العقدة

بقلم الدكتور عدنان ابراهيم

ـ ما الذي يجري؟ لا مناص من أن نوقّع نحن أهلَ الحي على لائحةٍ لاستبدالِ هذا الإمام، أمرٌ لا يسكت عنه، هذه ثاني مرة في هذا الشهر تفوتني تكبيرةُ الإحرام

قاعدا في المسجد بعد الفراغ من صلاة الصبح بلحيته الخفيفة وقلنسوته البيضاء وبحنقٍ لم تنكسر موجته تابع الرجل الأسمر الطويل أبو محمد: وكلّما راجعنا المؤذّن زايد الإسكافي تنصّل وأكّد لنا أنّه الإمام، دائما هو مُعجَلٌ

وجاوبه صاحبه القصير السمين الذي لا يزال يزحر خصوصا إذا تكلّم بانفعال، وسرعان ما يتضرج وجهه وصلعته باللون الأحمر فيشيع شعور بأنّنا على وشك أن نشهد مشادة كلامية ساخنة، ودع عنك زبيبته الكبيرة غير المتناسقة التي أكلت جبينه وشوّهت وجهه:

أكيد يا أبا محمد، أمر لا يسكت عنه، ومصيبتك أنت صغيرة، ثلاث مرّات، نعم ثلاث مرّات فاتتني أنا تكبيرة الإحرام هذا الشهر، أين الناس من الحقّ؟ لم يسكتون؟ ما هذا النفاق؟ أيضيع الدين ونحن سكوت ما نحرّك ساكنا؟ ليس عبثا ما يحلّ بنا من مصائب وكوارث. لازمٌ أن يكون كلّ شيئ في مكانه، الحقّ أحقّ أن يتّبع.

ـ و الله كلام من ذهب. و سكت هنيهة يُحوّل بها إتجاه الحديث ثم قال:

أبا أمين، هل سمعت بالحادث الذي وقع أمس؟

ـ أيّ حادث؟

ـ أمس عصرا، عجيب أنّك لم تسمع به، كلّ أهل الحارة دروا بما حصل، لقد دهس السائق سلامة الملط المسكينة سعدية، الأرملة.

ـ التي زوجها المرحوم أبو مرزوق الطيان؟

ـ أي نعم، هي

ـ لا حول ولا قوة الا بالله، والله يا رجل أوجعت قلبي، لم يمرّ حتى عامٌ واحد على وفاة زوجها الرجل الطيب، قال أبو أمين.

ـ و خمسةٌ هم أولادها، يتامى مساكين، ماذا سيفعلون الآن و أمهم مهشّمة في المشفى بين الموت والحياة و ..

ولم يدعه أبو أمين يكمل جملته بل قاطعه:

وماذا عن السائق؟ هل قبضوا عليه؟ هل سجنوه؟ متهوّر سخيف، لطالما شعرت بأنّ هذا السلامة مستكبرٌ مزهوٌّ، ماذا يظنّ نفسه؟ ألأنّ لديه سيارة جديدة يعمى عن عباد الله في الشوارع؟ لعلّه يراهم فئرانا أو صراصير، يستحقّ حتّى الشنق.

ـ لا لا ليس الأمر على ..

ـ بلى، بلى، أنظر يا صاحبي: المهّم أن تأخذ العدالة مجراها، ويظهر الحقّ، كل شيئ إلاّ الحقّ.

ونهضا كلاهما بعد أن نظر أبو محمد في ساعته فإذا هي السابعة، وشرعا منفردين في صلاة الضحى على عادتهم من سنين طويلة، ثماني ركعات لا يفرّطون فيها إلاّ ما شاء الله.

