إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ۩ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ۩ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ۩ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ۩ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ ۩ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ ۩ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ۩ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
يا إخواني وأخواتي:
بمُجرَّد أن نسمع هذه الحكاية المُخيفة في هذه الآيات الكريمة يتبادر السؤال ما هو ذنب هذا العاثر العاصي الذي آل به إلى هذا المآل الوبيل وإلى هذا المصير المُفزِع؟ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ ۩ – والعياذ بالله -، ما كان له من دون الله من أولياء ولا من نُصراء، ما هو ذنبه؟ ذنبه – أيها الإخوة والأخوات – العُجب، كان من المُعجَبين، كان مُعجَباً برأيه، كان مُعجَباً بفطانته وزكانته وذكائه وحُسن احتياله وتدبيره، كان مُعجَباً بماله ونجده وغناه وثرائه، إنه العُجب – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، الذي حذَّر الله منه أولياءه، وفي مُقدَمهم السيد الأكمل والإمام الأعظم – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً -، حين قال له مولاه وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ۩، قال قتادة أي لا تُدِل بعملك، لا تكن من المُدِلين، لا تكن من المُعجَبين، الآية تقول وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ۩ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ۩، لم يقل ولا تمنن تستكثرْ ولربك فاصبر، ليست من قبيل لا تُعط تستزد مجزومةً، لا تُعط، أي ينهاه عن العطية بقصد طلب المزيد، لا! ليست من هذا القبيل، إنما من قبيل لا تمدح لتُمدَح، لا تمدح يمدحك الناس، أي تطلب أن يمدحك الناس، لذلك جاءت غير مجزومة، وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ۩ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ۩.
ولذلك هذا هو الوجه الأسد والأصح في تأويلها، وَلَا تَمْنُن ۩، أي بما أعطيت، تَسْتَكْثِرُ ۩، أي تعد ما أعطيته كثيراً، وليس تطلب المزيد والكثير لقاء ما أعطيت، لا! ليس هذا المعنى نحوياً، وإنما لا تعد ما أعطيت كثيراً، لا ينبغي أن تراه كثيراً، لا تُدِل بعملك، كل ما تفعله هو من هبة الله، من منائح الله – تبارك وتعالى -، كل ما تتقرَّب به إلى الله هو قليل، هل هذا يُقال لمحمد – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -؟ نعم، فكيف بأشكالنا؟ كيف بأمثالنا؟ نهاه عن هذا، وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ۩، السين والتاء هنا للعد كما يقول النُحاة، السين والتاء في تَسْتَكْثِرُ ۩ للعد، أي عده، أي تعده كثيراً، ليس كذلك.
يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخره البزّار وغيره كالهبيقي في الشُعب، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – لو لم تُذنِبوا لخشيت عليكم ما هو أشد، قال لو لم تُذنِبوا، يُريد – عليه الصلاة وأفضل السلام – أي لو أنكم بقيتم وظللتم بلا ذنوب وبلا معاص – أيها الإخوة والأخوات – لخشيت عليكم مع طاعتكم والتزامكم هذه الطاعات ما هو أشد، من ماذا؟ من الذنوب، ما هو يا رسول الله؟ قال العُجب، العُجب! أن تُعجَب بنفسك، تقول أنا مُمتاز، أنا بخير والحمد لله، أنا لي مقام، أنا محفوظ، أنا منظور إلىّ بنظر الرحمة، الله له في شأن وربما له لدي سر، تُعجَب بنفسك!
أيها الإخوة والأخوات:
العُجب والإدلال والكبر والغرور ألقاب وأسماء وُضِعت إزاء مُسميات ومدلولات مُتشاكِلة مُتقارِبة مُتداخِلة، كثيرٌ من الناس لا يُحسِن يُميِّز حتى مُجرَّد تمييز بينها، ما الفرق بين العُجب والغرور؟ ما الفرق بين العُجب والإدلال؟ ما الفرق بين الغرور أو العُجب أو الإدلال وبين الكبر من جهة أُخرى؟ حتى وجدنا بعض الأئمة العظماء – رضيَ الله تعالى عنهم – في كتاباتهم لا يُفرِّقون، يذكرون ما هو حقيق بعنوان الغرور على أنه من العُجب، وما هو من الكبر على أنه من العُجب، والعكس! وهذا من عدم التفريق، إمامنا حُجة الإسلام أبو حامد الغزّالي – قدَّس الله سره الكريم وأعلى مقامه في دار التهاني – له تمييزات دقيقة، قد يُناقَش في بعضها – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، ولنبدأ بتخليص وتلخيص ما ذكره – رضوان الله تعالى عليه -.
باختصار العُجب هو خُلق باطن أولاً، قبل أن يكون سلوكاً ظاهراً، العُجب هو خُلق باطن، لا يقتضي المُقارَنة والمُقايَسة، فيُتصوَّر المرء مُعجَباً – والعياذ بالله -، إما بعقله وإما برأيه وإما بجماله وإما بماله وإما بنسبه وإما… وإما… وإما… ولو كان في جزيرة مُفرَدة مُعتزِلاً مُفرَداً من الناس، ليس معه أحد، يُتصوَّر أن يكون مُعجَباً، وهو وحده! لكن المُتكبِّر لا يُتصوَّر أن يكون مُتكبِّراً إلا بماذا؟ إلا بالمُقارَنة وبالقياس، لابد أن يكون بالقياس إلى الآخرين، أي مع الآخرين، أما أن يكون وحده ويُقال إنه مُتكبِّر فهذا غير وارد، لكن يُمكِن أن يكون وحده ويكون مُعجَباً – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، نعم يُمكِن أن يكون، لأنه خُلق باطن، الكبر أيضاً خُلق باطن، لكن لابد من مُتكبِّر ومُتكبَّر عليه وما به التكبر، لذلك يقتضي طرفاً آخر.
المُعجَب قد يكون مُعجَباً وعليه الخُلقان – جمع خَلَق، المُحرَّكة، من خَلُقَ الثوب ككَرُمَ، إذا بليَ ورث وتقطَّع، عليه الخُلقان أي عليه الثياب المُقطَّعة الرثة البالية -، أنت تراه هكذا، ولا يتكلَّم، ولا يكون بائياً ولا مزهواً ولا مادحاً أو مدّاحاً لنفسه، ساكتاً وهو مُعجَب، يكون مُعجَباً، هو عند نفسه على خير، هو عند نفسه في حد الغناء وفي حد الكفاية، ولذلك هذا قد تبدر منه بعض السلوكات السلبية وليست الإيجابية، ليست أشياء يعملها، وإنما يكف عن أشياء يعملها غيره، مثل ماذا؟ أقل ذلك فيما نبَّه عليه الإمام الجليل ابن حزم – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – في الأخلاق والسير، أقل ذلك أن يتوقَّر عن الضحك في مواطن الضحك، الناس يضحكون، هناك مَن أطلق نُكتة مُعيَّنة، الجلّاس أو الجُلساء كلهم ضحكوا، إلا هو، يتوقَّر عن الضحك، يقول لا ولا يضحك، مُعجَب بنفسه، يرى نفسه شيئاً مُختلِفاً، ولذلك هو لا يضحك، يتوقَّر – يقول ابن حزم – عن الحركات الخفيفة، بعض الناس يعمل حركات وما إلى ذلك، لكن هو لا يفعل هذا، ويتوقَّر عن الكلام إلا فيما لابد منه، طبعاً إنما الأعمال بالنيات، قد يكون له نية في ذلك، قد يكون محزوناً، قد يكون مسكوناً بالحُزن وبالهم الأُخروي، إلى آخره! هذا شيئ آخر، فهذا من أهل الله، أما إن فعل ذلك لمعنى يلحظه في نفسه ومزية عند نفسه دون أن يبغي على الآخرين فهذا هو العُجب، يقول ابن حزم هذا أقله، قد ينجر إلى مدح النفس، وهنا يتداخل العُجب مع الكبر، كل مُتكبِّر مُعجَب، وليس بالضرورة كل مُعجَب مُتكبِّراً، لكن كل مُتكبِّر مُعجَب، ولذلك الأصل الذي يتفرَّع منه الكبر ما هو؟ العُجب، فإذا لم يُعالَج هذا الداء الوبيل – والعياذ بالله – المُهلِك تولَّد منه على صاحبه – والعياذ بالله – مهلكة ماذا؟ الكبر، ولن يدخل الجنة – والعياذ بالله – مَن في قلبه مثقال حبة من خردل – في رواية أُخرى قال ذرة – من كبر، الكبرياء لله – تبارك وتعالى -.
