِ وجولان الخاطر في هذا الممحو، لأنه دائر مع المشيئة ولا أوسع من المشيئة الإلهية وطلاقة المشيئة الإلهية، قال الله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩، فقيل المقصود بأم الكتاب اللوح المحفوظ وقيل أم الكتاب علمه لا إله إلا هو، وهو أم الكتاب، لأن كل ما كُتِب في اللوح المحفوظ أو في ألواح المحو والإثبات في النُسخ مع الملائكة وفي نفوس الملائكة وفي نفوس النبيين والمُرسَلين إنما أمه ومصدره وينبوعه علم الله، كله من علم الله فقيل معنى أم الكتاب علم الله، وقيل أيضاً اللوح المحفوظ وقيل غير ذلك.
في السُنة النبوية الشريفة – عوداً على بدء – حديثٌ غريب أخرجه أصحاب السُنن إلا النسائي والإمام أحمد – أي أحمد وأصحاب السُنن إلا النسائي – يقول فيه عليه الصلاة وأفضل السلام – والحديث صحيح – الرؤيا – ما تراه في المنام – على جناح طائر ما لم تُعبَّر فإذا عُبِّرَت وقعت، وأحسبه قال – يقول الراوي – ولا تقصنها – أي رؤياك – إلا على وادٍ أو على ذي رأي، انتبه فإذا رأيت رؤيا لا تحكها ولا تقصها لمَن لا تستشعر المودةَ منه تجاهك والمودةَ منه لك وإلا تنقلب عليك، ولكن قل لمَن يُحِبك ومَن يرجو لك الخير، لماذا؟ لأن الذي يُحِبك ويرجو لك الخير سيعبرها – أي يُعبِّرها – على ما يود لك، لا على ما تكره أنت ويكره هو لك، فكان ماذا؟ تُنفَّذ وتتحقَّق على ما عبَّر، وهذا أمر عجيب، فما المسألة إذن؟ هذا الشيئ مُحيَّر، مَن لم يتعجَّب من هذه النصوص مِمَن قرأها واستمعها أمره عجيب، وتقريباً مُعظمها الواحد منا قرأها واستمع إليها ولم يتعجَّب، هل تعرفون لماذا؟ لأنه لم يفهمها، هو لا يكاد يفهم منها شيئاً.
كتب مرةً الفيزيائي الدنماركي الكبير نيلز بور Niels Bohr – أحد أعلام ورواد ميكانيكا الكم – يقول أيُ شخصٍ لا يندهش ولا يُصدَم ولا يُصاب بصدمة معرفية ذهنية فكرية إذا طالع ميكانيكا الكم فلأنه فقط لم يفهمها، أي أنه لم يفهم، لو يعرف ما هى ميكانيكا الكم لابد أن يُصدَم صدمة فكرية هائلة، ونحن اليوم في شيئ قريب جداً جداً جداً جداً من هذا الموضوع، مَن قرأ هاته الآي – ونقرأها ونتحفَّظها – ومَن استمع هاته النصوص النبوية الشريفة – على صاحبها الصلوات والتسليمات – ولم يُصدَم ولم يندهش ولم يتحيَّر ولم ينقطع ولم يبهت هكذا فهو لم يفهمها، ومُعظمنا لا يفهمها، لماذا؟ لأننا تعلَّمنا أن نُلقَّن فقط وأن نُعيد ترتيب أي شيئ جديد ضمن أُطر فكرية جاهزة وناجزة، فنقول الله كتب كل شيئ والله يعلم كل شيئ وكل شيئ يقع على ما كتب الله وانتهى كل شيئ، هكذا تعلَّمنا في القضاء والقدر أو القدر والقضاء على طريقة غير الأشاعرة لأنهم عكسوا وقالوا القضاء والقدر ولعل الأرجح القدر والقضاء، فالقدر يتعلَّق بالعلم وبالتقدير وإعطاء الأشياء مقاديرها وتحديد حدودها، أما القضاء فيتعلَّق بالتنفيذ، قال الله فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۩، وقال أيضاً فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ۩، فضلاً عن أنه قال وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۩ وإلى آخره، ومنه القاضي لأنه يُنفِّذ الأحكام، فنقول القدر والقضاء لكننا تعوَّدنا أن نقول القضاء والقدر، وهذا مذهبٌ للأشاعرة، فالقضاء مُقدَّم والقدر مُؤخَّر والأرجح أن القدر مُقدَّم والقضاء مُؤخَّر ومن ثم يُقال القدر والقضاء، لكن هكذا فهمنا القدر والقضاء وانتهت المُشكِلة، فما الجديد؟ الجديد كثير في هاته النصوص.
النبي يقول الرؤيا على جناح طائر ما لم تُعبَّر – ما لم تُقَص – فإذا عُبِّرَت وقعت، أي أنها تقع ما لم يُعبِّرها لك عابر أو مُعبِّر، تقول الآية الكريمة إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ۩، قال عبَرها وعبَّرها، فإذن عابر ومُعبِّر وتُعبَر وتُعبَّر، وعلى كل حال النبي يقول فإذا عُبِّرَت وقعت، وهذا أمر عجيب، إذن هناك نوع مُشارَكة لا يُنكَر منا في رسم مصائرنا وفي تحديد مصائرنا بل في تحديد مصائر الآخرين أيضاً، فحين أُعبِّر لك الرؤيا بطريقة مُعيَّنة تتحقَّق، وهذا عجيب، ما دخلي أنا؟ هكذا أقام الله نظام الكون، هذه أسباب أقامها بهذه الطريقة، أنواع من الأسباب لم نتعوَّد على أن ننظر إليها على أنها أسباب، ولكن نحن لا نتعجَّب البتة إذا حثونا الماء فكسر حدة العطش، لا نتعجَّب من هذا، لكن لو لم يكن الأمر على هذه الشاكلة وكنا نحثو الهواء فينطفيء العطش وقيل بعضهم شرب ماءً فانطفأ عطشه فإننا سوف نقول هذا عجيب، كيف حدث هذا؟ هل الماء يفعل هذا؟ فنحن لم نتعوَّد أن من ضمن الأسباب الفاعلة في الوجود ما لغيرنا نصيبٌ فيه ،وما لنا نحن أيضاً نصيبٌ فيه، مثل ماذا؟ مثل تعبير الرؤيا ومثل قص الرؤيا، إذا لم أقص الرؤيا لا تقع، وإذا قصصتها وعبَّرها عابر أو مُعبِّر وقعت على ما عبَّرها، ولذلك لا تُقص إلا على واد، أي على ذي ود ومحبة لك.
