إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم، بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ۩ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ۩ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ۩ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ۩ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ ۩ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ۩ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ۩ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ۩ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ۖ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق القائمين بالقسط واجعلنا من أوليائك في كل أمرنا.
إخواني وأخواتي:
يا عجباً لهذا القلب الصغير كيف لا يملأه الله تبارك وتعالى، ما أصغر هذا القلب وما أضيق نطاقه وأقل وسعه، لا يكاد يتسع إلا لأنفار معدودين محدودين من الأهل والأولاد والقرابات والأحباب ثم لا يزيد، يضيق نطاقه، لأنه صغير، صغير جداً، وهو مع صغره هذا لا يملأه الله، فيا عجباً للفنجان لا يملأه المحيط، ما الحاصل؟ الحاصل أنه ما عرف الله ولا استمد من الله، لذلك بقيَ فارغاً، فيه مُتسَعٌ ومُتسَعٌ كثير للشهوات وللأهواء وللدنيا وما حوت، فما أكبر الدنيا فيه وما أكبر الناس فيه وما أكبر الشهوات فيه وما أكبر الهوى فيه وما أكبر اللذائذ والمنافع والمصالح فيه، ولو قد حله الله – تبارك وتعالى – لملأه من عند آخره ولأفناه عن ذاته وحامله، هذه مأساة إيماننا حتى نكون واضحين وصرحاء مُباشِرين، هذه مأساة إيماننا، نسمع ولا نفهم وإذا فهمنا بعض فهم لا نعيش ولا نذوق، ولذلك اتسعت مسافة الخُلف جداً بين أقوالنا وبين أعمالنا، بين ما نرفعه شعاراً وما نهتف به قدساً وبين مسالكنا الدنسة الزرية الردية، هذه مأساة إيماننا، أننا نتعاطى مع الإيمان ونستهلكه كلماتٍ ونصوصاً، نقول قال الله وقال رسول الله – صلى الله على رسوله وآله – وقال فلان وفلان من أهل الله وأوليائه، نصوص يُباشِرها اللسان ولا تُباشِر هى القلب، ولذلك لم يُنعَم بذوق الإيمان – ذاق طعم الإيمان – علينا، لم نذق طعم الإيمان حقاً، ولو أن ذقناه لاستحقرنا إلى جانبه لذائذ الدنيا وصنوف نعمها ومُشتهياتها من عند آخرها، لكن للأسف لم نفعل، لماذا؟ ما الحكاية؟ ما سبب هذه المأساة المُستمِرة والعامة الكُلية الشاملة إلا في حق مَن رحم الله؟ اللهم ارحمنا فاجعلنا منهم وألِحقنا بهم وأعِد علينا من بركاتهم وأصلِحنا لك كما أصلحتهم لك يا رب العالمين، المُشكِلة أننا لم ندرَّب ولم نتمرَّس ولم نتمهَّر مُنذ نعومة الأظفار، لم يُعلِّمونا لم يطلبوا إلينا هذا، لم يقيموا لنا النماذج والقُدى والأسُى الحسنة من أنفسهم، لم يطلبوا إلينا ومنا أن نأخذ القليل من آيات الهداية ومن علائم الرشد ثم نُفني الكثير من أعمارنا في تدبره وفي التحقق به، للأسف سرنا في الخُطة المُعاكِسة تماماً والعكس يأتي بالعكس، الخطة المُضادة المُعارِضة تماماً أن نستهلك الدين حفظاً، نصوصاً تُحفَظ، وكما علَّق الإمام الجليل والرجل الصالح ابن الحاج – أبو عبد الله الفاسي العبدلي صاحب المُدخَل قائلاً من البلية – من المحنة – أنك ترى ابن سبع وثمن وتسع سنوات يحفظ كتاب الله، هذه بلية، ويُصدِّق المُسلِمون أنفسهم أنهم صُلحاء وأولياء لأنهم يحفظون وحفَّظوا صبيانهم وغِلمانهم كتاب الله، أين فهمه؟ أين تدّبره؟ وما هو أهم أين التحقق به؟ أين العمل به؟ طريقة الأسلاف – رضوان الله تعالى عليهم – بدءاً من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله ورضيَ الله تعالى عنه وعن أصحابه – أنهم كانوا لا يُجاوزون عدداً قليلاً من الآي، خمس آيات وربما عشر آيات إذا أكثروا واستكثروا، لا يُجاوِزونها إلى غيرها، لا يُريدون أن يتعلَّموا شيئاً جديداً أو أن يسمعوا شيئاً جديداً أو أن يُتلا عليهم شيئٌ جديدٌ حتى يفرغوا من هاته الخمس أو هاته العشر، يتدبَّرونها ويتحققون بها ويعملون بها لكي يُعذروا من أنفسهم عند الله – عند الحق – تبارك وتعالى، لم يكونوا يُريدون أن يستكثروا من حُجج الله على أنفسهم، كلما سمعت أكثر كلما حفظت أزيد كلما فهمت أكثر كلما لزمتك الحُجة أكثر وستُسأل عن هذا يوم القيامة، ولذلك ورد أن أول مَن تؤجَّج بهم نار جهنم العلماء، نعوذ بالله – تبارك وتعالى – أن يسعد به الخلق وأن نشقى به في الدنيا والآخرة، اللهم عياذاً بك يا رب العالمين، أول مَن تُسعَّر بهم نار جهنم ويُقال لأحدهم – والعياذ بالله تبارك وتعالى من هذا المصير – ليس مَن علم كمَن لم يعلم، أنت كنت تعلم، فماذا عملت فيما علمت؟ هذا دين يا إخواني، هذا ليس فلسفة وليس فكراً وليس أيدولوجية وليس شعراً نتباهى به في المجالس، هذا دين، لكننا إلا ما رحم ربي جعلناه شعراً نتباهى به على المنابر وفي المجالس، مَن يحفظ أكثر ومَن يُحسِن يُلقي أحسن وأجمل ومَن ومَن ومَن، فضيَّعنا أنفسنا وضيَّعنا مَن يستمع إلينا، قد ضلَّ مَن كانت العُميان تهديه والعياذ بالله، لذلك نحن في هذا التيه، نحن في هذا الضلال، نحن في هذا الضياع، الله – تبارك وتعالى – يتقدَّم بنا العمر ولا يعظم في نفوسنا بل يصغر والعياذ بالله، هذا شيئ مُخيف، إذا أردت التُقى والمُراعاة والرعاية والخشية والتوقير والإجلال اطلبها عند الشباب صغار السن، ربما تجد شيئاً منها يسيراً ونمطاً يسيراً، أما الكبر إلا من رحم ربي – والعياذ بالله – هو الاتجار بالدين، هو التمرس في اختداع الناس عن دنياهم بالدين والعياذ بالله، هذا شيئ مُخيف ومُرعِب والله الذي لا إله إلا هو، هل تعرفون لماذا؟ لأنهم لم يتربَّوا، هم – كما قلت – تعلَّموا ويحفظون لكنهم لم يتربَّوا.