فقد يُصبِح مزهواً بنفسه، يمدح نفسه، يذكر مزاياه، ولكن إلى الآن هذا ليس حد العُجب، بعض الصُلحاء مدحوا أنفسهم، وكذلك بعض الأنبياء، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ۩، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ۩، ليس مُجرَّد المدح ولا رؤية المزية أو الخصيصة هو حد العُجب، لا! حتى نكون دقيقين، وحتى لا نتورَّط في تصنيف عباد الله بسوء الظن وبخطأ الفكرة وقصورها، يقول مولانا أبو حامد – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – العبد إزاء ما مُنِح من نعم – هذا مُحصَّل كلامه ومعناه – أمام حالة من حالات ثلاث، الحالة الأولى أن يكون غير مُطمئن إلى هذه النعمة، ومَن لا يطمئن إلى النعمة إلا الأحمق يا إخواني وأخواتي؟ النعم كلها غادية ورائحة، كالمال! تغدو وتروح، أليس كذلك؟ إن لم تُسلَب جُملةً واحدةً سُلبت فرادى، وإن لم تُسلَب بضربة واحدة سُلبت بالتدرج، على الأقل يسلبها العمر والسن، يعلو سن الإنسان فيُسلَب بعض جماله، ويُسلَب بعض ذكائه وبعض فطنته وبعض قوته وبعض خفته وبعض… وبعض… وهكذا! يُسلَب الأبعاض شيئاً فشيئاً، وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۩، حتى يعود ضعيفاً، ذاوياً، لا حيلة له، لا قوة فيه، كابن يومه، حتى يعود كابن يومه طبعاً، وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۩، هذا يُسلَب، فالنعم كلها غادية ورائحة، نسأل الله أن يُثبِّت علينا نعمة الإيمان، هي أجل النعم، إلا أنها أيضاً تتعرَّض للسلب، لا أحد يقول مَن آمن وحسن إيمانه صار معصوماً – والعياذ بالله – من الحور بعد الكور، لا! ونعوذ بالله من الحور بعد الكور، نعم قد يُسلَب حتى الإيمان، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ۩، قيل – هذا يظهر لدى المُفسِّرين، رضوان الله تعالى عنهم – أوتيَ الاسم الأعظم، وكان من قوم موسى أو في زمان موسى، يُقال اسمه بلعم أو بلعام بن باعوراء، أوتيَ الاسم الأعظم، ومات بعد ذلك ميتة كلب – أكرمكم الله وأعزكم -، شبَّهه الله بالكلب، قال فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ – أي تشتد في أثره، تطلب دركه – يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۩، لهّاثاً وراء الدنيا – والعياذ بالله – والشهوات والأهواء والمُغريات بعد أن أوتيَ الاسم الأعظم، فنعوذ بالله من سلب الإيمان ومن ضعف الإيمان ومن العُجب والإدلال والكبر والغرور بالله، معانٍ مُتقارِبة!
إذن فالمُتكبِّر – والعياذ بالله – يُقايس نفسه وتظهر منه دلائل وعلائم الكبر، وسنعود إلى حالات العُجب، هذا هو الفرق، تظهر منه! ولذلك يبجه على الناس، يبجه على الناس، يحتقرهم، ويزدريهم، ربما يزدريهم لأنهم ليس عندهم من المال ما لديه، ليس عندهم من العلم أو لم يُحصِّلوا من العلم ما حصَّل، ليس عندهم من القوة والسُلطان ما عنده، ليس عندهم من الجمال والهيئة والعافية والصحة ما عنده، ليس… وليس… فيبجه عليهم ويتغطرس ويزدريهم بالفعل وبالحركة وباللفظ – والعياذ بالله -، بالسلب وبالإيجاب، هذا مُتكبِّر، فنعوذ بالله كما قال الفاروق عمر – رضوان الله تعالى عليه – من نفخة الكبر، الكبر له نفخة، ينتفخ الإنسان كالبالون – والعياذ بالله -، وهو في نهاية المطاف بالون، تحت أي ابتلاء بسيط من رب العالمين يعود إلى مقامه طبعاً، يعود إلى مقامه!
ابن حزم نفسه الذي ذكرته قُبيل قليل حدَّث عن نفسه – رضوان الله تعالى عليه – وقال الآتي، ومعروف مَن هو ابن حزم، الرجل وافقه مَن وافق وخالفه مَن خالف، إلا أنهم اتفقوا على أنه من بواقع الدهر وعجائب الأزمان، ليس الزمن وإنما الأزمان، سعة حفظ وسيلان ذهن وقلم وذكاء وقوة عارضة وسرعة بديهة وكثرة تأليف وتصنيف، شيئ عجيب! عجب من العجب – رحمة الله تعالى عليه -، شيخ الإسلام ابن تيمية يُضرَب به المثل، أمه ذاتها – رضوان الله تعالى عليه – قالت له يا بُني أحمد إياك وكذا وكذا وكذا، ومهما بلغت ما بلغت لن تكون كابن حزم، فاعتبر به، ابن حزم يُضرَب به المثل، شيئ عجيب! قال أصابتني علة فسلبتني كثيراً من قوة حفظي، في سير نُبلاء الذهبي ابن حزم أصبح إماماً يُشار له بالبنان ويُهاب من مُجرَّد ذكر اسمه بين العلماء والأئمة في سنتين، كان مشغولاً بالأشعار وبالآداب وبالطُرف، فدخل ولم يُصل تحية المسجد، فقال له أحد فقهاء المالكية في بلده قم فصل يا جاهل، قال له الفقيه قم فصل يا جاهل، المُهِم جهَّله في ثلاث مسائل، فعزت عليه نفسه، لماذا يُجهِّلني هذا؟ ما الذي عنده مما ليس عندي؟ قيل إنه الفقه، فقال الفقه ماذا؟ قالوا الفقه كذا وكذا وهناك أصول الفقه، فانقطع ثلاثة أيام، ثم صار يُناظِر المالكية فلا يكاد يقوم له أحد، لم يتهيأ أن يقوم له بعد ذلك إلا واحد فقط، وهو أبو الوليد الباجي – قدَّس الله سره -، إمام المالكية، العلّامة العظيم، الأصولي، والفقيه مُنقطِع النظير، نعم قطعه في مُناظَرة أصولية، الحمد لله وصلتنا وطُبِعت مُحقَّقةً، وإلا لا أحد يقوم لابن حزم، هذا ابن حزم يا حبيبي، ابن حزم في سنتين فعل ما ذكرت، عنده دين عجيب، حافظة أسطورية، البحر الأوقيانوس Oceanus أو المحيط.