أخرج الإمام الدارمي – رحمة الله تعالى عليه – عن أم المُؤمِنين عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها – أنها قالت أتت امرأةٌ رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – فقالت يا رسول الله إن زوجي تاجرٌ يختلف – يختلف في تجارته، أي يُسافر فيذهب ويأتي، فيختلف بين البلاد، كما يُقال يختلف إلى المسجد، فهو يختلف ويتردَّد بين البلاد، وهو الآن مُسافِر – وقد رأيت رؤيا – فزعت منها المسكينة – عنه، رأيت كأن سارية – عمود البيت- بيتي انكسرت، وكأنني وضعتُ غُلاماً أعور – من المُؤكَّد أنه ليس المسيح الدجَّال – فقال صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً خيرٌ إن شاء الله، يرجع زوجك صالحاً – أي سالماً، فانظروا كيف عبَّرها، مع أن ظاهر الرؤيا العكس، فسارية البيت أو عمود البيت الرجل، وهى قالت أنه انكسر -وتلدين غلاماً باراً، أي ليس عاقاً، تقول عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها – فتردَّدت إليه مرتين أو ثلاثاً ترى الرؤيا عينها – أي نفس الرؤيا، بعد يومين أو ثلاثة أو أربعة أو خمس ليال أو ست ليال وترى الرؤيا عينها – وتقول يا رسول الله رأيت الرؤيا، والنبي يقول لها مثلما قال في الأولى، يرجع زوجك صالحاً وتلدين غلاماً براً أو باراً، قالت عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها – فأتت مرةً ورسول الله ليس ثمة – أي أن الرسول كان غائباً خارج المنزل – فقلت لها تعالي يا أمة الله عن ماذا تسألين رسول الله؟ فقالت لا وكأن هذا سر بينها وبين رسول الله، فعزمت عليها عائشة وألحَّت وأحرجتها، قالت حتى أخبرتني، فقلت لها لا أُراها إلا أن زوجكِ يموت – سوف يموت لأن هذه واضحة جداً بل هى أوضح من الشمس، لقد انكسرت السارية – وتلدين غلاماً عاقاً فاجراً – لأنه أعور – والعياذ بالله، فأتى النبي والمرأة تبكي، ما هذا التأويل؟ فقال لها يا عائشة الرؤيا على ما عُبِّرَت عليه، لماذا تُعبِّرين بهذه الطريقة؟ أنا عبَّرتها بطريقة مُختلِفة تماماً،وقد علَّمنا فإذا عُبِّرَت وقعت، لذلك انطقوا بالخير دائماً، إذا أتاك أخوك المسلم أو أختك المسلمة وحكى وقص عليكِ رؤيا عبِّرها تعبيراً طيباً بعكس ما يُوحي به الظاهر فتقع، وهذا شيئ مُدهِش ومُحيِّر جداً، كيف هذا؟ أليس قد فُرِغَ من الأرزاق؟ أليس قد فُرِغَ من الآجال؟ أليس قد فُرِغَ من سعادة الناس وشقاوتهم؟ كما في الأحاديث الصحيحة فُرِغَ من هذه الأشياء وأُجمِلَ الكتاب على ما فيه، جفَّت الأقلام وارتفعت الصحف، أليس؟ أليس؟ أليس؟
قال الله إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ ۩ وقال أيضاً وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ ۩ فضلاً عن أنه قال لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ۩ وقال وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ۩، فكيف موضوع الرزق يزيد وينقص والعمر يزيد وينقص والمصائر تتحدَّد بحسب تعبير الرؤى إذا تعلَّق الأمر برؤيا؟ وفي الحديث القدسي أنا عند ظن عبدي بي، فكيفما تظنه يُعطيك، ما الحاصل؟ ما الذي يحدث هنا؟ ماذا عن قول إبراهيم ويونس وما إلى ذلك؟ هذه أشياء غريبة وعجيبة ومُثيرة جداً، اليوم – بإذن الله – سنتحدَّث عن هذا، فالجزء الأول من الخُطبة عرضٌ للمسألة، وبقيَ جزئان هما أن أعرض لمذهبين من العلماء في هاته المسائل ثم نذهب إلى الترجيح الذي نراه راجحاً – بإذن الله تبارك وتعالى – مع مُحاوَلة مُقارَبته علمياً، وهى ليست مُقارَبة بمقدار ما هى نوع من التمثيل ونوع من التقريب وليست مُقارَبة بالضبط، هذا نوع من التقريب حتى نفهم، وهذا سيندهش له العلماء المُولاعون بدراسة الفيزياء المُعاصِرة وخاصة فيزياء الكم أو الميكانيك الكمومي، فهم سيتعجَّبون جداً، والقرآن أشار إلى هذه المسائل بشكل واضح والسُنة النبوية الشريفة على صاحبها الصلوات والتسليمات، عموماً طائفةٌ من العلماء لا يُستهان بها ذهبت إلى أن الأرزاق والآجال والشقاوة والسعادة قابلٌ أن يتغيَّر وأن يتبدَّل بإذن الله تبارك وتعالى، وبعضهم ذهب إلى أن بعض هذا وليس كل ما ذكرت، لكن لم نجد عالماً يُعتَد بخلافه ويُعتبَر برأيه زعم أن التغيير والتبديل يطال وينال علم الله، حاشا لله فعلم الله أزلي مُحيط ولا يطرأ عليه تغير ولا تبدل، وإليه الإشارة بقوله وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩، ولكي نُبسِّط هذه المسألة نُشير إلى أن علم الله يُمكِن أن يُنظَر إليه من جهتين، يُنظَر إليه كعلمٍ ذاتي وهذا لا يتبدَّل ولا يتغيَّر، فالله في ذاته لا يتبدَّل ولا يتغيَّر ومثل هاته الصفة العلم الإلهي لا يتبدَّل ولا يتغيَّر، فمُحال أن يحدث هذا وإلا انقلب العلمُ جهلاً – نعوذ بالله من زلات اللسان وزلقات الجنان – طبعاً، لذا هذا مُحال، ويُنظَر إليه كعلم فعلي، ومعنى العلم الفعلي مَحال ومظاهر علم الله تبارك وتعالى، فالله أودع شيئاً من علمه في اللوح المحفوظ وشيئاً من علمه – مما أُودِعَ في اللوح المحفوظ – في صحف الملائكة وانعكس شيئاً من هاته العلوم الإلهية الفعلية في نفوس الأنبياء والمُرسَلين والأولياء الواصلين المُكاشَفين وإلى آخره، وهذه تُسمّى مظاهر العلم الإلهي وتُدعى اختصاراً بالعلم الفعلي، إذن محل ونطاق وميدان التغير والتبدل ما هو إذا وُجِدَ؟ بفرض أننا رجَّحنا أنه وُجِدَ – والأرجح أنه موجود – يكون في العلم الفعلي وليس في العلم الذاتي، حاشا لله أن يكون في العلم الذاتي ولا كلام في هذا وإلا نكون ألحدنا – والعياذ بالله – في جانب الحق سبحانه وتعالى، كالقدرية الأُوَل الأشقياء الذين ذهبوا أنه لا قدر والأمر أُنف والعياذ بالله، كانوا يقولون الله لا يعلم بالشيئ وبالحدث إلا بعد وقوعه وكونه أما قبل ذلك فهو لا يعلم، أعوذ بالله من هذا لأنه مُناقِض ومُخالِف لنصوص قطعية في كتاب الله، الله يقول وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۩، إذن الله يعلم، فهو يعلم أنه لو ردهم قبل أن يُدخِلهم جهنم لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ۩،ومن ثم قال وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۩، فهو يعلم هذا – لا إله إلا هو – طبعاً، قال الله وَلَوْ عَلِمَ اللَّه فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ – يعلم ماذا سيكون – لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ۩، والله يعلم أنه لم يكن في قلب بعض الأسارى يوم بدر خيرٌ ولا إيمان ولا أهلية لذلك، قال الله يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ ۩، وبهذه المُناسَبة أُريد أن أُفرِّق بين فرضين، فرضٌ – أي افتراض – يُولِّد ويُغذّي حدساً بمعرفة، ومعرفة أو علم بالأحرى يُولِّد فرضاً، فالفرض الذي يحدس بمعرفة يتعلَّق بنا، كأن نقول لو ذهب فلان لربما حصل كذا كذا ولو أعطيناه كذا لصار كذا وكذا، فأنت لا تقطع بهذا لأنك لا تستطيع أن تقطع على غيب هذا الأمر، من أين لك هذا؟ علمك محدود ومعرفتك محدودة، ومن هنا عدم استيثاقنا من هاته الفروض والافتراضات، فنقول نحن نفترض، هذه مُجرَّد افتراضات وتظنيات وأُزعومات ودعاوى غير باتة وغير بتوتة، فهذا ما يتعلَّق بنا، ولذلك لا نستوثق بنتائجها وتبقى في دائرة الاحتمال ويختلف الأمر من حالة إلى حالة، لكن في حق الرب – لا إله إلا هو – ما الذي يحصل؟ علمٌ يُغذّي فرضاً وعلمٌ يُولِّد فرضاً، فكيف سيكون هذا الفرض؟ قطعياً ويقينياً، هنا قد يقول لي أحدكم ليس دائماً، وهذا غير صحيح، فهذه مسألة مُعقَّدة وهى فلسفة خُطبة اليوم، الله يقول وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا – مع أنهم لن يُردوا لكنه يعرف ماذا سيفعلون – لِمَا نُهُوا عَنْهُ – هو يقطع بهذا – وَإِنَّهُمْ – أكَّدها – لَكَاذِبُونَ ۩، ولك أن تتخيَّل هذا، هذه مُؤكِّدات كثيرة لأنه يعلم هذا، فهذا علمٌ غذّى فرضاً، ما قيمة هذا الفرض؟ قيمة غير إحصائية، بلغة العلم قيمة غير احتمالية وغير إحصائية، أي قيمة قطعية وقيمة باتة، ولذا الله يقول وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۩، فلا تقيسوا الفروض من جهة الحق – لا إله إلا هو – على ما يقع منا من فروض، هذا غير صحيح، هذه الفروض تحدس بمعرفة، لكن هناك علم يُغذّي فرضاً والنتيجة دائماً غير إحصائية أو النتيجة قطعية بلغة العلم الفنية، أما لدينا النتائج دائماً إحصائية، فيُقال مُمكِن بنسبة كذا وكذا وبنسبة كذا وكذا وخاصة إذا تعلَّق الأمر بجماعة وبجمهور من الناس، فالأمر يكون أوغل في الإحصائية وفي الاحتمالية، تماماً كما يفعل الآن أو تفعل شركات التأمين، فهى لديها دائماً هذه الدراسات الاحتمالية الإحصائية ومن ثم تقول – مثلاً -من بين كذا وكذا وكذا ألف من المُؤمَنين التأمين الفلاني ثلاثة ونصف في المائة يُمكِن أن يستعيدوا أكثر مما دفعوا، ومنهم كذا وكذا بضعفين أو بأربعة، وهذه كلها دراسات احتمالية لكنهم لا يستطيعون أن يُعيِّنوا فرداً مُعيَّناً بالضبط، لا يستطيعون لأنها ليست قطعيات، هذه احتماليات وإحصائيات، لكن الله الوضع مُختلِف تماماً معه – لا إله إلا هو – وإليه الإشارة بقوله وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩، وعلى كل حال هذا الفريق وهو جماءٌ غفير من العلماء ذهبوا إلى أن الأمر مُمكِن بل حاصل وأخبرت عنه النصوص وهو وجهٌ من أوجه الواقع، فتتبدَّل الأرزاق والأعمار وأشياء كثيرة.
في الحديث الذي خرَّجه الحكيم الترمذي – صاحب نوادر الأصول – في نوادره عن عبد الرحمن بن سمرة وابن منده على ما أذكره أيضاً في كتاب الإيمان له وصحَّحه جماعة من العلماء قال عليه الصلاة وأفضل السلام رأيت البارحة عجباً، وذكر مرائي كثيرة، قال ورأيت شاباً جاءه ملك الموتِ ليقبض روحه، فجاءه بره بوالديه فأخَّر عنه ملك الموت، قال الله وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ۩، واضح أنه عُمِّرَ هنا وزيد في عمره، والنبي يقول هكذا بالضرس القاطع لا يزيد في العمر إلا البر، وأحسن البر وأرفعه وأشرفه صلة الأرحام، والعجب أن الدراسات المُمتَدة العلمية المُعاصِرة تُؤكِّد أن أطول الناس أعماراً هم الذين يكونون أحسن الناس علاقات وأكثر الناس تواصلاً اجتماعياً مع الأقرباء وذوي الأرحام والأصدقاء والجيران، وهذا موضوع طويل لكنهم قالوا تطول أعمارهم أحياناً بمُعدَّل يُقارِب ثلاثين سنة عن الآخرين، وهذا شيئ عجيب، لكن النبي قال هذا والحديث أصله مُخرَّج في الصحيحين، قال عليه الصلاة وأفضل السلام مَن أحب أن يُبسَط له في رزقه ، وأن يُنسأ له في أثره – في بعض الألفاظ وأن يُؤخَّر له في عمره، أي يُزاد في العمر – فليصل رحمه، يا الله، هذا أمر واضح، فهل تعرفون لماذا؟ أبسط تفسير – هناك تفسيرات مُعقَّدة طبعاً لكن هذا أبسط تفسير يلوح لنا بمُطالَعة النصوص والشريفة – هو أن هؤلاء الذين تبرهم وتصلهم وتُنيلهم مما أنالك الله – تبارك وتعالى – يدعون لك وبإخلاص، والله يستجيب للدعاء، وبالدعاء يُرفَع البلاء وبالدعاء يُرَد القضاء، وهذا ثابت أيضاً، فهذا أبسط شيئ، ولذلك قلَّ أن تجد طاغياً أو إنساناً أنانياً – والعياذ بالله – إلا وهو في حياته غير سعيد ومُصاب بالعلل والأمراض والآدية والتنكيد والتنغيص والهم والغم والنحس والنكس، وهذا معروف والعياذ بالله، تجدونه مليارديراً أو مليونيراً أو رئيس وزارة لكن ابحثوا وانظروا كيف يعيش والعياذ بالله من حياته لكثرة ما يدعو الناس عليه، يقولون فعل الله به وفعل وإلى آخره، والعكس صحيح أيضاً، علماً بأنه لا يُمكِن فهم الدعاء ولا فهم فلسفة الدعاء إلا إذا فهمنا هذه النظرية، أي نظرية المحو والإثبات، فلو أن الدعاء لا يُفيد لماذا أُمِرنا به إذن؟ لو أن الدعاء لا يرد القضاء إذن ما معنى أن ندعو؟ والدعاء لا يكون فقط بأن ندخل الجنة وإنما بأشياء أُخرى، وحتى دخول الجنة والزحزحة عن النار أليس مما جرى به القلم وسبق به العلم؟ ومع ذلك ندعو أيضاً ونقول اللهم ادخلنا الجنة وما إلى ذلك.