حين تقوم تُصلي يا أخي ويا أختي لله – تبارك وتعالى – انظر إلى نفسكَ وانظري إلى نفسكِ، كيف تقف بين يدي الله تبارك وتعالى؟ هل تسأل نفسك كيف يسوغ لي أن أقف الآن بين يديه وأجعله أكبر كبير- الله أكبر – وأعظم عظيم – سبحان ربي العظيم – وأعلى عليّ – سبحان ربي الأعلى – وأنا مُقيمٌ لا أزال على كذا وكذا من الذنوب ولم أنزع عنها وأنا مُتخوِّض في أعراض الناس وفي حقوقهم ولم أرد إليهم شيئاً منها ثم أصلي، أي صلاة هذه؟ هل تظن أن الله – لا إله إلا الله – يفتح لك؟ هل تظن أن الله يُواجِهك بوجهه وبرحمته؟ مُستحيل، هل تظن أنك تزداد قرباً بهذه الصلاة من الله؟ يستحيل، لن تزداد قرباً، ربما تزداد بعداً، لأنها ستُغريك أنك على خير وأن وضعك سليم فتزداد في المعاصي وفي الجرأة على حدود الله وحرماته لأنك تُصلي، وهذا شيئٌ مُخيف، ألا تخجل؟ ألا تخجل أنك تقف بين يديه وتقول الله أكبر والشهوة في نفسك أكبر منه ولا تستطيع أن تتركها؟ شهوة الغيبة، شهوة النميمة، شهوة النساء، شهوة الأموال، شهوة فعل الحرام وأكل الحرام وقول الحرام والتشوف إلى الحرام أكبر بكثير من الله لأنك إلى الآن أنت لا تستطيع أن تنزع عنها وتقول الله أكبر، كذبت والله، والله إنك لكاذب، والله الله ليس أكبر في نفسك من هذه الأشياء، والله – لا إله إلا هو – لو كان أكبر منها لنزعت عنها من فورك ولما استطعت أن تُواجِهه بها وتُبارِزه بها، لكن أنت لا تستشعر به لا إله إلا هو، أنت لا تشعر أنك تُواجِهه بهذا الدنس كله في نفسك – في مطاوي نفسك – وذاتك، أنت لا تشعر بهذا، ولو قد شعرت به للحظة لعلمت أن الأمر جد.
يا إخواني تأدَّبوا وأدِّبوا أولادكم، أنكم وأنهم إذا قمتم إلى الصلاة كما قال تبارك وتعالى في كتابه الأجل الأعز أن تأخذوا زينتكم، البسوا أحسن ثيابكم كأنكم في مُقابَلة مع أحد مَن يُدعى مِن علية القوم أياً يكن، لكن هذا رب القوم لا إله إلا هو، رب القوم وكل قوم، لكن ليس أقل مِن أن تتزيَّن له كما تتزيَّن لوزير أو رجل ثري أو ملك أو رئيس أو عالم جليل بين الناس، أليس كذلك؟ خُذ زينتك، استعطر وقف في مقام الخشية – لا إله إلا هو – مُؤدَّبا مُتأدِّباً بظاهرك وباطنك، لأنك تواجه الله – لا إله إلا هو – وتطلب أن تدخل عليه، لو تعلَّمتم وعلَّمتم أبناءكم وبناتكم هذا الأدب القرآني لعظم الله في نفوسكم، قال الله خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ۩، آية عظيمة نُردِّدها مُذ كنا صغاراً ولا نكاد نفقه لها وجهاً من المعنى، نفهمها نحوياً وبلاغياً لكن لا نفهمها تحققياً ربانياً، لذلك نحن نُواجِه أنفسنا بأحسن زينة أما لله فنلبس ثياب البِذلة ونُصلى صلاة لو توَّجهت – والعياذ بالله – بمثلها إلى مثلك ما قبلها منك يقول لك ما هذه الصلاة، يقول لك لا أريدها وهو عبد مثلك، فكيف برب العالمين لا إله إلا هو؟ طبعاً أنت تتوَّجه بها له والثمرة لك، هو غير مُحتاج إليها، هو لا يُريدها، لكن تجعل توجهك بها له، لكي تستكمل آلة الأدب، لكي تتعلَّم الأدب والخشوع والحضور معه لا إله إلا هو، لكي تصبح مُؤمِناً، لكي تُنقِذ نفسك في الدنيا والآخرة، لكي تُطهِّر نفسك ومحيط نفسك، هو لا يُحتاجها، لا تزيد في ملكه شيئا لا إله إلا هو، من أجلك أنت أن تفعل هذا، حتى إذا فرغت منها ذكرت الله وعلا صوتك كما كان يفعل سيدك رسول الله، صلى الله على رسول الله وآله وسلم تسليماً كثيراً، تذكر الله وتأخذ بالمُعقِّبات – تعقيبات الصلاة – في خشوع وخضوع أيضاً، تستحضر أن الله يراك، لا تمد رجلاً، لا تُخرِج ريحاً، لا تصرخ، تفعل هذا بأدب، حتى إذا انتهيت قمت بأدب وانصرفت، بهذه الطريقة تُعلِّم نفسك كيف يعظم الله في نفسك، أسلوب عملي قرآني بسيط وسهل، هذه دون البدايات، هذه بداية البدايات ونحن لا نأخذ بها، ما رأيكم؟ لذلك شيئ طبيعي جداً أن في مثل هذا اليوم – جمعة – الأزهر المُبارَك الكريم الذي فيه ساعة إجابة في بيت من بيوت الله – لا إله إلا هو – بعد أن نسمع الخُطبة والموعظة أننا ننصرف سريعاً من الصلاة ولعلنا نخوض في أعراض بعضنا، في المسجد يُفعل هذا وينال المُسلِمون بعضهم من بعض، ما هذا؟ ما هذه المساجد؟ ما هذه القلوب؟ ما هذه الآداب؟ ما هذه العبادات؟ ما هذه الثمار المُرة؟ هل تحسبون هذه الثمار ثمار الإيمان؟ لا والله لا إله إلا هو، إنها ثمار الشرك والرياء، نحن نشرك بأعمالنا، أعمال شرك، أعمال رياء، أعمال كذب لا يُراد بها وجه الله، قال شدّاد بن أوس – صاحب رسول الله رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه وصلى الله على رسول الله وآله وسلم تسليماً كثيراً – سمعت رسول الله – صلى الله عليه وآله – يقول مَن صام يُرائي فقد أشرك، ومَن صلى يُرائي فقد أشرك، ومَن تصدَّق يُرائي فقد أشرك، النبي قال هذا، النبي وصف هذا بالشرك، نعم ليس الشرك الأكبر أن تجعل لله نداً وقد خلقك لكنه شركٌ أصغر وفيه معنى الشرك الأكبر، لا تطلب بهذا الصوم وبهذه الصلاة وبهذه الصدقة وجه الله، عينك ليست على الله ولا مرضاة الله، إنما عينك على الناس، ولذلك قال محمود بن لبيد الصاحب الجليل أيضاً الأنصاري – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – قال عليه الصلاة وأفضل السلام – وهذا أخرجه أحمد في المسند – إن أخشى ما أخشاه على أمتي الشرك الأصغر، سماه كذلك، فقيل يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال الرياء، يقول الله تبارك وتعالى – أي للمُرائين – يوم القيامة إذا جُزيَ الناس بأعمالهم اذهبوا إلى مَن كنتم ترائون، هل تجدون عندهم جزاء؟ الله سيقول لكل مُراءٍ أنت لم تكن تصلي لأجلي ولم تُطوِّل الصلاة ولم تُحسِّن فيها صوتي ووقفتك من أجلي وإنما من أجلهم هم، اذهب وخذ أجرك منهم إن كان عندهم أجرٌ اليوم، يا حسرةً على العباد، يا حسرةً علينا، وأسفاه علينا، محمود بن لبيد نفسه – رضوان الله تعالى عليه – يروي عن رسول فيما أخرجه الإمام أبو محمد بن خزيمة – رحمه الله تعالى – في صحيحه قائلاً قام فينا رسول الله – أي خطيباً صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – فقال أيها الناس إياكم وشرك السرائر، هذه السرائر تُشرِك، اللسان مُوحِّد – لا إله إلا الله – والنية والقلب والسريرة مُشرِكة، والعبرة باللسان أم بالقلب؟ العبرة بالقلب، لأنه محل التقوى، قال النبي ألا إن التقوى ها هنا وأشار إلى صدره ثلاث مرات، أين التقوى؟ يُوجَد شرك ولا تُوجَد تقوى، القلب محل نظر الله، الله لا ينظر إلى بدنك ولا ينظر إلى صورتك ولكن ينظر إلى قلبك وعملك، والعمل بلا قلب كذب أيضاً، قال الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ۩، ما هو الصدق؟ ليس فقط الصدق باللسان، صدق اللسان هو صدق العوام وصدق الأطفال، لابد من صدق الأقوال وصدق الأفعال وصدق السرائر، أي صدق النوايا، النية تكون لله، القصد يكون لله، قال الله أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۩، فما هو الإخلاص؟ وما هو الصدق؟ هذا ينبغي أن نُدرِّب ونُعلِّم عليه أولادنا مُنذ نعومة الأظفار، الطفل حين يُصبح مُميِّزاً – ابن ثمن أو تسع سنوات مثلاً – نقول له يا ابني انتبه، كما تُؤمِن بأنه لا إله إلا الله وأن الله أعظم عظيم وأكبر كبير وأنه يُحيي ويُميت وأننا جميعاً – الخلق أعني – فانون فقراء مُحتاجون إلى رحمته وإلى غيثه ونواله ونعمته في الدنيا والآخرة فاعلم يا بُني أن الله أمرنا والرسول أكَّد هذا الأمر أن نعبده ولا نعبد إلا إياه وهذا معروف، لكن هذا ليس معناه يا بني ألا نسجد لصنم، فهذا مفروغٌ منه، ولكن حين نعبده ألا نُريد بالعبادة إلا مرضاته لا إله إلا هو، لا يكون نظرنا يا بُني إلى الناس وإلى الدنيا، كأن يرونا وأن يحمدونا وأن يستحسنوا هذا منا، هذا لا يعنيا يا بُني قال تعالى فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ۩ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۩، ومن ثم يتعلَّم ابن السابعة أو العاشرة معنى هذا الإخلاص، لكن الآن تراه في السبعين أو الثمانين ولا يعرف يُفرِّق بين الإخلاص وبين الصدق، لا يعرف حد الإخلاص وحد الصدق، لا يعرف المسكين، يسمع ولا يعرف، وهذه خسارة وحسرة بل حسرات تُورِث الغفلات وهى بنات الغفلات، يا بُنى الإخلاص أن يُفرَد الله وحده – لا إله إلا هو – بالعبادة ولا يُراد إلا وجهه بالعبادة وبالعمل الأخروي، وإن استطعت يا بُني أن تجعل عملك كله للآخرة فاجعله، هذا خيرٌ لك، حتى عمل الدنيا من أكل ومن شرب ومن شهادة ومن علم مدني دنيوي عادي اجعله وسيلة إلى الازدلاف إلى الله تبارك وتعالى، أن تتقرَّب به إلى الله، إذا أكلت الأكلة وإذا شربت الشربة اجعلها عوناً لك بنيتك على طاعة الله ومن ثم تُؤجَر فيها بإذن الله تبارك وتعالى، علِّموا أولادكم هذا، بالله عليكم فكِّروا في طفل يتعلَّم هذا ويتربى عليه مُنذ نعومة الأظفار حين يكبر كيف يصير؟ من سادات الأولياء، من سادات العارفين، هذا المُؤمِن الذي يُحدِّثنا عنه القرآن والسُنة، هذا المُؤمِن الذي كدنا لا نراه.
نعود ونقول هذا هو الإخلاص، فما هو الصدق؟ الصدق سر الإخلاص، وكل مُخلِص هو صادق لكن ليس كل صادق مُخلِصاً، قد يصدق المرء في المعصية والعياذ بالله، إبليس أصدق الصادقين – لعنة الله تعالى عليه – في مُعاداة الله ورسله وأولياءه، صادق تماماً، يفعل هذا بصدق تام ولا يتردد، صادق في عزمه وصادق في وعده لعنة الله تعالى عليه، تقول الآية الكريمة أنه قال لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۩، ولم يندم ولم يقل ولو لمرة واحدة أستغفر الله، صادق إلى الآن، صادق في الوفاء لوعده وعزمه، لا ينثني والعياذ بالله، فلم لا نصدق الله فيما هو لله؟ لم لا نصدق الله؟ قال الله فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۩ وقال أيضاً اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ۩ أما حد الصدق أيها الإخوة فإنه من أحسن ما ورد فيه هو استواء السر والعلانية، لا يجمل بالمُؤمِن والمُؤمِنة أن يُريَ الناس من نفسه صلاحاً وباطنه خرب، صدقاً وهو في الباطن كاذب أو كذاب والعياذ بالله، أمانة وهو خوّان أثيم، الصدق هو استواء الظاهر والباطن، وتخيَّلوا عبداً استوى ظاهره وباطنه، كيف يعيش؟ مُنتهى الاستقرار، مُنتهى الصحة النفسية والعقلية والروحية، مُنتهى السعادة والرضا والقناعة، شخص غير مختل، الذي يأتي بالاختلال الكذب، ترى بعض الناس كأنه ممسوس – مسه الشيطان – فعلاً، وهو مصروع فعلاً في خُطة ابليس، هو أحد تلاميذ إبليس، يجري وراء الشهوات ووراء المُحرَّمات، وإذا اقتضى الأمر أن ينصب الصلاح والتُقى شبكة يختدع بها الناس فعل، فتراه يأخذ مظهر المُتدين وسلوك المُتدين كذباً ودجلاًن لكنه مُختَلٌ ومُتخبِّط، لا يجد القناعة ولا السكينة ولا الاستقرار فضلاً عن أن يشعر بطعم السرور والسعادة، هذا مُحال، إذن الصدق كما قال العلّامة الجليل الكمال بن أبي الشريف في حواشي العقائد هو استواء الظاهر والباطن بحيث لا تُكذِّب أحوالك أعمالك ولا تُكذِّب أعمالك أحوالك، الحال يتصادق ويتآزر مع العمل والعمل يتصادق ويتآزر مع الحال بإذن الله تعالى، هذا هو الصدق، إياك أن تتكلَّم كلمة وأنت لا تُريد بها وجه الله، كأن تقول للناس كلمة على أنها موعظة وتذكرة تُذكِّرهم بالله بها والله وحده – لا إله إلا هو – يعلم أن نيتك شيئٌ آخر، أعرف بعض الناس يتهمم مُنذ زُهاء سنتين أن يعظ الناس بحال أحد مَن يحسبه – إن شاء الله – من الصالحين العاملين الطيبين، لكنه لا يستطيع أن يفعل منذ سنتين، لماذا؟ قُم وتكلَّم عن الرجل الصالح الذي التقيت به وأحببته في الله وأحبك ووقفت على بعض جوانب صلاحه ونشاطه في خدمة الدين والأمة، لماذا لا تفعل؟ قال لم تحضرني نية تامة، لم تتمحَّض النية لدي بنسبة مائة في المائة لله، لو كانت بنسبة تسعة وتسعين في المائة لله وواحد في المائة لأجل أن يسمعني هذا الرجل الصالح فلن أفعل، الله أغنى الأغنياء عن الشرك، لا تمدح أحداً إلا لله، لا تتكلَّم بكلمة إلا لله، هذا هو الصدق، ولذلك قال الله هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۩، اللهم اجعلنا منهم، في ذلك اليوم لن يُجدينا ولن يُنقِذنا إلا الصدق، اللهم اجعلنا من الصادقين، هذا هو الصدق، وهو في كل شيئ، في الأفعال وفي الأقوال وفي الأحوال وفي السرائر والبواطن، هذا هو الصدق، هذا الصدق قيل فيه لو وُضِعَ على حديدٍ لقطعه بإذن الله، لذلك الصادق مُصدَّق عند الله وموعودٌ برتبة الصديقية، أدنى الصدق صدق الأقوال كما قلت لكم، وأما أعلاه فهو مقام الصديقية، اللهم ارفعنا إلى ذلكم المقام بفضلك ومنك يا الله لا بأعمالنا وتقصيرنا، فهو أن يصدق الرجل الله – تبارك وتعالى – في قوله وعمله ونيته وسريرته، لا يُريد إلا وجه الله، لا يُريد حتى أن يكون صادقاً، انتبهوا إلى هذا، فعينه ليست على مقام الصديقية، لو كانت عينه على مقام الصديقية لكن أحد الكاذبين، هذا كاذب لأنه يُريد مقاماً، هو يُريد شيئاً يعلو به ولو في رتبة ودولة أولياء الله وأهله في الدنيا والآخرة، هذا كاذب، لكن ينبغي أن تفعل هذا لله، توقيراً لله، إجلالاً لله – لا إله إلا هو – الذي يراك، قال الله وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۩، كلنا يعلم هذا يا أحبتي في الله – إخواني وأخواتي – لكن هل نعلم حقاً فنعمل وفق هذا العلم بمعنى أننا معه أينما كنا؟ هل نحن مع الله؟ هو معنا، كنت معه أنت أم لم تكن هو معك يا مسكين، لن يُغادِر شيئاً من أحوالك، لا من ظاهرك ولا من باطنك، لكن هل أنت مع الله؟ كثيراً ما ننسي هذا، مُعظَم حياتنا نسيان أصلاً، معظم حياتنا ومعظم أوقاتنا غفلة ونسيان عن الله، غفلة عن الله ونسيان له لا إله إلا هون هو معك فهل أنت معه؟ لو كنت تعيش وفق هذا اليقين لكنت من المُحسِنين، أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، إذن مقام المُحاسَبة مقام المُرَاقبة، مقام المُشاهَدة مقام المُراقَبة، اللهم ارفعنا إلى هذه المقامات العلية.