قال أصابتني علة أذهبت كثيراً من حافظتي، من قوتي الحافظة، ولم يعد إلىّ منها إلا اليسير، نسيَ الكثير جداً جداً، وصار ينسى، تتعاصى عليه الأشياء كثيراً، لا يُوجَد شيئ مأمون، كل نعمة وهبتها يُمكِن أن تُسلَبها في لحظة، أنا أعرف من إخواني وأحبابي مَن سُلب عقله وليس حافظته، وصار مجنوناً أو كالمجنون، ابتُلي في لحظة، إي والله، من إخواني في هذه البلدة، جلس إلىّ تقريباً حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً، ثم استأذن، فبين هو في الطريق إلى بيته هاتفني وإذا بالرجل مجنون، وإلى اليوم لم يعد إليه عقله على السواء، فهذه إشارات وآيات ودلائل، يُمكِن أن يحدث هذا، وكم من غني مُتموِّل مُثرٍ بات غنياً وأصبح فقيراً! وصلته رسالة من الدولة أو من وزارة أو من أي شيئ وإذا بها تستغرق كل أمواله وتُطالِبه بما ليس عنده، فتركوه فقيراً يتكفَّف بطريقة أو بأُخرى، هذا حصل وأنا أعرف مَن انطبق عليه هذا المثال تماماً، في ليلة أصبح شيئاً آخر، فنعوذ بالله من سلب النعم والمواهب، ونعوذ بالله أن نُقابِل هذه النعم التي ينبغي أن تُقابَل بالشُكر بالتعاصي على واهبها ومانحها – لا إله إلا هو -، أي بمعصيته، بالتعاصي على واهبها ومانحها!
فهذا هو الكبر، وهذا هو العُجب، أما الإدلال فالإدلال يكون من وراء العُجب، يُعجَب بما عنده وبما مُنِح ووُهِب، ثم ينتظر عليه الجزاء، يُريد جزاءً، يرى أن له على الله حقاً، لأنني رجل – مثلاً – مُعجَب بعملي – والعياذ بالله -، أي مُعجَب بعملي الصالحات، هذا المقصود هنا، العمل الديني، وأتعبَّد الله، وأُصلي النوافل وقيام الليل، فأنا أتقاضى ربي – والعياذ بالله – إجابة دعوتي، وأعجب إذا دعوته ولم يُلبني، هذا هو – والعياذ بالله -، هذا أسوأ وشر من ماذا؟ من العُجب، هذا اسمه الإدلال، يُدِل على الله بعمله، يتقاضى الله جزاءً، ما دمت أعبدك فلابد أن تُلبى دعوتي، لابد أن أكون من مُجابي الدعوة.
وأعجب للذين يجرؤون على أن يقسموا على الله، نراهم في الهوائيات وفي الفضائيات، يقول أحدهم أُقسِم عليك بك، مَن يا أخي؟ اتق الله، كان صُلحاء الأمة إذا سمعوا أحدهم يُقسِم على الله ينتهرونه نهراً شديداً، إلى هذه الدرجة أنت مُدِل؟ هذا ليس مُعجَباً، هذا مُدِل، هذا المسكين يرى أنه مِمَن له هذه المثابة، أنه يُقسِم على الله، الله أكبر يا أخي!
قال شيخ الإسلام جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي في صيده – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال ولقد عرفنا بعض هؤلاء لا يرى أن حقه أقل من أن يُدفَن في دكة الإمام أحمد، وإن أدى ذلك إلى تأذي أو أذية الأموات وتكسير عظامهم، لأنه هو من الأئمة، والأئمة الكبار، في رُتبة أحمد، فلابد أن يُدفَن في دكة الإمام أحمد هناك، أي في بغداد، أما خامس الراشدين، الرجل الصالح، الهادي والمُهتدي، ابن عبد العزيز – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، فلم يكن كذلك، عمر بن عبد العزيز قيل له يا أمير المُؤمِنين ترى ندفنك – إن شاء الله – في حُجرة رسول الله؟ لما اعتل بالسُم – والعياذ بالله – وقد دُس له وعلموا أنه سيقضي لا محالة قالوا له ندفنك هناك، أترى هذا؟ ترى ندفنك – إن شاء الله – في حُجرة رسول الله؟ ليُهوِّنوا عليه، قال الله أكبر، والله لأن ألقى الله بكل ذنب أحب إلىّ وأهون عندي من أن أرى نفسي أهلاً لهذا المقام، أنا؟ قال، أأُدفَن عند رسول الله؟ مَن أنا؟ عمر بن عبد العزيز، ليس أنا أو أنت أو هو أهي، قال أنا؟ أأُدفَن عند رسول الله؟ مَن أنا؟ أعظم من كل ذنب هذا، أعظم من القتل، لأن ألقى الله بكل ذنب أحب إلىّ وخيرٌ من أن أرى نفسي أهلاً لهذا المقام، انظروا إلى هذا، وعلماء آخرون يرون أنه لا يليق بهم إلا أن يُدفَنوا عند الإمام أحمد، رضيَ الله عن أحمد.
الإمام الشافعي كان أستاذاً لأحمد، هذا على ذكر أحمد – قدَّس الله سره -، الإمام الرباني، شيخ الإسلام، أستاذه هو أبو عبد الله الشافعي المُطلبي – قدَّس الله سره الكريم -، هو أستاذه، انظروا إلى الربانية، انظروا إلى البراءة من العُجب وإلى التواضع وهضيمة النفس والانكسار، أرسل مرةً الإمام الشافعي رسوله إلى تَلميذه أحمد بن حنبل، يُخبِره أنك ستُبتلى، وستنجو – بإذن الله من بليتك -، وقد كان ابتلاؤه بعد وفاة أستاذه الشافعي طبعاً بأمد، فمن فرحة الإمام أبي عبد الله أحمد كبَّر وخلع قميصه وأعطاه الرسول، وبقيَ بلا شيئ، لأنه لم يكن له شعار، فقير مُتزهِّد، القميص على لحمه من غير شعار، فلما أتى الرسول الإمام الشافعي ومعه القميص وأخبره بما جرى قال له هل كان هذا القميص مُباشِراً لجلده؟ قال نعم، تركته بلا قميص، كان يلبسه هكذا من غير شعار، فأخذه الشافعي وقبَّله ووضعه على عينيه، انظروا إلى التواضع، هو تَلميذه، أحمد تَلميذه، وفي وقتها أين أحمد من الشافعي حقاً في العلم؟ أين أحمد من الشافعي في وقته؟ ثم أمر بإناء فيه ماء فوضعه فيه وعركه ثم عصره ثم جعل غُسالته في قارورة جعلها عنده، وكان إذا اشتكى أحدٌ مرضاً أو عِلةً من إخوانه وأحبابه أرسل إليه ببعض الماء، فيتمسَّح به، فيشفى من فوره، هل سمعتم بشيخ وأستاذ يتبرَّك بتَلاميذه؟ إنها البراءة من العُجب، إنها التواضع، وإنها الربانية، هذا الشافعي، وهو بركة العلماء، وبركة الأولياء، حتى قال كثيرٌ من أولياء الله إن لم يكن الأئمة الأربعة أولياء الله فليس لله في الأرض أولياء، واقرأوا عنهم – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم – أجمعين، هكذا!
