مراجعات على برنامج صحوة .. حلقة 22″ توظيف الدين لخدمة السياسة” (14)
أواصل مراجعاتي على برنامج صحوة الرمضاني الذي أذيع في قناتي روتانا خليجية ومصرية، وقّدمه الدكتور أحمد العرفج وضيفه الدائم المفكر الدكتور عدنان إبراهيم.
ومراجعاتي في هذا الجزء ستكون تكملة حول ما أثير في مداخلة الحلقة عن الأدب الإسلامي، وتعليق الدكتور عدنان إبراهيم عليها بقوله: ” الإسلاميون خاضعون لوهم الاكتفاء، ويظنون أنّه بما أنّ هذا الدين كامل إذا نحن يمكن أن نبني سياسة واقتصاد وعسكرية إسلامية، وإدارة إسلامية ، وأدب إسلامي ..، وممّا قاله إنّ مشروع الأدب الإسلامي أجهض، وكل هذه الأوهام ما هي إلّا فقّاعات..”
وقد بيّنتُ في الأجزاء السابقة ما حواه القرآن الكريم من آيات بيّنت أسس الحكم والاقتصاد، والموارد المالية، والعسكرية في الإسلام، وتنظيم قتال المعتدين، ومعاملة أسراهم، إضافة إلى ما حواه من علوم كعلم الأجنة وخلق الكون والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا وعلوم أعالي البحار وجغرافية وفلك وإدارة، وتفسير لحركة التاريخ، كما بيّن موقفه من الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة ، ومن الشعر ممّا يؤكد أنّ كل هذا كان حقيقة، وليس وهمًا، ولا فُقّاعة.
وهذه العلوم هي الأسس التي قامت عليها الحضارة العربية والإسلامية، فالعلماء المسلمون لم يكونوا مجرد ناقلين ومترجمين لعلوم الحضارات القديمة، وإنّما عدّلوا أخطاء القدماء، وأضافوا إليها ممّا تعلموه من القرآن الكريم (فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون)[1]
وقد بيّنتُ في الجزء السابق من هذه المراجعات على أهمية مصطلح الأدب الإسلامي لفقدان أدب الأمة العربية هويته العربية والإسلامية، لتأثره إلى حد كبير بالمذاهب الفكرية والفلسفية الغربية قديمها وحديثها بعللها وعلّاتها، كالكلاسيكية الأغريقية المخالفة للتصور الإسلامي للخالق جل شأنه والإنسان والكون والحياة والخير والشر والقدر، وبيّنتُ تأثر أدب الأستاذ توفيق الحكيم إلى حد كبير بها، وكذلك عدد من كبار الأدباء ، وكذلك تأثر بها شعراء الحداثة مثل صلاح عبد الصبور ، وأمل دنقل وأدونيس ، وغيرهم، وسأوصل الحديث عن المذاهب الغربية وأثرها على الأدب العربي ممّا استلزم إيجاد مصطلح الأدب الإسلامي لإعادة الهوية العربية والإسلامية لهذا الأدب الذي ذاب في تلك المذاهب، وسأتحدّث في هذه الحلقة عن :
الفلسفة الواقعية
تستمد الفلسفة الواقعية تصورها للإنسان من النظرة المادية الحيوانية للإنسان القائمة بدورها على الداروينية القديمة ، وقد ظهرت الحركة الواقعية في القرن التاسع عشر كرد فعل للمذهب الرومانتيكي المغرق في الخيال ،وتقوم الفلسفة الواقعية على المادي الملموس ،فلا تؤمن بوجود حقيقة إلاَّ ما تستطيع الحواس أن تدركه ، وما لا تدركه الحواس فهو غير موجود ، أو على الأقل شيء ساقط من الحساب ، وهذا ما جعل الأستاذ نزار قبَّاني يقول: ( أنا لا أؤمن بوجود النار إذا لم أحترق بها ..وأنا من المستحيل عليَّ أن أكتب عن شعر حبيبتي الطويل إذا لم يتكسر بين يدي كأعواد الزنبق)
وإذا كانت الواقعية الغربية الحديثة تؤمن بأنَّ الإنسان يصل إلى الحقائق عن طريق فكره فإنَّ هذا فيه من الخطورة ما فيه ؛ إذ هناك من الحقائق ما لا يمكن للعقل أن يصل إليها عن طريق أدواته المعروفة ، فالعقل البشري مهما أوتي من عبقرية وذكاء ، فهو قاصر عن إدراك بعض هذه الحقائق كوحي الله لأنبيائه ، وكحادثتي الإسراء والمعراج .
أمَّا عن نظرة الفلسفة الواقعية الغربية للحياة فيعبر الدكتور محمد مندور عنها في كتابه “الأدب ومذاهبه ” فيقول هي وجهة نظر خاصة ترى الحياة من خلال منظار أسود ، وترى أنَّ الشر هو الأصل فيها ، وأنَّ التشاؤم والحذر هما الأجدر ببني البشر لا المثالية والتفاؤل)
هذا وقد كثرت تفرعات الواقعية ومصطلحاتها ، فلقد بلغت الثماني والعشرين ، والذي يعنينا منها في موضوعنا هذا هو :
الواقعية الاشتراكية
لقد ورد تعريف هذه النظرية رسمياً في إحدى مواد دستور اتحاد الكتاب السوفيت الذي وضعه أول مؤتمر عام لهذا الاتحاد سنة 1934م ، ونص المادة هو: ( أنَّ الواقعية الاشتراكية هي المنهج الأساسي للأدب والنقد الأدبي السوفيتيين ، وهي تتطلب من الفنان أو الأديب تمثيله الواقع في حالة نموه الثوري تمثيلاً صادقاً ، وعلى هذا فإنَّ صدق التمثيل الفني للواقع يجب أن يرتبط بنوعية العمال ويدعم إيمانهم بروح الاشتراكية)”[2]“وتحدد على لسان “أندريه شدانوف” مدير تنظيم الحزب آنذاك في لننجراد على الوجه التالي : ( إنَّ الرفيق ستالين قد عيَّن كتاباً مهندسين للنفس البشرية فما معنى هذا؟ وأية واجبات تقع على عاتقهم بهذه التسمية ؟ معناه أولاً : معرفة الحياة لا بطريقة أروسطية ميتة ، ولا ببساطة كواقع موضوعي ، وإنَّما كواقع ينمو ويتطور ثورياً ، ولهذا لابد من أن يرتبط العرض الفني الأمين للواقع وللتاريخ بمهمة التربية الأيدولوجية للإنسان العامل وصياغته بروح الاشتراكية ،هذا هو المنهج الذي نسميه في الأدب والنقد منهج الواقعية الاشتراكية)”[3]“.