و بعد الإنصراف من صلاة العشاء في مسجد نور الهدى اجتمعوا في مقهى الأنس خمسةً، أصدقاء عمر متقاعدون من العمل متقاربو الأعمار، وكالة أنباء متحرّكة تتعاطى مع أشدّ المستويات خصوصية، ينخلون أخبار الحي، فلا يتركون شاردة ولا واردة إلاّ أتوا عليها، وشرعوا في احتساء فناجين القهوة وتدخين لفائفهم باستثناء أبي أمين الممنوع من التدخين بأمر الطبيب من خمس سنين ، فهو يعتاض عنه باللّعب الدائم بحبّات مسبحته، وله في كل عام واحدة جديدة بعد كل موسم حج تُهدى إليه من فلان أو علاّن، وافتتح أبو حلمي البراك الحديث بالقول مستغربا:

ـ ماذا حصل في الدنيا يا ناس؟ معقول أن يطلّق أبو عليان زوجته بعد خمس وثلاثين سنة، وبينهم سبعة من العيال؟ ولماذا؟ من أجل إشاعة مغرضة الله وحده يعلم من الذي أطلقها.

ـ كان الله في العون يا أبا حلمي، كلٌّ عنده ما يكفيه، ومن يدري ما الذي جرى؟ الأحسن أن يمسك المرء لسانه. قال أبو كمال الحولا.

ـ صدقت والله، صحيح أنّ هناك كلاما يدور هنا وهناك، كلام كبير كبير، الله يستر على الجميع، لكن المهم أن لا يضيع الحقّ وأن ينال كلُّ أحدٍ جزاءه ـ و يرفع أبو أمين سبحته قليلا يدير حباتها بسرعة ويحكّ صلعته كأنّه يتوقّى كلمة تأتيه فيها شيئ من إنكار، ويتابع:

الله سبحانه في عالي سماه يحبّ الحقّ.

ـ مؤكّدٌ يا جماعة أنّكم تفاجأتم من تصرّف إبنه الأكبر عليان، فضيحةٌ وعارٌ، صاح علي أبيه في الشارع أمام الناس ورفع سبابته أمام عينيه يهزّها بعنف ويلوّح بها، ولعلّه لولا تدخّل الناس كان ضربه، ليست بعيدةً، وهل ننسى كيف ضرب مسعود خميس أباه قبل عشر سنين فكسَرَ ساقه، وبعدها ظلّ المسكين مكسورَ الخاطر حتى مات سريعا، ثلاث سنوات على ما أظنّ وراح، انتقل؟ قال أبو محمد

ـ دنيا آخر وقت، اقتربت السّاعة، الله يجيرنا ويخرجنا منها سالمين. جاوبه أبو حمدي.

وبعدما مضى زهاء ساعتين حانت إلتفاتة من أبي أمين عن يمينه، فإذا بغلام في حدود الثانية عشرة يتّجه نحوهم كالمتردّد أو كالخائف فتمتم أبو أمين: يا ساتر، واقترب الولد فقال أبو حمدي: هذا حمدان إبن سعدية الأرملة، أليس هو؟

فردّ أبو أمين: نعم هو، كلّ يوم يطلع علينا من هنا أو هناك، الله أعلم ماذا يريد هذه المرّة؟

ووصل الولد وطرح السلام ثم سأل باستحياء ومشقّة بالغة : كا كأ كأ كا كيف حالك يا ع ع ع عم أبا محمّد؟ كي كي كأ كا كيف حا حا حا حا حالك يا عم أبا حلمي؟ كا كا كي كيف حالك … وهكذا حتى أتى عليهم جميعا وعرقه يتصبّب ولايفتأ يرمش بعينيه بوتيرة سريعة، فأمّا أبو أمين فأجابه بنبرة عالية فظّة:

بألف خيرٍ، خيرٌ إن شاء الله ما الذي جاء بك؟

وشعر الآخرون بحرج، فالولد يتيم وأمّه في المشفى لا يُدرى ما حالُها، فسأل أبو حمدي:

كيف حال أمّك يا إبني؟ لعلّها بخير إن شاء الله؟

ـ الحمد لله، الطبيب طمأننا اليوم وأخبرنا أنّها ربّما تخرج بعد أقلّ من شهر إن شاء الله. أجاب الولد بصوت خفيض مستكين، وهذه ترجمة جوابه الذي استغرقه وقتا طويلا لينتهي منه، فالمسكين تأتاء مذ صغره، وسنسير على خطة الترجمة هذه وُسعَنَا.

ـ الحمد لله، الله لطيف بعباده، قال أبو حلمي ثم سأل الولد:

ـ خير يا إبني؟ هل تريد شيئا؟ قل ولا تستح!