قيل لبكر بن عبد المُزني – بكر تعرفونه، قيل له الآتي – كيف تركت الناس في الحج؟ كان في رحلة الحج، كيف كانت الحجة؟ كيف كان الموسم هذا العام؟ فقال الحمد لله، بخير وعلى خير – إن شاء الله تعالى -، لولا أني كنت فيها، قال أسوأ ما في الأمر أنني كنت في الحج هذه المرة، وإلا الناس كلهم خير، كلهم أحسن مني، كل شيئ تمام، إلا أنا، قال شؤم هذه الحجة أنني كنت فيهم، هذا بكر! وكان من مُجابي الدعوة، بكر بن عبد الله المُزني كان مِمَن يتبرَّك به أهل المدينة من عند آخرهم، وكان مُجاب الدعوة، لا يُوجَد عُجب، لا يرى نفسه شيئاً كبيراً، مُستحيل! فضلاً عن أن يكون مُدِلاً، قال ولولا ما لطف الله ما نزَّل عليهم بشؤمي رحمة، لكن ربنا لطف بهم، ويبدو أنه رحمهم في الحج – إن شاء الله -، أي وتجاوز عن شؤم وجودي بينهم، الله أكبر، الله أكبر، هذا هو، هذا الإيمان يا إخواني وأخواتي – هداني الله وإياكم وعرَّفنا به ودلنا عليه دلالة الصادقين -، هاته المعاني أو هذه المعاني لا تُعلَّم إلا في المدرسة الإلهية، لا تُؤخَذ إلا من الدساتير الرسولية النبوية، ورب عالم كبير ورب فيلسوف شهير ورب مُفكِّر خطير لا يعلم شيئاً عن هاته الأمور، بل يسلك في حياته قولاً وعملاً وحالاً واعتقاداً بضد هذه المعاني تماماً، وهذا لفرط جهله وحرسيته، هذه المعاني إلهية، هكذا علَّم الأنبياء، هكذا علَّم مَن قال لو لم تُذنِبوا لخشيت عليكم ما هو أشد، العُجب! أشد من الذنوب – والعياذ بالله -، لماذا؟
مولانا ابن عطاء الله السكندري صاحب الحكم العطائية – قدَّس الله سره الكريم – يقول في حكمه معصيةٌ أورثت ذُلاً وانكساراً خيرٌ من طاعةٍ أورثت عزاً واستكباراً، انتبهوا! قد لا يتحصَّل في نهاية الأمر من المعصية إلا الصورة، والحقيقة – بإذن الله – طيبة، وقد لا يتحصَّل من الطاعة إلا الصورة، والحقيقة مُرة خبيثة، ما مُراد الله – تبارك وتعالى – من الطاعات؟ ما مقصوده من رسم الطاعات؟ فتح لنا باب طاعته وشرَّفنا بذلك، شرَّفنا أن سمح لنا بعبادته وذكره، هذا شرف كبير، ولا نقول كلَّفنا وشق علينا، بل شرَّفنا.
حَسْبُ نَفْسِي عِزًّا بِأنِّيَ عَـبْدُ يَحْتَفِي بِي بِلا مَوَاعِيدَ رَبُّ.
هُوَ فِي قُـْدسِه الأعَـزُّ وَلَكِنْ أَنَا ألْقَى مَتـَى وَأيْنَ أُحِبُّ.
أعظم عز هذا وأعظم شرف، قال أحد الصالحين مِن التابعين مَن مثلك أيها المُسلِم؟ مَن مثلك؟ خُلي بينك وبين المال والمحراب، وأُذن لك بالدخول على الملك! مَن مثلك؟ مَن مثلك؟ يرونها عظيمة، يرونها كبيرة، لا يرونها تكليفاً وحملاً يُراد وضعه عن الأكتاف، لا والله! إنها الشرف، الشرف أن تُناجيه، كل أحد يتمنى أن يدخل على ملك من ملوك الدنيا، ماذا يتملَّك هذا الملك؟ ماذا؟ أيمتلك دويلة؟ أيمتلك مدينة؟ أيمتلك قطعة ما؟ ما نسبة هذا الذي تملَّكه إلى المُحيط وإلى الفلك الأعلى الدوّار؟ ما نسبة الفلك إلى أكون الله؟ ما نسبة الأكوان إلى عرش الله؟ ما هذا؟ ما نسبة كل هذا من عرشه إلى فرشه إلى ما في الوسع والإمكان وإلى ما في مخزون القدرة؟ لا شيئ، لا شيئ! إنها نسبة العدم إلى كل شيئ، وأنت تجعلك وكدك وهمك وحُبك وأملك أن تدخل على هذا المُتنفِّذ وعلى هذا المُتسلِّط من أمير أو رئيس أو ملك أو حتى مُوظَّف في المُخابَرات أو كذا، كلام فارغ، هذا جهل، جهل بالله، يُوجَد جهل بالله، لا تُوجَد معرفة.
ولذلك قال أحدهم لشيخ الإسلام وإمام المُحدِّثين في وقته عبد الله بن المُبارَك – قدَّس الله سره -، قال له نوَّلك الله – أي أعطاك الله – ما ترجوه منه، أي قال له أعطاك الله ما ترجوه منه، قال يا أخي الرجاء لا يكون إلا بعد المعرفة، فأين المعرفة؟ وهذا أيضاً من تواضعه وكسر نفسه عند نفسه وهضيمة نفسه، مُتواضِع في نفسه الرجل، قال الرجاء لا يكون إلا بعد المعرفة، فأين المعرفة؟ معنى كلامه – أيها الإخوة والأخوات، يا أحبابي وأخواتي – أن مَن عرف الله حقاً رجاه حقاً وخشيه حقاً، فلا يزعمن أحد أنه يرجو الله إن لم يكن عارفاً بالله، لا يرجوه إلا مَن عرفه، قال أأنا يُدعا لي بأن يُلبي رجائي وأن يُعطيني رجائي؟ فهل أنا مِمَن عرفه أصلاً؟
ماذا قال شيخ الإسلام سُفيان الثوري – قدَّس الله سره -؟ أبو سعيد أو سُفيان الثوري هو الإمام الخامس في الإسلام في وقته، الذي دعاه يوماً سيد العُبّاد والزُهّاد إبراهيم بن أدهم في رملة فلسطين، دعاه إلى أن يأتي ويُحدِّث الناس بالعلم، فقيل له يا أبا إسحاق – أي لإبراهيم ابن أدهم – تقول هذا لهذا؟ لأنهم يرون أن أبا إسحاق بن أدهم وهو من أهل الباطن، من أهل الله، ومن أهل الولايات والكرامات والمقامات العاليات الشريفات، وهذا من علماء الظاهر، هذا إمام مُحدِّث وفقيه على طريقة أهل الظاهر، أي كيف هذا؟ فقال نعم، نعم أدعوه لكي تروا تواضعه، تعلَّموا التواضع، انظروا إلى شيخ الإسلام هذا، وانظروا كيف يكون التواضع والربانية من سُفيان الثوري.