أيها الإخوة:
هذا ما لا نراه لحزننا وأسفنا وحسرتنا، هذا ما لا نراه، الذي نراه هو الصورة المعكوسة تماماً، فهمٌ معكوس يُولِّد تديناً منكوساً، وهذا أمرٌ طبيعي، الدين يمشي ولا يتقدَّم، يمشي إلى الخلف، لذلك تمضي السنون ودينك يقصر ويقصر ويذل ويتلاشى حتي تصل إلى درجة – والعياذ بالله – تجتريء معها على أعظم المُحرِّمات، ما رأيك؟ وهذا شيئ عجيب، لماذا؟ فهمك للدين غير صحيح من أصله، ما الدين عندك؟ أنت لم تقهم الدين أصلاً، لذلك فهمٌ معكوس فتدين منكوس، فنصير نبتعد منه – لا إله إلا هو – من حيث نُريد القرب، بدل أن تُقرِّبنا الصلاة – كما شرحت لكم – تُبعِدنا عن الله، وكذلك الصوم وكذلك الحج والعمرة وقراءة القرآن والعلم الشرعي يُبعِدنا عن الله، ما رأيكم؟ والله هذه بلية ليس لها من دون الله كاشفة، لماذا؟ لأن هذا كله أتى انعكاس وترجمة ونتيجة لفهم معكوس، سأضرب لكم مثلاً بسيطاً لأن هذا الكلام قد يهول بعض الناس، حين أقول لكم أكل لحم الخنزير تقشعَّر أبدانكم مُباشَرةً، تخيَّل قطعة لحم خنزير تُقدَّم لك لتأكلها، تكاد تُجَن طبعاً كمُسلِم، كلنا تقريباً هكذا، أنا لا أعتقد في المليون يُوجَد مُسلِم يتجرأ على أكل لحم الخنزير، وهذا أمرٌ معروف، من أبشع ما يستبشعه المُسلِم، حين يسمع عن أكل لحم الخنزير يكاد يُجَن المسكين، لكن انتبهوا إلى الآتي، مَن مِن المُسلِمين يستبشع الغيبة كما يستبشع أكل لحم الخنزير؟ قليلٌ ما همن اللهم اجعلنا منهم، شرعاً بل قرآناً أيهما أبشع؟ هذا مُهِم لكي تفهم الدين كيف هو وكيف أنت تفهم الدين، أيهما أبشع: أكل لحم الخنزير أم اغتياب المسلم أو اغتياب حتى كل إنسان مصون الجانب والعرض؟ قرآنا طبعاً الاغتياب، اغتياب المُسلِم أعظم الله أعلم كم مرة وبكم مرحلة، المسافة بينهما بعيدة جداً جداً، مراحل ومفاوز بينهما، لماذا؟ لأنه مَن أبشع: أكل لحم خنزير أم أكل لحم بشر ميت؟ هذا أكل للحم بشر وليس خنزيراً، وهذا البشر هو مُسلِم، أخوك المُسلِم المُوحِّد بعد أن يموت بدل أن تقرأ له الفاتحة على روحه كما يقال تأتي تنهشه، تأكل منه وتمضع ثم تزدرد، هذا شيئ بشع جداً، القرآن قال هذه هي الغيبة، قال الله أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ۩، لا نُعلِّم أولادنا بهذا المنطق، بالعكس نُعلِّمهم أن الخنزير شيئ فظيع جداً على عكس الغيبة، هو شيئ كريه مُحرَّم في الشريعة، هو من المُحرَّمات، لكن هذا المُحرَّم بالذات الله قال إذا اضطررت يُمكِن أن تنال منه بقدر ما يحفظ عليك الرمق، هذا الشيئ البشع – الخنزير – يُمكِن أن تأكل منه بمقدار ما يدفع عنك غائلة الموت، لكن هل أعطاك رخصة ان تأكل من أخيك ميتاً؟ هذا شيئ فظيع، هذا هو الدين وهذا فهمنا للدين، نخوض في الغيبة على مدار الأربع والعشرين ساعة دون أن نتأثم وعشرين سنة دون أن نتعود وثلاثين سنة ونلقى الله ونحن على ذلك، هذه – والله العظيم – بلية، أُقسِم بالله هى بلية، ما مِن مرة أدركنا أن هذا من كبار الذنوب، هذا من أكبر فواحش الذنوب، وطبعاً الآيات نعرفها والأحاديث تُتلا علينا لكن لا يُوجَد عمل هل تعرفون لماذا؟ لأن الله لم تحل عنايته في القلب لكي يصبح القلب ربانياً يقذر ما نهى الله عنه ويُحِب ويُشغَف بما أحب الله وأمر به، لا يُوجَد هذا، لا يُوجَد نور إلهي في هذا القلب فانتبهوا، أنا أقول لكم قلوبنا نحن المُسلِمين ونحن المُؤمِنين بالإسم والعنوان قلوب ميتة صدئة ضيقة جداً وحرجة، جلمود صخر ليس فيها نور إلهى، ولذلك هى قلوب منكوسة ومعكوسة والعياذ بالله تبارك وتعالى، تُكبِّر الشيئ الصغير وتُصغِّر الشيئ العظيم عناداً درت أم لم تدر لخط الشريعة، لكن الشريعة ليست كذلك.