إنَّ نص هذه المادة يبين أنَّ الواقعية الاشتراكية هي المنهج الأساسي للأدب والنقد الأدبي السوفيتيين.
هذا وتوجد هذه الفلسفة في أجزاء كثيرة من بلاد العالم المعاصر رغم اختلاف مسمياتها ،فتارة يطلق عليها الاشتراكية الماركسية نسبة إلى كارل ماركس ، أو الماركسية اللينينية نسبة إلى ماركس المصمم ،ولينين المنفذ، أو الشيوعية بوصفها تضم كل الأفكار الشيوعية السابقة وتبلورها أو الاشتراكية العلمية ، أو الواقعية الشيوعية ،وتعتبر كتابات ماركس وانجلز هي أوثق المصادر لفهم تطور الواقعية الاشتراكية”[4]“.
نظرة الواقعية الماركسية والاشتراكية للإنسان
إنَّ نظرتها للإنسان هي ذات نظرة الماركسية أو الشيوعية ، وهي نظرة جزئية ،إذ تأخذ في حسابها الوجه المنظور للإنسان “المادي المحسوس “، وترفض أو تهمل الجانب غير المنظور ، وأعني به “الجانب الروحي”، وبالتالي تحول الإنسان إلى مادي آلي ؛ لذا كان موقفها من مشكلة التناقضات الداخلية في الذات الإنسانية موقف سلبي ،لأنّها بدلًا من أن تقضي على هذه التناقضات بتوحيد عنصري المادة والروح كما فعل الإسلام الذي وحد بين عنصري الإنسان المادة والروح ، ووازن بينهما، فلقد بيَّن أنَّ الإنسان في أصله مادة وروح يقول تعالى ( وإذ قال ربك للملائكة إنَّي خالق بشرًا من صلصال من حمأ مسنون فإذا سويته ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين)”[5]“،فإنَّها أنكرت القيم الروحية ، وبهذا شوهت الإنسان ، وكان لابد لهذا التشويه من ثمن هو رد الفعل الذي جابهته وتجابهه من طبقة المفكرين الذين التزموا بها حيناً من الدهر ، فلم يجدوا فيها سوى تجربة مرة لا لتخلص الإنسان من تناقضه بقدر ما تزيده تمزقًا وضياعًا ، ويرجع هذا إلى تأليه الاشتراكية أو الماركسية للمادة ، وقصرت الإدراك لديها على الحواس الخمسة القصيرة المدى ؛ إذ لم تستطع تجاوز الواقع المحسوس ،فلم تكن قادرة على تصور قوة خفية غير منظورة ؛ لذا فلقد أنكرت الفلسفات الغربية الحديثة من وجودية وماركسية واشتراكية ، وغيرها وجود الله، أمَّا المسلم فعقله المتفوق بقوة تصور الإله غير المحدود استطاع أن يصل إلى آفاق من التصور لا يمكن أن يصل إليها ذوا الإله المحسوس أو المحدود فجاء الواقع الغربي كما هو دائمًا واقعًا ماديًا وصفيًا تسجيليًا ،ومفهومه ساذجًا سطحيًا لا يتعدى إدراك الحواس ، وهو مفهوم أقرب إلى مفهوم الطفل وإدراكه للأشياء”[6]“.
أثر الواقعية الاشتراكية على الأدب العربي
هذا وتظهر الواقعية الاشتراكية بوضوح في شعر بدر شاكر السيَّاب الذي ينتمي إلى الحزب الشيوعي العراقي مثل قصيدة الأسلحة والأطفال ، كما تظهر الواقعية الاشتراكية في شعر عبد الوهاب البياتي ؛إذ عالج قضية الفقر من وجهة النظر الماركسية لا الإسلامية مع أننَّا لو عالجناها وفق تعاليم الإسلام لما وجد فقر في البلاد ، وتظهر الواقعية الاشتراكية أيضًا في شعر نجيب سرور وآخرين.
هذا في مجال الشعر ، أمَّا في مجال القصة والرواية فنجد الأستاذ نجيب محفوظ من أبرز الذين آمنوا بالماركسية وطبقوا فلسفتها الواقعية على شخوص قصصه ورواياته؛ فكانت نظرته إلى الإنسان من خلال شخوصه نظرة مادية بحتة ،فقسمهم بصورة آلية وميكانيكية إلى أغلبية ساحقة تعيش حياة مادية بحتة ، وقلة نادرة منهم تحاول أن تعيش حياة روحية إنسانية ، ويرجع في اعتقاد نجيب محفوظ بالفصل بين الجانبين الروحي والمادي إلى فيلسوفه المفضل “برجسون”[7].
هذا وقد اعتبر الأستاذ نجيب محفوظ أنَّ الحل الأمثل لمشاكل المجتمع العربي في الاشتراكية والماركسية ، وذلك في رواياته “القاهرة الجديدة” ،و”بين القصرين”، و “السكرية” ومحتوى الاشتراكية يبينه أبطال “اللص والكلاب” ، و”الشحاذ”.
ونلاحظ أنَّه يرمز للشيوعية بالإيمان الجديد ، ويصف الدين بالقوانين الهمجية.