سُفيان الثوري – قدَّس الله سره – قال حسب العوام من الخشية – أي من خشية الله، قال حسبهم، أي قال يكفيهم – أن ينتهوا عما نهى الله عنه، يا ليتنا كنا منهم! يرى نفسه أقل من العامي، يا ليتنا كنا منهم! قال شيخ الإسلام ابن الجوزي لا أقول لك يا حافظ القرآن أن تُقارِن نفسك بمَن يحفظ نصفه، هذا تكليف بالمُحال، أنت تعرف أنك تحفظ ثلاثين جُزءاً، وهو يحفظ خمسة عشر جُزءاً، قطعاً أنت ترى لنفسك ماذا؟ مزية، مصدرها الله – تبارك وتعالى – بلا شك، لكن لا نقول هذا، لا نُكلِّفك بهذا، أي بالمُحال، لا نأتي بالمُحالات والاستعصاءات، وإنما نقول احذر أن ترى نفسك مع علمك وحفظك خيراً من هذا المُؤمِن، ما أدراك؟ ومَن أدراك؟ نعم هو يحفظ نصف حفظك، وربما لا يحفظ حتى جُزءاً، وأنت تحفظ القرآن كله والسُنن كلها والعلم كله، لكن ما أدراك أنك أفضل منه؟ هذا شيئ وهذا شيئ، كن موضوعياً، العلم شيئ والأفضلية عند الله شيئ آخر يا أخي، فلا تغترن ولا تُعجبن.
روى ابن حبان – رحمة الله تعالى عليه، شيخ الإسلام، صاحب الصحيح – في صحيحه بسنده عن أبي ذر الغفاري – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال كنت مع رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – في المسجد، إذ دخل رجل فقال أبا ذر ارفع رأسك، كان مُطئطاً برأسه تواضعاً، قال فرفعت رأسي، فإذا برجل يدخل، عليه ثياب جياد – كثيابنا هذه، ثياب جيدة وجديدة، ثياب جياد، مُستحسَنة فارهة -، فلم يلبث إلا قليلاً، ثم قال أبا ذر ارفع رأسك، فرفعت رأسي، فإذا برجل قد دخل، عليه ثياب خُلقان – وقد فسَّرتها قُبيل قليل، جمع خَلَق، من خَلُقَ الثوب، من باب كَرُمَ، عليه ثياب خُلقان، أي ثياب بالية رثة مُتقطِّعة -، ثم قال يا أبا ذر هذا – للذي عليه الثياب الخُلقان، فقير شحّاذ ومسكين – عند الله خيرٌ من ملء الأرض من مثل هذا، يُعلِّم! محمد – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – يُعلِّم، إياك إياك أن تحكم على الناس أو تُقارِن أو تقيس بالهيئات والمظاهر، هذا لباسه وهذه هيئته وهذا ماله وهذا منصبه وهذه شهادته وهذا علمه وفصاحته، كل هذا لا يُجدي ولا ينفع – والعياذ بالله – إذا أفسده ماذا؟ العُجب أو الكبر أو الإدلال أو الغطرسة أو الغرور أو عدم صحة النية وصدق القصد، فهذه مسائل عجيببة، موضع نظر الله القلب، وليس الظاهر، إن الله لا ينظر صوركم وأموالكم – وتعرفون الحديث في مُسلِم -، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، ليس إلى الصور، ليس إلى الأجسام، وإنما إلى القلوب والأعمال.
ونعود إلى الحالات الثلاث التي نص عليها مولانا الغزّالي – قدَّس الله سره -، الحالة الأولى أن تكون خائفاً، مُشفِقاً، غير مُطمئن إلى النعمة، تخشى أن تُسلَبها، فلست بمُعجَب – إن شاء الله تعالى -، لكن هل النعمة ملحوظة؟ ملحوظة، ثانياً يقول أبو حامد – قدَّس الله سره – أن تلحظ النعمة وأن تُثبِتها، أي تعلم أنك مُنعَم عليك، أنت ترى أنه مُنعَم عليك، بما لم يُنعَم على بعض الناس – مثلاً – سواك، هذا واضح يا أخي، الله أعطاك هذا ولم يُعط غيرك هذا، هذا واضح، فلا تقل أنا لا ألحظه وأنا فانٍ عنه، هذا غير صحيح، أنت تلحظه، وواضح أنك تلحظه، ولكن تلحظ النعمة مُضيفاً إياها إلى مَن؟ إلى المُنعِم – لا إله إلا هو -، وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۩.
هناك نعمة الصحة، بعض الناس تغره صحته، ويمشي بين يديه كما قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وأتباعه ومَن والاه -، تغره الصحة! تعرفون يا إخواني ما حصل هنا – في هذا المسجد – مع أحد إخوانكم، نسأل الله أن يُعافيه وأن يمن عليه وعلى جميع مرضى المُسلِمين والمُسلِمات بالعافية – إن شاء الله – وبالشفاء العاجل، هذا الرجل كان صحيحاً أيّداً، ليس به بأس – بحمد الله تبارك وتعالى -، والآن تقريباً أجرى عدة عمليات جراحية، نسيت العدد بالضبط، لكن أعرف أن هناك بضع عمليات جراحية، لعلها قريبة من عشر عمليات، قُطِّعت فيها مُعظَم أمعائه، في كل مرة يقطعون جُزءاً من أمعائه، تخيَّلوا! بسبب ماذا؟ هل هذا بسبب سرطان خبيث وأورام؟ لا، أبداً! كان يأكل – يتغدى أو يتعشى – وتناول كما نقول قرن فلفل، هذا الفلفل بَذرة منه – يُسمونها البِذرة، لكن هي البَذرة – بتقدير الله اخترقت الجدار – جدار الأمعاء -، سُبحان الله، اخترقته! بقدرة الله اخترقته، ولا أدري كيف، ربما كان مُصاباً بقرحة، مُتهتِّك الجدار بعض التهتك، فدخلت وبدأت تسري، وسبَّبت له نزيفاً وآلاماً ومشاكل، وبدأوا يُقطِّعون، بسبب بَذرة! إياك أن تأمن ثم تقول لي لا، أنا حاذق، أنا زكن، أنا فطن، أنا عندي ثقافة صحية وثقافة طبية، أُتابِع البرامج، أقرأ الكُتب وأُترجِم، وأنا عندي برنامج في الغذاء والنوم والدواء، كلام فارغ! وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۩، لا تدري كيف تُصاب يا عبد الله، أضف دائماً النعمة إلى الله، لا تغفل عن هذا لحظة، لا تكن قارونياً فتقول مثله، قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۩، عندي برنامج غذائي، برنامج صحي، وبرنامج دقيق حتى في التداوي وما إلى ذلك، كلام فارغ! لا بأس بالبرامج، أهلاً وسهلاً، لكن دائماً أضف النعمة إلى المُنعِم، لا تُضِف شيئاً إلا نفسك، مَن أنت؟
بعض الناس يقول ولكن في نهاية المطاف يبدو أن لي ميزة عند الله وخصيصة، كيف يا رجل؟ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۩، في القضايا الدينية والإيمانية – نوَّرني الله وإياكم – وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ۩، ولكن هل هذا حتى مع رسول الله؟ هذا حتى مع رسول الله، مَن الذي خلقه أولاً – أي رسول الله -؟ مَن الذي اصطفاه؟ مَن الذي استخرجه من خير الناس نسباً – من صدر أنسابهم -؟ الله، مَن الذي أنعم عليه بالرسالة؟ مَن الذي عصمه؟ مَن الذي ألهمه؟ ومَن الذي علَّمه؟ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ۩، الله أكبر، هذا لرسول الله، لرسول الله! الله يقول له أنت لست شيئاً، أنت شيئ بي.