ـ في الحقيقة يا عمُّ أنا أريد أن أكلّم عمّي أبا أمين في موضوع ال..

ـ اللّهم ارزقني الصبرَ، صبرَ أيوب يا رب، موضوع ماذا يا إبني؟ لقد فهمّتك مئةَ مّرة، فماذا أصنعُ إذا كنتَ لا ترغبُ في أن تفهم؟ قال أبو أمين

ـ لكن يا عمُّ أمي كلّمتَك في الموضوع أيضا، وأختي الكبرى سعاد سمعت الموضوع من أبي كما سمعته أمّي، وأنا واللهِ العظيم سمعته من أمّي مباشرة، يمكن سمعته عشر مرّات لا مرّة واحدة.

ـ يرجعُ ويقول أمّي وأختي، لم يبقَ إلاّ أن يقول: وأخي مرزوق، في إشارة لئيمة إلى حقيقة كون مرزوق أكبر أولاد سعدية متخلّف عقليا، يلقّبه أولاد الحي بالأهبل.

ـ لكن يا عم…

ـ لا عم ولا خال، إمش يا ولد، إمش! متى ستتعلّمون أن ترعوا الحقّ.

ونهض أبو أمين ونادى: غرسون غرسون! يا رشدي! الحساب ! ونهض سائر الشِّلة وأقبل رشدي الغرسون ودسّ أبو أمين يده ليخرج محفظته فسبقه أبو حلمي الذي مدّ ورقة من ذوات المئة إلى رشدي فقبض أبو أمين على يده:

ـ لا والله! لقد دفعتَ في آخر مرّتين وهذا لا يصلُح، وأخرج محفظته وجعل يبحث عن النقود ولكن بلا جدوى، فأظهر الإمتعاض ودسّ يده في جيب بنطاله وهنا تدخّل أبو حمدي فمدّ مئة ليرة إلى الغرسون وتشاغل أبو أمين بتفتيش جيبه الأخرى ثم جيوب جاكيته هذه ثم تلك:

ـ أين المال؟ لا حول ولا قوّة الاّ بالله، هل فعلَتْها أمُّ أمين مرّة أخرى؟ لم لا تستأذن هذه المرأة حين تأخذ نقودي؟ يا الله، تعطي للأولاد مصروفهم وتأخذ للسوق، لكن ينبغي أن تُعلِمَني.

و لم تكن تلك أوّل مرّة يتّفق فيها هذا الحرج لأبي أمين، ولعلّه يرتّبه قصدا كما هو الرّاجح، فعلى الدّوام ظلّت مرّاتُ دفعه معدودةً.

ـ هيّا يا إخوان نلتقي بعون الله في بيت الله لصلاة الفجر. قال أبو أمين هامّا بالإنصراف.

وهنا يتقدّم حمدان مستيئساً خطوة باتجاهه :

ـ يا عم!

ـ ألا تزال هنا؟ ماذا أصنع بك يا ولد؟ يا الله كم أنت ملحاح!

ـ تعلم يا عمُّ حالنا وكم نحن محتاجون، فنحن خمسة وأمّنا الآن كما تعلم حالها، ولعلّها لن تستطيع الرجوع إلى العمل قبل شهرين أو ثلاثة.

ـ طيّب، وأنا ما علاقتي بالموضوع؟ هل أنا مَنْ دهسها؟ لم لا تطلبون التعويض من إبن الملط، ذاك المتهوّر؟ أم أنكم تخافون منه، وتتشاطرون عليّ كوني رجلا محترما ليس لي في المشاكل؟

ـ ليس الأمر يا عم أمر..

ـ أنظر ليس لديّ وقت، لقد تأخّر الوقت بنا ولا بدّ أن أرقد مبكّرا فأمامي صلاة الفجر، ليس الفجر وحده، هناك صلاة القيام أيضا، ولكنّي سأكون خيرا منكم، و هنيئا لك يا فاعل الخير، إذا أصبحتَ يا بني تعال إلى منزلنا وسأقول لأم أمين أن تعطيكم بعض الملح والسكّر والزيت وبعض الأرغفة و..

ـ لكن يا يا يا ع ع عم هذا لا لا لأ ..