النبي صبيحة بدر – الحديث في الصحيحين، أي في البخاري ومسلم – لماذا رفع يديه الشريفتين وظل يُناشِد ربه ويستنجزه وعده؟ النبي قال اللهم نصرك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبَد بعد اليوم في الأرض أبداً، اللهم اللهم اللهم اللهم اللهم، وأبو بكر يقول له يا رسول الله إربا على نفسك، إن الله مُنجِزك ما وعدك، والنبي لا يعبأ به ويُواصِل الدعاء حتى سقط برده الشريف عن كتفيه المُكرَّمين الشريفين، لماذا مع أن الله أخبره وطمأنه أنه ناصره؟ سنقول لكم النُكتة في النهاية، لكن النبي يلظ بالدعاء، فلماذا؟ قال الله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖوَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩، وهذا شيئ عجيب وشيئ مُخيف، وهو في نفس الوقت مُفرِح ومُسعِد بإذن الله تبارك وتعالى، فهذه هى فلسفة الدعاء، وإلا لماذا ندعو إذن؟ لماذا ندعو أن يشفي الله مريضنا إذا كان مكتوباً سيُشفى والمسائل كلها رهن بأنها مكتوبة ومقطوعة فسواء دعونا أو لم ندع سيشفى وإذا كان مكتوباً أنه سيقضي أو سيموت دعونا أو لم ندع سيموت؟ هذا غير صحيح، النصوص تقول هذا غير صحيح، لا يرد القضاء – وفي رواية القدر – إلا الدعاء، إذا كنت تُريد أن يعيش ابنك أو مريضك ادع وألظ بالدعاء وقدِّم الصدقات بين يدي الدعاء والدموع، اسفح الدموع وأحدث توبة إلى الله وأوبة ورجعة، وسوف يُشفى عليلك – بإذن الله تعالى – أو تشفى أنت وهكذا، فلنا تدخّل في مصائرنا وواضح أن لنا دوراً وأي دور؟ واعجباه كل العجب، لمن هذه الأشياء بعيدة عن أفهام المسلمين للأسف الشديد، لأننا نُلقَّن الشيئ المُخالِف، ولكلٍ وجهة.
هؤلاء الجم الغفير احتجوا بما ذكرنا، ومما يُؤثَر عن نبي الله عيسى – صلى الله عليه وعلى نبينا وآل كلٍ وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – أنه مر على قوم مُجلين – من جلت الماشطة العروس، إذا وضعتها على المنصة تجلوها وتُظهِرها لعريسها وللناس، وهذه هى الجلوة في الزفة – فقال ما يفعل هؤلاء؟ قالوا يجلون عروسهم، فقال اليوم يجلون وغداً يبكون، فلحق به أحدهم وقال يا روح الله لم قلت آنفاً ما قلت؟ قال صاحبتهم هذه تموت الليلة، فالوحي نزل عليه وأخبره – كُشِفَ عنه – بهذا الحدث الأليم، فلما أصبحوا إذا بالعروس ليس بها بأس، هى كما هى، فقيل له يا روح الله أخبرت بكذا وكذا والعروس حية لا تزال تُرزَق، فقال استئنذنوا لي عليها، أي أن عيسى – عليه السلام تعجَّب، كيف هذا؟ هذا وحي وقد جرَّبه مئات المرات إن لم يكن ألوف المرات، ولذا هو على يقين به وهو يفهم هذه الأشياء لأنه نبي ورسول، هو روح الله عليه السلام، فتخدَّرت – دخلت في خدرها – المرأة ودخل وخاطبها قائلاً يا أمة الله ماذا صنعتِ البارحة؟ أي ليلة البارحة، قالت يا روح الله قد كان يطرقنا كل جمعة – أي كل أسبوع وليس كل يوم جمعة – سائلٌ فننيله – أي نُعطيه ونرضخ له – ما يقوته إلى مثلها – أي لأسبوع كامل – فطرقنا البارحة وكنت وأهلي في مشاغل – أي في شغل شاغل ومشاغل كثيرة لأنها عروس في ليلة الزفة – فاختلستُ – أي أخذت فرصة ونُهزة – من بين أهلي وأخذت شيئاً وتقنَّعت وخرجت ودفعته إليه، فقال يا أمة الله اعلمي أن الله دفع عنكِ وزاد في عمركِ بما فعلتِ مع هذا السائل، ومن ثم سوف تقولون في خُطبة اليوم هذا يكفي إن كان حقاً، وهو حق لأن النبي قال ولا يزيد في العمر إلا البر، إن كان هذا حقاً فقد شدَّ هذا من عضدنا، لنُعطين ولنيلن ولنرضخن بإذن الله طبعاً، هذا يزيد في عمرك يا أخي ويا حبيبي، يزيد في عمركِ يا أختي، وهذا واضح طبعاً، قال الله وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ۩، أي بحسب البر والخير والشر والمكر، فالشرير المكَّار الضرَّار يُنقَص من عمره، لكنك قد تقول لي أنا أعرف شخصاً شريراً عاش تسعين سنة، وأنا أقول لك ما أدراك لو كان طيباً لعاش مائة وعشرين؟ الجزاء عند الله وأنت لا تدري لأن الغيب عند الله، قال الله وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩.
الطائفة الأخرى من العلماء رفضوا هذا وقالوا الأجل واحد – العمر واحد – والرزق واحد والسعادة واحدة والشقاوة لا تتبدَّل وأُجمِلَ الكتاب على ما فيه وفرغ الله من هاته الأشياء، واحتجوا بأمور، ولدى المُقارَنة نجد أن أدلة الفريق الأول أقوى والنصوص بها أنطق، ولذلك الشيخ مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي – رحمة الله عليه – المُتوفى سنة ثلاث وثلاثين وألف- أي في الثلث الأول من القرن الحادي عشر الهجري – له رسالة بعنوان إرشاد ذوي العرفان لما للعمر من الزيادة والنقصان، ورجَّح فيها هذا، وهذا ما رجَّحه الإمام القاضي أبو بكر بن العربي المالكي – ليس الشيخ الأكبر محي الدين الصوفي – كما رجَّحه أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية وابن حجر العسقلاني وجماعة من العلماء في القديم والحديث، العلَّامة الإمام القاضي محمد بن عليّ الشوكاني – المُتوفى سنة خمسين ومائتين وألف – أي في مُنتصَف القرن الثالث عشر الهجري – له رسالة لطيفة إسمها تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل، أيضاً استروح فيها إلى مذهب هؤلاء، أي إلى مذهب ابن مسعود وسيدنا عمر وآخرين، وقد أجابوا عن إيرادات الذين أوردوا عليهم ما نعلمه جميعاً.