الاشتراكية والماركسية في أدب نجيب محفوظ
إنّ فصل نجيب محفوظ بين المادة والروح في نظرته إلى الإنسان أدى إلى تحديد موقفه من الاشتراكية والماركسية وقد غلب على قصصه الانتماء اليساري ولاسيما في ثلاثيته، وفي القاهرة الجديدة، وثرثرة فوق النيل، والتي تحدث عن غياب الله، وحارة العشاق، وبداية ونهاية، واللص والكلاب، وأولاد حارتنا. ويبين الدكتور غالي شكري أنّ نجيب محفوظ أراد في روايته أولاد حارتنا أن يستبدل الدين بالعلم، فيقول:” فلقد أحسن نجيب محفوظ منذ الوهلة الأولى أنّ الدين يشكل ركيزة أساسية في بناء القيم الذي نعيش بين جدرانه في الشرق وعن طريق الدين أراد أن يدخل عالمنا الروحي حتى يستطيع – وهو داخل البناء – أن يستبدل هذه الركيزة الكبرى في حياتنا بركيزة أخرى عرفت طريقها إلى العالم المحتضر منذ زمن بعيد. وكانت الركيزة الجديدة التي حاول نجيب محفوظ أن يحلها مكان الركيزة القديمة هي العلم، ثم يقول:” وسواء كان نجيب محفوظ يعني بحارته: الإنسانية أو مصر، أو كلاهما معاً، فإنّ قضية ” الدين والعلم ” هي المحور الرئيسي في الرواية بمعنى أنّها العمود الفقري المكون من حلقات الانتماء التي تنتهي بالاشتراكية، ويري نجيب أنّ الاشتراكية هي التي تنقذ مصر من أزمتها الاجتماعية، ولذا نجده في المناقشات التي تدور بين أبطال رواياته عن الدين والاشتراكية والعلم ممن يمثلون الانتماءين: اليساري المؤمن بالعلم، واليميني المؤمن بالله، تنتهي لصالح العلم والاشتراكية ليرسخ هذا الحل في الأذهان، لذا فإنّ رؤية الأستاذ نجيب محفوظ لأزمة المجتمع المصري – كما يقول الدكتور غالي شكري – كانت رؤية يسارية بل نجده يدعو إلى الإفادة من الفكر الماركسي، فيقول في ” السكرية ” على لسان عربي كريم: ” حسن أن تدرسوا الماركسية، ولكن تذكروا أنّها وإن تكن ضرورة تاريخية ، إلا أنّ حقيقتها ليست من نوع حتمية الظاهرات الفلكية “، أنّها لن توجد إلا بإرادة البشر وجهادهم فواجبنا الأول ليس في أن نتفلسف كثيراً، ولكن في أن نملأ وعي الطبقة الكادحة بمعنى الدور التاريخي الذي عليها أن تلعبه لإنقاذ نفسها والعالم جميعاً “، ويصف الدين بالهمجية فيقول: ” المجتمع الفاسد لن بتطور إلا باليد العاملة، وحين يمتلئ وعيها بالإيمان الجيد ( يقصد الماركسية ) ويحس الشعب كله كتلة واحدة مع الإدارة الثورية، فهناك لن تقف في سبيلنا القوانين الهمجية ولا المدافع. إنّ مهمتنا الأولى أن نحارب روح القناعة والخمول والاستسلام، أما الدين فلن يتأتى القضاء عليه إلا في ظل الحكم الحر “، ثم يختم حديثه بقوله: ” إن نشر العلم كفيل بطردهم، كما يطرد النور الخفافيش “، فهو هنا يعمق دعوته إلى الماركسية ويزيدها وضوحًا واكتمالًا.
ويصرح نجيب محفوظ عن إيمانه الجديد ، فيقول في مجلة ” الهلال ” الصادرة في شباط، فبراير 1970 م : ” لعل الإيمان الوحيد الحاضر في قلبي هو إيماني بالعلم وبالمنهج العلمي “، فالعلم في نظر نجيب محفوظ هو دين العصور الحديثة.
ولتركيز نجيب محفوظ على الاشتراكية والماركسية ودعوته لهما في معظم قصصه جاء اهتمام المستشرقين السوفييت بأدبه بصورة خاصة فقد أعدت خمس رسائل دكتوراه في أدب نجيب محفوظ من قبل المستشرقين السوفييت:
الرسالة الأولى: باسم ” الثلاثة إبداع الواقعية النقدية “، للمستشرقين الروسي روشين عام 1967 م، والثانية: ” الروايات الاجتماعية الأولى لنجيب محفوظ “، للسيدة طاش محمد وف عام 1970م، والثالثة: ” قضية البطل في روايات نجيب محفوظ “، للسيدة ( أ. ج نادر ) عام 1971م، والرابعة: رسالة السيدة لوتس بوراجينيا عام 1982، وهي ” الروايات التاريخية في أدب نجيب محفوظ “، للسيد ” على زاده زاردوشت ” عام 1986م.
والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا هذا الاهتمام من الاستشراق الروسي بأدب الأستاذ نجيب محفوظ؟
الواقعية السحرية
يُعرِّف الدكتور صلاح فضل الواقعية السحرية في كتابه “الواقعية في الإبداع الأدبي فيقول: ” الواقعية السحرية هي الاندفاع في مجال إغراق الخيال حتى تخرج عن نطاق خصائص الواقع الملموس لتجسيم مواجهة الإنسان للظروف المحيطة به ؛إذ لا تكتفي في جوهرها بالتحليقات الخيالية التي تنتهي إلى تحويل الواقع وتحليله إلى علاقات غير عادية ، ولا مألوفة ،ولكنها تعثر في نفس هذا الواقع على أشكال تبدو وكما لو كانت حُلماً لا يمت بأية صلة للعنصر العادي المألوف ، وبهذا تعمل على أن يعيش الخيال المغرق في الواقع نفسه ، فتكمل لها الدورة الخيالية ،وتكون عالماً جديداً توقد في داخله المظاهر الموضوعية للواقع جنباً إلى جنب مع لب الأسطورة الخرافية ، فالأعمال الأوربية وفق الواقعية السحرية تعبر عن رؤية كونية سحرية للعالم ، رؤية لا تاريخية تمحى فيها الحدود بين الأحياء والجماد ،أو بين الثقافة والطبيعة حيث تكتسب الأشياء والظواهر خواص وقدرات مميزة.”