حال المُسلِمين مع الخمر للأسف أسوأ من حالهم مع الخنزير، فيهم نسبة أكثر بلا شك من نسبة الذين يتعففون عن أكل لحم الخنزير، يشربون الكحول – والعياذ بالله – وهى أم الخبائث، هى مُحرَّمة بلا شك، وبعضهم يُريد أن يُقنِع الناس أنها حلال كأن الله لم يُحرِّمها، الله يهديهم ويُصلِح حالهم وبالهم، على كل حال الخمر أيضاً عند المُسلِمين بشكل عام مُحرَّمة، الخمر – والعياذ بالله – شيئ فظيع، لكن أيهم أفظع: شرب الخمر أم سفك الدم الحرام وشرب دماء الأبرياء وقتل المعصومين من البشر سواء كانوا مُسلِمين أو غير مُسلِمين؟ يا إخواني أنا أكاد أجن وأعوذ بالله من كلمة أنا، تجد هؤلاء بالذات – هؤلاء الأنفار وهؤلاء القبيل من الناس – لا يتساهل مع نظرة إلى زجاجة خمر – هذا شيئ فظيع – ويتساهل مع الدماء المعصومة، قبل أيام يُعلِّقون على صورة لأُناس ذهبوا يُبلِّغون كلمة الله ويدفعون عن دينهم الذي سوَّد وجهه بعض أبنائه بأفعالهم وجرائمهم ويقولون لغير المُسلِمين من اليهود والنصارى في بلادهم وعواصمهم هذا هو الإسلامن ليس ما ترون وليس ماتسمعون، هذا هو الإسلام الحق، فهل يُؤمَر هذا الداعية أو هذا المُتكلِّم أن يقول لمَن حضر انتبهوا فأنتم لستم مسلمين وحجِّبوا نسائكم؟ طبعاً هم لم يتكلَّموا عن الحجاب، هم تكلَّموا بالشهوة والهوى، هل يُمكِن أن تقول كداعية لهم حجِّبوا نساءكم فنحن لا نتكلَّم إلا في حضرة نساء مُحجَّبة؟ سوف يُقال لك لك اذهب أنت وموعظتك حيث شئت، ما هذا؟ هل تُريد أن ترغمني أن أتحجب؟ لماذا أتحجب وأنا لست مُسلِمة؟ هذا غير معقول، غير معقول أن تقول لهم في دارهم وفي بلدهم وفي مكانهم ممنوع أن تكون زجاجة خمر أو بيرة هنا، سوف يقول لك أحدهم لماذا؟ هذا حلال في ديني وفي حضارتي فإليك عني، ومع ذلك يُقال كيف تتكلَّم في حضرة الخمر والعياذ بالله؟ لعن الله في الخمر عشرة، لكن ليس منهم يا حبيبي مَن جلس يتكلَّم عن الدين ومَن أمامه يضع على الطاولة زجاجة الخمر، هؤلاء يتكلَّمون بجهل رهيب مُخيف ويتشددون في أشياء تافهة شديدة التفاهة، لم يسألوا أنفسهم كيف طاف محمد – صلى الله على محمد وآل محمد – وأصحابه – كرام هذه الأمة، عمد هذه الأمة، وجِلة هذه الأمة – بالكعبة مُدةً مديدة و بها ثلاثمائة وستون صنماً؟ ليس زجاجة خمر وإنما أصنام تُعبَد من دون الله، الظروف لم تكن تسمح بتكسيرها، لكن سنعبد الله في حضور الأصنام والتوجه لله، سنطوف بالكعبة وهى غاصة ملآنة بثلاثمائة وستين صنماً والتوجه لله، أيهما أعظم: هذا أم أن تُبلِّغ الإسلام البلاغ الحق المُبين – بإذن الله – ليهود ونصارى وأمامهم الخمر؟ والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت هذه الخمر و لا انتبهت إليها إلا بعد أن علَّقوا، ما رأيكم؟ لأنني العبد الفقير الذي كان يُبلِّغ الدعوة هناك في باريس، لم أرها أقسم بعزة جلال الله ولم التفت إلى هذا، لأنني لا ألتفت إلى التوافه، هذه توافه، أنا ما علىّ وسلوك هؤلاء؟ يشربون أو لا يشربون هم أحرار، أنا جئت أدفع عن ديني أمامهم، وقد تقبَّلوا هذا الدفاع بقبول حسن بفضل الله تبارك وتعالى، وكان له تأثير مقدور ومشكور وهذا من فضل الله وتوفيقه، لم أره ولم انتبه، هم جاءوا وفعلوا هذا، إسلام معكوس منكوس والعياذ بالله، هذا شيئ مُخيف، هؤلاء أنفسهم وأشكالهم يتساهلون جداً في الدماء وفتاوى التكفير والذبح والقتل دون أن يطرف لأحدهم جفن، أي دينٍ هذا؟ أي فهم للدين هذا؟ من هنا الكوارث التي نعيشها موصولة في ليلنا ونهارنا وفي حلنا وترحالنا، هذا شيئ مُخيف، نسأل الله أن يرفع الله – تبارك وتعالى – هذا البلاء كله بطريقته من حيث شاء وكيف شاء ومتى شاء فالأمر كله له، لا أحد يقترح على الله أن يفعل هذا الآن والساعة أو بعد مليون ساعة، هو أعلم لا إله إلا هو، وهو الحكيم فلا يضع شيئاً إلا في موضعه لا إله إلا هو، هذه أحوالنا وهذا ما نستحق، لم يسألوا أنفسهم كيف سمح الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – لنصارى نجران وبالحتم صلبانهم في صدورهم وخاصة رجال الدين الذين لا يتركون الصليب لحظة أن يأموا مسجده وأن يجلسوا فيه بل وأن يُصلوا فيه إلى قبلتتهم بصلبانهم وأن يبيتوا فيه؟ ما رأيكم؟ ما هذا؟ قالوا كانت هناك زجاجة خمر ليهودي أو نصراني فكيف يتكلَّم في الدين؟ لماذا لم يسألوا أنفسهم عن هذا، حتى في عمرة القضاء التي أتت عوضاً عن العمرة التي كان ينبغي أن تكون في الحُديبية – عمرة القضاء في السنة السابعة بعد سنة من الحُديبية – النبى طاف وأصحابه بالبيت والبيت فيه ثلاثمائة وستون صنماً، لم تخلو الكعبة من الأصنام إلا يوم الفتح بفضل الله تبارك وتعالى، قبل ذلك كان هذا ما تسمح به الظروف، لكن في كل الظروف الإسلام لا يقول لك حرام عليك أن تعظ يهودياً أو نصرانياً أو أياً كان دينه إذا كان يجلس والخمر أمامه، بالعكس الإسلام يقول لك عظه، وأيهما أعظم الخمر أم عقيدته التي يعتقد؟ هؤلاء مساكين، أي عقل هذا؟ أي دين عندهم؟ أي فهم هذا؟ أي فقه يضحكون به على الناس؟ وهم يُصفون حسابات، فقط هم يريدون لهذا الخط المُتشدِّد وهذا الخط المعكوس المنكوس أن يسود، وبفضل الله – تبارك وتعالى – وليس عن توهم البُشرى حاصلة لأن هذا الخط يتقلَّص، هذا الخط يعود بسرعة بفضل الله تبارك وتعالى، الخط الإنساني أو الخط الرباني أو الخط الرحماني هو الذي يسود الآن وبقوة بفضل الله تبارك وتعالى، لأنه خط الفطرة، هذا دين محمد، هذا كتاب محمد الحق، وهو الذي سيسود، أما ذاك الخط فهو في تراجع أليم – أليم جداً – لأصحابه، نسأل الله أن يهديهم ويهدي قلوبهم، قلوبهم التي لا تتذوق الحق ولا تسعد به ولا تريده، تشمئز من الحق لو عرفته، وتظن أنها على حق، نسأل الله أن يهدينا وإياهم وأن يُصلِحنا وإياهم، لم يسألوا أنفسهم كيف أراد عمر أن يُصلي في كنيسة وكيف اتفق الفقهاء على جواز هذا الفعل وهو المأخوذ من نص الحديث الذي يقول وَجُعِلَتْ لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ من أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ؟ هل أُصلي حتى في الكنيسة؟ صل في الكنيسة وفي الكنيس وفي أي معبد، لكن فيه صور وفيه تماثيل وفيه أشياء تُعبَد من دون الله، فماذا عنها؟ أنت لا تتوجه إليها، أنت توجهك إلى ربك لا إله إلا هو، عمر أراد أن يُصلي في كنيسة القيامة ولكن في آخر لحظة منع نفسه وصرفها عن هذا، لماذا؟ ليس لأن فيها تماثيل وفيها أصنام وفيها صلبان، قال خشية أن يأتي المُسلِمون من بعدي يقولون صلى عمر فيغلبوا أهلها عليها، انظروا إلى العدل، عمر الفاتح قال هذا، لكن يجوز أن تُصلي في الكنيسة وفيها تماثيل وفيها صلبان، قال الله لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ۩، لماذا لم يسألوا أنفسهم ويتحدَّثوا عن الدُعاة الكبار المشاهير المُوفَّقين في القرن العشرين – لا أذكر في كل زمان لكن أذكر مَن كانوا في القرن العشرين بالذات لأنهم يعرفونهم ولن أذكر أسماء هؤلاء الدعاة المُحترَمين رضوان الله عليهم، وفي الحقيقة هم وعاظ ومُذكِّرون لأنهم كانوا يُذكِّرون المُسلِمين وليس الكفار، الدعوة في الكفار كما أقول دائماً، وعلى كل حال يسمونهم الدعاة – الذين كانوا يقتادون الناس إلى الله – تبارك وتعالى – من الحانات والخمّارات؟ الدواعر والعواهر من النساء يأتون بهن من الحانات والخمّارات، فلا يقول أحد كيف أنت داعية وشيخ مُعمَّم ورجل صالح وتدخل الحانة؟ أنا لا أدخل لكي أقصف مع مَن يقصفون، لا أدخل لكى ألهو مع مَن يلهون، أدخل لكي أدعو إلى ربي، أدخل لكي أُذكِّرهم، أليس كذلك؟ لا اعتراض، ولا يُوجَد خمر فحسب وإنما يُوجَد خمر وسفور وزنا وكبائر الفواحش والعياذ بالله، لكن ما النية؟ وبعد ذلك في نهاية المطاف هذه خمر تُدار على كؤوس غير مُسلِمين، شأنها صغيرٌ جداً في منظور الفقهاء، لن أذكر لكم من كبائر فقهاء الأمة في القرن العشرين – في القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجريين – مِمَن أباحوا الاتجار بالخمر مع غير المُسلِمين، ما رأيكم؟ لن أذكر حتى لا تُسيئوا الظن بهم، قد تقولون كيف هذا وأنت تذكر دائماً هذا الإمام وتُثني عليه وتقول الشيخ الأستاذ الإمام العلّامة شيخ الإسلام؟ نعم هو الشيخ والأستاذ والإمام وهو شيخ إمام وشيخ الإسلام بلا شك، لوذعي قلَّ مثله في الأعصار الأخيرة، ما رأيكم؟ هذا أفتى – رضوان الله تعالى عليه – بأن المُسلِم له أن يتجر بالخمر وإن كنت لا أستريح أنا لهذه الفتوى، ومُعظَم العلماء لا يستريحون لهذه الفتوى، لكن هو برَّرها وأصَّل لها وهو مُجتهِد كبير، قال لك تُتاجِر بالخمر مع غير المُسلِمين لأنها حلال في دينهم، قال هذا يجوز لك، والمال في حقك يكون طيباً، وهذه فتوي عجيب، فأين هذه الفتوي من شيخ الإسلام من رجل يدعو إلى الله بين غير مُسلِمين وأمام بعضهم زجاجة خمر؟ ما هذا إذن؟ هذا لا شيئ، هذا لا يعنينا، لا نراه ولا ننظر إليه، ليس له أي وزن، ومع ذلك يشغبون على الناس، لكن – كما قلت لكم – انظروا إلى حالهم، تشديد رهيب في الخمر وزجاجة الخمر وصورة الخمر عند غير مُسلِمين وتساهل مُخيف مُرعب مُقلقِل ومُزلزِل في الدماء – دماء المُسلِمين وغير المُسلِمين – المُحرَّمة المعصومة، ما الذي يحصل يا إخواني؟ الذي يحصل أننا – كما قلت لكم – نُترجِم بتدين منكوس لفهم معكوس، أصل العكس فيه والنكس والبؤس والتعس – والعياذ بالله – أننا ما سلكنا مُنذ البداية لنعرف الله، لنصل إلى الله، لنُوقِّر الله، لنُعظِّم الله تبرك وتعالى، ومن هنا يا أحبابي – إخواني وأخواتي – جعلت بداية هذه الخطبة التي أسأل الله أن يتقبَّلها بقبول حسن وأن يغفر لنا ما كان فيها من خطأ أو زلل أو تقصير أو توهم قوله تبارك وتعالى وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ۩، سأجعل الكلام في هذه الآية الجليلة من سورة الأنعام موضوع الخُطبة الثانية القصيرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أحبتي في الله، إخواني وأخواتي:
قال الله وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ۚ ۩، اختلف السادة المُفسِّرون في المُراد بظاهر الإثم، وطبعاً هذا من باب إضافة الشيئ إلى نفسه، ظاهر الإثم يعني الإثم الظاهر، وباطن الإثم يعني الإثم الباطن، من إضافة الشيئ – كما يُقال – إلى نفسه، إذا اختلف اللفظ فهذا يجوز، وفيه خلاف معروف على كل حال، أي في تسمية هذا، إضافة شيئ إلى نفسه، قال بعضهم ظاهر الإثم ما أظهرتموه من أعمالكم المُحرَّمة، أما باطن الإثم ما أسررتموه، قيل حين تفعل أعمال مُحرَّمة في السر فهذه هي باطن الإثم، وظاهرالإثم – والعياذ بالله – ما أظهرتموه من الزنا وباطن الإثم ما أسررتم به، قال الإمام المُفسِّر الضحاك وكان أهل الجاهلية يرون الزنا إذا كان سراً حلالا، فالله قال ظاهره حرام وباطنه حرامن ومن هنا التفسير الثاني، قال بعضهم ظاهر الإثم ما فعلتموه، وباطن الإثم ما نويتموه ولما تفعلوه، الشيئ الذي نويته وفعلته هو ظاهر الإثم، شيئ من المُحرَّمات ومن الإثم أردت ونويت أن تفعله ولما تفعله – لم تفعله إلى الآن – فهذا إسمه باطن الإثم، الله قال اترك هذا واترك هذا، قال ابن الأنباري ظاهر الإثم وباطنه يُراد به ترك الإثم من كل وجه، قال – رحمة الله عليه – فهذا كقولهم ما أخذت كثيراً من هذا المال ولا قليلاً، يُريد ما أخذت منه شيئاً بوجهٍ، هذا هو المقصود، اتركوا الإثم على كل الأنحاء، قال الإمام المُفسِّر الفخر الرازي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – اللفظ عام، الله يقول ظاهر الإثم وباطن الإثم ومن ثم هذا يعم، هذا لفظٌ عام لا نُخصِّصه بالزنا ولا غير الزنا، هذا لفظٌ عام، وتخصيص العام بإحدى صوره – جمع صورة – من غير دليل غير جائز، وإلا أين الدليل؟ نرُيد دليلاً شرعياً واضحاً يدل على أن هذا يُحمَل على كذا، ومن ثم هذا يعم، وهذا هو الصحيح، ولذلك قال آخرون – ونحن نستروح لهذا القول وهو من أعمق الأقوال – ظاهر الإثم أفعال الجوارج، أي ما تجترحه وتجترمه وتقترفه بفرجك وبلسانك وبيديك وبرجليك وبعينك – والعينان تزنيان وزناهما النظر – وهكذا، هذا كله بالجوارح، فهذا ظاهر الإثم لأنه يظهر للناس أو شأنه أن يكون ظاهراً، وباطن الإثم أفعال القلوب المُحرَّمة، القلوب لها معاصٍ، وهنا قد يقول لي أحدكم هل القلب عنده أفعال؟ طبعاً، كيف إذن؟ القلب أهم شيئ، القلب أهم من كل جوارح البدن، هو الإمام ودائماً هو في الأمام، وتأتي من ورائه – أي الجوارح – طبعاً، القلب أهم شيئ، نُطفة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وأنتم تعرفون الحديث الصحيح، وهو حديث شداد مرة أخرى، إذن القلوب لها أفعال، القرآن أكَّد أن للقلوب كسوباً وأفعالاً، قال فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ ۩، هذا هو، فالإثم في القلب، هذا قلب آثم، قلب آثام يكسب ويقترف الآثام والعياذ بالله، وهذا معنى قول الله فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ ۩، قال إبراهيم وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ ۩، قال الله إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ ۩، أي مالت، هذا نوع من الميلان الانحراف عن سواء الصراط، قال الله إِنْ تَتُوبَا – عائشة وحصة رضوان الله عليهما – إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۩، القلب مال وانحرف، هذا هو القرآن، وهذا موضوع طويل، وعلى كل حال القلب بلا شك له أفعال وله كسوب، ومن أخطر الأشياء آثام القلب، الله يقول وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ۚ ۩، لماذا كانت أفعال القلوب وآثام القلوب من أخطر الآثام؟ ما الدليل على هذا؟ لو تأملتم في كتاب ربكم لوجدتم يا إخواني وأخواتي أن الله – تبارك وتعالى – قضى بحكمته وعدله أن العبد إذا لقيه بعد أن مات وقضى مُشرِكاً لم يتب لم يغفر له ، قال الله إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ۩، أي لمَن مات على ذلك، أما مَن أشرك وتاب فالايات كثيرة جداً جداً الدالة على أن الله يغفر مُباشَرةً ويُبدِّل السيئات حسنات، هناك مِن الآثام التي يأتيها المُؤمِن ويأتيها المُسلِم وظاهر النصوص أنها لا تُغفَر بل ظاهر النصوص – والعياذ بالله – أن تُهوِّرك في جهنم، مثل ماذا؟ هذه معاصي القلوب، لا يدخل الجنة مَن في قلبه مثقال حبة – أي حبة خردل، وفي رواية مثقال ذرة – من كبر، وهنا قد تقول لي هذه مُصيبة، نحن لم نفرغ من الزنا ومن السرقة ومن القتل ومن الغيبة ومن النميمة من النظر المُحرَّم ومن أكل أموال الناس بالباطل – طبعاً لم نفرغ منها – حتى نفرغ من هذه، هذه أشد والعياذ بالله، أنت فرغت من كل هذه الآثام الظاهر لكن تنطوي على قلب فيه كفر والعياذ بالله، وهنا قد يقول لي الحمد لله لست مُتكبِّراً لأنني ألبس كما يلبس الناس، لكن والله قد تكون من أزهد الناس في ثوبك وفي بيتك وفي أكلك وفي مشيتك – تمشي مُنكسِراً مُتخشِّعاً مُتطاطئ الرأس – وأنت من رؤوس المُتكبِرين، الكبر ليس في البدن وقد تمشي ترفع رأسك مثل سيدنا عمر وأنت غير مُتكبِّر، كيف كان يمشي سيدنا عمر؟ يمشي – ما شاء الله – فارعاً ومعه الدرة وهو في الداخل من سادات المُتواضِعين لله رب العالمين، فالكبر والتواضع ليسا بالتمثيل، هناك تعريف – والله الذي لا إله إلا هو – لم أجده إلا لرسول الله، والله هذا التعريف لا يقوله إلا نبي وإلا رجل رباني مُتألِّه أوفى على الغاية، قال ابن مسعود قال للرسول رجل يا رسول إن الرجل يُحِب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنةً، فقال ليس ذاك من الكبر، أي ليس هذا الكبر، البس أحسن لباس واركب أحسن سيارة وعش في القصر يا سيدي، سليمان – عليه السلام – ألم يكن كان عنده قصور وكان مُسلَّطاً في الإنس والجان وهو من المُتواضِعين لله رب العالمين ومن الزاهدين أيضا في الدنيا؟ انتبهوا لكي نفهم الدين بشكل صحيح، النبي قال لا ليس هذا هو، البس أحسن لباس وأحسن نعال واركب أحسن المراكب فليس هذا الكبر، إذن ما الكبر يا رسول الله؟ قال الكبر بطر الحق وغمط الناس، الله، احذر من بطر الحق، أنت عالم أو يُقال أنك عالم أو ترى في نفسك عالماً وأخطأت ورُدِدت إلى الصراط المُستقيم فقلت لا غير صحيح، أنتم مُخطئون، يا أخي بالدليل واضح أنك أخطأت، كبيرة جداً عليك أن تعترف، أنت مُتكبِّر، لو كنت مُتواضِعاً لقلت مُباشَرةً له ولو كان خصماً لك وقد نال منك نعشك الله بالحق كما نعشتني، جزاك الله خيراً، لقد رفعت وكشفت العمى عن عيني، بارك الله فيك، أنا راجع من فوري، هذا هو التواضع لله، لأن مَن أنت؟ في صحيح مسلم وعند الترمذي وغيرهما يقول الله – تبارك وتعالى – العز إزاري والكبرياء ردائي، العز الحقيقي لله والكبرياء لله.
يا ابنَ الترابِ ومأكولَ الترابِ غدًا أقصرْ فإنَّك مأكولٌ ومشروبُ.
لا يحق لأحد من البشر أن يتكبَّر، من تراب وإلى تراب، لماذا تتكبَّر؟ وأنت لست خالداً حتى، وأنت فقر وجاهل أيضاً، تجهل أكثر بكثير مما تعلَّم وتفتقر أكثر بكثير مما تملك وتغتني في وهمك، مسكين الإنسان، على كل حال قال فمَن نازعنى واحدة منهما قذفته في النار، وفي رواية قسمته ولا أُبالي، يا الله، هذا شيئ مُخيف حين تُنازِع الله العز أو الكبرياء يُذِلك – عز وجل – مُباشَرةً ويكسر ظهرك، قال قسمته ولا أُبالي، الكبر شيئ خطير جداً، الآن جرِّب أنت تُعاير نفسك بهذا المعيار المُحمَّدي المصطفوي قل لنفسك هل أنا مُتكبِّر أم مُتواضِع؟ قل إذا ظهر لى الحق هل أعود إليه أو لا أعود؟ وليس هذا فحسب، بعد ذلك هل أنطق بالحق أو أخفيه؟ قلبي يقول هذا حق لكنني لا أُريد أن أقول لأنني أحسده وأغار منه، سببته بالأمس فكيف أمدحه اليوم؟ لن أرجع، ومن ثم أنت مُتكبِّر ولن تدخل الجنة، فهذا ليس مثقال ذرة بل هذا أرطال من الكبر وأطنان أحياناً من الكبر، كأن تقول أنا لا أقدر على أن أرجع، أنا أخطأت في حق أخوي ومن المفروض أن أعتذر لكنني لن أعتذر، هل أنا أعتذر له؟ هو جاهل وأنا عالم، هو فقير وأنا غني، هو ليس سيداً شريفاً وأنا من نسل الرسول، وهكذا إلى آخر هذه الجنونيات، هل أنا أعتذر له؟ نعم تعتذر له وتعتذر لحذائه من أسفل أيضاً، قال له يا أبا ذر إنك امرؤٌ فيك جاهلية، قال على ساعتي هذه يا رسول الله مع كبر سني؟ قال له هل تقول لي هذا بعد أن صرت شيخاً كبيراً؟ هل تقول لي فيك جاهلية؟ قال له نعم، عيَّرته بأمه؟ ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى، يا رسول الله، يا حبيبي يا رسول، يا حبيبي يا محمد، يا مُعلِّم الناس الأخلاق الصحيحة، لم يقل هذا بلال بن رباحة ابن السوداء وهذا أبو ذر الغفاري سيد بني غفار وهى القبيلة الجبّارة المهيبة عند العرب وقد كانوا من قطاع الطرق في الجاهلية، لا يُوجَد هذا الكلام، يُوجَد العدل، قال الله وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ۩، قال له تقول لي هذا مع كبر سني؟ قال نعم، فيك جاهلية، ما زال فيك شيئ من الجاهلية، لم تتمحَّض لأخلاق الإيمان ولأخلاق الإسلام، هذه أخلاق الله، هذه أخلاق الربوبية، هذا هو الإسلام، هو – كما قلت مائة مليون مرة – ليس فلسفة وليس أيدولوجية، هذا دين إلهى، وهو آخر دين، هذا آخر شرع، فخذوه بقوة بالله عليكم وعليكن، خذوه بقوة لكي تسعدوا به ولكي تشرفوا به في الدنيا والآخرة، والله لن يكون أحد أسعد منكم ولا أشرف منكم لو أخذتموه بصدق حقيقي يا إخواني، اللهم أعِنّا جميعاً على ذلك وجمعوات، فما كان من أبي ذر إلا أن وضع رأسه على الأرض وأقسم بالله لا يرفعها حتي يطأ بلال رأسه بحذائه، رضوان الله على أبي ذر، هذا هو الخضوع للحق، أنت أخطأت في حق أخي ومن ثم سيكون حذاؤه أعلى مني حتى يغفر لي وحتي يجعلني في حل، ليس لدينا الكبر والانتفاخ الفارغ، الله يقول قذفته في النار، هذا كله بسبب الكبر، كم يسقط من نظري أخٌ شد ما رأيته وكثر ما رأيته جليلاً عظيماً حين يفوه بكلمات أرى فيها الكبر؟ يقول مَن أنت؟ كيف يقول مَن أنت؟ ومَن أنت أيضاً؟ عيب في حقك يا ابن الإسلام، كيف تقول هذا للناس؟ كيف تقول لأحد الناس مَن أنت؟ لماذا؟ ماذا صرت أنت؟ هل أنت أصبحت إلهاً من الآلهة؟ يا رجل تواضع لله، كن دائماً مُتواضِعاً، إذا حلَّ الله في قلبك كنت دائما مُتواضِعاً ربانياً وذليلاً لله وذليلاً للمُؤمِنين، قال الله مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ – الله يقول أذلة، اللهم اجعلنا كذلك – عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ۩، أنا ذليل لأخي المُؤمِن، لأن هذا مُؤمِن يحمل نور الإيمان في قلبه ويحمل شعار التوحيد ونور الإسلام، ومن ثم أنا ذليل له، سأُعينه على طريق الله ويُعينني إن شاء الله، لن يشمخ بعضنا على بعض، يقول عبد الله بن عمرو سأل رسول الله رجلٌ أي الناس أفضل؟ انظر إلى هذا السؤال العظيم، مَن أفضل شخص في الناس؟ اليوم لو سألت أصحاب الفهم المعكوس والتدين المنكوس فإنه سوف يقول لك الذي لحيته أكبر والذي يلبس كما كان يلبس الرسول والذي يحفظ أحاديث وآيات أكثر، لكن بالعكس قد يكون من شر عباد الله، قد يكون مُفتي فتنة ومُفتي دماء ومُفتي ذبح، يُحِث فتنة طائفية، رجل لا خير فيه، لا كثَّر الله في الأمم من أمثالهم، قسماً بالله أقول لا كثَّر الله من أمثالهم وأذهب الله بهم إن لم يهدهم، كيف يكون هذا الرجل خير الناس؟ انظر إلى الرسول وهو مُعلِّم الروح ومُعلِّم الأخلاق، قيل له يا رسول الله مَن خير الناس؟ قال كل مخموم القلب صدوق اللسان، أحسن الناس الذي قلبه مخموم ولسانه صدوق، قالوا صدوق اللسان عرفناه يا رسول الله – أي فهمنا معنى هذا – فما مخموم القلب؟ ما معنى مخموم القلب؟ أول مرة نسمع هذا، والحديث عند ابن ماجه وإسناده صحيح، قالوا صدوق اللسان عرفناه يا رسول الله فما مخموم القلب؟ قال هو القلب التقي النقي، قلب فيه تقوى وفيه نقاء، قال الله مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ ۩، انتبهوا فهذا مثل للمُؤمِن ولصدر المُؤمِن ولقلب المُؤمِن، هذا هو النور الإلهي، نور كوكب دري، قال هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد، أربع صفات ليست عند المُؤمِن، فهو ليس عنده إثم، وهنا قد تقول لي ما معنى الإثم هنا؟ هذه كلمة كبيرة، بل كبيرة جداً، قلب التقي النقي لا ينظر إلى زوجة جاره أو إلى زوجة أخيه أو إلى ابنة أخيه، لا ينظر إلا إلى زوجته ،هل فهمتم؟ هو عفيف، لا ينظر إلى ما عند الآخرين، ينظر فقط إلى ما له ويشكر الله ويسأل الله السلامة والسعادة والفوز للكل، هذا قلب تقي نقي، الله أكبر، اللهم مُنَّ علينا بهذا القلب، قلب التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي، لا يُوجَد بغي عنده، لا يبغي على الناس، لا يتطاول ولا يتعدي حدوده، القلب لا يتعدى، ليس اللسان مَن يعتدى وإنما القلب نفسه، انتبهوا إلى هذا، هل أدركتم الخطورةالآن؟ ليس اللسان مَن يعتدى وإنما القلب، بعض الناس يقول لك بلسانه أنت على رأسي من فوق وأنت من أحسن الناس لكن قلبه يقول عنك الحقير المُنافِق المُرائي المنافق فاللهم خلِّصنا منه، هذا كذّاب، هذا أحد الكذّابين الدجّالين، لكن القلب نفسه لا يبغي، يا الله، هو يلتزم حد الله تماماً، وهذه هداية ربانية، هذه هداية إلهية، اللهم اهدنا بهدايتك، وبعد ذلك ولا غلا ولا حسد، ليس عنده حقد، المُسلِم لا يحقد، هم يحقدون لكن هو لا يحقد، ولا يُوجَد عنده حسد، لا يقول لماذا هم وليس أنا؟ هو ليس عنده هذا بالمرة، ويفرح بالخير يصل للناس، يفرح كأنه له، النبي قال مَن عنده هذا القلب – مَن يتوفَّر على هذا القلب – هو خير الناس، هل تعرفون هذا الحديث أثار عجبي لجهة ماذا؟ لجهة المجاز الذي فيه، دائماً كنت يلذ لي هذا المجاز، مجاز ماذا؟ نحن نقم بيوتنا، أليس كذلك؟ أنت تقم بيتك، كلما رأيت فيه وساخة تُنظِّفه يومياً وتمسح وتغسل وتنفض الغبار فيُصبِح البيت جميلاً – ما شاء الله – وكأنه جنة صغيرة، كذلك تأخذ من لحيتك ومن شعرك وشعر آباطك، أسنانك تنظفها كل يوم بالخيط الحرير، وتُنظِّف ملابسك وإلى آخره، وهذا جميل، لكن الأهم من هذا والأجمل بكثير الباطن، الباطن يتسخ أسرع وأكثر مما يتسخ الظاهر، هو يتسخ بسرعة، اترك نفسك لمدة ساعتين فقط مع أُناس بطّالين من أهل الدنيا – والعياذ بالله – وسوف ينحرف قلبك، سوف تُحِب المعاصي وتُحِب الآثام، لسانك سوف ينحرف لأنك تجلس في الغيبة وفي النميمة، ما هذه المُصيبة التي حدثت لي؟ هذا حدث بسرعة، فالباطن أيضاً يتسخ بسرعة، ومن ثم هل يحتاج أو لا يحتاج إلى تنظيف وإلى قم؟ انتبه إلى هذا، ومن ثم ستقول لي يا ويلي، أنا لا أفعل هذا دائماً، أنا لا أفعل هذا بجد، أنا اترك باطني، وهذا معناه أنه خرب مُنتِن مُقفِر بشع قذر والعياذ بالله، لو بُث ما في السرائر لأنتن العالم لأن الناس لا يُنظِّفون بواطنهم، فتحتاج البواطن إلى تنظيف دائم، وأختم بأن النبي استعمل هذا المجاز، حين قال مخموم القلب، كيف هذا؟ ما معنى مخموم القلب؟ لغةً الآن هو من خممت البيت أو خممت الدار، أي إذا كنستها، انظروا إلى النبي وإلى هذا العقل، شيئ جميل الرجل هذا عليه السلام، عنده هذا المجاز من البداية، لسنا نحن مَن فكَّر وقال هذا، قال من البداية لابد أن تُنظِّف الداخل تنظيفاً مُستمِراً كما تُنظِّف أسنانك ووجهك وشعرك دائما حتى يلتمع بإذن الله تبارك وتعالى، وإياك أن تسمح له أن يتسخ، إياك أن تفعل، نظِّقه أول بأول، قال الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۩، فاللهم اجعلنا منهم.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، اللهم إنا نسألك في هذا اليوم الكريم من هذا المكان المُبارَك في هذه الساعة الُمبارَكة بحق (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) ألا تدع لنا ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرَّجته ولا كرباً إلا نفَّسته ولا ميتاً إلا رحمته ولا مريضاً إلا شفيته ولا غائباً إلا رددته ولا أسيراً إلا أحسنت فكاكه يا رب العالمين.
زِدنا ولا تنقصنا، وأعطِنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تُهِنا، وانصرنا على مَن بغى علينا بقوتك يا عزيز، يا جبّار، يا قهّار، يا رب العالمين، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تُبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا، لا تجعلنا مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تُسلِّط علينا بذنوبنا مَن لا يخافك فينا ولا يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ۩، اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (8/5/2015)
أضف تعليق