الله يقول إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ ۩، انتبهوا فالله هنا يقول إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ ۩ وأجل الله اذا جاء لا يؤخَّر وكلنا نقول بهذا، ولكن ما هو الأجل الذي قيَّده الله بالمجيء؟ كأن هناك أجلاً يجيء وأجل لا يجيء، كما قال ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ۩، فالأجل الذي قضاه الله هو الأجل على إبهامه، أي الأجل غير المُطلَق وغير المُنجَّز أو الأجل المُبهَم، بمعنى أن الله تبارك وتعالى – لا إله إلا هو- يكون كتب ليس في العلم – في العلم الأمور واضحة ومبتوتة، لكن ما النُكتة؟ إن شاء الله لا أنساها وهى نُكتة لطيفة – وإنما في اللوح المحفوظ وطبعاً من باب أولى فيما دونه من الألواح التي هى محل المحو والإثبات – وربما كان اللوح المحفوظ أيضاً محلاً للمحو والإثبات، وهذا غير مُستحيل بحد ذاته ولا يضر إذا فسَّرنا أُمُّ الْكِتَابِ ۩ بأنها اللوح المحفوظ أو بأنها علم الله، فأيضاً لا يضر ولها توجيه، وعلى كل حال عودوا إلى كتب التفسير المُوسَّعة وستقفوا على حقيقة الأمر- أن فلاناً يعيش مائة سنة ولكن بشروط، فالشروط هى كذا وكذا وكذا وكذا وكذا وأن يفعل كذا وكذا وكذا وأن يتجنَّب كذا وكذا وكذا، وهذه شروط شرعية وشروط بيئية وشروط تغذوية وشروط رياضية وشروط كثيرة لا يعلمها إلا الله مثل ألا يُدخِّن وألا يكون يسكر وألا كذا وكذا، وأن يكون باراً ووصولاً وإلى آخره، فبهذه الشروط جميعها يعيش مائة سنة، هذا هو الأجل على إبهامه، وهناك الأجل المُسمّى، وهو أن الله يعلم أن من هاته الشروط لن يتحقَّق إلا كذا وكذا وكذا وكذا وكذا وبمُقتضاها على ما علم وقدَّر – لا إله إلا هو – سيعيش ثمانين سنة فقط، فهذا هو الأجل المُسمّى، هذا الذي إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ ۩، وهنا قد يقول لي أحدكم ما الفائدة من هذا التحديد وهذا التفصيل وهذا الترسيم كأن يُقال أجل وأجل مُسمّى؟ وأنا أقول أن الله هو الذي فعل ذلك وليس نحن حتى لا نتفلسف، لكنك تقول ما الفائدة؟ فانتبه واسأل بتواضع وبأدب، أنت تتكلَّم عن كلام الله تبارك وتعالى، وهذا له فوائد كثيرة، أعظم هاته الفوائد أن هذا يُلهِب الهمة ويُحرِّك ساكن العزم على اصطناع الوسائل الكونية والشرعية التي تمد في عمر الإنسان، وهنا قد تتساءل هل الأمر مفتوح؟ نعم هو مفتوح بإذن الله تعالى، ولكن العلم الإلهي السابق مُحيط بكل شيئ، طبيعي أن يعلم الله ماذا ستختار وماذا ستُرجِّح أنت، ولكن الملائكة لا تعلم، الأنبياء لا يعلمون، ملك الموت لا يعلم، وربما اللوح المحفوظ لا يعلم أيضاً إذا كان له قابلية أن يعلم، وهنا تُوجَد نُكتة مما فتح الله به علىّ، فإن كانت حقاً فلله الحمد والمنة، وإلا فهى من نفسي ومن الشيطان، والله بريء من ذلك ورسوله، وهذا – سبحان الله – خطر لي اليوم، لماذا؟ لأن ما من شيئ في الوجود – لا اللوح المحفوظ ولا غير اللوح المحفوظ – قادر على أن يستوعب علم الله ولو بجزئية واحدة ولو بحدث واحد من جميع جوانبه، ليس لديه القابلية، علم الله بشيئٍ واحد وحيد أو بحدث واحد من جميع جوانبه الوجود كله أعجز من أن يستوعبه، فلا يستوعب الوجود ولا تستوعب هذه الصحف كلها وفي رأسها أمها اللوح المحفوظ إلا بمقدار ما هو مُهيَّأ له، ولا شيئ في المخلوقات مُهيَّأ أن يستوعب شيئاً من عند آخره من علم الله تبارك وتعالى، هذا غير مُمكِن ومُستحيل، لذلك ما يُكتَب في اللوح المحفوظ قابل للتغير والتبديل وفق العود في الأخير على وإلى علم الله لا إله إلا هو، فيبقى الله وحده – لا إله إلا هو – الذي يعلم المقطوع به من الشؤون والأمور، يا الله، لا لوح ولا قلم ولا جبرائيل ولا ميكائيل ولا ملك الموت ولا محمد ولا عيسى ولا موسى ولا أحد، وإليه الإشارة بقوله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩، وانظر إلى هذه العندية وهذا التعبير العجيب، الله يقول وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩، وهذه العندية قد تكون عندية اختصاص، أي اختص ذاته العلية وحده – لا إله إلا هو – بالذي سمَّاه أم الكتاب والذي قد يكون علم الله تبارك وتعالى، فهذا العلم ليس إلا لله – عز وجل – فقط، وهذه النُكتة ربما تكون حقاً إن شاء الله تبارك وتعالى، ومن هنا تقع هذه الأشياء.
كان بودي أن أعرض لأدلة المانعين ونكر عليها بما كر عليها المُوافِقون من الجوابات ولكن الوقت يتضايق للأسف الشديد، سأنوِّر المقام بمثال بسيط حتى نفهم شيئاً أيضاً من روح المسألة ومن جمالها وجلالها، سعة البدائل وتنوع البدائل وكثرة البدائل والإمكانات علمٌ ومُؤشِّر – Indicator – على ماذا؟ على سعة العلم والمعرفة وسعة التصرف، أي الحرية والاقتدار، ولذلك البدائل المُتاحة جُملةً وعموماً لبني الإنسان – للإنسان من حيث هو – أعظم وأكثر عدداً كيفاً وكماً من البدائل المُتاحة للحيوان، لنفترض أن حيواناً مُفترِساً لاحماً – يأكل اللحوم – التقى إنساناً، ما هى خيارات الحيوان؟ إذا كان جائعاً والإنسان وحده ليس في جماعة وليس ممنوعاً لا خيار، خياره أن يفترسه وانتهى الأمر، لا تُوجَد قيم ولا أخلاق ولاترجيحات ولن يقول سوف نتقي الله فيه لأن الرجل خلفه عائلة وهو رجل عالم والناس تُقدِّره وما إلى ذلك، لا يُوجَد كل هذا الكلام، خيار الحيوان الوحيد أن يفترس هذا الإنسان، لكن لو التقى هذا الإنسان الحيوان هذا في حال ضعف – جماعة من بني البشر أو الحيوان ضعيف بطبيعته وغير لاحم – فإن الحيوان عنده الآن خيار أن يفر، والإنسان عنده خيار أن يتركه وحاله فيقول نرحمه لوجه الله، إذن هذا خيار، يُوجَد خيار ثانٍ وهو أن آخذه وأن أذبحه على الفور لأنتفع بوبره وبصوفه وبفرائه وربما إذا كان فيلاً بعاجه وبأشياء أخرى منه، يُوجَد خيار ثالث وهو أن آخذه فأضعه في قفص في بيتي فيلهوا به أطفالي ويُسعِد ناظري، يُوجَد خيار رابع وهو أن أبيعه إلى حديقة حيوان أو لرجل يهوى تجميع الحيوانات، يُوجَد خيار خامس وهو أنني كباحث علمي وفسيولوجي سوف آخذ هذا الحيوان وأضعه حيواناً في المُختبَر لكي نُجري عليه تجارب جديدة، فهناك خيارات كثيرة، وخياراتنا دائماً أوسع من خيارات الحيوان، وخيارات الحيوان أوسع من خيارات النبات، وخيارات النبات أوسع من خيارات خيارات الجماد، مثل دوَّار الشمس الذي يتحرَّك تجاه الشمس، فهو عنده حركة، وهناك نباتات آكلة للحشرات أيضاً وعندها تصرفات، لكن الجماد ليس عنده هذا، الحجر المسكين تضعه فيبقى بعد مائة سنة حجراً في نفس المكان، لعدم وجود خيارات، الآن ما هى العبرة؟ ولله المثل الأعلى، إذا كان الإنسان عنده هذه البدائل وهذه الخيارات الوسيعة الرحيبة فكيف برب العزة لا إله إلا هو؟ خيارات ربما لا نهائية، ومن هذه البدائل والخيارات وبها يحدث في ساحها وفي حاقها المحو والإثبات، لماذا؟ لأن الله قضت حكمته وأنجزت قدرته – لا إله إلا هو – بمشيئته أن يجعل بعض كائنات هذا الكون والوجود عاقلة ولها اختيار وفي رأسها الإنسان.