ولنتعرَّف أكثر على الواقعية السحرية فسوف أورد مضامين بعض القصص التي تمثل الواقعية السحرية
قصة “رحلة إلى بذرة ” لكاربنتر:
يسير الزمن في هذه القصة إلى الخلف وذلك بواسطة،
بلورة سحرية ،فالخادم العجوز يرى هدم بيت سيدن (دون مارسيال) الذي مات منذ فترة وجيزة ، وكاد العمَّال يفرغون من رفع بعض الأنقاض حتى يأخذ الخادم في التشنج ،ويأتي بحركات غريبة، يتقلب على الأرض فوق ما تبقى من حصى وأحجار ،وفي كل مرة ينقلب فيها كأنَّه عصاً سحرية، ينقلب الزمن معه منساباً إلى الوراء فيعود السيد إلى الحياة ، ويعيش متراجعاً في الزمن حتى يصل إلى حالته الأولى ، وهي الطين ، يعود البيت إلى خلاء ، وعندما يحضر العُمَّال في اليوم التالي لإنجاز مهمتهم يجدون أنّها قد تمَّت ، ويعتمد المؤلف في إيهامنا بأنَّ الزمن يعود إلى الوراء على الصور المعكوسة ،فالشموع المشتعلة تتزايد بدلاً من أن تتناقض والأزواج يذهبون إلى الكنائس لاسترداد حريتهم ،ويردون خواتم الزواج التي تعود بدورها إلى حالتها الأولى سبائك في مصانع الصاغة ،ويعود الأشخاص إلى طفولتهم ،والطيور إلى أعشاشها حتى تصبح بيضاً مرة أخرى ،ويتحول الأثاث إلى شجر والنسيج إلى نبات)
هذا ويعلق الدكتور صلاح فضل على هذه القصة قائلاً : ( ومن هذا ينجح المؤلف في خلق عالم لا تسيره قوانين الطبيعة التجريبية ،وإنَّما يخضع لقوى عليا تنتهي لدنيا السحر في محاولته لفض أسرار الكون.
ولا شك أنَّ هذه الطريقة تتصل بأسلوب (الفلاش باك) المعهود في السينما خاصة ولكنَّها تختلف عنه بما توهمه من قلب أوضاع التطور وعكس مسار الزمن تاركاً نقطة الانطلاق بلا عودة ومعتمدًا لا على الذاكرة ، وإنَّما على معايشة التاريخ في رحلة مستمرة إلى الوراء ، إلى البذور.
ولتتضح الصورة أكثر أمام القارئ فلنتوقف عند قصة:
مائة عام من الوحدة
للقصَّاص الكولمبي ( جارثيا ماركيز)،وتدور حول قرية تسمى “ماكوندو” اعتبرها النقاد كونًا مصغرًا لأمريكا اللاتينية ، وتقوم هذه القصة على عنصر ينتمي إلى عالم التنبؤات والأسرار ، فيرى الكولونيل “بويريا” مؤسس هذه القرية يرى فيما يرى النائم أنَّه قامت في مكانها مدينة ينبعث منها الضجيج ،وتتكون حوائطها من المرايا ، فسأل عنها فأجابوه باسم لم يكن قد سمع عنه من قبل ،وليس له أي معنى ،ولكن كان له رنين غير عادي في الحلم ،وهو “ماكوندو كذلك يتدخل في دمارها عنصر آخر ينتمي إلى عالم الأسرار ؛ إذ تهب عليها ريح عاتية لا تترك لها أثراً ،وترمز هذه المرايا إلى السحر والأحلام.
ويعلق الدكتور صلاح فضل على هذه المرايا قائلًا : ( إنَّ لها وظيفة مميزة هي رسم الحدود أو الخط الفاصل بين عالميْن : الداخلي الذي يتمثل في الأحلام والخيال ،والخارجي وهو الواقع ،فالمرآة والحلم لا ينفصلان ،والحلم يفتح أبواب العجائب والسحر ،وفي هذه الحالة بالذات يفتح ( ماكوندو) التي تظهر أمام عيوننا ،ثُمَّ لا تلبث أن تختفي كحلم غريب، ثّمَّ يتحدث الدكتور صلاح فضل عن الزمن في هذه القصة فيقول : ( وعندما ندرس مشكلة خاصة في هذه القصة مثل مشكلة الزمن نرى أنَّه لا يوجد خارج ذات المؤلف ؛إذ أنَّه مجرد لعبة في يديه يصنع به ما يشاء.
ويتحدث عن الغرائب والحوادث الخارقة للعادة في هذه القصة ، فيقول : إنَّ بعضها يظل بدون تفسير لأنَّه ينتمي إلى عالم السحر الذي يستعصى على الشرح ،وذلك مثل أوراق “ملكياوس” الصفراء التي يحاول بعض الأطفال الاستيلاء عليها بعد التسرب خلسة إلى حجرته ،فتتملكهم قوى غريبة ، وترفعهم عن الأرض يظلون معلقين في الهواء إلى أن يعود الساحر ،وينتزعها من أيديهم ،فيهبطون إلى الأرض عندئذ ،ويمارسون حركتهم العادية ،وكثير من هذه التفاصيل الخارقة للعادة لها وظيفة واضحة هي التعبير عن سيطرة الإنسان على المادة والطبيعة.
ويستطرد الدكتور صلاح فضل ، فيقول : ( أمَّا بعض العناصر الغربية مثل ظهور أشباح الأموات ومعايشتها للأحياء بطريقة طبيعية لا تثير الذعر بينهم ،ولا تغير من عاداتهم اليومية الرتيبة فإنّ هذا يعود إلى المعتقدات الشعبية التي ترى أنَّ من حق الأشباح والأرواح أن تأتي لتذكر الأحياء بوجودها ،وبهذا تتفادى الموت النهائي الذي لا يحيق بها إلاَّ عندما تطويها صحائف النسيان ،ولا ترد على خاطر كائن حي.
ومن هنا نرى في هذه القصة ، وفي غيرها كثيراً من شخصيات الأموات ،وهي تهيم في المنزل بين الأفراد الذين يحسون بوجودها ويعايشونها في وئام شديد حتى يستقر لدينا انطباع غريب بأنَّ الحد الفاصل بين الحياة والموت يتلاشى بالتدريج حيثُ تختلط الأشباح وتتحرك وتمارس “حياة” غامضة بين سائر الأحياء.