كان شيخ الإسلام ابن تيمية – قدَّس الله سره – يقول ما لي شيئ، ولا مني شيئ، ولا في شيئ.
أنا المُكدّي وابن المُكدّي وكذا كان أبي وجدي.
قال أنا شحّاذ ابن شحّاذ، أنا الشحّاذ ابن الشحّاذين، أبي وجدي كانا شحّاذين، وأبوه عالم جليل، وجده علّامة وإمام، وهو أبو البركات بن تيمية، المجد صاحب المُنتقى – قدَّس الله سره -، الذي شرحه القاضي العلّامة المُجدِّد الشوكاني في نيل الأوطار شرح مُنتقى الأخبار، مُنتقى الأخبار للمجد بن تيمية، وهو جد ابن تيمية، شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن أبي البركات المجد، سلسلة! رضيَ الله عنهم وأرضاهم، قال أنا الشحّاذ ابن الشحّاذين، أنا الفقير ابن الفقراء، نعم! ونحن الشحّاذون، نشحذ رحمة الله، أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ۩، مَن فهم هذا وسلك عليه برئ – بإذن الله – من العُجب، وأفاق من سكرة الإدلال، فعلم أنه مُجرَّد مجرىً لنعمة الله، ساحة ومجلى ومرآة لأفضال الله، لمواهب الله، ولمنح الله، زادني الله وإياكم من مواهبه ومنحه وأُعطياته الكريمة ومواهبه الجزيلة، اللهم آمين، هكذا! ما لي شيئ، ولا مني شيئ، ولا في شيئ، مَن أنا إذا محمد قيل له هذا؟
ولذلك حتى حين تتحدَّث عن نفسك – وأحياناً يُؤذَن لك بشروط – تحدَّث بصدق، تحدَّث عن نفسك وليس عن نفس أُخرى، تحدَّث عن أناك وليس عن أُنا أُخرى لا علاقة لك بها، حين تنجح في الامتحان قل للناس كيف نجحت، قل في الحقيقة أنا قرأت قراءة عادية، وربما حضَّرت أقل من غيري، ولكن فضل الله، جاءتني الأسئلة التي أعرفها، سُبحان الله! هذا من فضل الله، قل هذا، لا تقل الحمد لله يا أخي، مَن جد وجد، وأنا اجتهدت، وأنا تعبت، لا! لا تكذب، أتكذب على الله أنت؟ أتكذب على نفسك؟ تُخادِع مَن أنت؟ قل للناس أنك نجحت بتوفيق الله، قل للناس جاءك ما حضَّرت بفضل الله، ولو جاءك مما لم تحذق ولم تُحضِّر لرسبت في الامتحان، اصدق! قل للناس هكذا، هذا هو، أما قوتك فلا اعتبار لها، ليس لك شيئ من هذا، كل هذا من الله – تبارك وتعالى -، قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ۩، الله يقول كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۩، كله من عندي.
فمثل هؤلاء بعضهم يقول لا، يبدو أن لي ميزة وخصيصة عند رب العالمين، لأجلها زادني من مواهبه، وأسبغ علىّ من نعمه، وجلَّلني بألطافه ومنحه، هذا أحمق، هل تعرفون كيف يكون مثله هذا؟ هذا كلام مولانا الغزّالي – قدَّس الله سره -، ويا له من مثل! انظروا إلى الفتح الرباني، مثل عجيب، يفهمه الطفل الصغير وليس الراشد والراشدة الكبير والكبيرة، قال مثل هذا الأحمق كمثل عبد أعطاه الملك حصاناً – فرساً – فلم يُعجَب به، علماً بأن الفرس تُذكَّر وتُؤنَّث، فلم يُعجَب به أو لم يُعجَب بها، كلاهما فصيحتان، أي اللفظتان، فلم يُعجَب به أو بها، أي بفرس الملك، وبعد حين نحله الملك غُلاماً، أي خادماً، قال له خُذ هذا لك، فأخذه وصار يُعجَب به، ويقول الملك أعطاني الغُلام لأني صاحب الفرس، وغيري لا فرس له، يا حبيبي مَن أعطاك الفرس أصلاً؟ ما هذا؟ بعضهم يقول الحمد لله، الله يفتح علىّ من أبواب العلم لأن عندي النفس الطيبة والقلب السليم، ومَن أعطاك القلب السليم؟ ومَن أعطاك النفس الطيبة؟ أحدهم يقول قلبي سليم لأنني بعيد أو مُتباعِد من الذنوب، ولكن مَن الذي أقدره على ذلك؟ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ۩، يقول سيد الخلق، المُعلِّم الأعظم والأكرم – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – والذي نفسي بيده لن يُدخِل أحدكم الجنة عمله، وفي لفظ لن يَدخُل أحدكم الجنة بعمله، يُقسِم عليها! قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمة، وفي رواية منه، أخرجه الشيخان، الله أكبر، فإياك أن تُعجَب بعملك.
الأخطر – كما قلنا – وهو وراء العُجب – والعياذ بالله تبارك وتعالى – أن يُعجَب بعمله ثم يطلب ماذا؟ جزاءه، يتقاضى الله جزاءه، أن تُلبى دعواته، أن تُيسَّر حاجاته، أن تنفتح له الأبواب ولا تُغلَق دونه، وأن يضح له السبيل في كل أمر، فإن لم يحصل هذا تعجَّب واستغرب، كيف هذا؟ كيف أنا دعوت الله ولم يُلبني؟ ولماذا إذن ينبغي أن يُلبيك؟ لأنه يرى لنفسه دالة على الله، وهو لا يعجب من رد دعوة الفاسق، أليس كذلك؟ لو علم أن فلاناً الفاسق دعا الله فلم يُلبه لا يعجب، لأنه يرى نفسه ليس فاسقاً، هو المُؤمِن الصالح، الذي تُلبى دعوته، أما هذا ففاسق، بدهي وطبيعي ألا تُلبى دعوته، يا رجل! يا رجل ما هذا؟!
أبو بكر الصدّيق – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – كان يقول يا ليتني شعرة في جنب عبد مُؤمِن، يخاف من الحساب، عمر يقول لو نُودي يوم القيامة كل الناس يدخلون الجنة إلا رجلاً واحداً لظننت أنني هو، مالك بن دينار يقول والله لو نُودي ليخرج من المسجد – مسجد البصرة – شركم رجلاً ما سبقني أحد من الباب إلا بفضل قوة له علىّ، أنا أول واحد! أعرف نفسي، أنا شر الناس، أنا شر الناس!