اليوم خطر لي شيئ عجيب، بعض النظريات المُحدَثة وبعض الفلسفات المُحدَثة كفلسفة الصيرورة الميتافيزيقية التي تُسمَّى Metaphysic Process Philosophy لألفرد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead ترى أن نموذج الكون القاصر – في حالة قصور – الجامد غير دقيق، فهذا نموذج غير دقيق وغير علمي والكون كأنه كائن حي له حالة من الوعي واليقظة والنمو والتطور، وهذا نوع من المرتبة من مراتب الإرادة، وهذه قصة طويلة لكن وفق هذه الفلسفة أُنشيء واستُمِدَ منها علم في العقيدة المسيحية إسمه لاهوت الصيرورة Process Theology، وهذا اللاهوت يستند إلى فلسفة ألفرد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead ولكن مَن دعمه وشاد بناءه هو تشارلز هارتسهورن Charles Hartshorne، وتشارلز هارتسهورن Charles Hartshorne مشهور جداً، هناك لاهوت صيرورة لبيير تيلار دي شاردان Pierre Teilhard de Chardin الفيلسوف اللاهوتي العظيم الكاثوليكي المشهور ولكنه يختلف ولا يلتقي مع لاهوت وايتهيد Whitehead، وعلى كل حال اليوم خطر لي حين قال الله تبارك وتعالى فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ – أي للسماء وللأرض – اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ۩ الفكرة القارة في أذهاننا التي تقول أن السماوات والأرض بما فيهما طبعاً من كائنات وأشياء جامدة كالسيارات والنجوم وإلى آخره مُسيَّرة تسييراً ومُسخَّرة تسخيراً، علماً بأننا نخلط بين التسيير وبين التخيير وبين التسيير والتسخير وبين أشياء كثيرة فلسنا دقيقيين هنا للأسف واطروحاتنا ليست دقيقة فانتبهوا، ومن ثم نقول أن هذه كلها تعبد الله كرهاً، وهذا غير صحيح، القرآن صرَّح وقال قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ۩، إذن السماوات ككيان والأرض ككيان تعبد الله طوعاً أو كرهاً؟ طوعاً، وهذا أمر عجيب يعني أن لها نوع يقظة ونوع إرادة ونوع قرار اجترحته في البداية، الآية تقول قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ۩، تماماً كالطيور قال تبارك وتعالى كُلٌّ قَدْ عَلِمَ – ليس يُسبِّح ويُصلي فقط وإنما علم أيضاً، كلٌ يعلم ماذا يفعل – صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ ۩، تبقى هناك كائنات طبعاً في هذا الكون يبدو أنها تعبد الله كرهاً، لأن الله أشار إلى العبودية كرهاً، ولكن مجموع السماوات ومجموع الأرض لديها العبادة طوعاً لا كرهاً، إذن يُوجَد نوع من اليقظة ونوع من الإرادة، فكيف إرادة الإنسان؟ كيف يقظة الإنسان؟
سنختم في خمس دقائق ونحن – كما قلت لكم – نُريد أن نقترب من هذا الموضوع وأن نُقرِّبه بحسب بعض النماذج العلمية وخاصة في الميكانيك الكمومي، وهذا الميكانيك عجيب وغريب جداً وهو مُعقَّد طبعاً إلى أبعد الحدود، وهذا يصدم ويتحدَّى حس البداهة لدينا، فكل شيئ عندك طبيعي وبدهي هذا يُعاكِسه، يعني – مثلاً – من أصعب الأشياء يُوجَد مفهومان هامان، وهذا جوهر الميكانيك الوكومي وفيزياء الكم، فجوهرها مفهومان كبيران جداً، مفهوم التراكب Superposition، وطبعاً إلى الآن مُقرَّر أن هذه المفاهيم تعمل جيداً وتعمل بدرجة واضحة تماماً ولكن في العالم الصغروي والصُغري، أي في العالم الـ Microscopic وليس في العالم الـ Macroscopic، فالإلكترون Electron – مثلاً – أو الفوتون Photon أو أي دقيقة من الدقائق تتموضع في موضعين في الوقت ذاته – Superposition – بمعنى يكون لها حالتان في الوقت عينه، سرعتان ومُتجهان في الوقت عينه، وعندنا اللفة التي تُسمَّى الـ Spin، فيكون لها اثنان منها – إسبينان – في الوقت ذاته، وهذا أمر عجيب، Spin لفوق أو لتحت أو بزاوية خمس وأربعين درجة كما يعرف الفيزيائيون، أي ثلاثة أنواع، فمُمكِن يكون لها ثلاثة إسبينات في الوقت ذاته وليس وراء بعض وإنما في نفس الوقت، وهذا الشيئ في المنطق الصوري والمُقدَّمات العقلية القديمة مرفوض تماماً ولا يُفهَم ويُقال أنه مُستحيل، لكن هذا هو الميكانيك الكمومي، علماً بأننا اليوم نعيش في عالم – وخاصة عالم الديجيتال Digital هذا – كله مبني على الميكانيك الكمومي، فهذا جُرِّبَ ودُعِّمَ في شكل اختراعات وأشياء، هذا ليس لعباً وليس نظريات فارغة، لكن هذه أشياء مُعقَّدة للأسف، وعلى كل حال المفهوم الثاني هو مفهوم التعالق أو التشابك، أي Verflechtung بالألمانية، وهو المُصطلَح الذي صكه العالم النمساوي الكبير – على الألف شلن كان قديماً – إرفين شرودنغر Erwin Schrödinger، فشرودنغر Schrödinger هو الذي صكَّ مُصطلَح Verflechtung أو Entanglement، وكلمة Entanglement تعني التعالق أو التشابك، لكن ما معنى هذا؟ معنى هذا باختصار أن جُسيماً يكون مُكوَّناً من اثنين يفعلان كجُسيم واحد، ويتم التفكيك بينهما وقد يكون بينهما بُعد كبير مائة متر أو مليون متر أو حتى سنة ضوئية أو أكثر أو أقل لكن كل ما يحدث لأحدهما مُباشَرةً يحدث للآخر، فيتآثران كأنهما لا يزالان جُسيماً واحداً، وطبعاً هناك أشياء أدق من هذا، في الميكانيك الكمومي – كما قلت – لكل جُسيم حالات تراكب Superposition، والآن عندما نتدَّخل نحن كراصدين نرصد حالة هذا الجُسيم تنهار الموجة، الموجة التي تُسمَّى الـ Wave Function – دالة الموجة عند شرودنغر Schrödinger تنهار Collapses – ويأخذ فقط حالة واحدة فلا نراه إلا في حالة واحدة فقط وتذهب الحالة الأخرى، والآخر يحدث له نفس الشيئ مع أننا لم نرصده، فما العلاقة؟ يُوجَد تشابك Entanglement، وقد شرحنا في تفسير سورة النمل عرش بلقيس كيف نُقِل، والآن يُحِبون أن ينقلوا هذه الأشياء، عروش العقل ستنتقل، فهم يتحدَّثون عن الـ Teleportation، و الـ Teleportation كله يقوم على مبدأ Entanglement أو Verflechtung، وكل هذا شيئ مُعقَّد جداً، وعلى كل حال نترك هذا الشيئ، فهذا هو الميكانيك الكمومي، وقد يعرف بعضكم قصة قطة شرودنغر Schrödinger، فالنمساوي إرفين شرودنغر Erwin Schrödinger كان مُستاءً من هذه التضمينات – Implications – المُعقَّدة الغريبة الغرائبية لميكانيكا الكم وقال هذا مُستحيل، كيف يحدث هذا؟ لا يُمكِن أن يكون الجُسيم في موضعين في الوقت ذاته ويكون له أكثر من Spin في الوقت ذاته وأن يكون له أكثر من مُتجه في الوقت ذاته، هذا مُستحيل وغير معقول، وأراد أن يُبيِّن لنا أن هذا غير معقول، كيف؟ بقصة قطة شرودنغر Schrödinger، وهذه القصة مئات الكتب أُلِّفَت عنها للحديث عن قطة شرودنغر Schrödinger، لكن للتبسيط نقول أن الأجسام أو المواد المُشعِة التي تتحلَّل – يحدث لها تحلل Decay – تتحلَّل وفق مبدأ مُعيَّن، ولكل مادة من هذه المواد المُشِعة فترة تُسمّى فترة نصف العمر، يتحلَّل في هذه الفترة نصف الكمية، في الفترة ذاتها بعد ذلك النصف المُتبقي يتحلَّل، ونصف النصف حتى تنتهي، فالراديوم Radium – مثلاً – فترة نصف العمر له ألف وستمائة سنة، الكربون 14(Carbon-14) – فترة نصف العمر له ستة آلاف سنة تقريباً، أي أقل بقليل من ستة آلاف سنة، وهنا قد يقول لي أحدكم هذا سمعنا به كثيراً وخاصة في علم الجيولوجيا – Geology – وفي علم البيولوجيا – Biology – التطورية ويُقاس به ويُقدَّر به أعمار الصخور وأعمار العظام وهو مُناسِب جداً لهذا، وهذا صحيح طبعاً، وفترة نصف العمر للبوتاسيوم Potassium المُشِع ألف وثلاثمائة مليون سنة، أي مليار وثلاثمائة مليون سنة، وهكذا كل مادة عندها فترة نصف عمر، فالآن لو أخذنا قطعة هكذا من أيٍ من هذه المواد وليكن الكربون 14(Carbon-14) ووضعناها فإننا لا نستطيع أن نعرف أن هذه الذرة بالذات ستتحلَّل وتضمحل – Decay – أبداً، هذا مُستحيل، لا يستطيع أحد أن يفعل هذا وليس لدينا قانون بصدد هذا، ولكننا نعرف أن نصف الكمية ستتحلَّل في زُهاء ستة آلاف سنة، فنحن نعرف هذا يقيناً، وخهذه معرفة إحصائية احتمالية، ولكن لا نعرف أن هذه الذرة بالذات ستتحلَّل، ولذلك كل ذرة من هاته الذرات في الميكانيك الكمومي تضمحل ولا تضمحل وهكذا، ولا يُمكِن التعامل معها إلا على هذا الأساس، فهى تضمحل ولا تضمحل في الوقثت ذاته، وهذا أمر عجيب، لكن شرودنغر Schrödinger لم يستسغ هذا، مثلما أينشتاين Einstein لم يستسغ هذا بالمرة، علماً بأن هذا صدَّع أينشتاين Einstein وأتعبه، فقال شرودنغر Schrödinger نأتي الآن إلى صندوق ونضع فيه قطة، وهناك قارورة فيها سيانيد Cyanide – مادة سامة تقتل القطة لو انكسرت القارورة – وهناك لدينا ذرة من عنصر مُشِع، بحسب فيزياء الكم هذه الذرة تضمحل ولا تضمحل، فهذه الذرة إذا اضمحلت عدَّاد جايجر Geiger سيتحرَّك ويضرب Hammer، وهذا الـ Hammer موضوع على أنبوبة سيانيد Cyanide فتقع وتموت القطة، وإذا لم تضمحل لن يحدث هذا وتبقى القطة حية، ولذا في الميكانيك الكمومي القطة حية ميتة في الوقت ذاته، لأن الذرة تضمحل ولا تضمحل في الوقت ذاته، لكن لو جاء رافد خارجي – إنسان – وفتح الصندوق طبعاً لابد أن يجد القطة في إحدى الحالتين، أول ما تتدخل كرافد خارجي تنهار الـ Wave Function أو دالة الموجة الخاصة بشرودنغر Schrödinger، علماً بأن من الصعب أن أُبسِّط أكثر لكن على كل حال ستنهار – Collapse – وتأخذ فقط بديلاً واحداً من البدائل المُحتمَلة، واحد فقط وليس أكثر من هذا، وهذا غير صحيح وغير مُمكِن أن يحدث للقطة، لكن شرودنغر Schrödinger هنا يحتكم إلى منطق الحس المُشترَك ومن ثم تكون حية ميتة في الوقت ذاته، العجيب – باختصار وبجملة واحدة – جاء رجل إسمه هيو إيفرت Hugh Everett – هو عالم كبير مات في الحادية والخمسين من عمره وهذه كانت رسالة الدكتوراة ورُفِضَت في وقته – وقال أنا سأتقدَّم خُطوة إلى الأمام – وهى خُطوة جسورة جداً – فأنا أرفض تفسير كوبنهاجن Copenhagen – Copenhagen interpretation – الذي يقول العالم الكمومي صادق فقط في الـ Microscopic World لكن في عالمنا نحن تصدق القوانين الكلاسيكية وانتهى كل شيئ، وهذا نوع من فض الاشتباك، فإيفرت Everett قال هذا كلام فارغ وسخيف وغير صحيح، وأنا أقترح أننا لابد أن نقرأ الكون كله بما فيه عالمنا نحن وعالم النجوم والكواكب – كل الكون – قراءة كمومية بالميكانيك الكمومي، وطوَّر الرجل نظرية وبمُقتضى هذه النظرية كل شيئ يقع في الكون مثل هذه الخُطبة ومثل كيف أقول وكيف تتلقى وكيف تتفاعل يُمكِن أن يُرصَد بأكثر من معنى، فالراصد نفسه يرصدها في حالة تراكب، ولكن نُسخة من الراصد دائماً تنهار الموجة فيرصد بديلاً واحداً مُتعيِّناً في الواقع، ونُسخة أخرى من الراصد كما يقول إيفرت Everett لا علاقة لها بهذه النُسخة ولا تدري، فتحسب كل نُسخة أنها المُتفرِّدة والواعية ولا تشعر بالأخرى، وهذا شيئ مُعقَّد يخبط المخ، وأنا أعرف أنني عقَّدتكم جداً وأنا مُعقَّد ولكن جميل أن تسمعوا بهذه الأفكار،