أعتقد أنَّه من خلال هذا العرض السريع والموجز للواقعية السحرية قد اتضحت لنا أهم معالمها وملامحها ؛ إذ نستطيع الآن أن نقارن بينها وبين ألف ليلة وليلة ، كما نستطيع تحديد نظرتها إلى الله الخالق جلَّ شأنه ،وإلى الإنسان والكون والحياة، وموقفها من الموت.
فكما رأينا فالواقعية السحرية تجعل من الإنسان إلهًا يغير ما في الكون وفق ما يريد فكيف تعتبر من تراثنا العربي ، إن كانت قصص ألف ليلة وليلة ، تتحدث عن الخيال والسحر وعالم الجن ،فهي تتحدث عن الخير والشر،وتجعل الخير هو الذي ينتصر دائمًا ، فهي تعتبر السحر والشعوذة شراً يحاربه أبطال القصص حتى ينتصروا عليه ، ولكن الواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية تعتبر السحر هو الحقيقة الواقعة التي لا يصارعها أحد ، وتسقط الموت ، وتجعل الأموات يعيشون مع الأحياء ، وكأنَّهم ليسوا بأموات ،فربط الأستاذ خزندار بين الإثنين غير موفق ، و أرى قوله هذا فقط من أجل إقناع القارئ العربي المسلم بقبول هذا المذهب ، تمامًا كما حاول الدكتور عبد الله الغذّامي أن يوهم القارئ العربي المسلم أنَّ الحداثة من تراثنا.
الواقعية السحرية تحت مجهر التصور الإسلامي
نظرة الواقعية السحرية إلى :الخالق جل َّ شأنه
لقد ألغت وجود الله ، وجعلت من الإنسان إلهًا ،فالإنسان – كما رأينا – في الواقعية السحرية هو المسيطر على الكون ، وما فيه ، فيغيِّر فيه ما يشاء ومتى شاء ولعلَّ هذه ردة فعل للمذاهب المادية كالبنيوية التي ألغت دور الإنسان واعتبرته شيئاً من الأشياء أو آلة تدور.
وهنا ابتعدت ْعن جوهر العقيدة الإسلامية القائمة على الإيمان بوجود الخالق الواحد الأحد بيده ملكوت كل شيء وهو السميع البصير ، مدبِّر هذا الكون ، والمسيطر عليه ، وما الإنسان إلاَّ مخلوق مكلف سخَّر الله له ما في الكون إلاَّ أنَّه ليس المسيطر على الكون ، وليس من إمكانه تغيير سننه ونواميسه ـ كما رأينا في قصة رحلة إلى بذرة ـ فلا تغيير لسنن الله.
نظرة الواقعية السحرية إلى الإنسان
- غالت في تقدير الإنسان وأوصلته إلى مرتبة الألوهية، وهذه النظرة تخالف نظرة الإسلام إلى الإنسان.
- نظرت إلى الإنسان أنَّه روح فقط ، وألغت ماديته ، فجعلت أرواح الموتى أشباحًا تعيش مع الأحياء ،وتمارس نوعًا من الحياة الناقصة. وهذه نظرة تخالف نظرة الإسلام إلى الإنسان ، فالإنسان روح ومادة وازن الإسلام بينهما، وهنا تتجلى عظمة الإسلام ومعجزته ،يقول تعالى : ( وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدُّنيا) .
نظرة الواقعية السحرية إلى الكون
عدم احترامها لسنن الكون ؛ إذ أنَّها جعلت الزمن يتراجع وتعود المخلوقات إلى سيرتها الأولى ـ كما رأينا ـ في رحلة إلى بذرة، وهذا يتنافى مع الإسلام ، فأولى العقائد التي حرص الإسلام على غرسها في نفوس أبنائه أنَّ هذا الكون الذي يعيش فيه الإنسان لا يسير جزافاً ،أو يمشي على غير هدى ، كما أنَّه لا يسير وفق هوى أحد الخلق فإنَّ أهواءهم مع عمَّاها وضلالها متضاربة متنافرة ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض فيهن)[8]
والكون مرتبط بقوانين مطردة وسنن ثابتة لا تتبدل ولا تتحول ( فلن تجد لسنة الله تبديلا) [9]
فالعقيدة الإسلامية تقوم على احترام السنن الكونية ،وطلب المسببات من أسبابها التي ربطها الله بها ،والإعراض عمَّا يُقال عن الأسباب الخفية المزعومة ،والتي تقوم عليها الواقعية السحرية التي تلجأ إليها عادة سكنة المعابد ومحترفو الدجل بالأديان.
نظرة الواقعية السحرية إلى الحياة
خالفت العقيدة الإسلامية في النظر إلى الحياة ؛إذ جعلت الإنسان يعيش حياتين في هذه الدنيا حياة كروح وجسد ، وحياة ثابتة كروح وشبح بعدما يموت . فهي هنا أسقطت الموت ،وبالتالي ألغت الجزاء والثواب ،والحياة الآخرة ، بينما الحياة في الحياة الدنيا في الإسلام هي واحدة ،وبعد الموت ينتقل الإنسان إلى الحياة الآخرة، ليلقى حسابه على ما فعل في دنياه ، وهي دار الخلود.
هذا وتعتمد الواقعية السحرية على التنبؤات والخرافات والسحر والأساطير ، وجعلت من السحرة والكهَّان والعرَّافين أبطالاً لقصصها ، وهذا يتنافى مع العقيدة الإسلامية التي حاربت الكهَّان والعرَّافين الذين يدَّعون معرفة الغيوب الماضية أو المستقبلة عن طريق اتصالهم بالجن ،أو غير ذلك،فأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم الحرب على هذا الدجل الذي لا يقوم على علم ولا على هدى ،ولا على كتاب منير، وتلا عليهم قوله تعالى : ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلاَّ الله )[10]
فلا الملائكة ولا الجن ، ولا البشر يعلمون الغيب ، وأخبر الله عن جن سليمان : ( أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين)[11].
فمن ادَّعى معرفة الغيب الحقيقي ، فهو كاذب على الله ، وعلى الحقيقة ، وعلى النَّاس ، وقد جاء بعض الوفود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: ( من أتى عرَّافاً فسأله عن شيء فصدَّقه بما قال لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ) رواه مسلم.
وقوله عليه الصلاة والسلام : ( من أتى كاهناً فصدَّقه بما قال فقد كفر ، بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.)
أمَّا السحر فهو البطل الحقيقي للواقعية السحرية وعمادها ، وهو في الإسلام من كبائر الذنوب ، يقول تعالى : (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) [12] وقال صلى الله عليه وسلم : ( اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا يا رسول الله وما هي ؟ قال : “الشرك بالله، والسحر ، وقتل النفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحق، وأكل الرِّبا ، وأكل مال اليتيم ،والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) متفق عليه.
وقد اعتبر فقهاء الإسلام السحر كفراً ،وذهب بعضهم إلى وجوب قتل الساحر ، وقالوا يقتل ، ولا يُستتاب تطهيراً للمجتمع من شره ،وعلمنا الله عزَّ وجل الاستعاذة من شر أرباب السحر : ( ومن شرِّ النَّفاثات في العقد)[13]
والنفث في العقد من طرائق السحرة وخواصهم، وفي الحديث الشريف : ” من نفث في عقدة فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ” رواه الطبراني .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ” ليس منا من تطيّر له ،أو تكهّن له ،أو سحر أو سحر له ” رواه البزَّاز بإسناد جيد والطبراني بإسنادٍ حسن.
ويقول عليه الصلاة والسلام : ” لا يدخل الجنة مدمن خمر ،مؤمن بسحر ، ولا قاطع رحم” رواه ابن حبَّان في صحيحه.
فالحرمة هنا ليست على الساحر وحده، وإنَّما تشمل كل متبع السحر مشجع له ، مصدِّق لما يقول.
هذه هي الواقعية السحرية ، السحرية التي طالب البعض أن اتكون بديلًا للحداثة سيتحول بها مجتمعنا العربي إلى عالم السحر والشعوذة ،ويتحكم فيه السحرة والكهَّان والعرَّافين، فسيكونون هم الأبطال المسيطرون على النَّاس. وبالواقعية السحرية سيتحول مجتمعنا إلى عالم يسوده الرعب ، كما هو ظاهر في موجة الأفلام السينمائية الأجنبية ،و التي نرى فيها مصَّاصي الدِّماء والسحرة ، وهذه موجة من الأفلام بدأت الظهور في الأفلام العربية ، كفيلم “البيت الملعون” ، وفي هذا الفيلم تتجسد أمام بطلة الفيلم أحداثًا قد مضت فتُرى لها هذه المشاهد نتيجة قيام طبيب نفسي بحركات غريبة تجعله يمتلك قوى خفية.وما رأينا فالواقعية السحرية تجعل من الساحر يعيد الحياة إلى الأموات ، كما رأينا في قصة “رحلة إلى بذرة” ،فالله وحده هو الذي يُحيي ويميت .
فالواقعية السحرية تجعل مجتمعنا العربي يغرق في اللاوعي ، وينشغل بالسحر والشعوذة عن قضاياه المصيرية، وبذلك يتحقق ما تريده الصهيونية ؛إذ جاء في البروتوكول الرابع عشر : “وقد نشرنا في كل الدول الكبرى ذوات الزعامة أدباً مريضاً قذراً يغثي النفوس ، وسنستمر فترة قصيرة بعد الاعتراف بحكمنا على تشجيع سيطرة مثل هذا الأدب.”
وأخيراً أقول : إن رضيِت أمريكا اللاتينية بالواقعية السحرية لإحياء تراثها القائم على السحر والأساطير ،ووجدت لقومياتها فيها توحيدًا ،فنحن أمة إسلامية نستطيع بعقيدتنا أن نخرج من جميع مستنقعات الهزائم إنْ تمسَّكنا بها.
فالواقعية السحرية ليست هي المخرج ، وإنَّما التمسك بالعقيدة الإسلامية والالتزام بأدب يوافق نظرة الإسلام للخالق جل شأنه والإنسان والكون والحياة ،هذه الحقيقة التي أريد أن يدركها جميع أدباء ونقَّاد الحداثة والبنيوية ، ودعاة الواقعية السحرية ، ولو كانت أمريكا اللاتينية تدين بالإسلام لأخذت بالعقيدة الإسلامية وتمسَّكت بها ، ولما لجأت إلى السحر والأساطير.
أثر الواقعية السحرية على الأدب العربي
ويظهر هذا الأثر واضحًا في قصة ” طريق الحرير” للروائية االسعودية رجاء عالم
ثنائية الواقعية السحرية وتناسخ الأرواح في طريق الحرير
لقد مزجت رجاء عالم في هذه الرواية الواقعية السحرية وتناسخ الأرواح في مزيج غريب متنافر لا انسجام بين شخوصها ،ولا تسلسل في أحداث الرواية ولا ترابط بينها ،هي مجرد أسماء تذكرها لبعض الشخصيات التاريخية ،أو تجسدها بالحضور طبقاً للواقعية السحرية التي تسقط الموت ،وتجعل الأموات يعيشون مع الأحياء دون أن يكون لهذه الشخصية أي دور في الرواية يليق بمكانتها العلمية والفكرية ،مثل شخصية ابن خلدون ، فدوره في الرواية مجرد لاعب شطرنج يُحرك بعض أحجاره، وحتى عندما يُحرِّك حجارته لم تنقلنا الروائية إلى عالم ابن خلدون ،إلى مجتمعه ،إلى فكره ،كما نقلتنا إلى عالم جد الراوي في مكة المكرمة عندما يُحرِك حجراً من حجارته ، فاستخدمت رقعة الشطرنج بدلاً من البلورة السحرية التي استخدمها الخادم العجوز في قصة “رحلة إلى بذرة ” لكاربنتر . • فقد أساءت إلى ابن خلدون في هذه الرواية ، وكل الذي قالته عن ابن خلدون ” مقيماً تحت ظلِّه العبر” [ ص 200[، ولم تورد شيئاً عن العبر بتجسيد بعض المقاطع منه مثلاً، بينما نجدها تقحم اسم الدكتور عبد الله الغذِّامي كأحد حُرَّاس التواريخ وأسرارها ، وهو لا علاقة له بالتاريخ، وجعلت جيوش الظاهر بيبرس يأتون ليأكلوا فقط من موائد العُرس المحفوفة بتطير ابن خلدون ..” [ ص 180] • كما أساءت إلى قدسية بيت الله الحرام عندما جعلت شيخ سقاية مكة يستخدم السحر الأسود في خلوته بالحرم ، وجعلت شياطين الجن يدخلون عند الكعبة تارة على هيئة كلب أعور ، وتارة أخرى على هيئة ثعبان ، وجعلت من خلوات الحرم مقابر للموتى.