قال ابن الجوزي روينا أن راهباً في صومعته رأى في المنام أو بالأحرى سمع في المنام هاتفاً يهتف به، يقول له خيرٌ منك فلان الإسكافي، الحذّاء! الحذّاء – أي (الجزماتي) هذا – خيرٌ منك، عند الله أحسن منك هذا الرجل، الله أكبر! هو حذّاء أو إسكافي وأنا رجل راهب في صومعة، أتعبَّد الله ليلاً ونهاراً! فنزل، خالطه قليلاً ولابسه، ثم سأله عن عمله، فلم ير كثير عمل، أي لا يُوجَد أي عمل خاص، عادي! مثله مثل كل الناس المُوحِّدين، فعاد فرأى في المنام أو عرض له في المنام وسنح له في المنام مَن يقول له انزل تارةً أخرى وسله ما سبب صُفرة وجهه؟ دائماً هو وجهه أصفر، أي كالخائف هكذا، مسكين! فنزل فسأله وألح عليه، فقال سبب صُفرة وجهي ما يعلمه الله مني، لا ألقى أحداً إلا أقول هو خيرٌ مني وأنا شرٌ منه، يرى نفسه شر عباد الله، ولذلك هو عند الله في مقام عظيم، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ۩، مَن المُخاطَب هنا؟ أصحاب رسول الله – رضوان الله تعالى عليهم، وصلى الله وسلَّم وبارك وشرَّف وكرَّم على نبيه الأكرم -، هذا هو، لا تُعجَب لا بكثرة ولا بقلة، أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ۩، كأن الصحابة تعزَّزوا بكثرة نافرهم، لدينا جنود وهم جاهزون وكثيرون، لن نُغلَب اليوم من قلة، (من) السببية هنا، أي بسبب القلة، لن نُغلَب، غُلِبوا! ولما ثابوا وعادوا عادت الهزيمة نصراً، هذا ذنب، هكذا! هذه موازين طبعاً لا يعرفها مُخطِّطو الاستراتيجية العالمية إطلاقاً ولن يعرفوها، لا يعرفها إلا أهل الله – تبارك وتعالى -، والله! هذه موازين النصر والهزيمة، تدخل فيها هذه الاعتبارات الإلهية الخفية على هذا العالم، على هذا العالم المُظلِم التائه الضال والحيران – أيها الإخوة والأخوات -، هكذا!
هل تعرفون محمد بن مُقاتِل – الهلالي الكوفي، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -؟ في الكوفة فجع الناس من زلزلة – زلزلة صغيرة هكذا – صحبتها ريح حمراء، فخافوا! خافوا أن يُخسَف بهم، والزلزال قد يحدث معه خسف طبعاً، تُفتَح الأرض وتبلع أشياء كثيرة، مثل مدينة الأصنام وأشياء كبيرة، ونحن كل يوم والثاني نرى زلازل في أمريكا، خسف! تُفتَح الأرض وتبلع سيارات وعمارات وأشياء، فخافوا فجاءوا محمد بن مُقاتِل – أي الهلالي -، وقالوا يا شيخ، يا عبد الله، ادع الله لنا أن يكشف عنا ما نزل بنا، يخافون! فقال والله إني لأخشى ألا يكون نزل إلا بسببي، أمني تطلبون؟ أنا عقيدتي أن هذا بسببي، بسببي هذا الخسف الذي قد يحدث أو الزلزلة البسيطة والريح الحمراء، قال الراوي فعرض لي في المنام مَن يقول الآتي، توقَّفت الزلزلة وانكشفت الريح – بفضل الله تبارك وتعالى -، وانتهى كل شيئ على سلام، قال ورأيت ليلها مَن يقول في المنام أو بالأحرى سمعت مَن يقول في المنام إنما كشف الله عنكم في هضيمة محمد بن مُقاتِل نفسه، هضم نفسه الرجل، لأنه مُتواضِع ومُنكسِر، يرى نفسه أتعس المُذنِبين وأفحش العُصاة، بهذه الهضيمة رحمهم الله.
هناك عطاء السُلمي – رضيَ الله عنه وأرضاه -، وما أدراكم مَن عطاء؟! اقرأوا عنه في حلية أبي نُعيم للأصفهاني، اقرأوا عن عطاء – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، كانت إذا هاجت الريح لا يقر له قرار، يدخل ويخرج ويُمسِك بجلدة بطنه، ويقول هذا يُصيب الناس بسببي، لو مات عطاء استراح الناس، قال هذا بسببي أنا، أنا أعرف هذا، بسببي أنا! هذا يُصيب الناس بسببي، لو مات عطاء استراح الناس، عجيب!
أنا أعرف أو أعلم أن بعضكم – ربما قليلاً منكم – ربما قد يسمع هذا الكلام لأول مرة، خاصة مَن هو حديث عهد بالمساجد والصلاة، ويعجب جداً، وربما يحمله هذا على القنوط، لا تقنط ولا تيأس، هذا مقام، وهذه أحوال قبل أن تصير مقاماً، لابد – بإذن الله – أن تمر به إذا صدقت الله العمل، رُغماً عنك! هذا يُصبِح شيئاً طبيعياً، قال الحسن البِصري – قدَّس الله سره – أدركنا الناس، وكلما اقتربوا من الله كلما ازدادوا خوفاً منه، طبعاً! المُؤمِن لا يأمن مكر الله، المُؤمِن في خوف دائماً.
قال أبو سُليمان الداراني – قدَّس الله سره – مَن غلب الرجاء على الخوف أفسد قلبه كالحمقى أمثالي، هذا أبو سُليمان الداراني، وهو مَن هو؟! قدَّس الله سره، وهو القائل في موضع آخر والله لو اجتمع جميع الناس على أن يُنزِلوني عن شهود حقارة نفسي ما قدروا، ما استطاعوا! ما قدروا لأنني حقير، أعرف نفسي حقير، قال أنا حقير، ولا يستطيع أحد أن يُقنِعني أنني لست حقيراً، أنا حقير جداً جداً جداً، أنا مُذنِب، أنا مُكَد!
جلس سلمان الفارسي – صاحب رسول الله، صلى الله عليه وآله وأصحابه وأتباعه وسلم، ورضيَ الله عن سلمان وإخوانه – في مجلس ضم قُرشيين، فجعلوا يفخرون، هذا يفتخر بنسبه، هذا يفتخر بأصله، وهذا يفتخر بعلمه، ثم نظروا إليه، وقالوا وأنت يا سلمان؟ قال أما أنا فخُلقت من نُطفة مذرة، ثم أعود جيفة قذرة، ثم آتي الميزان، فإن ثقل كنت كريماً، وإن خف فأنا لئيم، قال هذا أنا، هذا هو، هذا فخري، الله أكبر! قال أنا لن أُحدِّثكم عن نسبي ولا عن أبي ولا عن أمي ولا عن علمي ولا عن بحثي عن الحق ولا عن التقائي برسول الله ولا… ولا… إنما سأُحدِّثكم بهذه الحقيقة، خُلقت من نُطفة مذرة، ثم أعود جيفة قرة، ثم آتي الميزان، أي يوم القيامة، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ۩، فإن ثقل كنت كريماً، وإن خف فأنا لئيم، أنا اللئيم – قال – أو أنا ألأم اللؤماء إن خف ميزاني.
روى أبو داود في سُننه – الإمام أبو داود -، قال – صلى الله عليه وأصحابه وسلم – لم يرفع سُليمان بن داود – عليهما الصلوات والتسليمات – طرفه إلى السماء مع ما أوتيَ من المُلك تواضعاً وتخشعاً لله، حتى قضى، حتى مات! سُليمان – أي سُليمان بن داود – لم يرفع في مرة طرفه إلى السماء، يرى نفسه أحقر من هذا، يرى نفسه أنذل من هذا، قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۩، والموضوع طويل، وطويل الذيول والشعوب.
نسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا وبما قلنا وبما خطر لنا من خواطر الحق – إن شاء الله – والعرفان، ولكن – أيها الإخوة والأخوات – علاج كل علة بمُقابَلتها بأضدادها، وعلة العُجب الأولى هي علة كل داء مُهلِك وبيل الجهل، لا يُعجَب إلا جاهل، جاهل بقدر نفسه، جاهل بحقائق الأمور، وجاهل بأشياء كثيرة، قال الله – تبارك وتعالى – فَأَمَّا الْإِنسَانُ – هذا هو الجاهل المُعجَب والمغرور، لأن العُجب يدل ويتولَّد على صاحبه منه الغرور أيضاً – إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ۩، تُوجَد لي خصيصة عند الله، ولذلك هو أكرمني، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ – أي ضيَّق – عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي ۩ كَلَّا ۩، الله قال هذا غير صحيح، هذا الفهم كاذب، هذا الفهم غالط، هذا الفهم غالط خاطئ، ليست المسألة كما تظنون، ليس مَن أغنيته لكرامته علىّ وعندي، وليس مَن أفقرته لهوانه عندي، وإنما المسألة ابتلاء، وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ۩، أغناك الله ليمتحنك، فانظر نفسك، هل أنت من الساقطين أو أنت من الفائزين؟ نسأل الله أن نكون من الفائزين جميعاً، ابتلاك الله بالجمال أو ابتلاها الله بالجمال، لينظر هل تنجح أو ترسب وتتدلى؟ فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ ۩، هذا ابتلاء، انظر إلى كل ما أنت فيه على أنه ابتلاء، كل ما أنت فيه! كل ما يجري ويُجرى عليك هو ابتلاء من رب العزة – لا إله إلا هو -.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعرِّفنا به، وأن يدلنا عليه، اللهم أنت أصلحت الصالحين بفضلك ومنّك ولُطفك فأصلِحنا لك يا رب العالمين.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد، أيها الإخوة والأخوات:
أخرج الإمام أحمد والشيخان البخاري ومُسلِم والنسائي من حديث أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – قال سُليمان بن داود مرةً – أي ذات ليلة – لأطوفن – وفي رواية لأطيفن، كلاهما أيضاً صحيحان، لأطيفن أو لأطوفن – الليلة على مائة امرأة، كلهن تلد فارساً يُجاهِد في سبيل الله، ثم ماذا قال – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟ هنا يُلحَظ شيئ من العُجب بطريق خفية جداً جداً، ما هي الطريق؟ لا يُوجَد هذا في القلب – أي مُلاحَظة العُجب – أبداً، هذا سُليمان! وإنما هي الغفلة عن أن يقول إن شاء الله، كل شيئ لابد أن يُوكَّل إلى الله – تبارك وتعالى -، قل إذا يسَّر الله، إن شاء الله، لا تستطيع إلا هذا، لماذا؟ هل أنت تركن إلى قوتك وفحولتك وصحتك وعافيتك؟ إياك إياك من هذا، مَن ارتكن على حائط قد يُصبِح والحائط غير موجودة، يفتقد الحائط، على مَن ترتكن بعد ذلك؟ مَن ارتكن على إنسان قد يُصبِح وهذا الإنسان قد صار من طائفة المقبورين، من أهل المقابر، على مَن ترتكن؟ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ۩، قال لَا يَمُوتُ ۩، لا يزول، لا إله إلا هو! على الله وليس على أي شيئ آخر، كل شيئ يزول!
قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ونسيَ أن يقول إن شاء الله، فلم تلد امرأة منهن إلا واحدةً جاءت بشق غُلام، مُشوَّه تشويهاً خلقياً، نصف غُلام! ونصف غُلام لا ينفع، ثم ماذا قال – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟ جزاه الله عنا خير الجزاء، هكذا نُدرِك الآن قيمة رسول الله أو بالأحرى شيئاً أو طرفاً منزوراً جداً من فضل رسول الله علينا، بعد الله له أعظم الفضل، فهو مَن يُعلِّمنا، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – والذي نفسي بيده لو قال أخي سُليمان إن شاء الله لأتين جميعاً بمائة فارس، لما حنث، ولكان دركاً لحاجته، ولجاهدوا جميعاً في سبيل الله فُرساناً أجمعين، لكن نسيَ، يعتمد على أن عنده هذه القوة، يستطيع أن يأتي مائة من أزواجه في ليلة، الآن خانتك، خانتك هذه الثقة، اجعل ثقتك بالله، اجعل اعتمادك على الله دائماً وأبداً.
قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لصاحبه الجليل أبي ثعلبة الخُشني – جرثوم الذي اختُلِف كثيراً في اسمه واسم أبيه، قال لأبي ثعلبة الخُشني الآتي – إذا رأيت شُحاً مُطاعاً وهوىً مُتبَعاً وإعجاب المرء أو قال كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، دعك من العوام، دعك من الناس، اعتزل! لأن هذه هلكة، هذه هلكة، ثلاث مُهلِكات وثلاث مُنجيات، من المُهلِكات العُجب، إعجاب المرء بنفسه أو قال برأيه.
وأختم بهذا الأثر الجليل الذي يدل على مدى نفوذ أصحاب رسول الله في حقائق العلم الإلهي، عبد الله بن مسعود – أبو عبد الرحمن رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، هذا الرجل القرآني الرباني – قال الهلاك فتنتين، القنوط والعُجب، لماذا لم يذكر شيئاً آخر؟ الذنوب كثيرة جداً، لماذا ذكر القنوط والعُجب؟ هل تعرفون لماذا؟ لأن السعادة لا تُنال إلا بالتشمير والجد والسعي والعمل، والقانط لا يعمل، لأنه يائس، يقول لك أعمل لماذا؟ أن يائس، لا فائدة، مهما عملت أنا فاشل، ولذلك القانط يهلك، لماذا؟ لأنه لا يعمل، والنجاء – أي النجاة – والسعادة لا تُنال إلا بماذا؟ إلا بالعمل، وهو لا يعمل، لأنه قانط، والمُعجَب لا يعمل، لماذا؟ لأنه واصل عند نفسه، يقول لك أعمل لماذا؟ أنا واصل والحمد لله، كل شي عندي، الله أعطاني وسيُعطيني – إن شاء الله -، مثل الكفّار! وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا ۩، وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى ۩، أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا ۩ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ۩… أي العاص بن وائل السهمي الملعون – والعياذ بالله -، الله قال له من أين هذا؟ لأنه قال لا، لو هناك قيامة أو إذا كان ثمة قيامة فسيكون حالي أحسن هناك أيضاً، هذا اسمه الغرور الآن، هذا اسمه الغرور!
نعوذ بالله من الغرور ومن العُجب ومن الإدلال ومن الكبر، اللهم نوِّر بصائرنا، وقدِّس ضمائرنا، وافتح مسامع قلوبنا لذكرك، وارزقنا عملاً بكتابك وحُسن فهم وتعرف في خطاب نبيك يا رب العالمين.
اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً في نبوته، وخير ما جزيت رسولاً عن أمته، اللهم أحينا على سُنته، وأمتنا على مِلته، واحشرنا يوم القيامة في زُمرته الشريفة، واسقنا بيده شربةً لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم أسعِدنا بشفاعته، اللهم صل عليه في الأولين، وصل عليه في الآخرين، وصل عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين، ما ذكرك الذاكرون، وما غفل عن ذكرك الغافلون.
اهدِنا واهدِ بنا، وأصلِحنا وأصلِح بنا، واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، إلهنا ومولانا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(20/3/2009)
أضف تعليق