اذهبوا بعد ذلك اقرأوا الكتب المُبسَّطة والكتب المُتخصِّصة حتى تفهموا أين وصل العقل الإنساني وكيف يُفكِّر البشر وكيف يُفكِّر هؤلاء الناس، هذا شيئ مُذهِل ومُحيِّر وجميل وفي مُنتهى الجمال والإبداع، قال نُسخة أخرى من الراصد ترصد حالة أخرى أو بديلاً آخر لكن كأنه مُتفرِّد وهكذا، وقد تتعدَّد النسخ إلى ما لا نهاية، وعجيب هذا الاحتمال، فهى تتعدَّد كثيراً جداً، وهنا يأتي استدعاؤنا للنصوص الإلهية، قال الله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ ۩، فأحدهم قد يكون عمره طويلاً ولكنه قصر أو قد يكون قصيراً لكنه زاد وهكذا، فهناك احتمالات كثيرة جداً جداً جداً، والله – تبارك وتعالى – يمحو منها ما شاء ويُثبِت منها ما شاء لأن البدائل وسيعة، يبدو أن البدائل بين يدي الله – لا إله إلا هو – لا مُتناهية، وكما قلت كل الكتب وكل الصحف لا تستطيع أن تحوي ولو حتى ربما بطريقة إحصائية تحديداً لهذه البدائل، يبقى وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩، هو مالك الملك المُتصرِّف الأوحد لا إله إلا هو، ونحن تبقى لنا هوامش عريضة لنُشارِك أيضاً في صياغة مصائرنا، إنها فلسلفة تنحاز إلى أولوية الصيرورة، لا إلى أولوية الكينونة ، أي لا إلى Being وإنما إلى Becoming، وهذا الذي نُريده، هذا نوع من الفلسفة الجديدة هذه في فهم الدين وفي فهم العقيدة تجعل الإنسان أكثر اعتداداً بنفسه وبقدراته وبحرياته وبالمجال الرحب الرحيب المُتاح له للمُشارَكة في صنع مصيره، لكن في النهاية في طول فعل الله وفي طول علم الله وبعلم الله وبإذن الله، وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، أيها الإخوة:
إلى ما قبل عشر سنوات كان فعلاً يُعتقَد بصحة تفسير كوبنهاجن Copenhagen وأن العالم الصُغروي تقريباً مُستقِل وتحكم فيه ميكانيكا الكم تماماً أما العالم الكُبروي هذا أو الجهري فهو عالم آخر تحكم فيه القوانين الكلاسيكية، لكن قبل عشر سنوات نشأ علم جديد إسمه علم الأحياء الكمومي Quantum Biology، لماذا؟ هذا العلم قدَّم لنا أمثلة عجيبة جداً، فطائر أبو الحناء – Robins – فُكَّ لغزه لأول مرة وعرف العلماء كيف يستهدي في رحلته من إسكندنافيا إلى المنطقة الاستوائية في إفريقيا ثم يعود في الربيع، ويقطع ثلاثة عشر ألف كيلو متر تقريباً، وهذا يحدث بطريقة كومومية لن أشرحها لكم لأنها تحتاج إلى وقت خاص بها وحدها لكن هذا يحدث بطريقة كومومية، بحسب التراكب – Superposition – وأمور لها علاقة بخلايا في العين، وهذه مسألة عجيبة غريبة، فإذن حتى العالم الكُبروي الجهري يخضع من حيث لا يدري لقوانين ميكانيكا الكم، أيضاً التمثيل الضوئي الكلوروفيلي -Photosynthesis – ينطبق عليه نفس الشيئ، حيث قُدِّمَ له تفسيراً جديداً يقوم على على مبدأ التراكب ومبدأ التعالق لأول مرة، وهذا علم جديد الآن إسمه علم الأحياء الكمومية، وهو شيئ مُعقَّد ولطيف وبهيج وغريب، والآن يُفعَل هذا – كما يُقال – روتينياً، فهذه تفسيرات كمومية لأفعال ماكراوية، إذن يبدو أننا سنضع خُطوات وسوف نسير لنقطع مراحل على الطريق في فهم أن هذا العالم عالم بدائل، وليس عالماً مُصمَتاً وليس عالماً ناجزاً نهائياً وانتهى كل شيئ، وإنما هو عالم بدائل، قال تعالى يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۩ وقال أيضاً بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ۩.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، افتح علينا بالحق وأنت خيرُ الفاتحين، اللهم اهدنا لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك إنك تهدي مَن تشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم.
اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اللهم إنا نسألك أن تنصر المُسلِمين وأن تُعِز المُسلِمين، اللهم انصر إخواننا المُستضعَفين في كل مكانٍ برحمتك وقوتك وعزتك يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا لأهلنا المُضانين المُعذَّبين في سوريا فرجاً قريباً، اللهم اجعل لهم فرجاً قريباً مما هم فيه يا رب العالمين، اللهم لا تخذلهم، اللهم لا تخذلهم، اللهم لا تخذلهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وفك أسر أهلنا في غزة وفي فلسطين كلها؟
اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا 11/05/2012
[…] القدر محوا واثباتا […]
بارك الله فيك يا دكتور
بارك الله في الشيخ وزاد في عمره بالخير
Es heißt Verschränkung und nicht Verflechtung
أظن أن الشيخ تشابه عليه مصطلح التشابك والتعالق في الفزياء الكمية فترجمه بكلمة Verflechtung وهي تسمية غير صحيحة، الفيزيائي Schrödinger أطلق على تلك الظاهرة العجيبة مصطلح Verschränkung
سلامي الحار للشيخ
عبد العظيم من برلين
[…] هامة) يُمكِن الرجوع إلى خُطبة القدر محواً وإثباتاً، التي تحدَّث فيها فضيلة الدكتور عن هذا الموضوع بنوع من […]