الواقعية السحرية في طريق الحرير
تتجلى الواقعية السحرية في قولها : ” حين اجتمعنا للميت كان مُطهراً ، ومكتوبة جبهته بكلمات الحياة ، ولم نتمكَّن لفرط حيويته من دفنه ، فأقمنا حول القبر المفتوح ، وضربنا نارنا ، وطال سهرنا ،وهو يُعرّفنا على نفسه ،قال : ( أنا آخر الأمراء ،خلِّفتُ تميم ورائي ،وأقمتُ عمري على مغرب الجزيرة ،إمارتي أعلى جبال كرا،مغزولة بالآبار ،ومغسولة أعتابها بالبَرَد ) سجَّلنا خبرّه في كتبنا بمداد شجرة ،وتشتتنا في السهر.” [ ص 20] • وقولها على لسان الراوي : ” عندها أعترف أحمد أمام الرجال والهجَّانة بأنَّ جسده مدفون في (خلوة) بنزلة الصفا بمكة…”[ص 63] • جعلت شيخ سياقة الحجاج في مكة يستخدم السحر ،وجعلت الجان هم الذين نقبوا عن آبار مكة المكرمة ،وقبل النقاد والقراء منها بهذا ،ووصِفت بالروائية المكية التي جسَّدت واقع المجتمع المكي!!! • تقديم القرابين للجان واستخدام السحر ومفاسدة إناث الجان في طريق الحرير،من ذلك قولها على لسان الراوي : ” ولا نَفس …حوقلت نسوةٌ بأنَّ القربان ذهبَ بالطفلة قبل أن تختم رقصتها الأولى . ” [ ص 82] • وقولها :”ثلاثة قرابين لخاتمة الثلاثة ، وأربعة للأربعة ، حتى السابعة : عندها امتدت خرفان سبعة تكنس بدمائها أعتاب الدار بأعلى الشامية ..سيول سبعة نزلت طَلْعة القرار صوْب الحرم .. وكانت السامية تعبر جبال القرابين السبعة ”[ ص 81، 82] • وعندما أصيب جد الراوي بالشلل نقل إلى خُلوته بالحرم ” ولم يدع لعلم تطبيبه أو منادمته ..أقام في الخُلوة ما يُقارب الأربعين وحدة … بعدها خرج يمشي على قدميه..”[ص 147] • ثمَّ تقول : ” بعدها عُرف بخلواته الحوْلية ،له في كل أربعين وحدة وحيدة لا يقرب فيها زاداً ولا بشراً ،ويتصل هناك بقرائنه وأحمد وصحاريه الكبرى”[ ص 147] • فجعلت بطل روايتها يمارس السحر في خلوته بالحرم المكي !!!
تناسخ الأرواح في “طريق الحرير” • قولها على لسان الراوي :” وحرموا على جدي أحمد المتمثل بعبد اللطيف الكلام لما شاع من شعوذته”،فقولها “جدي أحمد المتمثل بعبد اللطيف ”[ ص 76]،أي روح جدها أحمد تناسخت في جسد عبد اللطيف. • وقولها : ” أطفأ المطرُ غبار جدي فظهرت دُكنة إلى جواره ،ثمّ تجسَّدت في هيئة بربري مسلم ،شرح لنا جدي أنّ البربري رفيقه منذ القرن الثامن الهجري ،وأنَّهما مولدان من جثة دولة خلَّقاها من طينة الحلم ،ثمّ لفظتهما في نزعها الأخير ،وكانت تحبل بالرتق وتتوالد..” [ ص 49]،وقولها :” وما عرف أحد أمات أم حي ، أنجب أم تناسخ؟[ ص144] طريق الحرير تحت مجهر التصور الإسلامي نظرة الروائية إلى :الخالق جل َّ شأنه • لقد ألغت وجود الله ،وجعلت من الإنسان إلهاً ،وذلك عند قولها عن جدها الذي كان يدرس الأحكام بلغات الحجاج التي لا تُحصى ،ولم يُعرف متى انفرد جُنده بتلقينه تلك الألسن ،وما كتب في المحفورة التي انطمست أجزاء منها ،واستطاعوا تجميع عام اعتكافه العاشر: ” ولفضولنا الغامر انفلتت نُثرة من المحفورة ،جاء فيها أنَّ : أحمد لمْ يتخذ زوجة قط ،ولكن جارية اللؤلؤ حملت من نظرته الأولى فجاءته بجدي عبد اللطيف ” [ص65] • وجعلها جميلة وسطى بنات شيخ السقاية تقرر الموت فتموت ، و” أُعلن موتها يوم الإثنيْن في عموم القافلة.“[ ص 214، 215] • وهنا ابتعدت ْعن جوهر العقيدة الإسلامية القائمة على الإيمان بوجود الخالق الواحد الأحد بيده ملكوت كل شيء وهو السميع البصير ،مدبِّر هذا الكون ،والمسيطر عليه ،وما الإنسان إلاَّ مخلوق مكلف سخَّر الله له ما في الكون إلاَّ أنَّه ليس المسيطر على الكون ،وليس من إمكانه تغيير سننه ونواميسه ـ كما في قصص رحلة إلى بذرة،وطريق الحرير ،وأصلة ـ فلا تغيير لسنن الله.
نظرة الروائية إلى الإنسان
غالت في تقدير الإنسان وأوصلته إلى مرتبة الألوهية، وهذه النظرة تخالف نظرة الإسلام إلى الإنسان. • نظرت إلى الإنسان أنَّه روح فقط ، وألغت ماديته ،فجعلت أرواح الموتى أشباحاً تعيش مع الأحياء ،وتمارس نوعاً من الحياة الناقصة .وهذه نظرة تخالف نظرة الإسلام إلى الإنسان ،فالإنسان روح ومادة وازن الإسلام بينهما،وهنا تتجلى عظمة الإسلام ومعجزته ،يقول تعالى : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [ القصص : 77] نظرة الروائية إلى الكون
عدم احترامها لسنن الكون ؛إ ذ أنَّها جعلت الزمن يتراجع وتعود المخلوقات إلى سيرتها الأولى ـ كأنَّ الإنسان يعيش فيه جزافاً ، أو يمشي على غير هدى ، كما أنَّه لا يسير وفق هوى أحد الخلق ،فإنَّ أهواءهم مع عماها وضلالها متضاربة متنافرة (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)[المؤمنون:71] • الكون مرتبط بقوانين مطردة وسنن ثابتة لا تتبدل ولا تتحول ( فلنْ تجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تبْدِيلا) [فاطر: 43]،فالعقيدة الإسلامية تقوم على احترام السنن الكونية ، وطلب المسببات من أسبابها التي ربطها الله بها ، والإعراضُ عمَّا يُقال عن الأسباب الخفية المزعومة ،والتي تقوم عليها الواقعية السحرية التي يلجأ إليها سكنة المعابد ومحترفو الدجل بالأديان.
نظرتها إلى الحياة
خالفت العقيدة الإسلامية في النظر إلى الحياة ؛ إذ جعلت الإنسان يعيش حياتين في هذه الدنيا حياة كروح وجسد ، وحياة ثابتة كروح وشبح بعدما يموت . فهي هنا أسقطت الموت ، وبالتالي ألغت الجزاء والثواب ، والحياة الآخرة ، بينما الحياة في الحياة الدنيا في الإسلام هي واحدة ،وبعد الموت ينتقل الإنسان إلى الحياة الآخرة ، وهي دار الخلود، ليلقى حسابه على ما فعل في دنياه .
وهنا أسأل : هل مثل هذا الأدب يمثل الهوية العربية والإسلامية؟
أليس نحن في حاجة إلى إعادة الهُوية العربية والإسلامية إليه بتفعيل مصطلح الأدب الإسلامي، ونظرية التصوّر الإسلامية في النقد الأدبي؟
[1] . البقرة : 239. [2] -مجدي وهبه وكامل المهندس: معجم المصطلحات في اللغة والأدب ،ص235،طبعة سنة 1979م ،مكتبة لبنان.33-المرجع السابق: ص42.
[5] – الحجر: 28. [6] -المرجع السابق : ص 43. [7] -هنري برجسون (1859-1941م)فيلسوف فرنسي ،وفي كتابه الطاقة الروحية يبين موقفه من المادة والروح فهو” يعتقد أنَّ حياة الروح لا يمكن أن تكون نتيجة لحياة الجسد ، بل بالعكس ،فكل شيء هنا يجري كما لو كان الجسد موضوعاً تحت تصرف الروح ، ولذلك لا نستطيع أن نفرض أنَّ الروح والجسد متحدان اتحاداً يتوقف وجود كل منهما على وجود الآخر”(د.مصطفى غالب :برجسون ،ص67،طبعة سنة 1983م ،مكتبة الهلال ،بيروت.) [8] – المؤمنون : 71. [9] – فاطر: 43. [10] – النمل : 165. [11] – سبأ: 14. [12] -طه : 69.؟ [13] – الفلق : 4.
نعم هذا النقد ضروري جداً في هذه الآونة فقد شطَّ المؤلفون و السينمائيون أيّما شطط في خيالهم السحري حتى باتت النوايا واضحة في تغييب العقل المسلم أو الإنسان ككُل عن واقعه و كيفية الخروج من أزماته كمن يهرب من مواجهة أمر حزبه و أحاط به إلى عالم من اللا وعي الذي لا يمتُّ إلى الواقع و الحقيقة بصلة و لا وجود له أصلاً . و لو أنهم في هذا المجال انتحوا منحى الصدق و ذكر الوقائع و الحقائق كما تحدث قعلاً منتفعين بحوادث التاريخ و مجريات الحياة الحقيقية لكانت أكثر جدوى و أكثر تأثيراً و فعالية و لو أنهم التزموا بما تمليه سنن الله في الكون و الناس لجنوا ثماراً طيبة من ترغيب الناس بالصدق فهو منجاة أما الكذب و الدجل فحباله قصيرة و مهلكة ـ و كما قال الدكتور عدنان في حلقة العين و السحر و الحسد في برنامج صحوة ـ العين حق أجَل لكنها تواجَه و تُقارَع بالحق نفسه و عندما توجد ( أل التعريف فالبون و الفرق كبير جداً و لا نسبة بين [ حق و الحق ] فالله تعالى هو الحق المبين و أين الثرى من الثريا { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق و لكم الويل مما تصفون } فلإنسان إما أن يؤمن بالله الحق أو يؤمن بالباطل لا خيار له لا يوجد حقيقةً منطقة بين بين قال تعالى { و الذين آمنوا بالباطلِ و كفروا بالله أولئك هم الخاسرون } ثم يثرِّب و يعتب عليهم آخر سورة العنكبوت و يقول { أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً و يتخطف الناس من حولهم أفبالباطلِ يؤمنون و بنعمة الله يكفرون } على أن هذا الحرم لا يمثل فقط الكعبة المشرفة بل داخل كل إنسان حرم يمكن أن يلجأ إليه هو فطرة الله فيه و نفخته أي تلك الروح المتصالحة مع الفطرة فهذا المجال فقط هو مأمن الإنسان من كل عويصات الحياة و ملماتها ….