ـ ماذا؟ ـ قالها بغضب كازَّاً على أسنانه ـ إتّقِ شرَّ من أحسنت إليه، يا لَلجُحود! ـ وهو ينظر الى أصحابه ـ ثم التفت الى اليتيم موجّها سبابته إليه: كم من مرّة عليّ أن أعيد كلامي؟ وهو حتّى ليس كلامي، منْ أنا؟ إنّه كلام ربِّ العالمين، الحقُّ أحقُّ أن يُتّبع، ثم عاود الإلتفات إلى أصحابه: والله يا جماعة أنا ينتفض بدني كلّه كلّما رأيتُ الناس لا يراعون شرع الله تعالى، كيفَ ومن أين سنرى الخير ونحن كما ترون، أخشى والله أن تنزلَ علينا حجارةٌ من السماء، يا ربّ لطفَك!

قالها وألقى التحية ومضى يدير حبّات مسبحته بأصبعيه وهو يردّد: الحقّ أحقّ أن يتّبع.

مضى ولم يلتفت وراءه.

والتفت أبو حلمي الى حمدان ليرى دمعه يسيل على وجنتيه وعينيه محمرتين يبلع ريقه بمغلوبية

ـ ما هي الحكاية بالضبط يا بني؟ أخبرني!

ـ يا عم أبا حلمي والله العظيم لا أكذب، إنّها الحقيقة، لقد أعطى أبي قبل وفاته بسنتين عمّي أبا أمين عشرة آلاف، وقبل موته بشهرين طلبها والدي منه فاعتذر بعدم استطاعته والتمس من والدي رحمه الله أن ينظره فوافق والدي.

ـ وهل رأيتَ أنت يا بني هذا؟ هل كنتَ مع أبيك يومها؟

ـ لا، لا، لكنّي سمعت هذا من أمي في حياة أبي، وبعد وفاته أكّدته لنا أكثر من مرّة.

ـ أه ها، إذن سمعته ولم تره. وحتّى أمّك لم تره.

ـ أمّي على كل حال في المستشفى ويمكنك يا عم أن تسألها. هل هذا جزاؤنا يا عم؟ هل هذا يرضي الله؟

وكأنّه لم يفهم شيئا رغبةً منه في اللتِّ والعجن تساءل أبو حلمي:

ـ طيّب، وما مشكلتكم الآن مع أبي أمين؟ فأبو أمين يا بني رجلٌ يعرفُ اللهَ صوّامٌ قوّامٌ لا تفوته صلاة في المسجد وقد حجّ بيت الله الحرام، نعم حج بيت الله، هل سمعت؟

ـ المشكلة يا عم أنّه يقول لنا ـ قال هذا لأمي وقاله لي ـ : أنا لا أعطي إلاّ بصكّ وتوقيع، وهو يعلم أن ليس معنا صكّ، فأبي عامله بالأمانة.

ـ هكذا إذن! قال أبو محمد كالمستغرب ناظرا إلى أبي حلمي الذي اكتفى بهزّ رأسه هزّ الحرذون رأسه هزّا قابلا لتأويلين متعارضين تماما ووضع يده على رأس اليتيم ومشى به قائلا: خيرٌ يا بني، خير إن شاء الله، عُدْ إلى منزلك الآنَ وسلّم على إخوتك، وكلُّ عقدة لها حلّال.

ومضى حمدان إلى منزله وقد سُرّي عنه و انجلتْ غمرتُه، فلهجة أبي حلمي ألطف وأحنى من لهجة أبي أمين وقد بدا له أنّ الرجل متعاطف معه ومثله في هذا أبو محمد.

وافترق الرجال الأربعة وقبل أن يبتعدوا عن بعضهم التفت أبو حلمي مناديا على صاحبه:

ـ أبا محمد لا تنس بالله أن تَمُرَّ على الحاج أبي أمين قبيل الفجر لئلاّ تفوته تكبيرة الإحرام.

ـ أبشر يا أبا حلمي أبشر.

ومضى أبو حلمي يقول: أي نعم، حرامُ فالرجل مقهور، ثلاث مرّات في شهر واحد، كافية، نعم كافية.

وتنفّس الصعداء ونفخ: استغفر الله العظيم وغاب في ظلام الزقاق.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليقات 5

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: